صاحب سيطرة تنظيم «داعش» الوحشية على مساحات واسعة من العراق وسوريا عمليات اختطاف وقطع رؤوس للصحافيين. وعليه، أصبح دخول أي صحافي غربي للمناطق الخاضعة لسيطرة «داعش» اليوم ينطوي على مخاطرة بحياته في كل ثانية. وبذلك نجد الآن أن الولايات المتحدة تشارك في أول حرب طويلة الأمد داخل الشرق الأوسط في العصر الحديث، من دون أن يتمكن المراسلون والمصورون الأميركيون من تغطية الأحداث بصورة مباشرة ويومية. هذا بالتأكيد ليس بالأمر الجيد.
بيد أن الوضع يزداد سوءا، حيث أشارت صحيفة «التايمز» البريطانية، الأسبوع الماضي، إلى أن «داعش» أجبر أحد رهائنه البريطانيين على العمل مراسلا من ميدان القتال، خلال شريط دعائي مصوَّر من داخل مدينة كوباني السورية، حيث «توقع السقوط الوشيك للمدينة في أيدي المسلحين، رغم موجات الضربات الجوية الأميركية». ويكشف هذا الأمر أن «داعش» أصبح أكثر ذكاء في جهوده للترويج لقضيته، عبر اتباعه أساليب التغطية المستمرة للأحداث المميزة للقنوات الإخبارية.
وخلال المقطع المصور، يظهر الصحافي الرهينة وهو يقول: «مرحبا، أنا جون كانتلي، ونحن اليوم داخل مدينة كوباني على الحدود السورية - التركية. في الواقع، هذه تركيا تظهر خلفي مباشرة».
الواضح أن الوضع في طريقه نحو مزيد من السوء، حيث كتب ديلان بايرز، المراسل الإعلامي لدى صحيفة «بوليتيكو» في 23 أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، أن مكتب التحقيقات الفيدرالي (إف بي آي) بعث بمذكرة إلى مؤسسات إعلامية إخبارية يحذرها خلالها من أن تنظيم «داعش» أقر مراسلين وشخصيات إعلامية «أهدافا مشروعة لهجماته الانتقامية» ردا على الضربات الجوية التي تقودها واشنطن.
والتساؤل الآن: ما الذي نخسره في ظل غياب المراسلين عن المناطق التي يسيطر عليها «داعش»؟ الكثير. مثلا، يتعذر علينا الإجابة لأنفسنا عن تساؤلات مهمة، منها: كيف يجري النظر إلى حملة الضربات الجوية التي نشنها؟ هل تدفع هذه الحملة مقاتلي «داعش» والعراقيين من السنة المحليين نحو التقارب أكثر بعضهم من بعض أم تزيد الفجوة بينهم؟ كيف يحكم «داعش» ويدير المدارس ونظام العدالة؟ وكيف ينظر العراقيون والسوريون تحت سيطرتهم إلى أسلوب حكمهم؟ ما الذي يدفع هذا العدد الكبير من الفاشلين والمتخبطين نحو الانضمام لهذه الحركة المتشددة؟ هل نوجه إليهم الرسالة الصحيحة؟ وغير هذا الكثير من الأسئلة.
أخيرا، نشر بيل (ويليام) بيرنز نائب وزير الخارجية الأميركي، مقالا بمجلة «فورين بوليسي» يحوي نصيحته الأخيرة قبل تقاعده، للدبلوماسيين الأميركيين. وفي إطار ذلك، استشهد بمقولة إدوارد آر. مورو، عملاق «سي بي إس نيوز»، الذي نصح الدبلوماسيين الجدد بأن «الوصلة الجوهرية في سلسلة الاتصالات الدولية هي الوصلة الأخيرة، التي يتمثل السبيل الأمثل لتجاوزها في التواصل الشخصي؛ الحديث مباشرة من شخص لآخر».
وينطبق القول ذاته على المراسلين والمصورين، فرغم الأهمية المؤكدة لاستطلاعات الرأي والرسوم البيانية ورسائل «تويتر»، فإنها تبقى مجرد صورة من صور البيانات. وتُعد مسألة عقد مقابلات مع بشر آخرين للاستفسار عن آمالهم وأحلامهم ومخاوفهم وما يكرهونه، صورة أخرى من صور جمع البيانات والتحليلات - وهو النمط الذي يعتمد عليه أفضل عناصر الدبلوماسيين والصحافيين والمؤرخين، فكيف يمكنك أن تشير بالأرقام إلى حاجب مرفوع لأعلى تعبيرا عن الدهشة، أو ابتسامة تقطر ألما وسخرية، أو خوف تنضح به عينا لاجئ، أو ندم يتدفق من صوت أحد أفراد ميليشيا. أحيانا مجرد الإنصات لصمت شخص يحوي معاني تكفي مجلدات.
أخيرا، استعانت «فايس نيوز» بالمصور الصحافي الحربي مدين ديريه، الذي يعمل لدى قناة «الجزيرة»، لإنتاج فيلم وثائقي من داخل سوريا، بعنوان «الدولة الإسلامية». إلا أن جيسون مويكا، رئيس تحرير «فايس نيوز»، أوضح أمام لجنة من جامعة نيويورك، أن الفيلم تم إنتاجه «تبعا لشروط تضمن دخول المصور وخروجه ناجيا بحياته»، حسبما أفادت به «هفنغتون بوست».
من جانبي، سألت مينا العريبي، مساعدة رئيس التحرير في صحيفة «الشرق الأوسط» اللندنية، كيف تتمكن هذه الصحيفة العربية اليومية من تغطية أخبار تنظيم «داعش»..؟ وأجابتني: «لدينا مراسلونا المدعومون بقليل من المراسلين المحليين الذين يجازفون بحياتهم بتواصلهم معنا من داخل العراق. ومع ذلك، نعاني غيابا تاما للأخبار من المناطق الخاضعة لسيطرة (داعش) في سوريا، خاصة الرقة. في العراق، استخدامنا للهواتف والبريد الإلكتروني للحصول على المعلومات يخلق داخلنا قلقا على سلامة مراسلينا، الذين غالبا ما يعملون من دون أن يدروا كيف سيحصلون على أجرهم نهاية الأمر.. ورغم ذلك، فإن تغطيتنا ثرية بشبكة من العراقيين والسوريين الذين يتواصلون معنا لإطلاعنا على قصصهم، بجانب علاقاتنا مع سوريين وعراقيين وعرب آخرين تفاعلوا مع مسلحين تابعين لـ(داعش)، أو كانوا على صلة بهم عندما كانوا تحت لوائهم».
واستطردت قائلة إن الحقيقة تبقى أن «الكثير مما نعلمه يأتينا إما من مسلحي (داعش) أو من قصص يسردها مراقبون أو أشخاص لهم عائلات تعيش في أماكن خاضعة لسيطرة (داعش) ».
بالفعل، من الواضح أن «داعش» يخبرنا ما يريدنا أن نعرفه عبر «تويتر» و«فيسبوك»، بينما يخفي عنا كل ما لا يريد منا معرفته. لذا علينا الحذر حيال ما يخبرنا به أي شخص عن هذه الحرب، سواء كان أمرا سارا أو سيئا أو محايدا. من دون المراسلة الصحافية الحرة من على الأرض، علينا الاستعداد لمواجهة بعض المفاجآت. ومثلما توضح المقولة الشهيرة، فإنه «إذا لم تذهب، فأنت لا تعلم».
منذ ظهر تنظيم الدولة الإسلامية في العراق، قبل انتقاله إلى الشام، والحديث عن عمالة هذا التنظيم لأميركا تتزايد، بل أصبحت لدى بعضهم أمراً مسلماً به، لا يحتاج نقاشاً. ثم جاء التطور الذي حصل، مؤخراً، عندما اعترفت أميركا بأنها ألقت أسلحة نوعية بالخطأ على مسلحي "داعش" في عين العرب "كوباني"، بدلاً من إلقائها على مسلحي الكرد، ليؤكد ما يذهب إليه المؤمنون بنظرية المؤامرة حتى النخاع.
وقبل ذلك طبعا، كانت علامات الاستفهام الكبيرة التي تركها هذا التنظيم في علاقته مع النظام السوري، خصوصاً بعد أن تحول التنظيم إلى قتال بقية الفصائل السورية المسلحة، تاركاً قتال النظام السوري، ما خلا بعض المواجهات والضربات التي شنها التنظيم، هنا أو هناك.
لا يخلو الحديث عن عمالة تنظيم الدولة الإسلامية لأميركا من تبسيط وتسطيح للأمور، فهو يعطيك تفسيراً جاهزاً لظواهر عديدة، ربما لا يريد بعضهم أن يقرأها جيداً، كما أنه يعفي أصحاب هذا الرأي من عناء البحث عن الأسباب التي دفعت المنطقة إلى هذا المنحدر الخطير.
وفي خلفية مشهد العلاقة بين الدولة الإسلامية وبقية خصومها، لا بد من التذكير بأن التنظيم لم ينشأ من فراغ، ولم تكن أفكاره وليدة اللحظة، فهو قديم قدم التطرف لدى الإنسان، بغض النظر عن دينه ومذهبه. وهو تطرف يبقى، في النهاية، حبيس الصدور حتى تأتيه ما يمكن أن نسميها اللحظة الفارقة التي تحول هذا المكنون إلى أفعال إجرامية.
في العراق، وعندما بدأت القاعدة تصول وتجول، أيام زعيمها أبومصعب الزرقاوي، كان التنظيم يكبر، ويحقق الانتصار تلو الانتصار. فلم تذكر أدبيات المقاومة العراقية تنظيماً كانت له سطوة وقسوة في ضرب القوات المحتلة، كما تنظيم القاعدة، والذي أراه دوماً الأب الشرعي لتنظيم الدولة.
في تلك الفترة، نجح النظام السوري في اختراق التنظيم، من خلال ضباط مخابراتٍ، تم تجنيدهم وإرسالهم إلى العراق، ليكونوا أعضاء ضمن التنظيم. بعضهم وصل إلى مراكز قيادية. غير أن ذلك لا يعني بأي حال أن يكون التنظيم ذراعاً للنظام السوري، وهنا يجب أن نفرق بين العمالة والاختراق.
"
بعد أن نجحت الشعوب في ثوراتها، قادت أميركا، وبالتعاون مع أنظمة عربية أخرى، ما بات يعرف بالثورة المضادة على إرادة الشعوب العربية
"
وبالنسبة لأميركا، مما يجب أن نذكره، هنا، أنها دولة قادرة على انتهاز اللحظة والفرصة، فهي لا تتوانى، في أحيان كثيرة، عن تقوية عدوها، من أجل أن تعطي لنفسها الحق، مستقبلاً، ليس لضربه وحسب، وإنما، أيضاً، لتحقيق أهدافها.
عندما اندلعت الثورات العربية، لم توفر أميركا فرصة في دعم هذه الثورات، فهي لا تريد أن تظهر بمظهر الرافض لإرادة الشعوب، علما أن الجميع كان يعرف جيداً أن هذه الأنظمة العربية المهترئة، ما كان لها أن تبقى وتصمد، لولا الدعم الأميركي. ثم، وبعد أن نجحت الشعوب في ثوراتها، قادت أميركا، وبالتعاون مع أنظمة عربية أخرى، ما بات يعرف بالثورة المضادة على إرادة الشعوب العربية، حتى وصل الحال إلى ما نحن عليه اليوم.
وفي سورية، ظل الصراخ الأميركي المندد بأفعال النظام الأسدي يعلو ويعلو، حتى وصلنا إلى خط أوباما الأحمر، يوم أن استخدم الأسد أسلحته الكيماوية ضد شعبه، من دون أن تهتز واحة الديمقراطية والإنسانية، واشنطن وبيتها الأبيض، واكتفت بالتنديد والتهديد والوعيد.
اليوم، وجدت أميركا ضالتها في "داعش"، فلقد كانت أميركا ومراكزها المختصة بالاستراتيجيات تعرف أن سياسات نوري المالكي الطائفية في العراق ستقود إلى انفجار الوضع، وكانت هناك دراسات وتقارير، بعضها ميداني، حذر من احتمال سقوط مدنٍ عراقيةٍ بيد هذا التنظيم المتطرف، غير أن واشنطن تجاهلت ذلك كله، فكبر هذا التنظيم، حتى احتل مدناً عراقية كاملة.
