مقالات مقالات رأي بحوث ودراسات كتاب الثورة
١٠ ديسمبر ٢٠١٤
التخادم الامريكي الشيعي في المنطقة يُسلم اربع عواصم عربية لايران

الطموحات الإيرانية التوسعية ليست بالجديدة، طموح استعادة الامبراطورية الفارسية ولاحقاً الشاهنشاهية فالجمهورية الاسلامية تحت مظلة عمليات التشيع الواسعة و البعيدة بدءا من الخليج حيث السعودية و البحرين و الكويت و الإمارات إلى أقصى شرقي آسيا حيث البلدان الإسلامية كأندونيسيا و ماليزيا اللتان اصبحتا تحويان على نسبة شيعية غير مسبوقة، و انتهاءا بالشاطئء الجنوبي من البحر الأبيض المتوسط.
وبالتالي تحويل ما يعرف بالجمهوريات الاسلامية في الاتحاد السوفياتي السابق الى سوق ضخم يمنحها القوة فإلى جسر عظيم تعبره الى العالم وتنافس عبره روسيا حتى لو كانت حليفتها الحالي.
في البداية وجدت طهران في قضية الفلسطينيين أرضية خصبة لتكون حاضرة على الشاطئ الشرقي للبحر المتوسط، بالإضافة الى ان حزب الله والمقاومة ضد إسرائيل أمّن لها هذا الحضور مع ترحيب كامل ما دام الهدف هو "معاداة اسرائيل". لكن يبدو أن الخبرة العميقة من جهة وضعف أهل الشرق العربي من جهة اخرى، رفعا منسوب "الشراهة" الايرانية، و حيوية التحرك على الارضية الخصبة الذي دفع للسؤال بلماذا لا يكون لنا في الشرق ما نستحقه، و نحن احفاد الامبراطورية الايرانية؟
اهمية المشررع الايراني يفسر استماتته في الدفاع عن نفوذه في سوريا الذي يؤمن لها اطلالة فسيحة على المتوسط، فقاسم سليماني الذي دير الحرب على مدار ما يقارب الاربع سنوات استعانة بكل ما يمكن تحريكه في مناطق النفوذ في كل من العراق و لبنان، و مجموعات اخرى ابعد،في سبيل البقاء في سوريا و ربط ايران بالمتوسط برا عبر العراق و سوريا.
التمدد الايراني واجه تحديات اخرى و اثقلت كاهل الايرانيين المثقل اصلا بالوضع السوري، هذه المرة هي بغداد، فالاصرار الاميركي و الشبه الشعبي في إبعاد المالكي عن رئاسة الوزراء، كان لابد التعامل معه بجدية، فهي نقطة التلاقي بين طهران و واشنطن فيما يخص العراق، ما اضطرت ايران بالدفع في اتجاه تبديل المالكي، للحفاظ على ما تم بناؤه في العراق، من اجهزة و سلطة و نفوذ ايراني.
خطر هذا المشروع الاخطبوطي هو الاكبر بالنسبة الى دول الخليج العربي، و خاصة فيما يخص الوضع الحالي في اليمن، فالحوثيين لا يهددون الحكومة اليمنية و السيطرة على صنعاء العاصمة فقط بل كامل الخليج ان لم يتم السيطرة عليها بشكل عقلاني و احتوائهم.
خبر مراسلة خامنئي من قبل اوباما المسرب، حول تشجيعهم في التفاعل بشكل ايجابي في المباحثات النووية، و الوصول الى اتفاق شامل بحلول الشهر الحالي، استغل من قبل الجمهوريين و اعتبروه ضعفا لاوباما و سوء فهم للسياسة الدولية، الرسالة كانت بمثابة بروز تعاون بين الطرفين في كثير من الملفات في المنطقة و على راسها محاربة داعش، و بالطبع حول الوضع في كل من العراق و سوريا.
لكن على ما يبدو أن الرسالة فُسرت في طهران على أنها علامة ضعف اميركي، وبالتالي فمن المرجح أن تشجع إيران على أن تكون أكثر تشدداً في مفاوضاتها.
التقارب الامريكي او حسن نية اوباما اتجاه ايران بالاضافة الى الاسباب التي ذكرناها آنفا، كان عاملا مهما في تمادي الايرانيين، و الذي تجلى في كل من الضاحية الجنوبية اللبنانية و التعامل الوحشي مع السنة.
ايضا في اليمن، كلها كانت مقدمات لظهور تنظيم داعش حيث جرت بين الأمريكين وجماعة الحوثي الشيعية اليمنية اتصالات قضت بتمكين الحوثيين في اليمن، بينما يتعهد الحوثيون بضرب تنظيم القاعدة في جزيرة العرب مع توفير إسناد جوي من الطيران الأمريكي. بمقتضى هذا الاتفاق تقوم أمريكا بدفع تكاليف الحرب ودفع رواتب المقاتلين الحوثيين ورعاية أسر القتلى منهم وعلاج الجرحى على أن يقوم الحوثيون بحسم عسكري مع القاعدة في مدة لا تتجاوز السنتين فيما اشترط الحوثيون سرية الاتفاق.
أن هذا الاتفاق بين الأمريكان والحوثيين يأتي في سياق التخادم الأمريكي الإيراني في الشرق الأوسط, فهذه الاحداث كانت لها تاثيرا مباشرا على شعبية اوباما و حزبه الديمقراطي، اذ حقق الجمهوريون تقدماً على حسابهم، و اتهموا اوباما بتراجعه عن الخط الأحمر الذي رسمه للأسد بشأن الأسلحة الكيماوية في سورية في عام 2013 واستغراقه وقتاً طويلاً ليدرك تهديد تنظيم «داعش» ونهجه المتسامح تجاه إيران وضعفه في مواجهة التدخل الروسي في أوكرانيا.
فعلى الرغم أن دستور الولايات المتحدة يجعل مركز القرار النهائي إلى حد كبير في يد الرئيس إلا أن أوباما لا يزال يحتاج الى الكونغرس ليأذن بعملية عسكرية كبرى ويمولها، فسيطرة الجمهوريين على مجلسي الشيوخ والنواب سيدفع أوباما إلى أن يكون أكثر حذرا في شأن عدد من القضايا، و من المتوقع أن يدفع قادة الجمهوريين مثل (ميتشماكونيل وجون ماكين) وغيرهم باتجاه القضايا التالية:
1-وقف التخفيضات التلقائية لموازنة الجيش التي تم تشريعها في السنوات السابقة، وإعادة التركيز على بناء القدرات العسكرية للولايات المتحدة فرض المزيد من العقوبات على روسيا، وزيادة المساعدات إلى أوكرانيا، وإرسال وحدات تدريب عسكرية أميركية لتتمركز في كييف و بولندا وجمهوريات البلطيق.
2- وضع الصيغة النهائية لاتفاق الشراكة التجارية عبر المحيط الهادئ مع الحلفاء الآسيويين للمساعدة في احتواء الصين، وكذلك إلغاء الموعد النهائي لانسحاب القوات الاميركية من أفغانستان عام 2016 ووضع خطة لوجود عسكري أميركي محدود ولكن طويل الامد في كابول.
3- كذلك زيادة كثافة الضربات الجوية ضد تنظيم "داعش وزيادة عديد القوات الاميركية في العراق (وربما سورية لاحقاً) للدعم و التدريب في مجال مكافحة داعش. تكثيف الدعم للثوار السوريين وقطع الامداد عن المتطرفين و المتشددين.
4- ومن بين القضايا, ضرب أهداف تابعة لنظام الأسد ضمن العمليات الجوية في سورية، وبخاصة التي تمنع النظام من استخدام القوة الجوية و البراميل المتفجرة ضد المدنيين وقوات المعارضة المعتدلة, والإصرار على التفكيك الكامل للبرنامج النووي الإيراني، وإلا ستزيد العقوبات على إيران .
5- وضع حد للتقارب مع إيران الذي لم يثمر شيئاً برأي الجمهوريين وساهم في نفور حلفاء واشنطن التقليديين في الشرق الأوسط بالرغم ان أوباما لا يزال لديه السلطة في السياسة الخارجية ولكن عليه أن يأخذ آراء الكونغرس ان اراد استعادة زخم رئاسته وحزبه، هذا فيما يخص اعلان حرب شامل ضد «داعش»
اوباما سيحتاج أيضاً إلى موافقة الكونغرس لرفع العقوبات عن ايران إذا كان هناك اتفاق نووي معها وهو أمر لا يرغب الكونغرس الجديد القيام به. كان من الواضح ان مفاوضات 5+1 مع ايران لن تفضي الى اتفاق، حتى ان توصلوا الى اتفاق في وقت لاحق فأنه سيكون له ثغرات تمكّن الايرانيين من الهروب من تنفيذه، او على الاقل بشكل يتيح له التملص في تنفيذه بدقة و بشكل فوري.
اما في الجانب الآخر, فان واشنطن تريد أن تنهي المفاوضات باتفاق يعيد إيران الى "حاضنتها"، على عكس طهران التي تسعى الى بسط نفوذها بشكل يمنحها سلطة القرار في هذا الشرق المعقد.
مؤشرات ما يدور خلف الكواليس واضحة، فبالنسبة الى العراق, الوضع كارثي على الصعيدين العسكري و الامني، و التغير الديمغرافي في المحافظات السنية على حساب استقدام ميليشيات شيعية كالمقدادية الاستراتيجية على سبيل المثال جارية على قدم وساق ولا ننسى الوضع في فلسطين المغيب و ما يتم تطبيقة من سياسات تهجير و اعادة الاستيطان.
أما في سوريا فالساحة مفتوحة، ويبدو المشهد اكثر بطشا و طموحا، فقد أطلق العنان لميليشيات النظام السوري لارتكاب افظع المجازر لتكريس دويلة علوية تحده شرقا نهر العاصي من منبعه في لبنان الى نصبه في تركيا، و المجازر على خط التماس كثيرة منها (حي القبير والتريمسة وحلفايا وكفر نبودة وجسر الشغور).
عمليا اليوم ايران تتواجد و بقوة في كل من بغداد و دمشق و بيروت و صنعاء، فهي تفاوض بقوة، و الصفقة الشاملة في المنطقة، بناء على هذا المسار ستكون إعادة تأهيل نظام الأسد (حتى ان تنحّى بشار عن السلطة) وتطبيع العلاقة بين الغرب وايران مع تحديد مرن لدورها الإقليمي.
أخيراً, الدعم الإيراني الخفي للقاعدة و داعش و التكفيريين السنة يهدف الى اظهاره كفئة متشددة متعطشة للدم ، في نفس الوقت طرح الشيعة كقوة معتدلة يمكن التعامل معها، اما في الحقيقة فهو اخطر من التكفيريين الداعشيين و القاعدة أو لنقل هما وجهان لعملة واحدة، فدولة اسلامية داعشية لا تختلف عن دولة فارسية متطرفة تسعى الى بسط سيطرتها بكل تلك الاساليب اللانسانية الارهابية.

اقرأ المزيد
١٠ ديسمبر ٢٠١٤
عندما يعتقل لبنان زوجة "الخليفة"

تحتار السلطات اللبنانية ماذا تفعل بمسألة اعتقال زوجة "خليفة" المسلمين، و"أمير دولة الإسلام في العراق والشام"، سجى الدليمي، وكيف توظفها.

