مرّة جديدة، بعد مفاوضات «جنيف 2» (قبل عام)، تواجه قوى الثورة السورية اختبار المفاوضة مع النظام. الفارق أن المفاوضات السابقة كانت تركّز على إيجاد تفاهمات من فوق، أي بين النظام والمعارضة المتمثلة بـ «الائتلاف الوطني»، في حين يفترض أن تجري المفاوضات الحالية في الميدان، أي في نقاط التماس، وعلى أساس تجميد، أو فك الاشتباك، بين القوى المتحاربة، بحسب اقتراح ستيفان دي ميستورا، مبعوث الأمم المتحدة إلى سورية.
المشكلة أن قوى الثورة والمعارضة تواجه هذا الاستحقاق في أوضاع غير مريحة، حتى بالقياس للجولة التفاوضية السابقة، إذ إنها أقل وحدة، وأكثر ضعفاً، من السابق، سواء في هيئاتها السياسية أو تشكيلاتها العسكرية. فوق ذلك فهذه القوى باتت في مواجهة تحديات وتعقيدات جديدة، أهمها صعود «داعش» و «النصرة» في المشهد السوري، مع ما يخلفه ذلك من تداعيات تتعلق بتركيز الجهد الدولي في الحرب على الإرهاب.
وعلى رغم أن هذا التحول يثير المخاوف من احتمال انزلاق الوضع نحو تقديم طوق نجاة للنظام، إلا أن ردود الفعل على مقترح المبعوث الدولي تفيد بأن رفض قوى الثورة لفكرة المفاوضة باتت أقل حدّة من السابق، وأنها بدلاً من ذلك باتت تسعى إلى تطوير فكرة «التجميد» بحيث تشتمل على مناطق أخرى، إضافة إلى منطقة حلب، بحيث لا يتمكن النظام من استغلال هذه الخطوة لصالحه، وهو ما أكده أيضاً المبعوث الدولي في أحد تصريحاته. والفكرة الثانية التي تطرحها المعارضة تتمثل بضرورة أن تفضي هذه الخطة إلى حل سياسي، يتضمن تشكيل هيئة حكم انتقالية، بحسب مضمون اتفاق «جنيف 1» (حزيران/يونيو 2012) التي كانت رفضته وقتها جملة وتفصيلاً.
هكذا، احتاجت المعارضة السورية فترة زمنية قدرها عامان ونصف العام كي تصل إلى هذه المرحلة، مع كل الأثمان التي دفعها السوريون، والأهوال التي اختبروها، ومع كل التغيرات الحاصلة في المشهد السوري.
وفي الواقع شهت هذه الفترة أقصى قدر من العنف من قبل النظام، الذي تسبب ما نجم عنه بمصرع حوالى ربع مليون سوري، وتدمير عمران مدن سورية، وتشريد الملايين من بيوتهم. كما شهدت هذه الفترة تحول الثورة إلى العمل المسلح، وتصدر التيارات الإسلامية المتطرفة، وتطبيع الصراع بالصبغة الطائفية، وصولاً إلى الحضور الطاغي لتنظيم «داعش» في المشهدين العراقي والسوري. ونجمت عن كل هذه التطورات ظاهرتان، أولاهما، تتمثل بتآكل دور السوريين في الثورة، وفي تقرير أحوالهم ومستقبلهم، ناهيك عن تمزق مجتمعهم، وتشرد الملايين منه. وثانيتهما، تزايد حجم التدخلات الخارجية السلبية والمضرّة في الشأن السوري، من قبل «أصدقاء» النظام و «أصدقاء» الشعب، إلى درجة بات فيها العامل الخارجي هو المقرّر، لا سيما مع ارتهان النظام والثورة للأطراف الخارجية.
طبعاً ليست ثمة مشكلة من حيث المبدأ في التفاوض، ذلك أن أي صراع مهما كان نوعه لا بد أن يصل إلى مرحلة تتّجه فيها أطرافه إلى الحوار لإيجاد مخرج سياسي من الوضع الحاصل، لا سيما مع تعذر الحسم على أي منها بوسائل القوة.
وعلى الأخص، فهذا الأمر ينطبق على قوى الثورة والمعارضة. فهي المعنية أساساً بتأكيد شرعيتها وحضورها، والحفاظ على زخم التعاطف الدولي معها، وتحميل النظام مسؤولية رفض التفاوض. وقد كانت التجربة التفاوضية السابقة، في جنيف (مطلع هذا العام)، إيجابية، إذ لم تخسر المعارضة شيئاً بخوضها هذا الاختبار، بل حظيت بقبول وتعاطف كبيرين في الرأي العام، لا سيما مع الأداء المدروس والمتوازن الذي قدمته في المفاوضات وأمام وسائل الإعلام، بالقياس لأداء وفد النظام.
فوق ذلك فإن قوى الثورة والمعارضة، وبعد كل ما حصل، هي المعنية بمراعاة مصلحة السوريين، والتي تتضمن حض وقف إطلاق النار، وضمنه وقف القصف المدفعي والجوي، المنفلت من كل المعايير، الذي يدمر البيئات الشعبية الحاضنة للثورة، ويلحق أفدح الأضرار بالسوريين وبعمرانهم. بل إن قوى الثورة والمعارضة معنية بالعمل على تضمين اقتراح وقف إطلاق النار مطالب أخرى، من مثل الإفراج عن المعتقلين، وإدخال مواد تموينية وطبية إلى المناطق المحاصرة، وتمكين النازحين من العودة إلى بيوتهم. أي أن المطلوب التوسع في طرح المطالب ذات الطابع الميداني، والتي تخدم وقف تدهور مجتمع السوريين، وتمكنه من التقاط أنفاسه، على أن يتم ربط كل ذلك بأفق سياسي يتمثل بإقامة حكم انتقالي، بحسب مضمون بيان «جنيف 1».
القصد أن أي عملية تفاوضية على هذه الأسس لن تخل بمبادئ الثورة السورية، ولا بأهدافها، لا سيما أن مقولة «سورية الأسد إلى الأبد»، انكسرت وانتهت إلى الأبد، من الناحية العملية، والمسألة على هذا الصعيد باتت تتعلق بالوقت وبالظروف، وبتوفر العوامل المناسبة للتأسيس للمرحلة الانتقالية.
في الغضون فإن قوى الثورة والمعارضة معنية بإعادة ترتيب أوضاعها، وتنظيم صفوفها، وتقوية مجتمعها، والعمل على كل ما من شأنه تخفيض اثمان الصراع الدائر في سورية، لا سيما مع إدراك حجم التعقيدات والمداخلات والتحديات الكامنة فيه، إلى حين توافر المعطيات الدولية والإقليمية والعربية التي تسمح بالتغيير السياسي في سورية.
هل كانت مصادفة محضة أنّ ميخائيل بوغدانوف، نائب وزير الخارجية الروسي الحالي، الذي كان شخصية محورية في السفارة الروسية في دمشق مطالع ثمانينات القرن الماضي؛ رافق رفعت الأسد، صحبة اللواءين علي حيدر وشفيق فياض، على متن الطائرة التي أقلّت المجموعة إلى موسكو، ضمن إجراء «نفي» تمهيدي فرضه حافظ الأسد على الثلاثة، بعد استفاقته من غيبوبة المرض الشهيرة؛ تفادياً لصدامات عسكرية مباشرة كانت مرشحة للاندلاع بين ثلاثة من أهمّ تشكيلات النظام العسكرية: «سرايا الدفاع» من جهة، و»الوحدات الخاصة»، والفرقة الثالثة من جهة ثانية؟
وكم من الأسباب الوجيهة كانت قد توفرت لدى كبار موظفي السفارة الأمريكية في دمشق، قبل أن يقرروا أنّ زميلهم الروسي يستحق صفة «المستر سوريا»؛ وأنّ الإصغاء إلى ما يسرّبه من معلومات، عامداً بالطبع، وعفو خاطر الزمالة نادراً، يظلّ كنزاً ثميناً حول الحلقة الأعلى المحيطة بالأسد، الأب آنذاك، خاصة في صفوف ضباط الجيش والأمن؟ ولماذا حرص بوغدانوف على إبلاغ زملائه الأمريكيين أنّ موسكو «سعيدة جداً» لأنّ الأسد استقرّ على اختيار ابنه بشار، وليس أيّ مدني أو عسكري آخر، خليفة له؛ بعد وفاة شقيقه باسل في حادث سيارة، سنة 1994 (كما تروي برقية من السفارة الأمريكية مؤرخة في 7/2/1994، كشفتها منظومة «ويكيليكس»)؟
من الإنصاف الافتراض، استطراداً، أنّ العهدة إلى بوغدانوف بإدارة الملفّ السوري، حتى على حساب رئيسه المباشر، وزير الخارجية سيرغي لافروف؛ هو طراز من تطبيق القاعدة العتيقة، حول وضع الرجل المناسب في المكان المناسب. ومنذ انطلاق الانتفاضة الشعبية في سوريا، أواخر آذار (مارس) 2011، وحتى يوم أمس، حين اختتم بوغدانوف جولة في بيروت واسطنبول ودمشق؛ مارس «المستر سوريا» مهارات شتى، متباينة متغايرة بالضرورة، ولكنها لا تكاد تغادر أسلوباً واحداً مزدوج الفعل: طاسة ساخنة تارة، وأخرى باردة طوراً، كما في المثل الشعبي الشهير.
في بيروت، على سبيل المثال الأوّل، أسمع حسن نصر الله، الأمين العام لـ»حزب الله»، كلاماً حول «التكفير» و»الإرهاب» و»المقاومة» وإيران ودور الحزب… لا يُعلى عليه، ولا يناقض كثيراً ما درج نصر الله نفسه على استعراضه، واجتراره، في خطبه حول سوريا، خاصة بعد الانتفاضة. وحين اجتمع، في مثال ثانٍ، مع وفود «المعارضة السورية الداخلية»، من حسن عبد العظيم، المنسق العام لـ»هيئة التنسيق الوطنية»، إلى ممثلي «تيار بناء الدولة» و»ملتقى الحوار الوطني السوري»؛ توصل مع هؤلاء إلى بيانات لا تخرج أبداً عن اللغة الخشبية ذاتها، حول «ضرورة العمل على توحيد الجهود من أجل إطلاق الحل السياسي في سوريا».
وحتى حين بدا لقاؤه مع هادي البحرة، رئيس «الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة السورية»، وبعض أعضاء الهيئة السياسية للائتلاف، مختلفاً أو خلافياً؛ رشق بوغدانوف على ممثلي «المعارضة السورية الخارجية» طاسات مماثلة، أو تكاد، فاتفق معهم على «ضرورة الإسراع بإيجاد الطرق للدفع نحو عملية سياسية تفاوضية تؤدي إلى تحقيق تطلعات الشعب السوري»، كما توافق المتباحثون على «أن يشكل بيان جنيف 2012 إطاراً تفاوضياً مقبولاً، تُبنى عليه أي عملية تفاوضية مستقبلية»، كما جاء في الإعلان الرسمي الذي صدر عن الائتلاف.
المثال الثالث هو لقاء بوغدانوف مع الأسد، في دمشق، حيث نقل للأخير رسالة شفوية من الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، «حول استمرار روسيا في دعمها ووقوفها إلى جانب الشعب السوري»، كما «أطلعه على مجمل اللقاءات التي عقدها أخيراً في إطار الجهود التي تبذلها روسيا لإجراء حوار سوري ـ سوري»؛ وفي المقابل، «أكد الأسد أن سوريا تتعامل بإيجابية مع الجهود التي تبذلها موسكو بهدف إيجاد حل للأزمة»، استناداً إلى «سانا»، وكالة أنباء النظام. وكأنّ زيارة دمشق كانت مجرد استطالة للقاء بوتين ولافروف مع وزير خارجية النظام، وليد المعلم، في سوشي، مؤخراً، حيث سادت اللغة الخشبية أيضاً: أعرب المعلم عن ارتياحه لنتائج المباحثات، معلناً أنّ بوتين أكد تصميم روسيا الاتحادية على التعاون مع سوريا، ومع الأسد شخصياً، «من أجل الانتصار على الإرهاب»، و»تعميق علاقات الشراكة الاستراتيجية القائمة بين البلدين»؛ على ذمة «سانا»، دائماً.