مخطئ من يعتقد أن الولايات المتحدة لا تعرف ماذا تريد، ولا أين تذهب باستراتيجيتها، فهي التي غضت الطرف، ذات يوم، عن مليشيات الحقد التي كبرت في إيران، عندما رأت أن هناك مقاومة عراقية سنية، فجعلت أبناء الشعب الواحد يتطاحنون في وقت كانت قواتها تتفرج.
وأميركا من رأت كيف أن "داعش" كانت تكبر، بفعل سياسة التهميش والإقصاء التي مارسها رئيس الحكومة السابق، نوري المالكي، وأيضاً، بفعل الموت الأحمر الذي سلطه الأسد على شعب سورية. وذلك كله انتظاراً للحظة المناسبة، وهو ما حصل. فكان أن ساهمت "داعش" في أن تبدأ أميركا بإعادة صفوفها، استعداداً للعودة إلى العراق الذي خرجت منه مجروحة الكرامة بخسائر بشرية بلغت خمسة آلاف قتيل، وفقاً لإحصائيات وزارة الدفاع الأميركية، بالإضافة إلى نحو ثلاثة تريليونات دولار، خسائر مالية مقدرة عن سنواتها التي قضتها في احتلال العراق.
علينا أن نقنع شعوبنا بأن زمن العملاء انتهى. فيكفي أن تكون غبياً لتقدم لعدوك أفضل الخدمات، ويكفي أن تكون فاقداً للرؤية لتقدم لعدوك كل سبل الانتصار عليك.
نحتاج، اليوم، أن نتخلص من عقدة المؤامرة، إلا بحدود، لأنها حتماً موجودة، ولكن وجودها بالطريقة التي نحن نقررها. فكلما امتلكنا وعياً قادراً على المواجهة قللنا من فرضيات هذه النظرية، والعكس صحيح أيضا.
سؤال غير بريء: لماذا يخيل لمن يتابع وقائع ما يحدث في منطقتنا أن «الوطن العربي» خال من السكان، ولا توجد فيه سوى داعش والأكراد التحالف «الطائر»؛ وبالطبع إسرائيل. يقال أن عدد سكان كردستان العراق –والله أعلم- حوالي خمسة ملايين نسمة، مقابل 36 مليونا في كامل العراق و 24 مليونا في سوريا، بينما يزيد سكان العالم العربي بأكمله على 367 مليونا (اللهم زد وبارك). ولكن قوات البيشمركة هي التي تدافع عن العراق ضد داعش، وهي التي تهب اليوم للدفاع عن عين العرب في سوريا أيضاً.
ليس هذا فقط، فكردستان العراق تكاد تنفرد في الهلال الخصيب بقدر من بالاستقرار والحكم الرشيد وشيء من التنمية رغم قطع المالكي الأموال عنها، وتوفر ملاذاً آمناً لمن شردهم نظام المالكي، أو «البغدادي» وبقية ميليشيات المنطقة. وهذا يعني أن الأكراد هم موضع ثقة الجميع. فالغرب يسلحهم، وتركيا ترتضيهم وتأمنهم على حدودها، والمشرد يأوي إليهم. أي ضاقت الأرض من المحيط إلى الخليج بالناس إلا كردستان.
فأين ذهب الآخرون؟ لماذا كانت داعش وحدها هي التي أنقذت سنة العراق وأنزلت سفاح العراق الدموي من صياصيه؟ أين جيوش العرب حين شرد نصف سكان سوريا وذبح أطفالها ونساؤها؟ (نسكت هنا عن غزة والأقصى وحرماته تجنباً للإحراج).
ليس هذا الخذلان من قلة، فالأعداد ما شاء الله، ملايين بعدد أيام السنة. وليس الأمر من قلة السلاح، لأن الدول العربية تمتلك أحدث الأسلحة، وهي من الأكثر انفاقاً على التسلح، حيث جاءت السعودية الرابعة عالمياً في 2013، منفقة 67 مليار دولار. وبذلك سبقت بريطانيا وفرنسا وألمانيا، ولم يسبقها إلا العمالقة: أمريكا والصين وروسيا. وقدر معهد استكهولم للسلم ما أنفق على السلاح في المنطقة بمائة وخمسين مليار دولار العام الماضي، وهو رقم متحفظ. فما هو السبب في أن الكل يقاتل على أرض العرب ما عدا العرب؟ لماذا تعجز دول بكاملها في الدفاع عن أرضها وشعوبها، فتستنجد بالخارج أو تقف متفرجة والبلاد تدمر؟
هناك بالطبع إجابة أولية واضحة، وهي أن الأنظمة هي التي تقتل وتدمر، والحاجة هي لمن يدافع عن الشعوب ضد هذه الجيوش التي ترى أن الشعوب هي العدو. وفي الحقيقة فإن الأنظمة لا تتخذ لأنفسها جيوشاً حقيقية، لأن عدتها الأساس هي أجهزة المخابرات التي تحصي على الشعب أنفاسه، وتراقب كذلك الجيوش، حتى لا تصاب –والعياذ بالله- بداء الوطنية والغيرة على الشعب. أما الانفاق الأكبر فإنه يوجه إلى أجهزة المخابرات والشرطة، التي تدرب باستمرار وتجهز لملاقاة «العدو»، وهو الشعب الأعزل.
وهناك بالطبع كثير من الوجاهة في هذا القول. يكفي أن نشهد أكبر جيشين عربيين، وهما الجيش المصري والجيش السوري، يخوضان اليوم أكثر حروبهما شراسة. أنظروا إلى هذه الشجاعة وهذه البسالة وهذا الإقدام! فهذه أطول حرب تخوضها سوريا منذ أيام نور الدين زنكي ومصر منذ أيام محمد علي. ولكنها حرب على الشعب في البلدين. ولو أن طلقة واحدة أطلقت من إسرائيل على أي من الجيشين، لما توقف قادته إلا عند الحدود.
ولكن هناك أمور أعمق من ذلك. فهناك جانبان للقضية: جانب الجناة وجانب الضحايا. صحيح أن طبيعة الأنظمة القائمة هي طبيعة استعمارية. فهي أنظمة أقليات، ترفض حق الشعوب في الحياة الكريمة والسيادة على اوطانها. ولكن السؤال هو لماذا تبقى رغم رفض الشعوب التي طردت الاستعمار من أوطانها، وبذلت في سبيل ذلك الغالي والنفيس؟ وقد شهدنا كذلك كيف انتفضت الشعوب في هبة الربيع العربي فاقتلعت أنظمة الاستعمار الجديد من جذورها. ولكن تلك الأنظمة عادت من جديد، وليس بدون سند من بعض قطاعات الشعب.
هذا يشير إلى إشكالات في أوساط المدافعين عن الشعوب، فوق شراسة الأنظمة، وما تجده من دعم أجنبي. وهنا يصلح النموذج الكردي مرة أخرى مثالاً لتفسير هذه الظاهرة. فقبل أن يدخل الأسد الابن المنافسة، لم يكن هناك نظام أشرس من نظام البعث العراقي الصدامي، ولا أفظع من جرائمه في حق فئة معارضة كما حدث في حق أكراد العراق، بما في ذلك القتل الجماعي بالأسلحة الكيميائية وغيرها، والشروع الفعلي في الإبادة الجماعية. وكان الأكراد في معظم تلك الفترة معزولين تماماً، حتى أن الهجوم الكيميائي ضد حلبجة لم يثر أي ردة فعل دولية، ولم يحظ بأي تغطية تذكر في الإعلام العربي، ناهيك عن الإدانة. أما حملة الأنفال سيئة الذكر فلم تنشر تفاصيلها إلا بعد غزو الكويت وانكشاف النظام العراقي.
ولكنا مع ذلك لم نسمع زعماء الأكراد يتباكون كما نسمع من ثوار سوريا اليوم، على تخلي العالم عنهم، ولم ينتظروا أن تأتي تحالفات دولية لتشكل نيابة عنهم قيادة للشعب الكردي وجيشاً «حراً» صنع في الخارج. صحيح أن المقاومة الكردية لم تسلم من الانشقاقات والاختراقات الدولية، ولم يتنزه زعماؤها عن الاقتتال وارتكاب الفظائع في حق أفراد شعبهم. ولكن يبقى أن الحركة الكردية نجحت في تحقيق الصمود، واستخدمت مزيجاً فاعلاً من النضال المسلح والبناء السياسي والحنكة الدبلوماسية لتحقيق تطلعات الشعب الكردي وبناء نظام سياسي ناجح حمى الشعب الكردي في هذه الأيام المضطربة، بل وبسط الحماية على آخرين من ضحايا أمواج الفتن المتلاطمة.
وإذا كانت هناك دروس للشعوب العربية من هذا النجاح الكردي، خاصة الشعوب المكلومة في مصر وسوريا وليبيا، فإنها: أولاً، إن المسؤولية الأساسية في تحرير الشعوب تقع عليها، ولن تتولى قوى خارجية تحرير الشعوب منة واريحية. ثانياً، ضرورة توحد القوى الثورية، وهذه مسؤولية الحركات الأقوى التي ينبغي أن تقدم التنازلات وتبسط جناحها على الجميع. ثالثاً، لا بد من تبني خط الاعتدال والحكمة مع الداخل والخارج. وأخيراً، بل أولاً، الاعتماد على الذات وتبني استراتيجيات تتناسب مع هذا المبدأ.
وقد يكون الدعم الخارجي في نهاية المطاف ضرورياً لنجاح الثورات، ولكن الدعم لن يأتي في ظل الانقسامات، وتكاثر عشرات الميليشيات والتطرف في سوريا وليبيا. بل لا بد من عمل استباقي في كلا البلدين لإنشاء جيش موحد، بإرادة وطنية محلية، وتبني خطاب واقعي معتدل يلقى القبول محلياً وعالمياً. وبالنسبة لمصر واليمن (وفلسطين أيضاً)، فإن الوحدة المطلوبة هي وحدة كل الفصائل السياسية والتفافها حول برنامج سياسي واحد.
وخلاصة القول إنه لا فائدة من تحميل الغير مسؤولية إنقاذ الشعوب، لأنه كما أن هناك قابلية للاستعمار، هناك كذلك قابلية للوقوع في قبضة الاستبداد. وما لم تحرر الشعوب نفسها من الخنوع والخضوع، وتفرز قياداتها الفاعلة وتنظم صفوفها، فلن ينقذها بطل قادم من الخارج. ولكي تحرر الشعوب نفسها لا بد من أن تتحمل القيادات السياسية مسؤوليتها، في الالتحام مع الشعوب، والوجود الميداني في ساحات النضال، وتقديم التنازلات.
وإذا كان البعض يتعجب كيف تحقق كردستان بمواردها المحدود وسكانها القليلين، ما حققته إسرائيل من قبل، في حين فشل كل العرب، فلا بد من أن ننظر إلى نموذج تونس، حيث ضربت الحركة الإسلامية هناك المثل وقدم القيادة السياسية الحكيمة، فحافظت على الاستقرار والاستقلال والكرامة. فإذا قلنا إن المشكلة هي أن العرب رعايا في أوطانهم بينما الآخرون مواطنون، فإن أصل المشكلة هو ركون العرب إلى وضع الرعايا وعجز القيادات الوطنية عن تنظيم المقاومة الفاعلة ضد الاستعمار الداخلي والخارجي، وتحول «المقاومة» إلى مشكلة بدلاً من أن تكون الحل، كما شاهدنا ونشاهد في فلسطين ولبنان وسوريا والعراق ومصر وليبيا.
لندن، بريطانيا (CNN) -- هناك احتمال كبير بأن يكون هناك في مركز القرار الأمريكي بواشنطن من خرج بخطة تقترح قتل زعيم تنظيم الدولة الإسلامية "داعش" في سياق محاولات القضاء على التنظيم، ومن ثم قتل كبار قادته.
ليس لدي شك من أن الفكرة طرحت على مائدة البحث على أساس أنها عملية غير مكلفة وتمثل بديلا ناجحا عن إرسال قوات لغزو العراق وسوريا، ولكن إذا كان داعش فعلا النموذج الأكثر تطورا لتنظيم القاعدة فلا يمكننا سوى تذكر أن اغتيال زعيم ذلك التنظيم، أسامة بن لادن، رتّب الكثير من النتائج المتضاربة وترك الكثير من الدروس والعبر للإدارة الأمريكية.