فلبنان غارق في أزمته، لا يرى سبيلا للخروج منها، فقد مضى على شغور موقع رئاسة الجمهورية أكثر من ستة أشهر، والبرلمان مشلول، بفعل انتهاء ولايته، ولجوء النواب للتمديد لأنفسهم ولاية كاملة، والحكومة تعمل بشق النفس، وتقف عاجزة عن حل مشكلة العسكريين المخطوفين منذ أكثر من أربعة أشهر، من تنظيمي "داعش" و"النصرة" في معركة عرسال الحدودية، في أوائل أغسطس/آب الماضي، وهي تخضع لابتزاز هاتين المجموعتين الإرهابيتين، اللتين تهددان، ثم تنفذان تهديداتهما، بذبحهما أربعة عناصر من الجيش وقوى الأمن، حتى اليوم.

وتقف الحكومة حائرة في أمرها، ضائعة ومرعوبة، تحت الضغط الهائل الذي يمارسه أهالي المخطوفين الذين يفترشون الساحات، وينصبون خيمهم، ويقطعون الطرقات في محيط السراي الحكومي ومجلس النواب، وعلى الطرقات بقاعاً وشمالاً. يتحرك الوسطاء المحليون، من دون أن يعرف كيف ومع من يتصلون. هل مع الخاطفين مباشرة، أو عبر وسطاء محليين؟ ومن هو المفوض الفعلي، وزير الصحة الجنبلاطي، وائل أبو فاعور، الذي يزور الأهالي في خيمهم مُطمئناً، أم المدير العام للأمن العام، اللواء عباس إبراهيم، الذي يتواصل مع أجهزة النظام السوري الأمنية، ويلقى اعتراضاً من بعض قوى 14 آذار؟ فيما يعلن الوسيط القطري، قبل أيام، انسحابه من عملية التفاوض مقراً بعجزه، بعد أن أعدم "داعش" العسكري الرابع، علي البزال، نهاية الأسبوع الماضي.

ويختلط الحابل بالنابل، وتتشوش الصورة في أذهان اللبنانيين الذين يعيشون المسلسل الدرامي مضاعفاً عبر سماع ومشاهدة السجالات، التي تدور على شاشات التلفزة، حول السبيل إلى إنقاذ حياة العسكريين، وخصوصاً حول صحة أو عدم صحة إجراء عملية مقايضة مع الإرهابيين، ومبادلة أسرى الجيش بمعتقلين إسلاميين "أصوليين"، أو "سلفيين" لدى السلطات اللبنانية، يطالب بعضهم "داعش" و"النصرة" بإطلاق سراحهم.

ويزيد من مأساوية هذا السجال وبؤسه، قيام "حزب الله" بعملية تفاوض موازية، ومقايضة تمكنه من استرجاع أحد مقاتليه الأسرى في مقابل تسليمه عنصرين محتجزين لديه. ليتحول هذا السلوك إلى نموذج يطالب به كثيرون، بهدف الضغط على الحكومة، وإجبارها على المقايضة، وهناك من يذهب إلى أبعد من ذلك، مطالبا بتسليم ملف الأسرى برمته إلى حزب الله الذي، برأيهم، "يتقن فن التفاوض وأساليب تحرير الأسرى"، علماً بأن الحزب نفسه كان يرفض، في البداية، أية مقايضة مع تنظيمي "داعش" و"النصرة"، إلا أنه اضطر إلى التراجع تحت ضغط وغضب أهالي العسكريين الذين يشكلون خليطاً طائفياً، من سنة وشيعة وبعض المسيحيين. كذلك حليفه رئيس التيار الوطني الحر، ميشال عون، الذي ما زال على موقفه الرافض، فيما يقف وزراء داخل الحكومة مع المقايضة، وبعضهم الآخر ضدها.

" كان حزب الله يرفض، في البداية، أية مقايضة مع تنظيمي (داعش) و(النصرة)، إلا أنه اضطر إلى التراجع تحت ضغط وغضب أهالي العسكريين الذين يشكلون خليطاً طائفياً "

وفي خضم هذا الضياع المثير، وغياب أي تحمل فعلي للمسؤولية، تظهر فجأة على السطح مسألة اعتقال إحدى زوجات "الخليفة"، أبو بكر البغدادي، التي كانت تتحرك بين مناطق في البقاع وشمال لبنان، والتي تحمل هوية مزورة. وكانت قد دخلت على ما يبدو "خلسة" إلى لبنان قبل نحو ستة أشهر، فيما تفيد معلومات أخرى بأن سجى الدليمي، عراقية الجنسية، تمكنت من مغادرة سورية مع مجموعة راهبات دير معلولا اللواتي تم تحريرهن عبر الوساطة التي قام بها يومها اللواء إبراهيم. وقد تمكن الجيش اللبناني، أيضاً، من اعتقال آلاء العقيلي، زوجة قيادي في جبهة "النصرة"، يدعى أنس شركس، وهي سورية. وفيما تفيد المعلومات المسربة عن التحقيقات بأن العقيلي كانت تقوم بدور صلة الوصل بين المجموعات وخلايا "النصرة" على الأرض، كان دور الدليمي جمع التبرعات وتأمين وصولها إلى مقاتلي "داعش" في سورية، وتتلقى، أيضاً، أموالاً من الخارج.

فالسؤال الذي يطرح نفسه بقوة هو: لماذا تم اعتقال زوجة البغدادي؟ هل لخطورة الدور الذي تقوم به، أم بهدف مقايضتها "صيداً ثميناً"، من أجل استرجاع العسكريين المخطوفين؟ وهل إن من اعتقلها متأكدٌ فعلاً من أنها تحظى بمكانة خاصة عند البغدادي، مما يضطره إلى لخضوع للابتزاز والقبول بالصفقة، كي يسترجع زوجته؟ وهل هي الزوجة الوحيدة لديه، أم لديه أخريات؟ ثم هل إنها لا تزال فعلا زوجته، أم أصبحت طليقته، إذ من اللافت عدم صدور أية ردة فعل من "أمير الدولة الإسلامية" منذ اعتقالها؟ كما أن جريدة "السفير" اللبنانية نشرت، قبل أيام، معلومات تفيد بأن الدليمي حامل، فمن تراه يكون والد الجنين؟

أسئلة وأسئلة كثيرة تزيد من غموض القضية، وتطرح مزيداً من التساؤلات حول الهدف من القبض على المرأة. والأغرب والأطرف من ذلك أن وزير الداخلية، نهاد المشنوق، الذي ينتمي إلى تيار سعد الحريري ("المستقبل")، فاجأ الرأي العام بانتقاده العلني عبر محطة تلفزيونية توقيف السيدتين. فهل إنه لم يكن يعلم بذلك، أو إنه لم يحط علماً به قبل حدوثه؟ أم إن القضية أدخلت، كالعادة، في زواريب السياسة الداخلية؟

الثابت والمضحك، في آن، أن قضية اعتقال زوجة "الخليفة" بدل أن تكون سلاحاً فعالاً في يد الدولة اللبنانية تحولت، على الأرجح، إلى ورطة!

اقرأ المزيد
١٠ ديسمبر ٢٠١٤
هل ما يزال يوجد أحد يريد مساعدة الشعب السوري؟

لا أفشي سراً إذا قلت إن الولايات المتحدة وحلفاءها الغربيين لا يريدون إسقاط نظام الأسد؛ وهذه حقيقة، احتاج كثير من السوريين إلى فاجعة بحجم مجزرة الغوطة الكيماوية ليقتنعوا بها، فقد ظلت أوضاعهم المأساوية، التي ما زالوا يقاسونها تفرض عليهم استجداء الخلاص، ولو من الأمريكيين، غير أن الواقع لا مهرب منه؛ فلن يأتي الحل إلا عبرهم ولن يكون إلا برضاهم، يتشدقون بدعمهم للشعب السوري ولا يملون بين الفينة والأخرى تكرار تأكيدهم على فقدان رأس النظام شرعيته وضرورة رحيله؛ ولكنهم يشددون في الوقت نفسه على حتمية الحل السياسي للأزمة السورية، الذي لا يرون عنه بديلاً، وطبعاً من دون تحديد موعد له، قبل أن يغير صعود «داعش» شيئاً في أولوياتهم، فقد أصبح القضاء عليه هدفهم الأول. وصف وزير الدفاع المقال هيغل الحرب عليه بطويلة الأمد، فلينتظر السوريون ما بعد انتهاء هذا الأمد البعيد، لكي يبدأوا التفكير بأزمتهم ثم معالجتها سياسياً.
على كل حال يجب عدم الإفراط في التفاؤل، فالحل السياسي المنتظر يقتضي جلوس النظام والمعارضة إلى طاولة المفاوضات، قبل الخروج باتفاقية يرضاها النظام، باعتباره أحد أطرفها؛ فأي حل ذاك الذي سيقبل به نظام كهذا؟ من دون أن يفوتنا هنا ذكر أن الأساس في المسار السياسي المنشود هو مؤتمر «جنيف-1»، الذي كان من أهم بنوده تشكيل هيئة حكم انتقالية تضم أطرافا من المعارضة والنظام، فهل دفع السوريون ويدفعون كل تلك التضحيات من أجل عدة مقاعد وزارية!
إيران وروسيا يدعمان نظام الأسد فتأتيه الأموال والأسلحة والذخائر ويقاتل معه عناصر وخبراء إيرانيون، فضلاً عن تسخير إيران مليشيات حلفائها في لبنان والعراق للقتال معه؛ في حين يُقابل ذلك بموقف غربي أمريكي متفرج، ليمزق ما يسمى مجموعة أصدقاء سورية، ويضيف المزيد من التناقضات إلى دولها التي يتخبط ويتصارع بعضها، حتى على التراب السوري، وقد شرذم المال الخليجي المقاتلين وأبعد سياسيي الإئتلاف إلى كوكب آخر غير الذي يموت فيه السوريون. أما من ما يزال يحتفظ بموقف يظهر وكأنه يزداد صلابة يوماً بعد آخر فهم الأتراك؛ فالرئيس أردوغان لا يفوّت أي مناسبة من دون أن يحمل نظام الأسد مسؤولية ما حدث في سورية، ويشدد على حتمية رحليه أو إسقاطه قبل الالتفات لباقي مشاكل المنطقة.
كما لا يزال يعارض المشاركة بفاعلية أكثر في التحالف الدولي ضد «داعش» ويمنع الأمريكيين من استخدام أراضيه وقواعده العسكرية لضربها، ويضع شروطاً لذلك، من شأنها زيادة الضغط على نظام الأسد والعمل على إسقاطه؛ لكن وعلى النقيض تماماً من موقفه ذاك يفعل الجانب التركي أشياء تزيد في عمر نظام الأسد بطريقة غير مباشرة، فتركيا ليست صديقة أصدقاء سورية فقط، بل هي أيضاً من أوفى الأصدقاء لأعداء الشعب السوري، فعلى صعيد العلاقات الاقتصادية التركية ـ الإيرانية نرى أن تركيا تعمل على مداواة جراح إيران، من جراء العقوبات الغربية المفروضة عليها، فتعزز علاقاتها الاقتصادية معها بغض النظر عن القضايا الخلافية بينهما، فقد ارتفع حجم التبادل التجاري بينهما من 10.7 مليار دولار عام 2010 ليصل إلى 22 مليار دولار عام 2012، في ظل الأزمة السورية واحتدام الخلافات بينهما حولها، لكنه انخفض بسبب العقوبات العام الماضي قبل أن يعود ويرتفع هذا العام، كما أبرمت عدة اتفاقيات لتعزيزه وإيصاله إلى 30 مليار دولار العام المقبل.
وكذلك تلعب تركيا الآن دور الطبيب المداوي لجراح الدب الروسي الأوكرانية، فبعدما رفضت مفوضية الاتحاد الأوروبي إتمام مشروع خط الغاز الروسي المسمى «ساوث ستريم»، متذرعة بأنه ينتهك قوانينها الخاصة بالمنافسة التجارية، أعلن بوتين من أنقرة إيقاف العمل بذلك الخط وتعويضه بإقامة مجمع للغاز قرب الحدود التركية اليونانية، ليسارع أردوغان ويبدي رغبته بشراء الغاز الروسي من هذا المجمع، كما وقع الجانبان ثماني اتفاقيات اقتصادية، وأكدا على رفع قيمة التبادل التجاري بينهما من 33 مليار دولار حالياً إلى 100 مليار دولار بحلول عام 2023، تبحث روسيا شرقاً وغرباً عن مصادر جديدة للعملة الصعبة بعد تراجع احتياطياتها ما يقارب 100 مليار دولار نتيجة العقوبات الغربية، واستمرار انخفاض أسعار النفط، وهذا ما ساعدها فيه أردوغان، مقابل اعتراف روسي باللغة التركية لغة رسمية في شبه جزيرة القرم، التي كان من المفترض أن تشكل قضية خلافية أخرى بينهما، لم ينس أردوغان التأكيد على اتفاقه مع بوتين حول ضرورة حل الأزمة السورية، ولكنهما مختلفان بشأن كيفية ذلك الحل؛ فهل يدل تصريح كهذا على حدوث أي تقارب بين وجهتي نظرهما، في ما يتعلق بالملف السوري، هذا إن بحثاه أصلاً في اجتماعهما.
من حق تركيا السعي وراء مصالحها ولكن في مسألة إستراتيجية مثل القضية السورية لا بد من تقديم بعض التضحيا. إذا كان الجميع يعول على العقوبات الغربية على كل من روسيا وإيران المتزامنه مع انخفاض أسعار النفط للضغط عليهما واستنزافهما فتُرغمان على تقديم تنازلات في القضايا الخلافية معهما، ومنها الأزمة السورية، لكن ما يفعله أردوغان يعقد الأمور أكثر، ولعله كان من أضعف الإيمان أن يستغل حاجة إيران وروسيا إليه ويطلب ولو القليل منهما في الملف السوري، ولو بتخفيف قصف نظام الأسد على المدنيين، أو فتح ممرات لمناطق فات على حصار النظام لبعضها سنوات. على الرغم من المسألة الكردية ذات الأهمية الإستراتيجية بالنسبة لتركيا، إضافة لقضايا اللاجئين والخوف من امتداد «داعش» إلى الداخل التركي، حيث تشكل السياحة أبرز دعائم الاقتصاد فيها؛ يبدو أنه لا توجد لسوريا أهمية لدى الأتراك كتلك التي تمثلها للإيرانيين، ولا يزال الاقتصاد الشغل الشاغل لأردوغان، الذي لا يقدم عليه أي مصالح أخرى. ي
يُركز في بعض وسائل الإعلام على الصمود الأسطوري للشعب السوري ويحمل وحده مسؤولية العمل على إسقاط نظام يدعمه العالم، فهل هذا من المنطق بشيء؟ اكتملت المصائب على رأس السوريين بتوقيف برنامج الأغذية العالمي مساعداته لنحو مليوني سوري في بلدان اللجوء، في وقت كان من المفترض فيه العمل على زيادة تلك المساعدات، فالشتاء واستمرار الحرب يرغم المزيد من اللاجئين على طرق باب تلك المنظمة كل يوم، فهل ما يزال يوجد أحد يريد مساعدة الشعب السوري؟