غير أنّ بوغدانوف، ولأنه أحد أذكى دبلوماسيي موسكو، وأعلاهم خبرة بالملفّ السوري، وبمعمار النظام وطبائعه تحديداً؛ لم يباشر هذه الجولة لكي يهنىء اللبنانيين بالذكرى السبعين للعلاقات الدبلوماسية بين موسكو وبيروت، أو ليستمتع ببعض مفاجآت ربع الساعة الأخير في الضاحية الجنوبية قبيل نقله للقاء نصر الله، أو ليكحّل عينيه بمرأى ممثّلي المعارضة السورية «الداخلية» و«الخارجية»، أو يستعيد بعض ذكرياته الثمانينية مع الفتى بشار الأسد… لقد جاء، أغلب الظنّ، لأنّ موسكو أخذت تستشعر رياحاً مختلفة في أجواء أربع سنوات من المساندة العمياء للنظام السوري؛ لم تعد تليق ـ على أصعدة التكتيك أوّلاً، ثمّ الستراتيجيات العليا الجيو ـ سياسية ـ بقوّة عظمى: هي الثانية على مستوى كوني، وهي مأزومة مثل عشرات الدول النامية!
ثمة، بادىء ذي بدء، هذا الانزلاق الأمريكي التدريجي نحو «منطق تدخّل» موضوعي في سوريا، أسوة بالعراق؛ لن تفلح عقيدة الرئيس الأمريكي باراك أوباما في ضبطه عند الحدود التي تشبث بها سيد البيت الأبيض منذ الأسابيع الأولى لاتضاح مأزق النظام السوري الشامل. وثمة، بالتضافر مع هذا، منطق تصعيدي أمريكي، تلتقي فيه أوروبا أيضاً، بصدد دفع موسكو إلى مضائق خانقة، عبر منعرجات الملف الأوكراني والعقوبات الاقتصادية وتقلبات أسعار النفط.
وثمة، ثالثاً، الأمدية القصوى التي يمكن أن تلتزم بها موسكو في دعم الأسد، بالقياس إلى الحاجات المتزايدة لنظام آخذ في التآكل والتبعية والارتهان، من جهة؛ وقدرة إيران، الحليف الثاني للأسد، على التخفيف من أعباء الكرملين في هذا الصدد، بالنظر تحديداً إلى أنّ بارومتر طهران في مساندة الأسد ليس مفتوح السقوف، حتى إذا كان مرتفعاً، وأنّ مفاوضات الملفّ النووي مع الغرب ذات صلة وثيقة بمدرّجات الصعود أو الهبوط في المؤشر، من جهة ثانية.
بذلك فإنّ مبادرات بوغدانوف، أو بالأحرى: طاساته، تظلّ أقرب إلى الرقص على حبال زلقة، من شاهق تكتنفه مخاطر السقوط دائماً؛ حتى إشعار آخر، غير محدد، وليست موسكو هي الضابط الأوّل لتوقيتاته. وليست تلميحات بوغدانوف إلى إمكانية التحاور مع أمريكا، إذا طُبخت مبادرة معقولة حول حوار سوري ـ سوري ترعاه موسكو (مقابل تصريحات لافروف، بأنّ واشنطن تجهد ضمناً لإسقاط الأسد)؛ إلا وجهة أولى، منكشفة، حول مزالق ذلك الرقص على الحبال.
والودّ القديم الذي جمع الدبلوماسي الروسي المخضرم بزملائه الأمريكيين، أيام السفارة في دمشق، قد لا يفيد كثيراً في شدّ حبال الرقص الراهن، أو تفادي الانزلاق؛ إذْ قد تكون نوايا معاكسة هي الحال بالفعل، وأنّ الزملاء يتربصون أكثر مما يعينون!
والمرء، مجدداً، يتمنى أن تلعب موسكو أي دور حيوي يكسر نظام القطب الأمريكي الواحد، لولا أنّ التعويل على روسيا الراهنة هو ضرب من الاتكاء على قوّة عالقة في شباك مآزقها المحلية والوطنية ذاتها، قبل مآزق الكون. وليس جديداً التذكير بأنّ روسيا تعاني من وتضخّم وعجز وبطالة، وعصابات مافيا، وتحديث ليبرالي شائه، ومؤسسة رئاسية احتكارية شبه دكتاتورية… وهيهات، بالتالي، أن يفلح بوغدانوف في إتمام رقصة واحدة، في سوريا تحديداً، على حبال فُتلت من مادّة الهشاشة هذه!
كتب هذا المقال قبل صدور البيان الختامي للقمة الخليجية، لكنه يطرح رؤية في ملف مهم جدا لدول الخليج العربي، هو تركيا، الدولة الصاعدة والأمة الناطقة بلغتها والتي تستعيد اليوم حضورها في آسيا الوسطى والبلقان وغيرهما، وتمثل بحد ذاتها محورا إقليميا قويا في الشرق الإسلامي والمشرق العربي.
لذلك يجدر بنا أن نقرأ هذا الصعود التركي الجديد والمتماسك قبل الاستطراد في مصالح الخليج العربي المشتركة أو المتقاطعة مع أنقرة، وهو يطرح اليوم في هذا المنظور السياسي الإقليمي المهم جدا للخليج العربي، في ظل عواصف وتغيرات كبيرة تعيشها المنطقة وتداخلات الحدود والصراعات.
كما أن هذه الرؤية تأتي في ظل ما يُطرح من أطراف خليجية إعلامية أو تلميحات وتصريحات سياسية، بأن على دول الخليج العربي التقدم نحو مد جسور علاقات مكثفة مع إيران ومناهضة لتركيا، باعتبار أن طهران مؤتمنة ومتحفزة لعلاقات شراكة مع الخليج العربي. فهل هذا الميزان صحيح ودقيق؟
"الخلاف الكبير مع تركيا يتركز أساسا حول موقفها من الربيع العربي ودعم تطلعات شعوبه، وهو موقف مبدئي وإنساني لا تجسيد له في أي صور سياسية تنفيذية، رغم أن أحداث وعمليات إسقاط الربيع العربي تتواصل دمويا وسياسيا في كل أقطاره"
الحقيقة أن التحمس العاطفي نحو إيران لتقديم تنازلات لها على الساحة الخليجية، والتجاوب معها فيما تصيغه مع الولايات المتحدة لمستقبل سوريا والعراق أو لبنان، مناكفة لأنقرة أو متابعة لرغبة واشنطن في احتواء دول الخليج العربي مع طهران لتسوية الملفات الإقليمية.. هذا التحمس لا يخلو من سطحية لا تتماشى مع منظور المصالح الإستراتيجية المطلوب اعتمادها.
وهذا لا يعني أن أبواب التفاوض والحوار مع إيران ممنوعة، فهذا يخالف أصل المسار الدبلوماسي وسياساته، لكن المقصود أن طهران اليوم والأمس متمكنة من مفاصل حساسة في المنطقة وتضغط باتجاه يقلص الحضور العربي وحقوق الشعوب، مقابل قوة نفوذها واستمرارها في ضخ أسباب الاحتقان الطائفي الذي تعيشه عدة دول وترى فيه طهران حصان طروادة لن تتخلى عنه.
إن إعادة كشف الحساب لآخر الملفات بين طهران والخليج العربي في اليمن أظهر لدول الخليج العربي وخاصة السعودية التي غيرت من تعاطيها مع المشهد الأخير، حجم ما يمكن أن تحققه جماعات إيران السياسية الطائفية في توازنات اليمن وعلاقته بالعمق العربي الإسلامي والوطني الاجتماعي في الخليج العربي، والملفات كُثر في هذا الاتجاه، الذي يؤكد أن قدرات الخليج العربي معدومة تفاوضيا لأنها فاقدة لبطاقات النفوذ مع طهران، وهذا ما يثير علامات استفهام كبيرة عن برنامج التنازلات المقترح لطهران.
في المقابل، يتركز الملف الخلافي الكبير مع تركيا أساسا حول موقفها من الربيع العربي ودعم تطلعات شعوبه، وتثبيت موقفها في إطار مبدئي وإنساني دون تجسيده في أي صورة سياسية تنفيذية، رغم أن أحداث وعمليات إسقاط الربيع العربي تتواصل دمويا وسياسيا في كل أقطاره، ولعل موقف تركيا المبدئي والإعلامي هو سبب "الاحتقان" الحاصل في علاقاتها مع بعض الأطراف العربية.
كما أن العجز عن إسقاط حكم حزب العدالة بعد الحسم في الانتخابات البلدية والرئاسية، وقوة بنائه السياسي والالتفاف الشعبي معه، يعطي مؤشرا على أن هذا الثبات السياسي في تركيا سيأخذ مدارا مستقرا لسنوات أمام عواصف المنطقة، ولديه قدرات لمواجهة أزماته الداخلية ومحاولات أي محاور لزج تركيا إلى منطقة صراع خارج قرار سياستها السيادية.
وتلك قضية مهمة بالنسبة للمجلس الخليجي ضمن أعراف التعامل الدبلوماسي، فالوضع المستقر في تركيا يتطلب الاعتراف به والتعامل معه في إطار مصلحي، وأي مراقب يُدرك أن البراغماتية حاضرة في سياسة أنقرة، بل وتتعزز في ظل إمساك منظر العهد الجديد أحمد داود أوغلو بالبرنامج الحكومي الشامل وتناغمه مع الرئيس رجب طيب أردوغان.
المنطق ذاته هو ما تتعاطى بواسطته مع الأتراك، أوروبا وأميركا وروسيا كما اتضح في زيارة بوتين الأخيرة لتركيا، فلماذا يُطلب من دول الخليج أن تنزع إلى مواجهة أو تصعيد مع أنقرة؟
"الاحتواء المزدوج لتنظيم الدولة وإيران يمكن تحقيقه عبر شراكة تركية خليجية لا يُقصد منها مواجهة عسكرية مع إيران ولا احتقان طائفي، ولكنه التعاط الفاعل مع حقيبة ملفات من العراق إلى اليمن وصولا إلى ضمان أمن إستراتيجي في البحرين"
إن المواقف المبدئية لتركيا التي تتناغم مع مشاعر الرأي العام العربي، ونجاح الديمقراطية التركية لا علاقة لهما بجداول الدول التي تسعى لتحقيق مصالحها وتختلف مع أنقرة في هذه الملفات، واختيار الحزب ذي الأصول الإسلامية -ضمن تحولات كبرى شهدتها تركيا منذ سقوط الدولة العثمانية وعزل سلاطينها- سبق الربيع العربي بسنوات.
أما بالنسبة لدول الخليج العربي فإن متطلبات المرحلة تفرض حاجتها إلى محور رديف أو داعم أو صديق في ظل هذه التحولات الكبرى، ولذلك يفترض أن يتم البناء على إمكانياته وعلاقاته وجسوره المتاحة في الجوار وليس نقضها، وإن القاعدة الاجتماعية السياسية في تركيا اليوم منفصلة تماما عن أي استقطاب أو صراع ذي طبيعة طائفية أو قومية أو عرقية مع دول الخليج العربي، مما يعني غياب أي مهددات تدخل سلبية مع الخليج العربي، وقصة عودة السلطنة هي مناكفات إعلامية ساخرة لا أكثر، فتركيا اليوم تُصنع دستوريا بدولة حديثة وبرلمان لا بفرمانات سلطانية.
