في استعراض سريع أو متأنٍ لأهم الأحداث السياسية التي شهدها عام 2014، أجمعت وسائل الإعلام العالمية والإقليمية، التقليدية والحديثة، على أن الإعلان عن ولادة "دولة داعش" كان الحدث الأبرز في العام الذي يلفظ أنفاسه الأخيرة.
تنظيم "داعش" بدولته التي صدمت العالم، كشف عن حقائق كارثية وضعت القوى الكبرى، والتحالفات الإقليمية أمام استحقاقات، بل تهديدات غير مسبوقة، أجبرت هذه القوى على إعادة النظر في اصطفافاتها وتحالفاتها وأولوياتها. أجبر "داعش" الولايات المتحدة وحلفاءها على تأجيل ملفات رئيسية، وقد تفرغوا جميعا لحشد تحالف دولي هدفه الأساسي القضاء على "دولة داعش" واستئصال شوكة التنظيم الإرهابي الذي يتهدد العالم، إما بشكل مباشر بما يشكله من خطر داهم على الشرق الأوسط وكياناته السياسية والاجتماعية، أو بشكل غير مباشر بما يشكله من مغذٍ لتنامي تيارات التطرف في المجتمعات الغربية.
ولادة "الدولة الإسلامية" وضعت العالم أمام تحدٍ جديد أبرز ملامحه أن الحروب المقبلة لن تقتصر على مواجهات كلاسيكية بين جيوش نظامية تقليدية، يمكن التنبؤ بخططها وأنماط قتالها أو حتى أنواع أسلحتها، بل هي مواجهة مع تنظيمات تتمدد مثل بقع الزيت في مياه المحيط، وتتكاثر مثل نبات الفطر في الطبيعة، والأهم أن "أمراءها" لا يديرون العمليات القتالية من غرف قيادة مركزية مكيفة، ولا يعتمدون على تكتيكات يمكن رصدها أو تحليلها.
الأمر الأخطر أن "دولة داعش" صدمت العالم وهي تحاربه بأسلحته من طراز "تويتر" و"فيسبوك" سعيا منها إلى كسب عقول وقلوب المتعاطفين والأنصار في كل أصقاع العالم. حتى أن خبراء الاعلام والدعاية شهدوا لـ "داعش" ببراعة توظيفه الإعلام الاجتماعي وسيلةً للدعاية والتأثير على الرأي العام المؤيد أو المعادي. وإن كانت ولادة "داعش" الحدث الأبرز والأخطر على رزنامة العام المنصرم، فإنها بلا شك، لن تغيب عن رزنامة العام الجديد، خاصة وأن التحالف العالمي الذي تجند لأجل القضاء على هذا التنظيم، لا يزال يتخبط باستراتيجية غامضة ومرتجفة، تتنازعها أجندات ضيقة، وحسابات متناقضة ومتعارضة، حتى بات هذا التحالف الدولي وكأنه عونٌ لدولة "داعش".
يتلقى اللبنانيون رسائل تطمئنهم إلى أن «داعش» (و «النصرة») لن يخترق الحدود اللبنانية، وأن الملابسات في جرود بلدة عرسال وتعقيد قضية الجنود المخطوفين مجرد لعبة شد حبال، تجد ترجمتها في صراع القوى السياسية اللبنانية أكثر مما تشكّل تهديداً للكيان حدوداً ومجتمعاً.
ولا يحتاج الأردنيون إلى من يطمئنهم إلى سلامة وطنهم، الذي تضطلع حكوماته بأدوار معقّدة لكنها لا تقطع الاتصال أبداً بالقوى الدولية والإقليمية كلها، بما فيها النظام السوري أحياناً.
طمأنينة لبنان والأردن تعود إلى عوامل، من بينها التكوين الخاص للدولة الموثوق بها في الإقليم والعالم، وكونها متفاعلة وغير منقطعة عن شعبها. وفي هذه المرحلة تتعزز حاجة القوى السورية المتصارعة للمتنفّس اللبناني، كما حاجة مثيلاتها في العراق للمتنفّس الأردني.
هذا الوضع تفتقده الدولتان السورية والعراقية، إذا صح إطلاق صفة الدولة على سلطتي البعث في دمشق وبغداد، المتناحرتين والقائمتين على ديكتاتورية ذات ذراع عسكرية، والبعيدتين من الشعب على رغم نطقهما باسمه في الأعياد الرسمية.
وإذا كان الإرهاب «الداعشي» غزا البلدين، فكأنما استُدعي ولم يكن مجرد غازٍ، ذلك أن تداعي الدولة العراقية بعد «جنون» صدام حسين في سنوات حكمه الأخيرة التي أعقبها الاحتلال الأميركي بسياساته الإلغائية، وتباعد المسافة بين النظام والشعب في سورية، الظاهر في توتر الحاكم ولجوئه إلى العنف الأعمى منذ التظاهرات السلمية الأولى. ذلك كله يعني أن الفراغ في العراق وسورية هو ما ملأه الإرهاب، ولن يستطيع أهل الحكم في بغداد ودمشق دحره، لأنهم لا يملكون سبيلاً إلى جذب مناطق اجتاحها «داعش»، على رغم استبداد التنظيم ضد من بقي من سكان أشبه بالعبيد. لا يملك حزب «الدعوة» العراقي ولا بشار الأسد جاذبية تستعيد وحدة الأرض والشعب وتقيم الدولة من جديد، فالفارق بينهما وبين «داعش» الذي يصب في مصلحتهما، هو فارق في الدرجة لا في النوع. وليس من أفق للمعارضة في البلدين أو لداعمي هذه المعارضة لتقديم نموذج حكم مدني ديموقراطي جاذب، حتى لو أقيم على أرض محدودة خارج سلطتي «داعش» والنظام.
إنها مأساة الشعبين السوري والعراقي وسنواتهما الضائعة، ولن تنتهي إلا بأيدي قوى إقليمية ودولية كبرى تتفق، إذا أرادت، على خريطة سلام في البلدين، تتضمن على الأرجح إعادات نظر في الحدود والتكوينات السياسية والاجتماعية والدولتية. ثمة احتمال حقيقي لسايكس بيكو جديد بتوقيعات متعددة، فالوضع في المشرق العربي هذه الأيام أكثر سوءاً وتعقيداً مما كان عليه عند انهيار السلطنة العثمانية.
سنوات أضاعها العراقيون والسوريون، وقد أدركوا ذلك بعد فوات الأوان، ولن يستعيدوا ما فقدوا على رغم زيارات حيدر العبادي الودية إلى الدول المجاورة وانتهاجه سياسة مضادة لسياسة سلفه نوري المالكي المتعصبة والقصيرة النظر، وعلى رغم تسريبات المعارضة السورية ورقة مشتركة بين «هيئة التنسيق» و «الائتلاف» تمهد لحوار مع النظام ينقذ سورية على قاعدة دولة مدنية ديموقراطية.
الأقاليم العراقية الثلاثة أصبحت أمراً واقعاً، و «داعش» صار واقعاً سورياً سيندرج في مسار عرفته منظمات قامت على العنف الصافي ثم تخلت عنه تدريجاً، بفعل
بالتوازي مع الإعلان عن مبادرة تبناها المبعوث الأممي لسوريا ستيفان دي ميستورا تعتمد على تجميد القتال محليا كبداية لحل للأزمة السورية، ومبادرة أخرى أطلقها الروس تعتمد على حوار بين المعارضات السورية تتبعها مفاوضات غير مشروطة مع النظام، شهدت القاهرة تحركات دبلوماسية حثيثة تتعلق بالأزمة السورية، تجاوبت معها غالبية أطراف المعارضة السورية.
التحرك المصري الجديد يدل على وجود عدة مواقف وخطط جديدة تتعلق بالأزمة السورية، أولها أن المعارضة السورية أيقنت أن عليها البدء بالحوار لبلورة رؤية موحدة للحل في بلدها، وثانيها أن هناك توافقا عربيا على ضرورة التحرك لإبقاء بعض أزرار التحكم باليد العربية، وثالثها أن السعودية بدأت تتحدى روسيا على أكثر من صعيد وتحاول تقديم بدائل عن المبادرات الروسية التي تقف دائما إلى جانب النظام، ورابعها أن القاهرة باتت مقتنعة بأنه آن أوان تحركها على المستوى الإقليمي ليكون لها موطئ قدم بين الدول المؤثرة في الشأن السوري.
في الوقت الذي كانت موسكو تأمل فيه أن تأتي المعارضة السورية إليها للاجتماع والبحث في برنامج موحد تليه مفاوضات مع ممثلي النظام، توجّهت المعارضة السورية إلى القاهرة، ممثلة ليس فقط بائتلاف قوى الثورة والمعارضة السورية صاحب الموقف الأكثر تشددا من موسكو، وإنما أيضا بقوى المعارضة الداخلية صديقة روسيا وصاحبة سقف المطالب المنخفض، كهيئة التنسيق الوطنية وتيار بناء الدولة، وأعلنت المعارضات السورية أنها تُفضّل الاجتماع والحوار في القاهرة لا في موسكو، الأمر الذي أربك السياسة الروسية ودفعها إلى الإسراع في إعلان موعد لاجتماع المعارضة أواخر يناير المقبل في موسكو لقطع الطريق أمام أي اجتماعات مقترحة لتوحيد المعارضة السورية في القاهرة.
المملكة السعودية، وبعد أن قامت بخطوة اقتصادية سبّاقة بعدم تخفيض إنتاج النفط وتسببت في خسائر فادحة لروسيا وإيران، لم تكن بعيدة عن اجتماع القاهرة ويبدو أنها قررت القيام بخطوة سياسية لقطع الطريق على المبادرة الروسية، بل وعلى الموقف الروسي من الأزمة السورية الذي لم تستطع تغييره بالطرق الدبلوماسية، وساعدها في ذلك التوافق الأخير بينها وبين قطر، والعلاقة المتينة التي تربطها بالقيادة المصرية.
بالتشاور مع الرياض، تحركت القيادة المصرية لدعوة المعارضة السورية إلى الحوار في القاهرة وليس في موسكو، وهو أمر تسعى إليه القاهرة التي لم تعد تمانع من أن يكون لها دور في حل الأزمة السورية باعتبارها واحدة من أهم العواصم العربية ذات النفوذ خلال التاريخ المعاصر، وتسعى لاسترجاع بعض من هذا الدور بعد أن استقرت الأحوال المصرية الداخلية.
اجتمعت قوى سورية معارضة في القاهرة، هيئة التنسيق التي وافقت على إجراء مفاوضات غير مشروطة مع النظام خلافا لكل مواقف المعارضات السورية السياسية والعسكرية والشعبية، وكذلك تيار بناء الدولة المعارض الذي لا يريد إلا الحل السياسي التفاوضي مع النظام والذي لا يُعرف من يتخذ القرار فيه بعد أن اعتقل النظام السوري مؤسسه ورئيسه مؤخرا، وكذلك الجبهة الشعبية للتغيير والتحرير التي يرأسها رجل موسكو وأحد مسؤولي الأسد السابقين قدري جميل، بالإضافة إلى قوى كردية معارضة، بعضها لا يُخفي أولوياته القومية.
وعلى غير المتوقع، وافق ائتلاف قوى الثورة على أن يحضر لقاءات القاهرة بين المعارضة السورية، وهو مؤشر إضافي على تأثير السعودية على هذا الائتلاف، ودارت النقاشات حول إمكانية بلورة موقف موحد لكل المعارضة السورية في ما يتعلق بالمفاوضات مع النظام، وتوافقت هذه المعارضات على الأسس العامة والأولويات.