الحقيقية هي أن الاغتيال عملية شديدة التعقيد وقد تترك تداعيات سلبية بحيث تتحول إلى دواء أخطر من المرض نفسه، خاصة إذا كنا نستخدم هذا الدواء دون أن يكون لدينا صورة واضحة عن المرض الذي نحاول معالجته.
قد نشعر بالراحة عندما نصف داعش بأنه تنظيم دموي ووحشي، وأنه سيسقط بشكل تلقائي بسبب تعطشه الفائق للعنف والدماء، ولكن رغم استخدام التنظيم للعمليات الإرهابية على نطاق واسع إلا أن وصف "الإرهاب" لا يجب أن يحجب عنا فهم الصورة الكاملة، وهي أن داعش تنظيم يعبر بشكل واضح عن طائفة إسلامية مستاءة، هي التيار السنيّ المتشدد، فالسنة يرون أنهم يتعرضون للكثير من الخسائر السياسية، وإذا لم يتحركوا للرد فإن الخسائر ستكون أكثر فداحة.
وبالفعل، فإن السنة – ورغم أنهم يشكلون الغالبية الساحقة من المسلمين – إلا أنهم خسروا الكثير في الأعوام الماضية، فغزو العراق حرم السنة بذلك البلد من ثرواتهم وسلطتهم، وما فاقم المشكلة بالنسبة لهم قيام أمريكا بتسليم السلطة بعد ذلك إلى حكومة طائفية شيعية كانت مصممة على الانتقام منهم.
أما في سوريا، فيواصل النظام الحاكم الذي تسيطر عليه الأقلية العلوية قتل وذبح أعداد كبيرة من معارضيه السنة، وفي اليمن، قام فصيل شيعي آخر، هو التيار الحوثي، بالاستيلاء على العاصمة صنعاء.
الغارات التي تنفذها الطائرات الأمريكية على تنظيم القاعدة وحركة طالبان في باكستان، وهذا لا يجب أن يحول دون تمكننا من رؤية أن هناك أقلية سنيّة – ولكنها عددها ينمو باضطراد – ترى بتلك التنظيمات أقرب خيار متوفر لديها للمقاومة. حتى في مصر السنيّة بالكامل، يحاول الجيش سحق جماعة الإخوان المسلمين، القلب النابض للإسلام السياسي السني.
ليس هناك بالتأكيد مؤامرة أمريكية ضد الإسلام السني، ولكن المشكلة هي أن داعش مزروع في وسط طائفة ترى أن الكيل قد طفح، يمكن للبعض أن يصف الأمر بأنه "انتفاضة سنيّة" أو "تفجر غضب"، ولكن بخلاف الانتفاضة الفلسطينية ضد السلطات الإسرائيلية، فإن موجة الغضب السنيّة تنذر بأنها ستكون أكثر تدميرا وقوة، الإسلام السني الصاعد سيسير بسرعة كبيرة للاصطدام بنظيره الشيعي، لتتفجر إمكانية اندلاع حرب لمئة سنة.
ورغم أن معظم السنة لا يشاركون داعش رؤيتها الجهادية التي تؤمن بنهاية العالم، إلا أن التعايش مع الشيعة يبدو كخيار يفقد جاذبيته بالنسبة إليهم يوما بعد بوم، فقبل سنة، عندما بدأ داعش بالتمدد بين العراق وسوريا، سألت عددا من قادة القبائل ورجال الجيش العراقي السابق بحقبة صدام حسين عن سبب عدم تدخلهم لمقاتلة التنظيم، وكان جوابهم أنهم على استعداد للتحالف مع أي جهة، بما في ذلك مجانين داعش، من أجل طرد حكومة بغداد الشيعية من مناطق السنة.
وقال بعضهم إن الانفصال عن العراق خيار جدي، بل إن بعضهم وصل إلى حد القول بأنه يتطلع إلى الانضمام إلى السنة في سوريا وتشكيل دولة موحدة، أما بالنسبة للجهاديين وداعش، فإنهم سيتصدون لهم عندما يحين الوقت لذلك.
قد تبدو الاستعانة بالجهاديين أمرا شديد الخطوة بالنسبة لنا، ولكنه يظهر مدى عمق الهوة غير القابلة للردم بين السنة والشيعة. باستطاعتنا عسكريا تدمير داعش والقضاء على قادته، ولكن الغضب السني سيبقى موجودا، وستظهر شخصيات أخرى لتتصدر المشهد.
لقد أسس اتفاق سايكس بيكو عام 1916 الحدود الحالية في الشرق الأوسط، عبر خطوط رسمها بشكل سري مسؤولون فرنسيون وبريطانيون، وهذه الحدود ليس لديها أي صلة على الإطلاق بالوقائع الديمغرافية والثقافية، ما يثير التساؤل حول مدى وجود مصلحة لدينا في حماية هذه الحدود عبر شن حروب ليس لها نهاية أو عبر عمليات الاغتيال السياسي.
الحقيقة أننا نعيش ما يمكن يشبه فترات النزع الأخير للإمبراطورية العثمانية، وإذا كان الأمر كذلك، فإن عمليات الاغتيال وقتل الشخصيات المؤثرة من خلال الضربات الجوية لن يقودنا إلى شيء.
كلما ألمحت إلى بوادر أمل وإشعاع نور في نهاية النفق العربي المظلم جاء من يحتج ويحدثني عن اليأس والكآبة ونهاية العرب، إن لم يكن موتهم. وكلما كنت اؤكد ان المؤمن لا ييأس وان الفرج لا بد ان يأتي ان عاجلاً أو آجلا حتى ولو جاء متأخراً بعد مخاض عسير كان يبادرني إخوان لي بالإنكار والجزم بأن الأبواب موصدة والنوافذ مسدودة.
وكلما قلت ان المنطق يدفعنا إلى القول انه ما من حرب إلا وتنتهي الى سلام وما من مشكلة إلا ولها حل، وما من أزمة إلا ويأتي يوم يتم فيه إيجاد حلول لها وتسويات، يجيبني أعضاء نادي التيئيس وحزب المتشائمين بالرد بأن حروبنا ليست كحروب الآخرين مثل كلماتنا وشتائمنا التي هي ليست كالكلمات الطبيعية لأنها تجرح وتسيل دماء غزيرة وتفتح جروحاً لا تندمل ولا تترك مجالاً للصلح ولا تساعد في ان ننسى ونسامح وعلى الأقل نسامح ولا ننسى!
ومع أنني لا أحب أن أزرع الورود والأزهار والرياحين في حقول الألغام، ولا أحبذ سياسة المعالجة بالمسكنات والمهدئات ولا توزيع الأوهام الكاذبة وتفسير الأحلام الوردية، فإنني أرفض الاستسلام لليأس لأن المؤمن لا ييأس، ولهذا أحاول تقديم صورة واقعية عن الأوضاع والتطورات بالاستناد الى الوقائع والحتمية التاريخية والدروس المستقاة من تجاربنا وتجارب الآخرين عبر العصور.
ومن هنا، أكاد أجزم بأن الأمل بالله عز وجل كبير ومؤكد لأن الأمور وصلت الى مرحلة الحسم والفصل واتخاذ القرارات الصعبة والبحث عن الحلول المؤلمة سلباً أو إيجاباً ان لم تحدث في وقت قريب على المدى المنظور فإنها تبقى ماثلة للمقاربة خلال أشهر مقبلة لتحديد مسار المنطقة ومصير أهلها.
وعلى رغم السحب الداكنة والعواصف المرتقبة، تلوح في الأفق ملامح مفترق طرق من منطلق المواقف والحسابات الداخلية والعربية والإقليمية والدولية، لا سيما بعد دخول «داعش وأخواتها» على الخط وبدء حرب التحالف الدولي ضد الاٍرهاب واقتناع الأطراف بأن البديل عن التسويات انهيار كامل لكل المعادلات والجنوح نحو هاوية نار جهنم تحرق الجميع وسط انقسام ظاهر بين متشائم ومتفائل ومتشائل! بل ان أحد الأصدقاء جزم سلفاً بأن الحل مستحيل، مستخدماً عبارة الزعيم المصري الراحل سعد زغلول التي قالها لزوجته المرحومة صفية بعدما أحس بقرب أجله: «غطيني يا صفية ما فيش فايدة»! ورد عليه صديق آخر بسخرية مؤلمة تعبّر عن الواقع: حتى الغطاء (اللحاف) غير متوافر هذه الأيام حتى يغطي المساكين الذين يعيشون في العراء تتقاذفهم عواصف الشتاء وتجمدهم ثلوجه ويكويهم لهيب حرارة شمس الصيف الحارقة.
وبعيداً من التحليل والتنظير والتنجيم، لا يمكن لوم من ينظر إلى الأوضاع العربية الراهنة بنظارة سوداء لا يرى من خلالها بصيص أمل بعد ٤ سنوات عجاف من الدمار والقتل والمذابح والتهجير وإثارة الفتن والأحقاد والتعصب وكل ما في أوبئة الطائفية والمذهبية والعنصرية من موبقات. فكيف يمكن لنا ان ندعو إلى التفاؤل ونحن نشهد مذابح وجرائم يندى لها جبين الإنسانية وتلصق بالإسلام والمسلمين زوراً وبهتاناً؟ وكيف نروّج لأمل زائف ونحن نسمع جهابذة التحالف الدولي وهم يتحدثون عن حرب قد تدوم ١٠ سنوات أو ربماً ٤٠ سنة؟ وكيف نطالب بالتخلي عن اليأس ونحن نرى دولاً تنهار وكأنها مجرد علب كرتونية تتهاوى عند أول هبة ريح؟ وكيف نطمئن ونحن نشاهد جيوشاً جرارة تندحر وتستسلم وكأنها دمى خشبية؟ وكيف يرتاح المواطن العربي وهو يصدم بشباب وشابات في عمر الورود يجنحون الى العنف والتطرف والإرهاب؟ وكيف لا ييأس من تصم أذنيه صرخات الأطفال وأنين النساء والسبايا وهن يبعن في سوق النخاسة في القرن الحادي والعشرين؟
وكيف لا يصاب المرء بالغم والقرف عندما يتحدث البعض عن خلافة مزعومة أو دولة لا كيان لها ولا قرار وعن حروب عبثية تزهق الأرواح وتأكل الأخضر واليابس وتدمر البشر والحجر وتقطع الرؤوس وتصلب الصبية، مع أن الدين الاسلامي وكل شرائع وقوانين العالم تحرم معاقبة من لم يبلغ سن الرشد لأنه فاقد الأهلية ولا بد من الانتظار حتى يملكها؟
وكيف يقبل أي إنسان، مهما كان دينه ومعتقده ان يأتي من يهدم الكيان المبني على أساس التعايش والوحدة الوطنية والتسامح والسلام عبر العصور ويضطهد «الآخر» لا لذنب ارتكبه، بل لمجرد كونه ينتمي الى دين آخر من الأديان السماوية؟
كل هذه الأسئلة تطرح اليوم في كل بيت ومحفل من دون ان تؤثر على السياق العام، وهو الوصول الى هدف تحديد أصل العلة وسبب البلاء ومعرفة أبعاد وخفايا وأسباب الوصول الى ما وصلنا اليه من انحدار ديني وأخلاقي ووطني وممارسة شتى أشكال العنف والتمادي في ارتكاب المذابح بكل دم بارد وبلا رادع من ضمير.
أحد الزملاء البريطانيين حاول ان يخفف عني وأنا أحمل أثقال هذه الأسئلة المرة قائلاً: لا تحزن يا صديقي، فأنتم تمرون الآن بالمراحل التي مررنا بها في عصور الظلام وتعيشون الصور الرهيبة ذاتها وتعانون من الممارسات المرعبة أيام محاكم التفتيش يوم إعدام الناس حرقاً بالنار على أساس تهمة ظالمة بممارسة السحر او الكفر، إضافة الى هيمنة الكنيسة على كل مناحي الحياة ومقاليد الأمور في أوروبا، وبعدما دفعت شعوبها أثماناً باهظة جراء القمع والاضطهاد وشن الحروب بدءاً من الحروب الصليبية وحروب الدول وصولاً الى الحروب الكونية توصلت الى عبر ودروس أثمرت عن تنفيذ مبادئ سيادة القانون وحقوق الانسان والحريّة والديموقراطية ومبدأ «أَعْط ما لقيصر لقيصر وما لله لله».
