بشأن الموقف الروسي إبان مؤتمر "جنيف2"، والذي عقد مطلع العام الحالي، وانتهى إلى الفشل، تم تقديم تفسيرين رئيسين. الأول، دعم نظام بشار الأسد نحو إفشال المؤتمر، باعتبار ذلك رغبة روسية واعية. فيما تمثل التفسير الثاني في انكشاف حدود قدرة الدولة العظمى على التأثير على هذا النظام لإيجاد صيغة تسوية ما لإيقاف الحرب في سورية.
الآن، تبادر روسيا، منفردة تقريباً، إلى محاولة إيجاد حل ما للأزمة السورية؛ بجمع المعارضة في موسكو بنية توحيد مواقفها، وصولاً إلى لقاء يجمع هذه الأخيرة بالنظام. لكن التطورات، أو التراجعات التي لحقت بالجهود الروسية، تجعل التفسير الثاني السابق، بعجز روسيا إزاء حليفها الأسد، أقرب إلى المنطق.
فرغم الجولات الإقليمية المكثفة للمبعوث الخاص للرئيس الروسي، نائب وزير الخارجية ميخائيل بوغدانوف، في المنطقة خلال الفترة الماضية، والتي سبقتها دعوات لأطراف من المعارضة والنظام إلى موسكو ضمن ما اعتبر "مبادرة روسية"، إلا أن بوغدانوف نفسه عاد ليؤكد قبل أيام فقط بأن "موسكو لا تبني توقعات كبيرة" من لقاء/ لقاءات المعارضة والنظام التي "ستحمل طابعاً غير رسمي". أما المؤشر المادي والأهم على خروج الأمور من يد موسكو، فهو تصاعد العمليات العسكرية للنظام، على شكل مذابح بحق المدنيين أساساً، ضمن علاقة طردية مع تصاعد الجهود الروسية لعقد اجتماعات مفاوضات الحل السياسي.
إذ بافتراض أن روسيا تريد إعادة تأهيل بشار الأسد ذاته، وفق أقصى أمنياتها وطموحها، أو الحفاظ على ما بقي من نظامه كحد أقصى من التنازلات التي يمكن لها تقديمها، وذلك بغية مواجهة الإرهاب، والحفاظ على المصالح الروسية في سورية وغيرها، فإنه يظل شرطاً أساسياً لأي من هذين السيناريوهين خلق بارقة أمل لدى السوريين بتغير ما ممكن للتوصل إلى حل يوقف سفك الدماء، واقتناعهم بالتالي بالتوحد لأجل وطنهم في مواجهة الإرهاب. لكن بدلاً من نجاح روسي ولو رمزي، يفترض أن يكون متوقعاً بداهة، في تخفيف معاناة السوريين (بإطلاق سراح بعض رموز المعارضة السورية "الوطنية" بتعريف موسكو والنظام، وإيصال مساعدات طبية وغذائية ولو بالحد الأدنى إلى مناطق محاصرة)، فإن ما يقوم به الأسد فعلياً الآن، وبشكل غير مسبوق ربما، هو دفع مزيد من السوريين نحو التطرف، فكرياً إن لم يكن تنظيمياً.
والحقيقة أن هذا التصعيد الدموي من النظام يُفقد روسيا نهائياً إمكانية إلقاء الملامة في فشل مبادرتها على أي طرف كان؛ معارضة الخارج و/ أو داعميها الإقليميين والدوليين. وبذلك، يتحقق ما حذر منه المعارض السوري لؤي حسين، في مقال له بداية الشهر الحالي (نشر عقب اعتقاله من قبل النظام)، وهو إمكانية خسارة موسكو "كل وجودها في سورية إن فشلت مبادرتها" بسبب تعنت النظام. فأي قيمة لروسيا في سورية إن كانت تعجز عن التأثير على الأسد؟ أما مواصلة دعمه عسكرياً، فإنه بقدر ما يبقيه "رئيساً"، بقدر ما يفيد "داعش" وأمثاله، ولتكون النتيجة مدمرة تماماً للمصالح الروسية على المدى المتوسط، إن لم يكن القصير.