ولأن روسيا ليست ساذجة كما يعتقد بعض المعارضين السوريين، فقد أدركت اللعبة سريعا، ولهذا أعلنت، على عجل، عن تحديد موعد للقاء المعارضة السورية ببعضها البعض وموعد بعده بيومين للقاء المعارضة بالنظام السوري، وطلبت من النظام السوري أن يقوم بتسمية رئيس وفده، كما طالبت بعض المعارضين المقربين منها من الهيئة والجبهة دعم خيار الحوار “الموسكوفي” وليس “القاهري”، لكنها، ولدرايتها باحتمال رفض المعارضة السورية مثل هذا اللقاء، دعت معارضين كشخصيات وليس كممثلين عن قوى، لتفادي الانتكاسة المحتملة.
تتسابق كل من روسيا وإيران من جهة، والسعودية ومصر من جهة ثانية، لكسب سبق لم شمل المعارضة السورية، وللسعودية فرص أقوى، على اعتبار أنها دولة عربية أولا، وتحظى بثقة النسبة الكبرى من المعارضة السورية ثانيا، ومصر دولة وسطية معتدلة مقبولة من كل الأطراف بما فيها النظام ثالثا، وأخيرا السعودية هي الأقدر من موسكو على التنسيق مع الولايات المتحدة.
يبدو للوهلة الأولى أن التحرك الدبلوماسي الروسي الأخير قد يكون بداية طريق لحل الأزمة السورية، لكن جملة من المؤشرات تؤكد على أنه ليس إلا لعبا في الوقت الضائع من قبل موسكو، ولن يوصل إلى أي نتيجة ذات معنى، ومن أهم هذه المؤشرات أنه لا يوجد للولايات المتحدة أي أثر أو صوت في هذه المبادرة، ولن تستطيع أي دولة الوصول إلى أي صيغة دون الأميركان الذين لازالوا غير مكترثين بالوصول إلى نهاية المطاف في الأزمة السورية.
ومن المؤشرات الأخرى أن اجتماعات المعارضة وفق الرؤى الروسية ستتبعها مفاوضات مع النظام، وهي فكرة عبثية، جربها الطرفان في مؤتمر جنيف وفشلا فشلا ذريعا، فالنظام عطل كل شيء علنا على مرأى المجتمع الدولي مجتمِعا، ومن الواضح أن ليس في نيّته القبول بمفاوضات لحل سياسي يمكن أن يهدد وجوده، وهو قرر قبل أربع سنوات أن يتبع الحل العسكري الحربي ولن يحيد عنه كما يبدو، ويريد إعادة الجميع إلى بيت الطاعة.
بالإضافة إلى ذلك، فإن قوى المعارضة، الداخلية والخارجية، لا سلطة لها عمليا على من يقاتل على الأرض، ولا تستطيع فرض رأيها على أي فصيل مسلح، والتيار الذي يقبل بحل لا يوافق المعارضة المسلحة، لن يجد له من يدعم قراره على الأرض.
إن ملامح الحراك السياسي الروسي والمصري تبدو في بداياتها، والنظام سائر في طريقه لا يهتم ظاهريا بهذا الحراك أو بأحد، ويبدو أن المعارضة واهمة بأنها قادرة على تغيير سلوكه أو إقناعه بأن يقبل بحل وسط، ولا تتخذ أي موقف صارم بل توافق بدورها على تضييع الوقت، مع أنها مُدركة أن كل ما يُطرح من مبادرات واقتراحات حتى الآن هو طرح “خلّبي”، وأن الطريق مازالت مسدودة بانتظار حل من أصحاب الحل، ومع هذه اللامبالاة من النظام ومنها، قد يطول انتظار السوريين كثيرا.
قتادة شاب عشريني من أحياء دمشق , عمل منذ بداية الثورة على تنظيم المظاهرات السلمية , تمّ اعتقاله في السنة الثانية من بدء الثورة .
في اجتماعاته السريّة مع أصدقائه كان هناك اتفاق , بأن من يعتقل منهم لا يشي بأصدقائه إلا بعد أن يصل بهم التعذيب إلى قلع الأظافر , يقول بابتسامه ساخرة " لم أكن أنوي إعطائهم المعلومات من الظفر الأول , لكنهم مع إصراري وصمتي , رفع المحقق عن عينيّ العصابة وقال لي : اليوم إن لم تتحدث سأرسلك إلى جميل حسن ... لقد جعلوني أعيد حساباتي .
في مرحلة الثورة كان فرع الجويّة بقيادة "جميل حسن"هو الأكثر دمويّة , الداخل إليه هو غالبا مشروع شهيد , جميل هو أحد أعمدة النظام الدمويّة التي بني عليها النظام الأسدي منذ الثمانينات و وفقا لقراءة الطيار عبد الناصر العايد لممارسات هذا الفرع فهو يرى أنّ
"جميل حسن مستقل كثيرا بقراراته عن بشار الأسد وهو من يدير سياسة الدولة بالمجمل.
والجدير بالذكر أنه تجاوز المدة القانونية بأربع سنوات حتى الآن وفقا للقانون السوري كان يجب أن يحال على التقاعد منذ خمس سنوات لكنه لم يُتقاعد بعد".
تأسّست شعبة المخابرات الجوية عام ألف وتسع مئة وثلاث وستين , لهذه الشعبة مهام أساسيّة أولها الدفاع عن رئيس الدولة وتأمين الحماية له , وهي كذلك مسؤولة عن أمن مطار دمشق الدّولي , و تأمين الحماية والسريّة لضباط الطيران والحفاظ عليهم من القوى الجاسوسية .
لكن حقيقة الجهاز لم تكن كذلك وفقا للطيار المنشق عبد الناصر العايد
"هو جهاز أنشأه حافظ الأسد كونه ضابط في القوى الجوية وعندما ترقى لوزير دفاع كان لديه أداة تنفيذية أمنية تسمى المخابرات الجوية وهي جهاز صغير أنشأه في نهاية الستينات , عندما قام بالانقلاب ,و أوكل مهمة هذه الشعبة إلى ضابط يدعى (محمد الخولي) برتبة ملازم أول ,أعطاه حافظ الأسد صلاحيات واسعة جدا وفي عهدته تضخم الجهاز كثيرا وأصبح لديه فروع كثيرة داخل دمشق وخارجها ,كان يعتمد على هذا الفرع بكل المهمات الأمنية ذات الحساسية العالية جدا,التي يوكله بها حافظ الأسد مباشرة,أيضا يتولى هذا الفرع حماية حافظ الأسد في المواكب الخارجية والداخلية ,وخلال الخمسة عشر عاما الماضية وأكثر, كان هو الرقيب على أجهزة الأمن الأخرى."
كلنا يعلم بالقصة الشهيرة , عندما طلب "جميل حسن"من بشار الأسد أن يطلق يديّه بمليون قتيل وينهي الاحتجاج من بدايته , و أضاف أنه مستعد لمواجهة محكمة الجنايات الدولية بنفسه .
عمليا فرع المخابرات الجويّة هو القوة الأمنية الأبرز في مواجهة الثوار و قمع الانتفاضة و الأكثر انتهاكا لحقوق الإنسان , لديهم مطلق الصلاحيات كما يرتؤون .
قلة من الشبان تخرج من أفرع المخابرات الجوية على قيد الحياة , ومن يخرج يسارع بالحديث عن فظائع شهدها هناك , يزن وعلاء نماذج قليلة كتبت لها حياة جديدة بخروجها , يزن جرجي عوض , اعتقل من قبل المخابرات الجوية , مع أربعة من أصدقائه ,اثنين منهم تمّ تحويلهم إلى صيدنايا ولا يعلم عنهم حتى اللحظة ايّ شيء , كان اعتقالهم بشكل عشوائي من الشارع
"غرف الدراسات عبارة عن غرفتين صغيرتين تستخدم في ساعات الازدحام ,عندما أدخلوني إليها , كان فيها مئة وستين معتقل وهي لا تتسع لأكثر من أربعين أو خمسين معتقل في يوم من الأيام تعطل شفاط الهواء لمدة ساعتين ووقع أكثر من عشر شبان بغيبوبة ,اثنان منهم لم يعودوا لا أعلم إن كانوا توفوا أم لا".
حاليا وفقا لمعتقلين مفرج عنهم حديثا أعداد المعتقلين وصلت في القاعات خمس مئة وأربعين معتقلا , أغلب المعتقلين فيها , أقدامهم متقيحة من شدّة التعذيب , بشكل يومي يستشهد هناك أكثر من ثلاثة أشخاص .
يضيف يزن "من يذهب لمبنى التحقيق القديم يصبح مشروع شهيد , التعذيب شديد جدا هناك , الجلادون وحوش حقيقية لا تشبه البشر ".
"فكرت بالانتحار وحاولت عندما نقلوني من القاعة إلى الزنزانة وكان رقمها إحدى عشر كانت تتسع لأربعة أشخاص وضعوا فيها 24 شخص معاناة لا تحتمل , , كان هناك رجل في الزنزانة بقدم مبتورة وكانت تنزف دماً باستمرار, أسندها الرجل على خصري".
خرج يزن من معتقلات الموت بعد خمسة أشهر ونصف , بعد أن ثبتت براءته , يتساءل حتى اليوم لماذا تمّ اعتقاله وبأي ذنب عذّب .
لكن مع تواجد عشرات الآلاف من المعتقلين في سجون الأسد، ومع ظهور عشرات المقاطع المصورة لعمليات تعذيب في الفروع الأمنية، فضلاً عن غياب الكثير من المعتقلين واختفائهم , بدأ الأهالي يبحثون عن أي وسيلة لإنقاذ أبنائهم من الموت المحتم ,وهنا جاء دور أزلام النظام ليجنوا أموالاً ضخمة من ابتزاز أهالي المعتقلين .
"علاء" شاب فتيّ من درعا , نموذج عن شباب تمّ بيعهم من المعتقلات , تمّ اقتياده من قطعته العسكرية ، دون أي تهمة موجهة إليه، وبعد شهر من اختفائه، علم والده مكان وجوده ، وبدأ والده من خلال وسطاء التفاوض مع الضابط الذي اعتقلوه لإخراجه
"تعرضت خلال فترة اعتقالي لكل أنواع التعذيب , وضعوني في الممر وكل من يمر من جانبي يقوم بركلي وضربي وشتمي ...... لم أخرج بعفو , والدي تواصل مع سلسلة من الضباط اتفق معهم على خمسة مئة ألف ليرة سورية, مقابل إخراجي من السجن بعد خروجي تمّ تسليم المبلغ للوسيط .
أمضيت ثلاثة أشهر بعد خروجي من المعتقل أعالج جروحي ,كان جهازي المناعي بحالة انهيار.
خلال مدّة التفاوض والاعتقال تعرض علاء لأشد أنواع التعذيب والتجويع والإساءة النفسية دون توجيه تهم محددة له , لمجرد كونه من درعا مهد الثورة هو ذنب يستحق التعذيب حسب قوله .
"رموني بالمنفردة ثلاثة أيام دون ماء أو طعام هي مكان صغير جدا لا تستطيع فيه الحراك , وفي اليوم الرابع أعطوني زجاجة ماء ورغيف خبز واحد, كان التعذيب يومي لمدة ساعتين ليلا , يمنع علينا النوم ,كنا نتعرض لإرهاق نفسي وجسدي .
"لم أستطيع التوقف لمدة شهرين ونصف ,بسبب الجروح والتقرحات في قدمي ,كنت أحبو للحمامات كالأطفال ,هم يدفعون بالمعتقل لينهار نفسيا , أمضيت في المعتقل أسوء أيام حياتي".