إن علاقة تركيا الداخلية بطوائفها قوية ومستقرة حقوقيا وسياسيا، وأتباع المذهب الاثني عشري الشيعي لهم كافة الحقوق الوطنية الدستورية وينالون اعتناء في مناسباتهم الدينية المنظمة قانونيا، وليس لديهم صدامات مع حزب العدالة الحاكم، في الوقت الذي تخالف فيه أنقرة سياسات إيران التوسعية في المنطقة فتدير صراعها السياسي معها بمعزل عن أي ضغط على أبناء الطائفة رغم تداخل البعد الثقافي والأيدولوجي.
هنا ستقفز العديد من الملفات لمصالح الخليج العربي مع أنقرة لتستدعي إقامة حوار إستراتيجي وتنسيق للمواقف في عدة ملفات ستحصد فيها دول الخليج العربي فوائد كبيرة، خاصة في حجم دولة مركزية عربية مهمة كالسعودية، فما يمكن أن يُطلق عليه الاحتواء المزدوج لتنظيم الدولة الإسلامية وإيران يمكن تحقيقه عبر شراكة تركية خليجية لا يُقصد منها مواجهة عسكرية مع إيران ولا احتقان طائفي، ولكنه التعاطي الفاعل مع حقيبة ملفات من العراق إلى اليمن وصولا إلى تأمين أمن إستراتيجي في البحرين عبر هذه الترويكا المهمة والحيوية للجانبين التركي والخليجي العربي.
ومن المهم هنا في خاتمة المقال أن نذكر بأن قاعدة الاستقطاب الدبلوماسي للمصالح مسار مهم جدا لدول الخليج العربي التي هي بحاجة اليوم بعد معالجة أزمة انقسام المجلس، ألا تخسر بعدا إقليميا مهما كتركيا بفنتازيا إعلامية صاخبة، فأخطاء اليوم تفقدك الدعم لكوارث الغد.
حملت زيارة الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، تركيا، وقد التقى فيها نظيره التركي، رجب طيب أردوغان، أقاويل كثيرة، بتوقيتها ومضمونها، على الرغم من الإعلان الرسمي عن زيادة التبادل التجاري بين البلدين. فالعلاقات التجارية، والتي تشكّل حاجة لهما، ولا سيما في مجال الطاقة، وخصوصاً الغاز الروسي الذي يصل عبر الأنابيب التركية، إضافة إلى حاجة روسيا لرفع العزلة عنها، بعد العقوبات الأخيرة التي فرضها الغرب على خلفية الملف الأوكراني. ذلك كله طرح أسئلة عديدة، ليس فقط حول الحاجة الاقتصادية، بل العلاقات السياسية، خصوصاً أن الخلاف لا يزال قائما على خلفية الموقف من الأزمة في سورية، وموقف أردوغان شخصيا الداعي إلى إطاحة الرئيس السوري بشار الأسد.
جاءت الزيارة، أيضاً، بعد سلسلة لقاءات عُقدت في موسكو، وجمعت المعارضة السورية كما النظام، كلّا على حدة، من أجل استطلاع الأجواء، لإعادة البحث في جنيف1، واستكمال العملية السياسية. ولو أن التوقيت يبقى رهناً ببقية اللاعبين الإقليميين والدوليين، وفي مقدمتهم الولايات المتحدة وإيران والسعودية وتركيا وأوروبا، كما في الظروف على الأرض، ولا سيما أن الموفد الدولي، ستيفان دي ميستورا، كان قد اقترح تجميداً للمعارك في حلب، وهو طلب لم يتم اعتماده بعد، إلا أن مراقبين عديدين رأوا في هذا الطلب موقفاً دولياً إيجابياً، باتجاه تشجيع العملية السياسية.
" تحمّل روسيا موضوع انخفاض أسعار النفط للسعودية والولايات المتحدة الأميركية، للضغط عليها وعلى طهران "
تم في زيارة بوتين إلى تركيا، والتي سبقتها لقاءات لوزير الخارجية السعودي، سعود الفيصل في موسكو، البحث، أيضاً، في الملف السوري، إضافة الى موضوع انخفاض أسعار النفط الذي تحمّله روسيا للسعودية والولايات المتحدة الأميركية، للضغط عليها وعلى طهران، نتيجة خسارتهم العائدات النفطية، تبعتها زيارة للموفد الرئاسي الروسي، ميخائيل بوغدانوف، إلى لبنان، وهي محطة مهمة في إطار الدور الروسي الاستكشافي.
زيارة بوغدانوف التي حرص فيها على عقد اجتماعين مع حزب الله، مع رئيس كتلة الوفاء للمقاومة، النائب محمد رعد، ومع الأمين العام للحزب، السيد حسن نصرالله، أراد منها الموفد الروسي البحث في التطورات السورية الميدانية والاستماع لوجهة نظر حزب الله المشارك على الأرض، كما البحث في ملف الإرهاب، لما يشكله هذا الملف من هاجس للإدارة الروسية، بعد المعاناة التي عاشتها موسكو، نتيجة العمليات الإرهابية، وهي التي كانت قد طرحت الملف أولوية في مؤتمر جنيف2 الذي بحث في العملية السياسية السورية.
الدبلوماسي بوغدانوف، وعلى الرغم من كلامه عن دعم الاستقرار في لبنان، وحديثه عن قناعته بسياسة النأي بالنفس وإعلان بعبدا، إلا أنه لم يشأ إعطاء انطباع بأنه يحمل مقترحات معينة، فيما يتعلق بالأمور العالقة في الداخل اللبناني، ولا سيما موضوع رئاسة الجمهورية، لأنه جاء مستطلعا الشأن السوري من البوابة اللبنانية، ومن هنا، اهتمامه الفعلي للقاء قيادات حزب الله.
صحيح أن روسيا موجودة في المنطقة، ولديها قواعدها في سورية، وصحيح أن طموحاتها بلعب دور سياسي في المنطقة مشروعة، نتيجة علاقاتها مع النظام في سورية، إلا أن هذه الجولة الاستطلاعية لبوتين في تركيا لم تستطع أن تتجاوز الحاجة الاقتصادية للبلدين، مع فتح الأفق المستقبلي في السياسة، من أجل إدارة الخلاف في الملف السوري، الذي لا يزال الحل السياسي فيه يحتاج إلى أكثر من عمليات الاستطلاع.
خلال الأشهر الاثني عشر الماضية تباهى نظام الأسد مراراً وتكراراً بثقته إزاء تحسّن وضعه الاستراتيجي. فقد حفّزه التقدّم البرّي في بعض الجبهات، خصوصاً حول حلب، وفي أجزاء من ريف حماة وحمص، وفي منطقة القلمون والمناطق المجاورة للعاصمة دمشق، على الحفاظ على نهجه المتشدّد في التعاطي مع الثورة السورية العنيدة. ويركّز هذا النهج على العمل العسكري، إلى الحدّ الذي يتم فيه الاستبعاد الكامل لأي عملية سياسية قد تنطوي على إصلاحات ذات صدقيّة في أي مجال من مجالات السياسة العامة، ناهيك عن تقاسم ذي معنى للسلطة. بيد أن النظام بات يعاني في شكل متزايد من التمدّد الزائد عسكريّاً وماليّاً، بالتالي فإن رفضه تغيير نمط تعامله سياسياً مع حاضنته الشعبية، ناهيك عن خصومه، يعرّضه للخطر.
على رغم أهمية المكاسب التي حققها النظام، وإمكان أن تكمِل قواته تطويق مدينة حلب، يبدو جلياً أنه أصبح أكثر ضعفاً في أجزاء أخرى من البلاد. فقد حقق تنظيم «الدولة الإسلامية» (داعش) مكاسب إضافية في شرق محافظتي حماة وحمص، حيث يمكن نظرياً أن يخترق خطوط النظام ليندفع باتجاه إدلب أو القلمون. كما حققت التحالفات المحلية بين بعض الثوار المعتدلين و «جبهة النصرة» المرتبطة بتنظيم «القاعدة» مكاسب كبيرة في الجنوب وجنوب غربي دمشق، وعادت إلى الظهور في منطقة القلمون. بالتالي، فإن هذا الوضع يجبر النظام على وقف هجماته في الشمال ويشتّت جهوده العسكرية، في وقت يتعيّن عليه أيضاً مواجهة الضغط المتزايد من جانب «داعش» على معقله الأخير المتبقي في مدينة دير الزور في الشرق.
لقد أشار كثرٌ من المعلقين إلى أن النظام يستدعي جنود الاحتياط الذين أدّوا أصلاً خدمتهم العسكرية، وينقل المجندين من «قوات الدفاع الوطني»، حيث سمح لهم بالخدمة سابقاً، إلى الجيش النظامي. ومغزى ذلك هو أنه يشير إلى تفاقم النقص في عديد القوى المقاتلة. بالتالي، أصبح من الصعب على قوات النظام دعم وإسناد خط المواجهة في جميع النقاط، في آن واحد. فقد اضطر الجيش مراراً وتكراراً إلى إرسال وحدات قتالية مجرَّبة ومتمرِّسة من نقطة ضعيفة إلى أخرى بطريقة أشبه بعمليات الإطفاء، كلما تراجعت الميليشيات غير النظامية التي يعتمد عليها. وتؤكد المصادر العسكرية من الداخل أن التردد في الاستيلاء على مدينة حلب، وهي الجائزة الكبرى، إنما يدل على افتقار الجيش الى الفرق الكافية لإنجاز هذه المهمة المكلفة بشرياً.
بيد أن النظام لم يفقد إلى الآن تفوقه على معارضيه. فكثافة وتحصين مواقع الجيش وتدفق التكنولوجيا العسكرية الروسية الجديدة تعني أن ثمّة معارك صعبة تنتظر «داعش» قبل أن ينتزع حقول الغاز نهائياً في «جبل الشاعر»، التي هي الآن تحت السيطرة المحكمة للجيش مرة أخرى، أو دير الزور من النظام. لكن، حتى لو أمكن النظام رد تقدم الثوار أو «داعش» في منطقة أو أخرى، فإن أي خسارة كبيرة جديدة للأرواح في صفوف الجيش، كما حدث في مطار الطبقة في آب (أغسطس) الماضي، أو أي تهديد مباشر للمناطق الموالية، سيكون له أثر نفسي قوي على القاعدة المجتمعية للنظام التي بدأت تُظهر على مدى أشهر تزايد مشاعر الاستياء إزاء الخسائر البشرية المتواصلة، وتردّي الأوضاع المعيشية والاقتصادية.
وفي الوقت ذاته، فإن قدرة النظام على احتواء المعارضة داخل الدوائر الموالية له، من طريق الإعانات والتعويضات لأسر القتلى على سبيل المثل، آخذة في التناقص بسبب العجز المالي المتفاقم. وهذا أيضاً يزيد من صعوبة استيراد احتياجاته من الوقود والطاقة، حيث أدّت الضربات الجوية التي تشنّها الولايات المتحدة على مصافي النفط التي يسيطر عليها «داعش» في الشرق، والهجمات التي يشنّها التنظيم على محطات معالجة الغاز الطبيعي التابعة للنظام، إلى خفض إنتاج الكهرباء مع بدء فصل الشتاء. وقد انخفضت المساعدات الإيرانية، ومن المستبعد أن تعود إلى مستوياتها السابقة في ضوء الانخفاض الحادّ في أسعار النفط العالمية. ويقال كذلك إن روسيا رفضت طلب النظام أخيراً توفير تسهيلات ائتمانية جديدة بقيمة بليون دولار، وهي تكتفي بتقديم كميات أصغر من المعونة والاستثمارات. ويقدّر بعض الاقتصاديين أن أموال النظام ستنفد قبل نهاية عام 2015. وحتى لو كانت تلك التقديرات تبالغ في حجم التحدّي، أو تقلِّل من حجم الاحتياط المالي المخفي، إلا أنها تقلّص خيارات النظام الخاصة بمواصلة سياساته الحالية إلى أجل غير مسمّى.