صدمني هذا التشبيه المفزع وآثار قلقي وأنا استعرض ما قرأت وما سمعت عن تلك الحقبة السوداء، وعدت الى دراسة أعدها الزميل محمد قواص (مجلة «الحصاد») عنها وعن المظالم التي ارتكبت خلالها ومنها على سبيل المثال لا الحصر:
- تحول من اتخذ الدين سبيلاً للهيمنة الى طواغيت ومحترفين سياسيين ومستبدين تحت ستار الإكليروس وبيع صكوك الغفران وتكفير من لا يتفق مع مواقفهم.
- وقوف الكنيسة ضد العلم وهيمنتها على الفكر وتشكيل محاكم التفتيش واتهام العلماء بالهرطقة مثل:
- اكورنيكوس الذي نشر عام ١٥٤٣ كتاباً عن حركة الأجرام السماوية، فحرمت الكنيسة هذا الكتاب.
- غرادانو صنع التلسكوب فعذب عذاباً شديداً وعمره سبعون سنة، وتوفي عام ١٦٢٤.
- يبينوا صاحب مدرسة النقد التاريخي وكان مصيره الموت مشلولاً.
وهناك مئات الأمثلة عن تعذيب وتكفير وحرق العلماء والمفكرين والنساء وحتى الأطفال قبل ان تغلق أوروبا هذه الصفحة السوداء وتستقبل عصر النهضة.
ولكن هل كتب علينا أن ننتظر كل هذا الوقت، أي أكثر من ٥٠٠ سنة حتى ننعم بالسلام ونحلم بغد مشرق ونطمئن على مستقبل أبنائنا وأحفادنا؟ يجب ألا نستسلم لهذا الكابوس المرعب لأن الأمل معقود على الأجيال الصاعدة وانفتاحها على روح العصر والإنجازات العلمية وبذل الجهد والمثابرة على العمل والعطاء والتضحية ونبذ التطرّف والعنف من دون ان تتخلى عن إيمانها الصادق بمبادئ دين المحبة والتسامح، دين الوسطية والاعتدال ودين المودة والرحمة.
ومع هذا، فإن علينا أن نعترف بأن ما نمر به من تجارب مريرة اليوم ليس ابن ساعته، بل جاء نتيجة تراكم الحوادث والمآسي وتوالي عمليات العنف والقمع والقتل والارهاب خلال العقود المنصرمة، وما ترتكبه «داعش» وأخواتها من أعمال مستنكرة مارست مثله وأكثر دول وفئات وأحزاب وطوائف حتى حق على الجميع القول: تعددت الوجوه و»الدواعش» واحد؟
ففي السنوات القليلة الماضية، ارتكبت جرائم تفوق ما ارتكب خلال قرون: مئات الآلاف من القتلى والجرحى، ملايين اللاجئين والنازحين والمهجرين قسراً، عشرات المدن دمرت عن بكرة أبيها على رؤوس أهاليها، مئات الآلاف من المعتقلين والمفقودين وإعدام الآلاف من الرجال والنساء وحتى الأطفال، من دون ان يجنح أي طرف للسلم أو يرفع بيده غصن زيتون ويقبل بالحوار والاعتراف بالواقع المرير وبوجوب وقف نزيف الدم وحجب دماء الأبرياء.
تعنت وعناد ومكابرة وإنكار للحقيقة والواقع وإصرار على المضي في الغي مهما كان الثمن والتشبه بشمشون ومقولاته الشهيرة عندما هدم الهيكل: «عليّ وعلى أعدائي». ورفض البحث عن الحل الوسط المعمول به في كل الحروب والأزمات والمفاوضات ومجالس الحوار.
أما التاريخ ، فـ»الدواعش» فيه كثر بأشكال ومزاعم وادعاءات مختلفة ودعاوى مزورة لا داعي لفتح سجلاتها السوداء ونبش القبور في هذه العجالة، بل يكفي الإشارة العاجلة الى بعض صورها:
الحرب الأهلية اللبنانية وخسائرها البشرية والمادية، وحروب السودان بين أهل الشمال وأهل الجنوب والتي انتهت بالانفصال، الى دارفور التي قتل فيها مئات الآلاف من المسلمين العرب والمسلمين الأفارقة، الى حروب اليمن القديمة والجديدة بين الجنوب والشمال، وصولاً الى الحرب الأهلية بين القبائل والحوثيين والتي تتقاطع مع حرب السلطة و»القاعدة» وحرب «القاعدة» والحوثيين، وحرب الصومال الطويلة والدامية بين شمال وجنوب وشرق وغرب، وهي مستمرة «بنجاح منقطع النظير» وتحصد أرواح مئات الآلاف، من دون أن نتجاهل حروب العراق وصراعاته الطائفية والمذهبية والعرقية وحروب سورية وأحداث العنف في مصر وتونس والجزائر مع مئات عمليات التفجير والاغتيالات والتخريب التي جرت على هامش هذه الحروب وفي أوقات استراحات المحاربين.
أما إسرائيل، فالحديث عنها يطول، هي التي قامت على مداميك العنف والمنظمات الإرهابية وما زالت تعيشها بكل أشكالها وصورها المشينة والسوداء، بل هي أول «الدواعش» التي ولدت من العنف وعلى العنف تعيش، مهما صبغت وجهها بالمزاعم ووضعت من أقنعة، فهي ممثل الاٍرهاب الحصري والوحيد في مواجهة الشعب الفلسطيني والشعوب العربية.
إنها وجوه متعددة ابتلينا بها، ولن نضع أيدينا على قلوبنا ونتنفس الصعداء مع نسيم أمل إلا بالعودة الى هذه الوقائع وتحديد أسباب انتشار العنف وتفاقم جرائمه والاعتراف بأنه بات جزءاً من حياتنا وفكرنا وواقعنا وان الحل يجب ان يبدأ بالمصارحة التامة والتخلي عن التكاذب بعيداً من الحساسيات والخوف من قول كلمة حق وتجنيب النفس الخضوع في مواجهة قوى التكفير العاملة على قمع قوى التفكير.
وعندما نبدأ بأنفسنا يمكن لنا ان نجيب على كل الاسئلة المطروحة ونرفع راية الدعوة الى التفاؤل ونبذ التشاؤم ونزع صواعق اليأس لتنير دروبنا شعلة الأمل!
في السنين العشر التي تلت حرب الخليج الثانية، كان يصعب أن تجلس في مقهى في وسط عمَّان القديم، ولا تجد أديباً أو فناناً تشكيلياً عراقياً هناك، كما كان يصعب أن تختلف إلى الندوات الثقافية العَمَّانية ولا تجد عراقيين على المنبر، أو بين الجمهور. أنا، مثلاً، من الذين يعتبرون وجود الفنانين التشكيليين العراقيين، الرواد والشبان، خلال ذلك العقد نقطة انعطاف في الحركة التشكيلية الأردنية، اتجاهات ومرافق وسوقاً، بحيث يؤرخ للتشكيل الأردني انطلاقاً منها.
لم يحدث شيء مشابه مع اللجوء السوري الكثيف إلى الأردن، فالنسبة العظمى من اللاجئين هم من فلاحي وفقراء المناطق الجنوبية (حوران، الجولان)، أو بعض أثرياء الشام. كان للمثقفين السوريين الذين غادروا بلادهم وجهات أخرى، بيروت (أساسا)، تركيا، مصر، الإمارات، وبعض الدول الأوروبية التي قبلت بفتح حدودها لعدد ضئيل من لاجئي حرب النظام على شعبه. كل دولة من الجوار السوري تلقت قسطاً من موجات النزوح السوري، وكان النازحون إلى هذه الدول (لبنان، الأردن، تركيا، وإلى حد ما العراق) من المناطق المحاذية لها، أو القريبة منها جغرافياً.
هكذا كان أسهل على مثقفي المدن السورية: دمشق، حمص، حلب، مثلاً، الفارين من جمهورية الشبيحة والبراميل أن يتجهوا إلى لبنان وتركيا، فيما اتجه بعض مثقفي المناطق الكردية إلى أربيل. لم يكن للمثقفين العراقيين هذه الخيارات. كانت لهم وجهتان على نحو خاص: عمّان ودمشق، بيد أن معظم المثقفين العراقيين فضّلوا عمّان على دمشق، لأسباب سياسية ونفسية، فهم لن يهربوا من حرب دوليةٍ، ونظام بعثي متشدد، إلى نظام بعثي آخر، حتى وإن بدا، ظاهراً، أخفَّ وطأة من "بعث" بلادهم!
لم يستقر المثقفون العراقيون الذين جاءوا بعيد حرب الخليج الثانية (1991) طويلاً في الأردن، فقد كانت عمان لهم محطة انتظار، تطول أو تقصر، إلى وجهةٍ أخرى، غربية تحديداً. لكن، تلك الإقامة التي يمكن لي حصرها في العقد الذي أعقب الحرب على العراق كانت مثمرة جداً للحركة التشكيلية في الأردن، فلم يبق واحد من رواد الحركة التشكيلية العراقية، تقريباً، لم يتخذ من عمان مستقراً بعض الوقت، أو كل الوقت، مثل المرحوم رافع الناصري.
سوريو عمّان ليسوا من هذا النوع. إنهم، غالباً، عمال أو مهنيون يُقبِلون على أي عمل يحصلون عليه، وبأي أجر كذلك، تجدهم في المطاعم ومحال بيع الملابس وأسواق التحف والفضيات، في فنادق الدرجة الثالثة في وسط البلد. أتحدث، بالطبع، عن الذين فضلوا أن يعيلوا أنفسهم بعيداً عن مخيمات اللجوء التي لا يستطيعون، إن سُجّلوا فيها، أن يبرحوها إلا بإذن. لا أعرف، الآن، نوع الأثر الذي ستتركه موجة اللجوء السوري الكبيرة على الأردن (تتجاوز مليوناً ونصف المليون) سوى ما هو ملحوظ من ضغط شديد على البنى التحتية والمرافق العامة، والتذمر بين أوساط الأردنيين الذين بالكاد يتمكنون من تدبير أمور معيشهم اليومي، في ظل وضع اقتصادي شبه متدهور في البلاد، وما رافق النزوح السوري الكبير من ارتفاع في أسعار بعض السلع، وصاروخي في أجرة المساكن.
ولكن، من الواضح أن هناك أثراً اجتماعياً بدأت آثاره تلوح بسرعة، وربما بفداحة، في محافظات الأردن الشمالية، يتمثّل في تفضيل شريحةٍ لا بأس بها من طالبي الزواج (ومجدِّدي الفراش!) في تلك المناطق، السوريات على الأردنيات.
السبب الأبرز في خسارة الفتيات الأردنيات هذه "المنافسة" يتعلق، كما فهمت من بعض أقاربي في مدينة المفرق، التي استقرت فيها الموجة الأعظم من اللجوء السوري، بـ "انخفاض" مهور السوريات في مقابل مهور بنات البلد.
لا يزال الزواج في بلادنا سوقاً.
و"الأسعار" هي محركُ هذه "السوق"!
نقطتان كنت أفكر فيهما منذ بداية الثورة السورية، احتمالات الموقف الأميركي، وحالة القوى السياسية السورية. كنت أعتبرهما المفصليتين في تقرير مصير الوضع في سورية، إما من خلال فاعلية إحداهما أو عبر فاعليتهما معًا. فقد كنت مقتنعًا بأن قدرة الثورة على تشكيل حالة مركزية متماسكة ضعيفة بحكم عوامل عديدة، وأصل في الحصيلة إلى شيء من التشاؤم، بعد تحليل النقطتين.
في الأولى، كنت أرى أنه لا حاجة إلى أن نتعب أذهاننا كثيرًا لاكتشاف أن أميركا ليست في وارد التدخل لمصلحة الثورة السورية. وبالطبع، ليس المقصود بالتدخل الهجوم العسكري المباشر، فهذه الدولة الكبرى يمكنها أن تقوم بأدوار مختلفة، إن أرادت، لمصلحة أي تغيير ترى أنه يتوافق مع مصالحها السياسية والاقتصادية. أما الأسباب الكامنة وراء ذلك فهي: رغبة الولايات المتحدة في ذهاب الأمور في سورية نحو المجهول، استمرار تحطيم الدولة السورية على يدي السلطة الحاكمة، النظام السياسي في سورية براغماتي ويمكن التفاهم معه، ولم يشكل حالة إرباك طوال أربعة عقود لإسرائيل؛ الإدارة الأميركية الحالية جاءت ببرنامج لسحب الجيش الأميركي من العراق وأفغانستان، وليست في وارد توريط القوات الأميركية في حرب جديدة في المنطقة، سورية تشبه العراق في تنوعها الإثني والديني، وستكون مربكة، عدم وجود مصالح أميركية اقتصادية مباشرة في سورية، وعدم وجود نقاط ارتكاز أميركية في المجتمع السوري، ولدى القوى السياسية والاقتصادية، سورية محاطة بدول هشة كلبنان والأردن، وأي تغيير في سورية يعني فوضى محيطة، يمكن أن تؤثر على جيرانها، وعلى إسرائيل.