يعمد وسطاء النظام ومبتزوا الأهالي إلى تعظيم التهم للمعتقل، للإيحاء بأن ابنهم أو ابنتهم لا يمكن أن يكتب لها الخروج من المعتقل إلا بدفع المبالغ الكبيرة.
وتكمن المصيبة لدى أهالي المعتقلين، بعد اجتهادهم في جمع المبلغ المطلوب لقاء الإفراج عن أبنائهم أو مجرد معرفة مصيرهم، ليتفاجؤوا فيما بعد بنبأ استشهادهم تحت التعذيب.
أضف إلى ذلك الآلاف من الحالات التي يتمّ بها تسليم أوراق المعتقل ورقم قبره , وبعد مدّة يخرج من المعتقل من يطمئن أهله بأن ابنهم حيّ يرزق .
فاطمة سعد رئيسة رابطة الدفاع عن المعتقلات تخبرنا عن سبب هذه الممارسات
بسبب عدد الوفيات الكبير وبسبب الأعداد الهائلة من المعتقلين لدى النظام , يتم توثيق المعتقل على انه توفي و يقومون بتسليم أوراقه , ثمّ يتم الاكتشاف أنّ هذه الأوراق لا تخص صاحب الجثّة , وقد حدثت أكثر من حالة من هذا النوع .
هناك عشرات الحالات التي وثقت وفقا لمركز الإحصاء , يتعمد فيها النظام سياسة التضليل , حيث يقدم أوراق وفاة لأهل المعتقل , ليتوقفوا عن البحث عنه والمطالبة به .
عندما خرج الناس في درعا , كانوا ينادون بالحرية , والكرامة , وحملوا شعارا لهم , واحد ... واحد .....واحد , الشعب السوري واحد .
ترى بعد كلّ هذا العنف داخل المعتقلات , هل سيخرج علاء ويزن و آلاف الشبان , لينادوا بوحدة الشعب السوري .
أيّ حقد وغضب يحملونه في ضلوعهم .
لم يشعر الأردنيون بتبعات دخول بلدهم الحرب التي تقودها أميركا على داعش، إلا حين أفاقوا على صور مواطنهم الطيار معاذ الكساسبة أسيراً بعد إسقاط طائرته، وخصوصاً أن كل التسريبات كانت تؤكد أن الدور الأردني يقتصر على الإمدادات اللوجستية وجمع المعلومات الاستخبارية لصاح قوات التحالف.
غياب الشفافية إلى درجة الخداع ليس جديداً، فالنظام متورط إلى النخاع في عمليات عسكرية واستخباراتية، أميركية التخطيط والأهداف، حتى أصبح الأمر كالقدر المكتوب على الأردنيين، وكأن لا حياة للأردن، وليس للنظام فقط، من دون تبعية كاملة لواشنطن وسياساتها ورغباتها.
انخراط الدولة الأردنية وأجهزتها في الحروب الأميركية، يتم ترويجه، ضمنياً، شرطاً للنمو الاقتصادي وتدفق المساعدات، فيما يغرق الأردن في المديونية، ويدفع ضيق العيش وانسداد أمل التغيير شباباً أردنيين كثيرين إلى الانضمام إلى داعش ومشتقاتها؛ لكن الهدف الحقيقي تجديد الدور الوظيفي للنظام والحفاظ على مصالح نخبة ضيقة من المنتفعين، أرعبتها الانتفاضات العربية ومطالبها.
ليس العامل الاقتصادي وحده السبب في انتشار ظاهرة السلفية الجهادية في الأردن، فهناك حاضنة ثقافية لها، ساهمت الأجهزة الأمنية والحكومات المتعاقبة في تنميتها في مواجهة التيارات القومية واليسارية، لكن الجديد أن إمعان التبعية، بما فيها المشاركة في حرب أميركية، فيما يصاب النظام بشلل أمام الحروب الإسرائيلية، يزيد من نقمة قطاعات واسعة من الشباب، ليس فقط تضامناً مع الفلسطينيين، لكن، لأن هناك شعوراً بالمذلة متجدداً، لا يعيره النظام اهتماماً.
استغلّت السلطة وأجهزتها مخاوف الأردنيين من داعش والتطرف، حتى إن هناك تأييداً للحرب، ومن تيارات سياسية معروفة بمعاداتها للسياسة الأميركية، لتمرير تعديلات لقانون مكافحة الإرهاب، تعزز سطوة الأجهزة الأمنية، وتمرير قرارات اقتصادية، تتعارض مع كل طموحات التغيير التي سادت الشارع الأردني، مع بدء الثورات العربية، واتخذت من شعار "الحرب على الإرهاب" تبريراً للمرفوض والمقبول.
لكن، جاء أسر الطيار معاذ الكساسبة صدمة قوية لمؤيدي الحرب ومعارضيها معاً، فهناك خوف حقيقي على مصير الشاب الذي يظهر في صوره على "فيسبوك" شبيهاً لآلاف من الشباب الأردنيين في رغبته في حياة أفضل، وجدها في الانضمام إلى الجيش، إضافة إلى الاعتزاز، سواء من منطلق وطني، أو ضمانة لمكانة محترمة خاصة لضابط في سلاح الجو الأردني.
معاذ في صورته بين أيدي مقاتلي داعش، بعد تجريده من بزته الرسمية، هزت الأردنيين، فلماذا يدفع هذا الشاب ثمناً لراحة النخب؟ ثار النقاش مجدداً بشأن هذه الحرب، إن كانت أردنية أو أميركية؟ فانتشر هاشتاغ "ليست_حربنا"؛ فهل الحرب على داعش كفكر تختصر في حرب لا تسيطر الأردن على أهدافها السياسية والعسكرية؟ وكيف يمكن هزيمة فكر عسكرياً؟
فضلت نخب أردنية كثيرة، كما النظام، منذ البداية، تجاهل الأسئلة الصعبة، فالإبادة العسكرية هي الحل الأسهل برأيها، حيث الخوف من الخطر الآتي عبر الحدود حقيقي، سواء الخوف من القتل والتنكيل أو من سيطرة التزمت وإقامة قيود خانقة إلى حد الموت، على الحريات الاجتماعية، فأضحت صورة رجم النساء وأسْرهن أو تحريم الاختلاط أو أي مشاركة اجتماعية للمرأة كابوساً قابلاً للحدوث.
لكن ما تجاهلته النخب أن ثقافة داعش ليست آتية عبر الحدود، بل هي في وسطهم، وإن مواجهة التطرف تتطلب بناء عدالة اجتماعية ونشر ثقافة مستنيرة، لأن هذه النخب، كالعادة، تعيش في قوقعتها، لأن من يدفع الثمن شباب مثل معاذ، فاستمرار الظلم يشعل إرهاباً، لا تستطيع الحروب إطفاءه. بالتالي، سنفيق لنجد أننا كلنا معاذ.
يستقبل السوريون العام الجديد، والحرب لا تزال تحصد أرواح أبنائهم، وتدمر مدنهم وأحياءهم. لم يتمكن من حسمها بالسلاح أي طرف من أطراف النزاع الرئيسيين، ولم ينجح في وضع حد لها أي تدخل سياسي. لا يزال الموت العنوان الرئيسي لحياة السوريين، ولا خيار لهم من الموت إلا الموت: تحت الأنقاض أو خنقا بالغاز، أو غرقا في البحر أو جوعا بسبب الحصار أو اغتيالاً أو قتلا بالرصاص أو رجما بالحجارة أو هماً من شدة الكرب والقهر.
لا يمكن أن نفقد الأمل
كل يوم، يستقبل أبناؤهم وبناتهم، رجالهم ونساؤهم، شبابهم وشيوخهم، في مدارسهم وأسواقهم ومشافيهم وأحيائهم، وجبتهم المقسومة من البراميل المتفجرة الرخيصة التي اخترعها الحرس الثوري الإيراني خصيصاً للقتل من دون تعيين. كل يوم يدفع طيارون مجهولون إلى الموت عشرات الضحايا، ويتركون للموت البطيء مئات المشلولين والفاقدين أطرافهم أو عيونهم أو أي جزء من جسدهم وعقلهم. كل يوم تبكي النساء على أبنائها المفقودين، ويبكي الأطفال أمهاتهم وإخوتهم المقتولين والمدفونين تحت الأنقاض. كل يوم يقتل الجوع ونقص الدواء مئات الصغار والكبار الذين يخضعون للحصار منذ سنوات. كل يوم تقذف مراكب الوهم التي يرمي السوريون بأنفسهم فيها على أمل الوصول إلى بر الأمان، بالمئات منهم، إلى أعماق البحر، لينضموا إلى من سبقوهم من "المغامرين" بحياتهم رغماً عنهم. كل يوم تستقبل دروب اللجوء آلاف المشردين الذين يبحثون عن سماء تحميهم من القصف والموت المترصد بهم، لينضموا إلى ملايين المشردين الذين سبقوهم، وتكوموا في المنافي والمخيمات. كل يوم يهرب السوريون من الموت إلى الموت.
"الآن، لا تثير مأساة السوريين النازفة أي اهتمام، ويكاد العالم يتخلى، بأجمعه، عن الشعب السوري، ويتركه لمصيره
"
أثارت ثورة السوريين، في سنتها الأولى، إعجاب العالم. وتحمس لها عدد كبير من الحكومات والدول، الأجنبية قبل العربية، وتكونت، من أجل دعمها ومساعدتها، مجموعة أصدقاء الشعب السوري، والتي ضمت أكثر من 150 دولة وحكومة ومنظمة، وكانت اجتماعاتها شهرية، وبياناتها لا تكف عن تأكيد تمسكها بحتمية تنحي الأسد، والانتقال من الديكتاتورية البغيضة إلى الدولة المدنية الديمقراطية.
الآن، لا تثير مأساة السوريين النازفة أي اهتمام، ويكاد العالم يتخلى، بأجمعه، عن الشعب السوري، ويتركه لمصيره، حتى الأمين العام للأمم المتحدة الذي لا يترك حدثاً مؤسفاً يمر، في أي بقعة من بقاع العالم، من دون أن يعلن موقفاً منه، ويعبر عن حزنه وقلقه أو إدانته، لاذ أخيراً بالصمت، خجلاً أو خفراً أو مللاً، ولم يعد ينبس ببنت شفة، مهما بلغت الأحداث الدموية السورية من هول. مع ذلك، لا تزال أوضاع السوريين في تدهور رهيب، داخل سورية، أو في بلدان التشرد واللجوء، أو على طرقات البحث عن بر أمان في أقصى الأرض، وهي تشكل، منذ الآن، كما تردد المنظمات الإنسانية، كارثة كونية، قد لا يتمكن أحد، بعد الآن، من السيطرة على مضاعفاتها.
تخلى العالم عن السوريين، ويكاد السوريون يتخلون، هم أيضاً، عن أنفسهم، مع فقدان الأمل بالخلاص القريب، وبالعودة إلى وطن لم يعرفوه، ولم يتعرفوا عليه، خلال عقود طويلة ماضية، إلا كمقبرة لأحلامهم، ومعسكر اعتقال لآمالهم وتطلعاتهم، وكقدر يتربص بوجودهم. وانعدام الأمل هو أخطر ما يمكن أن يصيبهم، ويهدد بضياعهم وضياع وطنهم، بمقدار ما يقود إلى انفراط عقدهم، ويدفع أبناءهم إلى البحث، كل حسب مقدرته، عن الحلول الفردية، تاركين الأغلبية الساحقة من أهاليهم ضحايا التشرد والتهميش وحياة البؤس والضياع واليأس.