لا ترقى المعارضة في الأوساط الموالية حتى الآن إلى درجة تشكيل أزمة سياسية حادّة. بيد أن هذا الأمر قد يتغيّر مع بروز تحوّلات استراتيجية على الأرض. ذلك أن عودة «جبهة النصرة» إلى الظهور باعتبارها قوة متمرّدة بارزة، على الأخص، تشير إلى أن الصراع المسلح في جزء كبير من سورية (باستثناء الجيوب الكردية) قد يتقلّص ليقتصر على الأطراف المسلحة الرئيسية الثلاثة خلال الأشهر المقبلة: النظام وتنظيم «الدولة الإسلامية» و «جبهة النصرة» (التي قد تعمل كإطار تنسيقي لجماعات الثوار المعتدلين التي توافق على العمل معها). وبدلاً من مواجهة تمرّد مسلح كان استثنائياً في تفتّته، وبطء تطوّره العملياتي والسياسي، سيواجه النظام حركتين مسلحتين، تنظيم «الدولة الإسلامية» و «جبهة النصرة»، أظهرتا مستوى أعلى بكثير من قدرة القيادة والسيطرة.
على المدى القصير، سيصوّر النظام هذا أنه دليل لا جدال فيه على ما ادّعاه طوال الوقت من أن معارضيه الحقيقيين هم كل المتطرّفين الجهاديين، ويقدّم نفسه مرة أخرى كحليف واضح وطبيعي للتحالف الذي تقوده الولايات المتحدة لمحاربة «داعش». وقد علّق الأسد آماله على مثل هذا التحالف بوضوح، عندما تحدث إلى مجلة «باري ماتش» الفرنسية في 28 تشرين الثاني (نوفمبر) الماضي، مدّعياً أنه «لا يمكن تدمير الإرهاب من الجو، ولا يمكن تحقيق النتائج على الأرض من دون وجود قوات برّية تعرف تفاصيل المناطق الجغرافية وتتحرك بالتزامن مع الضربات الجوية».
لكن، إذا خيّبت الولايات المتحدة وشركاؤها في التحالف آمال الأسد، كما هو مرجّح، فسيتعرّض النظام لضغوط متزايدة داخلياً. فبعد أن فقد الميزة الحاسمة المتمثّلة بتفوّقه النسبي على التمرّد المسلح في السابق، سيحتاج إلى إيجاد موارد محلية وخارجية أكبر. غير أن هذه الموارد بلغت حدّها الأقصى فعلياً، ولا تمكن زيادتها من دون دفع ثمن سياسي باهظ. وعلى المستوى المحلي، سيجهد النظام للاحتفاظ بسيطرته الفضفاضة على الكتل العسكرية والاقتصادية شبه المستقلّة التي شجّع على ظهورها كوسيلة لتحويل عبء الدفاع وإيجاد الإيرادات في المناطق الموالية. وإذا كان النظام يبدو غير قادر على حماية المراكز السكانية الضعيفة أو تخفيف الضغوط المالية على الجماعات الموالية، أو غير راغب في تحقيق كل ذلك، فقد تبدأ جبهته الداخلية بالتداعي.
لا تزال هذه اتجاهات محتملة، ليس أكثر. وقد ردّ النظام حتى الآن على هذه التحديات بتكثيف التدابير الأمنية وتركيز السيطرة في يد الأسد. وعلى رغم أنه استخدم تلك السيطرة في بعض الأحيان لتعزيز سياسة «المصالحة» كما يطلق عليها النظام في بعض ضواحي دمشق، إلا أن سعيه إلى السيطرة على أدق التفاصيل، يكشف عجزه عن ضمان انصياع المجتمع للسياسات الحكومية، مثل الامتثال للخدمة العسكرية، أو الأداء الفعّال من جانب أجهزته القسرية المختلفة. وحين يتباهى بعض كبار الضباط بأن الجيش سينتقل إلى استرجاع الرقة بعد استعادة حلب، فإنهم يبالغون في تقويم قدرات الجيش، ويتغاضون عن محدودية موارد النظام، ويقلّلون من شأن خطر فقدان عاصمة محافظة ثانية في دير الزُّور. وفي السياق نفسه، فإن آمال النظام بإقناع رجال الأعمال السوريين بإعادة الرأسمال الهارب من الخارج إلى سورية واستثماره في منطقة حلب الصناعية وغيرها، لم ولن تأتي سوى بنتائج متواضعة.
من الناحية النظرية، يمكن النظام أن يخفّف من أعبائه المادية والسياسية عبر الانخراط جدّياً في مقترحات الحدّ من مستويات العنف في البلاد، سواء من خلال هدنة عامة أحادية الجانب، أو عبر «تجميد القتال في حلب» الذي دعا إليه ستيفان دي ميستورا مبعوث الأمم المتحدة الخاص إلى سورية. فمن شأن ذلك أن يظهر استجابة مُقنعة لرغبات الدوائر الموالية التي يُطلب منها أن تتحمّل العبء الأكبر ليس لمعركة لا نهاية لها وحسب، بل لمعركة يزداد فيها الأعداء قدرة مجدّداً.
يبدو أن النظام يعتقد أن الدوائر الموالية لا خيار لها سوى الولاء والمضي في القتال، غير أن هامش المناورة أمامه يضيق. فهو يدرك أن القبول بإجراء الإصلاحات الحقيقية سيضعه على الدرب نحو تفكيك نفسه، بيد أن إصراره على اتّباع نهج عسكري حصراً يقرِّبه من النقطة التي لا يمتلك فيها حاضنة سياسية أو اجتماعية محلية. هذه هي نقطة ضعفه الكبرى.
ليست المسألة مثيرة فحسب لحساسيات الدول العربية المشاركة في «التحالف الدولي ضد الإرهاب»، ولا هي تتعلّق فقط بـ «عدم تنسيق» معلن و»تنسيق» فعلي غير معلن بين الولايات المتحدة وإيران، بل إنها مسألة خداع تتعرض له كل دول «التحالف». والأهم أنها ترتبط في شكل وثيق بإمكان نجاح أو فشل «الحرب على داعش» ليس فقط في جانبها العسكري الراهن بل خصوصاً في شقّها السياسي - الاجتماعي بعيد المدى. فكل الدول متفقة، أو أنها على الأقل تعرف، أن إيران لعبت «ورقة» الإرهاب لتدعيم نفوذها في العراق وسورية وتلعبها الآن لحماية هذا النفوذ. وبالتالي فهي أولت الجو إلى مقاتلات «التحالف» فيما تفلت ميليشياتها على الأرض، وها هي تقحم أيضاً طيرانها. أما «النفوذ» فهو ما رأيناه من تخريب للدولة والمؤسسات والاقتصاد والعمران والثقافة والتعايش بين مكوّنات الشعوب في العراق وسورية ولبنان واليمن و... قطاع غزة (بدور إيراني مكمّل للتخريب الإسرائيلي).
لم يقل الأميركيون لماذا أخفوا علمهم بالتدخل الإيراني المباشر في الحرب. ولم يوضحوا، بعد انكشافه، لماذا كانت لديهم أكثر من إجابة مرتبكة، صحيحة أو كاذبة. ولو لم تظهر طائرة «فانتوم اف-4» الإيرانية على قناة «الجزيرة» وهي تقصف في ديالى، هل كان الأميركيون سيواصلون التغاضي عن التدخل. وبعدما أصبح معروفاً قال ناطق البيت الأبيض: «لم تتغير تقديراتنا في شأن دواعي التعاون مع الإيرانيين. لن نفعل هذا». أما «البنتاغون» فترك لـ «مصادر» تأكيد الواقعة في شكل غير رسمي، قبل أن يعود فيؤكدها. وأما وزير الخارجية جون كيري الذي كان يترأس اجتماعاً لنظرائه من دول «التحالف» في بروكسيل، فقال أولاً: «لن أعلن عن أي شيء، لن أؤكد أو أنفي العمل العسكري الذي تردد أن دولة أخرى نفذته في العراق. هذا يرجع إليهم (الإيرانيين) أو العراقيين إذا كان هذا قد حدث بالفعل». وفيما أفاد حيدر العبادي أن «لا معلومات» لديه، وهو «القائد الأعلى للقوات المسلحة» في العراق، كان مستغرباً أن يتحدث كيري عن «دولة أخرى» أو يقول إن الأمر «يرجع إليهم»، إلى أن أفصح عن حقيقة الموقف الأميركي، معتبراً أنه «إذا كانت إيران تستهدف تنظيم الدولة الإسلامية في أماكن معينة ويقتصر دورها على استهداف تنظيم الدولة الإسلامية وهو أمر مؤثر وسيكون مؤثراً... فإن المحصلة النهائية إيجابية»... وطالما أن الأمر «يرجع اليهم» فهذا يعني أن هذه الحرب ذات مسارين، أميركي وإيراني، وكلاهما يخدم التقارب المتعاظم بين «الشيطانَين» الأكبر والأصغر.
ليس مؤكداً أن المحصّلة النهائية ستكون «إيجابية»، إلا إذا كان كيري مصمماً على جهل ما حصل في العراق وتجاهل الدور الإيراني الذي صنع ظروف نشأة «داعش» وبروزه. بدا كيري أكثر حرصاً على تثبيت «الإيجابية» في علاقته مع نظيره الإيراني خلال المفاوضات النووية أخيراً. وهو ما ردد محمد جواد ظريف صداه متوقعاً «نهاية ناجحة» للمفاوضات، وكذلك الرئيس حسن روحاني متحدثاً عن «الحاجة إلى إيران من أجل أمن المنطقة والعالم». ويمكن إجمال هذا المناخ بأن طهران تشعر للمرة الأولى منذ عقود بأنها حققت «اختراقاً» سياسياً مهماً في الموقف الأميركي المناوئ لها من دون أن تضطر إلى تنازلات جوهرية. لكن هذا التطوّر الذي يريد كيري تصويره على أنه «إيجابي» بالنسبة إلى مجريات الحرب يرمي عملياً إلى ترسيخ الأمر الواقع الإيراني على الأرض، في العراق كما في سورية، بما فيه من مخاطر وألغام، وبما فيه أيضاً من إحباط للعرب المشاركين في محاربة «داعش».
ذاك أن طهران تسعى إلى إظهار هزم هذا التنظيم على أنه «انتصار إيراني» لن يراه أتباعها وخصومها إلا بأنه «انتصار شيعي على السنّة»، وبالتالي فإن إيران تستحقّ أن تُكافَأ عليه بالاعتراف لها بنفوذ دائم يقوم على إخضاع اتباع مذهب آخر سواء كانوا غالبية أو أقلية. فهذا كان ولا يزال منطق النظامين «الداعشيين» الإيراني والسوري في حربهما داخل سورية قبل استدعائهما «داعش» وبعده، بل هذا ما ظهر جلياً في حرب نوري المالكي على المحافظات السنية، وما تبدو إيران وميليشياتها العراقية في صدد استكماله تحت شعار «محاربة داعش»، أو بالأحرى «داعش تحارب داعش». إذ أن «داعشيي» ما يسمّى «جيش الحشد الشعبي» يرتكبون حالياً انتهاكات مشينة في قرى وبلدات سنّية، مشابهة بل مطابقة تماماً لما يرتكبه «داعش» ولما كان يرتكبه «جيش المالكي». وبطبيعة الحال فإن هذا النهج يؤسس أو يثبّت حالاً صراعية مستحيلة لعشائر السنّة بين «داعش» هجين كانوا تعايشوا قسراً وعلى مضض لكنهم حاربوه ويحاربونه بكلفة بشرية عالية، وبين «داعش» إيراني يرفضونه أيضاً وسيكون عليهم أن يحاربوه إلى ما لا نهاية.