"نحن الآن في حالة حرب، إن لم تكن مع الوطن فأنت خائن"، بهذه الكلمات علّق أحد المواطنين الأردنيين على النقاش الذي لم يهدأ، وأعيد فتحه بعد أسر الطيار الأردني، معاذ الكساسبة، على يد تنظيم داعش، بعد سقوط طيارته في الرقة في أثناء تنفيذ عملية جوية هناك.
المهم أنّ هذا التعليق الموجز القصير يعكس، بالفعل، مزاجاً سياسياً، رسمياً وشعبياً، يسير وراءه في جدلية "هل هي حربنا؟" أم "ليست حربنا"، وهي قضية، وإن كانت تقسم الأردنيين، فعلاً، بين مؤيد لدخول الأردن في التحالف الدولي ومعارض له، إلاّ أنّها لا تنطبق على الموقف من أسر معاذ الكساسبة، والموقف من داعش، فهنالك حالة عامة من التعاطف مع الطيار الأسير، توحّد الأردنيين فعلاً، وهنالك مؤشرات في أغلبية عظمى من استطلاعات الرأي ضد تنظيم داعش، بوصفه مصدر تهديد للأمن الوطني، وتنظيماً إرهابياً.
منذ إعلان الأردن المشاركة في التحالف الدولي ضد التنظيم، وتبنّى بصورة واسعة عنوان "الحرب على الإرهاب" ومواجهة التطرف، بدأت عملية التخوين والتشكيك في المواقف المتحفظة، أو المتشككة في جدوى انخراطنا في الحرب الراهنة وضرورته، ثم هدأت الموجة، على أمل أنّ الطلعات الجوية لن تكون مصحوبة بخسائر بشرية أردنية، حتى وقعت حادثة سقوط طائرة الكساسبة، وفجّرت معها النقاشات الداخلية مرّة أخرى، في ظل "حفلات" من الترهيب السياسي والإعلامي الحقيقي لكل مَن يناقش في موضوع الحرب، الذي من المفترض أن يكون مدعوماً بإسناد شعبي وسياسي كبير، وليس محلاً للانقسام والتجاذب والاختلاف في وجهات النظر، كما هو واقع اليوم!
أوساط الدولة قدّمت مقاربة متماسكة للمشاركة في الحرب، فيها حجج قوية فاعلة، تستند إلى ثيمة "الحرب الوقائية"، إذ إنّ هذا التنظيم الذي يتمدد في الجوار، ويكاد يصل إلى الحدود الشرقية والشمالية، مصدر تهديد أمني حقيقي للأردن، ومن الأفضل للأردن أن يذهب إليه ليضعفه في أرضه، قبل أن يتمكن من أن يصبح أكثر قوة ورسوخاً، فيضطر الأردن، حينها، ليتعامل مع خطر محدق وتهديد أكبر، في ظل، أيضاً، تنامي حالة داخلية متعاطفة مع التنظيم، من أبناء السلفية الجهادية، فهناك أرقام تتحدث عن قرابة ألفي أردني يقاتلون، اليوم، مع داعش والنصرة، فيما هنالك 300 يحاكمون في محكمة أمن الدولة، بتهمة ترويج التنظيم والتجنيد له، بالإضافة، بالطبع، إلى مئات ممّن يحاكمون على خلفية محاولة اللحاق بهذه التنظيمات، أو العودة من هناك!
على هذه القاعدة الصلبة، بنت الرواية الأردنية الرسمية شرعية المشاركة في الحرب، فهي، وفقاً لذلك، "حربنا"، ونحن أولى بها من الأميركيين والغرب، ولا يجوز أن يتنصّل العرب من مسؤولياتهم في مواجهة الإرهاب والتطرف، الذي يهددهم، أولاً قبل غيرهم.
