في 2011 عندما بدأت الأحداث في درعا وتلقى بشار الأسد النصائح من أصدقائه آنذاك والزعماء العرب الذين اعتقدوا أن بإمكانه أن يتغير ويقوم بالإصلاحات، لم يكن هناك «داعش» ولا انتشر الدمار والموت والنزوح والكوارث. فالشعب السوري الذي تظاهر آنذاك لم يكن يطالب إلا بالحرية والإصلاحات وإزالة الفساد. فرد عليه رئيسه بالحرب والقصف بالطيران والبراميل والرعب وإطلاق إرهابيين من سجونه كان يستخدمهم في البداية ضد خصمه العراقي نوري المالكي الذي تحول لاحقاً إلى حليفه والذي أساء إلى بلده وللمنطقة مثل بشار الأسد. في 2013 عندما اتصل باراك أوباما بنظيره الفرنسي فرنسوا هولاند للاتفاق على ضرب عدد من المراكز العسكرية والجوية للنظام السوري، كانت باريس جاهزة لخوض المعركة إلى جانب واشنطن من منطلق قناعة هولاند أن على الأسرة الدولية أن تمنع المزيد من المآسي في سورية وأن تضعف النظام لكي يرحل. تراجع أوباما أو أنه لم يكن راغباً منذ البداية. في تلك الفترة لم يكن هناك «داعش» ولا جهاديون يلتحقون بهذه المجموعة الإرهابية التي هي من صنع الأسد. فمنذ 2013 تغيرت الصورة في سورية وانتعش بشار الأسد بمساعدة إيران و»حزب الله» وروسيا واستمر في تدمير سورية والمنطقة بأسرها. زار باريس وفد من أطباء سوريين شجعان يعملون بحيادية على الأرض السورية في أماكن مختلفة من حلب إلى إدلب إلى الغوطة إلى دمشق وغيرها، ووصفوا الكوارث الإنسانية وظروف عملهم الصعبة وقلة الأطباء والجراحين الباقين في سورية وتحدثوا عن الوضع المؤلم والمخجل لأسرة دولية معطلة لا تفعل شيئاً لإيقاف هذه الوحشية.
أوباما منشغل بصفقة مع إيران قبل أن ينهي عهده الذي قد يكون أسوأ مما قام به سلفه جورج بوش في العراق الذي أطاح صدام حسين لكنه دمر الجيش العراقي. إن سياسة أوباما بعدم المبالاة بالكارثة السورية وأولويته بعقد صفقة مع إيران على رغم ما تقوم به في سورية وتجبر أبناء لبنان أن يموتوا للدفاع عن بشار الأسد، تجعل أي عربي معتدل يتشدد ويثور إزاء سياسة أميركية حمقاء في خياراتها، حتى أنها ليست بالضرورة لمصلحة الولايات المتحدة. إن حجة أوباما أن سورية ليست مشكلة بلده خطأ فادح. فعدد «الجهاديين الإسلاميين» الذين يذهبون يومياً من الغرب إلى سورية يزداد وأصبح ظاهرة مقلقة للحكومات الغربية. ولو كانت سورية في وضع مستقر من دون الأسد مع حكم ديموقراطي لما حدث ذلك.
أما روسيا التي دعت إلى اجتماع بين معارضة مختارة من الجانب الروسي وجماعة النظام فهذه أيضاً نكتة. موسكو تبدو وكأنها تريد حلاً في سورية. لكنها لا تريد التطرق إلى حكومة انتقالية. وموسكو تردد لمن يريد أن يسمعها أنها «ليست في زواج» مع الأسد، في حين أن حلفها العسكري والسياسي معه صلب وتستفيد منه على الساحة الدولية.
200 ألف قتيل في سورية وملايين اللاجئين ومصير بلدهم غير معروف ولا أحد يتحرك إلا النظامان الإيراني والروسي اللذان يشبهان حليفهما السوري. من يعتقد أن تدهور أسعار النفط سيؤثر على إيران هو خاطئ، لأن النظام الإيراني لديه تنظيم وقدرات خاصة به. وهو لا يبالي بحرمان شعبه، فـ «الحرس الثوري» الإيراني لن ينقصه شيء وهو مستمر في دفع «حزب الله» إلى حرب يدفع ثمنها أبناء لبنان قتلى من عناصر الحزب ومدنيين، ونزوح سوري يشكل كارثة إنسانية واقتصادية على لبنان. إن اجتماع موسكو في هذه الظروف مهزلة ولا فائدة منه. وعلى «الائتلاف السوري» المعارض أن يحسن أداءه ويبدأ العمل لتوحيد الصف وتعبئة حقيقية ليكون لديه مصداقية أفضل بعيداً عن الطموحات الشخصية. والمطلوب قبل كل شيء تعبئة دولية لتحرك فعلي وتدخل سريع لإيقاف الكارثة الإنسانية التي تحدث عنها الأطباء السوريون الذين زاروا العاصمة الفرنسية أمس.
كعادة تجار الدماء، وزعماء الميليشيات في منطقتنا، يحاول حسن نصر الله الآن استغلال الاعتداء الإرهابي الذي استهدف مجلة «شارلي إيبدو» الفرنسية لتلميع صورة حزبه المتورط بالدماء بمنطقتنا، وذلك للقول بأن الجماعات الإرهابية «التكفيرية» أساءت إلى الإسلام والرسول أكثر من أعدائهما!
والحقيقة التي يعرفها الجميع بمنطقتنا أن حسن نصر الله، وحزبه عموما، والأجندة التي يخدمانها، لا يكترثون بالحريات، ولا صونها، ولا يسعون لحقن الدماء، كما أن آخر همومهم احترام الأديان، أو الطوائف والجماعات، والدليل أن حزب الله، وكل حلفاء إيران بالمنطقة، هم من يأججون الطائفية، وأكثر. فعندما يقول حسن نصر الله الآن إن «التكفيريين» قد أساءوا للإسلام والرسول عليه الصلاة والسلام أكثر من أعدائهما، فإن السؤال هنا هو: ولماذا تاجر حزب الله، ومعه بشار الأسد، بالمظاهرات المنددة بالرسوم الكرتونية في الصحيفة الدنماركية، من قبل، وأخرجوا لها المظاهرات؟ وكما كتب قبل أيام في هذه الصحيفة الأستاذ عبد الرحمن الراشد، والذي ذكّر أيضا بافتعال إيران لأزمة «معركة رواية سلمان رشدي ضد بريطانيا» والتهديد «بقتل المؤلف، ودعم أي عملية إرهابية». كما أشار الراشد بمقاله، وذلك لتوضيح زيف مواقف حزب الله، وإيران، إلى أنه «لم يقل أحد إن إيران التي ثارت على رواية رشدي هي نفسها تسمح بآلاف الكتب التي تسب صحابة الرسول»!
والقصة لا تقف عند هذا الحد، فبينما يحاول نصر الله اليوم تلميع صورته، وهو المتورط في الدم السوري، فإن المتابع يتساءل: طالما أن نصر الله يدافع عن الحريات ويرفض العنف، فأين كانت حكمته المفاجئة هذه حين قام نظام الأسد بتكسير أطراف رسام الكاريكاتير السوري الشهير علي فرزات بأحد شوارع دمشق، وبعد اندلاع الثورة؟ حينها لم يدافع نصر الله عن فرزات، ولا الحريات، والسؤال هنا أيضا: ما الفرق أصلا بين «التكفيريين» والأسديين، سواء الأسد نفسه، أو من يدافع عنه، ومن ضمنهم نصر الله؟ وإذا كان زعيم حزب الله «معتدلا» كما يدعي، فلماذا لا يقول لنا من الذي اغتال سمير نصير وجبران تويني في لبنان، وبنفس العام؟
الحقيقة أن ما يحاول نصر الله فعله الآن هو خديعة الرأي العام، والمجتمع الدولي، في محاولة منه للظهور بمظهر المتسامح، وذلك للتغطية على جرائم حزبه في لبنان والعراق وسوريا وكذلك اليمن، فنصر الله يعي أن العالم اليوم بات مختلفا بعد الجريمة الإرهابية التي وقعت بفرنسا، ولذا فيجب التنبه اليوم، عربيا، ودوليا، لمحاولات نصر الله، وكل حلفاء إيران الحالية لخديعة المجتمع الدولي، فيكفي الخديعة الأولى، أو التقية، التي مارسوها بعد أحداث سبتمبر (أيلول) الإرهابية في أميركا. وعليه، فيجب أن لا ينسى الجميع اليوم أن حزب الله شريك بتأجيج التطرف والإرهاب، بل هو من أبرز منفذيه بالمنطقة، والأمثلة على ذلك كثيرة، وأبرزها ما يفعله الحزب في سوريا الآن دفاعا عن جرائم الأسد.