ذرائع الغرب
لا يمكن للسوريين أن يسمحوا لأنفسهم بفقدان الأمل، ويضيعوا رصيد الثورة العظيمة التي فجروها ضد أعتى النظم، وأكثرها شراسة وبدائية وعنفاً، ولا بإضاعة روح البطولة التي خاضوا بدفعها معركتهم ضد نظامٍ كان، ولا يزال، التجسيد الحي للشر، للأنانية وانعدام الانسانية والقتل الممنهج بالجملة، واحتقار الحياة البشرية وتحكم شره السلطة والمال والقوة بمخلوقات فقدت هويتها البشرية.
" تجاهل ثورة السوريين وتضحياتهم الغزيرة في السنين الأربع القاسية يعني التواطؤ مع قاتليهم، والمشاركة في اغتيال روح الحرية والكرامة والحق التي حركت ثورتهم "
ولا يمكن للعالم أن يقبل الظلم العظيم الواقع على السوريين، ولا أن يتحمل في المستقبل الكارثة الإنسانية التي ستنجم عن التساهل مع مرتكبي أفظع الجرائم بحق شعبهم. تجاهل ثورة السوريين وتضحياتهم الغزيرة في السنين الأربع القاسية يعني التواطؤ مع قاتليهم، والمشاركة في اغتيال روح الحرية والكرامة والحق التي حركت ثورتهم ضد القهر والاستبداد والعنف وغياب القانون والعدالة. في الوقت الذي يشكل إنقاذ ثورة الحرية والكرامة التي فجرها السوريون الوسيلة الوحيدة لحرمان قوى التطرف والإرهاب التي أصبحت التهديد الأكبر للمنطقة والعالم من اختطافها ثورة الحرية والكرامة، وللحيلولة دون تحول السوريين من شعب حي مبدع، وأمة متسامحة ومنتجة ومنفتحة على الجميع، إلى بركان من الغل والغضب والضغينة، يلقي حممه على مجتمعات العالم القريب والبعيد.
تذرع المجتمع الدولي في البداية، حتى لا يقدم الدعم المطلوب لوقف عنف النظام المفرط والوحشي، بإعطاء الأفضلية للحل السياسي، حفاظاً على مؤسسات الدولة، وتجنباً للفوضى. واكتفى بجملة عقوبات اقتصادية سرعان ما ألغى مفعولها الدعم العسكري والمالي الهائل لطهران وموسكو. وفي مرحلة ثانية، احتج "الأصدقاء" بالخوف من وقوع السلاح في يد القوى الإسلامية، حتى يبرروا حرمان الجيش الحر الذي تشكل من المنشقين والمقاومات الشعبية المحلية المتزايدة، من المساعدة، في رده على عنف النظام وقهره. ورفضوا مبدأ التدخل الإنساني لوقف مجازر النظام، بما في ذلك بعد استخدامه الأسلحة الكيماوية، بذريعة عدم التدخل في حرب أهلية. واليوم هم يكادون ينكرون حتى وجود الثورة الشعبية نفسها، ولا يرون من الصورة سوى الصراع بين نظام تتحكم به الميليشيات المحلية والأجنبية، العراقية والإيرانية واللبنانية والأفغانية والباكستانية والحوثية وغيرها، وتنظيمات إرهابية تستقطب كل المعادين للغرب وسياساته، مع فارق أن الأول لا يزال يستفيد من غلالة الشرعية القانونية الدولية، ويحظى بموقع في المنظمة الدولية، يساعده على أن يبث كذبه وسمومه، ويغطي على حقيقته تنظيماً إرهابياً، لا يختلف عن القاعدة وتنظيم الدولة إلا في استهدافه المدنيين، وجرأته على المجازر الجماعية. والنتيجة التوقف عن أي جهد، عسكري أو سياسي، والتفرغ إلى مقاتلة الإرهاب الداعشي، حتى كاد المجتمع الدولي ومجموعة أصدقاء سورية يختفون تماماً من الصورة، إزاء ما يحدث في سورية من جرائم، مكتفين بإرسال مبعوث الأمين العام للأمم المتحدة، ستيفان دي ميستورا، لبيع الأوهام، ومسلمين لموسكو ملف مفاوضات "السلام"، وهي الشريك الأكبر في الحرب.
الفاشية المذهبية الصاعدة
الحقيقة أن الدول الغربية التي لا تزال تقود دفة السياسات الدولية تعرف أن وراء نظام الأسد طهران، وأن هذه هي الراعية الكبرى لشبكات الإرهاب الدولي، منذ عقود، وأن أجهزة الأسد تعمل بالتنسيق معها، وقد ذاقت الكثير من عواصمها طعم هذا الإرهاب في التسعينيات. والحقيقة، أيضاً، أن هذه الدول، ومن ورائها الأمم المتحدة المرتهنة بإرادتها، تضحي، بشكل واعٍ، بالشعب السوري، خشية التورط في صراع تخشى عواقبه مع الفاشية الشرق أوسطية الإيرانية والسورية، التي لا تكف عن التذكير بطول مخالبها، كلما عن للعالم تهديد مواقعها، أو الوقوف في وجه طموحاتها غير المشروعة.
" الحقيقة أن الغرب لا يملك الإرادة لوضع حد لمجازر الإبادة الجماعية ومشروع التغيير الديمغرافي الذي تقوده إيران في المشرق "
ولا يختلف هذا الموقف في التخلي عن الشعب السوري، لتجنب المواجهة واسترضائها ببعض التنازلات عن بلد لا يعني كثيراً لها، عن الموقف الذي اتخذته أوروبا في الثلاثينيات تجاه النازية، حين تخلت لهتلر عن بعض الدول والمناطق الأوروبية فداءً لنفسها ودرءاً للمخاطر عنها. وكما دفعت أوروبا غالياً ثمن مسايرة أطماع النازية في الغرب، سوف تدفع ثمن التغاضي عن شره الفاشية الشرقية وأطماعها أضعافاً مضاعفة، بالمقارنة مع ما كان من الممكن دفعه، لو اتخذ القرار في مواجهتها، قبل استفحالها واستقوائها.
والحقيقة أن الغرب لا يملك الإرادة لوضع حد لمجازر الإبادة الجماعية ومشروع التغيير الديمغرافي الذي تقوده إيران في المشرق، لتضمن تحكمها بمصير الشرق الأوسط كله، وتفرض على الغرب التعامل معها كقوة دولية تسيطر على إقليم كامل، وليس فقط كقوة إقليمية. ونتائج هذا الموقف، منذ الآن، أصبحت واضحة. أولها الطفرة التي عرفها الإرهاب الدولي وتنظيم الدولة الداعشية الذي يهدد بالتوسع غرباً. وثانيها وأهمها ضرب صدقية المنظومة القانونية والسياسية الدولية، الممثلة بالأمم المتحدة ومجلس الأمن وتعطيله، والعودة بالعلاقات الدولية إلى قاعدة حق الفتح، وتعريض العالم إلى الفوضى والانفلات ومنطق القوة العارية، إلا من العنف. هذا هو الثمن الطبيعي للاستقالة الأخلاقية والسياسية والاستراتيجية أمام القوة الغاشمة.
لا يملك المجتمع الدولي أن يترك للجريمة أن تملي على العالم قانونها، ولا لقادة حروب التوسع والتبشير الديني والمذهبي أن يدفعونا إلى التسليم بالإرهاب أداة للحكم، وتحويله إلى واقع سياسي مقبول ومعترف به. ستكون هذه نهاية الحضارة والحكم على المدنية وقانون الحرية والعدالة والحق بالموت الأكيد.
سورية تحاول شق طريقها مع طفلها وسط مدينة دوما المدمرة (13ديسمبر/2014/أ.ف.ب)
ومن جهتنا، نحن السوريين، لا ينبغي أن نهرب من مواجهة الحقائق المرة، وأولها أن الفاشية الإيرانية المذهبية لا تزال مصممة، على الإبقاء على احتلالها واختطافها الدولة السورية، عن طريق تثبيت الأسد والتشبث به، بكل الوسائل الدموية والوحشية، حتى لو كان ثمن ذلك القضاء على سورية، وقتل الملايين من أبنائها، وتشريد أغلب سكانها بين لاجئين ونازحين، وهذا ما حصل ويحصل، حتى الآن. وهي لا تعير أي اهتمام، أو اعتبار، أو قيمة، لا لحياة الإنسان، ولا لبقاء الدولة، ولا لميثاق الامم المتحدة والقانون الدولي، ولا لأي قيمة إنسانية، ولا تزال على اعتقادها الراسخ أن في مقدورها استخدام كل الأسلحة، وارتكاب أشنع المجازر لإرهاب السوريين وإخضاعهم، من دون أن ينالها أي عقاب. وهي تستخدم المفاوضات حول الملف النووي لتردع الجميع عن التفكير في الاعتراض على مشاريعها، أو النيل من طموحاتها.
ولا ينبغي كذلك أن نستهين بتحلل المجتمع الدولي، ممثلاً بمنظمة الأمم المتحدة، من التزاماته القانونية وواجبه تجاه الشعوب المعرضة لجرائم الإبادة والتشريد، التي ترتكب، بشكل منهجي ومنظم، تحت أنظار العالم أجمع، كل يوم، ولا يمكن أن نقبل سكوته على ما يحصل، وتجاهله القرارات التي أصدرها، وفي مقدمها القرار ٢١٣٩، الذي يطالب النظام بالوقف الفوري للقصف والقتل المجاني للمدنيين.
خلاصة
لا ينبغي أن يكون لدينا أي وهم حول الوعود الكاذبة للنظام وحُماته، ولا حول طيب نيات "الأصدقاء" المتخاذلين والمنسحبين. ولن ننعم بالسلام، ما لم ننجح، نحن السوريين، أولاً، في توحيد أنفسنا، وحشد جهودنا لتغيير موقف الأمم المتحدة والرأي العام الدولي، وإعادة تعبئة شعبنا، بكل أطيافه، حول المبادئ التي ثار من أجلها، والتي لا يزال تحقيقها يحتاج إلى عمل وجهد متواصلين، لكشف خداع النظام وحماته، وإجبارهم على الاعتراف بسورية وطناً حراً لشعب كريم، سيد ومستقل.
"لا ينبغي أن يكون لدينا أي وهم حول الوعود الكاذبة للنظام وحماته، ولن ننعم بالسلام، ما لم ننجح، نحن السوريين، في توحيد أنفسنا
"
وذلك كله رهين بنجاح نخبة النشطاء والمناضلين، من مثقفين وسياسيين ومقاتلين وعسكريين وطنيين، في رد تحدي التفاهم والتعاون وتوحيد صف السوريين، وتجاوز انقساماتهم في ما وراء حدود المعارضة والموالاة التي توشك أن تنهار من تلقاء نفسها.
يستدعي هذا، قبل أي شيء آخر، العودة إلى ذاتنا، واستعادة روح الثورة والمبادئ التي كانت تمثلها، في الحرية والكرامة وحق الشعب في تقرير مصيره، ورفض المساومة على القضية التي ضحى من أجلها ملايين السوريين، بعضهم بأرواحه وبعضهم بمستقبله وكل ما يملك، فمن دون إحياء روح الثورة من جديد، وتعميم إشعاعها في قلوب كل السوريين، لن يبقى هناك أي معنى لمعركتنا الراهنة، وسيتحول الكفاح البطولي المرير الذي خضناه، منذ سنوات، إلى اقتتال مجاني، عبثي. وسوف يشجع هذا جميع القوى الوصولية والانتهازية على التلاعب بمشاعر السوريين، المنكوبين والمحبطين، لتبرير أي اتفاق على حساب مصالحهم ومستقبل أبنائهم، بما في ذلك تبرير التسليم بالأمر الواقع، والاستسلام لحكم القوة الغاشمة.