وعلى الرغم من وعي الأردن إلى أنّ داعش نتاج أزمة سنية حقيقية في العراق وسورية، وأنّ قوته محصّلة أخطاء وسياسات طائفية داخلية وإقليمية، وعلى الرغم، كذلك، من أنّ المقاربة الأردنية تتضمن التحالف مع العشائر السنية في العراق وسورية، في مواجهة داعش، ودعم مطالب السنة في العملية السياسية، إلاّ أنّ الأولوية الواضحة، أردنياً، تكمن في مواجهة داعش، بوصفه مصدر تهديد حقيقي وجوهري ومباشر، فضلاً عن أنّ الخطوات العسكرية تجاوزت كثيراً المقاربة السياسية التوافقية، التي من المفترض أن تجترح الحل السياسي المنشود، ما جعل من عنوان الحرب على داعش هو الأساس، فيما تراجع كثيراً الحديث السابق عن دور النظام السوري والنفوذ الإيراني في منح التنظيم أسباب القوة والصعود، عبر تبني خطاب هويّاتي، يقتات على أزمة السنة، ومأساتهم الكبيرة الراهنة!
على الطرف الآخر تبنّى التيار الذي يعارض داعش، ويقف في خندق معادٍ لها، سياسياً وأيديولوجياً، لكنه يتحفّظ على الحرب الراهنة، خطاباً يستند إلى جملة أساسية، تتمثل في أنّ ما يحدث في سورية والعراق "حرب بالوكالة" (Proxy War)، بين أطراف محلية وإقليمية ودولية، وأنّ المشهد أكثر تعقيداً ممّا يبدو في الواقع، فهنالك ميليشيات شيعية متطرفة، بقيادة قائد فيلق القدس الإيراني، قاسم سليماني، تقاتل ميليشيات سنية، ودول داعمة لهؤلاء وأخرى للطرف الثاني، ما يجعل من الحرب الراهنة في خدمة طرف ضد الآخر، فهي، كما اعترف وزير الدفاع الأميركي السابق، تشاك هيغل، تخدم نظام بشار الأسد بصورة واضحة، فيما تعلن الأردن والدول العربية، وتقف دولياً مع المعارضة السورية، وضد الأسد، ما يجعل الموقف العربي والغربي على السواء متناقضاً!
" هناك أرقام تتحدث عن قرابة ألفي أردني يقاتلون، اليوم، مع داعش والنصرة، فيما هنالك 300 يحاكمون في محكمة أمن الدولة، بتهمة ترويج التنظيم والتجنيد له "
لا يرى هذا التيار في داعش، إقليمياً، مصدر تهديد مباشر للأردن، فصعوده مرتبط بالظروف الاستثنائية في كل من سورية والعراق وشروط الحرب الداخلية والطائفية وحالة الفوضى والانهيار الكامل، وهي حالة تختلف جذرياً عن الوضع الأردني.
لذلك، ومع إقرار هذا التيار المعارض للحرب بتنامي التيار الداعشي في الأردن، إلاّ أنّه يرى خطأً، بل خطيئة كبيرة، في الخلط بين الحالتين، الداخلية والإقليمية، فمعالجة هذا التيار داخلياً تتم عبر استراتيجية مختلفة عن الاستراتيجية الإقليمية، فالمطلوب جهود أمنية وسياسية وثقافية وتنويرية، تتعامل مع أسباب ذلك الصعود ومدخلاته، وتحاصر "نموذج" داعش، بينما الحالة الإقليمية ذات مقاربة مختلفة تماماً.
إذاً، التيار المعارض للحرب هو يرى، في نهاية اليوم، بأنّها حربنا، لكنه يضيف كلمة "لكن" على ذلك، فما نراه اليوم من حملة دولية وإقليمية، فيه قدر كبير من التخبط وغياب الأفق الاستراتيجي والتناقضات الهائلة.
بغض الطرف، قال الأردنيون إنها حربنا أم لا، فإنّ أحد الدروس المهمة في أعقاب أسر الطيار الكساسبة، وما أحدثه ذلك من صدمة كبيرة لدى الرأي العام، واهتزاز في خطاب الدولة، هو أن يتم التعامل باحترام مع حرية التعبير والرأي، وألا يتم خلق أجواء من الترهيب السياسي والتخوين، فهنالك انتقادات هائلة في أميركا للحرب الراهنة، وفي ذروة الحرب الإسرائيلية على غزة كانت المقالات تتحدث بلغة نقدية حادة ضد الحرب.