هل يجب التذكير بالقواعد التي حددتها واشنطن، بلسان رئيس أركان جيوشها، لتدخلها في العراق ولخوض هذه الحرب، وأهمها: تشكيل حكومة تمثل جميع الأطراف، وإعادة هيكلة الجيش وتأهيله، والتعاون مع سكان المناطق الواقعة تحت سيطرة «داعش» أي العشائر. تغيّرت الحكومة وزار رئيسها طهران ليتعرف عن كثب إلى المسموح والممنوع، وإلى ما يستدعي العجلة أو الإبطاء. وفهم أن العراق صار إيرانياً ويجب أن يبقى كذلك، وأنه مقبول أميركياً بهذه الحال التي مسخته وابتذلته، وإذا أراد العرب (السنّة) الانفتاح على إيرانيته (شيعيته) فأهلاً وسهلاً. لم يعد هناك مجال لعراق يتمتع باستقلالية قرار أو بشيء منها (كما هو الواقع أيضاً في سورية ولبنان واليمن). أما بالنسبة إلى الجيش فيوحي الأميركيون بأنهم سيشرفون على إعادة هيكلته، كما تولوا تأسيسه وتدريبه، لكن هل يضمنون هذه المرّة أن الإيرانيين لن يعيدوا تهميشه وإفساده كما فعلوا بواسطة نوري المالكي، وكيف يضمن الأميركيون لهذا الجيش مكانته ودوره وتغليبه للدولة على الدويلات إذا كان الإيرانيون سبقوهم بتدريب ميليشيات وتسليحها لتكون أكثر قوة وفاعلية من أي جيش حكومي.
لكن الاعتماد على العشائر بنمط من «الصحوات» الجديدة بدا الملف الأكثر دلالة على شدّة التدخل الإيراني وجلافته. وعكست مماطلة حكومة العبادي ممانعة طهران لتسليح السنّة إلا إذا كانوا جزءاً من ميليشياتها، وقد تولّى هادي العامري قائد «فيلق بدر» إيضاح ذلك بقوله: «نعوّل على دعم مقاتلي العشائر السنّة، فبانضمامهم إلى القتال أصبح نصرنا مؤكداً»، غير أن العارفين يقولون أن الرجل توهّم أن يصبح وزيراً للداخلية وهو قائد ميليشيا ويتوهّم أن العشائر صاروا معه رغم أنهم يعتبرونه من «دواعش إيران». لكن العامري فسّر عملياً ما هو متاح للعبادي، فالمماطلة ترمي إلى منح إيران والميليشيات الوقت لـ «استمالة» السنّة وتيئيسهم من الحكومة ومن الأميركيين، فالخطر يدهمهم وليس لهم سوى الخيار الإيراني. لكن العشائر التي يئست فعلاً من العبادي، بادرت إلى مخاطبة الأميركيين مباشرة، سواء من خلال السفير في بغداد أو عبر وفد سنّي زار واشنطن أخيراً. وطالما أن الدفاع عن النفس بات شأناً يخصّهم، والحكومة غير متجاوبة، فقد طالب هؤلاء بأن تسلّحهم الولايات المتحدة مباشرة أسوة بما تفعل مع البشمركة الكردية طالما أن الدولة لا تريد ولا تستطيع الدفاع عنهم. في المقابل أطلق العديد من العشائر نداءات تطالب دولاً عربية بتسليحها، أما عشيرة البو نمر التي قتل «داعش» مئات من أبنائها خلال بضعة أيام فأعلنت أنها باعت أملاكاً لها في بغداد لتشتري أسلحة بما يصل إلى نحو مليون دولار... وإزاء هذا التحرك ظهر فجأة مشروع قانون «الحرس الوطني»، إذ سمح الإيرانيون للعبادي بإخراجه من درجه، والسبب أن «الحرس» صيغة أفضل من الصحوات، لأنها تتيح من جهة وضع أبناء العشائر في ملفات والاستدلال إلى نشطائهم، لكن الأهم من جهة أخرى أنها فرصة لإدخال «الحشد الشعبي» في هذا «الحرس» مع ما يعنيه ذلك من تمويل حكومي لميليشيات لم يعرف شبّانها في حياتهم سوى الولاء لإيران.
يعرّف هربرت بلومر الثورة بأنها: "تغيير مفاجئ قصدي سريع بعيد الأثر، يبتغي إعادة بناء وتنظيم النظام الاجتماعي كلياً". ولعلنا نتوقف عند جزئية من التعريف، تتحدث عن السرعة في التغيير، كما يشير بلومر، ونطرح التساؤل التالي: لقد امتدت الثورة أربع سنوات، ولم تحقق هدفها المنشود، فهل هي ثورة، كما جاء في التعريف؟
يمثل السؤال فكر "النفعيين" المؤيدين للقول إن صدق قضيةٍ ما يكمن في مدى كونها مفيدة للناس، وهو ما ظهر عكسه. وقد تناسى هؤلاء أن الثورة الفرنسية بدأت في عام 1789، وانتهت عام 1799.
حال السوريين، اليوم، وأتحدث عن "الأثرياء"، كما عن "طوائف" بعينها، ينم عن صورةٍ أقرب لهذا المفهوم. لكن، ما الذي دعا هؤلاء إلى مقاومة التغيير؟
مقاومة التغيير طبيعة بشرية تحدث في أي مكان وزمان. فالإنسان يكره، إجمالاً، التغيير، وذلك لعدة عوامل، كالخوف من فقدان مزايا خاصة، أو من التغيير بذاته، إلى غير ذلك من العوامل المختلفة.
علاوة على ذلك، تنسحب مقاومة التغيير على مناحي الحياة المختلفة، فتجدها، مثلاً، في الناحية الاجتماعية، حيث تخشى المجتمعات من التغيير، وتسعى إلى مقاومته وتجنبه، مع أنه من حقائق الحياة، ولن يستطيع أحد مقاومته أو إيقافه، وهو ما يشير له المختصون في علم الاجتماع.
الخوف، أولاً وأخيراً، يتبعه مبرر الحفاظ على المصالح، الدماء، مزايا معينة قد يفقدونها، الفوضى، وغيرها من المبررات التي تدفع هؤلاء إلى الوقوف في صف القوي، وطبعاً أعني القوي من الناحية المادية، وفقاً لرؤيتهم.
لكن، كون الثورة بعيدة الأثر، فهي الحقيقة التي يؤمن بها الثوار في سورية، ولعل الطابع الجهادي الذي تحولت له الثورة زاد من الإيمان بهذا التغيير المستقبلي.
وعلى العكس من ذلك، التشكيك في أهمية ما يحدث، والتقليل مما ستؤول إليه الأمور مستقبلاً، لم يأت من فراغ، بل يؤكد ابتعاد هذه الرؤى عن مصائر الطغاة في التاريخ، كما أنه وجه من وجوه العقيدة الإسلامية المشوهة، ويشكل بالنسبة لغير المسلمين غياب الرغبة في العيش المشترك وفق مفهوم المواطنة والشراكة في بلدٍ واحد.
تضارب المصالح وطبيعة مكونات المجتمع السوري كانت اللاعب الأساسي في تبني فكر معين وغض الطرف عن وجود الحق لدى طرف دون غيره، وبينما حارب كل مكون لغايته، بحسب مبرراته، ازدادت الأزمة الإنسانية بالتفاقم.
البراغماتية هذه لم تنشأ في مجتمعنا العربي، فضلاً عن الإسلامي، بل هي دخيلة، قد يتعامل بها بعضهم، وفقاً لمصلحتهم الآنية، ممارسةً، لا عن معرفة علمية مسبقة.
نحن، إذن، أمام ظهور طبقة غلّبت "الأنا"، وأغرقت في عالم المادية، مبتعدة عن ملامح رسمها حديث النبي صلى الله عليه وسلم الذي شكل لبنة المجتمع الصحيح، وحدد صفاتها بالجسد الواحد، هذا بالنسبة للمسلمين، أما غيرهم، فالتاريخ الماضي كفيلٌ بتذكيرهم بأن الوحدة الوطنية والتلاحم الاجتماعي كان قبل أن يتسلم آل الأسد السلطة.
يبدو أننا أمام اعتراف لا مفر منه، هو أن "الذرائعية" متغلغلة في المجتمع، لن ينهيها ذات يوم اتفاق طائفٍ جديد، بل على العكس سيكون ترسيخاً لها، ولبنان خير شاهد.
أما إذا تناولنا، في هذا الإطار، مواقف المسلمين، فأرجّح الابتعاد عن تعاليم الإسلام الصافي والبناء الروحي السليم طوال تلك الحقبة، بالتالي، ليس مستغرباً أن يعيش الناس في جزر منعزلة، حتى داخل البيت الواحد، ومن الطبيعي تحكيم المصلحة الفردية على حساب الجماعة.
فالذرائعية من أشكال الاحتجاج والمبرر الذي تتمسك به بعض طبقات المجتمع السوري، متوارين خلفه بغير تصريحٍ واضح، يبرر لهم مواقفهم، وفق نظرة صحيحة، إذا ما قارناها مع المشهد على الأرض، وما أصاب الشام من نكبة سببتها الحرب الدائرة، لكنها نظرة بعيدة كلياً عن الأخلاق والقيم الإسلامية.
لا يهم إن كان الاعتقاد الفكري بالذرائعية موجودا، أو نشأ مجدداً في سورية، الأهم أنه ممارسة فعلية، تمارسها طبقات من المجتمع السوري، وجب التنبه إليها، واقتلاع جذورها فكرياً، أولاً وقبل كل شيء.
بحسب حكايات جدتي، نقلاً عن جدتها، وتلك عن جدتها الأخرى، وصولاً إلى جدة ضاعت في أزمنة الحكايات، فإن المستقرضات هي الأيام السبعة المتعلقة بذيل آخر السعود: سعد الخبايا. لكن هذه المستقرضات استمرأت أجساد السوريين، وأرواحهم، منذ أربع سنوات، وأخذت تقرض بهم مع أول سعد من السعود، وهم في مخيمات اللجوء، أو في العراء تحت رحمة جبابرة الكون، من أرض وسماء، بينما العالم غارق في نعيم دفئه، وشعبي السوري يكويه الصقيع والنار.
ولمن لا يعرف السعود، التي هي جمع سعد، وأظن أن شعبنا كله لا يعرف السعد، منذ سنوات عجاف حلّت في أوطاننا، فسوف أذكّر بها، بما أنها تسبق الربيع، بعد أن تأخر ربيعنا، وربما تاهت به الدروب. هذه السعود على ذمة ساكني الديار منذ القديم، خلاصة خبرتهم التجريبية التي استقطروها من روح الطبيعة، الملتصقين بها، مثلما لو كانوا جزءاً منها يربطهم بها حبل سري، فيدور نسغها في شرايينهم، ويرجع إلى قلبها، تأتي بعد "المربعينية"، وهي أيام البرد الممتدة من 21 ديسمبر/كانون أول حتي 30 يناير/كانون ثاني، وهي رحيمة قياساً بالخمسينية، جامعة السعود كلها، إذ تمنن: "إذا ماعجبكم حالي ببعتلكم خوالي" أي "السعود" الأربعة متساوية الأعمار، لكل منها اثنا عشرة يوماً ونصف، يبدأ أولها بأواخر المربعينية، أي 31 كانون الثاني، ويسمى: "سعد الذابح"، حيث تموت الماشية من شدة البرد فيه: "سعد الدابح ما بخلّي كلب نابح". يلحق به سعد بلع حيث تفيض الأنهار وتزداد الآبار امتلاء وكأن الأرض ابتلعت ماء الأمطار: "بسعد بلع بتنزل النقطة وبتنبلع". ثم يأتي سعد السعود الذي قيل فيه: "سعد السعود سلاخ الجلود"، كما قيل: "في سعد السعود بتدور الميّة بالعود"، أي يسري النسغ في الأشجار وغ
صونها. وأخيراً، يطل سعد الخبايا برأسه، واعداً بنبش الحشرات والزواحف من أوكارها، بعد أن احتمت بسبات طويل من شر البرد المستطير: "في سعد الخبايا يطلعن الحيايا".