■ قد يقول البعض بأن اسقاط الطائرة المقاتلة الأردنية وأسر طيارها ليست قضية مفاجئة ومقلقة للتحالف الدولي عموماً وللسلطات الاردنية خصوصاً، على أعتبار أن ذلك متوقع حصوله في الحروب.
وبمقدار ما يعتبر هذا القول سليماً ومعروفاً في نطاق العمليات الحربية، فإنه من جهة أخرى يغفل حقيقة مهمة في ما يسمى الحرب على الإرهاب، الذي تقوده الولايات المتحدة بمشاركة حلفاء آخرين، وهي أن هذه الحرب تجري بين دول من طرف، وبين طرف آخر هو تنظيم خارج إطار الدولة، يحمل عقيدة لا تؤمن بكل النظم والقوانين الدولية، التي تؤطر العلاقات في المجتمع الدولي، كما أننا وجدناه في حِلٍ حتى من بعض الشروط والاحكام الدينية التي أقرتها الشرائع السماوية، على الرغم من أنه يكتسي حلة الدين ويُجاهر بها. بمعنى أن الحروب بين الدول لها قوانينها التي تحكمها ولو بالحد الادنى، على الرغم من أننا لم نر هذه القوانين فاعلة في الحروب التي شُنّت على العراق وفي مناطق أخرى على سبيل المثـــــال، ومع ذلك لاحظنا أنه جرت مراعاة هذه الاحكام تجاه بعض الطيارين الذين أسقطت طائراتهم في الأجواء العراقية، ومن وقعوا في الأسر تم تسليمهم الى دولهم بدون شروط. إذن هل التحالف الدولي في قلق مما جرى وما هي خياراته المتاحة؟ وهل السلطات الاردنية في حيرة أكبر وما هي خياراتها المفتوحة أيضا؟
لم تتأخر حالة القلق في التحالف الدولي في التعبير عن نفسها، وبانت واضحة جــــدا في الإسراع بالاعــــلان عن أن الطائرة لم تسقط بفعل نيران الدولة الإســــلامية، بــــل بعطل فني، وهو تفســــير حاول ســــحب القــلق من بقية الحلفاء على مصير طائراتهم وطياريهم، وكان يصب في إبقاء زخم التحالف مشدودا الى بعضه بعضا منعا للتفتت.
هل ان «تنظيم الدولة» يمتلك فعلا صواريخ حرارية هي التي أسقطت الطائرة؟ المؤشرات التالية تقول نعم. أولا، أن واقعة الخلل الفني لا تشكل نسبة كبيرة من الصحة في هذا الجيل من الطائرات المقاتلة، ذات القابلية العالية على المناورة وتخطي الدفاعات الأرضية والصاروخية. ثانيا، أن بعض الإشارات التي وردت من غرفة الحركات العسكرية للتحالف الدولي، قالت بأن الطائرة هبطت إلى ارتفاع منخفض لقصف أهداف مهمة، وإن صحت هذا المؤشرات فإن ذلك يعني أن هذه المنطقة ذات أهمية استراتيجية لـ«تنظيم الدولة»، وإنه أحاطها بأسلحة غير تقليدية دخلت الطائرة ضمن مدياتها، عندها نكون أمام احتمال كبير بصحة ادعاء التنظيم. ثالثا، لقد سيطر التنظيم على أسلحة تقليدية وغير تقليدية من مخازن الجيشين العراقي والسوري، من ضمنها صواريخ روسية وصينية مضادة للطائرات شبيهة بصواريخ ستنغر المحمولة على الكتف.
رابعا، هذه ليست المرة الاولى التي يسقط التنظيم فيها طائرات عسكرية، بل حصل ذلك بإسقاط طائرات عراقية في المعارك التي دارت في صلاح الدين وكركوك، كما أعلنت السلطات الايرانية عن مقتل طيار إيراني في سامراء، لكن عدم إثارة الضجة سببه تفسير طبيعي، حيث أنها طائرات عراقية سقطت في أراض عراقية.
أما خيارات التحالف الدولي بقيادته الرأسية الولايات المتحدة، فهي تنصب الان على أظهار المقدرة على توفير الحماية لكل من انخرط في هذا الجهد العسكري والسياسي، لذلك لن يكون جهد الـ»سي آي أيه» القائم على فتح قنوات سرية للتفاوض مع «تنظيم الدولة» بعيدا، وقد يكون العمل الجراحي في القوات الخاصة لانقاذ الطيار محتملا أيضا، إن كانت كلفه السياسية أقل من التفاوض، لكن فشل الاثنين يعني أننا أمام حسم للجدل القائم حول عدم فعالية الضربات الجوية، بدون وجود على الارض، ما يعني أن حادث الطائرة الاردنية قد يُعجّل بهذا الخيار في حالة حصول أي مكروه للطيار الاردني، لاظهار التضامن في التحالف.
ماذا عن الخيارات الخاصة بالاردن بمعزل عن إمكانيات التحالف الدولي لتوفير الحماية لمواطنه الطيار؟ يرتبط المجتمع الاردني بعلاقات قبلية راسخة لها امتدادات مع القبائل في العراق وسوريا، وفي ذروة الحرب في العراق وسوريا اندفع الكثير من زعماء القبائل العراقية والسورية الى الحضن الاردني للاقامة، حيث استثمرت السلطات الامنية الاردنية هذا الجانب في دعم القرار السياسي الاردني بخصوص موقفها من الحالتين. كما أن بروز التيار الاسلامي بكل أشكاله في الاردن، وعدم وجود حالة عداء بينه وبين السلطة، أعطى صانع القرار السياسي مجالا واسعا في وضع إمكانيات هذا التيار وعلاقاته في خدمة السياسة أيضا. وإذا ما اخذنا بنظر الاعتبار أن قيادات «تنظيم الدولة الاسلامية» ذات خلفيات عشائرية وإسلامية من العراق وسوريا، مضافا لهم ما يقرب من 2000 عنصر في «تنظيم الدولة» هم مواطنون أردنيون، ووجود بعض المعتقلين في السجون الاردنية من «القاعدة» و»تنظيم الدولة»، خاصة بعض العراقيين الذين يمكن التحرك على زعماء عشائرهم، فإن الخيار الاردني في فتح قناة اتصال مع «تنظيم الدولة» يصبح أفضل الخيارات المتاحة، مما يؤجل الحسم الذي قد تفكر فيه الولايات المتحدة وبعض الاطراف الدولية الاخرى لابراز العضلات، علما بأن السلطات الاردنية نجحت في إطلاق سراح السفير الاردني في ليبيا من خاطفيه من الميليشيات الاسلامية. لكن ما مدى توظيف «تنظيم الدولة» لهذه القضية في صالحه وفرض شروطه فيها؟ لا يمكن التكهن بالمدى الذي سيستثمر فيه هذا التنظيم لورقة الطيار الاردني الاسير لديه، فالكثير من تصرفاته تخالف التوقعات ويتعذر قياس ردود فعله، لكنه قبِلَ في حالات أخرى التفاوض من أجل الفدية، وقد يقبل بإطلاق سراح بعض المحسوبين عليه في السجون الاردنية مقابل إطلاق سراح الطيار، لكنه قد يتطرّف في استخدام هذه الورقة المهمة التي بين يديه، فينظر الى الاردن على أنه جزء من تحالف كبير، مما يوسّع مطالباته لتمس مصالح الولايات المتحدة ودول أخرى، التي يقينا سترفض الاستجابة الى شروطه، وبالتالي ستفشل مفاوضات إطلاق سراح الطيار، وهذه محاولة من التنظيم لوضع السلطات الاردنية في موقف حرج أمام السؤال الذي سيطرحه الرأي العام الداخلي وهو، لقد التحقنا بالتحالف الدولي لكنه اليوم لا ينظر الى مصالحنا الخاصة المتمثلة في عودة الطيار سالما.
سؤال أخير هل أن النظام السوري سيكون بعيدا عن المشهد؟ وهل الكيان الصهيوني سيحجب إمكانياته في المساعدة في حل القضية بدون خسائر؟ لا نعتقد ذلك، فالنظام السوري قد تكون فُتحت معه الان قنوات اتصال سرية، باعتبار أن الحدث في أرضه وقد تكون بعض مجساته مفيدة، وسيجتهد لاثبات أنه يمكن الاستفادة منه، خاصة أن بعض الاطراف الدولية لازالت تراهن عليه. أما إسرائيل فوجودها سيكون حاضراً في أي عمل استخباراتي لإطلاق سراح الطيار.
يمكن اعتبار 2014 سنة مفصلية وفارقة في الحدث السوري، بالنظر للوقائع التي أسسها الصراع الجاري، وطبيعة الرهانات التي عملت أطراف على تطويرها، فضلا عن الآليات المستخدمة في الصراع، وقد شكلت هذه التوليفة ديناميكة صراعية، يقدّر أنّه سيكون لها تأثير مباشر على مسار الأحداث وتشكيل المستقبل السوري، وربما المحيط الإقليمي في المرحلة المقبلة، حيث يفيد تفحص الديناميات المشغّلة للحدث السوري بأن محركات الصراع ازدادت شراسة ورسوخاً، ما يجعل إمكانية نزع مفاعيلها أمراً غير ممكن، في الأمد المنظور، في مقابل ضعف في محفزات السلام، وغياب أية قوة وأفكار مؤثرة في هذا الاتجاه.
لم تكن سنة 2014 جيدة للسورين بكل المقاييس، فقد تأكد فيها ذهاب الوضع العسكري في سورية إلى نوع من الاستقرار"الإستاتيكو"، شبه النهائي، بعد أن أنجز كل طرف تأسيس البنى الخاصة، لتكريس سيطرته في المواقع التي يقيم بها، وبات واضحا أن هامش الحركة والتغيير صار صعباً على الطرفين، ضمن الصيغ القتالية الحالية التي ثبت أنّها غير قادرة على تغيير موازين القوة بشكل مؤثّر، باستثناء بعض النّقلات الهامشية، هنا وهناك، وتبدو هذه المعادلة هي المقيمة، فترة طويلة، ما لم يحدث تدخل خارجي، لا يبدو أنّه قادم. وعلى ضوء ذلك، باتت الجغرافية السورية مقسّمة بين ثلث تسيطر عليه جماعة الأسد وثلثين يسيطر عليهما الثوار وبعض الفصائل الإسلامية، ويتزامن ذلك مع استمرار وضعية السيولة الجغرافية للإقليم السوري.
" في سنة 2014، توزّعت القضية السورية على مروحة واسعة من الأزمات، ضاعت معها ملامح الأزمة الأساسية وعناصرها "
وتكشّف في سنة 2014 أن التغييرات الديمغرافية الحاصلة في الواقع السوري مديدة، بل هي انعكاس لتوجهات سياسية، أكثر منها تداعيات ميكانيكية للحدث، إن لجهة إفراغ مناطق معينة في الجغرافية السورية، أو لجهة استقرار النزوح السوري في بلدان الجوار والمهاجر البعيدة، وقد ظهرت مؤشّرات عن عمليات إعادة توطين يقوم بها نظام الأسد، وخصوصاً في حلب ودمشق وحمص، لعناصر غير سورية وعمليات شراء عقار واسعة ومموّلة من إيران، في مقابل توجّه غربي إلى إعادة توطين بعض النازحين السوريين إلى بلدان الجوار في بلدان ثالثة.