للمرّة الألف، الحرية والتعددية والديمقراطية والمناخ الصحيّ هي السلاح الفتّاك في مواجهة صعود التنظيمات الإرهابية، فالمعادلة الداخلية أساسية، وليست ثانوية، في سؤال "الحرب على الإرهاب" في مقابل الاعتبارات الخارجية!
إذا وُضعت إسرائيل جانباً، فإن السعودية وتركيا وإيران أكثر ثلاث دول مؤثرة، وذات استقرار نسبي في المنطقة.
لإيران مشروعها الذي لا تخفيه. يتلخص بالسيطرة المباشرة المطلقة على المشرق العربي. كادت أن تنجز المرحلة الأولى من هذا المشروع، بالسيطرة على العراق وسورية ولبنان، وقد قال المستشار العسكري للمرشد الأعلى الإيراني، الفريق يحيى صفوي، حول هذا الأمر بوضوح: "حدود إيران لا تنتهي عند شواطئ المتوسط"، وبدأت بالعمل على المرحلة الثانية عبر اليمن، ولا يخفى على أحد أن المرحلة الثالثة ستكون السعودية والمنطقة الشرقية من شبه الجزيرة العربية، وصولاً إلى البحر الأحمر.
هل ستكتفي إيران عند هذا الحد، لو أتيح لها تحقيق هذا المشرع؟ لو كان هذا هدفها فقط، فما قصة حركة التشييع التي تقودها، وتنفق عليها الملايين في تركيا؟ ما الدافع لإحياء منظمات شيوعية تركية، كادت أن تموت، لتجنيدها في سبيل خدمة المشروع الإيراني تحت شعار "مناهضة الإمبريالية". في عام 1979، اعتبرت منظمة "اليسار الثوري" في تركيا الخميني مجرد وجه آخر للشاه، وكانت منشوراتها كلها في هذا الاتجاه، لكن بقايا انشقاقات هذه المنظمة التي تدعي أنها استمرار لتلك "تناضل"، اليوم، ضد الإمبريالية بقيادة الولي الفقيه؟ رئيس حزب العمال في تركيا، ضوغو بيرنتشك، أدلى بتصريح، قبل عام تقريباً، قال فيه: "سنصلي، الأسد والمالكي وأنا، صلاة النصر وراء السيد علي خامنئي في جامع السلطان أحمد"، وهذا جامع في إسطنبول، وأحد أهم المساجد التي ترمز للحقبة العثمانية، بموقعه الفريد مقابل كنيسة آيا صوفيا، قرب قصر طوب قابِ العثماني، لا بد من التذكير بأن هذا الرجل يدعي أنه علماني، ويخشى على تركيا من الأسلمة بقيادة حزب العدالة والتنمية. هل أصبح الولي الفقيه تكية أو جمعية خيرية ليجند هؤلاء؟ بالطبع، لا يمكن لهؤلاء أن يغيّروا نظام الحكم في تركيا، ولا يشكلون خطراً على بنية الدولة التركية في الوقت الراهن. لكن، ثبت من التجربة العملية أنهم يستطيعون إحداث فروق في الاحتجاجات، ولفت أنظار الرأي العام، خصوصاً إذا كانت هناك وسائل إعلام عالمية يمكن أن تقبل نشر الأخبار المأجورة. ويقول المثل العربي: "الطلقة التي لا تصيب بتدوش"، فهذه التنظيمات على الأقل هي طلقة تُدوش.