لكن، لا تنسل هذه السعود الأربعة المتغطرسة، فجأة، مثلما كان قدومها ممهداً له بالمربعينية، فهي تطلب أسبوعاً آخر من شباط الذي يستنجد بابن عمه آذار:" آذار يا ابن عمي، أربعة منك، وثلاثة مني، منخلّي دولاب العجوز يغني". وقد يكون عادلاً إذا كانت السنة كبيسة، فيعرض عليه: ثلاثة منك وأربعة مني. هذه الأيام السبعة تسمى "قرون العجائز: أو "المستقرضات" وفيها برد قارس، وريح قوية وأمطار وفيضانات، وتقعد العجائز قرب المدافئ: "بالمستقرضات، عند جارك لا تبات"، ويموت فيها ماشية كثيرة: "غنمنا ما بتدوم حتى تروح عجايز الروم".
هذا هو شعب هذه الأرض، عاش في رحم الطبيعة، عرف نبضها وخبر أطوارها، فشخصنها ونسج حكاياته عنها، وتوارثت هذه الخبرة الأجيال. أحب الحياة، وظل ملتصقاً بأرضه، بزيتونه وليمونه، يقلّم أشجاره، ويبذر الأرض لتمنحه السنابل فيعجن خبزه كفاف يومه.
" ما أكثر اللاءات التي ضيقت خناقها على رقبة الشعب، منذ أن صرخ بـ (الّلا) الأولى في وجه الظلم والجور والاستبداد، إلى اليوم "
كان همّهم، فيما مضى، ينحصر في زرعهم وماشيتهم، أما اليوم، وبعد سنوات من تغوّل شياطين الأرض فوق أرضهم ودفع مصائرهم باتجاه المجهول، فصار لسعود الطبيعة حكاية أخرى، وصار للسوريين هموم أخرى أيضاً. صارت المستقرضات تلاحق السوريين، حتى لو لم يكونوا عجائز، فتحصد الأطفال والأمهات، تتحالف مع الموت على السوريين، مع الجوع، مع داعش، مع البراميل المنهمرة من السماء، ولم ينفع هذا الشعب المغدور كل التحالفات التي تعقد على اسمه وباسمه. هاهم في المخيمات يحصدهم البرد والجوع، وتعلن منظمة الغذاء العالمي وقف مساعدات بالمبلغ المرقوم عن مليون وسبعمائة ألف من اللاجئين السوريين، وعازمة، في الوقت نفسه، على إيقافها عن النازحين في داخل الأراضي السورية، بينما كلفة الحرب الدونكيشوتية على طواحين الهواء الداعشية تتعدى ما يحتاجه هؤلاء المشردون المهجرون عن ديارهم وأراضيهم بعشرات المرات، ولو استشهدنا بالأرقام، طالما تحوّلت نكبات الشعب السوري، كما تحوّل هو إلى جداول إحصائية وأرقام، فقد بلغت قيمة المساعدات في العام 800 مليون دولار، بينما تقدر تكاليف الحرب المفتوحة الأمد على داعش بأضيق نطاق، وقبل أن تتوسع أكثر، إلى ما يقترب من أربعة مليار دولار في العام، هذا إذا لم نحسب تكاليف الحرب السورية الأخرى، وما يُدفع لأجل تسليح كل الأطراف المشاركة فيها، فأين الضمير العالمي وأين الحياء الإنساني؟ أموال بأرقام فلكية تُدفع على التسليح والحروب، بينما شعب ينام معظمه في العراء، ويموت من البرد والجوع والفاقة والمرض؟ الشعب السوري واقع بين حدّ السيف ومسقط البراميل، يناور الموت، ومن ينجُ من هذا الموت ليس نصيبه في الحياة أوفر، حتى الباقون في المناطق الأقل توتراً مهددون بالبرد والجوع وتردي الحياة إلى دركها الأسفل، تحت رحمة انقطاع المواد الأساسية للعيش، لا محروقات، لا مياه، لا كهرباء، لا مواد تموينية، لا دواء، وما أكثر اللاءات التي ضيقت خناقها على رقبة الشعب، منذ أن صرخ بـ (الّلا) الأولى في وجه الظلم والجور والاستبداد، إلى اليوم.
جاءت وراحت السعود الأربعة في السنوات الأربع التي خلت، وأخذت معها الكثير الكثير من شعبنا، ولم تعد جدتي على قيد الحياة، لأسألها أن تتوسط لنا عند سعود "الأربعة"، علّهم يرأفون بحالنا، بعدما لم يكترث جبابرة العالم بحالنا، ولا بأطفالنا، وهم يتضورون جوعاً ويتجمدون برداً، ولا بأمهات جف حليب أثدائهن، ولا بفتيات يُسَمن في بازارات الفحولة كل صنوف الذل والمهانة، وعلّهم يمنعون الموت وزبانيته عنا.
سنويا تزداد بشكل مطرد حالات انتهاك الحقوق والحريات، على المستوى العالمي، للجماعات والأفراد، وبأسباب تتصل بمسألة حرية الرأي والعبادة، والتفكير واللجوء والعمل، ويتعرض من انتهكت حقوقهم إلى الاعتقال والتمييز والتصفية الجسدية، والتعذيب وغير ذلك بسبب المطالبة بحقوقهم. وتسجل المنظمات المعنية بذلك تجاوزات كبيرة، ترتكبها الدول بشكل يتنافى مع التزاماتها الدولية، وفي مقدمتها الشرعة الدولية لحقوق الإنسان.
ورغم وجود آليات واضحة في القوانين الدولية، فإن المجتمع الدولي يؤكد عجزه في الحدّ من تصاعد وتيرة الانتهاكات التي يرتكبها الأفراد والتنظيمات والدول، بأدوات وأساليب مختلفة، تقف المنظمات الدولية حيالها موقف المتغاضي أو الصامت، دون أن تتمكن من إدانة تلك الممارسات في الحدّ الأدنى، بسبب سياسة توازنات المصالح في مجلس الأمن الدولي، وهذا بالطبع ينسحب على أداء مجلس حقوق الإنسان، لدى الأمم المتحدة بصورة خاصة، والذي يضطلع بمسؤولية مراقبة انتهاكات حقوق الإنسان في العالم، وخاصة الانتهاكات الجسيمة ومنتظمة التكرار وتقديم التوصيات اللازمة لوقف مثل هذه الانتهاكات أو الحد منها.
ما يجب الإشارة إليه هنا أن الدول الأعضاء في الأمم المتحدة، هي الأشد انتهاكا للقوانين الدولية، وتحوز على مقعد في المجلس، والمثال الليبي، دليل ليس فقط على التغاضي عن ممارسات الدول المتعارضة كليّا مع الاتفاقات الدولية الموقع عليها.
قاد ذلك -حتى اليوم- إلى عدم وجود ضمانات دولية، لحماية الحقوق والحريات، فيما لا تتوفر آليات فعّالة تجبر الدول على الالتزام بتعهداتها الدولية/القانونية. والواقع فإن سياسات الدول الكبرى الأمنية، وطرق معالجتها لملفات حقوق الإنسان، وممارساتها ومواقفها الدولية، التي تتجاوز التزاماتها، بحيث تكون حريصة على ذلك فوق أراضيها، لكنها لا تلتزم قواعد حقوق الإنسان في سياساتها وأساليب عملها خارج إقليمها، مثال الولايات المتحدة، غوانتانامو والسجون السرية، ومواقفها مما يجري في العالم قد شجعت دولا كثيرة على ارتكاب أبشع الانتهاكات وارتكبت المجازر ومارست مختلف صنوف القتل والتعذيب ومارست سياسات الإقصاء والتمييز على أوسع نطاق. نسوق الولايات المتحدة كمثال، لأنها تتقدم المجموعات الدولية -أو هكذا يفترض- في الدفاع عن الحقوق والحريات، وهو دور لا تتنطع له روسيا أو الصين وإيران مثلا.
طوال ما يزيد على نصف قرن، دخلت سوريا نفق قانون الطوارئ، وبموجبه تم تعطيل الحياة السياسية والمدنية بشكل عام، ومعظم بنود القانون الدستوري، لصالح دور بارز للجيش وأجهزة الأمن والاستخبارات، مما قاد إلى بناء منظومات سلطوية، تتجاوز القوانين الوطنية والدولية، دون أي اعتبار للالتزامات الدولية، وعلى رأسها الاتفاقيات المتصلة بحقوق الإنسان، وحماية المدنيين، ومن أهمها اتفاقية جنيف الرابعة، والبروتوكولات المحددة لكل من الحقوق السياسية والاقتصادية والاجتماعية. وحتى اليوم، بعد أربع سنوات على انتفاضة السوريين، فإن النظام السوري واجه تلك المطالب بمزيد من القمع والقتل، واستبدل قانون الطوارئ بقانون مكافحة الإرهاب، تامشيا مع التوجهات الدولية بخصوص الإرهاب، ومسبغا على النضال الوطني من أجل الحرية، صفة الإرهاب الواجب استئصال شأفته من المجتمع السوري.
ورغم كل الجهود التي تبذلها منظمات سورية، وإقليمية ودولية في إطار شراكة مع منظمات سورية، أو مهنية مستقلة، فإن الأمم المتحدة، وبالطبع القوى الدولية الكبرى، لم تقم بأي خطوات فعّالة لدعم تجريم نظام الأسد، وتقديم الدعم للسوريين بما يوقف الانتهاكات اليومية، أو الحدّ منها على الأقل. وقد ساهم ذلك في توسيع النظام لمدى انتهاكاته إلى درجة الإبادة البشرية المنظمة. نظام الأسد اليوم يرتكب كل يوم مجزرة، ويعتقل النشطاء، ويقتل الأطفال والنساء، ويشرد العشرات.
ويعتبر الاختفاء القسري، إحدى المشكلات الأشد تعقيدا اليوم، في الساحة السورية، ويعود ذلك إلى حقبة الثمانينات من القرن الماضي، حين بدأ نظام الأسد الأب بحملة اعتقالات واسعة شملت أعضاء في تيارات وأحزاب اليسار السوري من شيوعيين وقوميين، أعضاء في حركة الإخوان المسلمين، لا يزال عدد كبير منهم حتى الآن لا يعرف عنه، أو مصيره، أو مكان وجوده أي شيء. ولا يزال هذا الملف مفتوحا بما يضمه من أسماء سياسيين ومثقفين سوريين، وعرب استهدفهم النظام السوري، نتيجة مواقفهم في ما يتصل بالديمقراطية والحكم، بشكل أساسي.
في ظل الثورة السورية، برزت بشكل أوسع قضية الاختفاء القسري، فقد لجأ إليها النظام خلال الفترة التي سبقت 15 مارس 2011، عبر اعتقالات تستبق أي حدث، منذ الدعوة إلى يوم الغضب السوري، تلتها اعتقالات واسعة في صفوف المثقفين ونشطاء العمل المدني، بعضهم لا يزال مغيبا في سجون الأسد، وكثير منهم لقي حتفه بسبب التعذيب والتنكيل الذي تعرض له. فيما انتشرت عمليات الاختطاف والتغييب من قبل أطراف عديدة في الساحة السورية، من أطراف أساسية هي عصابات الأسد (الأجهزة الأمنية والشبيحة) وميليشيات مسلحة داخل المعارضة السورية (الجبهة الإسلامية) وقوى الإرهاب الظلامية (داعش النصرة).
ما يجمع هذه القوى هو شيء أساسي واحد هو تكميم الأفواه، وملاحقة رموز العمل المدني ونشطائه، وخاصة أولئك الذين يتحفظون على عسكرة الثورة، أو أنهم يتابعون بشدة انتهاكات حقوق الإنسان من قبل أي اطراف سورية وغيرها، أو أنهم من دعاة بناء الدولة المدنية. هذا قاسم مشترك بين نظام الأسد وكل المجموعات المسلحة التي أقصت نشطاء العمل المدني، ثم منعت نشاطهم بالقوة، ثم اعتقلت أو قتلت واختطفت من تبقى منهم.
