مقالات مقالات رأي بحوث ودراسات كتاب الثورة
٢٦ أكتوبر ٢٠١٤
ائتلاف جديد؟

لا أعرف لماذا "كلفني" أحد مواقع التواصل الاجتماعي بتأسيس ائتلاف جديد للمعارضة السورية. ولا أدري من أين استقى معلومته، الخاطئة جملةً وتفصيلاً، والعارية تماماً عن الصحة. ربما كان سبب قراءته الخاطئة إعلاني في اجتماع هيئته العامة الأخير العزوف عن حضور جلساته، من الآن فصاعداً، في حال تواصات مشاحنات أعضائه، فاعتقد محرر الموقع أنني خرجت من الائتلاف، لأنني سأشكل بديلا له! أو ربما شجعت مواقفي النقدية من سياسات الائتلاف وتركيبته الاعتقاد بأنني أريد تأسيس غيره. أخيراً، ربما كانت لدى من فبرك الخبر رغبة شخصية في وجود ائتلاف جديد، يقوم على أنقاض الحالي، وأراد تكليفي بتشكيله، من دون أخذ رأيي أو استشارتي.

ليس من المعقول أن يشكل أحد ائتلافاً جديداً، لمجرد أن موقفه نقدي من ائتلاف قائم، فالأمور ليست هكذا، ولا يجوز أن تكون مزاجية، أو إرادية. ومن يعرف عدد الدول التي تدخلت في تشكيل الائتلاف الحالي الذي يساوي تقريباً عدد أعضائه، يعلم أنها لن تسمح لأحد بإقامة بديل له، خصوصاً إن كان يريد مثلي استعادة قرار السوريين المستقل، أو يسعى إلى علاقاتٍ تتسم بالندية مع الأطراف الخارجية المتحكمة بالمعضلة السورية، التي تتولى إدارتها بكل عناية وحرص. كما أنه ليس باستطاعة أي فرد تشكيل ائتلافٍ مستقلٍ، يعيش من معونات وأعطياتٍ ومنح خارجية، ويخضع لإرادات عربية وأجنبية متناقضة، حتى إذا امتلك قدرات سوبرمانية وخارقة. ومن يعرف بنية مؤسسات الثورة السياسية والعسكرية، وتعقيدات الساحة السورية، ونوعية بعض قادتها، يدرك أن إصلاح الائتلاف لا يكفي وحده لانتشالنا من ورطتنا، وتحريرنا من غفلتنا، ويفهم أن بقاء الائتلاف الحالي على بنيته يجعل الائتلاف البديل أسير واقع هش ومأزوم، يحتم فشله.

تكمن مشكلة الائتلاف في امتناعه عن بذل أي جهد جدي، أو منظم، لتغيير وضعه الذاتي، وبالتالي أوضاعه الموضوعية، أو التأثير عليها. في ظل وضع قائم محتجز ومتخلف، وحال موضوعية مليئة بالعيوب، لا يمكن إصلاح أي تنظيم من دون مبادرة قيادته أو موافقتها. لكن مشكلة الائتلاف تكمن هنا بالذات: في رفض قيادته إصلاحه وإفادتها من عيوبه التي تدفعها إلى تعميق انقساماته، كي لا يصير أداة أو حاضنة أي تغيير. في وضع هذه حاله، يصير إقدام أي شخص على مجرد التفكير بتأسيس ائتلاف جديد ضرباً من رغبة عبثية شديدة الإيذاء، حتى إن كان غبياً إلى حدٍ يتجاهل معه دور الخارج المقرر في إدامة بنيته الراهنة، الكابحة للإصلاح والتغيير، وإسهام قياداته وكتله في المحافظة على عيوبه وأخطائه، علماً أن أي إصلاح مستقل سيقضي، تماماً، على موارد الائتلاف المالية، وبالتالي، على فرص تأسيسه واستمراره في وجه خارج جعل من المحال استقلاله، أو انفكاكه عنه، أو تحصينه، من دون تدخلاته في كل كبيرة وصغيرة من شؤونه، وإدارته بالوكالة في أحسن الأحوال، كما في الحد من رغبته في القرار الوطني المستقل، وقدرته على إحرازه، ما دام مجرد سعيه إلى أمر كهذا يفضي إلى حرمانه من لقمة العيش وطلقات البندقية.

هذا التعقيد تعززه مصالح تشد أطرافاً في الائتلاف إلى هذه الجهات، وأطرافاً أخرى إلى تلك، وتؤكده علاقاتها مع داعميها المتصارعين، فلا يعقل أن أكون أحمق إلى الحد الذي أقدم معه على تأسيس ائتلاف جديد، أعرف أن قيامه استحالة، وأنه سيضر بشعبنا الذي يريد الوضوح، ولا يحتاج إلى مزيد من البلبلة والضياع، بينما تفلت قضيته أكثر فأكثر من يديه.

اقرأ المزيد
٢٦ أكتوبر ٢٠١٤
السوريون ومزاج الغرب

واحدة من الانتقادات التي يتم توجيهها للثورة السورية، أو بالأصح للقيادات السياسية المعارضة، والنخب الفكرية والإعلامية، هي العجز عن جعل الغرب يشعر بأن تأييده ثورتهم يحمل فائدة سياسية ومعنوية وقيمة أخلاقية له، حتى أن مثقفين سوريين طالبوا بإيجاد أساليب إبداعية جديدة، غير طريقة عرض المظالم، بالصورة والكلمة التي ثبت عدم جدواها لتسويق قضية السوريين في الغرب، وذهب وزير الخارجية العراقي السابق، هوشيار زيباري، إلى أن الأكراد كانوا أكثر براعة من السوريين، حينما أقنعوا الغرب بعدالة قضيتهم ومسارعته لنجدتهم.

ومع أهمية هذا الأمر، فإن ثورات الشعوب، في الغالب، ليست مطالبة بتحقيقه. وفي الغالب، الثورات مثل الدول، عندما تكتمل أركانها: امتدادها على رقعة واسعة من الجغرافيا الوطنية، واشتمالها على أكثرية شعبية، يصبح الاعتراف بها أمراً واقعاً، وأكثر من ذلك، تصبح حماية الشعب الذي يمثلها حقاً بحكم القانون الدولي وقانون الحماية الإنسانية. ولا شك أن مجرد شعور السوريين بأن تأييدهم مشروط بقدرتهم على إقناع الغرب (بماذا؟) بحد ذاته أمر مربك، فهو يعني وضع قضيتهم في إطار جملة تفضيلاتٍ، قد يقبلها أو يرفضها، وتضع الغرب في موقع المتطلّب الذي يشترط إنتاج ثورة بتعبيرات ومظاهر محدّدة، وقد يطالب بإجراء تعديلات معينة، تتناسب وذوقه وثقافته التي هي، في النهاية، نتاج بيئته الخاصة، الأمر الذي يخرج الثورات عن سياقها الطبيعي، بوصفها تعبيراً عن مظالم شعب وتطلعاته إلى العيش بكرامة، والأهم هويته الوطنية والقومية، ويضعها في إطار المنتجات السلعية التي تراعي شروط تقبّل المستهلك الغربي لها.

في المقابل، صمم هذا الغرب نفسه موقفاً قبلياً من الثورة السورية، وجعل أمر اختراقه صعباً، إن لم يكن مستحيلاً. رفض سردية الحدث كما قدمته الثورة، وكان ينتظر الطرف الآخر حتى يجهز سردية موازية، حتى لو كانت من نوع تحقيقات سيمور هيرش البائسة، أو على شاكلة روايات بثينة شعبان الخرافية، أو ينتظر أحداثاً هنا وهناك، كان يقدّر حدوثها سلفاً، نتيجة قراءته تطورات الحالة، ليثبت أن ما يحصل هو جملة من الحوادث المتناقضة في سباق صراعي، وليدعّم موقفه القبلي بأن لا مصلحة له بالدخول في هذه المعمعة.

لكن، أيضاً، وللإنصاف، تبيّن أن الرأي العام الغربي لم يكن يعرف عن سورية، على الرغم من وجود مئات البعثات الدبلوماسية والملحقيات الثقافية بين الطرفين، سوى ما كان يصدّره له إعلام شركات العلاقات العامة، والتي كانت تركز على بزّة بشار الأسد والسنة والنصف الدراسية التي قضاها في لندن ونمط حياة زوجته التي أطلق عليها لقب "وردة الصحراء"، أما باقي سورية فهي قبائل بدوية، ذات ثقافة مختلفة وطبيعة غيرية، شعب له بنى وتشكيلات اجتماعية واقتصادية وثقافة مختلفة. وقلة المعرفة تشمل الأقليات أيضاً، ولم يكن التعاطف معها إلا بسبب نمطية الصورة الوحشية عن الأكثرية.

"من الواضح أن صدر الغرب لم يعد يتسع لمحاولات الشعوب التحررية، ولم تعد مراكز أبحاثه ومنابره الإعلامية مهتمة بالحديث عن هموم الشعوب وآمالها وتطلعاتها"

ثمة رأي آخر، يرى أن القضية أعقد من ذلك بكثير، ولا يمكن مقارنتها بتأييد الغرب بعض المكونات في المنطقة، ومسارعته لنجدتهم، ذلك أن القضية السورية، وتحديداً وضع الأكثرية فيها، تقع على خط الاشتباك العربي والإسلامي مع الغرب، سواء لجهة صدع العلاقات مع إسرائيل، حيث يتم احتساب المكون الأكثري في سورية في كفة الجهة المعادية وغير المعروفة توجهاتها في المستقبل، وما يمكن أن تكون عليه (لعلّ إيران كانت الأكثر وضوحاً عندما أكدت أن إسقاط الأسد سيؤثر على أمن إسرائيل)، أو لجهة موقف الغرب من الإسلام "الجهادي"، والذي يعتبره عربياً سنياً، أو حتى لجهة موقف تياراتٍ يمينية ممّا يعتبره أسلمة الغرب بسبب كثافة الهجرة الإسلامية، وتلك محدّدات وضعها الغرب تجاه موقفه من القضايا العربية عامة.

بكل الأحوال، يقول المنطق إن السوريين لا يحتاجون حرتقاتٍ إعلامية وسياسية، لإقناع الغرب للوقوف معهم ومساعدتهم، إنْ لم يكن بسبب تعرضهم لعدوان إقليمي ودولي واضح، فلأن الغرب مؤسس النظام الدولي الحديث، ويحق له تقرير ما لا يحق لأحد غيره، وهذا الأمر مسجّل ضمن وثائق قانونية دولية (ميثاق الأمم المتحدة)، كما أنه حصل على المزايا التي تجعله بهذه المكانة نتيجة التزامه "المفترض" تجاه قضايا بعينها، وفي مقدمتها حماية حقوق الإنسان، بغضّ البصر عن انتمائه، في الحرية والكرامة. لكن، من الواضح أن صدر الغرب لم يعد يتسع لمحاولات الشعوب التحررية، ولم تعد مراكز أبحاثه ومنابره الإعلامية مهتمة بالحديث عن هموم الشعوب وآمالها وتطلعاتها، في وقت يبدو فيه الحديث عن بدائية الشعوب وتوجهات الإرهاب و"مستقبلات" المنطقة أكثر إغراء. لذا، كان الحديث المشوّق أكثر هو عن جيواستراتيجية الصراع، وإخفاء البعد الإنساني فيها.

لا داعي لأن يجهد السوريون أنفسهم لإثبات أن ثورتهم مفيدة للغرب. الإشكالية أن الغرب اقتنع أن لا شيء مفيداً يأتي من الشرق، وبالتالي، لم يعد ممكناً اختراق هذه القناعة. إنهم يبحثون عن كل ما يثبّتها، لا يفنّدها، لكن، أيضاً، لا بد من التأكيد على مسألة جوهرية، هي أن ثورة السوريين وتضحياتهم وضعت العالم في مأزق، فهو وإن بدا غير راغب بمساعدتهم، لكنه في الوقت نفسه عاجز عن تجاوز رغبتهم في الانتقال إلى الحرية. هذه التضحيات صنعت تلك المعادلة، وفرضت نفسها واقعاً على السياسات الدولية والرأي العام العالمي، وإن طال مشوار الألم.

اقرأ المزيد
٢٦ أكتوبر ٢٠١٤
أبعاد الانفتاح الأميركي على كرد سوريا

شكلت الحرب على تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) في العراق وسوريا، مدخلا لانفتاح الولايات المتحدة على حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي الذي يعد الفرع السوري لحزب العمال الكردستاني المصنف في لائحة الإرهاب.

فقد أظهرت معارك سنجار ضد تنظيم داعش بعد سيطرته على الموصل، ومن ثم معركة كوباني عين العرب شمالي سوريا الخبرة الكبيرة لمقاتلي وحدات حماية الشعب (الجناح العسكري للحزب) في الميدان، وبالتالي أهمية دور هذه الوحدات في الحرب ضد داعش كحليف عملي ومجرب يمكن الوثوق به.