اقرأ المزيد
٩ ديسمبر ٢٠١٤
خطة دي ميستورا «هدية» إلى نظام دمشق!

لماذا يتحمس النظام السوري لخطة المبعوث الدولي ستيفان دي ميستورا، رغم أنها تتطلّب منه تنازلات رفضها سابقاً، مثل الموافقة على وقف اطلاق النار وإبقاء خطوط المواجهة مع قوات المعارضة على حالها؟ الأرجح لأنه سيكون المستفيد الأول والوحيد من هذه الخطّة، إذ قدّر أن باستطاعته الالتفاف عليها بسهولة، معتمداً على غموض آلياتها وأهدافها. ذاك أن اسمها على الورق «تجميد الصراع»، ومنطلقها المحدد «بدءاً من حلب»، وهدفها المعلن «معالجة الوضع الإنساني». كل ذلك عناوين يصعب مبدئياً الاعتراض عليها، خصوصاً أنها تواجه الطرفين بخلاصة مفادها أنهما برهنا عدم قدرتهما على الحسم، ما يعني انتفاء الفائدة من أي جهد عسكري.

قد لا يقبل الطرفان مثل هذا الحكم، على صوابه، لكنهما تعلّما ألا يرفضا أي معطى دولي قبل التعرّف إليه. فمن جهة النظام، لديه أكثر من مصدر يساعده في تحليل الخطة، وقد أوعز إلى صحيفة تابعة له بمهاجمتها لجعل دي ميستورا يعتقد أنه يرفضها، وعندما استقبله أمطره بوابل من الأسئلة، ثم وافق عليها، بعدما كانت موسكو وطهران دققتا أيضاً في التفاصيل. ثم إن مركز أبحاث في جنيف يدعى «مركز الحوار الإنساني» هو الذي اقترح المشروع على المبعوث الدولي بعدما درسه مستعيناً بـ«خبراء» لديهم صلات مباشرة أو غير مباشرة مع النظام وحليفيه الروسي والإيراني. أي أن دمشق لم تفاجأ عملياً بالاقتراح الديميستوري، بل بدا الأمر كما لو أنها قذفت بالون اختبار مدركة سلفاً أنه سيعود إليها. فهي عملت منذ بدايات السنة على ترويج نمط هدنات متفرقة توصلّت إليها في مواقع عدة في ريف العاصمة، بعدما استبقتها بشهور طويلة من الحصار التجويعي والطبي حتى صار سوء التغذية وقلّتها يقتلان الأطفال والمسنّين حين لا يُقتلون بالقذائف والصواريخ. كانت أهم تلك الهدنات في حمص، وقد تولّى مبعوث إيراني برفقة آخر روسي تنسيق مراحلها الأخيرة لتأمين انسحاب المقاتلين دون التعرّض لهم.

في المقابل تفرّقت المعارضة في المواقف، على جاري العادة. فهيئات المعارضة في الداخل، كـ«هيئة التنسيق» و«تيار بناء الدولة» و«جبهة التحرير» و«المنبر الديمقراطي» بالإضافة إلى عدد من الشخصيات، تلقفت الخطة بترحيب. أما المعارضة المقاتلة فأشهرت الرفض والتشكيك ضدها. وأما «الائتلاف» المصنّف كـ«معارضة من الخارج» فالتزم الحذر والتأني، ساعياً الى «خطة متكاملة» تحظى بضمانات دولية، وأيضاً إلى معرفة آراء الدول الداعمة له. وتعتبر أوساط المعارضة أن الهدنات التي حصلت كانت في غالبيتها أقرب إلى استسلام قسري بفعل الحصار، وأن النظام في كل الحالات لم يفِ بوعوده، خصوصاً بالنسبة إلى إطلاق المعتقلين. كما تعتقد مصادرها أن النظام ربما يقبل بتجميد القتال في حلب في مرحلة أولى، فقط كي يسحب قسماً من قواته لإرساله إلى جبهة الجنوب التي تتواصل خسائره فيها.

والواقع أن دي ميستورا قدّم عرضاً أولياً لخطته على أعضاء مجلس الأمن، مستنداً إلى ما يعتقده «اختراقاً» يتمثل بموافقة دمشق. ولم يُدعَ المجلس إلى التداول فيه رسمياً، فلا اتفاق بعد على إمكان صوغه في قرار دولي. ثمة من يشكك فيه كفرنسا، ومن يوافق عليه كإيطاليا وألمانيا، ومن لا يعطيه أهمية كتركيا طالما أن المتحمسين له ليسوا متحمّسين لجعله قراراً دولياً ولذا فهي تصرّ على إقامة «منطقة حظر جوي ومناطق آمنة». واللافت أن الدول العربية الداعمة للشعب السوري لم تعلن موقفاً منه، لكنها تراقب حركة التشاور الدولي بشأنه. أما الولايات المتحدة، المنشغلة بالحرب على «داعش»، فترى في الاقتراح وسيلة لتمرير الوقت طالما أنها لا تملك خيارات أخرى حالياً.

كان واضحاً أن الدول الكبرى تريد أن تجاري دي ميستورا إيجابياً، مع السعي إلى استخدام اقتراحه في تجاذباتها. فالمفهوم عموماً أن الخطة لن تصبح جدية إلا إذا حظيت بتوافق أميركي- روسي، وهذا متعذر حالياً، فالثقة معدومة، والخلافات ماضية في التوسّع بين الدولتين الكبريين. ولعل وجود ثغرة سياسية كبيرة في الخطة أوحى لموسكو بأن تعود إلى المسرح الدولي عبر محاولة جمع النظام ومعارضين لإحياء «حل سياسي» كانت مارست عملية خداع لإحباطه في جنيف. العجيب أنها تعيد طرح بيان «جنيف 1»، وفقاً لتفسيرها طبعاً. والأعجب أن دي ميستورا صار يردد أن خطته لا تتعارض مع هذا البيان، مع أنها تلتفّ عليه، بل تتجاوزه.

اقرأ المزيد
٩ ديسمبر ٢٠١٤
مأساة رنا الفليطي: 'العرسلة' التي تسبق 'السورنة'


رنا الفليطي هو الاسم الحركي لجبهة النصرة التي قتلت علي البزال. هذا ما قرره حزب الله وهذا ما سيكون. لا يريد الحزب أن يمنح أحدا سواه الحق في أن يقتل القتيل ويمشي في جنازته. أعطى الأوامر بتصنيف رنا الفليطي زوجة علي البزال، السنية العرسالية، إرهابية وقاتلة، ولكنه لم يمنحها شرف الاستمتاع المنتشي بالمشي في جنازة ضحيتها فذلك حق حصري له.

لم يحرم الحزب الإلهي الفليطي من أن تكون زوجة الشهيد، بل نزع عنها كل تاريخ علاقتها بها. سرق كل لحظة عاشتها معه ووهب عمرها برفقته معاني جديدة، سرعان ما احتلت ذاكرة أبناء البزالية وصارت السيرة الوحيدة الممكنة لهذه المرأة. تتلخص هذه السيرة في أن هذه العرسالية كانت قد قتلت زوجها بمجرد انتمائها إلى عرسال. لذا فإن ما قامت به النصرة ليس فعلا أصليا، بل إعادة تمثيل لجريمة عرسالية الأصل والمنشأ.

يعلم الجميع أن السوريين هم ضحايا الإهدار الإلهي للدم، وهو إهدار مفتوح وتام ولا حدود له، وبما أنه حد أقصى فإن كل ما عداه يبدو وكأنه نوع من الرقة والرحمة. لم ينجح الحزب بعد في “سورنة” عرسال تماما، وكذلك لم ينجح في “سورنة” رنا الفليطي تماما، لذا تبدو “العرسلة” في هذه اللحظة مقدمة أخيرة تسبق لحظة الوصول إلى حفلة الإهدار النهائية وهي “السورنة”.