للأسف، كان هناك اتجاهان مضللان في ما يسمى "المعارضة السورية"، سيطرا على الخطاب الإعلامي في تنافس مقيت، على الرغم من قراءتهما السياسية الخاطئة معًا، فكلاهما اعتقدا أن أميركا ستتدخل، عاجلًا أم آجلًا، وانتحلا خطابًا موازيًا لهذا الاعتقاد، إما لجهة رفض التدخل أو المطالبة به. والاتجاهان متساويان في الخفة السياسية، أحدهما شعبوي والآخر أيديولوجي، فيما كان النظام السوري متيقنًا ومطمئنًا من عدم نية أميركا في التدخل، وهذا هو السبب الرئيسي لإمعانه في العنف والجرائم ضد الشعب السوري، قبل الدعم الروسي الإيراني والميليشيات الداعمة الأخرى. فالسلوك الأميركي كان، دائمًا، بوصلة النظام السوري في سلوكه وممارساته، فمن دون قرار أميركي بإسقاطه، ستكون جميع تحركات ما يسمى "مجموعة دول أصدقاء الشعب السوري" لا قيمة لها في المآل.
"
كان النظام السوري متيقنًا ومطمئنًا من عدم نية أميركا في التدخل، وهذا هو السبب الرئيسي لإمعانه في العنف والجرائم ضد الشعب السوري
"
أما عن بنية المعارضة السورية، فقد كانت قواها مهشمة لحظة انطلاق الثورة، داخل سورية وخارجها. أما تلك الموجودة في الداخل، فتتكون من قوى هشة، منقطعة عن ممارسة السياسة منذ زمن بعيد، وليس لها امتداد في المجتمع السوري، ومنقسمة على نفسها لاعتبارات شخصية أكثر منها سياسية، ولا يوجد حوار حقيقي بينها، وتتمترس خلف شعارات بالية، بعض قواها فقير الطموح ومهتم باعتراف النظام بوطنيته، وتأقلم مع العمل في إطار معارضة النظام القائم فحسب. قوام هذه المعارضة قوى أيديولوجية، ناصرية وقومية ويسارية، تخثرت عند مرحلة معينة، وتقارب الواقع من خلال ما ورثته من شعارات، وليس عبر التعاطي مع معطياته وحقائقه.
خلال الثورة التي اجتاحت كل شيء، لم يبق من هذه المعارضة سوى شخصيات محدودة العدد، تتمترس خلف "ماركة الاسم" الذي صنعه الإعلام، ولم تصنعه الفاعلية، وقد سترت عوراتها السياسية بمصطلح "المعارضة الداخلية"، الذي كانت تكرره في كل مناسبة، وكأن هذا الأمر بحد ذاته يمنحها الحصانة والأولوية، متجاهلة أن القضية الأساسية هي الثورة وليست المعارضة، وأن مصطلح المعارضة بذاته لم تبق له أية قيمة بعد انطلاق الثورة. تدريجيًا، تحولت هذه المعارضة إلى عصبة مغلقة، بحكم إحساسها بالمظلومية إزاء المعارضة الموجودة في الخارج، ومارست نمطًا مضحكًا من التفكير "تفكير الجكارة"، ظهر في مواقفها السياسية الغريبة إزاء الحوادث، والبعض القليل الذي لا يزال مرتبطًا بها، له أسبابه الشخصية والذاتية، وليس السياسية.
انتحلت هذه المعارضة خطابًا باهتًا، ومتعاليًا على الناس، ويفترض الهزيمة سلفًا أمام النظام القائم، ولم تكن مطالبها وطموحاتها في الجوهر تتعدى ما هو مطروح من فتات من النظام، على الرغم من اضطرارها، في بعض اللحظات، إلى استخدام مواقف جذرية كلاميًا مع بعض التلاعب في المفردات، بما يبقيها في وضع آمن، على الرغم من أن النظام لا يكترث بخطابها. وتعاملت بانتهازية فاضحة مع إدراكها حاجة النظام وأصدقائه المؤقتة إليها في محاربة الذين يدعون إلى إسقاطه في الخارج، واندرجت في علاقات سياسية مع أغلب أصدقاء النظام السوري، معتقدة بسذاجة أنه يمكن لها التأثير في سياساتهم.
أما المعارضة الموجودة في الخارج، فقد انتحلت خطابًا غوغائيًا، تكمن أسبابه، أساسًا، في الجهل والفقر المعرفي وعدم الدراية السياسية، فضلًا عن محرك "الحقد" على النظام، من دون الانتباه إلى المقولة الصائبة "الحقد موجه سيىء في السياسة". وظهرت السياسة ضامرة في خطابها، الذي اقتصر على ترديد مقولات الشارع، في حالة أقرب ما تكون إلى "البلاهة السياسية"، إذ قامت بأدوارها من خلال اللعب على العواطف والصوت المرتفع والجعجعة، مستخدمة ذلك بخبث لاستبعاد الآخرين، والاستئثار بصفة تمثيل الثورة. كما أسبغت هذه المعارضة سمة "الإسلاموية" على الحراك الشعبي، وهي تعلم أن ذلك لا يتوافق مع طبيعة المجتمع السوري، واندرجت مواقفها وممارساتها في سياساتٍ خليجية، قطرية وسعودية، وظهر أنها فاقدة الإرادة والاستقلالية، فضلًا عن انغماس بعض شخصياتها في الفساد المالي.
لم تكن أي من تلك التشكيلات السياسية، منذ البداية وحتى اليوم، صادقة فيما يخص "وحدة المعارضة"، بما يشكل بوصلة سياسية رزينة للحراك الشعبي، وعدم إفساح المجال للنظام للعب على خلافات المعارضة، وتطمين الشارع السوري بإمكانية وجود كتلة سياسية قادرة على إدارة فترة انتقالية، وإيصال رسالة إلى العالم بوجود بديل مناسب للنظام مرحليًا ومؤقتاً. وظهر ذلك في لهاث الجميع وراء الإعلام، الذي لعب بالمعارضتين، داخل سورية وخارجها، وفي حملات التشهير الدائمة على مستوى الكتل السياسية والأفراد، وفي ظاهرة الأفراد الذين وضعوا أنفسهم فوق الجماعة والبلد والثورة، فقد ظهر في لحظات عدة، أن التنازع على المواقع القيادية ونسب التمثيل هو جوهر الخلاف بين جهات المعارضة قاطبة، مما يدل على قصر النفس وعدم الثقة بالذات والجهل بمسارات التاريخ، الأمر الذي منعها من إدراك أن التشكيلات السياسية كافة مؤقتة، ستتعرض لعمليات هدم وبناء متوالية، وأن ملامح البشر والقوى الفاعلة لن تتشكل إلا في ظل استقرار الوضع في سورية، وأن المستقبل سيأتي، بالتأكيد، بتشكيلات مغايرة. والأهم أنه، خلال الثورة، ظهرت لا مبدئية جميع هذه التشكيلات. واليوم، أصبح الأمر كله خارج نطاق الإقناع الفكري السياسي، فلكثيرين مصالح شخصية، أو فئوية، أو حزبية، يدافعون عنها ويتمترسون خلفها.
كنت، ولا أزال، مقتنعًا بأن هذه التشكيلات تحولت إلى عقبة حقيقية في وجه المستقبل السوري، وأنها، بوضوح، تستحق أن ترمى في المزبلة، نهجًا وسلوكًا وأداء ومواقف، فقد كان نتاجها في الداخل والخارج، بالمقياس العلمي، ما دون الصفر بدرجات كثيرة. أما "القوى السياسية" الجديدة، التي تشكلت مع الثورة، فهي ليست أكثر من فقاعاتٍ بنيت على عجل، ولا تحتوي سوى على حفنة من الأفراد، ولا يبدو عليها التماسك والقابلية للاستمرار.
هنا، يتبادر إلى الذهن مباشرة السؤال: ما الحل؟ هل نأتي بقوى وشخصيات سياسية من المريخ؟ أعتقد، في اللحظة الراهنة، أن الوضع السوري رهينة الموقف الأميركي فحسب، ولا تأثير للتراكيب (أو بالأحرى الكراكيب) المعارضة الموجودة، التي سيكون مصيرها الانحلال والاضمحلال، عاجلًا أم آجلًا. لكن، إذا أردنا أن يكون لسورية والسوريين مستقبل جديد كما نشتهي، فعلينا إدارة الظهر لهذه "الكراكيب"، والذهاب نحو بناء قوى سياسية جديدة أساسها الفكر، والسياسة المبنية على عمق ثقافي، والإدارة والتنظيم اللذان يشكلان عصب المؤسسات الحديثة الناجحة، فهذا وحده ما يمكن أن يفتح الباب لنكون مؤثرين نسبيًا فيما يخطط لسورية.
لم يخطر ببال أحد من الثوار الشباب في سوريا، عندما اندفعوا إلى المواجهة مع النظام الاستبدادي المقيم في بلادهم، ومنذ أكثر من أربعين عاماً، إن شعلة غضب في قرية من جنوبي دمشق سوف تكشف أن سوريا كلها هي أرض البراكين النائمة، كأنها عاشت حياتها بانتظار من يُوقظ جحيمها في صدْفة تاريخية، وإنْ كانت في أصلها حادثة شبه عادية.. مهما يقال نظرياً أن الثورات الحاسمة يسبقها إعداد منظّم، حتى عندما تظهر بوادرها الأولى بطريقة فُجائية، وتنتقل سريعاً إلى ساحاتها بسرعة تسابق أحياناً الضالعين في إحداثها أنفسهم، فإنها لا تلبث أن يلوح لها بعض الانتظام في جريانها، الأمر الذي يخوّل بعض المراقبين الحاليين أن يفترضوا تخطيطاً ماوراءها. فاتهام الثورات بأنها صنائع لغير أسمائها المعروفة أمر تواجهه حتى أرقى ثورات العصر الرأسمالي الحالي. ذلك أن الإقرار بأصول وأسباب تخص الثورة من داخل بنيانها، قد يتجنبه أعداؤها، ما أمكنهم من اتباع أساليب الاتهامات السوقية بالجهات أو المخططات الأجنبية أو الإقليمية.
بالفعل، فإن الثورة السورية وقعت منذ أن بانت ملامحها الجذرية، أسيرةً سريعة وحتى سهلة. بين أحابيل القوى الخارجية المضادة لكل تغيير عربي مستقل. فهذه القوى دأبت على فرض رقابتها السياسية والفكرية الدائمة على تطوراتِ المرحلة الإستقلالية بعد أن اضطرت أن تجلو بجيوش احتلالها عن كامل الجغرافية العربية. فالبديل عن السيادة الغربية المباشرة، بالحديد والنار على ما كان يسمّى بمستعمرات الشرق العربي، كان في اختراع وتنويع طرق الهيمنة الشفافة، والتدخلات غير المباشرة، وتوظيف العملاء والأصدقاء في خدمة مشاريع تلك الهيمنة، وصولاً إلى قرارات الحروب المادية المعلنة على رؤوس الدول، وهي في أصلها كانت حروب الحضارة الغربية ضد منطلقات حضارية عربية جديدة، صاعدة.