ويمكن فهم أو تفسير سبب الانفتاح الأميركي التدريجي على حزب الاتحاد الديمقراطي واللقاء الذي أجراه المسؤول الأميركي المكلف بالملف السوري السفير دانيال روبنشتاين مع مسؤولين من الحزب في باريس، ومن قبل اللقاء الذي جرى بين جنرال أميركي وقياديين من الحزب المذكور في سنجار بالعراق، قبل أن تقوم الطائرات الأميركية أخيرا بنقل أسلحة وذخائر من إقليم كردستان إلى المقاتلين الكرد في كوباني في معركة متبادلة الأدوار والفوائد، على الرغم من أن مثل هذه العلاقة ستشكل تحديا للتعاون الأميركي التركي في الحرب ضد داعش، بل ولمستقبل العلاقة المتينة بين البلدين لأسباب لها علاقة بالقضية الكردية والموقف منها.

دلالات الانفتاح

    "أظهرت معارك سنجار ضد تنظيم داعش بعد سيطرته على الموصل، ومن ثم معركة كوباني  عين العرب الخبرة الكبيرة لمقاتلي وحدات حماية الشعب في الميدان، وبالتالي أهمية هذه الوحدات في الحرب على داعش كحليف عملي يمكن الوثوق به"

دون شك، الكرد الذين يعيشون في محيط إقليمي يفتقر إلى الثقة والإيجابية، يطمحون إلى نوع من الحماية الدولية في ظل مخاوفهم الدفينة بسبب ما تعرضوا له تاريخيا من حروب على الوجود وإقصاء للهوية، كما يتطلعون إلى الحصول على أسلحة متطورة في إطار الصراعات والحروب الجارية في المنطقة، فضلا عن طموح قديم في الحصول على اعتراف دولي بحقوقهم القومية وصولا إلى تحقيق حلمهم في دولة مستقلة.

في المقابل تدرك واشنطن أهمية تحول الكرد إلى لاعب إقليمي في المنطقة على وقع التطورات العاصفة، وبالتالي أهمية استثمار دور هذا اللاعب في الحرب ضد داعش خاصة لجهة وجود قوى مجربة على الأرض قادرة على المواجهة والقتال.

ولعل ما زاد من أهمية الدور الكردي هنا، هو الجغرافية الكردية المجاورة للدولة الإسلامية، إذ تبدو ملاصقة لها شرقا وشمالا، بما تشكل ضمانة لمنع توسع نفوذها في منطقة جغرافية حساسة متخمة بالنفط والغاز، ولها مكانة خاصة في الإستراتيجية الأميركية تجاه المنطقة.

وعليه، فان توقيت الانفتاح الأميركي على كرد سوريا يحمل معه طابع الحاجة الأمنية لدورهم أكثر من الانطلاق من موقف مبدئي أخلاقي داعم لحقوق الشعب الكردي وتطلعاته، خاصة وأن الطرف الكردي المقصود بهذا الانفتاح (حزب الاتحاد الديمقراطي بزعامة صالح مسلم) كان حتى وقت قريب موضع شبهة أميركية لجهة علاقته بالنظام السوري وحزب العمال الكردستاني، وبالتالي يمكن القول إن الانفتاح الأميركي يحمل طابع الاختبار لمسار التعاون في الميدان، وهذا في الأساس يشكل الملعب الحقيقي لوحدات حماية الشعب الكردي التي أثبتت جدارتها في معركة كوباني ومن قبل في معارك رأس العين (سريه كانيه) وجزعة وتل حميس ومعبر ربيعة (تل كوجر) على الحدود السورية العراقية.

لكن الثابت أن التطلع الكردي في شأن العلاقة مع الإدارة الأميركية يتجاوز التنسيق والتعاون العسكريين ضد داعش إلى دعم قضيتهم سياسيا، فمشروع الإدارة الذاتية التي أعلنها حزب الاتحاد الديمقراطي قبل أكثر من سنة يحتاج إلى الدعم والاعتراف.

كما أن الحزب ينشد من الانفتاح عليه الاعتراف به ممثلا للحركة الكردية في سوريا في ظل الانقسام والخلافات بينه وبين أحزاب المجلس الوطني الكردستاني التي انضمت إلى الائتلاف الوطني السوري، حيث يتخذ المجلس من أربيل مرجعية له، فيما التنافس بين الحزب الديمقراطي الكردستاني بزعامة مسعود البارزاني وحزب العمال الكردستاني بزعامة عبد الله أوجلان يخيم بظلاله على الساحة الكردية السورية ويمنع حتى الآن تشكيل مرجعية حقيقية لكرد سوريا على الرغم من توقيع الجانبين على أكثر من اتفاق بهذا الخصوص.

لكن بغض النظر عن هذه الإشكاليات فإن الانفتاح الأميركي على حزب الاتحاد الديمقراطي ودعمه بالسلاح يحمل معه عهدا جديدا لهذا الحزب ويفتح الباب على مصراعيه أمام التعاون الغربي معه، وهو ما سيترك تداعيات محلية وإقليمية، خاصة وأن الحزب له امتدادات قوية خارج سوريا.

في التداعيات والعلاقة مع تركيا
إذا كان الهدف الأميركي من وراء الانفتاح والعلاقة مع حزب الاتحاد الديمقراطي هو محاربة داعش، فهذا يعني الدخول في مسار طويل يكتنفه الكثير من الاختبارات والانعطافات، وما يترتب على كل ذلك من متطلبات سياسية وفقا لخصوصية كل مرحلة.

فواشنطن تتطلع إلى تشكيل جبهة واسعة من القوى التي تصفها بالمعتدلة لمحاربة داعش، ومثل هذا الأمر يطرح تحديات كبيرة على الجميع، خاصة وأن العلاقة بين حزب الاتحاد الديمقراطي وقوى المعارضة السورية والمجموعات المسلحة بما في ذلك الجيش الحر ليست على ما يرام على الرغم من التعاون الذي ظهر مع فصائل من الجيش الحر في كوباني بعد تشكيل مجموعة بركان الفرات.

وعليه، يمكن القول إن ثمة تداعيات كثيرة تنتظر الانفتاح الأميركي الكردي على شكل إعادة تشكيل لمرجعيات سياسية وتحالفات ومواقف من القضايا المطروحة، لعل أهمها:

    "الانفتاح الأميركي على كرد سوريا ودعمهم بالسلاح لم يكن ليحصل لولا وصول الحوار الأميركي التركي إلى طريق مسدود، وفشل واشنطن في إقناع تركيا بالانخراط في تحالفها وفقا للإستراتيجية الأميركية"

1- على الصعيد الكردي السوري: الاعتراف بتجربة حزب الاتحاد الديمقراطي كتجربة ناجعة قادرة على تحقيق المكاسب، وهذا يعني أن على أحزاب المجلس الوطني -التي ظلت تناكف هذا الحزب وترفض التعاون معه- التفكير بطريقة إيجابية مع تجربته، في مقابل أن يثبت حزب الاتحاد أنه ليس بيدقا بيد أحد.

2- فتح باب التعاون واسعا مع القوى والمجموعات التي تصفها واشنطن بالمعتدلة، وصولا إلى تشكيل تحالفات وجبهات مشتركة بين الأكراد وهذه القوى والمجموعات في إطار الحرب ضد داعش وربما استعدادا لمرحلة ما بعد داعش، أي كيفية إيجاد حل نهائي للأزمة السورية، سواء بتسوية سياسية أم بحرب لإسقاط النظام.
 
3- أن الدعم الأميركي لمعركة كوباني انطلاقا من أربيل أظهر مدى الترابط الكردي. رغم الانقسام والحدود الجغرافية، فثمة شعور قوي في كل من أربيل وديار بكر بأن سقوط كوباني يعني سقوط الجانبين وشرعيتهما السياسية، وعليه رغم الخلاف مع حزب الاتحاد الديمقراطي سارعت أربيل إلى إرسال أسلحة له، فيما ضغطت ديار بكر بكل الاتجاهات وألهبت المدن الكردية والتركية غضبا وضغطا على أردوغان الذي يخوض حرب أولويات مع واشنطن.

في الواقع، ينبغي النظر إلى أن الانفتاح الأميركي على كرد سوريا ودعمهم بالسلاح لم يكن ليحصل لولا وصول الحوار الأميركي التركي بشأن محاربة داعش إلى طريق مسدود، وفشل الولايات المتحدة في إقناع تركيا بالانخراط في تحالفها وفقا للإستراتيجية الأميركية.

وليس غريبا أن توقيت إيصال إمداد الكرد بالسلاح جاء بعد ساعات من إعلان أردوغان رفضه تسليح الكرد في كوباني ووصفه حزب الاتحاد الديمقراطي بالإرهابي.

ولأجل ذلك فإن قضية تسليح كرد سوريا ستترك تداعيات كبيرة على العلاقات التركية الأميركية حيث تحس أنقرة بأن الهدف من وراء ذلك هو قطع الطريق أمام شرط إقامة منطقة عازلة.

وعليه فإن ثمة تحديات ستتفاقم في الأيام المقبلة على جبهة العلاقات بين البلدين، بالنسبة لواشنطن في كيفية التوفيق بين دعمها الكرد والحفاظ على العلاقة المتينة مع تركيا، فيما بالنسبة للأخيرة في كيفية المواءمة بين مصالحها والمشاركة في التحالف الدولي ضد داعش للحفاظ على علاقاتها مع واشنطن من جهة والحد من التداعيات الخطرة على أمنها من جهة ثانية.

وفي جميع الأحوال تجد تركيا نفسها وكأنها بين حدي سكين، إما دعم الصعود الكردي من بوابة محاربة إرهاب داعش أو مواجهة غضبهم الذي يتعاظم في كل مكان، وفي الحالتين تجد نفسها أمام قضية تزحف إلى داخل البيت التركي.

أولوية أمنية أم قضية شعب؟
في التاريخ، ثمة إشكاليات كبيرة في علاقة الغرب بالكرد الذين كانوا في الكثير من المحطات التاريخية ضحية لهذه العلاقة على مذبح المصالح والاعتبارات.

ولعل من أبرز هذه المحطات فشل الثورة الكردية في العراق عام 1974 عقب تخلي شاه إيران وأميركا عن دعم الكرد في مواجهة الجيش العراقي الذي سرعان ما زحف إلى مدنهم وجبالهم، وقتها لم تنفع كل نداءات ومناشدات البارزاني الأب للإدارة الأميركية بالتدخل لإنقاذهم، بل جاء جواب وزير الخارجية الأميركي آنذاك هنري كيسنجر صادما وبمثابة خيانة للكرد، عندما رد برسالة مقتضبة على مناشدات البارزاني بالقول "إنهم كانوا يقومون بواجبهم، وعلى الأكراد أن يميزوا بين النشاط الاستخباري والعمل التبشيري".

ورغم أن المحطات اللاحقة وتحديدا بعد عام 1991 شهدت تحسنا في العلاقة الأميركية مع كرد العراق فإن ما قاله كينسجر يبقى حاضرا في جوهر السياسة الأميركية تجاه الكرد وقضيتهم، ويعود سبب ذلك إلى طريقة التعاطي الأميركي مع هذه القضية.

ففي الوقت الذي كانت تبدي كل التعاطف مع كرد العراق وتقدم الدعم لهم تجاهلت نهائيا أكراد تركيا وإيران وسوريا، بل وضعت حزب العمال الكردستاني على لائحة المنظمات الإرهابية وساعدت مع الموساد على اعتقال زعيمه عبد الله أوجلان في كينيا قبل تسليمه إلى السلطات التركية عام 1999.

    "النظرة الأميركية للكرد لا تنطلق من قضية شعب حرم من حقوقه التاريخية أسوة بالعرب والترك والفرس، وإنما من أنهم يشكلون عنصرا بشريا أمنيا يمكن اللجوء إليه كلما استدعت الحاجة في منطقة حيوية تتجاذبها الصراعات القومية والدينية والنفطية"

ويعني ذلك كله أن النظرة الأميركية للكرد لا تنطلق من قضية شعب حرم من حقوقه التاريخية أسوة بالعرب والترك والفرس بسبب الاتفاقيات الدولية التي عقدت عقب الحرب العالمية الأولى (سايكس بيكو - لوزان) وإنما من أن الكرد يشكلون عنصرا بشريا أمنيا يمكن اللجوء إليه كلما استدعت الحاجة في منطقة حيوية تتجاذبها الصراعات القومية والدينية والنفطية، بمعنى اعتبار الكرد أولوية أمنية يمكن استخدامها في الظرف المناسب ضد هذا الطرف أو ذاك وليس النظر إليهم كقضية شعب وأرض.