في 2014، تشكلت جغرافية وطنية سورية جديدة، حيث انتهى، بدرجة كبيرة، تشكّل الأوساط الاجتماعية" البيئات" لكل مكون، أو طرف بالمعنى الصراعي، بحيث بات كل وسط مغلقاً على ذاته، ويتضح ذلك من خلال التفاعلات الحاصلة ضمن هذه الأوساط، عبر تشكيلها الجماعات القتالية الممثّلة لها، والتي تشترك معها في منظورها للحرب، وتدعمها معنوياً ولوجستيا، وتكاد هذه الظاهرة تغطي جغرافية ما كانت تسمّى الوطنية السورية، ولا تقتصر على المكونين الأساسين المتحاربين، السنة والعلويين، لتأخذ المجتمعات السورية وضعيّة التمترس خلف جدرانها الطائفية والعرقية، وصولاً إلى إغلاق كل منافذ التواصل بين المكوّنات السوريّة، باستثناء الحوار الحربي في ميادين القتال.
ولعل ما زاد من تعقيدات الأمور أن الدولة السوريّة شهدت حالة من الانهيار الواضح لمؤسسّاتها، وعلى الرغم من بقاء هياكلها بحكم استمرار سيطرة النظام على قلب العاصمة ومراكز المدن، إلا أنّ هذه المؤسسّات تحوّلت إلى وجود صوري، ولم تعد موجودة إلاّ في إطار الإجراءات ذات الطبيعة السلبية في المناطق التي تقع تحت سيطرة بقايا نظام الأسد، فيما تفقد قدرتها على تأمين الخدمات العادية، في ظل اقتصاد تعطلت كل عناصره، ووصلت إنتاجيته إلى درجة الصفر، وقد تبلور، بشكل واضح، الاقتصاد القائم على خدمات الحرب، أو الحاصل نتيجة تفاعلاتها، وفي الوقت الذي أعلنت حكومة النظام عن ميزانية للعام 2015 بمقدار حوالي 7،5 مليارات دولار، فيما تحتاج سورية ما يعادل 10 مليارات دولار لتغطية نفقات استيراد النفط وحده!
سلّطت 2014 الضوء على التفاعلات المتشابكة والمعقّدة التي أفرزتها الحرب في سورية، وخصوصاً على صعيد التحوّلات الإقليمية، فقد تمظّهرت، بشكل كبير، الصراعات الطائفيّة والإثنيّة التي صارت تملك شرعيّة وحضوراً وجرأة في الإعلان عن نفسها، وهي تضيف تعقيدات عديدة على المشهد الإقليمي وممكنات الحل فيه، فقد برزت، بوضوح، تمفصلات الحالة الكردية على مساحة الإقليم، ووقوعها في إطار التشكّل، قضية سيكون لمفاعيلها تأثيرات كبيرة على مسار تطوّرات الأوضاع في المنطقة، كما ترسّخت حدود الصراع المذهبي على خطوط انقسام تمتد في سورية والعراق ولبنان بشكل واضح.
في مقابل ذلك، تأكد في سنة 2014 استحالة حصول توافق دولي للحل في سورية، وترسخّت حقيقة النزاع الدولي الذي تشعّب على طيف عريض من القضايا والملفات العديدة، بحيث تحوّلت الساحة السورية جراءها إلى ساحة هامشية، بعيدة عن الاهتمامين، الإعلامي والشعبي، بها، فيما خطفت الحرب على داعش الأضواء عن القضية السورية التي ستتحوّل إلى مجرد مشكلة على هامش الأزمة التي تثيرها داعش، سواء فيما تعلّق بأمن الأقليات في المنطقة، أو فيما خصّ قضيّة المجاهدين القادمين من أوروبا وأولئك الذين من المحتمل عودتهم.
في سنة 2014، توزّعت القضية السورية على مروحة واسعة من الأزمات، ضاعت معها ملامح الأزمة الأساسية وعناصرها، وترسخّت الأزمة بوصفها فرصة لأطراف دولية ومخاطرة لأطراف أخرى، تشكّلت على ضفاف الأزمة سياقات عديدة، يفتح بعضها مسارب جديدة، والخوف أن يؤدي استمرار الحفر فيها، أو تركها تتشكّل وفق أعنتها، إلى تعميقها وتحويلها إلى منجرفات لن يكون ممكناً ردمها، ويبقى أنّ ما أسّسته سنة 2014 سيحمل تأثيراته الكبيرة على الواقع السوري، الأكيد أنّ بعضها ستبدأ بالتمظهر في 2015.
ما يبذله الساسة الروس من جهود، وما يطرحونه من أفكار لحل الأزمة السورية، لا يرقى إلى مصاف مبادرة متكاملة، كونهم يستغلون فراغاً سياسياً، ويحاولون شغله، في ظل غياب الفاعلين الآخرين في الملف السوري عن القيام بأي فعل لحل عقد أزمته.
إضافة إلى أن طروحاتهم لم تخرج إلى الآن عن دائرة فشلها، وفشل الخطط والمبادرات التي سبقتها، لذلك ما زالت على الهامش، متقوقعة حول جسّ نبض المعارضة السورية والقوى الدولية الغربية، حيال محاولاتهم القديمة الجديدة، الهادفة إلى جمع المعارضة السورية مع النظام السوري، للتفاوض والحوار، بغية التوصل إلى حلول للأزمة في البلاد.
مبادرة اللامبادرة
ولا يتعدى ما يطرحه الروس مجرد أفكار غائمة، يطلقها لوسائل الإعلام -في بعض المناسبات- الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، وكذلك وزير الخارجية سيرغي لافروف، وكل من نائبيه غينادي غاتيلوف، وميخائيل بوغدانوف الذي التقى في العاصمة اللبنانية بشخصيات من المعارضة السورية، تدعي أنها صاحبة تمثيل للسوريين وتنطق باسمهم، وذلك بعد أن استقبل لافروف في العاصمة الروسية وفداً برئاسة أحمد معاذ الخطيب الذي اندفع في تقدير إرهاصات زيارته إلى موسكو، وراح يحلم بأن شمس الخلاص السوري قد تشرق من موسكو، وبالغ في حلمه طارقاً جدار المستحيل، لأن قادة الكرملين شركاء نظام الأسد في حربه الكارثية ضد غالبية الشعب السوري.
"يبدو أن ما يطرحه الروس لا يبتعد عن خطة دي ميستورا الغامضة أيضاً، والتي لا ترتقي بدورها إلى مصاف مبادرة متكاملة للحل السياسي في سوريا، لذلك فهي تلتقي مع طروحات الساسة الروس، مع الإيهام بأنها جدية"
ويبدو أن ما يطرحه الروس لا يبتعد عن خطة دي ميستورا الغامضة أيضاً، والتي لا ترتقي بدورها إلى مصاف مبادرة متكاملة للحل السياسي في سوريا، لذلك فهي تلتقي مع طروحات الساسة الروس، مع الإيهام بأنها جدية، وأن لدى صاحبها الرغبة في الخروج بشيء، إلا أنها لا تخرج عن محاولة جس نبض المعارضة حيال الجلوس مع النظام.
لذلك فإن المهم بالنسبة إلى ميخائيل بوغدانوف هو "أن تعيد قوى المعارضة السورية البناءة، إطلاق الحوار السياسي مع ممثلين رسميين عن دمشق"، واللاحقة التي تبرر مثل هذا الحوار هي الوقوف "في وجه التحديات الخطيرة التي يمثلها الإرهاب الدولي"، أي على المعارضة أن تضع يدها بيد نظام الأسد، للوقوف بوجه داعش.
وفي هذا الطرح تجاهل تام لعذابات السوريين، وللقتلى والجرحى والمشردين نتيجة ما قام به هذا النظام من أعمال قتل، ترقى إلى مصاف الجرائم ضد الإنسانية وجرائم الحرب، حسب تقارير عديدة لمؤسسات الأمم المتحدة، وبالتالي فإن الطرح الروسي يهدف إلى إعادة تأهيل النظام الأسدي، وإعادة الشرعية الدولية إليه، من خلال إشراكه في "الحرب على الإرهاب"، على الطريقة البوتينية الروسية.
ويكشف واقع الحال، أنه -وخلال طول أمد الأزمة الذي يمتد على ما يقارب الأربع سنوات- لم يغير الروس من مواقفهم المساندة والداعمة بلا حدود لنظام الأسد، فبقيت تصوراتهم للحلول لا تخرج عن البوتقة المساندة للنظام السوري، لذلك لم يغيروا رؤيتهم السياسية لأي حل ممكن، وظلوا يرددون مقولة أن "لا يوجد في الأفق أي حل سياسي بغياب الأسد"، وتجد هذه المقولة منطقها -أيضاً- لدى حكام إيران، الذين يرددون -مثل نظرائهم الروس- كلاماً يعيد طرح الحلول الروسية بالطريقة ذاتها. وعلى هذا الأساس رحب ملالي إيران بالمبادرة الروسية، وبمبادرة دي ميستورا، بعد ترحيب نظام الأسد بها.
التنسيق الإقليمي
لا شك في أن الروس نسقوا تحركاتهم مع ساسة النظام الإيراني، لتسويق حلّ سياسي للأزمة السورية، يخدم النظام قبل كل شيء، ولم يفتهم التشاور مع قادة الانقلاب في مصر، خلال زيارة عبد الفتاح السيسي لموسكو مؤخراً. وربما، تكفل الأخير، خلالها، بإطلاع السعوديين على الطرح الروسي، وتسويق مقولة إن الحرب ضد "داعش" هي حرب ضد الإخوان المسلمين أيضاً، وإنه لا فرق بين الاثنين، باعتبارهما "تنظيمين إرهابيين" بالنسبة إليه، وبالنسبة إلى المملكة السعودية التي تصر على إيجاد بديل عن بشار الأسد.
"كان يمكن للقادة الروس أن يستغلوا الفراغ السياسي الحاصل في الملف السوري، بسبب تفرغ الإدارة الأميركية للتحالف الدولي والعربي الذي تقوده في حربها ضد "داعش"، إلى جانب موقفها غير الحاسم من النظام السوري، لكنهم ظهروا عاجزين وغير مؤهلين للعب مثل هذا الدور"
ومن الطبيعي أن ينخرط السيسي في أي حراك يخدم مصلحة النظام السوري، وعلى هذا الأساس، عاد التنسيق الأمني السوري المصري، من خلال زيارات الوفود الأمنية، ومن خلال ما أشيع عن مبادرة مصرية، جوهرها، ينهض على تسويق مقولة الحفاظ على الجيش السوري، ومحاربة التنظيمات الإسلامية، وعدم السماح لها بالوصول إلى الحكم في سوريا، إضافة إلى القول بأنّ كلاً من النظامين، المصري والسوري، ينخرطان في معركة واحدة ضد المتطرفين الإسلاميين.
وفي نفس السياق، يبدو أن ثمة تنسيق مصري أردني حول دور أردني، يحاول التقريب بين وجهتي نظر الإدارة الأميركية والقيادة الروسية حيال الأزمة السورية، حيث زار عمّان عبد الفتاح السيسي، ثم قام العاهل الأردني بزيارة مباغتة إلى المملكة العربية السعودية.
ويأتي الدور الأردني على خلفية الاستناد إلى المقولة الأساس بالنسبة للولايات المتحدة الأميركية، المتمثلة بأولوية الحرب ضد "داعش"، ووفقها ظهر اقتراح حول خطة انتقالية، تستبعد سيناريو إسقاط نظام بشار الأسد، وكأن هذا السيناريو موجود أصلاً في حسابات صناع القرار في واشطن، الذين أعلنوا مراراً أن لا خطط لديهم لإسقاط أو محاربة هذا النظام، بل إنهم لم يفعلوا شيئاً ضده، حين تجاوز الأسد الخط الأحمر -الذي وضعه الرئيس الأميركي باراك أوباما- وهاجم شعبه بالأسلحة الكيميائية، واكتفت واشنطن بعقد صفقة مع الروس، جردت النظام من تلك الأسلحة.