يمكننا أن نذكر المجتمع الدولي، مع مرور الذكرى السنوية للإعلان العالمي لحقوق الإنسان، بما يتوجب عليه القيام به، ليس فقط للحد من انتهاكات الحقوق والحريات واستهداف المدنيين، بل وحماية نشطاء العمل المدني بصورة رئيسة، والعمل على فضح هذه الممارسات، وفي مقدمتها الاختفاء القسري، وأنه يتوجب اليوم إطلاق سراح المئات من الذين تم اختطافهم، وكذلك إطلاق سراح فريق الأورينت، والأب باولو، والمصور عبود الحداد، وعشرات غيرهم، وأولئك الذين لا نعرف أسماءهم ومصائرهم. نريد الحرية لهم جميعا، اليوم وليس غدا.
منذ سنوات وإيران محاصرة اقتصاديا من قبل الغرب بسبب تعقيدات ملفها النووي. الشعب الإيراني يدفع ثمن ذلك الحصار من خلال مواجهة وضع اقتصادي صعب. يكاد الإيرانيون أن يكونوا ممنوعين من السفر. التحويلات المالية من إيران وإليها لا تجري إلا في السر وبطرق غير قانونية.
إيران واقعة تحت رقابة دولية يقال إنها محكمة. غير أن أحدا لا يكترث بشحنات الأسلحة التي تصدرها إيران إلى جماعة الحوثي في اليمن، وإلى حزب الله في لبنان، وإلى جهات أخرى لم يعلن عنها بعد. من وجهة نظر إسرائيل فإن وجود واحدة من تلك الشحنات على الأراضي السورية، حتى وإن كان ذلك الوجود افتراضيا يكفي ليكون سببا لضرب سوريا. فلا يرى الغرب في ما تفعله إسرائيل عملا عدائيا. معادلة من هذا النوع، كيف يمكن لها أن تستقيم؟
يفتح الغرب عينا على الوضع الاقتصادي الإيراني من أجل أن يلحق بالشعب الإيراني أكبر قدر ممكن من الضرر، في الوقت الذي يغمض عينه الأخرى عن مساهمة النظام الإيراني الكبيرة في بث حالة من عدم الاستقرار في المنطقة من خلال تزويده بالسلاح جماعات سياسية هي، في حقيقتها، كيانات طائفية مستقلة عن محيطها، وتعمل على إضعاف سلطة القانون وتهدد بنشر الفوضى إذا ما تعرض لها أحد.
في بعض الحالات تبدو إيران مرضيّا عنها من قبل الغرب. نفوذها في العراق، مثلا، لم يشهد أي نوع من التقهقر، بل إنه ازداد قوة واتساعا في الوقت الذي تحول فضاء العراق إلى ملعب مفتوح لطائرات التحالف الدولي في الحرب على تنظيم داعش. فهل يجري حوار الغرب مع إيران في سياق متعدد المستويات، ليس العداء صفته الوحيدة؟
يظن البعض أن الغرب من خلال معالجته الملف النووي الإيراني بصرامة، إنما يسعى إلى احتواء إيران ووضعها تحت السيطرة. وهو وهم غذته الدعاية الإيرانية الموجهة من أجل أن تكتسب إيران حجما عالميا لا يمت لحجمها الحقيقي، باعتبارها دولة تعاني من مشكلات بنيوية قد تدفع بها في أي لحظة إلى أن تكون مادة لصدام دموي بين المجتمع المدني والمؤسسة الدينية، بما تملكه تلك المؤسسة من أجهزة أمنية وحرس ثوري. ولكن من قال إن إيران تقع خارج السيطرة؟
ينبغي علينا هنا أن نحذر من خطأ الوقوع في حبائل الخطاب الثوري الإيراني. فإيران، في أقصى ما تطرحه من بدائل، لا تجد بديلا أفضل من نظام سياسي رجعي، يحكم المجتمع من خلال أجهزة قمعية وماكنة دعائية تضع الحاضر في خدمة الماضي، وترهن المستقبل لإرادة الغيب. وحتى فكرة تصدير الثورة التي لا تزال تتحرك في صدور المتعصبين طائفيا، فإن أثرها لا يتجاوز حدود ما هو مرسوم لها على الخرائط السياسية المرسومة بدقة.
وفق هذا الواقع فإن أثر إيران السيئ لن ينال إلا أجزاء من العالم العربي، كان الغرب قد وجد فيها محورا لتأكيد الحاجة إلى استمرار وجوده الأمني والعسكري في المنطقة. لن يكون اضطرار البحرين إلى بناء قاعدة للأسطول البريطاني بعيدا عن هذا الاستقراء. ألا يعني هذا أن إيران بطريقة أو بأخرى تقدم للغرب خدمات، هو في حاجة إليها؟
في الحرب السورية لم يكن التدخل الإيراني المباشر، أو من خلال الميليشيات الملحقة به مثل حزب الله والجماعات العراقية، موضع خلاف غربي- إيراني. كان ذلك التدخل وسيلة لتبرير مشاركة جماعات مسلحة أجنبية في القتال إلى جانب المعارضة. وهو أمر كانت تركيا العضو في حلف الناتو قد أشرفت عليه بطريقة معلنة.
فهل يعقل أن تقوم إيران باستفزاز الغرب، فيما ملفها النووي موضوع على النقاش؟ يمكننا أن نقرأ الدور الإيراني الخبيث في المنطقة العربية من جهة ما يهبه من نقاط، وما يجلبه من رضا غربي. قد لا يستهوي ما نقول عقول المأخوذين بالخطاب الثوري الإيراني، ولكن الوقائع تقول إن العرب لم يحصدوا من السياسة الإيرانية إلا الفوضى.
ظن البعض أنهم أخيرا عثروا على السلاح الذي سيركع أشهر إرهابي في العالم، أبو بكر البغدادي، زوجته وابنته، اللتين تم اعتقالهما في لبنان.
لكن بدل أن يفرج الإرهابيون عن العسكريين اللبنانيين المخطوفين، ساءت الأمور فقتل المزيد منهم، وانسحبت قطر من الوساطة الموعودة، وطالبت شخصيات بأخذ رهائن من أطفال ونساء ردا على «داعش» و«جبهة النصرة»!
واتضح أن السلطات اللبنانية أفسدت واحدة من عملياتها السرية بسبب التناحر السياسي. فالمرأة لا قيمة لها في مساومات إطلاق سراح المخطوفين، لأنها مطلقة البغدادي منذ سنوات، أي قبل قيادته للتنظيم الجديد، ولا تنفع أن تكون وسيلة ضغط عليه، بل أفشلت مخطط الأمن اللبناني، وأفقدته ربما واحدا من أهم مصادر معلوماته عندما قبض عليها!
وزير الداخلية نهاد مشنوق عبر عن غضبه، لكنه اختار عبارات محايدة، معتبرا أن القبض على النساء يستفز الإرهابيين ويهدد سلامة المعتقلين. الصحيح أن القبض عليهن، مطلقة البغدادي وابنته وزوجة أبو علي الشيشاني، أفسد أي عملية مراقبة لهن لضبط مخططات تنظيم داعش، وهي حماقة سياسية كبرى.
الشيء الوحيد الذي يمكن للمحققين انتزاعه منهن هو معرفة شيء من تاريخ شخصيات «داعش»، مجرد تاريخ. الإرهابيون لا يبالون كثيرا بالتضحيات الإنسانية، ولا بالأعراض النسائية، كلها في سبيل الحرب تستحق التضحية، هكذا يفكرون!
أما على الجانب الآخر فدائما كانت عائلات الإرهابيين توضع تحت الملاحظة والرقابة، لكنها لا تصلح للابتزاز، أو الاستخدام السياسي، ولهذا عادت عائلات أسامة بن لادن، زعيم تنظيم القاعدة القتيل، دون التعرض لها من إيران وباكستان وسوريا. فالبغدادي لن يتنازل عن شيء مقابل إطلاق سراح أحد من أقاربه، بل سيستخدم تلك المسألة لإثبات ولائه للتنظيم واستعداده للتضحية بأقرب الناس إليه.
ونحن نتفهم ألم عائلات المخطوفين العسكريين اللبنانيين الذين تدور حولهم المعارك السياسية والإعلامية في لبنان، لكن بكل أسف من ذا الذي يهتم بمصير بضعة أشخاص في بلد قتل فيه أكثر من ربع مليون إنسان؟ إنها مأساة هائلة يصعب أن تفتش فيها عن التفاصيل.
أعتقد أنه على «حزب الله» أن يفكر مليا في مسألة تورطه في سوريا، وتوريطه لفئات مختلفة من اللبنانيين، عسكريين ومدنيين. عليه أن يستوعب حجم المشكلة، وزمنها المحتمل، حيث إنها قد تطول. اللبنانيون أكثر من سيدفع الثمن بعد السوريين. فالأتراك والأردنيون ليسوا طرفا مباشرا، ولا حتى الإيرانيون. هناك العراقيون جزء من الحرب لأن العراق نفسه أرض معركة ولا يمكن الفصل بين مصير البلدين.
مشكلة لبنان تورط «حزب الله» برغبته في حرب سوريا، يقاتل مع النظام، وبكل أسف من الطبيعي أن يكون لبنان جزءا من أرض المعركة.
على اللبنانيين أن يدركوا أن مشكلتهم ليست مع «داعش» و«جبهة النصرة» الإرهابيتين، بل مع «حزب الله»، لأنه يصر على أن يكون طرفا في الاقتتال في سوريا ويفاخر بذلك. وبالتالي من الطبيعي جدا أن تنتقل المعركة إلى الساحة اللبنانية، ولن تتوقف عند خط الدم الذي نراه اليوم.
التفكير في موضوع الخليج والتحولات الإقليمية والدولية يشكل، بالنسبة لنا نحن سكان المشرق، مناسبةً مهمةً، لاستعادة التفكير بقضايا استراتيجية كبرى، كادت تغيب في العقود الماضية عن أذهاننا. ولضيق الوقت، سوف أقتصر على التنويه إلى وقائع يصعب، من دون معرفتها، فهم علاقة دول الخليج بالثورة السورية، وبسورية ذاتها، ورهانات الصراع الإقليمي والدولي على سورية والخليج معا، ومآل هذا الصراع، وآفاق الخروج من المحرقة التي شاركت أطراف عديدة ولا تزال تشارك فيها، بما في ذلك دول عظمى، كان ينتظر منها المساهمة في إيجاد حل لها، لا تغذيتها.
1-ليست العلاقة بين الجزيرة العربية وبلاد الشام، وعلى نطاق أوسع، الهلال الخصيب، طارئة ولا تنبثق من الدفاع عن مصالح سياسية وقتية. إنها علاقة بنيوية محفورة في الجغرافية الطبيعية، والجغرافية السياسية والتاريخ. وهذا ما يفسر وحدة الثقافة والدين واللغة والهوية. فالهلال الخصيب امتداد طبيعي للجزيرة العربية، بصرف النظر عن طبيعة الدول والنظم التي تحكمها، ومصائر الطرفين ارتبطت بعضها ببعض، عبر التاريخ السياسي والاجتماعي منذ ما قبل الاسلام. وقد تأكدت حقيقة هذه الشراكة التاريخية في العصر الحديث، بمناسبة الثورة العربية الكبرى عام 1916، حيث توحدت نخب الجزيرة والشام والعراق لانتزاع استقلال الولايات العربية، وتأسيس المملكة العربية التي لم تكتب لها الحياة. كانت الجزيرة العربية الخزان البشري للهلال الخصيب، وأصبح الهلال، ولا يزال، درع الجزيرة الحقيقي. وهو، اليوم، خزان بشري لمشاريع التنمية والتقدم في المشرق كله.