وكانت القاعدة الذهبية في هذه المعادلة حتى وقت قريب هي وضع دول المنطقة أمام واقع القضية الكردية بتشابكاتها المعقدة، وعندما تحقق واشنطن مصالحها، فإن الكرد غالبا ما يكونوا ضحية هذه السياسة نفسها. ما سبق لا يقلل من أهمية العلاقة الأميركية بإقليم كردستان والتي وصلت إلى مرحلة من التحالف، لكنه لا ينبغي أيضا التقليل من الدور السلبي للقراءة الأميركية المجتزأة للقضية الكردية، عندما تظهر هذه القراءة الوجه الإنساني للقضية هنا، وتصر على وصفها بالإرهابي هناك، وتتجاهلها بشكل كامل في مكان ثالث.

وفي التوقيت فإن انقلاب الصورة تجاه حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي يحمل الكثير من الدلالة الأمنية المستمدة من الحاجة الأميركية وليس من القراءة السياسية الداعمة لقضية الكرد كقضية شعب وحقوق.

القراءة الأميركية المجتزأة لا تتحمل الولايات المتحدة وحدها السبب فيها، وإنما الكرد أيضا، فهم إما نظروا إليها (أميركا) بصفتها الإمبريالية والاستعمار ويجب تاليا محاربتها حتى لو من ديار بكر كما كان حال حزب العمال الكردستاني، أو النظر إليها والتعامل معها بصفتها قوة ضاربة في كل زمان ومكان ومن دون حساب كما كان حال أربيل، وفي الحالتين كثيرا ما كان الكرد ضحية.

ففي الحالة الأولى تحولوا إلى إرهابيين يمكن قصفهم من الجو في معاقلهم الجبلية، وفي الحالة الثانية تحولوا بنظر الكثير من العروبيين والإسلاميين إلى عملاء للإمبريالية والصهيونية يعملون لتقسيم العراق والمنطقة.

إنها المعضلة الكردية الصعبة على الرغم من أن الحرب ضد داعش أظهرت الكثير من الأهمية الإستراتيجية للكرد وما يترتب على هذه الأهمية من رؤية جديدة للتعاطي مع قضيتهم.

اقرأ المزيد
٢٦ أكتوبر ٢٠١٤
الحرب المضادة في سوريا

تكشف التطورات الميدانية للحرب في سوريا عن تصاعد في الحرب المزدوجة التي يشنها نظام الأسد من جهة، وجماعات التطرف من جهة أخرى، على السوريين، فيما يتابع التحالف الدولي عمليات القصف الجوي والصاروخي في إطار الحرب على الإرهاب وجماعاته، وجميعها مؤشرات على تدهور متزايد في الوضع السوري، ولا سيما في الجانبين السياسي والأمني وتداعياتهما الاجتماعية والمعيشية، التي تؤدي إلى مزيد من القتلى والجرحى والمهجرين والتدمير.
وتتركز هجمات قوات النظام ضد قوات المعارضة المسلحة وعلى المناطق السكنية في 4 جبهات أساسية؛ جبهة الجنوب في درعا والقنيطرة، وجبهة ريف دمشق، وجبهة الوسط السوري في حمص وحماه، وجبهة الشمال التي تتركز في حلب ومحيطها القريب، وتندرج الأهداف العامة لهذه الهجمات في إطار استراتيجية نظام الأسد الأمنية والعسكرية، وهي استنزاف قوات المعارضة المسلحة، وتدمير المناطق الخارجة عن سيطرته، وإلحاق أكبر الخسائر بسكانها، تمهيدا للسيطرة عليها سياسيا.
وبخلاف الأهداف العامة لهجمات النظام على الجبهات الـ4، فإن ثمة أهدافا تتعلق بالهجمات على كل جبهة، فالهدف الخاص لهجمات جبهة الجنوب يتركز في أمرين اثنين؛ أولهما إحباط مساعي تشكيلات المعارضة للتمدد باتجاه معبر نصيب مع الأردن، ومنع تمددها باتجاه المناطق المحاصرة في ريف دمشق الجنوبي والغربي، الأمر الذي يهدد النواة الأمنية العسكرية الصلبة للنظام في دمشق، فيما الهدف الخاص للهجمات في ريف دمشق يتمثل في إعادة سيطرة النظام على مدن وقرى الغوطة، وإحكام القبضة على القلمون، مما سيوسع حيز السيطرة حول دمشق، ويجعل قلب النظام بعيدا عن التهديدات التي يمثلها وجود تشكيلات المعارضة العسكرية في الغوطة والقلمون.
ولا يخرج الهدف الخاص لهجمات النظام في الوسط، ولا سيما على جبهة حماه في مورك ومحيطها، عن رغبة انتقامية للنظام لخسائره في المنطقة بعد أن سيطرت قوات المعارضة عليها، وطردت قوات النظام منها، وأمنت الطريق بين المنطقة الوسطى والشمال باتجاه إدلب وحلب، حيث هجمات النظام هدفها إعادة السيطرة على حلب من جهة، وإشغال قوات المعارضة فيها عن المشاركة في القتال ضد «داعش» بشكل خاص بعد اندلاع المعارك في عين العرب - كوباني، حيث يستمر هجوم ميليشيات «داعش» منذ أسابيع.
أما الشق الآخر في الحرب المضادة المشتعلة في سوريا، فتمثله الهجمات التي يقوم بها تنظيم داعش، والتي يبدو أبرز فصولها في الهجوم على عين العرب - كوباني، دون أن يكون الوحيد. ففي وسط صمت تجري هجمات أخرى تقوم بها «داعش» في ريف حلب الشرقي لتدمير قوى المعارضة المسلحة هناك، واستعادة السيطرة على مناطق طردت «داعش» منها في الأشهر الأولى من العام الحالي، وبالتزامن مع الهجمات المسلحة للتنظيم، تتواصل محاولات تمدده الدعوي والسياسي في مناطق كثيرة، ومنها ريف دمشق والمنطقة الجنوبية، حيث تتشكل تنظيمات مسلحة صغيرة وخلايا نائمة لـ«داعش».
وسط تلك الحرب المضادة بما تتركه من نتائج كارثية على أكثر من صعيد ومستوى على السوريين، تبدو هجمات التحالف الدولي، وسياسات التحالف الدولي بشأن الحرب على الإرهاب محدودة الأثر، بل يمكن القول إن أثرها سلبي بصورة عامة، ليس لأنها لا تستهدف النظام وقواته، وهو هدف كان ينبغي أن يكون في جملة أهدافها، بل لأن القوى والتشكيلات العسكرية التي تقاوم النظام وجماعات التطرف، لا يتم التنسيق معها ولا دعمها بصورة حقيقية في المستويين السياسي والعسكري.
ففي المستوى السياسي ما زال النظام خارج معادلة الحرب على الإرهاب، فيما توالت تصريحات أميركية ركزت على أن الهدف الرئيس للعمليات ضد «داعش» هو الدفاع عن المناطق التي يهاجمها الأخير، وليس الهجوم على مناطق سيطرته وتحريرها من سيطرة التطرف والإرهاب. وفي المستوى العسكري، لم يقدم للتشكيلات المعارضة العربية والكردية مساعدات من شأنها التأثير على سير المعارك، والمثال الأبرز على ذلك معركة عين العرب - كوباني، بل إن قوات التحالف قصرت في توجيه ضربات عسكرية لميليشيات «داعش» على هذه الجبهة، رغم سهولة القيام بمثل هذا الإجراء.
خلاصة الأمر أن الحرب الجارية حاليا في سوريا لن تؤدي إلى تغييرات جوهرية في موازين القوى القائمة، بحيث يتعزز المعسكر المضاد للإرهاب المزدوج، للوقوف ضد النظام وجماعات الإرهاب والتطرف، ويتم عمليا إضعاف متزايد لمناهضي الإرهاب من الناحيتين السياسية والعسكرية. وإذا كان الهدف، كما يقال في العلن، محاربة الإرهاب والتطرف، فالمطلوب إعادة النظر فيما يتم اعتماده من سياسيات، وما يجري القيام به من خطوات، المطلوب فعلا أن تشمل الحرب ضد الإرهاب حربا على النظام، وأن يتم تقديم دعم حقيقي وفعال للقوى المناهضة للإرهاب، سواء في قتالها ضد ميليشيات «داعش» وأخواتها، أو في قتالها ضد قوات نظام الأسد.

اقرأ المزيد
٢٦ أكتوبر ٢٠١٤
هذه الحرب الغبية!

الحرب هي ممارسة للسياسة، لكن بأسلوب مختلف، مخضب بالدم. تقول القاعدة الذهبية: يجب أن يكون لكل حرب هدف سياسي واضح تسعى إلى تحقيقه. الحرب التي ليس لها هدف، أو أن هذا الهدف ليس واضحاً وضوح الدم والتضحية، هي حرب غبية، وعرضة للفشل. ترى ما هو الهدف السياسي للحرب الدائرة حالياً على «داعش»؟ لا أحد يملك إجابة عن السؤال، أو أنه يملك إجابة لكنه لا يفصح عنها. حتى الرئيس الأميركي باراك أوباما، وهو الذي يقود التحالف في هذه الحرب، إما أنه لا يملك إجابة، وإما أنه يريد الاحتفاظ بالإجابة لنفسه. هناك سؤال آخر، هل كل أعضاء التحالف في هذه الحرب على بينة من هذا الموضوع؟ المفترض أنهم كذلك. وإذا كانوا جميعهم يعرفون الإجابة، وهذا المتوقع، فلماذا لا يفصح أحد منهم عنها؟

سيقال إن الأمر واضح وضوح الشمس: الحرب على «داعش» هي جزء من الحرب على الإرهاب. وفي هذا الإطار هي حرب على تنظيم إرهابي متوحش، يجب وجوباً القضاء عليه. وهذا بحد ذاته هدف جليل يستحق التضحية من أجله. هذا القول صحيح تماماً لو أن الأمور ستتوقف عند هذا الحد. لا شك في أن الحرب على الإرهاب مشروعة. ولعلنا نتذكر أنها بدأت بعد أحداث أيلول (سبتمبر) الشنيعة عام 2001. آنذاك لم يكن هناك تنظيم إرهابي باسم الإسلام إلا تنظيم «القاعدة» في أفغانستان. لكن بعد 13 عاماً على هذه الحرب، تكاثرت التنظيمات الإرهابية التي ترفع شعار الإسلام إلى حد أنه يستحيل الآن حصرها. ضعف تنظيم «القاعدة» بشكل ملاحظ في هذه الحرب. لكنه لم يهزم. لا يزال هذا التنظيم موجوداً في المشهد، بل خرجت منه تنظيمات أكثر خطورة أبرزها تنظيم «الدولة الإسلامية». بعبارة أخرى، بدلاً من أن تقضي الحرب على تنظيم «القاعدة»، وتحاصر الظاهرة الإرهابية، تسببت في تفشي هذه الظاهرة، وتكاثر تنظيماتها. وهذا دليل قاطع على أن الحرب على الإرهاب هي حرب فاشلة حتى الآن.

لماذا فشلت؟ ليس لأنها حرب غير مشروعة. على العكس، في الأصل والمبدأ هي كذلك، وتحظى بدعم واسع. لكنها فشلت لأنها حرب غبية. ومعالم الغباء في المرحلة الأفغانية أن الهدف السياسي لهذه الحرب كان ولا يزال هدفاً أميركياً أكثر منه أفغانياً. حصل هذا لأن الإرهاب آنذاك كان في معظمه موجهاً للخارج، وتحديداً للولايات المتحدة. من هنا لم تحظَ الحرب (التي لا تزال عملياً مستمرة) بدعم كبير خارج نطاق شريحة من النخبة تلتقي مع الأميركيين. ولا يزال الجدل مستمراً في واشنطن حول جدوى سحب القوات الأميركية كلياً من أفغانستان في العام المقبل.

وقد تعزز الرأي القائل بضرورة إبقاء بعض القوات هناك على خلفية ما حصل بعد سحب هذه القوات من العراق في ايلول (سبتمبر) 2010. والحقيقة أن الاحتلال الأميركي لهذا البلد بما استند إليه من كذب في مبرراته وأهدافه، وطريقة إدارته، وتواطؤ غير معلن مع إيران، وبما نجم عن كل ذلك من حرب أهلية مدمرة، دفع بما يسمى الحرب على الإرهاب إلى ذروة الغباء حتى بالمعايير الأميركية. لاحظ في هذا السياق ما قاله وزير الدفاع الأميركي السابق روبرت غيتس يوم الاحتفال بسحب القوات عندما قال في مدينة الرمادي، عاصمة محافظة الانبار، بحسب صحيفة «النيويورك تايمز» (الأول من ايلول 2010) بأن «التاريخ هو الذي سيحكم ما إذا كانت حربنا هنا التي استمرت لسبعة أعوام (ما بين 2003 و2010) تستحق كلفتها». والواضح الآن أن التاريخ لم ينتظر كثيراً لإصدار حكمه. فمحافظة الانبار التي تحدث منها غيت هي التي سيسيطر عليها تنظيم «الدولة الإسلامية» بعد سحب القوات الأميركية بثلاثة أعوام. أي أن الحرب الأميركية على الإرهاب فشلت مرة أخرى في العراق. والأغرب أن إدارة أوباما تكرر الأداء نفسه بإعلانها الحرب على «داعش». تتجاهل هذه الإدارة أن الإرهاب الذي انطلق من العراق يختلف عن الإرهاب في أفغانستان من حيث أنه موجه في الأساس للداخل، الداخل العراقي، والسوري، بل والإقليمي. وأن الطائفية الداخلية هي الجذر الأول والأخطر لهذا الإرهاب.