العجز الروسي
بالرغم من دعوة الساسة الروس إلى مؤتمر "موسكو1"، إلا أنهم لم يقدموا أي شيء جديد من الناحية الجوهرية، سوى تقويض اتفاق جنيف1، بعدما أسهموا في إفشال مفاوضات جنيف2.
وكان يمكن للقادة الروس أن يستغلوا الفراغ السياسي الحاصل في الملف السوري، بسبب تفرغ الإدارة الأميركية للتحالف الدولي والعربي الذي تقوده في حربها ضد "داعش"، إلى جانب موقفها غير الحاسم من النظام السوري، لكنهم ظهروا عاجزين، وغير مؤهلين للعب مثل هذا الدور، بالرغم من تنطعهم بلعب دور الدولة العظمى الثانية في العالم.
فلم يجد بوتين -خلال زياته الأخيرة إلى تركيا- سوى التغني بمهزلة انتخابات بشار الأسد، واعتبارها شرعية، الأمر الذي يكشف تركيبة العقل السياسي المتحكم في روسيا، وطبيعة النهج الذي اتبعه في معاداة الثورة السورية، والدعم الهائل لنظام الأسد، قرين النظام الروسي وشبيهه في النهج والممارسة والتوجهات.
ويؤكد كلام الرئيس الروسي عجز العقلية السياسية المتحكمة بالساسة الروس، التي لا تختلف كثيراً عن عقلية النظام السوري، إذ الهاجس الأساسي الذي يسكن أذهانهم هو البقاء في الحكم، وعدم التخلي عنه، لذلك تتشابه الممارسات، وتختلف درجتها وشكليتها، من حيث إن النظام الروسي دخل في لعبة ديمقراطية، لا تحقق هدف الديمقراطية في تداول السلطة، بل تدخلها في لعبة تبادل الأدوار على كرسي الرئاسة الروسية.
ويسود اعتقاد في الأوساط السياسية الروسية، يفيد بأن حمايتهم للنظام السوري يمكن أن توفر حضوراً روسياً قوياً في مختلف ملفات الشرق الأوسط، وفي التسويات التي يمكن أن تحصل في المستقبل بخصوص إيران وملفها النووي، بل يمكن أن تشكل سابقة يمكن البناء عليها مع إيران والعراق ولبنان، ضمن سياسة بناء حلف جديد في المنطقة، تكون روسيا محوره الأساس والفاعل.
"قادة روسيا لم يسهموا في حل أية قضية في العالم، سواء في زمن الاتحاد السوفياتي المندثر، أم في زمن ما بعد اندثاره، وبرهنوا على أنهم قادرين على تخريب وعرقلة طموحات الشعب السوري في التغيير والعيش من دون ظلم"
غير أن قادة روسيا لم يسهموا في حل أية قضية في العالم، سواء في زمن الاتحاد السوفياتي المندثر، أم في زمن ما بعد اندثاره، وبرهنوا على أنهم قادرين على تخريب وعرقلة طموحات الشعب السوري في التغيير والعيش بدون ظلم.
وما يزيد في عجز الدور الروسي عن إيجاد حل سياسي هو عدم امتلاك الساسة الروس لأي تصور متكامل لوقف حمام الدم في سوريا، الأمر الذي يكشف عجزهم عن المبادرة في طرح أي حل سياسي، حتى لو كان في مصلحتهم أو مصلحة حلفائهم، وهو ما يتجلى في الأحاديث التي أطلقها مؤخراً ميخائيل بوغدانوف، نائب وزير الخارجية الروسي، في العاصمة اللبنانية، إلى المعارضة السورية التي لم تخرج عن كون غايتها القصوى هي الوصول إلى هدنة مؤقتة، لا تحول دون انفجار الوضع من جديد، الأمر الذي يظهر عجز السياسة واضمحلال التفكير السياسي الروسي السائد.
وإن كان الروس قد أعلنوا لزوارهم في أكثر من مناسبة بأن المسار السياسي لحل الأزمة، يجب أن يسير بالتوازي مع مسألة محاربة "الإرهاب" التي تُدندن عليها الدول، فإنهم طرحوا ذلك كي يتناغم ويلتقي مع ما ترمي إليه مبادرة دي ميستورا، ومع الجهود المصرية والأردنية، التي تهدف جميعاً إلى إعادة تأهيل نظام الأسد، عبر إدخاله في مفاوضات ترمي إلى إعادة الاعتراف به، وتوحيد الجهود لمحاربة "داعش".
وبدلا من أن يسهم الروس في حلّ الأزمة، عملوا على التأثير على مجرياتها بشكل سلبي، بالنظر إلى الدعم اللامحدود للنظام، فيما كان المطلوب من روسيا المساعدة والضغط من أجل إيجاد حّل سياسي، يقطع تماماً مع الحل الأمني والعسكري الذي لا يمكنه إيجاد المخارج المناسبة لثورة شعبية.
وأن يوجه الضغط باتجاه تنفيذ خطوات على الأرض تلبي طموحات الشعب السوري، والتركيز على أولوية حلّ داخلي للأزمة، يجد آثاره ومفاعيله في وقف القتل والعنف، وسحب قطعات الجيش ووحداته من شوارع المدن والبلدات السورية، وإطلاق سراح كافة المعتقلين وسجناء الرأي، ومحاسبة المسؤولين عن أعمال القتل، والسماح لوسائل الإعلام بالدخول إلى سورية، وسوى ذلك كثير.
بشأن الموقف الروسي إبان مؤتمر "جنيف2"، والذي عقد مطلع العام الحالي، وانتهى إلى الفشل، تم تقديم تفسيرين رئيسين. الأول، دعم نظام بشار الأسد نحو إفشال المؤتمر، باعتبار ذلك رغبة روسية واعية. فيما تمثل التفسير الثاني في انكشاف حدود قدرة الدولة العظمى على التأثير على هذا النظام لإيجاد صيغة تسوية ما لإيقاف الحرب في سورية.
الآن، تبادر روسيا، منفردة تقريباً، إلى محاولة إيجاد حل ما للأزمة السورية؛ بجمع المعارضة في موسكو بنية توحيد مواقفها، وصولاً إلى لقاء يجمع هذه الأخيرة بالنظام. لكن التطورات، أو التراجعات التي لحقت بالجهود الروسية، تجعل التفسير الثاني السابق، بعجز روسيا إزاء حليفها الأسد، أقرب إلى المنطق.
فرغم الجولات الإقليمية المكثفة للمبعوث الخاص للرئيس الروسي، نائب وزير الخارجية ميخائيل بوغدانوف، في المنطقة خلال الفترة الماضية، والتي سبقتها دعوات لأطراف من المعارضة والنظام إلى موسكو ضمن ما اعتبر "مبادرة روسية"، إلا أن بوغدانوف نفسه عاد ليؤكد قبل أيام فقط بأن "موسكو لا تبني توقعات كبيرة" من لقاء/ لقاءات المعارضة والنظام التي "ستحمل طابعاً غير رسمي". أما المؤشر المادي والأهم على خروج الأمور من يد موسكو، فهو تصاعد العمليات العسكرية للنظام، على شكل مذابح بحق المدنيين أساساً، ضمن علاقة طردية مع تصاعد الجهود الروسية لعقد اجتماعات مفاوضات الحل السياسي.
إذ بافتراض أن روسيا تريد إعادة تأهيل بشار الأسد ذاته، وفق أقصى أمنياتها وطموحها، أو الحفاظ على ما بقي من نظامه كحد أقصى من التنازلات التي يمكن لها تقديمها، وذلك بغية مواجهة الإرهاب، والحفاظ على المصالح الروسية في سورية وغيرها، فإنه يظل شرطاً أساسياً لأي من هذين السيناريوهين خلق بارقة أمل لدى السوريين بتغير ما ممكن للتوصل إلى حل يوقف سفك الدماء، واقتناعهم بالتالي بالتوحد لأجل وطنهم في مواجهة الإرهاب. لكن بدلاً من نجاح روسي ولو رمزي، يفترض أن يكون متوقعاً بداهة، في تخفيف معاناة السوريين (بإطلاق سراح بعض رموز المعارضة السورية "الوطنية" بتعريف موسكو والنظام، وإيصال مساعدات طبية وغذائية ولو بالحد الأدنى إلى مناطق محاصرة)، فإن ما يقوم به الأسد فعلياً الآن، وبشكل غير مسبوق ربما، هو دفع مزيد من السوريين نحو التطرف، فكرياً إن لم يكن تنظيمياً.
والحقيقة أن هذا التصعيد الدموي من النظام يُفقد روسيا نهائياً إمكانية إلقاء الملامة في فشل مبادرتها على أي طرف كان؛ معارضة الخارج و/ أو داعميها الإقليميين والدوليين. وبذلك، يتحقق ما حذر منه المعارض السوري لؤي حسين، في مقال له بداية الشهر الحالي (نشر عقب اعتقاله من قبل النظام)، وهو إمكانية خسارة موسكو "كل وجودها في سورية إن فشلت مبادرتها" بسبب تعنت النظام. فأي قيمة لروسيا في سورية إن كانت تعجز عن التأثير على الأسد؟ أما مواصلة دعمه عسكرياً، فإنه بقدر ما يبقيه "رئيساً"، بقدر ما يفيد "داعش" وأمثاله، ولتكون النتيجة مدمرة تماماً للمصالح الروسية على المدى المتوسط، إن لم يكن القصير.
"نحن الآن في حالة حرب، إن لم تكن مع الوطن فأنت خائن"، بهذه الكلمات علّق أحد المواطنين الأردنيين على النقاش الذي لم يهدأ، وأعيد فتحه بعد أسر الطيار الأردني، معاذ الكساسبة، على يد تنظيم داعش، بعد سقوط طيارته في الرقة في أثناء تنفيذ عملية جوية هناك.
المهم أنّ هذا التعليق الموجز القصير يعكس، بالفعل، مزاجاً سياسياً، رسمياً وشعبياً، يسير وراءه في جدلية "هل هي حربنا؟" أم "ليست حربنا"، وهي قضية، وإن كانت تقسم الأردنيين، فعلاً، بين مؤيد لدخول الأردن في التحالف الدولي ومعارض له، إلاّ أنّها لا تنطبق على الموقف من أسر معاذ الكساسبة، والموقف من داعش، فهنالك حالة عامة من التعاطف مع الطيار الأسير، توحّد الأردنيين فعلاً، وهنالك مؤشرات في أغلبية عظمى من استطلاعات الرأي ضد تنظيم داعش، بوصفه مصدر تهديد للأمن الوطني، وتنظيماً إرهابياً.
منذ إعلان الأردن المشاركة في التحالف الدولي ضد التنظيم، وتبنّى بصورة واسعة عنوان "الحرب على الإرهاب" ومواجهة التطرف، بدأت عملية التخوين والتشكيك في المواقف المتحفظة، أو المتشككة في جدوى انخراطنا في الحرب الراهنة وضرورته، ثم هدأت الموجة، على أمل أنّ الطلعات الجوية لن تكون مصحوبة بخسائر بشرية أردنية، حتى وقعت حادثة سقوط طائرة الكساسبة، وفجّرت معها النقاشات الداخلية مرّة أخرى، في ظل "حفلات" من الترهيب السياسي والإعلامي الحقيقي لكل مَن يناقش في موضوع الحرب، الذي من المفترض أن يكون مدعوماً بإسناد شعبي وسياسي كبير، وليس محلاً للانقسام والتجاذب والاختلاف في وجهات النظر، كما هو واقع اليوم!