" هل أصبح الولي الفقيه تكية أو جمعية خيرية ليجند هؤلاء؟ "
إذا كان مشروع إيران في المشرق العربي معلناً، فهناك مؤشرات كثيرة تدل على أن مشروعها الاستراتيجي هو التمدد حتى الأناضول، فإيران لم تنس معركة "جالدران" التي قضى فيها سليم الأول على الشاه إسماعيل الصفوي، ولم يمض وقتٌ طويل على ما سمي، قبل عام، "احتجاجات تقسيم" أو "احتجاجات غزي" التي أخذت اسمها من اسم الحديقة التي تقرر نقل بضع أشجار منها إلى مكان آخر، فلقد كانت الشعارات كلها لا تندد باقتلاع الأشجار، بل بتسمية جسر البوسفور الثالث، المزمع إنشاؤه باسم "قاتل العلويين"، كما أطلق عليه المحتجون، وهو سليم الأول. وفي هذا الأمر إشارة واضحة إلى معركة جالدران. هناك أمثلة ومؤشرات وأدلة كثيرة على المشروع الإيراني في المنطقة. والدولتان اللتان يمكن أن يعوّل عليهما لمنع تمدده في المنطقة هما السعودية وتركيا، لكن الخلاف السعودي التركي يبلغ مبلغاً شديد الخطورة، يصل إلى حد تبادل الأخبار التي لا تحظى بالمصداقية على الأغلب حول تركيا بين وسائل الإعلام السعودية والإيرانية، فمن المستفيد من هذا الأمر؟
لا شك أن الخلاف السعودي التركي ينعكس سلباً على تطورات الأحداث في سورية، ولا يحتاج الأمر إلى متنبئ، للقول إن نجاح المشروع الإيراني كله متوقف على نتيجة ما يجري في سورية.
لقد نجحت تركيا بدفع خلافاتها مع روسيا إلى تحقيق مصالح مشتركة بينها وبين هذا البلد، لتغدو روسيا أكبر شريك اقتصادي لتركيا، وخصوصاً بعد عروض خطوط نقل الطاقة الروسية عبر تركيا، ألا يمكن أن تفعل السعودية وتركيا أمراً مشابهاً؟ أليس من المنطقي أن تجمع الأخطار المشتركة بين هذين البلدين لتحقيق نتائج ملموسة أكثر؟
ليس خافياً أن ما يواجهه اللاجئ السوري في بعض بلدان اللجوء العربي، تجاوز كل حد، ووصل إلى حد الإهانة لشخصه، واتهامه بشتى أنواع الخيانة، وعدم الوفاء لوطنه وبلده، لمجرد اضطراره إلى مغادرته، تحت وطأة البراميل المتفجرة والصواريخ الفراغية، والاعتقالات العشوائية، وتفجير البيوت والمنازل، والإذلال على الحواجز، فقط لكونه ينتمي إلى منطقة أو بلدة أو حي طالب أهله بالعدالة الاجتماعية، والديمقراطية السياسية، وإنهاء عهد الاستبداد منذ زمن الأسد الأب!.
في لبنان، الذي يستضيف نحو مليوني لاجئ سوري، منهم 1.2 مليون لاجئ مسجل لدى المفوضية العليا لشؤون اللاجئين التابعة للأمم المتحدة، لا يكتفي أنصار النظام وموالوه بالتعرض للمواطن السوري، أينما حل، والتضييق عليه ومساءلته، وكأنه في أحد فروع المخابرات التي ربما ذاق الشخص اللبناني نفسه بعض ويلاتها، بل تقف الحكومة اللبنانية متفرجة على هذه المحاولات "الخسيسة"، للنيل من الوجود السوري في لبنان، وفي أحيان كثيرة، متجاهلة دورها في ضبط الشارع اللبناني المنفلت في بعض دوائره، إزاء الوجود السوري.
وأخيراً، أصدر وزير العمل اللبناني، سجعان قزي، قراراً يحدد فيه المهن الواجب حصرها في اللبنانيين فقط دون غيرهم، مع بعض الاستثناءات للفلسطينيين والسوريين. ويحصر القرار الذي يعتبر عنصرياً، بكل معنى الكلمة، معظم أنواع الأعمال الممكنة في اللبنانيين، لكنه استثنى قطاعات الزراعة والنظافة والبناء، حيث يمكن للسوريين أن يعملوا فيها. الأعمال التي يحظر ممارستها من غير اللبنانيين هي الأعمال الإدارية والمصرفية والتأمينية والتربوية على اختلاف أنواعها، والأعمال التجارية، على اختلاف أنواعها، والهندسية، والمهن الحرة، وسائر المهن المنظمة وكل مهنة أو عمل يثبت أنه يشكل مزاحمة أو ضرراً لأصحاب العمل اللبنانيين.