يتبدى غباء هذه الحرب في أمور كثيرة تلقي عليها ظلال شك كثيرة. الأول أن الخلافات بين أطراف التحالف في هذه الحرب كثيرة لا تسمح بمواجهتها ومناقشتها علناً. وحتى عندما ظهر الخلاف مع تركيا بدت إدارة أوباما مرتبكة. تريد أنقرة استراتيجية واضحة ومتكاملة، وترفض واشنطن ذلك، وهي عاصمة الاستراتيجيات. على خلفية ذلك يأتي الأمر الثاني، وهو أن المجهول عن الحرب على «داعش» أكثر من المعلوم عنها. لا أحد يعرف لماذا «داعش» وليس بقية الميليشيات. لماذا محاربة تنظيم واحد عوضاً عن محاربة الطائفية التي أفرزت التنظيم. ولا أحد يعرف لماذا هزت وحشية «داعش» ضمير أوباما، ولم تهزه وحشية النظام السوري التي قتلت أكثر من 250 ألفاً، وشردت أكثر من 10 ملايين بين منافي الداخل والخارج، ودمرت معظم المدن السورية؟ ثم لا أحد يعرف لماذا ستأخذ الحرب أعواماً على تنظيم لا يتجاوز حجمه 30 ألف مقاتل، في مواجهة أكثر من 20 دولة. والمجهول الأخطر في هذه الحرب أنه لا أحد يعرف ماذا بعد هزيمة «داعش». ما هي الخطوة التي يجب أن تلي ذلك؟ تقول تركيا إن أحد أهداف الحرب يجب أن يكون إسقاط النظام السوري. وأميركا ترفض ذلك. نتيجة هذا السجال، وذاك الغموض، تبقى الحرب على «داعش» من دون استراتيجية سياسية، ومن دون هدف سياسي واضح.

سيقال إن هذا ليس غباء، وإنما سياسة متعمدة. ربما هذا صحيح. لكن حتى السياسة تتسم أحياناً بأخطاء غبية بشكل مدمر. السؤال هنا: لماذا يصر أوباما على حصر الحرب على «داعش»؟ أول ما يلفت هنا أن الرئيس الأميركي يتجاهل تماماً، عن قناعة أو انتهازية سياسية لا فرق، أن إيران توظف الميليشيات الشيعية العربية كأداة مركزية في سياستها الإقليمية. والأغرب من ذلك صمت الأطراف العربية في التحالف عن هذا الموضوع أيضاً. وقد تعاظم دور هذه الأداة بعد الاحتلال الأميركي للعراق مباشرة. ومن هنا تكاثر عدد الميليشيات في العراق منذ العام 2003، وبعد الثورة السورية. بل إن هذه الميليشيات هي المسؤولة بشكل أساسي عن بقاء النظام السوري حتى الآن. من هذه الزاوية، تركيز أوباما على «داعش»، هو تركيز على طرف واحد من معادلة الطائفية، هو الطرف السنّي. أي أنه يقبل، أو لا يعترض، على توظيف إيران للميليشيات الإرهابية في الصراع الدائر في المنطقة. من الناحية الأخرى، يرفض ظهور ميليشيات سنّية كرد فعل طبيعي على سياسة إيران. وهنا مكمن الغباء، أو الخبث السياسي في هذه الحرب. فهي حرب تصب حتى الآن في مصلحة إيران، التي فجرت الصراع الطائفي في المنطقة، وهي طرف رئيسي في الحرب الأهلية في كل من العراق وسورية. لماذا يحق لإيران توظيف الطائفية، ولا يحق لـ «داعش» وأخواتها فعل الشيء نفسه؟ تشير أحاديث أوباما وخطواته السياسية أنه يستخدم الحرب الأهلية في كل من العراق وسورية كورقة في مفاوضاته مع الإيرانيين. كأنه يقول للعرب: عليكم بضبط ميليشياتكم، وجعلها تحت مظلة شرعية الدولة، وبالتالي توحيد وضبط مرجعيتها لإحداث التوازن مع إيران. وفي حال تم قبول امتلاك إيران لسلاح نووي، فعليكم امتلاك السلاح نفسه لترسيخ هذا التوازن. إذا كان هذا ما يقول حقاً، فليس هناك ما يؤشر إلى أن الطرف الآخر يصغي لما يقال له.

مهما يكن، يبدو أن الرئيس الأميركي يجعل من آلام الشعبين العراقي والسوري رهينة لمراهناته وأخطائه السياسية. وإذا استمرت هذه الحرب على هذا النحو ستتآكل شرعيتها لمصلحة التنظيمات التي تستهدفها. وما يتداوله الإعلام، خاصة الإعلام الغربي، عن جاذبية «داعش» له علاقة بذلك. تصور لو أن قيادة هذا التنظيم أكثر ذكاء، وعناية بعلاقاتها العامة، وتخلت عن وحشيتها مع مخالفيها، مسلمين وغير مسلمين، كيف ستكون شعبيتها في العالم العربي؟ يوحي هذا السؤال بأن ما يحفظ لحرب أوباما على «داعش» شيئا من المشروعية هو وحشية هذا التنظيم، ليس إلا. على الرئيس أن يسأل نفسه هذا السؤال: إذا كان فشل الحرب على «القاعدة» خلّف مئات التنظيمات الإرهابية. ترى كم عدد التنظيمات الإرهابية التي سيخلفها فشل الحرب على «داعش»؟

اقرأ المزيد
٢٥ أكتوبر ٢٠١٤
"تنظيم الدولة " يستخدم غاز الكلور , هل هو توطئة لتبرئة نظام الأسد !؟

شاع في الآونة الأخير خبراً مفاده أن "تنظيم الدولة " قد إستخدم غاز الكلور في العراق ضد الجيش العراقي .
صحيح أنه لم يتم تأكيد الخبر سواء من الأمم المتحدة أو من وزير الخارجية الأميركي , ولكنهم أعلنوا أنهم وجدوا بعض الإشارات التي " ربما " تدل على استخدام هذا السلاح الكيماوي ضد الجيش في العراق .
الناطق الإعلامي باسم بان كي مون وإجابته على سؤال عن صحة هذه " الإشاعة " قال : إننا لانملك أي دليل على قيام تنظيم الدولة باستخدام غاز الكلور في العراق , ولكننا قرأنا بعض التقارير "الغير مؤكدة" .
وبدوره قال جون كيري وزير الخارجية الأمريكي إن الإدراة الأمريكية قد ورد لها تقارير عن إستخدام " تنظيم الدولة " لغاز الكلور , وأن إدارته تحقق في الموضوع ولا تستطيع تأكيد أو نفي الخبر . وفي جميع الأحوال فإنه لاتوجد أية أدلة قاطعة عن هذا الإستخدام .
 المؤشرات تدل على أن " تنظيم الدولة " يواجه حاليا أقوى المعارك ويخسر كثيرا من مقاتليه في عين العرب " كوباني " ولم يستخدم غاز الكلور وينهي هذه المقاومة ويبسط سيطرته عليها ويضع الجميع في مأزق وفي موقف محرج !
الخوف كل الخوف أن يكون نشر هذه الإشاعات " الأخبار " هي مجرد خطوة أولية في طريق تبرئة نظام الأسد وتحضيره لعملية إعادة تأهيل قد تحتاج الكثير من الخطط والعمل من قبل من يتحكمون في القرار الدولي .

اقرأ المزيد
٢٥ أكتوبر ٢٠١٤
عن فوضى المشرق العربي وخرابه

بعد تقديم مداخلتي عن الأوضاع في المشرق العربي، في ندوة "المنطقة العربية بين صعود تنظيم الدولة والانخراط الأميركي المتجدد"، والتي نظمها في الدوحة المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، اتصلت بي باحثة أميركية تستعد لإنجاز كتاب عن المنطقة، لتسألني ما إذا كان لدي الوقت للحديث معها في الموضوع. وكنت قد ركزت، في مداخلتي، على أثر البيئة الإقليمية في تدهور عمل الدولة واستقرارها، وعن العبث الذي تعرضت له منطقتنا من الدول الكبرى والأقل كبرا، والذي دمر كل توازناتها في العقود الخمسة الماضية، وحرم الإقليم نفسه من أن يصل إلى تفاهماتٍ، تعزز الاستقرار والسلام بين شعوبه ودوله. ولم أتردد في الاجابة بنعم، لأن هؤلاء الباحثين هم أفضل من ينقل الرسالة إلى الرأي العام العالمي، وربما إلى سلطات بلادهم. وعندما التقيتها، سألتها عن مركز اهتمامها مباشرة، فقالت: أثار اهتمامي تحليلكم مسألة انهيار الدولة في المشرق العربي، وأريد أن أعرف أكثر عن رؤيتكم للوضع، وهل هناك بعد أمل في الخروج من حالة الفوضى والانهيار، التي وصل إليها المشرق، وكيف يمكن أن يحصل ذلك في نظرك؟

بدأت حديثي بالقول إن من المستحيل فهم ما يحصل، إذا اتبع المرء البحث العلمي السائد في الغرب حول المجتمعات العربية، والذي يركز في تحليله للأوضاع على الجزئيات، ويفصلها عن سياقها التاريخي والجيوسياسي، ويتمسك بإحالة كل الأمور إلى الماهيات الثابتة، العربية أو الإسلامية. وهذا ما حرم الباحثين الغربيين من فهم ما يجري في المشرق العربي، منذ حصول دوله على الاستقلال، فقد مال معظمهم إلى التفسيرات المبسطة والعفوية، التي توحي لهم بأن كل ما يحصل للشعوب نتيجة طبيعتها الخاصة، أو ماهيتها، المرتبطة بثقافتها والقيم والمعاني التي تنتجها، وبعقيدتها الدينية، التي رأوا فيها جوهر هذه الثقافة، فتكاد هوية العرب تتلخص في التمسك بثقافة تقليدية متحجرة، قوامها القيم والاعتقادات والطقوس الدينية، التي لم تتغير، ولم تتبدل، ولم تتطور منذ قرون، والتي تتحكم بسلوك العرب، وتمنعهم من إمكانية الارتقاء في تفكيرهم، وتنظيم شؤونهم إلى مستوى مفهوم الدولة والقانون وأخلاق الحرية واحترام الفردية، وتدينهم بأن يستمروا متشبثين بالأشكال الجماعوية للتنظيم الديني الطائفي، أو العشائري، أي ما نسميه، في العلوم الاجتماعية، بالأشكال الأهلية والعرفية والعصبيات التقليدية، التي تنتج نفسها بنفسها، من دون تفكير ولا تغيير، فعلاقات النسب هي الشكل الأبسط للتعاون والتفاعل بين البشر، والتماهي عبر العقيدة هو الروح المحركة للأخوة الدينية التي تجمع بين الأنساب والعصائب والجماعات الأهلية المختلفة.

في هذا المنظور، الوضع المتفجر الذي يعرفه المشرق، اليوم، يكاد يكون أمراً طبيعياً، يعكس غياب مفهوم الدولة ونظريتها وقيم الحرية والفردية في الثقافة العربية، وتشبث المجتمعات المشرقية بالرابطة الدينية، من دون أية رابطة سياسية أو مدنية أخرى.

" التماهي عبر العقيدة هو الروح المحركة للأخوة الدينية، التي تجمع بين الأنساب والعصائب والجماعات الأهلية المختلفة "

والواقع أن ما يبدو هنا وكأنه تفسير للواقع ليس إلا تشويهاً له، وتغطية على العوامل الحقيقية لتدهور الأوضاع المشرقية، والتي يمكن لمعرفتها، وحدها، أن تفتح أفق العمل على تغييره. ولو أخذنا بمثل هذا التفسير، لانقطع باب الأمل في بناء دولة وحضارة ومدنية في المشرق، وعند العرب والمسلمين، إلى الأبد، وليس لدى المسلمين والعرب فحسب، وإنما عند ثلاثة أرباع المجتمعات البشرية، التي لم تعرف الدولة الحديثة في ثقافاتها التقليدية، وعاشت كمجتمعات أهلية، قروناً طويلة سابقة، تحت مظلة الامبرطوريات والسلطنات الفضفاضة. ولو كان الأمر كذلك، لاقتصرت الحضارة والمدنية في أوروبا، وحتى داخل أوروبا، على المجتمعات القليلة التي بدأت بوضع أسس بذرة السياسة الجديدة، التي قادت إلى الدولة الحديثة. لكن، كل الباحثين يعرفون أن فكرة السياسة، بالمعنى الحديث الذي يربطها بالمواطنة ومشاركة كل فرد، لا بطائفة من الحاكمين الأبديين، لنبالة عرقهم أو أصولهم، والتي تشكل الدولة الجمهورية نواتها الأساسية، ومحور وجودها، لم تكن موجودة مسبقا في أية ثقافة أو دين من ثقافات البشر وأديانهم، وإنما هي ثمرة ثورة، وبالتالي قطيعة، داخل هذه السياسات والثقافات، بموازاة القطيعة، التي حصلت داخل النظم الاجتماعية القرسطوية، والتي أنتجت الشعب، بدل الرعية والرعاع، وحولت النبالة كطبقة إلى قشرة هامشية، وحولت الأفراد داخل الجماعة إلى مواطنين، يحكم علاقاتهم القانون، ويجمع بينهم عقد اجتماعي، أي مجموعة مدركة من المبادئ وقواعد العمل والغايات الكبرى، هو الذي يحدد أجندة العمل، للحفاظ على المجتمع والدولة والنظام العام.