صورة جماعية تمثلت في اجتماع دولي واسع على شكل تظاهرة مليونية في باريس لمناهضة الارهاب وتنديدا بالاعتداء على جريدة "شارلي ايبدو" الذي ذهب ضحيته احد عشر شخصا تحرك العالم بأسره من اجلهم في ظل صمت دولي حيال المجازر اليومية في سوريا وشهداء شهدا التعذيب في المعتقلات واحد عشر طفلا قضوا جراء البرد في مخيمات اللجوء وعدد من الاطفال ماتوا جوعا في البلدات المحاصرة في سوريا .
استقبل الرئيس الفرنسي الحضور والحزن والاسى يقطر من وجهه معبرا بالاسى على الضحايا في حين تظهر صفحات التواصل الاجتماعي صورا لبشار الاسد وافراد اسرته وهم يلهوون على الثلج في ذات الوقت الذي يلقى اطفال سوريا حتفهم جراء تشريده لهم
يحضر التظاهرة كوكبة من الرؤساء والمسؤولين ودعاة السلام يتصدرهم العاهل الاردني الذي قطع الاف الكيلومترات للتنديد بالاعتداء متجاهلا اعداد الذين يقضون في مخيمات اللجوء في الاردن جراء تدني مستويات المعيشة في المخيمات بالإضافة الى ما قام به الاردنيون الشهر الماضي من ارجاع الجرحى والمصابين من الحدود الاردنية الى سوريا كتصرف يوحي بالإنسانية المفرطة .
ولا يغيب عن الصورة الجماعية محمود عباس الذي قطع اشواطا ليحضر التظاهرة في حين منع الفلسطينيين من التظاهر للتضامن مع شهداء غزة في لفتة كريمة منه للفرنسيين حكومة وشعبا بحزنه الشديد واسفه بالاصالة عن نفسه وبالنيابة عن الفلسطينيين وتضامنهم مع ضحايا الاعتداء .
ولايغيب عن الموقف دعاة السلام السوريين ممثلين باعضاء الائتلاف الوطني الذين سارعوا بتعزية الحكومة الفرنسية متناسين ان يعزوا اهالي ضحايا العاصفة الثلجية
....................المجتمع الدولي....شكرا .
في محاولة يائسة، ومفضوحة، للتذاكي أصدر النظام الأسدي بيانا أدان فيه الاعتداء الإرهابي الذي استهدف مجلة «شارلي إيبدو» الفرنسية، معتبرا أن تلك الجريمة إثبات على أن «الإرهاب في سوريا سوف يرتد على داعميه»، وأنه دليل على «قصر نظر السياسات الأوروبية»!
والحقيقة أن جريمة «شارلي إيبدو» الإرهابية هي دليل على إدانة نظام بشار الأسد نفسه، ليس الآن، بعد الثورة، بل وقبل ذلك بكثير، فهذه الجريمة الإرهابية التي هزت فرنسا قدمت دليلا واضحا على تورط نظام الأسد في تسهيل، وتذليل، كل العقبات أمام الإرهاب بالمنطقة، وتحديدا العراق، وذلك بعد إسقاط نظام صدام حسين، وبدعم وتنسيق إيراني، كما أنها؛ أي عملية «شارلي إيبدو»، دليل على تورط حزب الله بدعم الإرهاب بالمنطقة، وهذا ما كشفته جريمة فرنسا الإرهابية، ومن الواضح أن ما سيكشف لاحقا سيكون أكثر إثارة.
بالنسبة لجريمة «شارلي إيبدو» الفرنسية، فقد اتضح أن أحد الإرهابيين المشاركين فيها، شريف كواشي (32 سنة)، قد قرر السفر إلى سوريا عام 2005 للمشاركة في القتال بالعراق، وتم إيقافه من قبل السلطات الفرنسية، والجميع يعرف أن تسلل الإرهابيين من سوريا إلى العراق وقتها كان أمرا يتم بعلم النظام الأسدي، وتنسيقه، وذلك لخدمة الأجندة الإيرانية، وتعقيد المشهد بالعراق، وكان نظام الأسد يتاجر بهؤلاء الإرهابيين، ومنهم سعوديون، تارة للقول بأنه يدعم المقاومة، وتارة أخرى للقول بأن السعوديين إرهابيون، ومن أجل تركيع العراق للمصالح الأسدية الإيرانية بالطبع. وكل من يعرف طبيعة سوريا، قبل الثورة، يعلم أنها دولة بوليسية لا يمكن للإرهابيين التنقل فيها، وصولا ومغادرة إلى العراق، دون علم النظام الأسدي.
وعندما نتحدث عن تورط حزب الله، فإن الشقيق الأكبر بالعملية الإرهابية التي وقعت في فرنسا كان يتدرب في اليمن الذي درب ويدرب فيه حزب الله الحوثيين، وهو الحزب نفسه الذي يقاتل الآن بسوريا دفاعا عن الأسد، ودرب قبلها مقاتلين عراقيين شيعة، مما يعني أن الأسد، وحزب الله، وقبلهما إيران، مثلهم مثل «القاعدة» لا يتحركون إلا بمناطق الصراعات. والأمر لا يقف عند هذا الحد، بل إن هناك معلومات عن سفر أحد الإرهابيين الفرنسيين إلى سوريا مؤخرا للمشاركة في القتال هناك، وهو الأمر الذي سهله الأسد بتحويل الثورة السورية إلى ثورة مسلحة، فالكل يعي أن الثورة السورية كانت سلمية، إلا أن الأسد وإيران وحزب الله قرروا تحويلها إلى دموية للقول بأن الأسد يحارب الإرهاب.
وعليه، فإن المجتمع الدولي، الذي قرر غض النظر مطولا عن جرائم الأسد، ومن قبل الثورة، بات في موقف يتطلب التحرك ضد مجرم دمشق، خصوصا أن كل مؤشرات الجريمة الإرهابية في فرنسا تشير إلى الأسد، بالأمس واليوم. وعليه، فلا مناص من العودة إلى أرض الشام، لأن كل الطرق الإرهابية اليوم تؤدي إلى سوريا، وتحديدا إلى بشار الأسد.
في مؤتمر جنيف2 كان التوافق الأميركي الروسي -المستند إلى المبادئ التي جرى الاتفاق عليها في 30/6/2012- يقتضي أن يسمّي الروس وفد السلطة ويسمي الأميركيون وفد المعارضة. ولهذا اختارت روسيا وفدا أرسله بشار الأسد لا يوافق أصلاً على مبادئ جنيف1، بينما قررت الولايات المتحدة حصر التمثيل في الائتلاف الوطني الذي وافق حينها على المبادئ والتزم تطبيقها، ومن ثم زار روسيا لكي يؤكد لها أنه ملتزم بكل الاتفاقات التي جرى توقيعها مع السلطة السورية.
لكن وفد السلطة أفشل المؤتمر دون أن يحرّك الروس ساكنا، ومن ثم دخلوا في متاهة الأزمة الأوكرانية التي جعلتهم لا يقوون على لعب أي دور على الصعيد السوري، طبعا نتيجة للأولوية الشديدة التي يعطونها لأوكرانيا.
الغياب الروسي ترافق مع ميل أميركي جديد يهدف إلى العودة إلى العراق بعد الانسحاب الذي جرى نهاية سنة 2011 حسب الاتفاق المبرم، وبعد أن رفضت حكومة المالكي ضمان عدم ملاحقة الجنود الأميركيين. وهو الأمر الذي جعلها تتمدد إلى سوريا بحجة "الحرب ضد داعش"، وبالتالي تفرض ذاتها قوة مقررة بعد أن مارست الدعم لروسيا من بعيد، كما مارست دعم الفوضى المصدَّرة من دول إقليمية من بعد كذلك.
هذا ما دفع الروس إلى "أخذ زمام المبادرة" عبر "النشاط المحموم" من أجل العودة إلى التفاوض بين السلطة السورية والمعارضة. وقد باتت روسيا تهيئ لعقد مؤتمر موسكو1 بدل جنيف3.
هذا الوضع أعاد طرح مسألة تمثيل المعارضة، حيث إن روسيا لم ترتح للائتلاف حتى بعد التأكيد على ضمان المصالح الروسية. وربما كان معها بعض الحق لأن الائتلاف كتل هلامية يبحث الجزء الأكبر منها عن مصالح ضيقة، كما ليس من الممكن تجاهل المعارضة التي تشكلت في هيئة التنسيق وتضم أحزابا لها تاريخ في سوريا. وأيضا لا يبدو أن الروس قبلوا بألا تكون جبهة التحرير والتغيير جزءاً من المعارضة.
"يظهر أن كلا من روسيا وإيران لا تستطيع أن ترى الوضع السوري ومصالحها في سوريا بمعزل عن وجود بشار الأسد. ربما لأنه هو الذي أعطى لكل منهما المقدرة على السيطرة والتأثير وأغدق المصالح، ومن ثم يظهر الخوف الشديد من أن رحيله ربما يفضي إلى فقدان كل ذلك"
لهذا وجدنا أن الأمور تسير في مسارين، الأول يتمثل في بلورة الصيغة التي يمكن أن تؤدي إلى تحقيق الحل السياسي.؛ وقد تسرب عدد من الصيغ، بعضها ينطلق من بقاء بشار الأسد (كما تروّج لذلك القوى والصحف الداعمة للسلطة)، وبعضها ينطلق من حتمية إزاحته. وفي هذه الوضعية يبدو أن الروس لم يتوصلوا إلى ما يجعل الحل ممكنا، حيث ما زالوا يصرّون على بقاء بشار الأسد حتى وإن بشكل "صوري"، وكذلك يفعل الإيرانيون.