حرمان الفليطي من المشاركة في جنازة زوجها هو بعض ما تتيحه رقة القاتل قبل تنفيذ حكم الإعدام. قبل التنفيذ بلحظة يكون المحكوم عليه لازال متمتعا بنسب إنساني ما، فلا يستطيع أحد ممارسة القتل دون نزع هذه الصفة تماما. لا أحد يقول إنه يقتل الناس إنما يكون التبرير الدائم هو قتل القتل. فعل تصفية الإرهابيين يلحق بهذا التوصيف، فهو لا يلغي من الوجود أناسا وشخصيات وكائنات لهم حيثية متصلة بالعيش والحياة، بل يلغي سياقا من سياقات الموت. هو إذن يستهدف الموت نفسه. لحظة “عرسلة” الفليطي هي لحظة أخيرة قبل هذا السياق، إنها القاتلة بالقوة وتحتاج أن تكون من جبهة النصرة لتكون القاتلة بالفعل.

اغتيال زوجها تم بيديها ولكنها لم تضغط الزناد. هذه هي المسافة التي تضيق بين البيئة الحاضنة للإرهاب وبين البيئة الصانعة له، بمعنى آخر لا تزال عرسال بيئة مؤيدة للنصرة، والحزب يريد أن يرفع تصنيفها الإرهابي لتصبح جبهة النصرة نفسها.

عملية رفع التصنيف تحتاج إلى ما يمكن أن نسميه شيوع الإهدار العادي. هكذا وفي ظل هذه المعمعة التي تلت اغتيال علي البزال بدا كل ما حدث من قتل اللاجئين السوريين والاعتداء على عرسال وتصفية بعض أبنائها، وكأنه جزء من الحياة الطبيعية واليومية. باتت هذه الأفعال معلما من معالم الألفة التي لا يحق لها استجرار استغراب أو استهجان، فكيف الحال إذا كنا نسعى إلى إدانتها؟

لا يستطيع “السياسي” العبور في غابة الجثث هذه. السياسة تعمل قبل المجزرة من أجل تجنبها. يريد الحزب والنظام السوري وإيران للسياسة أن تعمل بشكل مغاير لما وضعت له. يريدونها أن تعمل في المجزرة ومنها وفيها، وألا تكون استمرارا لها أو ممارسة لها بشكل آخر، بل يريدونها أن تتقمصها وأن تتحول إلى سياسة للمجزرة بالمعنى الإداري والتنظيمي. من هنا بات كل شيء يجنح نحو النهايات. النهايات تعلمنا كل شيء عن البدايات وعن السياقات التي أوصلت إلى النهايات، وتعلمنا أن نعيد تأويل كل شيء من جديد انطلاقا من اللحظة الختامية المحترقة. هكذا بتنا قادرين أن نرى كل تاريخ الحرائق مكثفا في لحظة واحدة.

تقول النهايات إن لحظة إعدام علي البزال وما تلاها، ترافقت مع غارات إسرائيلية استهدفت قوافل تحمل أسلحة تعود للنظام البشاري كانت في طريقها إلى حزب الله في لبنان. ليست هذه الأسلحة معدة لقتال إسرائيل، بل تهدف إلى استثارتها من أجل أن يبدو عنوان الحرب الرئيسي ضد السوريين هامشا واسعا يتسع لمقابر جماعية مفتوحة.

إسرائيل لا تريد أن تتعامل مع هذا الاحتمال. تريد للمجزرة ضد السوريين أن تكون عارية ومباشرة. تريد لبشار أن يستمر في ذبح السوريين قي سوريا بكل الأسلحة المبيدة والغبية التي لا تستعمل في أي حرب فعلية بل فقط في حالات الإبادة، وهي الحالة التي تسم تعامل النظام مع السوريين.

تريد من حزب الله أن يفعل الأمر نفسه مع اللاجئين السوريين في لبنان. تسعى إلى عدم السماح له بالحصول على أي سلاح متطور يمكن استخدامه ضدها أن يجعل المجزرة التي سيغطيها تتخفف من بعض وحشيتها، أو تتجه لتصبح نوعا من حرب. لا تريد إسرائيل حربا ضد السوريين، بل تريد إبادة. تريد ذبحا قريبا بالسكاكين كي يرى القاتل وجه الضحية، وكي تحتفظ الجينات السورية الناجية بصورة القاتل ووجهه، ولا تغفر له كي تكون الإبادة التالية شاملة. “السورنة” عنوان “إهدار حزبللهي وإسرائيلي” تام. رنا الفليطي العرسالية المتجهة نحو السورنة كانت إشارة لا تخفى على هذا النزوع.

اقرأ المزيد
٩ ديسمبر ٢٠١٤
تقاطعات واشنطن وطهران وموسكو

تراقب الدول العربية، بحذر شديد، تطورات التفاوض الإيراني الأميركي، وتذهب معظم التحليلات إلى أن هذا المتغير العلاقاتي، في حال تحققه، سيكون له أثر سلبي كبير على الوضع العربي، وربما يساهم بإعادة صياغة النظام الإقليمي في المنطقة، وخصوصاً وأنه يتزامن مع الاعتقاد بوجود توجهات أميركية لفك الارتباط مع المنطقة، نظراً لتراجع قيمتها الإستراتيجية، والتوجه، تالياً، إلى تلزيمها لطرف إقليمي قوي، بعد أن يصار إلى صنع ترتيبات معينة، تساعد على إنتاج هذا الواقع.

نظرياً، لا يمكن استبعاد مثل هذه الاحتمالات، فالعلاقات بين الدول، في ظل التفكير الواقعي الذي يحكم حقل العلاقات الدولية، محكومة بالمصالح المشتركة للأطراف، وهذه تحكمها المتغيرات السياسية والتقنية والاقتصادية، ذات الطبيعة المتحركة وغير الثابتة، وعلى ضوء ذلك، لا يمكن استبعاد حصول تطورات مهمة في العلاقة بين واشنطن وطهران، وخصوصاً في القضايا التي تتقاطع فيها مصالح الطرفين.

وفي التطبيق العملي لممكنات هذا التطور العلاقاتي، ومجالاته، فإنه يصعب إدراجها في الفضاء العربي، لأسبابٍ، يتنافى بعضها مع منطق العلاقات الدولية، ويقع بعضها خارج قدرة الطرفين على تحقيقه، إذ من غير المنطقي أن تفاوض واشنطن طهران على ساحات تملك النفوذ فيها، ولها مصالحها القائمة حتى أمد مستقبلي بعيد، وتشكل جزءاً من أعمدة قوتها على الصعيد الدولي، كما تدرك كل من واشنطن وطهران أن النفوذ في المنطقة لا يتم منحه جائزة ترضية، ذلك الأمر تحكمه ديناميات داخلية، يظهر حتى اللحظة صعوبة التحكم بها.

الأقرب إلى المنطق أن التأثير السلبي لتطور العلاقات الأميركية الإيرانية سيكون على الدور والمكانة الروسية في المنطقة والعالم، وستجري ترجمته بتأهيل إيران للعب دور البديل عن روسيا، في سد احتياجات الغرب الأوروبي من الطاقة، وفي هذا ستلعب واشنطن على وتر طموحات طهران ورغباتها في التقارب مع الغرب، وتحويلها إلى أكبر مورد للطاقة إلى أوروبا واحتلال الدور الروسي في هذا المجال، وينطوي هذا الأمر على حزمة من الأهداف الغربية، فعدا عن إضعاف روسيا اقتصاديا، تقوية التيار الإيراني المعتدل واحتواء إيران، اقتصاداً ومجتمعاً، عبر تشبيك اقتصادها بمنظومة الاقتصاد الغربي، وتنمية القطاعات التي تقدم خدمات للغرب، كالطاقة والسياحة.

تدرك واشنطن هشاشة العلاقات الإيرانية الروسية، فهي، وإن بدت في لحظة متينة في الشكل، إلا أنها تأسّست على مبدأ "تحالف الضرورة" بالدرجة الأولى، كما أنها تنطوي على تناقضات عميقة، تمثل إشكالات نائمة، من السهل إعادة إحيائها عبر إطلاق دينامية تنافسية بين البلدين، تعيد وضع تلك التناقضات على السطح، والتي من أهمها الخلاف على توزيع حصص ثروات بحر قزوين، حيث تقف روسيا مع كازاخستان وأذربيجان في خلافهما مع إيران، كما توجد إيران في المناطق التي تعتبرها روسيا تقليدياً مجالاً خاصاً لمصالحها الاستراتيجية والتاريخية، مثل مناطق آسيا الوسطى والقوقاز، وبحر قزوين وسورية، وبالتالي، فإن تصادمهما محتمل على الدوام، كما لم يعمل الطرفان، جدياً، على تثبيت آليات  لتطوير العلاقات بينهما، وجرى إدارتها على أساس "قضية تلو الأخرى"، في إطار توظيف كل منهما الآخر في علاقاته مع الغرب.

“ ستلعب واشنطن على وتر طموحات طهران ورغباتها في التقارب مع الغرب "

على مدار سنوات سابقة، صاغت كل من طهران وموسكو علاقاتهما البينية بحذر، وبتناسب عكسي، مع تطور علاقاتهما الغربية، وكان كل طرف منهما مستعد لبيع تلك العلاقة في سوق تفاوضه مع الغرب، وبناءً على ذلك، أسّسا منظومة علاقات مشرّعة نوافذها لاختراق غربي، كانا يستجلبانه، واليوم يمثّل لهاث طهران خلف دور إقليمي، أحد أكبر مداخل الاختراق الغربي لعلاقتها مع روسيا، ذلك أن تأهيل إيران لتكون البديل عن روسيا في مجال تزويد أوروبا بالطاقة، يعتبر أفضل بديل عن صناعة القنبلة النوويّة، ثم أن إيران، في نظر الغرب، لا تشكّل خطراً مثل روسيا، إذ على الرغم من امتلاك إيران نفوذاً معيناً في الشرق الأوسط، فإن معادلات هذه المنطقة أعقد من أن تتحكّم بها إيران، وحالة الاختلال في ميزان القوة لصالح إيران مؤقتة وعابرة، وكفيلة بإصلاح نفسها مع الزمن، كما تستطيع أميركا إدارتها وضبطها في إطار الصراع السني الشيعي الذي سيكون العنوان الأساسي للمنطقة عقوداً مقبلة، ويمكنها وضع آليات لاستمرار استنزاف إيران، وهي ترى أن ثمة تشكيلات جديدة تلد في المنطقة، ولا يمكن وقفها، وهي كفيلة بامتصاص فوائض ايران المستقبلية من الطاقة. غير أنّ لعب واشنطن على خط العلاقات الروسية الإيرانية، من شأنه تغيير المعادلات العالمية التي تتشكل، في الوقت الراهن، والتي تشكّل روسيا وإيران واحدة منها، ذلك أن إطلاق دينامية التنافس بينهما، بهذه الحدة، سيتحول مستقبلياً إلى صراع مؤكد على الأدوار ومناطق النفوذ، وسيكون بداية لتفكيك منظومة القوة المقابلة لأميركا في النظام العالمي، والتي تتمثل بدول "البريكس"، والتي تشكل روسيا وإيران أحد أصلب أعمدتها.

يبدو أن موسكو كانت الأكثر قدرة على قراءة التطور في العلاقة بين طهران وواشنطن، فسارعت إلى تركيا، لتوقيع اتفاقات اقتصادية، في محاولة استباقية لضرب مشروع الطاقة الإيراني البديل، والذي قد يمر عبر الأراضي التركية، كما بدأت بمحاولة إعادة صياغة الواقع السوري لمصلحتها، عبر إيجاد بنية سياسية قريبة لها، تعبر من خلالها إلى تسويةٍ تضمن مصالحها على البحر المتوسط.