وهذه القطيعة، التي حصلت في بعض المجتمعات القليلة، في البداية، وأنتجت الحداثة السياسية، الدولة الأمة والشعب والمواطنة، ومن ورائها الاعتراف بسيادة الفرد الإنسان، وأهليته للمشاركة في القرار والحكم، وطورت مفهوم الحرية السياسية المرتبط بحق السيادة والاختيار، واعتبرت ممارسة هذه الحرية، في اتخاذ القرار والمشاركة، شرطاً لتحقيق كرامة الانسان الفرد، والإنسان الجماعة معا، أقول هذه القطيعة لم تقتصر على المجتمعات الأولى، ولكنها انتقلت، بسرعة متفاوتة، إلى مجتمعات أخرى، ولا تزال تتوسع في انتشارها، ولو بشكل متأخر، وبأشكال مختلفة، تتحكم بها السياقات التاريخية والجيوسياسية الي ترتبط بها كل جماعة.

وفي المجتمعات الإسلامية والعربية، حصلت هذه القطيعة في سياق انهيار الامبرطورية العثمانية، فنشأت الدول الحديثة، ولو في ظروف مختلفة، وحسب معطيات متباينة، ففي تركيا، مركز الامبراطورية، ولدت الدولة الجمهورية الحديثة، من كفاح الأتراك الوطني، للحفاظ على استقلال الأراضي التركية ووحدتها، وبموازاة ثورة ثقافية وإدارية، خاضتها النخبة الجديدة ضد بقايا النظم الامبراطورية والسلطانية. وفي المناطق العربية، التي كانت تشكل محيط الإمبراطورية وأطرافها، اختلطت مطالب النخب العربية وكفاحاتها لتحقيق هذه القطيعة، والانتقال إلى دولة حديثة، مع حركة قومية للانفصال عن السلطنة، وما لبثت حتى تقاطعت مع مشروع سلطات الوصاية الأجنبية، الباحثة عن بناء هياكل دولة حديثة تمكنها من إدارة المجتمعات التي سيطرت عليها. ونشأت من ذلك كله مجموعة من الدول الحديثة، التي لا تزال في عهد المشروع، لكن المدعومة، من دون أي شك، بإجماع وطني حقيقي، هو الذي حرّر الأفراد من ولاءاتهم الأهلية التقليدية، العشائرية والطائفية، وسمح بقيام حركات ونخب وطنية، كافحت من أجل الاستقلال وحققته. هذا هو حال مصر وبلاد الشام والمغرب. وفي الجزيرة العربية، ظل مشروع الدولة الحديثة فترة حبيس الهياكل التقليدية والعصبيات الأهلية، التي كانت وراء تأسيس الدولة، فكانت النتيجة نشوء إمارات وممالك بمواصفات تقليدية، تم تطويرها وتوليد روح الدولة الحديثة فيها تدريجياً، من خلال تطور الإدارة، وفي مواكبة نمو العلاقات الاستراتيجية التي تربطها بعالم المدنية الصناعي.

"لا تشكل الثقافة ماهية ثابتة ترفض التحول والتغير"

باختصار، كما أنه لا توجد ثقافة على وجه الأرض كانت تحتوي، بالسليقة، على عناصر نشوء الدولة الحديثة، وأخلاقيات المواطنة المتساوية، وحكم القانون، وأولوية الحرية وسيادة الفرد على نفسه، منذ البدء، فليس هناك ثقافة عصية على إنتاج مثل هذه العناصر والمبادئ والقيم. والسبب أن الثقافة، أية ثقافة، لا تشكل ماهية ثابتة ترفض التحول والتغير. كل الثقافات الكبرى والصغرى، بما في ذلك ثقافات القبائل المعزولة في الغابات، قابلة للتطور، واستيعاب الأفكار والمعاني والقيم الجديدة. وهذه هي ثمرة انتماء جميع الشعوب إلى جنس واحد بشري، والذي يفسر أن إبداعات الحضارة لم تقتصر على شعبٍ، أو مجتمع، بشكل خاص، ولكنها تنتشر في كل الأرجاء، من الحضارة الرعوية إلى الزراعية إلى الصناعية إلى الحضارة التقنية العلمية الراهنة. ليست هناك حدود لتطور الثقافات، وتمازج الأفكار. ولولا ذلك، لما انتشرت الأديان السماوية، التي هي لصيقة بثقافة المجتمعات المتوسطية، بل والسامية، على مساحات واسعةٍ، تتجاوز الرقعة التي نشأت فيها، فانتشرت المسيحية، التي ظهرت في فلسطين وسورية بداية في قارات العالم الواسعة، في الغرب الأوروأميركي، وفي الشرق الآسيوي، وفي أفريقيا وغيرها. وهذا ما يميز، أيضاً، تاريخ الإسلام، الذي امتد من المتوسط إلى الصين، ولا يزال يوسع قاعدة انتشاره في أكثر من قارة ومكان. وفي كل مرة، تغير الإبداعات الفكرية، أو المادية، التي ترد إلى الحضارة، من طبيعة الثقافات التي تنتشر فيها، وتعيد بناءها، لاستيعاب القيم والمطالب الإنسانية والتوجهات الفكرية الجديدة.

إذا كان هذا صحيحاً، فكيف نفسر ما يسود، اليوم، في المشرق، من انتشار الفوضى السياسية والفكرية والاجتماعية، وتفكك الدولة وانهيار حكم القانون والمدنية نفسها، لحساب توسع دائرة الحروب الطائفية والنزاعات القومية، ونشوء إمارات الحرب وعصابات التشبيح والميليشيات الخاصة التابعة لهذا الفريق أو ذاك؟ هذا موضوع المقال المقبل.

اقرأ المزيد
٢٥ أكتوبر ٢٠١٤
واشنطن وموسكو.. حلف تكتيكي ضد الإرهاب

في أواخر شهر سبتمبر (أيلول) الماضي، تحدث السكرتير العام للحزب الشيوعي السابق ميخائيل غورباتشوف عن «ملامح الحرب الباردة الجديدة» التي يراها بين الولايات المتحدة وروسيا، غير أن تسارع الأحداث في الأيام الماضية بات يؤشر على أن تلك الحرب قد تم تأجيلها لحين إشعار آخر... والسؤال: ما السبب؟
الجواب يتلخص في كلمة سحرية اسمها «داعش» وأخواتها في الشرق الأوسط وبقية العالم، الأمر الذي يدعو للتعجب بداية والاندهاش ثانية؛ فهل مثل هذه الميليشيات الإرهابية تستدعي التئام شمل الروس والأميركيين لمواجهتها ومجابهتها؟ وإذا كان لواشنطن من الأسباب الكافية ما يبرر قيادتها التحالف الدولي ضد «داعش»، فهل من مصلحة مشابهة بصورة أو بأخرى لروسيا في دحض «داعش»؟
تبدو «داعش» في المشهد الحالي كالمصيبة، و«المصائب تجمع المصابينا» كما يقول المثل العربي، وتهديد روسيا ليس ببعيد، فقد وجه الداعشيون تهديدا مباشرا لرأس الدولة الروسية فلاديمير بوتين.. «لقد اهتز عرشك، وأصبح تحت التهديد وسيسقط عندما نأتيك إلى عقر دارك».
ضمن المرويات الكثيرة بشأن «داعش»، ما يتردد من أن لها دورا في إحداث أكبر ضرر بموسكو وبكين، وذلك في إطار الاستراتيجية الأميركية الأكبر «الاستدارة نحو آسيا»، بمعنى محاولات تصدير الفتنة والثورة، والقلاقل والاضطرابات، عبر اللعب على المتشددين الشيشانيين والقوقازيين من جهة، ومن خلال استخدام الإيغوريين الصينيين من جهة ثانية.
علامة الاستفهام هنا: «هل تكشّف لواشنطن لاحقا أن هذا المخطط سوف يحرق ثوبها وأثواب الأوروبيين قبل أن يجد طريقه للروس والصينيين، وعليه، فقد فضلوا تحالفا تكتيكيا مع الروس لحين الخلاص من طاعون (داعش) الأسود؟».
المؤكد للذي تابع لقاء وزير الخارجية الأميركي جون كيري مع نظيره الروسي سيرغي لافروف في باريس نهار الثلاثاء 14 أكتوبر (تشرين الأول) الحالي، أن هناك توجها لتعاون سريع وفاعل تقتضيه المصلحة العليا للبلدين، إذ اتفقت موسكو وواشنطن على تعزيز تبادل المعلومات الاستخباراتية لمواجهة «داعش»... هل هذه هي المرة الأولى التي نشهد فيها مثل هذا التعاون؟ بالقطع لا، فقد جرت المقادير بأشكال مشابهة لمثل هذا العمل المشترك.
بدأ ذلك جليا في أعقاب هجمات «القاعدة» على واشنطن ونيويورك في سبتمبر (أيلول) 2001، فقد تعاونت أجهزة الاستخبارات في البلدين تعاونا كاملا في مواجهة حركة طالبان، وسوف يكون الأمر مماثلا مع «داعش».
هل واشنطن في حاجة لوجيستية وأمنية للدور الروسي بشكل خاص دون بقية الحلفاء؟
هذا ما يميط عنه اللثام الخبير السياسي العسكري المستقل ديمتري ليتوفكين، الذي يخبرنا بأن لدى روسيا مركز استخبارات في سوريا جرى من خلاله التقاط لا سلكي - إلكتروني لرسائل التنظيمات الإرهابية في المنطقة، وبالقطع فإن روسيا تعرف جيدا كيف تقايض معلوماتها وتفعّل دورها في القضاء على «داعش»، في مقابل إلغاء العقوبات الاقتصادية الموقعة عليها من الغرب بقيادة الولايات المتحدة.
عبر أزمة «داعش»، تتبدد أمام عيون الأميركيين أوهام فكر السيادة المطلقة، والهيمنة الأحادية، وتتعزز الحاجة إلى الآخر حول العالم، وهذا ما عبر عنه الرئيس الأميركي باراك أوباما عندما طالب بجهود دولية مشتركة من أجل استئصال سرطان «داعش» بحيث لا ينتشر.
وعليه، فرغم العداء الآيديولوجي الكامن تحت الجلد الأميركي للجيش الروسي، فإن أوباما قد يجد أنه من الأفضل اعتبار التعاون مع الروس عسكريا في العراق وسوريا خيارا قابلا للحياة، عوضا عن انتعاش وتمدد «داعش»، لجهة الأردن، ومن ثم إسرائيل.
لا تدهشنا الذرائعية النفعية الأميركية، فهذا ديدن سياسات واشنطن، فقبل فترة ليست بالبعيدة كانت جين ساكي، المتحدثة الرسمية باسم وزير الخارجية الأميركي، تشير إلى أن «هناك عددا من الدول التي يمكنها أن تكون بناءة بشكل أكبر من روسيا في مكافحة من وصفتهم بالإسلاميين المتطرفين في الشرق الأوسط».
غير أن واقع الحال الكوسمولوجي المأزوم يظهر أن هناك مصالح جيوسياسية مشتركة في مناطق محددة حول العالم، تهم موسكو بقدر ما تشغل بال واشنطن، ولذا فإن عليهما أن تكونا على استعداد لاتخاذ إجراءات موحدة وبسرعة شديدة.
هل تعني إرهاصات هذا التحالف أو التفاهمات الجديدة أن العلاقات من موسكو لواشنطن والعكس في طريقها لأن تزدهر وتنمو؟
حكما، ما نراه مشهد تكتيك، في حين يظل الصراع الاستراتيجي قائما، وخير دليل على ذلك حالة الاستنفار العسكري الروسي على الحدود، ومؤخرا صرح وزير الدفاع الروسي سيرغي شويغو بأن تصريحات وزير الدفاع الأميركي تشاك هيغل حول ضرورة إعداد الجيش الأميركي للتعامل مع أسلحة القوات الروسية الحديثة وذات القدرة القتالية على عتبة حلف الناتو - تثير القلق؟ هل الروس على حق في نظرتهم للأميركيين؟
يرى الروس أنه ليس هناك في العالم اليوم أي نقطة للتوتر دون وجود الجيش الأميركي، وعلاوة على ذلك هم مؤمنون بشكل مطلق بأن المناطق التي تشهد «فوضى دموية» حول العالم، هي تلك التي حاول الأميركيون فيها نشر الديمقراطية كالعراق وليبيا وأفغانستان وسوريا.
الروس على حق بمطلقية المشهد، وهم على خلاف الأميركيين لا يسعون إلى السيطرة على العالم، ولا إلى نشر آيديولوجيا معينة، وإنما تقوم موسكو بترتيب أوراقها تبعا لمصالحها الحيوية والوجودية، دون مساومة.. وعليه، فمواقفها من واشنطن للتذكير والتحذير.
بوتين لا يريد أن يضحى خصما منهجيا لواشنطن، والدليل حلفه التكتيكي الذي يتشكل في الرحم مع الأميركيين لمواجهة الإرهاب.