ويظهر أن كلا من روسيا وإيران لا تستطيع أن ترى الوضع السوري ومصالحها في سوريا بمعزل عن وجود بشار الأسد. ربما لأنه هو الذي أعطى لكل منهما المقدرة على السيطرة والتأثير وأغدق المصالح، ومن ثم يظهر الخوف الشديد من أن رحيله ربما يفضي إلى فقدان كل ذلك، بغض النظر عن طبيعة السلطة الجديدة التي ستكون راجحة بالضرورة لعناصر من السلطة الحالية وفق الترتيب الذي يجري.
طبعا، إن التمسك ببشار الأسد لن يقود إلى حل حتى وإن وافقت كل أطراف المعارضة، لأن ما جرى يحتاج إلى "كبش فداء"، وهو أكبر كثيرا مما جرى في تونس ومصر واليمن، وهي البلدان التي أطيح بالرئيس فيها لكي يقال إن الثورة قد حققت هدفها. فكيف في بلد مارست سلطته أقصى الوحشية، وأصابت كل المجتمع سواء بالتدمير أو القتل، ومارس شبيحتها كل العنف حتى في المناطق التي تسمى "مؤيدة"؟ ليبدو الرحيل هو أقلّ ما يمكن أن يتحقق، رغم أن الممارسات تفرض تحويل قيادات السلطة الأساسية إلى محكمة الجنايات الدولية بجرائم ربما تكون أضخم من كل ما ارتكِب في التاريخ الحديث.
لهذا فإن الخطوة الأولى تتمثل في موافقة الروس والإيرانيين العلنية على رحيل الأسد و"الطغمة" التي حكم عبرها. وهذا هو الخطوة الأولى في نجاح الحل. وهو الأمر الذي بات يَجمع معظم أطراف المعارضة (هيئة التنسيق، وتيار بناء الدولة، والائتلاف، ومعاذ الخطيب)، والذي لا بد من أن يكون في رأس الحل.
هل سيعلن الروس والإيرانيون ذلك؟ ربما سيبقى الصراع قائما إلى أن يصل كل منهما إلى هذه النتيجة، خصوصا أنهما باتا يعيشان أزمات الحصار "الغربي"، ولا يبدو أن أمامهما غير التوافق على كثير من القضايا مع أميركا، ومنها سوريا.
المسار الثاني يتعلق بالمعارضة ذاتها، حيث هناك هيئة التنسيق وتيار بناء الدولة في الداخل السوري (يضاف إليهما من قبل الروس جبهة التحرير والتغيير)، وهناك الائتلاف المنقسم على ذاته، والذي بات يخضع لتناقضات الدول الإقليمية والوضع الدولي.
وإذا كان الائتلاف قد مثّل المعارضة في مؤتمر جنيف2 مبعِدا كل الأطراف الأخرى (وكما أشرنا بقرار أميركي)، فإن ما يجري يشير إلى أن الأمور قد خرجت من هذا السياق، ولم يعد الائتلاف مطروحا كممثل، بل ربما كطرف من جملة الأطراف التي تمثل المعارضة، إذ ربما يجري إشراك بعض أطرافه فقط. وإضافة إلى ذلك، هناك الكتلة التي يمثلها معاذ الخطيب الذي يبدو أنه سيكون أساسيا في صيغة الحل المطروح.
وفي الائتلاف سوف نلاحظ التنازع بين "ذوي المصالح" الذين يمكن أن يشاركوا في أي حل يضمن لهم دورا، وهؤلاء كثر وكل منهم ينتظر معرفة إلى أين تسير الأمور لكي يقفز سريعا إلى الوجهة التي تسير فيها. وهناك من هو "مستثنى" أو يريد حصة أكبر مما يحصل عليها في حل كهذا، ولهذا يريد اللعب والتشويش و"إعلاء الصوت" بضرورة "إسقاط النظام".
"إذا كان الائتلاف قد مثّل المعارضة في مؤتمر جنيف2 مبعِداً كل الأطراف الأخرى (وكما أشرنا بقرار أميركي)، فإن ما يجري يشير إلى أن الأمور قد خرجت من هذا السياق، ولم يعد الائتلاف مطروحاً كممثل، بل ربما يجري إشراك بعض أطرافه فقط"
ولا شك في أن الصراعات الإقليمية باتت تنعكس مباشرة على القوى التي تشكل الائتلاف، حيث نجد أن ميل تركيا لدفع الأمور إلى حدّ فرض منطقة حظر جوي وإنشاء منطقة آمنة وحتى التدخل لإسقاط النظام، جعل الإخوان المسلمين وبعض "المفلسين" يدفعون للسيطرة على مسار الائتلاف، وتجييره بما يجعله واجهة لتدخل تركي. فقد توهمت حكومة أردوغان أن أميركا سـ"تضطر" لأن تتحالف معها ضد داعش لاحتياجها إلى قوات برية تهزم هذه الأخيرة، وبالتالي سعت إلى "فرض شروطها" المتمثلة في إسقاط النظام وليس الحرب ضد داعش فقط.
ولهذا حاولت ترتيب الائتلاف بما يجعل الإخوان المسلمين هم القوة المسيطرة (بتحالف مع بعض "الليبراليين" مثل برهان غليون وميشيل كيلو)، وهو ما ظهر في فرض إعادة أحمد طعمة رئيسا لحكومة افتراضية، وتشكيل "مجلس قيادة الثورة" من فصائل مسلحة نشطت تحت اسم مبادرة "واعتصموا".
وبهذا بات الحراك السياسي يتمحور حول تحالفات واصطفافات داخل المعارضة في سياق النشاط الروسي للوصول إلى حل. وبالطبع إذا لم يكن التوافق شاملاً ترحيل بشار الأسد فإن صوت الإخوان وحلفائهم سيعلو في حال وافقت أطراف المعارضة على ذلك. لكن لا بد من التشديد على أن الحل يبدأ من ترحيل بشار الأسد، وبعد ذلك يمكن البحث في كل المسائل الأخرى، لأن هذا هو الذي سوف يفضي إلى أن يصبح تطبيق الحل ممكناً.
فرغم صعوبة الظروف التي يعيشها السوريون، سواء اللاجئون والذين ما زالوا يعيشون الصراع، ومع انهيار الوضع الاقتصادي والانفلات الأمني، فإن حلا لا يقوم على ترحيل الأسد لن يلقى الموافقة، وسيفشل بالضرورة حتى وإن وافقت عليه كل قوى المعارضة، لأن المتضرر هو الشعب، وهو الذي ثار ويريد أن يحصد بعد كل هذه الوحشية انتصارا ولو كان صغيرا، وهو ذاك المتعلق بترحيل الرئيس.
إذا كان الشعب السوري قد تعب، وتعب كثيراً، فربما تكون القوى الدولية الداعمة للسلطة قد تعبت لكي تقبل -بعد أن باتت هي المتحكم في السلطة بسوريا- برحيل الأسد وتحقيق حل مقبول، بعد أن دخل الوضع في حالة استعصاء طويل، ولم يعد ممكنا انتصار أحد، خصوصا بعد تدخلات القوى الإقليمية والدولية التي لا تريد للثورة أن تنتصر، وبالتالي يكون استمرار الوضع القائم هو إيغالا في الاهتراء والتدمير والقتل والتهجير.
كم سوريًا ينبغى أن يتجمدوا من البرد وكم فلسطينيا ينبغى أن يلحقوا بهم من سكان البيوت المدمرة فى غزة، لكى يستيقظ الضمير العربى ويمد إليهم يد الإغاثة والعون؟ ــ وهل نستطيع أن نقول بأنه حين تجمد هؤلاء بسبب الصقيع والبرد، فإن قلوب ملايين العرب تجمدت بدورها، فما عادت تحركها صور الأطفال المجمدين، ولا صور أهاليهم الباكين الذين أعجزهم الصقيع حتى عن دفنهم. وما عادوا يستشعرون الذنب حين يطالعون منظر كبار السن وهم يرتعشون ويذرفون الدموع، من شدة البرد والجوع، بعدما ضربت الرياح الثلجية خيامهم. حتى أوقعتها فوق رءوسهم ولم يستطيعوا لها دفعا.