اقرأ المزيد
٩ ديسمبر ٢٠١٤
بوتين وأردوغان .. تثبيت المواقف بشأن سورية

ماذا يريد الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، من نظيره التركي، رجب طيب أردوغان؟ وماذا يريد أردوغان من بوتين؟ سؤالان هما سؤال واحد، يطرح بقوة مع زيارة بوتين إلى تركيا. ربما الجواب معروف للجميع، بوتين يريد من أردوغان تغيير سياسته تجاه الأزمة السورية، فيما يريد أردوغان الشيء نفسه من بوتين. ولكن، كل طرف بالاتجاه الذي يريده، ما يبدو غير ممكن في ظل الاختلاف الاستراتيجي في سياسة البلدين تجاه الأزمة السورية. فروسيا تتمسك بالنظام السوري حتى النهاية، فيما تركيا تريد إسقاطه. لكن هذا الاختلاف أو التنافض لا يفسد ود المصالح الاقتصادية الكبيرة بين البلدين، على الرغم من أن العلاقات التركية - الروسية تقف على بحر من العداء التاريخي منذ الحروب المتتالية بين الدولة العثمانية وروسيا القيصرية، مروراً بمرحلة الحرب الباردة، عندما كانت تركيا تقوم بدور الشرطي الأطلسي في مواجهة الاتحاد السوفييتي السابق.                                                   

تأتي زيارة بوتين إلى تركيا في إطار الاجتماعات الدورية لمجلس التعاون الاستراتيجي الأعلى الذي تأسس بين البلدين عام 2010، وتأتي في وقت حساس لجهة العلاقات التركية – الأميركية التي توترت أكثر، بعد زيارة نائب الرئيس الأميركي، جو بايدن، إلى تركيا، وما وصف أردوغان حليفه الأميركي بالوقاحة ومطالبه اللامتناهية إلا تعبيراً عن هذا التوتر، وعن تناقض الأجندة إزاء ما يحدث في سورية والعراق، ومنطقة الشرق الأوسط عموما، وهي لحظة ربما يستفيد منها بوتين، ويحاول استغلالها في التقرب من تركيا أكثر فأكثر، سياسة واقتصاداً.                                                      

من دون شك، تشكل العلاقات الاقتصادية والمصالح المشتركة الكبيرة بين البلدين، عاملاً مهماً لدفع هذه العلاقات إلى الأمام، خصوصاً إذا ما علمنا أن روسيا هي الشريك التجاري الأول لتركيا، بعد أن بلغ حجم التجاري بين البلدين نهاية العام 2013 أكثر من 30 مليار دولار، وتؤمن تركيا ما بين 60 إلى 70% من مواردها في مجال الطاقة من روسيا التي هي الدولة الأهم المصدرة للغاز في العالم. لكن، على الرغم من أهمية هذا العامل الاقتصادي، ودوره في تحسين العلاقات الاقتصادية والتجارية والسياحية بين البلدين، فإن ثمة صراعا مريرا على مناطق استراتيجية عديدة في العالم، ولا سيما الشرق الأوسط وآسيا الوسطى ومنطقة القوقاز التي تعوم على بحر من النفط والغاز، حيث الصراع العالمي على مد خطوط الطاقة من هذه المناطق إلى الدول الأطلسية، بشقيها الأوروبي والأميركي.

" ستعمل روسيا التي تخوض صراعاً استراتيجياً مع الغرب، وانطلاقا من مصالحها الاستراتيجية، من أجل عدم تكرار التجربة الليبية في سورية "

القيادة الروسية، وانطلاقا من مصالحها، موقفها واضح من الأزمة السورية، لعل أهم معالمه الرفض المطلق للتدخل العسكري، والتمسك بإيجاد حل سلمي، عبر مرحلة انتقالية، من خلال حوار يفضي إلى مثل هذا الحل، حيث طرحت مراراً اتفاق جنيف واحد أساساً يمكن الاعتماد عليه للحل، وهو ما كررته موسكو في أثناء زيارة وزير الخارجية السوري، وليد المعلم، أخيراً، إلى روسيا التي تعمل على إعداد مبادرة للعودة إلى الحوار مجددا، في حين القيادة التركية التي قطعت كل علاقاتها مع النظام السوري، وانخرطت في الأزمة السورية، واحتضنت، منذ البداية، المجلس الوطني السوري، ثم الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة، والجيش الحر، وباقي المجموعات المسلحة التي تعمل لإسقاط النظام السوري بكل قوة.                       

تخشى روسيا التي تحارب في سورية دفاعاً عن مصالحها الاستراتيجية من البعد الإيديولوجي لتداعيات صعود الحركات الإسلامية المتشددة، من أمثال داعش والنصرة، ولا سيما في ظل وجود نحو 50 مليون مسلم في جمهوريات آسيا الوسطى التي كانت، حتى وقت قريب، جزءا من الأراضي الروسية. روسيا هذه تنظر بعين الخوف إلى تداعيات هذه السياسة على أمنها القومي. وفي مواجهة ذلك، تعمل، بقوة وعلى مختلف المستويات، لبقاء النار المشتعلة خارج أراضيها، وهي حجة ستدفع بوتين إلى الطلب من أردوغان اتخاذ مزيد من الإجراءات ضد هذه التنظيمات، باسم مكافحة الإرهاب، ولو بطريقة مختلفة عن حرب التحالف الأميركي – العربي ضد داعش. وفي المقابل، سيحاول أردوغان القول لبوتين إن المعطيات والمتغيرات والوقائع بشأن الأزمة السورية تغيرت، وإن على موسكو الاستجابة لذلك كله، بعد كل هذا القتل والدمار، لكن الثابت أن روسيا التي تخوض صراعاً استراتيجياً مع الغرب، وانطلاقا من مصالحها الاستراتيجية، ستعمل من أجل عدم تكرار التجربة الليبية، ولعل ما يدفعها إلى اتخاذ هذا الموقف حتى النهاية هو الموقف الغربي، وتحديدا الأميركي من الأزمة السورية. معادلة لن تجعل من لقاء بوتين – أردوغان، في شقه السوري، سوى لقاء تثبيت المواقف لا أكثر، فأردوغان لا يستطيع التراجع عن مواقفه، بعد أن قطع العلاقات نهائيا مع النظام السوري، وأصبح إسقاطه هدفاً لا محيد عنه، فيما لن يقدم بوتين هدية مجانية له، خصوصاً وأنه يتحدث من منطلق الحاكم القيصري والدولة الاستراتيجية القوية.

اقرأ المزيد
٩ ديسمبر ٢٠١٤
تجميد سوريا

قد تكون الأفكار التي يروجها المبعوث الدولي لسوريا دي ميستورا، بشأن الأزمة، محبطة في واقعيتها وبراغماتيتها الشديدة، بشأن تجميد الأزمة، كما يقال، عند خطوط القتال الحالية، لإعادة الحياة إلى طبيعتها، ثم الانتقال بعد ذلك إلى البحث عن حل سياسي، لكنها قد تكون الخطة الواقعية المتاحة حاليا، رغم ما قد تسببه من إحباط للمعارضة السورية التي شاركت في مؤتمري «جنيف 1» و«جنيف 2» على أمل التوصل إلى اتفاق يتيح حلا يقوم على تغيير النظام.
خطة تجميد الأزمة لا تقدم أفقا سياسيا واضحا إلى الأمام أو طريقا يبدو له آخر، وإنما هي تكريس الأمر الواقع الحالي حيث لا يستطيع طرف أن يقلب الطاولة على الآخر، والبناء على نظرية تقليص الخسائر ووقف النزيف لأن استمرار القتال ليس له نتيجة سوى سقوط المزيد من القتلى وحدوث المزيد من الدمار دون حسم ما لم يحدث تغيير جذري في المعطيات الدولية والإقليمية الحالية وتدفقات السلاح والدعم للجانبين.
لكن المشكلة في سوريا أصبحت أن الخيوط فيها باتت شديدة التعقيد، وبدت أنها خرجت عن السيطرة، فخطوط القتال تتحول شيئا فشيئا إلى مواجهة بين جانبين أسوأ من بعضهما، ميليشيات تابعة لتنظيمات شديدة التطرف وتصدر الإرهاب إلى المنطقة كلها، وقوات نظام مسؤول عن تعقد الأزمة إلى هذا الحد، في حين أنه لو كان استخدم أساليب سياسية في التعامل مع المحتجين واستجاب لطلباتهم منذ بداية الانتفاضة لم تكن الأمور لتصل إلى هذا الحد.
تعقد الخيوط لم يعد يقتصر على الأرض، فقد انتقل إلى الجو، حيث أصبحت هناك في آن واحد غارات للنظام والتحالف، ودخلت أخيرا إسرائيل على الخط، بينما الأطراف المتعاملة مع الأزمة نقاط الاختلاف بينها أكثر من نقاط الاتفاق، وخاصة بالنسبة إلى تركيا التي يوجه رئيسها كل فترة تقريعا إلى واشنطن لأنها لا تستجيب لطلباته في فرض منطقة حظر جوي.
وهنا يجب ملاحظة الفارق الكبير في الخطاب المستخدم والأفكار المطروحة قبل عامين والآن، وهو أمر لو درسته كل الأطراف المعنية أو المتداخلة في الأزمة السورية، بما فيها المعارضة نفسها، فإن ذلك قد يكون بداية الحل، لأنه كما يبدو فإن ما كان مطروحا في المرحلتين اللتين قادتا إلى «جنيف 1» و«جنيف 2» استندت كما يبدو إلى معطيات وتصورات خاطئة. وكما هو واضح، فإن أكبر خطأ حدث هو أنه في البداية كان في مخيلة كثيرين في المعارضة السورية، أو إقليميا، سيناريو شبيه بتدخل الناتو في ليبيا بما يمكن من قلب الموازين على الأرض بشكل سريع نحو انتصار عسكري حاسم، وهو أمر لم يحدث، كما أن نظام القذافي لم يكن لديه شبكة حلفاء مستعدين لتقديم الدعم والسلاح لأكثر من ثلاث سنوات كما حدث في تلك الأزمة.
كل ذلك أصبح تاريخا، وأصبحنا نواجه بمشكلة ينظر إليها العالم على أنها خطر إرهابي يحتاج إلى مواجهة شاملة لدرء أخطاره، بما في ذلك تدريب فصائل من المعارضة المعتدلة لمواجهته، وكذلك مشكلة لاجئين أصبحت تئن تحت وطأتها دول الجوار بعد وصول أرقام اللاجئين إلى ملايين، خاصة في دولة صغيرة مثل لبنان، ونضوب موارد وكالات الإغاثة والإعاشة التي تحتاج إلى تدفقات مالية مستمرة من أجل إعاشة اللاجئين.
وفي الحالتين فإن أساليب المعالجة لا تقدم حلا نهائيا، فقد تستمر الغارات لسنوات في مواجهة شبح الإرهاب الذي يستخدم أساليب حرب العصابات والفراغ الأمني في المناطق التي يتحرك فيها، والحالة اليائسة للسكان، بينما أسوأ وضع يمكن أن يتعرض إليه الإنسان هو أن يصبح لاجئا في مخيم في بلد آخر دون أن يعرف ما إذا كان سيستطيع أن يعود يوما ما إلى منزله وبلده، ويتحول شيئا فشيئا إلى عبء على الآخرين، وفي مثل وضع كهذا يكون الوصول إلى حل سياسي يقلص خسائر البلد والشعب أمرا ملحا، وربما قد تفتح أفكار التجميد الطريق لمثل هذا الحل.