اقرأ المزيد
٢٥ أكتوبر ٢٠١٤
هل "داعش" هي المشكلة؟

أكثر من أربعين دولة في التحالف الأممي للقضاء على داعش! داعش تدمر المُعمّر، وتقتل الطفل والمرأة والمسن بسبب عدم توافق أفكارهم مع أفكارها! ومع ذلك يتوافد مجندون لداعش من كل بقعة في الوسيعة!
لا يمكن لعاقل أن يفسر ذلك إلا عندما يذهب بتفكيره خارج حدود المنطق، ولا يمكن لعاقل أن يفعل ذلك إلا إذا وضع منطقا آخر للتفكير، والسؤال الذي يطرح نفسه هو: ما هو منطق العقل في استمرار داعش؟
من هذا المنطلق أدلي بدلوي لعلي أجد منطقا يتفق مع الأحداث.
كلنا يعرف ما يسمى بالربيع العربي، والغالبية تعرف مقدار الدمار المادي والفكري الذي أحدثه ذلك. المخططون لهذا يَرَوْن أن الربيع العربي لم يجن ثماره، وذلك لأنه لم يؤثر في بعض الدول العربية وأهمها السعودية ودول الخليج العربي، ويرى المخططون أنه لا بد من استحداث حركة فكرية لاستمرار هذا الربيع المدمر.
العائق الرئيسي لهذا المخطط هو السعودية، لذا يجب ان تُجند القوى لتذليل هذا العائق، رأت القوى المخططة أن الفرصة سانحة بسبب تجاوب الدول المحيطة بالسعودية والخليج لذلك، فالعراق مُسيطَر عليه من قبل إيران، وسورية في فوضى عارمة، وتتبعها لبنان، ومصر (المهمة) تعالج جراحها، والسودان تغلغلت فيه إيران، وإريتريا معقل تدريب للقوى الإيرانية المساندة للحوثي، واليمن (المهم) لهذه العملية مُسيطرٌ عليه من قبل الحوثي الذي ابتز وتوافق مع الحكومة اليمنية بالطرق التي يتقنها!
رأت قوى التخطيط أن تستغل قوة السعودية المنيعة لمصلحتها، وليس هناك قوة أكبر من قوة العقيدة، ولكنها وقفت حائرة في كيفية تطبيق ذلك، وخاصةً في وقوف تعاليم الإسلام ضد أهدافهم، فوجدت تلك القوى فرس رهانها في تعاليم التطرّف التي لبست عباءة الإسلام وأصبحت جزءا من بعض نسيج المجتمع السعودي الذي تشرب من مصادر التعليم التي أعدها الإخوان المسلمون في أوائل الستينات، وبعد فشل الربيع العربي في التأثير على السعودية ومنطقة الخليج وجد المخططون أنه لا بد من إيجاد حركة تمول الفوضى والفوضى الخلاقة لتخلف الربيع العربي الذي لم يخترق السعودية ودول الخليج، على أن يكون لهذه الحركة قدرة في التهديد المباشر(أمني)، وغير المباشر (فكري)، وحانت الفرصة لتكوين هذه الحركة بعد الثورة السورية وتفكك العراق المذهبي، فتكونت داعش! ولعل بعض التساؤلات التالية توضح الأمر أكثر:
- لماذا نشأت داعش في العراق والشام؟ والجواب على ذلك؛ لأن كلا البلدين أرض خصبة لاحتواء أي فكر بسبب غياب السلطة واتساع الطائفية! وكان مهد ترعرعها العراق بسبب اضطهاد المالكي للسنة، التي تعاطفت مع داعش في بداية الأمر لإيقاف طغيان حكومة العراق.
- لماذا أجهدت داعش نفسها في معاداة الإنسانية بوحشيتها بالقتل والهدم، وخاصة في إعدام الأبرياء من دول الغرب؟ والجواب على ذلك؛ خلق الرعب في (الشارع) الغربي ليقف مع حكوماته في تدخلها المباشر بمنطقتنا!
- لماذا استخدمت داعش نظام الخلافة الإسلامية؟ ووضعت ما يسمى بالخليفة؟ والجواب هو؛ التركيز على مُخرجات الفكر المتطرف، والمتغلغل في مُخرجات التعليم بمنطقتنا لاستثماره في تجنيدها! وعلى سبيل المثال ( وثيقة استراتيجية التعليم، كذلك ما هو مكتوب في موقع "الإسلام" المعد من قبل وزارة الشؤون الإسلامية والأوقاف والدعوة والإرشاد).
- لماذا لم تشمل داعش في توسعها الدولة الإيرانية كاملة؟ والجواب هو؛ تجتمع أهداف إيران مع أهداف داعش في زعزعة الاستقرار في الدول العربية، لذا ليس من صالح داعش التدخل بما تفعله إيران.
- لماذا لم نر مواجهات فعلية بين داعش وتركيا؟ وأقول؛ مرة أخرى نرى التجانس في الأهداف! حيث تركز تركيا على الإطاحة بالأسد كهدف رئيسي، وليس ذلك لمساعدة الشعب السوري! بل لإنشاء دولة إخوانية سورية! وتعلم تركيا أن إنشاء الدولة الإخوانية في سورية ليس من الصعوبة بمكان لتجذر الفكر الإخواني في الشعب السوري، تركيا تريد أن تتزعم هذا الفكر لضرب عصفورين بحجر، الأول: توسيع رقعة هذا الفكر ليساند الحكومة التركية ضد التهديد الرئيسي لها وهو جيشها، والثاني: لاستبدال مصر التي خسرتها بسورية. ترى داعش في هدف تركيا تجانسا لأنه سيولد تنافرا في المجتمع السوري واستمرار الخلافات مما سيساعدها في تنفيذ تفكيك الثورة السورية.
تعدت داعش قبل أيام مصطلحها المحصور بالعراق والشام إلى هدف الدولة الممتدة من غرب إيران إلى المغرب العربي! السواد الأعظم يعرف أن ذلك لن يتحقق - بمشيئة الله- فلماذا تريد عداء كل تلك الدول؟ وهي في أمس الحاجة لإنقاذها عسكرياً! ولعل ذلك لتوسيع رقعة التجنيد من تلك الدول، وأول ثمارها مبايعة بعض الفرق الليبية للبغدادي.
التهديد العسكري المباشر لداعش ليس بخفي، ولكنه يخدم التهديد الأكثر دماراً وغير المباشر (الفكري)، ولنبدأ باختصار بالتهديد المباشر، لا بد لدولة مثل السعودية أن تتحرك لتأمين حدودها الشمالية مما قد تسببه داعش في الإخلال بأمنها، وهذا ما سعت إليه داعش في جلب قوات سعودية ليست بالهينة شمالاً! التجانس التكتيكي من قبل داعش والحوثي يتبين من تمدد الحوثي للسلطة على المنافذ البحرية لليمن، والذي يمثل التمدد الإيراني في جنوب السعودية، وتوافق التمدد الحوثي بعد تكوين فكرة التحالف لضرب داعش.
أما التهديد الأهم فهو التهديد الفكري كما أسلفت، والسلاح المؤثر لهذا التهديد هو ما نراه الآن في إعلام وسائل التواصل الاجتماعي، جنود المخططين لن تراهم بهيئة داعش الملتحين المتشددين، بل هم من أهل البرامج المنتقدة للوضع في السعودية خاصة والخليج عامة، وقد نجحوا في جلب الكثير بانتقاداتهم، وليس ذلك لقوة حجتهم، بل بسبب الأخطاء الداخلية لحكومات الخليج التي أعطت الحرية للفكر المتسلط بالنمو، وأحس الإنسان أن حريته الشخصية قد سُلبت منه - أصبح الزوج يُتهم لتناوله وجبة طعام مع زوجته أو قريبة له - ومن أسلحة الأعداء تجذر الأعراف والتقاليد التي ما أنزل الله بها من سلطان في المجتمع السعودي، لم يجد العدو صعوبة في تجنيد الكثير ليبثوا سمومهم في مجتمعنا.
داعش هي أداة من أدوات مخطط كبير تغذى على تنافر المعتقدات داخل مجتمعاتنا، فَمَا هو سلاحنا لدحر هذا المخطط؟
السلاح الفعّال لهذا التهديد هو إحياء أخلاق الإسلام التي استبدلت بإرث العادات والتقاليد، والتركيز على الانتماء لهذا البلد العظيم كما وجهت به قيادتنا، وذلك باحترام الحقوق للمواطن والمقيم والحزم في فرض القوانين المعتمدة.