قبل يومين قرأت عن الطفلة رهف أبوعاصى التى لم تحتمل البؤس فى غزة، فماتت من شدة الجوع والبرد بعد شهرين فقط من ولادتها. قرأت فى الوقت نفسه، عن الطفل السورى ابن السنوات الثمانى الذى تجمد من البرد فى شبعا، وعن الأطفال الخمسة الذين لقوا ذات المصير فى دوما بريف دمشق. وتلك أخبار صارت يومية وروتينية حتى بدت وكأنها حوادث عادية. وإذ صرنا نطالع تلك الأخبار يوما بعد يوم، فان التقارير باتت تحمل إلينا صورا مفزعة وصادمة من المخيمات المقامة على الحدود، بين سوريا وبين كل من الأردن والعراق ولبنان وتركيا. وهى لا تختلف كثيرا فى مضمونها عن التقارير التى تخرج من قطاع غزة ومعاناة أهله الذين دمر الإسرائيليون بيوتهم حتى تركوا عشرات الآلاف منهم فى العراء لإذلالهم والتنكيل بهم.
أدرى أن نكبات العرب تعددت فى هذا الزمان، إلا أن نكبة السوريين والفلسطينيين أكبر من غيرهم. للأسف فإن الفلسطينيين كانوا سباقين حيث نكبوا بالاقتلاع والطرد من جانب الإسرائيليين منذ عام 48 حتى الآن، ثم نكبوا برموزهم الذين فرطوا فى قضيتهم ونسقوا مع عدوهم. ونكبوا مرة ثالثة بأشقائهم الذين أداروا ظهورهم لهم وشاركوا فى حصارهم وإذلالهم. أما السوريون فإن نكبتهم المستمرة منذ أربع سنوات تسبب فيها نظام أبدى استعدادا مدهشا لإفناء الشعب السورى وتدمير البلد كله، مقابل استمرار احتكاره للسلطة، ولم يتوقف سعيه ذاك طوال تلك المدة، مستعينا ببعض الأشقاء والحلفاء.
لا نستطيع أن نصف الصمت العربى إزاء ذلك بأقل من أنه نكبة أخرى، بل فضيحة تاريخية. حيث ما خطر ببال أحد أنه يمكن أن يتعايش ملايين من العرب الذين يعانون من البرد والجوع، جنبا إلى مع ملايين آخرين من العرب ينشغلون بالمهرجانات الغنائية وسباقات الإبل وحروب الانتحار الداخلية.
لم نسمع أن الجامعة العربية دعت إلى اجتماع لشحذ همة الدول الأعضاء لكى تقوم بواجبها إزاء الفلسطينيين والسوريين. لم نسمع ان الهلال الأحمر العربى ولا منظمات الإغاثة فى الأقطار المختلفة استنفرت ونظمت حملات لتوفير الاحتياجات للمكنوبين ولإعمار قطاع غزة. لم نسمع عن تحرك للنخب المهتمة بالتضامن العربى ان رفعت صوتها منادية بإيقاظ النائمين وتنبيه الغافلين، لكى يؤدى المجتمع العربى واجبه إزاء الخطر الحال والكارثة المحدقة.
لا أستطيع أن أتجاهل ان بعض الجهات أسهمت فى الإغاثة ولكن إسهامها كان دون المطلوب، وألتمس العذر للذين حاولوا إيصال بعض المعونات إلى المحاصرين ولكنهم منعوا من ذلك، وهو ما اعتبره موقفا مشينا وعارا لن ينسى ولن يغفر، كما أننا لا نستطيع ان نقلل من شأن حملة الإغاثة التى تقدمها المنظمات التركية، إلا أن الحمل يظل أكبر وأثقل مما تستطيع القيام وحدها به.
فى هذا الصدد، فإننا لن نسطتيع ان نعاتب أو نلوم المنظمات الإغاثية العالمية، لأن هناك أكثر من رد يسكتنا ويخجلنا، ليس فقط لأن هناك تقصيرا عربيا فى إغاثة الفلسطينيين والسوريين، ولكن لأن بعض الدول النفطية القادرة على العطاء والعون أصبحت تفضل الانفاق بسخاء على دعم الثورة المضادة للربيع العربى فى أكثر من بلد، وتقدمه على جهود إغاثة الإنسان العربى لابقائه على قيد الحياة.
الخلاصة انه يتعين علينا ان نعترف بأنه ما عاد للعرب نظام أو كيان نطالبه بأن يقود حملة لإنقاذ السوريين والفلسطينيين المشردين والمهددين بالموت. ايضا ما عاد للعرب كبير نخاطبه وندعوه لأن يتحمل مسئوليته إزاء اشقائه الأصغر منه، وما عاد لهم مجتمع مدنى يعبر عن ضمير الأمة وآلامها، بوسعه أن يضغط على أصحاب القرار ويطالبهم بتحمل مسئوليتهم التاريخية فى التخفيف من عذابات أبناء الأمة الذين جار عليهم الزمن، بل ما عادت فى العالم العربى منظمات إغاثية قادرة على التعبئة والحركة، بعدما عصفت السياسة بالأنشطة الأهلية وقامت بتأميمها وتوظيفها لصالح حساباتها.
فى السابق كانت تظاهرات السوريين تجأر بالنداء: ما إلنا غيرك يا الله. وقبل أيام قليلة تناقلت مواقع التواصل الاجتماعى نداء يردد نفس الفكرة اذ يقول ما معناه، لا تجهدوا أنفسهم فى التواصل مع الخطوط الأرضية فكلها مقطوعة أو مشغولة، وما بقى مفتوح أمامكم سوى أبواب السماء، فإليها توجهوا بالدعاء ان ينزل الله رحمته على عباده المقهورين ولعنته على الظالمين والمستبدين.
لنا أن نردد معهم نفس النداء. ولكن هل يئسنا تماما من أى جهد إغاثى يبذل على الأرض. وإذا كانت الشهامة والمروءة قد اختفت فى زماننا، فهل اختفت الإنسانية أيضا وفسدت الضمائر إلى ذلك الحد المشين والمخجل؟
تغيب عن الثورة السورية بالإضافة الى غياب القيادة الموحدة الفلسفة الموحدة والفكر الواضح ..فنرى الاقطاب تتنازع على الاستئثار بالثورة السورية فنرى العلمانيون ينسبون الثورة الى انفسهم ويطالبون فور اسقاط النظام بدولة مدنية ونظام علماني في حين يرد عليهم الداعون للتيار الاسلامي بأن الثورة خرجت من الجوامع وفي إطار ديني بحت فاتخذت الجوامع اماكن للتجمعات كما اتخذت الشعارات الدينية هتافات في المظاهرات والتشييعات ..فيظهر أناس لاينتمون لأي تيار يردون على انصار التيار الاسلامي بأنه لايوجد للمشايخ دورا في الثورة السورية فقد تخلوا عن دورهم وعن كونهم رموزا وقدوات ليأخذوا دور المحرض تارة والذي يتخذ سياسة النأي بالنفس تاة اخرى وإذا ماافتى احدهم بوجوب الجهاد لانراه وابناءه على الجبهات فيفقد دعاة الاسلام مصداقيتهم في ظل الحاجة الماسة لقدوة في صفوف الثورة السورية ويرد هؤلاء بأنهم يجاهدون بعلمهم ومالهم ..وهذا حقا نوع من انواع الجهاد ولكن هل الجهاد بالنفس اولى بين مراتب الجهاد؟؟
ليظهر قانون الاستبدال الكوني الذي سنه الله ويهجر ابناء الوطن وطنهم لاسباب كثيرة ويأتي الغرباء ليأخذوا مكانهم وبناء عليه سيفرضون سلطتهم وقوانينهم حسب ما يرتأون فهم سيعملون على بناء دولتهم التي تخضع لمعتقداتهم
وفي غياب الغطاء المنطقي الفكري للثورة لا يستطيع الثوار الاجابة على كل التساؤلات التي تطرح نفسها عن مستقبل الثورة .
عايشت في السنوات الثلاثة الماضية نشوء منظمات تطوعية ذات أهداف سامية بعضها نجح وبعضها فشل وبعضها اختفى وبعضها تعثر...... كنت جزءا فاعلا في بعضها ومراقبا لبعضها الآخر .....
تعلمت (وتعلم الكثير مثلي) الكثير من الدروس عن نشوء هذه التجمعات من خلال أسلوب التجربة والخطأ.... وكنت دائما عندما أكتشف الحقائق واتعلم من الفشل أتمنى لو أن أحدا دلني أو علمني قبل الوقوع في الأخطاء ..... كنت أكتشف بعض الأخطاء بالخبرة وبالمطالعة ولكن الكثير مما تعلمت كان جراء الوقوع بالخطأ.....
أعتقد أن الوقت الآن مناسب جدا لأذكر لكم بعضا من الدروس التي تعلمتها .....