اقرأ المزيد
٩ ديسمبر ٢٠١٤
هل تسد القذائف رمق اللاجئين السوريين؟

إشهدوا بأن أشقاءنا السوريين لم يتركوا أحدا منا يوما ينصب خيمة له على مشارف مدنهم، أو على طول الحدود الفاصلة بينهم وبين الأقطار المجاورة. إن لم تعلموا فأقروا التاريخ الحديث والقريب جدا، ستجدون أفواج اللاجئين الفلسطينيين واللبنانيين والعراقيين دخلوا عليهم بالملايين، لكنهم بمجرد دخولهم تحولوا من لاجئين إلى مواطنين أسوة بأبناء البلد.
سكنوا في كل الأحياء والمدن والقرى والأرياف، وعملوا في كل المهن البسيطة والعالية، وزاحموا أبناءهم على مقاعد الدراسة في كل المدارس والجامعات، وتطببوا في كل المستشفيات والمراكز الصحية، ولم نسمع كلمة «أف» واحدة من مواطن سوري. نحن لا نتحدث في السياسة في هذا الجانب لأنها هي من فرقتنا، ولا يفهم أحد بأننا نشير إلى بركات النظام السوري، فهو كحال بقية الأنظمة العربية التي زرعت الفرقة بيننا، فلا علاقة للنظام بهذا، بل هو مزاج أهلنا في سوريا على مر التاريخ، ولا نقول بأن لهم فضلا على أحد من كل أولئك الذين لجأوا اليهم، فحاشى السوريين أن يعتبروا ذلك فضلا، لانهم يؤمنون أيمانا راسخا بأنه كان واجبهم تجاه أشقاء لهم، لكننا نقول، أي عار هذا الذي يلاحقنا نحن أبناء هذه الأمة، حينما نترك ملايين الأطفال اليتامى والأرامل والشيوخ والمرضى من السوريين، يواجهون الشتاء القارس في الصحارى على الحدود وعلى أطراف مدننا العربية؟ وأي جحود هذا الذي يدفعنا لنسيان كل روابط الدم والتاريخ والدين وحتى الرابطة الإنسانية، إلى الحد الذي جعل برنامج الغذاء العالمي يعلن عن إيقاف معوناته للاجئين السوريين الأسبوع الماضي، بعد أن نفد ما لديه من شحيح المال، وتراجع المانحون عن التزاماتهم، فيمر علينا الخبر مرور الأثير ولا يحرك فينا بقية غيرة أو وفاء؟ هل علمتم ما معنى إيقاف المساعدات الغذائية في هذا الوقت بالذات؟ إنه يعني بقاء أكثر من مليون وسبعمئة الف أنسان بدون طعام، وان هنالك ما يفوق 132000 أسرة و660000 لاجئ، سيفقدون فرصة الحصول على مساعدة لاتقاء برد الشتاء القارس فقط في لبنان، وعليكم أن تتصوروا العدد الإجمالي، عندما نضيف اليهم الأخرين في الأردن، ومن يسكنون الدور والمساجد والبنايات المدمرة في الداخل السوري. أحصوا معنا ما يهدر من أموال في أقطارنا العربية على الأعياد الوطنية، وعلى استضافاتنا لسباقات «الفورمولا واحد» وكرة اليد والخيول والهجن، وعلى بناء أعلى برج وأطول جسر وأعرض شارع وردم بحر كي نبني عليه فندقا وملعب تنس.. تذكروا الأرقام الفلكية التي ذهبت لشراء أسلحة وطائرات وصواريخ، لم تخرج من أماكنها يوما، حتى باتت غير صالحة للاستعمال ثم استبدلوها بأحدث.. إبحثوا في تقارير مراكز البحوث الغربية عن حجم الأموال التي ستخرج من الخزائن العربية لتسديد فواتير ما يسمى الحرب العالمية على الإرهاب القائمة الآن، التي قررتها ورسمتها ونفذتها الولايات المتحدة لتأمين مصالحها في المنطقة، ثم التحقنا بها مجـــــبرين كي نسدد مصروفاتها، علّنا نحصل على شهادة حسن سلوك من المجرم الأول في العالم.
كم يمثل مبلغ قدره 64 مليون دولار هو الذي يطلبه برنامج الغذاء العالمي، لتغطية الحاجات العاجلة للاجئين السوريين لمواجهة الظروف المناخية الصعبة في فصل الشتاء، نسبة إلى أرقام المبالغ الخيالية التي يتم صرفها من قبل هذه الأنظمة؟ إننا لاندعو للانغلاق والتقوقع والانعزال عن العالم ومستحقات العلاقات الدولية، وبناء عوامل جذب للآخرين للاستثمار في أقطارنا، وتنفيذ مشاريع ضرورية وترفيهية، لكننا نستغرب على أنظمتنا وولاة أمورنا أن يتركوا أشقاءنا تحت رحمة الدول المانحة، التي تخلت عن التزاماتها بتسديد تعهداتها خلال المؤتمرين الأول والثاني، ما جعل عقد المؤتمر الثالث أمرا مستحيلا. ما فائدة الاستثمار في الأرض بدون الاستثمار في الإنسان، الذي هو القيمة العليا والهدف الرئيسي من كل مشاريع الاستثمار؟ أليس عملا إرهابيا ترك ملايين الأفواه لا تجد ما تقات عليه؟ أليس إرهابيا كل من يمتلك الموارد ولا يتقدم لتأمين حياة لائقة لملايين المشردين؟ نعم هو كذلك، وإذا ما أحصينا الأموال العربية والتركية والإيرانية والغربية والإسرائيلية، التي تحركت على الأرض السورية على شكل دبابات وطائرات ومدفيعة وقذائف صاروخية وإطلاقات، والتي قتلت ودمّرت وفرّقت وانتهكت وعوّقت ويتّمت ورمّلت، حينها سنعرف أن مأساة أهلنا في سوريا هي في رقبة كل أولئك المتاجرين بالقضية، وأن كل سوري بات له دين في ذمة كل من ساهم في المأساة، بدءا من النظام وحتى آخر من شارك في الكارثة. فلقد هرول الجميع إلى الساحة السورية كي يبرزوا عضلاتهم الطائفية والمالية، وهم يقدمون الدعم لهذا الطرف أو ذاك، لكن أحدا منهم لم يلتفت إلى الضحية. تباهت المعارضة السورية وهي تتبختر على مسارح المؤتمرات في باريس ولندن وجنيف وغيرها من العواصم العربية والغربية، بالكلام المعسول، الذي كان يصدر من هذا الزعيم أو ذاك السياسي، وصدّقوا أنفسهم وهم يشكلون ما يسمى «حكومة مؤقتة»، ويفتحون سفارات لهم هنا وهناك، لكنهم لم يستطيعوا أن يقدموا شيئا يذكر لشعبنا في الداخل ولا من هم في الخارج، وكل ما حصلوا عليه من الغرب هوما يسمى، «أصدقاء سوريا»، بينما باعهم الغرب حينما تخلى عن الخطوط الحمراء التي وضعها للنظام.
أما النظام فهو الآخر تباهى أيضا بتحالفاته مع أطراف دولية وإقليمية ومحلية، فتمادى وتغول في عنجهيته وتصور أن النار وحدها هي التي تطهر أرض سوريا من معارضيه، لكن لا القوة ولا الحلفاء استطاعوا إخراجه حتى الآن من غرفة العناية المركزة التي هو فيها، وها هي الجغرافية السورية تتقلص تحت أقدامه وتخرج عن سيطرته كل يوم، حتى بات وجود نظامه من عدمه سيان.
المهمة الملقاة على عاتق كل من تاجر بالقضية السورية، وكل من صفى حساباته مع الآخر على حساب شعبنا العربي فيها، وكل من استعرض قوته وأمواله ومواقفه السياسية الفارغة، عليهم جميعا أن يتحلوا ببقية من صحوة ضمير، وأن يلتفتوا إلى ملايين المشردين على الحدود في المخيمات، وأن يحاولوا إعادة شيئا من كرامتهم المهدورة وأمنهم المفقود وخبزهم الذي بات نيله صعبا. لقد كانوا جميعا كرماء في بيوتهم ووطنهم، أعزاء بين الناس، لكنهم ذلوا على أيدي دهاقنة السياسة والمال. فهل سيستجيب ولاة أمورنا إلى وخزة أخيرة من ضمير؟

اقرأ المزيد
٩ ديسمبر ٢٠١٤
عوائق أمام خطة دي ميستورا

يحاول المبعوث الأممي إلى سورية ستيفان دي ميستورا اختراق الرمال الوعرة للأزمة، مستعيناً بتجربته في العراق وكوسوفو ولبنان وأفغانستان، وذلك عبر خطة طموحة لا تتضمن أية أبعاد سياسية أو عسكرية آنية، وإنما تهدف إلى تثبيت الوضع الميداني القائم.

خطة دي ميستورا لتجميد الصراع جاءت إثر قراءة عميقة للوضع السوري ومشاورات غير رسمية مع أطراف إقليمية ودولية ومؤسسات مدنية، بعد بلوغ الأزمة السورية مستوى عالياً من التعقيد والتشابك بحيث يستحيل إنهاؤها عبر عمل عسكري مباشر أو عمل سياسي مباشر.

ليست خطة دي ميستورا مقدمة لإنشاء مناطق عازلة وفق ما تطالب به المعارضة وتركيا منذ زمن، ولا هي شبيهة بالمصالحات التي يقوم بها النظام في بعض المناطق وتنتهي بسيطرته عليها. إنها خطة تهدف إلى الحفاظ على الوضع الميداني بين القوى المعتدلة والنظام، ومحاولة تعميمها إذا كتب لها النجاح إلى مناطق أخرى.

أهمية الخطة أو المبادرة أنها تبدأ من الأرض، وليس من المستوى السياسي، كما كان الحال مع الأخضر الإبراهيمي في «جنيف 2» وقبله كوفي أنان مع خطته ذات البنود الست، بل على العكس يمكن القول إن دي ميستورا الذي يمكن وصفه بـ «الماركسي» يعمل على ربط النجاح السياسي في المراحل البعيدة بمدى نجاح خطته على الأرض في المرحلة المقبلة.

كما تنبع أهمية هذه الخطة من أنها تتضمن بشكل أو بآخر مضامين المبادرات الإقليمية، سواء مبادرة الجامعة العربية عام 2011 أو خطة إيران التي طرحت في نهاية عام 2012 أو حتى بعض مضامين اتفاق «جنيف 1» و «جنيف 2»، فضلاً عن مضامين بعض القرارات الدولية حول سورية. غير أن اختيار حلب تواجهه عوائق كثيرة قد تحيل خطة دي ميستورا إلى سراب وتضعه في الوضع الذي كان فيه سلفاه الأخضر الإبراهيمي وكوفي أنان، ومن هذه العوائق:

ـ وجود أكثر من عشرة فصائل عسكرية في مدينة حلب وريفها وهي لا تجتمع على هدف واحد وإن كانت محاربة النظام العنوان العريض لها.

ـ وجود «داعش» و»جبهة النصرة» أيضاً، وهما تنظيمان لهما أهدافهما الخاصة ولا يأتمران بأوامر من أحد ويصعب إن لم يكن من المستحيل إجبارهما على تجميد القتال.

ـ تنوع أشكال تواجد النظام في المنطقة من جيش نظامي إلى قوات حليفة كـ «حزب الله» وقوات فلسطينية، إلى مدنيين تابعين للنظام يمكن تسليحهم فوراً.

ـ تداخل جبهات التماس بين الفصائل المسلحة من جهة وبين هذه الفصائل والقوات النظامية من جهة أخرى.

ـ كيف يمكن مراقبة تجميد القتال ومعرفة من لم يلتزم بذلك على وجه التحديد من دون وجود قوات حفظ سلام.