ما حدث للثورات الربيعية هو أنها كسرت لأول مرة شيئاً من سلطات قانون هذه الرقابة المطلقة على إرادة شعوب المنطقة، لا يعني هذا التحوّل أن الأمة باتت حرة في قرار التمرد على المظالم الكلية المسيطرة من عصور على الحياة العامة في بلادها. لكن هو «الواقع الفاسد» نفسه الذي يكبّل الأمة ربما أمسى موشكاً على تفكك بعض مفاصله المتيبسة، إذا كان أُتيح لبعض ثورات الربيع أن تنطلق من تلقاء ذاتها _ وهذا باعتراف الغرب أحياناً _ لكن مصائرها القادمة بعد انطلاقها ستتعرض لمختلف دواخل التحريف الذاتي كما الخارجي. ونحن الآن نعيش هذه المرحلة الثانية مابعد المرحلة الأولى من فُجائيات الثورات في أقطار متعددة، إنها الحقبة المعرضة خاصة لأخبث معارك الاستيعاب. فالتعقيد الدموي الهائل الذي تتساقط فيه جماهير الحراك الثوري ناجم أساساً عن كون كل من نوعي التآمر المنظم والآخر العبثي يتخاطفان دفة التوجيه في هذه المراكب الثورية المتحدية لبحار العواصف من حولها. فالثورة لن تُترك لذاتها. وهذا شعار عملي، وتمارسه كل القوى المضادة للتغيير العام. لن تخسر الثورة رونق أهدافها الوطنية، لن يغيب وجهها الشاب الصبوح وراء الأقنعة السوداء، لن يتلفّظ بعض ألسنتها بالتعاويذ والحشرجات القروسطية، لن ترتكب جرائم السفاحين الكبار بأيدي البعض من هؤلاء المنحرفين المتسابقين في التيارات الجرمية الكبرى. كل هذا التشويه غير العفوي يهدف إلى تعرية الثورة من هيبتها المعنوية لدى جماهيرها الخاضعة لهذه الممارسات الفوضوية التي كانت الثورة تستهدفها لدى أجهزة القمع السلطوية، تكاد تنسحب ملامحها إلى وجوه المناضلين ضدها. وفي هذا المنعطف الشائن سوف تضيع الفروقات الحدية بين أهل الفكر الوطني وأركان القتلة وأدواتهم التشبيحية. ضياع الفواصل الحاسمة هذه في الميادين الحركية بين الأضداد، يصب فوائده الكارثية في الجانب السلطوي. فماذا يتبقى للثوار من مزايا إن افتقدت جماهيرهم حس الاختلاف الجذري عن رجال النظام، بين دعاة السلام والمساواة والمحبة، وبين عملاء العنف والفساد والقمع الوحشي.
السنوات الأربع من تاريخ هذا التحول الشمولي تحت اسم الربيع العربي أحدثت صدمات مروعة للأخلاق الاجتماعية السائدة، ربما لم تأت على أمثالها أية نكبات عظمى ألمّت بشعوب هذه الأمة البائسة طيلة قرون سحيقة. وهذه الصدمات لا يمكن ردها كأسباب وظروف إلى فريق معين من بين قبائل الصراع، دون التنبه دائماً إلى مؤثرات الأفرقاء الآخرين، سواء كانوا ظاهريين في المشهد أم متوارين في هوامشه. وهنا يكمن التفسير المتواتر حول سر الأحكام الجماعية المتسرعة دائماً في ادانة الكل بجريمة البعض كالقول الذي تردده أوساط غربية حاملة لعناوين علمية، في إدانة مجتمعات الثورات _ أو المقتلات بأنها مرتدة إلى طبيعتها الوحشية الأولية. هناك في دوائر هذه الأوساط من يعزو مختلف (الشرور) إلى أمثال هذه البيئات الإبتدائية المتخيلة، حتى كأنما فقد الجمهور العربي تعاطفه الآني مع انطلاقات الشباب العربي الغاضب، ما أن تحولت الوقائع البطولية الأولى للغضب الشعبي إلى أفخاخ رهيبة لابتعاث أبشع الميول التدميرية للبشرية الهمجية، وأكثر من هذا فقد اختلطت الأمور أخيراً عند أرقى المراقبين العلميين نزاهة في معظم مراكز الأبحاث والإعلام الدولي، مما زاد في صعوبة التمييز بين هذه النخب، هل هي باحثة حقاً عن أسباب هذا العصر الكارثي الدموي أم أن بعضها لا يزال طامحاً في تعميم ظواهره الرهيبة على مستقبل الإنسانية المغدورة كلها.
فالأخطار الأدهى التي علينا أن نتوقعها مع مشاهد المنافسة الحيوانية بين مجانين العقائد الدينية المنحرفة، صار لها الوزن الأكبر بالنسبة إلى حجوم الشرور التقليدية التي فجرت أخيراً عصر التمرد الشبابي ضدها. أيهما هو الأفعل في مدى السيطرة اليومية المباشرة في ميادين الممارسات القتالية، هل هو حب الحرية والعدالة حقاً، أم كراهيتهما القاتلة. ومن هم أعضاء المعسكر الرافع لألوية الحقيقة في بحران الشعارات المتحالفة مع ألفاظها القدسية، من غير جدارة أو فهم صحيح لمعانيها ومقاصدها الدنيوية قبل الدينية. فلا شك أن من اصْطَلح عليهم بأوصاف الأوساط الحاضنة، وهي مجاميع عربية وإسلامية كانت بدون حدود تقريباً، تلك التي شكلت للثورات رصيدها المعنوي الذي استقت منه قوتها وصمودها،هذه الأوساط لم تعد على الأقل واثقة بأبوتها الطبيعية لحقائق الثورة، لم تعد ترى في تضحيات الحاضر ما يفترض حتمية ما سوف تحقق دولة العدالة العربية المنشودة يوماً ما. ذلك أن أسوأ ما يضر بالثورة هو استنقاعها في التربة المضادة لها.. عندئذٍ لن تكون دائماً في منجاة عن عوامل التخريبيين الذاتي والخارجي في آن معاً.
ليس في الحال الراهنة ما يوحي بانغلاق الميادين التي تعجّ بنماذج الأوبئة تحت تسميات الجهاديات وأضرابها. فلن تسمح لبذور الخير الوليدة المبعثرة أن تنمو نموها المأمول، وهي جاثمة جميعها على صدورها، لتمر فوقها جحافل سُرّاق الأهداف الإنسانية محتفلةً بتأجيل عصر الإنسان، والعربي منه تحديداً.. إلى ما بعد أزمان الحضارات الماضية.. « والآتية بعدها.. لم لا!
تشكّل "قواعد اللعبة" إحد المفاهيم المستخدمة في عالم السياسة والاستراتيجيا. ويعبّر المفهوم عن قواعد تحكم الصراع بين طرفين أو أكثر، بحيث يبقى الصراع مضبوطاً، بخلاف الصراعات التي تحمل الطابع "الصفري" (إنهاء أحد الطرفين للآخر تماماً).
وتخضع بعض الصراعات لـ "قواعد لعبة" نتيجة توازنات في القوى، مع الحاجة إلى استمرار الصراع، أو العجز عن الوصول إلى تسوية مُرضية لطرفيه. وقد تخضع صراعات أخرى لـ "قواعد لعبة" نتيجة حاجة أحد طرفي الصراع لاستمرار الآخر، رغم قدرة الأول على هزيمة الآخر تماماً، ويكون الصراع في هذه الحالة ستاراً لتبادل مصالح غير معلن.
شهدت الأدبيات السياسية والإعلامية العبرية الكثير من الكتابات حول قواعد اللعبة التي تحكم علاقة إسرائيل بكل من سوريا وحزب الله، خلال العقد الماضي تحديداً، وذلك على وقع التطورات التي شهدها لبنان، وجنوبه، منذ مطلع ذلك العقد.
واليوم، يمكن إسقاط هذا المفهوم على الحالة السياسية – الميدانية السورية، بامتياز. إذ أن هناك "قواعد لعبة" تحكم الصراعات العديدة المُعتملة في المشهد السوري. لكن الفرق في الحالة السورية الراهنة، هو أنها تشهد تغيراً سريعاً ومستمراً لـ "قواعد اللعبة"، بصورة قد يصعب على المراقب إحصاؤها، فيما في حالة الصراع بين إسرائيل وسوريا وحزب الله في العقد الماضي، كانت "قواعد اللعبة" تتغير ببطء، كل بضع سنوات.
الفرق الثاني بين الحالتين، أن الأولى (الحالة السورية الراهنة)، تتعدد فيها الأطراف بصورة معقدة نسبياً، أما في الثانية (الصراع بين إسرائيل وسوريا وحزب الله) فكانت الأطراف أكثر وضوحاً، وهي الثلاثة المذكورة بين القوسين الأخيرين.
في الحالة السورية الراهنة، نجد أن "قواعد اللعبة" بين نظام الأسد وبين إسرائيل هي الأكثر استقراراً، مقارنة بتلك التي تربط نظام الأسد بأطراف محلية أخرى. ويبدو أن أبرز القواعد الحاكمة للصراع بين الطرفين، أن لا يقوم نظام الأسد بتزويد حليفه، حزب الله، بأية أسلحة نوعية تغير من المعادلات العسكرية الحاكمة للتوازن على جبهة جنوب لبنان، وهي قاعدة أرستها إسرائيل بالقوة، حينما استهدفت مواقع وقوافل عسكرية داخل الأراضي السورية خلال العام الماضي. القاعدة الثانية على ما يبدو، ألا تعمل إسرائيل، على تقويض حكم الأسد، وأن تقف موقف "الحياد"، كما يظهر للعيان، رغم بعض القراءات التي ترجح دور إسرائيل في الضغط على الأمريكيين لعدم استهداف الأسد.
قد تكون "قواعد اللعبة" الحاكمة للصراع بين تنظيم الدولة الإسلامية، ونظام الأسد، هي الأكثر تغيراً، خاصةً في الأشهر الأخيرة، رغم أنها شهدت استقراراً أثار الكثير من الشكوك خلال أكثر من سنة منذ ظهور التنظيم وانتشاره. وكانت "قواعد اللعبة" بين الطرفين، قبل حزيران الماضي، تنص على عدم استهداف كل طرف للآخر، في الوقت الذي تفرغ فيه الطرفان للإجهاز على فصائل المعارضة السورية المختلفة.
لكن منذ "إعلان الخلافة" وانتشار التنظيم السريع في العراق وشمال شرق سوريا، وتنامي الإجماع الإقليمي – الدولي على خطورة تنظيم الدولة، وضرورة التصدي له، تغيرت "قواعد اللعبة" بين الطرفين. ويبدو للعيان أن تنظيم الدولة كان البادئ في تغيير تلك القواعد، حينما استهدف لأول مرة حقل الشاعر للغاز شرق حمص، في تموز الماضي، ثم تلى ذلك استهداف القواعد العسكرية المتبقية للنظام في الرقة وفي دير الزور.
لكن رغم ما سبق، ما تزال هناك الكثير من المؤشرات التي تؤكد وجود "قواعد" تحكم الصراع بين التنظيم ونظام الأسد. خاصة على صعيد إدارة ثروتي النفط والغاز. لكن التنظيم، على ما يبدو، جادٌ في تغيير تلك القواعد بسرعة، وباستمرار، بغية جذب كفة الصراع لصالحه، وهو ما يتبدى في اندفاعه مرة أخرى نحو حقل الشاعر شرق حمص.
إحدى "قواعد اللعبة" تلك التي استجدت أخيراً، حينما حيّدت ضربات التحالف الدولي، بقيادة واشنطن، جبهة النُصرة من قائمة المُستهدفين. فمنذ ضربات اليوم الأول الذي استهدف "النُصرة" إلى جانب "داعش"، لم تكرر واشنطن استهداف النُصرة مرة أخرى. ويبدو أن السرّ في ذلك يكمن في سيطرة جبهة النُصرة على معظم الشريط الحدودي مع إسرائيل، وهو ما يفسر استماتة الجبهة في تحقيق هذا الهدف. فأمن إسرائيل، على ما يبدو، كان على سبيل المقايضة، مقابل تحييد النُصرة عن ضربات التحالف.
كذلك يبدو أن هناك "قواعد للعبة" تحكم الصراع بين "داعش" و"النُصرة"، فقد تصارع التنظيمان بدموية في شمال وشرق سوريا، لكنهما يتحالفان اليوم في منطقة القلمون تحديداً. وتتحدث بعض السيناريوهات أن هذا التحالف قد يتعزز باتجاه استهداف دمشق.
نظرية "قواعد اللعبة" تستطيع أن تفسر الكثير من المعطيات التي تُوحي بوجود تنسيق غير معلن بين بعض أطراف الصراع الميداني داخل سوريا، وبين بعضها وبين أطراف إقليمية ودولية مناوئة لها علناً. لكن عدم ثبات "قواعد اللعبة" بين مختلف الأطراف، وتغيرها المستمر، بسبب تطورات الحرب الدائرة على التراب السوري، قد تجعل هذه النظرية غير قادرة على تقديم سيناريوهات مستقبلية مُرجحة، بقدر ما تقدم تفسيرات لما يحدث، آنياً، من اشتباك في مكان، وتحالف بين ذات الطرفين المُتشابكين، في مكان آخر، من سوريا.