2-عروبة سورية لا تلغي خصوصيتها، فبحكم تراثها التاريخي الغني، وموقعها على مقربة من آسيا والأناضول وأوروبا، تحولت بلاد الشام إلى ملتقى تيارات حضارية، متعددة ومتنوعة، أخصبت ثقافتها العربية، وأغنتها. وقد حولها هذا التلاقح المخصب إلى ثقافة تعددية إنسانية، منفتحة على العالم، وقادرة على التواصل مع الجميع، من كل اللغات والثقافات والأديان، لكنه لم يفقدها هويتها، ولم يجعل منها، ولن يجعل منها منطقة هجينة، من دون شخصية أو انتماء، مستعدة، كما تعتقد إحدى الدول الإقليمية التي اكتشفت متأخرة "فضائل" سياسة الهيمنة الاستعمارية، لبيع ولائها لمن يدفع لها الثمن الأغلى. ولا تكفي ثلاثون سنة من التحالف مع نظم دموية، قائمة على نزع الهوية وتدمير البنية الحضارية، لتأهيل أي دولة أجنبية، مهما عظمت قدراتها العسكرية والمالية، أو لإكسابها حقوقاً، كي تمحو ما خطته الجغرافيا والتاريخ والثقافة والدين والمصالح البعيدة والقريبة خلال آلاف السنين. سورية كانت، وستبقى، جزءاً من الجغرافية والسياسة والثقافة العربية.
" الهلال الخصيب امتداد طبيعي للجزيرة العربية، بصرف النظر عن طبيعة الدول والنظم التي تحكمها "
3-إن أحداً لا يستطيع أن ينكر أن دول الخليج هي التي قامت بالعبء الأكبر في تقديم الدعم المادي والعسكري، ثم الإنساني، للشعب السوري، في محنته الراهنة، بصرف النظر عن ملاحظات يمكن أن توجه لضعف الأداء والتنسيق والتنظيم والتوزيع لهذا الدعم. ونحن، إذ نتلفت حولنا، اليوم، لمواجهة العجز الذي أعلنت عنه منظمة الغذاء العالمي، والذي يهدد بالجوع أكثر من مليون وسبعمائة ألف لاجئ ومحتاج من السوريين، لا نجد أمامنا من نلجأ إليه سوى أخوتنا في الخليج، لأننا جزء منهم، وهم جزء منا.
4-المعركة التي يخوضها الشعب السوري منذ أربع سنوات، والتي خاضها ببطولة نادرة، ولا يزال يقدم فيها من التضحيات ما لم يقدمه شعب في سبيل حريته وكرامته، لم تعد منذ عامين حرباً سورية، وإنما أصبحت حرباً إقليمية، يدافع فيها السوريون عن أمن المشرق وحرية شعوبه ضد صعود مشاريع الهيمنة والسيطرة الإقليمية. وهم لا يواجهون على الأرض قوات الأسد التي تكبدت أكبر الهزائم خلال السنتين الأوليتين، وإنما، بشكل أكبر، قوات وميليشيات إقليمية، تمول وتسلح وتنظم من طهران، وتعمل لحساب أجندة توسعية جديدة، تهدف إلى تطويق الخليج وإسقاط الجزيرة العربية كاملة تحت السيطرة الايرانية.
لكن، لا يمكن لسورية أن تكون، ولا يستطيع أحد أن يجعل منها، خط الدفاع عن أمن طهران، وشوكة في ظهر شعوب الخليج واستقلال دوله واستقرارها. ومن هذا المنطلق، ينبغي أن نستعيد المبادرة، ونرسم الخطط الدفاعية التي لم يعد يجدي فيها أن تكون وطنية ضيقة، ونحن في سياق مواجهة إقليمية تاريخية.
5-الضغط الايراني على المشرق كله، الهلال الخصيب والجزيرة العربية معاً، سيكون طويل المدى. فهو ليس نتيجة تحالفات دولية مؤقتة، أو تردد القيادة الأميركية الحالية فحسب، وإنما ينبع من اختلالات بنيوية، نشأت من فشلنا، في العقود الخمسة الماضية، في إقامة أي شكل فعال من التعاون والتنسيق الجاد، يساعد على تطوير قوانا الاستراتيجية، ويعزز استقلال قرارنا، وهو ثمرة استسلامنا، أيضاً، لوهم الحماية التي تقدمها الشرعية الدولية، والتحالفات الأجنبية، في وقت كانت طهران الخامنئية توظف سنوات الحصار، لتعيد بناء نفسها، وتعزز قدراتها التصنيعية في السلاح وغيره، وتعمل على التسلل إلى داخل البلاد العربية، لتقويض أسس الاستقرار والوحدة فيها، ولتحويل دولها إلى رهائن لميليشياتها، كما هو الحال في لبنان وسورية والعراق واليمن. وهي مستمرة، ما لم تجد أمامها قوة توقف اختراقاتها. المعادلة، في نظري، في غاية البساطة: منطقة فارغة استراتيجياً، ومنزوعة الحماية، وقوة توسعية معبأة مجاورة. وهي قادرة، أكثر من ذلك، على أن تخوض الحرب على أرضنا، وتستخدم فيها أبناءنا، وتحقق مكاسبها بدمائنا.
6-لم يعد من الممكن ضمان أمن المنطقة بأيدٍ خارجية، ولم يعد ينفع فيه الرهان على التحالفات الدولية، فحماية المشرق لم تعد من أولويات الاستراتيجية الأميركية والدولية. وواشنطن ليست مستعدة للاستثمار فيها، بعد أن حررت نفسها من ارتهانها للطاقة الشرق أوسطية. وأشك أن تتغير سياسة واشنطن كثيراً بعد رحيل أوباما وقدوم الجمهوريين. وما لم نخرج منطقتنا من الفوضى، ونفرض أنفسنا على المنظومة الدولية، بجهودنا وقوانا كمشرق قوي، إنساني، وموحد، لن يتردد الأميركيون في اعتماد القوة المتغلبة، مهما كانت، شرطياً للمنطقة، يتقاسمون معها المصالح والمنافع. وهذا ما كانوا يفعلونه، على نطاق أضيق، بتوكيل نظام الأسد في لبنان وفلسطين، ضد المقاومة ومنظمة التحرير، وغيرهما.
" شعوب المشرق قادرة على بناء المشرق العربي الجديد، كتلة قوية ومتراصة في وجه جميع التهديدات والأطماع "
بالتأكيد، لن تستطيع طهران، مهما فعلت، أن تحقق هدفها في السيطرة على المشرق، وإخضاعه لأجندتها الخاصة. وسوف تستمر المقاومة العربية، وتتوسع حتى داخل الشرائح التي يعتقد القادة الإيرانيون أنهم كسبوها لصفهم. لكن حرب الهيمنة المفروضة على المشرق تحمل، في طياتها، موجات عميقة من العنف والخراب والدمار وملايين الضحايا البريئة.
7-ليس صحيحاً أنه لا توجد لدينا خيارات، وليس أمامنا إلا أن نذعن للضغوط والاعتداءات الخارجية، أو نتسول الحماية الأجنبية. نستطيع، منذ الآن، أن نغير اتجاه الأحداث، ونعيد الأمور إلى نصابها، إذا امتلكنا الجرأة والإرادة، لتغيير خياراتنا التقليدية، ونبذ أفكارنا المتكلسة. بمجرد إطلاقنا مشروع شراكة تاريخية، تجمع بلدان الخليج وبلدان الهلال الخصيب، وتوحد طاقات شعوب هذه المنطقة المعرضة لزلازل لن تنتهي، بسبب هشاشتها الاستراتيجية، سوف يتغير الوضع، وتتغير المعطيات السياسية والاستراتيجية. شعوب المشرق قادرة على بناء المشرق العربي الجديد، كتلة قوية ومتراصة في وجه جميع التهديدات والأطماع. ولدى الخليج القدرات المالية والبشرية ليقود مشروع هذه الشراكة الكبرى التي ستغير وجه المنطقة، في أقل من عشر سنوات، حتى في ظل استمرار الحرب والمقاومة، وتعيد بناء التوازنات المنهارة، حتى ينتصف العرب من ظالميهم، أولئك الذين خانوا عهد أخوة الحضارة والدين، واستخدموا دماء الشعوب وقوداً لمشاريع عظمتهم الامبرطورية، ونفوذهم الدولي. وما علينا إلا أن نخطو الخطوة الأولى، حتى تلتف شعوب المشرق جميعاً حول المشروع الجديد الذي لن يخسر فيه أحد، والجميع سيكونون فيه من الرابحين. البديل الوحيد لهذا المشروع تسليم الشمال العربي إلى الدول القوية المجاورة، وتحويله إلى مصدر تهديد لأمن الخليج والجزيرة.
8- فقد الشعب السوري الثقة، عن حق، بالأمم المتحدة وبدولها التي أظهرت شللاً وعجزاً غير مسبوقين، ووقفت مكتوفة الأيدي أمام المذبحة اليومية، المستمرة منذ أربع سنوات، على الرغم من كل القرارات الدولية والتصريحات الرنانة. لا يمكن الثقة بعالم يتنكر للعدالة وللضحايا، ويتذرع بالحرب ضد الإرهاب ليغطي على التواطؤ في جريمة استباحة دماء شعب كامل، لا لذنبٍ إلا لأنه كسر قيود العبودية، وأراد أن يعيش، كما تعيش بقية الشعوب، خارج الأسر والإرهاب والقهر.
" لا يمكن الثقة بعالم يتنكر للعدالة وللضحايا، ويتذرع بالحرب ضد الإرهاب ليغطي على التواطؤ في جريمة استباحة دماء شعب "
كيف يمكن أن نتحدث عن المستقبل، من دون أن نفكر بمصير أولئك الشباب السوريين الذين تركوا مقاعد الدراسة للقتال ضد ميليشيات همجية، تتدفق على بلادهم، من كل مكان. بمصير مئات آلاف المعتقلين والمختطفين الذين يتعرضون، نساءً ورجالاً وأطفالاً، للتعذيب والتمثيل بالأجساد والتشويه والدفن أحياءً. بمصير هؤلاء النساء والأطفال الذين فرض عليهم الموت جوعاً تحت الحصار، لكسر إرادة آبائهم وإخوانهم في مقاومة العدوان، بملايين النازحين والمشردين الذين ينتظرون المعونة التي قد تأتي، ولا تأتي، من منظمات الإغاثة الدولية. بأولئك الذين انقطعت السبل بهم، فرموا بأنفسهم لتجار الموت في مراكب أعدت كي لا يصل أغلبها إلى أي بر أمان.
أخيراً
التفكير بآلاف السوريين المرميين على قارعة طرقات العواصم وأمام سفارات بلدانها، ليلاً نهاراً، بحثاً عن أمل في لجوء تتفنن في حرمانهم منه قوانين الدول المدافعة عن حقوق الإنسان. هؤلاء هم، أيضاً، إخوتكم وأخواتكم، وهم يستحقون اهتمامكم وينتظرون مبادراتكم. لا يمكن أن نعفي العالم من مسؤولياته، وأن نقف مكتوفي اليدين أمام مأساة التواطؤ الدولي ومؤامرة الصمت، ولا أن نقبل الاستسلام لإرادة تمديد حرب الاستنزاف التي أصبحنا هدفاً لها، والتي لن تكون نتائجها كارثية إلا علينا وحدنا.
كانت دول الخليج سباقة في تقديم أول مبادرة سياسية، للخروج من المحنة السورية، وهي التي أصبحت أساساً لكل المبادرات الدولية التي جاءت بعدها. لكنها تراجعت إلى الوراء، وتخلت عن دورها الأول للآخرين الذين عملوا على كسب الوقت، وخدعوا الجميع. ومع ذلك، لا يزال مفتاح الحل في أيدينا. وبإمكان مجلس التعاون، بعد أن استعاد وحدته، أن يستعيد دوره الأول، ويطلق مبادرة جديدة قوية، تبدأ من توحيد السوريين، سياسياً وعسكرياً، وتشجع الأطراف الدولية المترددة على السير بحزم في طريق إنهاء الحرب، ووضع حد للكارثة التي تهدد بالاتساع والتفاقم. ولا أتحدث، هنا، عن سورية وحدها، وإنما عن حق شعوب المشرق، في أن تعيش بسلام وأمن بمعزل عن التدخلات الأجنبية، وجميع أشكال زعزعة الاستقرار التي تقوم بها قوى داخلية أو خارجية.