الكثير من أسباب الفشل والتعثر هو بسبب نشوء الخلافات داخل هذه المنظمات حول آلية العمل أو اتخاذ القرار....وذلك على الرغم من أن الكثير من هذه المنظمات تطبق الانتخابات وتتخذ القرار بالاجماع وتفتح المجال لكل شخص أن يصدر الفيتو الخاص به على أي قرار..... ولكن للأسف تفشل في النهاية.... لماذا؟
يحتار الناس عجبا في سبب فشل هذه المنظمات الناشئة التي غالبا ما تتمتع بكل مقومات المنظمات الكبيرة والناجحة بدءا من لجنة عامة منتخبة، ومجلس تنفيذي منتخب وهيكل اداري ونظام داخلي وغيرها من المقومات التي يؤمن معظم الناس أنها ضرورة لنجاح المنظمات .....
أضف إلى أن الكثير من هذه المنظمات والحركات الاجتماعية جاء بالاستشاريين ليطبقوا على منظماتهم الناشئة أفضل نظريات الإدارة والتنظيم الإداري ......
للأسف لا يعلم الناس أن سبب تعثر وفشل المنظمات الناشئة هو كل ما ذكرت لكم أعلاه.... نعم كل ما ذكرت لكم...
القاعدة وربما السر الذي لا يعرفه الناس أن ما ينطبق على المنظمات الكبيرة لا ينطبق على المنظمات الناشئة والصغيرة..... وهذا المبدأ أصبح معروفا مؤخرا في أدبيات ريادة الأعمال وللأسف مازال القليل من الناس من يعرف هذا الأمر .....
المنظمات الناشئة تحتاج إلى المرونة والسرعة والكلفة الأقل لأداء عملها وكل ما ذكرت لكم من ضوابط (مثل لجنة عامة منتخبة، ومجلس تنفيذي منتخب وهيكل اداري ونظام داخلي وغيرها...) هي أشياء تقيد عمل المنظمة الناشئة وتزيد من أعباءها بل وتقضي عليها في المهد..... نعم ستقضي عليها بالفشل بكل معنى الكلمة!!! ...كنت كلما سمعت عن منظمة جديدة ستنشأ ويقولون لي أنهم مشغولين في اجراء انتخابات ونظام داخلي وووو كنت أقول لهم أبشروا بالفشل .... نعم وكانت كل توقعاتي مصيبة.... من أراد الاطلاع على المقالات العلميمة التي تثبت ذلك فسأرسها له ....
الكثير من الاستشاريين الذين جاؤوا بهم طبقوا علوما ونظريات بالية لا فائدة منها سوى تشويش المنظمات واشغالها بمهام لا فائدة منها.... ذاكرتي مليئة بقصص عن دور هؤلاء الاستشاريين في التنظير على هذه المنظمات الناشئة (أغلبهم كان بحسن نية ودون قصد) واشغالها بأمور لا فائدة منها ...
سأذكر لكم حقيقتين صادمتين ولكنهما ضروريتين لكل من أراد أن يؤسس حركة أو منظمة تطوعية ناجحة....
الحقيقة 1: اياك وآلية الانتخابات أو التصويت... لا تلجأ لها إلا عند الحاجة الماسة وعند الاضطرار..... لماذا؟ لأن مبدأ الانتخابات في المؤسسات التطوعية والحركات الثورية يعني بالضرورة خلق فئة خاسرة وغير راضية ضمن منظمتك... عندما تتخذ قرارك باجماع 51% فهذا يعني أن لديك 49% من الأعضاء خاسرين وغير راضين ... ومن شأن ذلك أن يخلق في منظمك سلوك يتسم بالرفض والعداوة بين الفائزين والخاسرين بالانتخابات أو التصويت .....
Voting creates losers, and losers are unhappy activists who disengage. Don't vote.
القيم التي عليك أن تعززها عوضا عن الفوز والخسارة هي قيم المشاركة والتنوع والتمكين ... لا أن نعزز قيم الربح والخسارة.
فكرة الانتخاب قد تنفع لاكساب الشرعية في البلدان والحكومات ولكن ليس في المنظمات والحركات الاجتماعية التي ينطوي تحتها أناس متطوعون أصلا والشرعية تكسبها من انضمام الناس لها ... لا من خلال التصويت والانتخاب فيها ...
مالبديل اذا؟..... البديل هو اتباع اساليب أخرى. احدى الاساليب التي يقترحها كتاب السرب هي أن تفرض قواعد مغايرة مثل: "لا أحد يقرر عن الأخر ما يجب أن يفعله" ويسمونها ثقافة “do-ocracy.”
الاسلوب الثاني هو الاجماع consensus-making decision process. طبعا هذا الاسلوب صعب ومكلف ولهذا استخدمه في الحالات الاضطرارية و مع عدد أقل من 30 شخص عند الضرورة القصوى ....
في المنظمات والحركات الاجتماعية لا شرعية لفرض الرأي بالقانون أو بالنظام الداخلي أو بالانتخاب وانما بالتأثير..... نعم بالتأثير الذي يقوم به الأشخاص القياديون الذين يكتسبون الشرعية من قوة أفكاره ومن خلال ما يقدموه في سبيل تحقيق أهداف المنظمة أوالحركة الاجتماعية.....
في هذه المنظمات والحركات عليك أن تكون مبادراً واذا اقتنع الناس بفكرتك أو حلك سيتبعوك ... والا سيتبعون صاحب الفكرة أو الحل الأجدر منك.... انه نوع من الاصطفاء الطبيعي للفكرة والحل الأفضل وليس للشخص المنتخب!!
قد يقول أحدهم وماذا لو أخطأ صاحب الفكرة التي أجتمع الناس حولها؟ الجواب الصادم هو أن يجب أن نسمح بحدوث الخطأ بل وأن نشجع على المبادرات دون الخوف من الفشل..... لم لا يخطء الناس وهم أصلا مغامروت بانضمامهم لحركة ومنظمة اجتماعية تهدف بطريقة أو بأخرى لتغيير الواقع المحيط الذي يعتر مشروعا ذو نتائج غير محددة.... الفشل جزء من آليات التعلم
الحقيقة 2: اياك واشغال المنظمة بمهام بعيدة عن الهدف الأصلي الذي وجدت المنظمة من أجله مثل احداث الهيكل التنظيمي والنظام الداخلي والسياسات والإجراءات وما إلى ذلك..... هذه الضوابط مفيدة فقط في المنظمات الكبيرة التي مرت بمرحلة التأسيس بسلام وأصبحت كبيرة جدا...
المنظمة الناشئة لا يجب أن يشغلها شيء عن هدفها الرئيسي .... عندما تنجح ويزيد عدد أعضاء المنظمة لديك بشكل كبير عنده ستجد نفسك بحاجة الى هذه الضوابط ....
أنصح من أراد الاطلاع على أن يقرأ كتاب حكمة السرب swarmwise ل "ريك فولغفاينج" الذي يتحدث عن تجربته في تأسيس وقيادة حركة وحزب سياسي يعتبر من الأحزاب الأسرع نموا في العالم والذي يشرح الكثير من الدروس أعلاه ...
ما يقارب أربعة أعوام مرت على اندلاع الثورة السورية مع دخول العام الجديد 2015. كانت أعواما استثنائية في قسوتها ومرارتها، في خيباتها وانتصاراتها، وفي صعودها وانحدارها. احتملها السوريون باستثنائية مماثلة، فكابدوا أربع سنوات من القتل الجماعي الممنهج بكل أنواع الأسلحة وبمشاركة دول حليفة كانت عديمة الرحمة في مواجهة تطلعاتهم المحقة نحو الحرية.
يجمع كل السوريين على أن العام الأول لثورتهم كان الأكثر جاذبية وألقا رغم الموت والاعتقال الذي تواصل كل يوم دون انقطاع. في هذا العام كان السوريون على موعد مع إعادة اكتشاف لهويتهم، إذ يعودون إلى السياسة بعد انقطاع دام 40 عاماً، ليكتشفوا هويتهم السورية من جديد من خلال التظاهرات التضامنية مع المناطق السورية الثائرة. تلاشت التفارقات المناطقية بين المدن السورية، وحضرت الهوية الوطنية التي وحدت الجميع للمطالبة بالتغيير.
حفلت لحظة الانتقال من السكون إلى الحركة بالنسبة لهم بمشاعر الترقب والانفعال والحذر، كونها لحظة استثنائية حضرت بصورة مباغتة للزمن السوري الراكد والمديد. زمن منع فيه نظام الأسد كل نشاط، ثقافي أو اقتصادي أو اجتماعي ناهيك عن السياسي، خارج الحيز الذي كان يحتله بعنف. أنهت الثورة السورية حالة مزمنة لدى السوريين من اللامبالاة بالسياسة والسياسيين، في وقت لم يدركوا فيه ذاتهم الجماعية، ما جعلهم قانعين بما تقسمه عائلة الأسد لهم، مذعنين لسياساتها التي كانت تفضي إلى مزيد الحرمان الاقتصادي والسياسي.