أوساط الدولة قدّمت مقاربة متماسكة للمشاركة في الحرب، فيها حجج قوية فاعلة، تستند إلى ثيمة "الحرب الوقائية"، إذ إنّ هذا التنظيم الذي يتمدد في الجوار، ويكاد يصل إلى الحدود الشرقية والشمالية، مصدر تهديد أمني حقيقي للأردن، ومن الأفضل للأردن أن يذهب إليه ليضعفه في أرضه، قبل أن يتمكن من أن يصبح أكثر قوة ورسوخاً، فيضطر الأردن، حينها، ليتعامل مع خطر محدق وتهديد أكبر، في ظل، أيضاً، تنامي حالة داخلية متعاطفة مع التنظيم، من أبناء السلفية الجهادية، فهناك أرقام تتحدث عن قرابة ألفي أردني يقاتلون، اليوم، مع داعش والنصرة، فيما هنالك 300 يحاكمون في محكمة أمن الدولة، بتهمة ترويج التنظيم والتجنيد له، بالإضافة، بالطبع، إلى مئات ممّن يحاكمون على خلفية محاولة اللحاق بهذه التنظيمات، أو العودة من هناك!
على هذه القاعدة الصلبة، بنت الرواية الأردنية الرسمية شرعية المشاركة في الحرب، فهي، وفقاً لذلك، "حربنا"، ونحن أولى بها من الأميركيين والغرب، ولا يجوز أن يتنصّل العرب من مسؤولياتهم في مواجهة الإرهاب والتطرف، الذي يهددهم، أولاً قبل غيرهم.
وعلى الرغم من وعي الأردن إلى أنّ داعش نتاج أزمة سنية حقيقية في العراق وسورية، وأنّ قوته محصّلة أخطاء وسياسات طائفية داخلية وإقليمية، وعلى الرغم، كذلك، من أنّ المقاربة الأردنية تتضمن التحالف مع العشائر السنية في العراق وسورية، في مواجهة داعش، ودعم مطالب السنة في العملية السياسية، إلاّ أنّ الأولوية الواضحة، أردنياً، تكمن في مواجهة داعش، بوصفه مصدر تهديد حقيقي وجوهري ومباشر، فضلاً عن أنّ الخطوات العسكرية تجاوزت كثيراً المقاربة السياسية التوافقية، التي من المفترض أن تجترح الحل السياسي المنشود، ما جعل من عنوان الحرب على داعش هو الأساس، فيما تراجع كثيراً الحديث السابق عن دور النظام السوري والنفوذ الإيراني في منح التنظيم أسباب القوة والصعود، عبر تبني خطاب هويّاتي، يقتات على أزمة السنة، ومأساتهم الكبيرة الراهنة!
على الطرف الآخر تبنّى التيار الذي يعارض داعش، ويقف في خندق معادٍ لها، سياسياً وأيديولوجياً، لكنه يتحفّظ على الحرب الراهنة، خطاباً يستند إلى جملة أساسية، تتمثل في أنّ ما يحدث في سورية والعراق "حرب بالوكالة" (Proxy War)، بين أطراف محلية وإقليمية ودولية، وأنّ المشهد أكثر تعقيداً ممّا يبدو في الواقع، فهنالك ميليشيات شيعية متطرفة، بقيادة قائد فيلق القدس الإيراني، قاسم سليماني، تقاتل ميليشيات سنية، ودول داعمة لهؤلاء وأخرى للطرف الثاني، ما يجعل من الحرب الراهنة في خدمة طرف ضد الآخر، فهي، كما اعترف وزير الدفاع الأميركي السابق، تشاك هيغل، تخدم نظام بشار الأسد بصورة واضحة، فيما تعلن الأردن والدول العربية، وتقف دولياً مع المعارضة السورية، وضد الأسد، ما يجعل الموقف العربي والغربي على السواء متناقضاً!
" هناك أرقام تتحدث عن قرابة ألفي أردني يقاتلون، اليوم، مع داعش والنصرة، فيما هنالك 300 يحاكمون في محكمة أمن الدولة، بتهمة ترويج التنظيم والتجنيد له "
لا يرى هذا التيار في داعش، إقليمياً، مصدر تهديد مباشر للأردن، فصعوده مرتبط بالظروف الاستثنائية في كل من سورية والعراق وشروط الحرب الداخلية والطائفية وحالة الفوضى والانهيار الكامل، وهي حالة تختلف جذرياً عن الوضع الأردني.
لذلك، ومع إقرار هذا التيار المعارض للحرب بتنامي التيار الداعشي في الأردن، إلاّ أنّه يرى خطأً، بل خطيئة كبيرة، في الخلط بين الحالتين، الداخلية والإقليمية، فمعالجة هذا التيار داخلياً تتم عبر استراتيجية مختلفة عن الاستراتيجية الإقليمية، فالمطلوب جهود أمنية وسياسية وثقافية وتنويرية، تتعامل مع أسباب ذلك الصعود ومدخلاته، وتحاصر "نموذج" داعش، بينما الحالة الإقليمية ذات مقاربة مختلفة تماماً.
إذاً، التيار المعارض للحرب هو يرى، في نهاية اليوم، بأنّها حربنا، لكنه يضيف كلمة "لكن" على ذلك، فما نراه اليوم من حملة دولية وإقليمية، فيه قدر كبير من التخبط وغياب الأفق الاستراتيجي والتناقضات الهائلة.
بغض الطرف، قال الأردنيون إنها حربنا أم لا، فإنّ أحد الدروس المهمة في أعقاب أسر الطيار الكساسبة، وما أحدثه ذلك من صدمة كبيرة لدى الرأي العام، واهتزاز في خطاب الدولة، هو أن يتم التعامل باحترام مع حرية التعبير والرأي، وألا يتم خلق أجواء من الترهيب السياسي والتخوين، فهنالك انتقادات هائلة في أميركا للحرب الراهنة، وفي ذروة الحرب الإسرائيلية على غزة كانت المقالات تتحدث بلغة نقدية حادة ضد الحرب.
للمرّة الألف، الحرية والتعددية والديمقراطية والمناخ الصحيّ هي السلاح الفتّاك في مواجهة صعود التنظيمات الإرهابية، فالمعادلة الداخلية أساسية، وليست ثانوية، في سؤال "الحرب على الإرهاب" في مقابل الاعتبارات الخارجية!
إذا وُضعت إسرائيل جانباً، فإن السعودية وتركيا وإيران أكثر ثلاث دول مؤثرة، وذات استقرار نسبي في المنطقة.
لإيران مشروعها الذي لا تخفيه. يتلخص بالسيطرة المباشرة المطلقة على المشرق العربي. كادت أن تنجز المرحلة الأولى من هذا المشروع، بالسيطرة على العراق وسورية ولبنان، وقد قال المستشار العسكري للمرشد الأعلى الإيراني، الفريق يحيى صفوي، حول هذا الأمر بوضوح: "حدود إيران لا تنتهي عند شواطئ المتوسط"، وبدأت بالعمل على المرحلة الثانية عبر اليمن، ولا يخفى على أحد أن المرحلة الثالثة ستكون السعودية والمنطقة الشرقية من شبه الجزيرة العربية، وصولاً إلى البحر الأحمر.
هل ستكتفي إيران عند هذا الحد، لو أتيح لها تحقيق هذا المشرع؟ لو كان هذا هدفها فقط، فما قصة حركة التشييع التي تقودها، وتنفق عليها الملايين في تركيا؟ ما الدافع لإحياء منظمات شيوعية تركية، كادت أن تموت، لتجنيدها في سبيل خدمة المشروع الإيراني تحت شعار "مناهضة الإمبريالية". في عام 1979، اعتبرت منظمة "اليسار الثوري" في تركيا الخميني مجرد وجه آخر للشاه، وكانت منشوراتها كلها في هذا الاتجاه، لكن بقايا انشقاقات هذه المنظمة التي تدعي أنها استمرار لتلك "تناضل"، اليوم، ضد الإمبريالية بقيادة الولي الفقيه؟ رئيس حزب العمال في تركيا، ضوغو بيرنتشك، أدلى بتصريح، قبل عام تقريباً، قال فيه: "سنصلي، الأسد والمالكي وأنا، صلاة النصر وراء السيد علي خامنئي في جامع السلطان أحمد"، وهذا جامع في إسطنبول، وأحد أهم المساجد التي ترمز للحقبة العثمانية، بموقعه الفريد مقابل كنيسة آيا صوفيا، قرب قصر طوب قابِ العثماني، لا بد من التذكير بأن هذا الرجل يدعي أنه علماني، ويخشى على تركيا من الأسلمة بقيادة حزب العدالة والتنمية. هل أصبح الولي الفقيه تكية أو جمعية خيرية ليجند هؤلاء؟ بالطبع، لا يمكن لهؤلاء أن يغيّروا نظام الحكم في تركيا، ولا يشكلون خطراً على بنية الدولة التركية في الوقت الراهن. لكن، ثبت من التجربة العملية أنهم يستطيعون إحداث فروق في الاحتجاجات، ولفت أنظار الرأي العام، خصوصاً إذا كانت هناك وسائل إعلام عالمية يمكن أن تقبل نشر الأخبار المأجورة. ويقول المثل العربي: "الطلقة التي لا تصيب بتدوش"، فهذه التنظيمات على الأقل هي طلقة تُدوش.
" هل أصبح الولي الفقيه تكية أو جمعية خيرية ليجند هؤلاء؟ "
إذا كان مشروع إيران في المشرق العربي معلناً، فهناك مؤشرات كثيرة تدل على أن مشروعها الاستراتيجي هو التمدد حتى الأناضول، فإيران لم تنس معركة "جالدران" التي قضى فيها سليم الأول على الشاه إسماعيل الصفوي، ولم يمض وقتٌ طويل على ما سمي، قبل عام، "احتجاجات تقسيم" أو "احتجاجات غزي" التي أخذت اسمها من اسم الحديقة التي تقرر نقل بضع أشجار منها إلى مكان آخر، فلقد كانت الشعارات كلها لا تندد باقتلاع الأشجار، بل بتسمية جسر البوسفور الثالث، المزمع إنشاؤه باسم "قاتل العلويين"، كما أطلق عليه المحتجون، وهو سليم الأول. وفي هذا الأمر إشارة واضحة إلى معركة جالدران. هناك أمثلة ومؤشرات وأدلة كثيرة على المشروع الإيراني في المنطقة. والدولتان اللتان يمكن أن يعوّل عليهما لمنع تمدده في المنطقة هما السعودية وتركيا، لكن الخلاف السعودي التركي يبلغ مبلغاً شديد الخطورة، يصل إلى حد تبادل الأخبار التي لا تحظى بالمصداقية على الأغلب حول تركيا بين وسائل الإعلام السعودية والإيرانية، فمن المستفيد من هذا الأمر؟
لا شك أن الخلاف السعودي التركي ينعكس سلباً على تطورات الأحداث في سورية، ولا يحتاج الأمر إلى متنبئ، للقول إن نجاح المشروع الإيراني كله متوقف على نتيجة ما يجري في سورية.
لقد نجحت تركيا بدفع خلافاتها مع روسيا إلى تحقيق مصالح مشتركة بينها وبين هذا البلد، لتغدو روسيا أكبر شريك اقتصادي لتركيا، وخصوصاً بعد عروض خطوط نقل الطاقة الروسية عبر تركيا، ألا يمكن أن تفعل السعودية وتركيا أمراً مشابهاً؟ أليس من المنطقي أن تجمع الأخطار المشتركة بين هذين البلدين لتحقيق نتائج ملموسة أكثر؟