اقرأ المزيد
٢٥ أكتوبر ٢٠١٤
إرهاب الجماهير سلاح الديكتاتورية للبقاء

■ لا يزال يحلو لبعض اليساريّين أن يرفعوا البطاقة الحمراء في وجه من يرى في الديمقراطية قضية ملحة في العملية النضالية، للوصول إلى وطن حر وديمقراطي. البطاقة الحمراء هنا هي تهمة جاهزة في جيب «الحَكَم» مكتوب عليها أنك من «الزمرة المعجبة والمروجة لأفكار الغرب»، وأنك «تتماهى مع أفكار المستشرقين وتخدم سياسات الولايات المتحدة ومصالحها».
الرد البسيط وغير المعقد، على هؤﻻء الرفاق الأعزاء، ذوي الأحكام القاطعة بطبعهم، يكمن في المفارقة التالية:على الرغم من أن التاريخ الحديث للولايات المتحدة (والغرب عموما)، غارق في الدعاية للحرية والديمقراطية اللتين تبشر بهما، إﻻ أنّ أمريكا منذ أن سيطرت على مفاصل الشرق الأوسط بعد الحرب العالمية الثانية، لم يُشهَد لإداراتها المتعاقبة سوى دعمها المطلق لنظم اﻻستبداد والقمع في المنطقة. عدا عن دعمها المطلق لإسرائيل (الديمقراطية لذاتها والعنصرية القمعية ضد الآخر).
لقد عملت أمريكا جاهدة لدعم نظم الاستبداد العربية وأجهزتها الأمنية المدرّبة، بغرض صدّ وإبعاد أي تطور ديمقراطي في المنطقة العربية قد يشكل تهديداً لمصالحها، بل بالإمكان القول إن الغرب عموماً خان تاريخياً طبقة البرجوازية العربية، وشوه تطوّرها الطبيعي، ومنع هذه الطبقة من التمثيل السياسي لصالح قوى التسلط وممثلي قوى ما قبل الرأسمالية، وﻻحقا قوى الكمبرادور ورأس المال المتحالف مع الحكم التسلطي والعسكري، وهي القوى التي احتكرت النفوذ والسلطة السياسية على نحو شبه كامل، عن طريق الوراثة أو التوريث وهما سيّان.
الموقف الأمريكي المعادي للبرجوازية الوطنية والديمقراطية السياسية ظهر جلياً في أمريكا اللاتينية والجنوبية أيضاً، وفي غيرها من المناطق، بل إنّ أمريكا تورطت أحياناً بشكل مباشر ومفضوح ضد ثورات ذات طابع ديمقراطي وزعمائها مثل؛ مصدق وأليندي وتشافيز (والأخير فشلت محاولته الوصول إلى السلطة بانقلاب عسكري ونجح في الوصول إليها عبر صناديق الاقتراع ووسائل الديمقراطية البرجوازية).
أين نحن؟
السؤال الجوهري هنا: هل تعيش الدول العربية في ظل نمط وعلاقات إنتاج رأسمالية متكاملة، لتصبح عندها الديمقراطية البرجوازية رجعية، أو ضربا من التاريخ وأداة من أدوات الرأسمال في تحرير العبيد والفلاحين ليصبحوا عمالاً يستغلهم الرأسمال؟ أم إننا نعيش في ظل نمط علاقات ما قبل التطور الرأسمالي المكتمل، أو نمط من التطور المشوه، أو المسخ الفاسد، أو المتأخر، بعيداً عن أن يكون رأسماليا كلاسيكيا كما في الدول المتقدمة، صناعة وإنتاجا، حيث تصبح الديمقراطية لديها «رجعية ومزيفة»؟
في مراحل التطور التاريخي السابقة للرأسمالية، أو الرأسمالية المشوهة، أو الخداج، أو المتأخرة، تكون الديمقراطية البرجوازية ثورية، وأكثر نضالية وواقعية مما يسميه بعض الثوريين من مسميّات كالديمقراطية الشعبية، والاشتراكية وغيرها، تبريراً لرفضهم للديمقراطية البرجوازية، اعتمادا على الفهم الضيق للشعار الماركسي حول «ديكتاتورية البروليتاريا».
السؤال المطروح الراهن، وهو موجه لأولئك الثوريين: هل من الممكن النظر إلى تحقيق الديمقراطية البرجوازية باعتبارها مهمة ملحة في مواجهة التسلط في بلداننا، بدل الاكتفاء بالادعاء بأنها محض ترف غربي ومستورد ﻻ يناسبنا، وهو ما تدّعيه أيضاً النظم التسلطية التي تتستر أحيانا بالأصولية الدينية لتبرير شرعيتها؟
نحن في مرحلة تاريخية عاثت فيها أنظمة الحكم العربية فساداً في بلدانها، وأجهضت النمو والتطور الطبيعي للأوطان، حتى نحو الحداثة والرأسمالية الناضجة، وخلقت أنماطاً مشوهة للإنتاج وعلاقاته، وعززت البناء الفوقي اللازم لاستمرار هيمنتها على أسس من الإغراق في التخلف. وكذلك سخرت الفكر الديني الأشد تطرفاً لهذا الغرض (مقابل الفكر الدينيّ الصوفي أو الوطني). كل ذلك تم ويتم بتحالف، ومن موقع التبعية، مع القوى الإمبريالية، التي بدورها ضمنت لهذه الأنظمة عروشها وحكمها، طالما أنّها تخدمها وتحقق لها مصالحها وأهدافها الاستراتيجية. لقد فشلت الأنظمة العربية كافّة بتلاوينها المختلفة في القضية الوطنية، وفشلت في التصدي للعدوانية الإسرائيلية، وآخرها العدوان الهمجي على غزة.
لقد جاءت حركة الجماهير العربية المطالبة بالديمقراطية والعدالة الاجتماعية في بلدان الربيع العربي مفاجئة للجميع، وأرعبت الغرب الداعم تاريخيا لأنظمة اﻻستبداد والحكم الفردي المطلق العربية، سواء قامت على الأساس الملكي الوراثي أو الجمهوري المزور، والمزين بنسبة نجاح تصل إلى ما يقارب المئة بالمئة. لقد فاجأت حركة الشارع العربي الوﻻيات المتحدة والرجعية على حد سواء، بقدر ما فاجأت اليسار العربي والمعارضة التي لم تكن جاهزة لقيادة حركة الجماهير.
رياح التغيير كانت جامحة عابرة للحدود. لم تتحرك القوى الاستعمارية والرجعية لاحتواء حركة الربيع العربي فحسب، بل تحركت كذلك كافة قوى اﻻستبداد وحكم الفرد والعائلة والعشيرة والعسكر وقوى الإسلام السياسي، الأقوى نفوذا في الشارع.
كما تحركت كذلك الأنظمة القومية المتناقضة مع أمريكا في سياستها الخارجية وفي مسألة الصراع العربي الإسرائيلي، لكنها كانت من بعيد فاقدة لثقة شعوبها، خائفة دوما من الجماهير، وقامعة لحرياتها وطاقاتها الخلاقة حتى في مقاومة الاحتلال الإسرائيلي لأجزاء من الوطن. لم تسمح هذه الأخيرة للجماهير بأن تناضل ضد المحتل كما فعلت المقاومة اللبنانية الباسلة في تحرير أراضيها التي لا ينكر أحد أن سوريا دعمتها، طالما بقيت المقاومة ضد الاحتلال بعيدة عن الأراضي السورية.
والمثير للاهتمام والاستغراب هنا حقيقة أن امتداد رياح التغيير لتصل بعض الأنظمة الاستبدادية «الحليفة» القائمة على حكم وتقديس الرئيس الفذ، فاقت قدرة بعض الرفاق على الاستيعاب، فظهروا مدافعين عن هذه الأنظمة وأساليبها البشعة في قمع الحركة الجماهيرية، حتى عندما كانت سلمية وتنادي بالإصلاح. هنا أضحت المسألة عندهم مؤامرة ﻻ ربيعا عربياً. وتبنوا، بل تطابقت مواقفهم مع موقف النظام، متناسين أن التحالف مع قوى قومية في معركة يحكمها تناقض خارجي، لا يلغي النضال والانحياز للجماهير في نضالها السياسي والمطلبي ضد السلطة الحاكمة (التناقض الداخلي).
المؤسف أن أصوات بعض المتمركسين ارتفعت لتبرير قمع الجماهير وذبحها، وجهود النظام السوري والرجعية العربية وعسكرة الصراع، التي قادت إلى أن تؤول الأوضاع في سوريا إلى ما هي عليه الآن. بعض هذه الأصوات علت جهارا لتقول إن ما جري في الربيع العربي أُعدّ في واشنطن ونفّذ في بلداننا، والبعض حوّل المعركة إلى معركة فكرية ضد الإخوان المسلمين، حتى في البلدان التي لم يكونوا بها في السلطة، وقد أعماه عداؤه المطلق لبعض قوى الإسلام السياسي المتفوّق، كما يبدو، على عدائه للأنظمة الحاكمة منذ عقود والتي عاثت في الأرض فسادا. والأشد إثارة للحزن أن بعض هذه الأصوات كان ولا يزال، ومن باب المزايدة أو العجز أو الجمود العقائدي، يتذرع بحجة رفضه المبدئي للديمقراطية البرجوازية، لأنها زائفة ومن صنع الرأسمالية، وأنه ورفاقه لن يرضوا للجماهير بأقل مما سموه بالديمقراطية الشعبية أو الديمقراطية التشاركية أو الاشتراكية.
لقد فوت اليسار العربي فرصة الانسجام مع حركة الشارع، ولعب دور تاريخي في المساهمة في تنظيم حركة الجماهير، ولربما فوت الفرصة أيضا لقيادتها بالتحالفات المناسبة، ولو مع قوى دينية خارج السلطة في تحالف ميداني، على أساس المهام الملحة، من أجل الديمقراطية وصناديق الاقتراع، بدل إقحام الجماهير بمعارك دون كيشوتيه، تحرفها عن الشعار الذي صدحت به حناجرها في القاهرة وتونس «الشعب يريد إسقاط النظام» و»يسقط يسقط حكم العسكر» و»خبز وحرية وعدالة اجتماعية».
لا أدري إذا كان قد فات الأوان على موضوع هذه الكتابة، فالمعركة محتدمة وقد وصلت المأساة – الملهاة إلى أن دولاً عربية لا تكاد تكون معروفة على الخريطة الجغرافية أو السياسية، بدأت تشن حربا على دول عربية أخرى بتواطؤ واضح مع أمريكا بحجة محاربة «داعش». والأنكى أن ذلك يخطط له ليستمر على مدار عدة سنوات ـ وهو ما يساوي زمنيا المدة التي تمت بها هزيمة ألمانيا النازية وليس «داعش». زعماء الدول العربية لم يعلموا شعوبهم بالحرب. فمثلا كان رئيس وزراء الأردن يصرح قبل مدة قصيرة أن الأردن لن يخوض معارك الآخرين.
الكوميديا هي أن رئيس الدولة المعتدى عليها، وهي سوريا، الذي يعول عليه أحد الكتاب الأردنيين بأنه سيلجم الدوائر السورية التي تغمز باتجاه التحالف، يعتبر أن قصف الطائرات لبلده خطوة في الاتجاه الصحيح، إذا قام التحالف بمجرد إعلامه بذلك فقط. لقد أضحت البلدان العربية تقسم طائفيا وعرقيا ويمينا ويسارا وشمالا وجنوبا، وتنتهك الأعراض وتؤخذ السبايا، وما يزال البعض من الثوريين يتجاهل أن الاشتراكية نشأت ووجدت من أجل الإنسان وحريته ورفاهه.
أساس الإرهاب ليس فكرياً، بل طبقيا. فهو ينشأ ويتطور في ظل التمايز الطبقي، ونهب الثروات وإفقار الريف، وينمو في ضواحي البؤس والشقاء، في ظل دول تحكمها عائلات حاكمة تنهب وتجمع الثروات الخيالية، وتعادي الديمقراطية لأنها ستكون أداة في أيدي الجماهير للخلاص منها وإلى الأبد. إن الفكر ليس إلا انعكاساً للواقع، ومحاربة الفكر الإرهابي ﻻ تكون إلا بالنضال السلمي ضد الاستبداد والحكم المطلق والتمايز الطبقي عبر الديمقراطية والحرية، وضد العسكرة والقتل.
تريد الدكتاتورية لصوت السلاح أن يقعقع وللدماء أن تسيل حماية واستمرارا لحكمها وبقائها، وبذلك ربما ترهب الجماهير وتبعدها عن شعارها في الربيع العربي العظيم: «خبز وحرية وعدالة اجتماعية».

اقرأ المزيد
٢٥ أكتوبر ٢٠١٤
تعالوا نتقاسم السُلطات والثروات بدل تقسيم الأوطان!

ليس هناك أدنى شك بأن الأنظمة العربية الحاكمة هي المسؤولة الأولى والأخيرة عن دفع بعض الحركات والجماعات والعرقيات والطوائف إلى البحث عن الانفصال. لقد فشل معظم الأنظمة العربية على مدى أكثر من ستين عاماً في بناء دولة لكل مواطنيها، مما جعل شرائح واسعة من مجتمعاتها تتطلع إلى الانفصال. كثيرون فشلوا في خلق دول بالمعنى الكامل للكلمة مما جعلها دائماً مهددة بالتفكك والانهيار كما يحدث الآن في العراق وسوريا واليمن ولبنان وليبيا.
فبفضل طريقة الحكم القائمة على الدوائر الضيقة والمقربين جداً وحرمان الناس من المشاركة السياسية حتى في إدارة البلديات تمكنت بعض الأنظمة بشقيها العسكري والإسلامي من تفتيت مجتمعاتها وقطع كل الروابط البسيطة التي كانت تجمع بينها، فزاد التعصب القبلي والطائفي والعشائري وحتى العائلي، بحيث أصبحنا ننظر إلى سايكس وبيكو على أنهما ملاكان رائعان، لأنهما على الأقل لم يتلاعبا بطوائفنا ومذاهبنا وعوائلنا وقبائلنا ونسيجنا الاجتماعي والثقافي الداخلي، كما لعبت أنظمتنا الأقلوية بمختلف أشكالها.
يقول المثل الشعبي: «الثلم الأعوج من الثور الكبير». بعبارة أخرى، فإن تلك الأنظمة المسماة دولاً زوراً وبهتاناً لم تضرب «لرعاياها» مثلاً يُحتذى في بناء الدولة والحفاظ عليها وجعلها قبلة جميع العرقيات والطوائف والمكونات التي تتشكل منها. ماذا تتوقع من أي شعب عربي إذن عندما يرى نظامه يحكم على أسس قبلية وطائفية ومناطقية؟ هل تريده أن ينزع باتجاه الاندماج أم باتجاه الانتماء الضيق وربما الانفصال والانسلاخ؟
فطالما أن هذا النظام أو ذاك جهوي أو طائفي بامتياز، فلا بأس أن يحافظ الناس على طائفيتهم وعصبيتهم ويتمسكوا بهما. كيف نطالب الشعوب العربية بأن تتقارب من بعضها البعض وتتوحد إذا كانت أنظمتنا (القومية والإسلامية) تمعن في طائفيتها ومذهبيتها وقبليتها المقيتة؟ وبالتالي فإن الانفصاليين والمتمردين على الدولة المركزية العربية لا يستحقون أبداً تهمة الخيانة، فالخائن الحقيقي ليس الذي يطالب بالانفصال كصرخة ضد التهميش والعزل والإهمال والظلم والغبن والمحاباة والأبارتيد العرقي والطائفي والمناطقي، بل أولئك الذين دفعوه إلى الكفر بالوحدة الوطنية المزعومة؟
لكن مع كل ذلك، فالانفصال وتفتيت الأوطان ليس حلاً أبداً، وخاصة للطوائف والجماعات والأعراق التي كفرت بالدولة المركزية. فالزمن ليس زمن الدويلات والكانتونات العرقية والطائفية والمذهبية، بل زمن التجمعات والتكتلات الكبرى. فالقوى التي تهيمن على العالم كلها اتحادات وليس دويلات. الاتحاد الأوروبي، الولايات المتحدة الأمريكية، الصين، الهند كلها تجمعات كبرى مكونة من أعراق ومذاهب وأديان مختلفة. والسؤال الأهم: هل نجحت أي جماعة انفصلت عن الدولة الأم في بناء دول يٌحتذى بها؟ لقد صارع جنوب السودان عقوداً وعقوداً كي ينفصل عن الشمال، ونجح أخيراً في الانفصال والاستقلال في دولة جنوب السودان. لكن ماذا أنتجت الدولة الجديدة؟ هل ازدهرت اقتصادياً وسياسياً واجتماعياً وثقافياً؟ أم إنها ازدادت تخلفاً؟ ألم يصبح جنوب السودان منذ الاستقلال مثالاً للصراعات القبلية والسياسية والجهوية؟