كان التظاهر السلمي الشكل النضالي الأبرز في عام الثورة الأول، بالإضافة إلى الاضرابات السياسية المرتبطة بالثورة والأنشطة السلمية المتعددة التي حاولت إبراز وتأكيد التمرد الشعبي على نسق السلطة. فتعددت النشاطات التي حاولت كسر ذلك النسق مثل الكتابة على الجدران، توزيع المنشورات، وضع مكبرات الصوت التي تصدح بأغاني القاشوش في الأماكن العامة، رفع أعلام الثورة على مباني عامة وجسور، تلوين البحرات باللون الأحمر ونشاطات كثيرة أظهرت حالة إبداعية استثنائية وواسعة النطاق.
في عامي 2011- 2012 كانت الثورة السورية تسجل من بين جميع الثورات العربية أعظم وأكبر عملية مشاركة جماهيرية وإدارة ذاتية من قبل “العامة” لشؤونهم السياسية والإعلامية والحياتية. فيما كانت تسجل أيضاً أكبر تدخل خارجي في شؤونها ومساراتها. ويعتبر هذا التناقض نتيجة مباشرة لعنف وتوحش نظام الأسد من جهة، ولطغيان مصالح الدول الإقليمية والدولية واستبدادها بمصالح وآمال السوريين من جهة أخرى. لكنه أيضاً نتاج انفجار ثورة سياسية دون سياسيين ودون حياة سياسية سابقة وصراع سياسي وأحزاب. ما جعل التنظيم السياسي للثورة هشاً، فاضعف مناعتها للتدخلات العديدة ذات اللبوس الإنساني والثوري.
في العام الثاني والثالث دخلت سوريا نفق الحرب مع بروز ظاهرة الجيش الحر. وقد واصلت الثورة مسيرتها بمزيج من السلاح والتظاهرات السلمية، وصولاً إلى اللحظة التاريخية الحرجة حيث سادت لغة السلاح، وحيث تحولت جموع المحتجين السلميين التي ملأت الساحات بتظاهرات شعبية حاشدة في جميع المدن السورية، إلى ثوار مسلحين في كتائب تطورت تدريجياً واشتد عودها حتى باتت مهيمنة بصورة مطلقة.
مع مستوى العنف الذي استخدمه النظام ضد ثورة شعبية سلمية، وطول أمدها وارتفاع مستويات القتل والدمار، إضافة إلى تدني مستوى الممارسة السياسية لدى المعارضة، كل تلك العوامل جعلت من المحتم ظهور خطاب متطرف لدى قسم من مكونات الثورة.
هكذا تزايدت المظاهر “الدينية” في خطاب المكون العسكري للثورة، وقد عبرت في جزء منها عن لجوء روحي إلى الإله القوي القادر على كسر إرادة الطاغية الذي يفتك بالشعب، وعن غياب التشكل السياسي لهذا المكون، لكنها عبّرت في شقها المتطرف “الأصولي” عن إرادة إقليمية ليست بريئة على الإطلاق، حيث عملت بجهد، كما عمل النظام وحلفاؤه أيضاً، على إنتاج وتمكين المجموعات الأصولية لكي تحرف الثورة عن مسارها الوطني الديمقراطي.
كان 2014 أشد أعوام السوريين ألما ورعبا ومرارة. في هذا العام تنامت قوة التيار الجهادي في سوريا، وقوة تنظيم “داعش” على وجه خاص. فيما ضعفت وتفككت تشكيلات الجيش السوري الحر وباتت عرضة للقتل الممنهج من قبل النظام والجماعات الجهادية. في هذا العام باتت الثورة السورية مهددة كما لم تكن من قبل. فالثورة المنهكة التي افتقدت الدعم والمساندة باتت محشورة بين فكي الإجرام: الأسد من جهة، وداعش والنصرة من جهة أخرى. يعمل هذان الوحشان الأكثر تنظيماً وتسليحاً على إشاعة أكبر قدر من القتل والفوضى، وعلى تثبيت حرب الجماعات التي تجعل نبوءة الأخضر الإبراهيمي المبكرة بـ”صوملة” سوريا حاضرة.
مع اقترابه من عامه الرابع، يختلف النزاع السوري الدائر عن الأزمات الإقليمية التقليدية، ويتميز بخاصية نادرة، كونه أول صراع دولي متعدد الأقطاب في القرن الحادي والعشرين. وتبدو درجة الاستعصاء فيه عالية إلى حد افتراض ربط الحل العتيد والنهائي ببلورة وتوقيع “معاهدة وستفاليا” جديدة، أو اتفاق يالطا جديد، في نطاق الشرق الأوسط الواسع ما بين الولايات المتحدة الأميركية وروسيا والاتحاد الأوروبي وموافقة القوى الإقليمية البارزة. بانتظار ذلك، تبقى سوريا وجوارها نقطة ارتكاز لنزاعات طويلة مهددة للمنطقة والعالم.
منذ تأكد عسكرة النزاع صيف 2011، بدا أن الأزمة السورية باتت رهينة لعبة معقدة تشبه اللعبة الكبرى في القرن التاسع عشر. والآن نشهد “اللعبة الكبرى الجديدة” في المشرق ونواتها سوريا معقل النفوذ الروسي المتجدد بعد سبات لمدة عقدين، والتي تشكل أيضا مستقراً وممراً لنفوذ إيران الحالمة بعودة عصر الامبراطوريات. من جهتها، انخرطت الولايات المتحدة في اللعبة بشكل حذر ليس لمراعاة مصالح إسرائيل فحسب، بل تطبيقا لنهج استبعاد التدخل المباشر في استخلاص لدروس حربي أفغانستان والعراق. وهكذا وجدت فرنسا وبريطانيا اللتان رسمتا الحدود في المشرق، حسب “اتفاقية سايكس – بيكو” في موقع الشاهد على أفول نفوذ يذكر بمرحلة ما بعد حرب السويس في 1956 وانعكاسها على الحضور الأوروبي. وإضافة إلى ذلك نلاحظ اضطرار القوى الإقليمية الداعمة لمناهضي النظام، وتحديدا تركيا والمملكة العربية السعودية وقطر، للتقيد برزنامة العمل الأميركية.
كما في صراع القرن التاسع عشر، ليس هناك احتمال لأي صدام مباشر بين اللاعبين الكبيرين، وكان احتواء التصعيد حيال الأسلحة الكيميائية، في سبتمبر 2013، خير دليل على ذلك مع وضوح دعم موسكو للنظام من دون تردد وتفضيل واشنطن لنهج مزدوج: قيام تعاون سياسي مقنن مع الروس، إلى جانب خوض حروب استنزاف بالنيابة على الساحة السورية تستهدف موسكو ومحور طهران وقوى الجهاد العالمي في آن.
في ظل هكذا ميزان قوى، أصبح الحسم العسكري لأي من الطرفين غير ممكن وغير مقبول. وفي نفس الوقت تعطل الحل السياسي نظراً لحجم المصالح المتضاربة ولأن وظيفة هذا النزاع الجيوسياسية في ترتيب الإقليم أو إعادة تركيبه لم تنفذ بعد. وكان من اللافت أن هذا النزاع استهلك جهود كبار أساطين الدبلوماسية الدولية أمثال كوفي أنان والأخضر الإبراهيمي.
برز المأزق في تفسير وثيقة جنيف1 (سبتمبر 2012) لجهة “الغموض غير البناء”، وخاصة فيما يتصل بمستقبل الرئيس السوري وكيفية تأليف هيئة الحكم الانتقالي.
مع إطالة أمد الصراع والتدخل الدولي والإقليمي لمصلحته (الترسانة الروسية وانخراط المحور الإيراني إلى جانبه سياسيا واقتصاديا وعسكريا) تمكن نظام الأسد من تحويل المسار إلى السيناريو الذي روجت له دعايته منذ البداية عن الزلزال الإقليمي والإرهاب. ولعل ما ساعده على ذلك بعض من وقفوا في المعسكر الآخر عبر تسهيلات قدمت للجناحين الجهادي والإسلامي على حساب الجيش السوري الحر أو من خلال اعتماد إدارة أوباما لرؤية ماكيافيلية قضت بترك الصراع يحتدم بين “الأعداء وعناصر محور الشر” دون أن يتأذى الجهد الأوبامي للرهان على “الصفقة مع إيران” عبر عدم العمل الجدي ضد نظام حليفها الدمشقي. وهكذا أصبحت الحرب المفتوحة خيارا غير معلن وتفاقمت بعد فشل مؤتمر جنيف2 (يناير 2014)، واحتدام النزاع الأوكراني في مارس 2014 (محطة ثانية لحرب باردة جديدة) وسطوع نجم “داعش” في صيف العام المنصرم.