حتى الآن لم تُفهم على وجه الدقة حقيقة "داعش"، هذا بعد مرور عام وأكثر على ظهوره، وبضعة أشهر على اجتياحه الموصل، وتمدده في العراق وسورية. فما يحيط به من مبالغات، يحجبه عن الفهم، مع أن ما يفعله كاف ليعطي فكرة وافية عنه من خلال ممارساته القاسية في الدعوة إلى الخضوع لدولة الخلافة. المشاهد الوحشية تبدو بلا أسباب مباشرة، وكأن القتل للقتل، إلا إذا اكتفينا بأهدافه بعيدة المدى في تثبيت أركان الدولة الإسلامية. فالأخبار غالباً تقتصر على ما فعله "داعش" من ذبح وإعدامات وقطع رؤوس، أحياناً بالمئات وأحياناً أخرى بالعشرات، حسب المتوافر من الضحايا، فالقتل لابد منه، بحيث يبدو "داعش" كائنا غرائبيا ينتمي إلى فصيلة مصاصي الدماء، أو وحوش الغابات، والقتلة العشوائيين. هذه الصورة يروجونها هم عن أنفسهم ايضاً في الأفلام المصورة، الهدف بث أكبر قدر من الرعب، ويعمل الاعلام العربي والغربي على تضخيمها بتكرار عرضها.
يطالب الغرب المسلمين في انحاء العالم بإدانة أي حادثة إجرامية إن كان الفاعل مسلماً، الصمت عنها يعني أنهم متواطئون معها، أو تروق لهم، فلا يكفي أن تعلن بعض الجهات الرسمية استنكارها، وهو الحاصل دائماً، وإنما يجب أن يعلن العالمين الإسلامي والعربي بما يضمه من مؤسسات وهيئات معنية على طول العالم وعرضه استنكاره على مدار الساعة، بالتبرؤ منها، أي أن تقوم هيستريا جماعية كي يصدق العالم الرفض القاطع لهذا العمل الذي يعتبر جهادياً، وكثيرا ما وضعت في دائرة الشبهات جهات لم تقم بالاستنكار الواجب.
لكن ما حصة الغرب من الجهاد، ألم يسهم في هذه الظاهرة، خاصة وأن الاعلام الغربي بات يركز في الآونة الأخيرة، على المتحولين في مجتمعاتهم إلى الإسلام، الذين ولدوا وتربوا في عائلات غير مسلمة، ومروا في مراهقتهم بالظروف المعتادة للشبان الغربيين، وربما قادتهم حياة الليل المضطربة إلى الإدمان على الكحول أو المخدرات، وسوابق في اللصوصية، وتجاوزات مترافقة بالعنف... ثم الهداية واعتناقهم للإسلام، والسفر إلى دولة الخلافة؟ ينظر إليهم الغرب على أنهم أصيبوا بعدوى الجهاد، مرضهم مستعص، وغير قابلين للشفاء، ولا عودة إلى بلدان الغرب منعاً لانتشار العدوى.
هذا في الوقت الذي طرأت فيه على الجهاد متغيرات في تركيبته، بسبب الهجرة إليه، فأصبح يضم تشكيلة واسعة من الشبان الجامعيين، بعضهم من ذوي الشهادات العالية، بتخصصات مختلفة؛ أطباء، مهندسون، أخصائيو كومبيوتر... وفي مثال البروفيسور حسن كونكاتا السفير الياباني السابق، والمتحول منذ عقود إلى الإسلام، وانضمامه إلى "داعش" بالذات، ما يحير العقل، ترى هل السبب أطروحته حول "النظرية السياسية عند ابن تيمية" في ثمانينات القرن الماضي، وجدت تعبيرها في هذا القرن في الدولة الإسلامية الناشئة؟
لا تقتصر الهجرة المعاكسة على الرجال، فقد تزايد التحاق شابات غربيات مسلمات بالجماعات الإسلامية المتطرفة، كمقاتلات أو زوجات مقاتلين. تقدر نسبتهن بنحو 10 في المائة من الغربيين المسلمين، وفاقت أعدادهن خلال العامين الأخيرين المائتين، منهن 60 بريطانية و70 فرنسية، معظمهن في العشرينيات من أعمارهن، نحو ربعهن غادرن مع أزواجهن أو أشقائهن أو آبائهن. مؤخرا دار جدل واسع في إسرائيل بشأن الفتاة الفرنسية اليهودية التي انضمت إلى "داعش"، وكانت خططت لشن هجوم إرهابي ضد والدها ووالدتها، حيث يملكان متجراً في وسط العاصمة الفرنسية باريس!!
يُشخص الغرب هجرة النسوة بمعاناتهن اضطرابات نفسية. بينما تقوم شبكات التواصل الاجتماعي الجهادي بجذبهن بتصوير الحياة في الدولة الاسلامية على أنها مثالية، بتقديم البديل الديني لعيشهن في الغرب، من خلال ترويج صور للجهاديات في أرديتهن السوداء، يطبخن، ويعتنين بأطفالهن، أو يتبادلن الأحاديث الدينية، إلى جوار صور لمقاتلات يتدربن على السلاح، أو يحملن البنادق الأوتوماتيكية، ويتزنرن بالأحزمة الناسفة.
"داعش" يعرف ما يريد سواء على أرض المعركة، أو في المطابخ والخدور، بقي على العالم أن يعرف ما الذي سيفعله إزاء ظاهرة تتنامى وتجد اقبالاً متزايداً، ويأتيها المتعاطفون معها من ارجاء العالم، ليس للسياحة، بل للقتال معها حتى الموت.
يعتقد الغرب أن "داعش" مشكلة الإسلام، على أساس أنه دين يعادي قيم الحداثة، بينما الهجرة المتزايدة إليه تعني أنه مشكلة العالم كله، وإن كان في العمق مشكلة إسلامية تعني العرب بالدرجة الأولى. طبعاً الحل إسلامي عربي، الا إذا تخلينا عنه للسياسات الغربية، ولهوليود التي بدأت في استثمار "داعش" سينمائياً، ففي صورته الحالية ما يلبي أمزجة رواد أفلام الحرب والرعب.
لماذا هذه العودة الى جنيف-1، للانطلاق في مسار الحل في سوريا؟ هل «الملعب» السوري مفتوح على الحل السياسي، حتى يكون جنيف-1 «خشبة» الخلاص؟. هل الأطراف والقوى المتقاتلة والمتواجهة مباشرة أو بالواسطة، مهيأة لبحث شروط الحل وتفاصيله؟
منذ أكثر من عامين تم «اختطاف الثورة في سوريا، وجرى إغراقها في صراعات سنّية سنّية، وسنّية شيعية أضعفت الجميع وأرهقتهم، لكن ليس بما فيه الكفاية حتى يجلسوا على طاولة جنيف-1 أو غيرها. ما زال كل طرف لديه «أجندته الخاصة» التي يعمل وفقها، ولا يبدو مستعداً لتقديم التنازلات الكافية الضرورية، لفتح مسار الحل.
أيضاً وهو من صلب المأساة السورية، لم يقدم أي طرف سواء كان داخلياً أو خارجياً، رؤيته لليوم التالي لسقوط بشار الأسد. لأول مرة في تاريخ الثورات لم يطرح برنامج سياسي تعمل الثورة وفقه. حتى ما يسمى «الدولة الاسلامية» بقيادة داعش، وايضاً النصرة لا يملكان تصوراً للدولة خارج «عمامة» الخلافة، ماذا عن الاقتصاد والتعليم (الا اذا كان تعليماً طلبانياً) يخرج النساء من عالم المعرفة، ويفرض على الرجال حفظ القرآن لا أكثر. ليس لدى «داعش» سوى «الساطور» والعودة 1400 سنة الى الوراء.
جنيف-1، في هذا الوقت بالذات ليس أكثر من قنبلة صوتية. «الحروب» القائمة داخل «البيت السني» من جهة، والسني الشيعي، والاقليمي بين تركيا وإيران، والدولي بين موسكو وواشنطن، ما زالت بحاجة الى الكثير من المعارك، حتى تقوم خطوط التماس الحقيقية تؤكد أن الجميع قد أنهكت قواه، تحت مراقبة «النسر» الأميركي.
معركة عين العرب كوباني تحولت الى «ستالينغراد» سورية. من الضروري أن تنقذ المدينة، وأن تكون بداية لهزيمة مشروع «داعش». لكن أيضاً لو جرى الاهتمام الدولي بحلب أو غيرها من المدن السورية كما «عين العرب»، كانت سوريا على طريق الخلاص. العقدة الكبيرة في المواقف هي مستقبل بشار الأسد. واشنطن لم تحسم موقفها، من بقاء الأسد أو اقتلاعه، لذلك الحرب مستمرة.
يهاجم الأسد تركيا لأنها خرقت السيادة السورية عندما سمحت «للبشمركة» بالمرور الى «كوباني»، وهو الذي فتح كل الحدود أمام التدخل الايراني - الروسي، وهو يردد يومياً بأنه يريد الحل السياسي في وقت يتابع يومياً القصف بالبراميل المتفجرة، على المدنيين. يريد الأسد حلاً سياسياً على مقاسه وطموحاته. الأساس في هذا الحل أن يبقى الى الأبد. الباقي تفاصيل. جنيف-1 وغيره لا يعنيه أبداً، الا شعارٌ يتملق به المجتمع الدولي ويُرضي الروسي.
الحل السياسي الأسدي هو الحل بالتجزئة. تفاصيل هذا الحل تتمحور حول عقد مصالحات مع الحارات والقرى والمدن إذا أمكن، كل واحدة منها على حدة. عند الأسد لا يجوز الجمع بين حارة وجارتها أو قرية وقرية. هكذا يسهل التفاهم مع «أمراء» هذه الحارات والقرى، عبر تقديم خدمات أمنية وحتى انسانية تجعل منهم مثالاً للأهالي ولقرى أخرى نجح هذا الحل في بعض المواقع لأن الناس تعبت من الحرب.
مثل هذا الحل يؤسس لتجزئة سوريا وعدم تلاحمها. كل «أمير» أو «شيخ» حارة لن يسلم السلطة لآخر فقط يسلمها للأسد. جنيف-1 أو غيره ضد هذه التجزئة. لكن طالما لم يحسم مسألة مستقبل الأسد فإن كل شيء معلق والحرب مستمرة.
يقال في دمشق إن الوضع العسكري أصبح مريحاً للأسد. ما يقلق الأسد والأسديين الوضع الاقتصادي الذي ينزلق بسرعة في الرمال المتحركة. الليرة السورية اليوم 180 ليرة لكل دولار، بعد أن كانت 50 ليرة في بداية الحرب. الخطير بالنسبة للأسد، أن طهران وموسكو بدأتا تتعبان من مده بالمساعدات المالية. مؤخراً طلب الكثير ولم يحصل إلا على القليل. انهيار سعر النفط من جهة والعقوبات الغربية، أمسكت اليد الايرانية الروسية. المسألة مرتبطة كلها بصمود إيران وموسكو. «عقدة أخيل» القاتلة في «جسد» الأسد، تتمدد وتأكل من صموده.
على الرغم من تواصل الهجمات الجوية لقوات التحالف بقيادة الولايات المتحدة ضد تنظيم "الدولة الإسلامية" في العراق وسوريا، إلا أن التقارير الأمريكية والأوروبية تشير إلى زيادة هائلة في عدد المقاتلين الأجانب في صفوق التنظيم، وهي تقدم أرقاما لأعدادهم تقترب من حدود الخرافة والأسطورة، فقد أوردت صحيفة الـ"واشنطن بوست" نقلا عن مسؤولين أميركيين قولهم إن هناك ما يقرب من 1000 مقاتل أجنبي يعبرون الحدود إلى سوريا والعراق؛ للانضمام لتنظيم الدولة الإسلامية في الشهر، على الرغم من الغارات الجوية والضربات المتكررة التي يتعرض لها التنظيم في العراق وسوريا، والجهود التي تقوم بها الدول الغربية والمحيطة بسوريا للحد من تدفق المقاتلين.