لقد ظن الجنوبيون أن كل شيء سيصبح على ما يرام بمجرد إعلان الانفصال عن الشمال دون أن يدروا أن دولتهم الجديدة نقلت معها كل أمراض الشمال السياسية والاقتصادية والثقافية. وهذا يعني أن الحل لا يكمن في الانفصال أبدا، بل في معالجة الأسباب التي تدعو الناس إلى الانفصال. هل يختلف الديكتاتور سيلفا كير عن الجنرال البشير؟ بالطبع لا، فهذا الفرع من ذاك الأصل. كل الطبقة السياسية التي تتحكم بجنوب السودان الآن هي نسخة طبق الأصل عن الطبقة الحاكمة في الشمال. وطالما ظلت تتصرف بعقلية الشمال، سيبقى الوضع على حاله، وربما يتفكك الجنوب ذاته.
لقد نجح الأكراد بدورهم في الاستقلال عن العراق، وأصبح لهم سفارات وقنصليات واقتصاد خاص وبرلمان. لكن هل يختلف نظام الحكم في المناطق الكردية عن النظام الحاكم الذي استقل عنه في بغداد، أم إنه أيضاً يحمل كل أمراضه السياسية والسلطوية بشكل مصغر؟
لا يمكن أبداً أن نحل مشاكلنا السياسية والاقتصادية والاجتماعية بتقسيم الأوطان وتفتيتها إلى كانتونات ودويلات ومحميات صغيرة. هذا ليس حلاً، بل إمعانا في تدمير الأوطان وشرذمتها. بدل أن نشرذم بلادنا ونقطعها إرباً إرباً، تعالوا نحتكم إلى الديمقراطية الحقيقية القادرة على جمع كل المتناقضات والطوائف والمذاهب والأعراق وصهرها في بوتقة المواطنة. فعندما يشعر الجميع بأنهم مواطنون، بغض النظر عن أديانهم وطوائفهم وأعراقهم، لن يفكر أحد منهم أبداً بالانفصال أو الاستقلال، بل سيدافعون جميعاً عن الوطن يداً واحدة.
اجعلوا بلادنا دولاً لكل أبنائها!
تعالوا نتقاسم الثروات والسلطات بدل تقسيم الأوطان!

اقرأ المزيد
٢٥ أكتوبر ٢٠١٤
إنها سوريا «يا غبي»!

مع التركيز الإعلامي الحالي على «داعش»، يزعم بعض الخبراء أن الأزمة السورية، التي تدخل حاليا عامها الرابع، قد تحولت إلى )عرض جانبي هامشي).
والحقيقة هي أن سوريا لا تزال في قلب الأزمة التي تزلزل الكيان السياسي لمنطقة الشرق الأوسط. وما لم تخرج الديمقراطيات الغربية مع حلفائها الإقليميين بسياسة حيال سوريا، فإن آمال العودة حتى إلى نوع ما من الاستقرار هناك سوف تكون آمالا بائسة. فتنظيم «داعش» هو النتيجة، في حين أن سوريا هي السبب.
حتى بالنظر إلى الأمر من زاوية عسكرية ضيقة فإن الحرب ضد «داعش» سوف تكون لها معان طفيفة خارج السياق الأوسع للمستنقع السوري. والسبب الكامن وراء ذلك في منتهى البساطة: بسط تنظيم «داعش» سيطرته، إما بصورة مباشرة أو من خلال التعاون مع حلفائه من الجهاديين، على ما يقرب من أربعين في المائة من الأراضي السورية، بدءا من البوكمال في الجنوب، على الحدود مع العراق المجاور، وحتى الحدود السورية – التركية، مرورا بميادين، ودير الزور، والرقة، ومنبج. وإذا ما سقطت بلدة كوباني فسوف يتسنى لتنظيم «داعش» تأمين حالة من التواصل الجغرافي في ما بين حلب، أكبر المدن السورية من حيث عدد السكان، وكردستان العراق من ناحية الشرق.
وعلى العكس من بقية الجماعات المتشددة، ومن بينها تنظيم «القاعدة» على سبيل المثال، يحاول تنظيم «داعش» التحول إلى وضعية الدولة ذات التعبير الإقليمي. وبالتالي، فإن هزيمة ذلك التنظيم تعني دفعه إلى خارج المناطق التي يسيطر عليها. ومن الناحية العسكرية، فإنه يمكن التعبير عن ذلك من خلال المقولة الشهيرة «الأعمدة الثلاثية: الاستيلاء، والتطهير، ثم السيطرة».
عند مرحلة ما، سوف ينجح شخص ما، ربما يكون الجيش العراقي، أو القوات الكردية، أو الجيش التركي، أو حتى الولايات المتحدة والقوات المتحالفة معها، في الاستيلاء على المناطق الخاضعة حاليا لسيطرة تنظيم «داعش». وسوف يشرعون بعدها في تطهير تلك المناطق من الوجود الداعشي. ولكن ما عساهم يفعلون عند الوصول إلى العمود الثالث: السيطرة؟
لا يمكن تسليم مثل تلك السيطرة إلى جماعات متشددة أخرى حتى لو لم تكن في مثل بشاعة تنظيم «داعش» من حيث إن ذلك سيلقي بظلال شديدة السوء على سكان المناطق المتضررة. وسوف يكون من المحال كذلك السماح للأكراد بالسيطرة على تلك المناطق لأن ذلك قد يعني ظهور دويلة تخضع لسيطرة حزب العمال الكردستاني (PKK) على مرمى حجر من الحدود التركية، وهو أمر لن تسمح به أو تتحمله أي حكومة في أنقرة.
أما الخيار الآخر، وهو تسليم المناطق مرة أخرى إلى ما تبقى من نظام الرئيس بشار الأسد، فإنه قد يثير المزيد من الإشكاليات.
اليوم، يسيطر الرئيس الأسد على أربعين في المائة من الأراضي السورية في دمشق وأجزاء من ضواحيها بالإضافة إلى الشريط الساحلي مع ما يقرب من خمسين في المائة من سكان البلاد في فترة ما قبل الحرب. وهناك عشرون في المائة تقبع تحت سيطرة القوات المعارضة لنظام الأسد، في حين أن ربع السكان يتألفون من المشردين والنازحين إلى البلدان المجاورة أو في داخل سوريا نفسها.
يقترح البعض في واشنطن وإسرائيل عقد صفقة ما مع الرئيس الأسد ومساعدته على إعادة بسط سيطرته على الأقاليم المستعادة من تنظيم «داعش». وتكمن المشكلة في أن أولئك الذين خلعوا عن رقابهم قبضة الأسد لن يخضعوا لسلطانه مجددا. وبمزيد من الأهمية، ليس لدى الأسد ما يكفيه من الأسباب لإعادة بسط سيطرته بفعالية.
والآن، ليس لدى أحد النفوذ القهري أو الحجة المقنعة للمطالبة بالسلطة الفعلية في سوريا. فإذا ما اعتلى أي من اللاعبين في لعبة الموت تلك سدة الحكم، ولأي سبب كان، فسوف ينازعه عليه الآخرون بشدة.
يقول بعض الخبراء إن سوريا باتت دولة ميتة بلا أمل في إنعاشها قلبيا على غرار متلازمة لازاروس. والطرح يفيد بأن سوريا، مثلها مثل باقي الدول في الشام، قد اتخذت موضعها على الخريطة من خلال الإمبريالية الغربية، لكنها لا تعكس التنوع العرقي والديني وطموحات المنطقة المعقدة.
قبل عشر سنوات، اقترح السيد جوزيف بايدن، النائب الحالي للرئيس الأميركي، أن يتحول العراق إلى ثلاث دويلات. واليوم، يلعب رفاقه بطائرة ورقية مماثلة فوق سوريا.
حقيقي أن أفضل طريقة لخوض الحرب هي القتال على أساس الوضع الحالي، من دون نظرة مستقبلية، مع التركيز الأساسي على هزيمة وتدمير العدو.. ومع ذلك، لا تعتبر الحرب ذات فائدة إلا إذا نجحت في تغيير حالة الوضع الراهن من خلال خلق حالة جديدة تصب في مصلحة المنتصرين.
والمحاربون الحكماء، في حين أنهم لا يتشتت انتباههم جراء المخاوف «مما يمكن أن يحدث بعدئذ»، فإنهم، مع ذلك، يولون بعض التفكير إلى الشكل المحتمل لحالة توازن القوى في ما بعد انقضاء الحرب.
واليوم، فإن أيا من الخيارات المطروحة للنقاش لا يُرجح له أن يخرج بنتائج مفيدة، حيث لا يمكن ترك تنظيم «داعش» في محل السيطرة، ولا يمكن نقلها كذلك إلى أشكال «أخف عنفا» من «داعش».. فاستبدال نظام حكم جهادي متطرف بآخر ماركسي لينيني تحت عباءة حزب العمال الكردستاني (PKK) سوف يكون بمثابة قفزة سريالية كالمستجير تماما من الرمضاء بالنار. كما أن استدعاء سيطرة الإبادات الجماعية لنظام الأسد إلى السلطة مجددا لن يكون من قبيل التصرفات اللائقة، على أدنى تقدير.
وتستمر فكرة تقسيم سوريا، وبالنسبة لتلك القضية التي تهم دولا أخرى في المنطقة، فهي تلقى المزيد من السخرية اللاذعة والاعتقادات الراسخة لدى الأوساط الغربية من أن العرب عاجزون عن حكم أنفسهم من دون العنف والإرهاب.
إن اعتبار سوريا دولة اصطناعية لا يعني شيئا البتة، حيث إن كل دولة تشرق عليها الشمس هي بالفعل دولة مصطنعة، بدءا من الولايات المتحدة الأميركية وروسيا مرورا بأستراليا والهند، فلا توجد دولة قومية أبدا سقطت من السماء تامة التشكيل والبناء. والخيار الواقعي الوحيد يكمن في تصور إحياء الدولة السورية في سياق جديد تماما. وأحد الحلول سوف يكون إقامة «ملاذات آمنة» تحت إشراف منظمة الأمم المتحدة تتلامس على الحدود مع تركيا ولبنان والأردن والعراق، مما قد يوفر أساسا يمكن من خلاله تعزيز الحوار الدولي الذي يهدف إلى تقاسم السلطة بهدف استعادة الدولة السورية. وسوف توجه الدعوة للحضور إلى أولئك الذين، داخل معسكر الأسد، لا يزالون يؤمنون بسوريا الموحدة. وسوف يلعب الأعضاء الدائمون في مجلس الأمن الدولي دور الوسطاء من أجل الوصول إلى تسوية وطنية.
دعونا نعتبرها حربا لتحرير سوريا ولاستعادة موضعها كدولة إقليمية حتى تكون الحملة ضد تنظيم «داعش» ذات فحوى.
من دون حل المعضلة السورية، فلن يدفع أي قدر من القصف الجوي أو حتى غزو القوات البرية بمنطقة الشرق الأوسط بعيدا عن حافة الكارثة. وبعبارة أخرى، إنها سوريا، أيها الغبي

اقرأ المزيد

مقالات

عرض المزيد >
● مقالات رأي
٢٤ يناير ٢٠٢٥
دور الإعلام في محاربة الإفلات من العقاب في سوريا
فضل عبد الغني - مؤسس ومدير الشبكة السورية لحقوق الإنسان
● مقالات رأي
١٦ يناير ٢٠٢٥
من "الجـ ـولاني" إلى "الشرع" .. تحوّلاتٌ كثيرة وقائدٌ واحد
أحمد أبازيد كاتب سوري
● مقالات رأي
٩ يناير ٢٠٢٥
في معركة الكلمة والهوية ... فكرة "الناشط الإعلامي الثوري" في مواجهة "المــكوعيـن"
Ahmed Elreslan (أحمد نور)
● مقالات رأي
٨ يناير ٢٠٢٥
عن «الشرعية» في مرحلة التحول السوري إعادة تشكيل السلطة في مرحلة ما بعد الأسد
مقال بقلم: نور الخطيب
● مقالات رأي
٨ ديسمبر ٢٠٢٤
لم يكن حلماً بل هدفاً راسخاً .. ثورتنا مستمرة لصون مكتسباتها وبناء سوريا الحرة
Ahmed Elreslan  (أحمد نور)
● مقالات رأي
٦ ديسمبر ٢٠٢٤
حتى لاتضيع مكاسب ثورتنا ... رسالتي إلى أحرار سوريا عامة 
Ahmed Elreslan  (أحمد نور)
● مقالات رأي
١٣ سبتمبر ٢٠٢٤
"إدلب الخضراء"... "ثورة لكل السوريين" بكل أطيافهم لا مشاريع "أحمد زيدان" الإقصائية
ولاء زيدان