في النصف الأول من هذا العام تزدحم الملفات الساخنة: النزاع الأوكراني، مصير المفاوضات مع إيران، الحروب من ليبيا واليمن، إلى العراق وسوريا وربما أكثر، وتداعيات حرب أسعار النفط. ولذلك ورغم نفي اللاعبين الأساسيين تترابط هذه الملفات ويمكن أن تصبح أوراقا للمساومة والمقايضة. وهنا يكمن استعجال موسكو في الدعوة لحوار سوري – سوري أواخر هذا الشهر تحت مسمى “موسكو1″ (وليس جنيف 3 الذي يتوجب أن يكون تحت رعاية أممية). وكم كان لافتا صدور إشارات تدل على هذا الاتجاه خلال الأسبوع الحالي وأبرزها تحذير وزارة الخارجية الروسية من “أن توسيع نطاق العقوبات الأميركية على موسكو يمكن أن يعرقل التعاون الثنائي في قضايا مثل الأزمة السورية والبرنامج النووي الإيراني”. ومن جهته لمح الرئيس الأميركي باراك أوباما إلى دور لبلاده في تقلب أسعار النفط مما يزيد من أزمة موسكو الاقتصادية بسبب استراتيجية العقوبات المفروضة على روسيا.
خلافا لروسيا المندفعة في 2014، سيصعب على بوتين القيام بمبادرات هجومية في 2015، ولذا يسعى الثنائي لافروف – بوغدانوف إلى انتزاع إنجاز في سوريا في الوقت الضائع. لكن قراءة في جدول أعمال حوار موسكو وفي التسريبات حول لائحة المدعوين من المعارضين، لا تؤشر إلى إمكانية إحداث هذا الاختراق.
أمام عدم رغبة موسكو حاليا في ممارسة ضغوط مؤثرة على نظام الأسد واستمرار تشدد إيران، يستمر الدوران في الحلقة المفرغة لأن هدف موسكو الحقيقي حسب دبلوماسي أوروبي هو “جلب قسم مما يسمى المعارضة إلى بيت الطاعة الأسدي” تحت يافطة التفاوض دون شروط مسبقة والعمل سويا ضد الإرهاب، وربما يهدف ذلك لتمهيد الطريق أمام واشنطن لقبول إعادة تأهيل النظام، أو فتح أبواب دمشق من جديد لبعض الراغبين والخجولين من أوروبيين وعرب.
تجد موسكو أنها فرصتها الذهبية، لأن الحل العسكري فشل بما لا يقبل الشك وأن الكارثة تسهل الحل السياسي. لكن الأصداء تبدو سلبية لجهة عدم وضوح الغاية المنشودة. وفي بيان له منذ يومين قال أحمد معاذ الخطيب الرئيس السابق للائتلاف الوطنيٍ إنه “لن يجتمعَ شملُ سوريا ثانيةً أرضاً وشعباً بوجودِ النظامِ ورأسه، لذا فلا حل دونِ رحيلِ رأس النظام والمجموعة التي ساقت سوريا إلى المصير البائس الذي وصلته اليوم”. واعتبر أن بيان جنيف يشكّل أرضيةَ لكل عمليةٍ سياسيةٍ تؤدي إلى وضع انتقالي لإنقاذ سوريا. هكذا تبدو الدروب شائكة ولن تشرق شمس الحل السوري من موسكو فلاديمير بوتين.
ليست العبودية حالة نفسية، بل منظومة علاقات اجتماعية، لكن القمع وحده لا يكفي للحفاظ على ديمومتها. لأنه لا يمكن أن يكون كلياً وشاملاً ومطلقاً، فهو لا يكون كذلك إلا كموت. وحتى في أعتى حالات الاستبداد، تبقى ثغرات زمنية ومكانية تقطع استمرارية القمع. ولا بد أن تتوفّر آليات سيكولوجية ثقافية تحافظ على علاقة الخضوع، مثل الخوف والتسليم بالمصير والتقسيم "الطبيعي" للدنيا بين أسياد وعبيد، وغيرها من الآليات التي تكبت النزوع إلى الحرية لدى العبد، ويحتاجها السيد، أيضاً، لكي يحافظ على توازنه وتماسكه في أثناء التعامل مع بشر آخرين كأنهم بهائم. لقد بُحثِت هذه العناصر بتوسّعٍ يُغني عن أيّ إضافة ممكنة في مقالة قصيرة.
ونرغب، هنا، فقط بلفت النظر إلى إحدى هذه الآليات السيكولوجية الفاعلة في إدامة العبودية، والتي تستخدم في تكريس الاستبداد، بتسخيف بدائله الممكنة، بوسائل مختلفة، مثل السخرية والاستخفاف وغيرها. هذه الآلية مركّبة من آليات فرعية، أهمها:1. مساواة الاحترام بالخضوع للقوة. 2. التعامل مع القوة كأنها تساوي القدرة على ممارسة القمع. 3. اعتبار الخضوع للقمع مساوياً لاحترام القوي. 4. احتقار الضعيف، 5. مساواة التواضع بالضعف. 6. تحول الاستخفاف بالضعيف بسهولة إلى احتقار للشخص المتواضع.
تتلخّص الآلية هذه، إذاً، باحترام القوي، أي ذلك الذي يستحوذ على القوة التعسفية التي يصعب التنبؤ بخطواتها القمعية من جهة؛ واحتقار المتواضع الذي يُعتبَر ضعيفاً، والذي يُمكن توقّع تسامحه مع النقد والتجريح، من جهة أخرى.
يعتمد الاستبداد، بدرجة كبيرة، على اعتبار جزء من الناس السلطة تسلّطاً، والقوةَ تعسّفاً. هكذا تصبح السلطة، في نظرهم، هي السلطوية بحكم تعريفها. ويُعتبر البديل المنتخب ديمقراطياً، أي غير المفروض بالقوة، شخصاً ضعيفاً، ولا سيما إذا حاول أن يعرض نموذجاً مختلفاً يشمل تقبّل النقد والامتناع عن الرد عليه باستخدام القوة. فهو بذلك يجعل نفسه نقيض السلطة بحكم تعريفها من منظورهم. فيبدو الحاكم الذي يتعامل مع الناس باحترام كأنه هو ذاته لا يستحق الاحترام، وذلك، بالذات، لأنه يتعامل مع المحكومين باحترام.
نجد، هنا، أيضاً، مصادر التناقض المثير للأسى في أن بعض من يطالبون بالديمقراطية، حتى من بين المثقفين، قد ينجرون إلى التعامل باستخفاف مع شخصية ديمقراطيةٍ، وصلت إلى الحكم ولو كان مثقفاً من بين صفوفهم، ويميلون إلى احترام الحاكم السلطوي، ولو كان عديم الثقافة، أو مجرد ضابط من الجيش لا يعرفون شيئاً عما يخفيه زيُّه العسكري.
تأبى هذه النفسية أن تنسب لشخص صفة الحاكم، إذا كان متواضعاً يسهل الوصول إليه والتواصل معه. فهو، في هذه الحالة، يصبح عرضة للسخرية والقذع، لتفريغ بعض ما تراكم في ذات المصاب بنفسية العبد من التعرض للاحتقار والإذلال من الحكّام. وهو يخرج الذل المتراكم في داخله على شكل عدم احترام ورفض فكرة اجتماع الندية والاحترام، فضلاً عن رفض طاعة القانون ومصلحة العموم، إذا لم يلزمه بها الخوف من التلويح بالقوة، كما ينفّس عنه على شكل سخرية ممن يعتبره ضعيفا. وتتجاوز السخرية النقد إلى الإسفاف، وحتى التشهير.
“ قد يحب العبد سيّدَه، وتدمع عيناه وهو يصف مدى حبه له، بعد أن يتحوّل الخائف المرعوب إلى محب معذّب "
تحتفظ الثقافة المؤسسة على هذه النفسية بالخوف كاحترام المقموع لقامعه. وفي حالات كثيرة، تتحول الرهبة والخوف إلى انسحاق ومحبّة، كما في آليات دينية وثنيّة الطابع. فقد يحب العبد سيّدَه، وتدمع عيناه وهو يصف مدى حبه له، بعد أن يتحوّل الخائف المرعوب إلى محب معذّب.
ولا تقتصر هذه الآلية، في فعلها، على الحكام وحدهم. فبعض الناس يتناول بالنقد من يساوي نفسه بهم، ويتعامل معهم كند، فيتهجّمون عليه، لأن ندّيته تسوّغ لهم جعله موضوعاً للغيرة والحسد والنقمة وغيرها، أما من يترفع عليهم، ولا يعاملهم كأنداد له، فيسلم من ألسنتهم.
تتضمّن هذه النزعة احتقاراً للذات. فصاحب نفسية العبد لا يقبل أن يتفوّق من يشبهه في أي مجال كان، لسبب بسيط أنه يذكّره بنفسه. وهو لا يصدق أن شخصاً يشبهه يمكن أن يتفوّق في أي مجال، سواء أكان علمياً أم أدبياً أم سياسياً. فيصبح بذلك إما موضوعاً للنقمة (لماذا هو؟) أو للغيرة (لماذا ليس أنا؟).