ـ تنفيذ الخطة خارج إطار الأمم المتحدة حيث لن تأتي وفق قرار من مجلس الأمن سواء كان تحت الفصل السادس أو السابع، بسبب اعتراض موسكو على ذلك خشية تكرار نموذج كوسوفو وحدوث تدخل عسكري دولي إذا فشل تجميد القتال.

ـ تباين مواقف الأطراف من الغاية من تجميد النزاع، حيث يسعى النظام إلى تطويع خطة دي ميستورا لصالحه من خلال اختزالها في محاربة الإرهاب، وهذا سبب إصراره على ضرورة تنفيذ قراري مجلس الأمن 2170 و 2178 المتعلقين بمحاربة الإرهاب. ومفهوم محاربة الإرهاب مفهوم فضفاض لدى النظام حيث يشمل كافة المسلحين الذين يقاتلونه، في حين تسعى الفصائل المعارضة لا سيما «الجيش الحر» إلى ربط تجميد القتال بتنفيذ القرار الدولي 2165 الذي يتضمن وقف القصف من قبل النظام وعدم تحريك قواته وإطلاق سراح المعتقلين.

ـ غياب الثقة بين الأطراف الإقليمية الداعمة للنظام من جهة والفصائل المسلحة من جهة ثانية، وهذا الأمر يتطلب جهوداً ديبلوماسية كبيرة للوصول إلى تفاهم حولها.

اقرأ المزيد
٨ ديسمبر ٢٠١٤
«حصة العرب» في سورية... حصة إيران في العراق

روسيا تسعى إلى تقسيم جديد لأوروبا. هذا ما يحذر منه خصومها المعترضون على اندفاعها في أوكرانيا. تتدخل لتغيير الحدود القائمة واقتطاع ما تستطيع إذا استعصى تقسيم الدول القائمة. تريد إعادة إحياء الحدود بين الدول الأوروبية بهدف إضعاف الاتحاد الأوروبي. هذا ما فعلته في جورجيا ثم في أوكرانيا وتهدد به دول البلطيق. شعارها الدفاع عن الأقليات الروسية التي تعزز انتشارها في كثير من الدول زمن «الاتحاد السوفياتي». ويتهم الغرب اليوم الرئيس فلاديمير بوتين بالسعي إلى إعادة تقاسم بعض أطراف القارة العجوز ما دامت إعادة رسم الحدود بين دولها تبدو مستحيلة مع قيام الاتحاد وتوسعه المستمر. وهو يستعد لميلاد الاتحاد الاقتصادي الأورو- آسيوي مع روسيا البيضاء وكازخستان وأرمينيا مع حلول السنة الجديدة. ولا يخفي آماله بالتوسع في آسيا الوسطى، نحو طاجيكستان وأوزبكستان وقرغيزستان وتركمانستان التي يتقدم إليها الاستثمار الصيني في مجال الطاقة. والهدف قيام تكتل سياسي- اقتصادي يوازن الاتحاد الأوروبي. والخروج من العزلة التي يفرضها الغرب على بلاده.

تقاسمت الدولتان العظميان النفوذ في معظم القارات أيام الحرب الباردة، وحافظت الدول الوطنية على وحداتها أرضاً ومكونات وأنظمة أيضاً في ظل هذا النفوذ أو ذاك. لكن معظم الأنظمة الشمولية في هذا المعسكر أو ذاك انهار في أوروبا وأميركا اللاتينية وآسيا مع انهيار الكتلة الشرقية. وسعت الولايات المتحدة طوال ربع قرن ولا تزال إلى إرساء نظام دولي جديد، بعدما باتت القطب الأقوى الوحيد. ولم تتوان في السنوات الأخيرة عن خوض حروب أنهكتها وأوروبا في البلقان والقرن الأفريقي وأفغانستان والعراق وغيرها. حتى بات «التعب والخيبة والهموم الاقتصادية والنوازع القديمة والمتجددة إلى العزلة ترخي بثقلها على القرارات السياسية» في أميركا والغرب، كما عبر وزير الخارجية الفرنسي السابق هوبير فيدرين في مقالة لجريدة «الموند» قبل أشهر. وهو ما شجع دولاً أخرى وقوى صاعدة على المواجهة والتقدم نحو أداء دور في بناء النظام العالمي. ويعزو وزير الخارجية الأميركي السابق هنري كيسينجر موقف هذه الدول والقوى إلى ما يسميه رؤية مختلفة لكل دولة تتأثر بتاريخ هذه الدولة وبأوضاعها اليوم.

لذلك لا تخوض روسيا وحدها المواجهة مع الغرب والولايات المتحدة. الصين هي الأخرى تخوض حرباً باردة في المحيط الهادئ للحفاظ على نفوذها في جنوب شرقي آسيا. ولمنع تمدد الولايات المتحدة التي تتوسل التفاهم والتنسيق والتعاون مع دول المنطقة المنضوية في مجموعة «آسيان» ومع اليابان وأستراليا لاحتواء الصين. وأبعد من ذلك حذرت وزيرة الخارجية الأميركية السابقة هيلاري كلينتون مراراً الدول الأفريقية من عودة الاستعمار إلى القارة السمراء، في إشارة إلى الحضور الصيني استثماراً وتجارة ومساعدات مختلفة. وباقي دول «البريكس»، الهند والبرازيل وجنوب أفريقيا، لا تخفي رغبتها في المساهمة في رسم النظام الدولي الجديد. وما يجري في المشرق العربي لا يختلف عما يجري في أقاليم أخرى. وليس الفراغ الاستراتيجي في المنطقة وحده ما يدفع القوى الإقليمية الكبرى، فضلاً عن الكبار، إلى المواجهة والصراع من أجل ملء هذا الفراغ. صحيح أن الولايات المتحدة عبرت صراحة عن نقل ثقل اهتمامها من الشرق الأوسط إلى المحيط الهادئ مع أنها لا تزال حاضرة بقوة. لكن الصحيح أيضاً أن الرئيس باراك أوباما نهج سياسة «الديبلوماسية المتعددة الأقطاب»، وفتح الباب لسياسة التعاون مع القوى الكبرى لإدارة شؤون العالم. والصحيح أيضاً أن تداعيات الأحداث التي عصفت وتعصف بالعالم العربي عجلت في انهيار النظام العربي.

وفرت هذه العوامل فرصة ثمينة للقوى الإقليمية الكبرى في استعادة ماض تليد، على خطى الرئيس بوتين. فحذت إيران حذوه. وتكاد اليوم تعجل في التقسيم الجديد للشرق الأوسط. أو اقتطاع حصصها هنا وهناك. ولا تخفي كما الروس حميتها في الدفاع عن كتل وقوى شيعية من اليمن إلى سورية والعراق ولبنان. وبات من الصعب تجاهل تمددها في عواصم عربية كثيرة. ومثلها تركيا التي تضيق ذرعاً بما جرى في القرم وما يجري في سورية والعراق، تحاول أن تزج بنفسها في المشرق العربي والشمال الأفريقي لتستعيد على الأقل بعض ما كان للسلطنة. وتكتفي إسرائيل بانشغال العرب والعالم عنها لتواصل سياسة تصفية القضية الفلسطينية فيما أهلها عاجزون عن استعادة اللحمة والحد الأدنى من وحدتهم. أما المملكة العربية السعودية التي أعادت بعث الروح في مجلس التعاون فتتحرك مع شركائها ومصر والأردن وغيرهم للحفاظ على ما بقي من «حصة» العرب في النظام المقبل للإقليم... إذا كانت إعادة اللحمة إلى ما كانت قبل عقدين أو ثلاثة تبدو شبه مستحيلة. ولا شك في أن مشاركتها ودول عربية أخرى في الحرب على «الدولة الإسلامية» ستترجم عاجلاً أو آجلاً مردوداً سياسياً وحصة وازنة في كل من سورية والعراق.

وإذا كانت روسيا وإيران تعبران عن طموحاتهما الإقليمية والدولية بتدخلات ميدانية خارج الإرادة الدولية، فإن الصين وتركيا يعينهما تقديم العامل الاقتصادي والتجاري على الصبر والمهادنة. فلا بكين في وارد مواجهة مع الولايات المتحدة على خلفية ما ترى إليه تدخلاً أميركياً في فضائها الأمني جنوب شرقي آسيا. وتقف في الشرق الأوسط خلف موسكو فتعفيها من صدارة المشهد. ولا أنقرة في وارد مواجهة مع إيران التي تتقدم نحو حدودها في بلاد الشام. بالطبع تختلف ظروف كل بلد من البلدان الأربعة. فالكرملين أغاظه ويغيظه «زحف حلف «الناتو» إلى «حدائقه» الخلفية والأمامية، وتوسع الاتحاد الأوروبي إلى ما يعتبره تاريخياً فضاءه الأمني. وطهران ترفع من سنوات لواء «حلف الممانعة» في وجه المشروع الأميركي الذي ترى إليه تهديداً مباشراً لنظام «الجمهورية الإسلامية». وترغب كما حليفها الروسي في كسر الحصار المضروب عليها بشتى الوسائل. وهذه ليست حال الصين أو تركيا.

على رغم هذه الحروب الباردة هنا وهناك، بات واضحاً أن أحداً من القوى الكبرى لا يرغب في الانجرار إلى المواجهة الشاملة. روسيا لا ترغب في العودة إلى الستار الحديد. ولا الغرب عموماً يريد اللجوء إلى القوة في أوكرانيا. يكتفي بسياسة العزل السياسي، كما حصل للرئيس بوتين في قمة العشرين، وبالحصار الاقتصادي والعقوبات. وتمديد المفاوضات في شأن الملف النووي الإيراني تأكيد لرغبة الأطراف المعنيين في استبعاد الخيار العسكري وتغليب سلاح الديبلوماسية يعززه الحصار الاقتصادي الذي يترك جروحاً مؤلمة... تعمقها أسعار النفط المتهاوية ومعها اقتصادات كثيرة. ولن يكون الشرق العربي استثناء أو بعيداً عن هذا السلاح. لذا يشهد المشرق العربي مروحة من التحركات السياسية والأفكار المطروحة من أجل تعديل موازين القوى. وهذه وحدها تسمح بالبحث في حلول وتسويات.

في هذا الإطار، تحرص تركيا مثلاً على إعلاء بنيان علاقاتها مع إقليم كردستان. وتبرع في اللعب بورقة كوباني على وقع حوارها الداخلي مع حزب العمال الكردستاني. ولا تزال تنأى بنفسها عن عمليات التحالف الدولي، وتصر على إنشاء منطقة آمنة شمال سورية، لعلها توفر لها أرضية صلبة لحضور فاعل في مستقبل هذا البلد الذي طالما اعتبرته أدبيات السلطنة «درة التاج العثماني». ومنه يمكنها أن تمارس نفوذها شرقاً وغرباً وجنوباً، كما كانت الحال حتى عشية انضمامها إلى الحرب في عام 1914. أما الرياض فتستعد لسلوك الطريق إلى بغداد. ولا تقفل الباب أمام أية أفكار لتسوية سياسية في سورية على قاعدة جنيف. ولا ترى نجاحاً لحملة التحالف على «الدولة الإسلامية» إلا بإرسال قوات برية. في حين لم تعد إيران تكتفي بتدخلها الميداني على أرض الرافدين. زجت بطيرانها الحربي. لعلها تخشى أن يقوم سريعاً جيش العشائر السنية على أيدي الأميركيين والعرب. لا تريد شركاء في بغداد، مثلما لا تريد شركاء في سورية، ولا حتى روسيا. بلاد الشام كانت قبلتها وميدان صراعاتها قديماً وحديثاً.