بعيدا عن حديث الخرافات والأساطير فإن أعداد المقاتلين العرب والأجانب تقع في حدود 13000 متطوّع من 81 دولة مُختلفة، نصيب الدول الأوروبية منهم حوالي 2000 مقاتل، وقد قتل منهم حوالي 1500 مقاتل، وهذه الأرقام هي للعرب والأجانب الذين يقاتلون في صفوف الفصائل السورية المسلحة عموما، وخصوصا الفصائل الإسلامية كجبهة النصرة وكتائب المهاجرين المستقلة، وفي صفوف تنظيم الدولة الإسلامية في العراق وسوريا، أما المقاتلين العرب والأجانب الذين يقاتلون إلى جانب نظام الأسد، من المليشيات الشيعية العراقية والمليشيات الشيعية المختلطة وحزب الله اللبناني فتقارب أعدادهم 15000 مقاتل.
مع ذلك فإن "جبهة" سوريا تعتبر الأكثر جذبا للمقاتلين العرب والأجانب تاريخيا، فالجبهة الأفغانية استقطبت بين أعوام 1979-1992، حوالي 5000 مقاتل عربي وأجنبي، أما الجبهة العراقية فقد استقطبت في الفترة بين 2003-2007، حوالي 4000 مقاتل من العرب.
ويمكن تفسير زيادة أعداد المقاتلين العرب والأجانب المتطوعين للقتال في سوريا بجملة من الأسباب ومن أهمها: سهولة السفر عن طريق تركيا كونها وجهة سياحية مفضلة، ووجود شبكات دعم وإسناد محلية لديها خبرات واسعة، سهولة التجنيد عبر وسائل التواصل الاجتماعي، الصدع والانقسام السني الشيعي والتعاطف والتلاحم الهوياتي الديني، وجاذبية الجهاد الشامي بحكم الجغرافية الخلابة والمدهشة، وعامل الجذب الديني ــ التاريخي وارتباط الشام بالملاحم والفتن آخر الزمان، وهاجس فكرة الخلافة الإسلامية ومقرها التاريخي في دمشق.
العامل الأبرز يتمثل في حالة الاستقطاب السني الشيعي على أساس الهوية الدينية، وحالة الصراع السياسية بين المشاريع المختلفة في المنطقة بين المحور الإيراني والمحور التركي والمحور العربي ــ الخليجي، إذ تكّون حلف شيعي مقاتل متحد من طهران حتى الضاحية الجنوبية بمشاركة وإشراف الحرس الثوري الإيراني وعبر أذرعه الضاربة من المليشيات الشيعية في العالم وخصوصا العراقية وحزب الله اللبناني بالقتال إلى جانب الأسد، على الجانب الآخر ساند المحور العربي الخليجي والتركي انتفاضة الشعب السوري، وذلك عن طريق دعم وإسناد المقاتلين السنة وإحياء الهوية السنية ومشاعر الانتماء والتلاحم، دون إشراف مباشر وقيادة معروفة، الأمر الذي استثمرته الجهادية العالمية بتأسيس جبهة جهادية واسعة أسفرت عن ولادة جهادية ثالثة بعد أفغانستان والعراق.
لم يكن أغلب المتطوعين العرب والأجانب الذين ذهبوا للقتال في سوريا يتوافرون على انتماءات سلفية جهادية صريحة، بل ذهب أكثرهم استجابة للدعاية والتعبئة والوعظ والفتاوى التي صدرت عن مؤسسات سياسية ودينية وإعلامية رسمية وشعبية عربية خليجية، فمنذ انطلاق الثورة السورية السلمية في منتصف آذار/ مارس 2011، التي تحولت بعد 7 أشهر إلى ثورة مسلحة عقب عمليات القمع والقتل الممنهج للنظام الفاشي الأسدي، صدرت مئات الفتاوى والتصريحات الداعية لنصرة الشعب السوري والجهاد ضد نظام الأسد، ويمكن رصد عشرات المؤتمرات ومئات الفتاوى الجهادية السنية مع بدء الحراك المسلح، فعلى سبيل المثال أعلن بيان "رابطة علماء المسلمين" خلال المؤتمر الذي عقد في يونيو/حزيران 2013 تحت عنوان "دور العلماء في نصرة سورية" عن "وجوب الجهاد لنصرة إخواننا في سوريا، بالنفس والمال والسلاح، وكل أنواع الجهاد والنصرة وما من شأنه إنقاذ الشعب السوري من قبضة النظام الطائفي".
أما هيئة كبار العلماء في السعودية فقد صرحت خلال الدورة الثامنة والسبعين في 26 حزيران/ يونيو 2013 بالقول: "إن الهيئة لتؤكد على وجوب اتخاذ خطوات عملية ضد الحزب الطائفي المقيت المسمى بـ"حزب الله" ومن يقف وراءه أو يشايعه على إجرامه تردعه من هذا العدوان، فهو حزب عميل لا يرقب في مؤمن إلاً ولا ذمة".
لقد ذهب أغلب المقاتلين العرب والأجانب للقتال في سوريا استجابة للفتاوى والتعبئة الإيديولوجية، بل وبدعم وإسناد مجموعة دول "أصدقاء سوريا"، وبسبب غياب أي خطة استراتيجية باستثناء لعبة توازن القوى التي بنيَت على أسس هوياتية مذهبية طائفية، استقطبت الجماعات الجهادية معظم المقاتلين الذين باتت جبهة النصرة وجهتهم المفضلة نظرا لسمعتها القتالية وخدماتها الإنسانية، إلا أن قرار الولايات المتحدة تصنيف الجماعة على أنها منظمة إرهابية في 11 كانون الأول/ ديسمبر 2012، واعتبارها امتدادا لـتنظيم "القاعدة في العراق"، دفعها بعد الخلاف مع الفرع العراقي إلى الانضمام إلى تنظيم القاعدة فعليا في 10 نيسان/ إبريل 2013، وعلى الرغم من اعتراض الفصائل السورية المقاتلة على التصنيف، وكذلك "المجلس الوطني السوري"، الذي كان ممثلاً سياسيا للثورة آنذاك، فضلا عن عموم الشعب السوري الذي خرج مندد بالقرار، إلا أن نتائج التصنيف كانت حاسمة في نهاية الأمر، ببدء تصاعد الحديث حول الإرهاب وتراجع الحديث عن إسقاط نظام الأسد.
ومن أبرز الفصائل الجهادية التي شكلها المقاتلون العرب والأجانب: جيش المجاهدين والأنصار، وهي مجموعة تشكلت في مارس/ آذار 2013 من وحدات جهادية عديدة، وتضم المئات من المقاتلين الأجانب، أغلبهم من شمال القوقاز، وفي كانون الثاني 2014 أعلن "تحالف المهاجرين والأنصار" الذي يضم إلى جانب جند الأقصى لواء الأمة ولواء الحق في إدلب ولواء عمر، ومن أبرز المجموعات الكتيبة الخضراء، وصقور العز، وشام الإسلام، ولواء الأمة، وتعتبر "جبهة أنصار الدين" التي أعلن عن تأسيسها في 25 تموز/ يوليو 2014 من أكبر الفصائل الجهادية للمقاتلين العرب والأجانب وتتكون من ائتلاف يضم أربعة فصائل وهي: حركة شام الإسلام، جيش المهاجرين و الأنصار، حركة فجر الشام الإسلامية، الكتيبة الخضراء.
في نهاية المطاف تحول المتطوعون للقتال في سوريا إلى "إرهابيين"، وباتوا يشكلون خطرا فعليا، فالسياسات الخاطئة دفعتهم في النهاية إلى تنظيم "الدولة الإسلامية" الأشد عنفا والأكثر تشددا، وأصبحوا الأهداف المفضلة لغارات قوات التحالف، وذريعة لسلسلة من الإجراءات القانونية المتعلقة بـالحرب على "الإرهاب"، إذ أزالت المملكة المتحدة المواد المخصصة للتجنيد عن شبكة الإنترنت، كما تنفق وزارة الخارجية والكومنولث المال على برنامج تواصل اجتماعي هدفه ردع المواطنين البريطانيين عن السفر إلى سوريا للمشاركة في القتال، وأطلقت فرنسا برنامجاً جديداً لمكافحة التطرف في تشرين الأول/ أكتوبر 2013، وأعلنت مؤخراً عن توسيع البرنامج ليضم عشرين إجراءً إضافياً، من بينها خطة لمنع القاصرين من مغادرة فرنسا دون موافقة أولياء أمورهم؛ وتشديد الرقابة على المواقع الإسلامية التي تجند المقاتلين، وحظرت ألمانيا ثلاث منظمات سلفية مختلفة لتوفيرها شبكات التجنيد للجماعات التي تقاتل في سوريا، ومنعت هولندا عدداً من المقاتلين المحددين من العودة إلى ديارهم واستخدمت أصفاد القدمين لتعقّب أولئك الذين عادوا من سوريا كما جرّمت استعدادات السفر إلى سوريا للمشاركة في الجهاد، وقامت بعض الدول كأستراليا بسحب جوازات السفر من المواطنين لمنعهم من الالتحاق بالقتال في سوريا أو من العودة إلى ديارهم وشرعت قوانين مثل سحب الجوازات أو منعهم من العودة، وهناك من اقترح محاكمتهم بتهمة الخيانة العظمى.
في العالم العربي كانت النتائج كارثية فالدول التي عملت على دعم وإسناد المتطوعين وأصدرت الفتاوى بوجوب الجهاد، اتخذت سلسلة من الإجراءات والقوانين الصارمة المتعلقة بــ "الإرهاب"، وبات الحديث عن الديمقراطية والإصلاح شيئا من الماضي، فقد وسعت حكومة الانقلاب العسكري في مصر مفهوم "الإرهاب" ليطال حركات الإسلام السياسي وممثله الأبرز جماعة "الإخوان المسلمون"، حيث قرر مجلس وزراء الانقلاب في مصر بتاريخ 25 كانون أول/ ديسمبر 2013 اعتبار جماعة الإخوان المسلمين جماعة إرهابية وتنظيمها تنظيمًا إرهابيًا. كما طالت تهمة الإرهاب في مصر حركة حماس، فقد أصدرت محكمة القاهرة للأمور المستعجلة يوم الثلاثاء 4 آذار/ مارس 2014 قرارا بالتحفظ على مقرات حركة حماس وحظر أنشطتها، استنادا إلى دعوى أن حركة حماس تحولت من حركة مقاومة إلى منظمة "إرهابية"، نظرا لارتباط الحركة بعلاقات مع جماعة الإخوان المسلمين في مصر.
كما أعادت دول عربية عديدة النظر في قوانين "الإرهاب" بحيث تضمنت عملية "الالتحاق أو حتى محاولة الالتحاق بأي جماعة مسلحة أو تنظيمات إرهابية أو تجنيد أو محاولة تجنيد أشخاص للالتحاق بها وتدريبهم لهذه الغاية سواء داخل هذه البلدان أو خارجها"، ففي السعودية صدر قانون جديد باسم "قانون الإرهاب" بتاريخ 31 كانون الثاني/ يناير 2014، ودخل حيز التنفيذ في 1 شباط/ فبراير 20.14، وهو نسخة مشددة عن مسودة قانون الإرهاب لعام 2011، وفي الأردن أحالت الحكومة الأردنية إلى مجلس النواب في 4 آذار/ مارس 2014 قانونا معدلا لقانون لمكافحة الإرهاب، أعادت فيه تعريف الإرهاب الوارد في القانون الأصلي رقم 55 لسنة 2006.
لقد ساهمت السياسات الدولية والإقليمية والوطنية في خلق حالة من رهاب المقاتلين العرب والأجانب، فأغلب المتطوعين للقتال في سوريا ذهبوا بناءً على دعم وإسناد حكوماتهم وفتاوى مؤسساتهم الدينية الرسمية بوجوب جهاد نظام الأسد "الطائفي الفاشي"، لكنها سرعان ما حولتهم إلى "إرهابيين" دون تمييز، وحالت دون إعادة إدماجهم، ودفعتهم إلى إحراق مراكبهم وتمزيق جوازات سفرهم والكفر بأوطانهم، فالمقاتلون العرب والأجانب أصبحوا اليوم رأس حربة تنظيم "الدولة الإسلامية"، وهم أشد بأسا وأكثر بطشا، ومع غياب الديمقراطية والإصلاح والحريات وشيوع الاستبداد والفساد والإصرار على المقاربات العسكرية والأمنية، فإن المنطقة توشك على الانفجار.