في هذه المرحلة الانتقالية التي يعيشها الوطن العربي، وما زالت فيها سيكولوجية العبيد حية ترزق عند بعضهم، لا يمكن للمرء ألا يلاحظ كيف يتعامل هؤلاء باستخفاف بسياسي لأنه ديمقراطي وغير قمعي، وكيف يتوقون إلى الحاكم القمعي الذي يستحق أن يكون حاكماً. وإذا تساءلنا، باستغراب ينم عن غضب وسذاجة، عن السبب؟ يجيبنا المصاب بهذه النفسية قائلاً: "لأن شعباً كهذا لا ينفع معه إلا من يدوس عليه"، وهو، في الحقيقة، يقصد نفسه، ويسقط هذه السيكولوجية على الشعب كله.
يتعامل المواطن الحر الذي تقوم عليه الديمقراطية باحترام مع من يحترم عقله وعاطفته، وباحتقارٍ مع من يفرض نفسه بالقوة وإذلال الآخر.
قبل أيام، قام رئيس مجلس الشورى الإيراني، علي لاريجاني، بزيارة خاطفة إلى لبنان، قادماً إليه، كعادته من دمشق عبر الحدود، بعد أن التقى رئيس النظام السوري، بشار الأسد. وفي ساعات النهار القصيرة، جال لاريجاني على قيادات القوى (الشيعية) "الممانعة"، بدءا بنظيره ورئيس حركة أمل، نبيه بري، وانتهاء بزعيم حزب الله، حسن نصر الله. وبين اللقاءين، استدعى لاريجاني مسؤولي الفصائل الفلسطينية والإسلامية الملحقة بمحور "الممانعة"، إلى أفخم فنادق العاصمة اللبنانية، فينيسيا، ليملي عليهم خطة "الولي الفقيه". ثم زار في لقاء رفع العتب رئيس الحكومة، تمام سلام.
تنقل رئيس برلمان إيران، البلد الديمقراطي بامتياز، في وسط بيروت بين مقر إقامة رئيس المجلس ورئاسة الحكومة، ثم توجه إلى الجامعة اللبنانية (الرسمية)، في الضاحية الجنوبية من العاصمة معقل حزب الله، حيث ألقى على طلاب العلوم السياسية محاضرة بمثابة دروس في "الوطنية والمقاومة والحرب على التكفيريين".
وقد أدت تنقلاته هذه إلى حبس اللبنانيين في سياراتهم على الطرقات، ساعات وساعات، تحت الأمطار الغزيرة، بسبب الإجراءات الأمنية المشددة، وتحويل خطوط السير من أجل تسهيل حركة الضيف، وتوفير الأمن والحماية له. وقد ذكّر تصرف لاريجاني اللبنانيين بصلف سلفه اللواء السوري، غازي كنعان، يوم كان الحاكم المنتدب على لبنان، في زمن الوصاية السورية، وحين كان يجول على القيادات السياسية والمسؤولين الرسميين مصدراً تعليمات رئيسه الأسد.
لم يجد المسؤول الإيراني المحافظ والمتشدد أي حرج في القول للبنانيين إن هناك تيارات تبدو فاعلة أكثر من الدول، مثل حزب الله. أي إنه أراد أن يقول لهم إن حزب الله، صنيعة إيران، هو أقوى و"أفعل" من دولتهم، والدليل، مثالاً لا حصراً، قيامه منذ سبعة أشهر بشل الدولة ومؤسساتها، بالتضامن والتكافل مع حليفه "التيار الوطني الحر" الذي يتزعمه الجنرال السابق، ميشال عون، بمنع انتخاب رئيس للجمهورية، خلفاً للرئيس ميشال سليمان الذي انتهت ولايته في 25 مايو/أيار الماضي.
" ذكّر تصرف لاريجاني اللبنانيين بصلف سلفه اللواء السوري، غازي كنعان، حين كان يجول على القيادات السياسية والمسؤولين الرسميين مصدراً تعليمات رئيسه الأسد "
فعن أي "فاعلية" يتكلم لاريجاني؟ هل عندما ذهب حزب الله ليقاتل في سورية، دفاعاً عن نظام الأسد في وجه الشعب السوري المنتفض، فيما الدولة اللبنانية غير قادرة على أن تحمي حدودها من لهيب النار السورية، بسبب مشاركة حزب الله نفسه في استباحة هذه الحدود. وهل لأن هذا الحزب قادر على تحرير أسراه عبر التفاوض مع من يحاربهم في العلن، على أساس أنهم تكفيريون وإرهابيون، بينما ظل "يمانع"، ويرفض فترة طويلة، هو وحليفه العوني، من داخل الحكومة، ومن خارجها، أي عملية تفاوض أو مقايضة مع هؤلاء التكفيريين والإرهابيين أنفسهم، من أجل تحرير العسكريين الأسرى لدى هذه التنظيمات.
وهل هو الدور "الفاعل" الذي يقوم به حزب الله منذ نحو عشر سنوات، مباشرة بعد اغتيال رئيس الحكومة الأسبق، رفيق الحريري، عندما انسحب من الحكومة غداة اغتيال النائب والصحافي، جبران تويني، في 12 ديسمبر/كانون الأول 2005، احتجاجا على قرار الحكومة الطلب إلى الأمم المتحدة تشكيل محكمة خاصة بلبنان للتحقيق ومحاكمة مرتكبي جريمة اغتيال الحريري. وهل استكمل هذا الدور "الفاعل"، عندما احتل وسط بيروت، وحاصر السراي الحكومي، في نهاية نوفمبر/تشرين الثاني 2006، أي بعد أسبوع على اغتيال الوزير والنائب، بيار الجميل. وبقي ناصباً خيمه مع حلفائه "الممانعين" (عون وبري) ستة أشهر في ساحات وسط بيروت، ما أدى إلى شلل الحياة الاقتصادية، وتسبب بإغلاق مؤسسات ومحال تجارية كثيرة وإفلاسها. وقد ترافقت عملية الاحتلال تلك مع تعطيل انتخاب رئيس جديد للجمهورية خلفاً للرئيس الأسبق، إميل لحود (أواخر نوفمبر/تشرين الثاني 2007)، في تكرار للسيناريو الذي نشهده اليوم، من المعطلين أنفسهم، أي "التيار العوني" و"حزب الله". وذلك كله، في الأمس كما اليوم، بهدف فرض ميشال عون رئيسا للجمهورية، إلا أن محاولة الفرض هذه لم تحصل؟
يبدو أن لاريجاني غير ملم بهذه الوقائع، أو يتجاهلها عن قصد، بدليل أنه، أيضاً، وفي زيارته الخاطفة، حمّل المسيحيين مسؤولية عدم انتخاب الرئيس (المسيحي)، وطالبهم بـ "بذل الجهود وأن يتضافروا فيما بينهم"(!). وكان الأجدر به أن يطلب من حزب الله، بكل بساطة، أن يكف عن مقاطعة جلسات انتخاب الرئيس التي يدعو لها حليفهم بري، رئيس مجلس النواب، ويشارك في انتخاب الرئيس الذي يريد.
وهذا غيض من فيض، وإذا أراد الضيف الإيراني شواهد أخرى على نوع آخر من "فعالية" الحزب في شل الدولة ومؤسساتها، ففي الوسع إيراد وقائع تؤكد الأدوار التي يقوم بها بعض كوادر هذا الحزب وقيادييه، من إهدار للمال العام ونهبه، ومن عمليات فساد وإفساد لحياة اللبنانيين. فقبل سنة ونصف السنة، ضبطت وزارة الصحة مصنعاً يملكه شقيق نائب ووزير حالي في حزب الله، لتزوير الأدوية الفاسدة أو المنتهية صلاحيتها وبيعها، ويومها كان وزير الصحة حليفاً له من حركة أمل.
ولاحقاً، تم ضبط معمل في البقاع، يشرف عليه شقيق أحد نواب الحزب، لتصنيع حبوب "كابتاغون" المخدرة بكميات ضخمة، يتم تسويقها وتصديرها إلى الخارج. كما اكتشفت، أخيراً، شبكة يقف على رأسها شقيق آخر للنائب "الحزبللاوي" نفسه، لسرقة السيارات وتفكيكها وإعادة تركيبها لتهريبها والاتجار بها.
وقبل هذه وتلك، وغداة اندلاع الثورة في سورية، ضبط نجل أحد المسؤولين الكبار (وهو عالم دين معمم) يهرب كميات من السلاح الذي يمتلكه الحزب ويبيعه لـ"الجيش السوري الحر". وأخيراً، وليس آخراً، اعتراف حزب الله نفسه، وعلى لسان أمينه العام، باكتشاف شبكات تجسس، بين عامي 2011 و2012 مؤلفة من كوادر في الحزب لصالح إسرائيل والمخابرات الأميركية.
هل هذه هي "الفاعلية" التي يتكلم عنها لاريجاني؟ إلا إذا كانت "الفاعلية"، هنا، تعني "ممانعة" قيام الدولة التي يقيم حزب الله بداخلها، وبموازاتها، دولته وجيشه ومؤسساته ومصالحه وحساباته. الفاعلية الحقيقية تعني أن يضع حزب الله إمكاناته بتصرف الدولة، وفي مقدمها تسليم ترسانة السلاح الذي بحوزته إلى قوى الدولة الشرعية.