على رغم الخلافات التي تدور بين أركان إدارة الرئيس باراك أوباما، يبدو قيام منطقة أو مناطق آمنة، حتى وإن كانت شريطاً حدودياً صغيراً، اقتراحاً مؤجلاً. ليس لأن الأمر يحتاج إلى قرار من المجتمع الدولي. وليس لأن واشنطن تعترض. بل لأن إيران ستقاوم ذلك، وكانت وجهت أكثر من تحذير إلى تركيا من التدخل. ومثلها روسيا لن تسكت. وحتى أفكار المبعوث الدولي ستيفان دي ميستورا ستظل مجال أخذ ورد وقبول وتردد، ومثلها مساعي موسكو وأفكارها. ومثلها أيضاً الدعوات إلى الزج بقوات برية في الحرب على الإرهاب. عجلة التسويات على المسار الديبلوماسي ستظل بطيئةً، كما كانت الحال ولا تزال في الملف النووي، نظراً إلى تعدد الأطراف واللاعبين وتضارب مصالحهم وعلاقاتهم. وستبقى سورية تنتظر ما سيرسو عليه تقاسم العراق بين القوى الإقليمية الكبرى إذا تعذر التقسيم الرسمي المعلن. وما دام الذين خسروا بلاد الرافدين بعد سقوط صدام حسين يستعيدون حضورهم في بغداد وإن كانت الغلبة لطهران، فإن حضورهم في دمشق سيكون غالباً في المقابل. لا بد أن تعود السلطة إلى «شرعية الأكثرية» كما انتهى الأمر في العراق، إلا إذا تحقق المحظور ووقع التقسيم النهائي، كما يخشى الروس ويتساءلون في سرهم! فهل يكون «تجميد» الحرب كما يدعو دي ميستورا مقدمة لتكريس مثل هذا الحل، وبالتالي تكريس التقاسم القائم في كل الإقليم؟

اقرأ المزيد
٨ ديسمبر ٢٠١٤
عندما يهرب النظام السوري إلى سوريا

يمتلك رئيس النظام السوري بشار الأسد قدرة، ليس بعدها قدرة، على الانتقام من سوريا والسوريين. كان آخر دليل على ذلك الحديث الذي أدلى به إلى مجلة “باري ماتش” الفرنسية، والذي يبدو واضحا أنّه جزء من حملة علاقات عامة تستهدف تلميع صورة رجل مسؤول عن مئتي ألف قتيل من مواطنيه وتهجير نصف أبناء الشعب، فضلا عن تدمير المدن والبلدات السورية.

الأكيد أنّ لدى المجلة ما دفعها إلى إجراء الحديث والتباهي به. ما ليس أكيدا هو مساهمة الحديث في تغيير شيء في الواقع السوري المتمثّل في أنّ النظام انتهى، لكنّه يصر على أن تنتهي سوريا معه.

خلاصة الحديث أن بشّار الأسد يرفض مغادرة الموقع الذي يحتله بالقوة والذي ورثه عن والده. يتحدّث عن “دولة” يقف على رأسها في حين أنّه لم توجد في سوريا الحديثة، أقلّه منذ تولي حزب البعث السلطة نتيجة انقلاب عسكري في الثامن من مارس 1963 أي مؤسسات لدولة من أي نوع كان. كل ما هناك نظام عسكري- أمني، يدعي أنه دولة، ولم تكن لديه في يوم من الأيّام أي شرعية.

تطوّر هذا النظام في اتجاه واحد، في اتجاه تحوّله من مجرد تركيبة مدنية- عسكرية في البداية إلى تركيبة طائفية، على رأسها عدد من الضبّاط العلويين اختُزلت التركيبة هذه ابتداء من العام ألف وتسعمئة وسبعين برجل واحد هو حافظ الأسد.

في عهد بشار الأسد، صارت التركيبة ذات طابع عائلي بعدما وضع أقرباؤه المباشرون يدهم على كل المرافق الاقتصادية للبلد في كل المجالات والحقول.

باختصار، لم توجد في سوريا ما بعد البعث مؤسسات لدولة. كانت هناك مجموعة من الأجهزة الأمنية تسيطر على الدولة وتسيّرها لا أكثر. كانت في الواجهة في بعض المواقع شخصيات سنية استخدمت لمجرّد التمويه. لم يكن يجمع بين هذه الشخصيات سوى أنّها من سُنّة الأرياف، نظرا إلى كره حافظ الأسد لسنة المدن الكبيرة. ما يجمع بين مصطفى طلاس وحكمت الشهابي وعبدالحليم خدّام وفاروق الشرع هو كونهم جميعا من سنّة الأرياف. الأهمّ من ذلك، أنهم كانوا مجرّد بيادق في لعبة يديرها حافظ الأسد الذي كان يستطيع التدمير والابتزاز واللعب على التوازنات الإقليمية… والذي اعتقد أن في استطاعته بناء دولة، لا مؤسسات فعالة فيها سوى المؤسسات الأمنية.

كان من المفيد قراءة حديث بشّار الأسد، أقلّه من أجل اكتشاف ما اكتشفه كثيرون منذ اندلاع الثورة الشعبية في سوريا في مارس 2011. تبيّن منذ اليوم الأول لاندلاع تلك الثورة الحقيقية أنّ بشار الأسد لا يعرف شيئا عن البلد الذي يحكمه بالحديد والنار وكل أشكال القمع. يتفهّم اللبنانيون، قدر الإمكان، أنّه لم يكن يعرف شيئا، ولو قليل القليل، عن لبنان. لكنّ الفضيحة الكبرى كانت جهله بسوريا والسوريين أيضا. لم تكن لديه حتى واجهات شكلية يمكن أن توحي بأن هناك مشاركة ما، ولو نظريا في السلطة.

يؤكد كل ما في حديث بشار الأسد أن ليس في استطاعة الرجل الخروج من حال الإنكار التي يعاني منها. لا يزال يعيش داخل عالم خاص به لا علاقة له بالواقع. يعتقد أنّه على رأس دولة، في حين أنّه على رأس مجموعة عائلية أقرب إلى مجلس إدارة لشركة. يتولى مجلس الإدارة هذا تسيير شركة اسمها سوريا. الشركة مفلسة حاليا، وصارت هناك حاجة إلى من يغذيها من الخارج، فجاءت المشاركة الإيرانية التي ارتدَتْ أشكالا مختلفة صبّت، في نهاية الأمر، في جعل الشركة التي اسمها سوريا شركة تمتلك إيران معظم الأسهم فيها. وهذا ما يفسّر إلى حد كبير انفراط عقد العائلة شيئا فشيئا من جهة، ومؤشرات على نقمة داخل أوساط علوية على بشّار من جهة أخرى.

كان تاريخ النظام السوري، منذ ما قبل استيلاء البعث على السلطة، سلسلة من عمليات الهروب إلى الخارج لتغطية الأزمة العميقة التي يعاني منها البلد منذ استقلاله. إنّها أزمة نظام وكيان في الوقت ذاته. كان الانقلاب العسكري الأوّل لحسني الزعيم تعبيرا عن هذه الأزمة التي صارت فاقعة مع قيام الوحدة المصطنعة مع مصر التي لم تدم سوى ثلاث سنوات.

لا حاجة إلى سرد المحطات التي مرّت بها سوريا، بما في ذلك، أخذ العرب إلى حرب خاسرة سلفا في العام 1967، حين كان حافظ الأسد وزيرا للدفاع. لا حاجة إلى الاسترسال في كيفية إيقاع لبنان، عن سابق تصوّر وتصميم، تحت عبء الوجود الفلسطيني المسلّح في العام 1969، تاريخ توقيع اتفاق القاهرة المشؤوم الذي لا يزال الوطن الصغير يعاني منه. لا حاجة إلى تكرار كيف أنّ النظام السوري وبعد حرب تشرين 1973 وجد نفسه في طريق مسدود، خصوصا بعد زيارة الرئيس أنور السادات للقدس في خريف العام 1977.

هرب النظام السوري إلى لبنان. استخدم الورقة الفلسطينية ثم الغرائز المذهبية إلى أبعد حدود من أجل احتلال البلد الجار عسكريا طوال ثلاثة عقود. وفي مرحلة معيّنة هرب إلى العراق. تصالح حافظ الأسد مع عدوّه اللدود صدام حسين للوقوف في وجه أنور السادات ظاهرا. الحقيقة أنّ صدّام حسين الذي لم يكن هناك من يتفوّق عليه بالغباء السياسي، وقع وقتذاك في الفخّ الذي نصبه له الأسد الأب…

في السنة الجارية، يتبين أنه لم يعد أمام بشار الأسد الذي خرج من لبنان نتيجة اغتيال رفيق الحريري، سوى الهرب إلى سوريا بعدما انتفضت في وجهه. إلى متّى يستطيع ممارسة لعبة الهروب هذه؟

يتحدّث عن “دولة” لا وجود لها في سوريا، ويلقي التهم يمينا ويسارا رافضا الاعتراف بأمرين، الأوّل أنّه لم تكن لديه شرعية ما في أي يوم من الأيام، والآخر أن الأجهزة الأمنية والشركات العائلية لا تصنع دولا. أقصى ما تستطيع هذه الأجهزة وهذه الشركات صنعه هو البراميل المتفجّرة. أقصى ما يمكن أن تصنعه هو تشريد مزيد من السوريين وتمكين إيران وأدواتها من بسط سيطرتها أكثر فأكثر على البلد، أو على ما بقي منه.

الثابت وسط كل هذه المأساة أن حديثا في مجلة فرنسية لا يقدم ولا يؤخر. إنه عودة إلى أساليب قديمة، تجاوزها الزمن لإظهار النظام في مظهر من لديه شيء يقوله. كل ما في الأمر أن الحديث كان مناسبة أخرى للتأكد من أن بشار الأسد يعيش في عالم لا علاقة له بالعالم. كل يوم يبقى فيه في دمشق يعني مزيدا من الخراب والتفتيت لبلد كان يمكن أن يكون من أفضل دول المنطقة وأكثرها ازدهارا، لو وجد فيه، في يوم من الأيّام، شخص طبيعي في السلطة يدرك أن لعبة الهروب إلى الأمام، إلى خارج سوريا، سترتد عليها عاجلا أم آجلا.

اقرأ المزيد

مقالات

عرض المزيد >
● مقالات رأي
٣٠ يونيو ٢٠٢٥
أبناء بلا وطن: متى تعترف سوريا بحق الأم في نقل الجنسية..؟
سيرين المصطفى
● مقالات رأي
٢٥ يونيو ٢٠٢٥
محاسبة مجرمي سوريا ودرس من فرانكفورت
فضل عبد الغني
● مقالات رأي
٢٥ يونيو ٢٠٢٥
استهداف دور العبادة في الحرب السورية: الأثر العميق في الذاكرة والوجدان
سيرين المصطفى
● مقالات رأي
١٧ يونيو ٢٠٢٥
فادي صقر وإفلات المجرمين من العقاب في سوريا
فضل عبد الغني
● مقالات رأي
١٣ يونيو ٢٠٢٥
موقع سوريا في مواجهة إقليمية محتملة بين إسرائيل وإيران: حسابات دمشق الجديدة
فريق العمل
● مقالات رأي
١٢ يونيو ٢٠٢٥
النقد البنّاء لا يعني انهياراً.. بل نضجاً لم يدركه أيتام الأسد
سيرين المصطفى
● مقالات رأي
٦ يونيو ٢٠٢٥
النائب العام بين المساءلة السياسية والاستقلال المهني
فضل عبد الغني مدير ومؤسس الشبكة السورية لحقوق الإنسان