ويؤكد قرار وزير العمل اللبناني اتجاهاً سياسياً، يرتبط بأسس النظام الذي بنيت عليه الجمهورية اللبنانية، وليس "لحماية القوى العاملة اللبنانية"، فالمقصود بالقرار، بالطبع، السوريين الذين نزح مئات الآلاف منهم من بلدهم، كما أنه يتابع سياسة إقصاء وتمييز ضد الفلسطينيين مستمرة منذ عقود.
لا يكتفي القرار بإغلاق الباب أمام العمال، بل يحظره، أيضاً، على من يملك المال أو الإمكانية لإنشاء عمل يخصه، ويضم ذلك "الأعمال التجارية على اختلاف أنواعها". وبذلك يمنع أي فرصة للسوريين للخروج من وضعية اللاجئ، محولاً إياهم، بالتالي، إلى أرقام بائسة محكوم عليها بالخوف والذل والفقر.
يشتكي لبنان من افتقاره الدعم المقدم له، لإعانته على احتضان اللاجئين السوريين، على الرغم من أن بلداناً كثيرة قدمت مساعدات لتأمين حاجات السوريين في المدن اللبنانية، كان آخرها تقديم الولايات المتحدة الأميركية 617 مليون دولار لصالح اللاجئين، فضلاً عن تعهد الدول الغربية بتوطين 2.5% من اللاجئين في دول الجوار، أي نحو 200 ألف لاجئ سوري في أراضيها، لتخفيف الضغط على هذه الدول المستضيفة. قد تكون شكوى محقة في بعض الجوانب، لكن ادعاءات حماية العمالة اللبنانية التي لا تعمل في مهن كثيرة محظورة على السوريين، وهواجس الحكومة اللبنانية من توطين لاجئين غير مرحب بهم في لبنان، إلا في حالة الاضطرار، أمور لا تبرر التعامل العنصري مع اللاجئين المغلوب على أمرهم في لبنان، لا سيما أن 70% منهم هم من النساء والأطفال، ويعيشون في فاقة وعوز، شهد به القاصي والداني، فهل ظلم ذوي القربى أضحى مباحاً ومبرراً، على الرغم من خروجه عن أبسط مبادئ الإنسانية، وأصول حسن الجوار!
يكثر الحديث اليوم عن مشاريع مبادرات تخص سورية، وفي مقدمها مبادرة المبعوث الدولي ستيفان دي ميستورا التي لم تخرج عن كونها مجموعة أفكار تتمحور حول الدعوة إلى تجميد الوضع في حلب لأسباب إنسانية أولاً، ومن دون إفصاح عن ملامح المرحلة التالية لما بعد حلب، أو تقديم إجابة واضحة محددة حول التساؤلين الآتيين:
- هل ستكون فكرة تجميد القتال في حلب، إضافة كمية إلى مشروع النظام الخاص بـ «الهُدن»، وبالتالي سيكون مصير حلب كمصير حمص؟
- أم إن الفكرة المعنية خطوة ضمن إطار استراتيجية عامة، هدفها الأخير معالجة المسألة السورية بصورة شاملة؟
ما قدّمه دي ميستورا حتى الآن لا يسمح بقراءة أو استنتاج الجواب. هذا مع إقرارنا بخبرة الرجل وتفرّد أسلوبه في التعامل مع القضايا المعقدة سابقاً. وهناك من يرى أن الرجل قرر البدء من القاعدة، من الميدان، ليصل لاحقاً إلى الذروة المتمثلة بالحل السياسي الشامل، وذلك بعدما فشلت مفاوضات جنيف 2 الكرنفالية التي قامت على فكرة أن الحل السياسي هو الأساس، وأن القضايا الأخرى، الإنسانية والميدانية، ستعالج بسهولة أكبر بعد بلوغه.
المبادرة الثانية التي بدأت تثير اهتمام مختلف الأطراف، وهي موضع مناقشات داخلية ضمن المعارضة السورية بأطرها الكثيرة، فهي التي دعت إليها وزارة الخارجية الروسية. مضمونها يقوم على إنجاز خطوتين متضايفتين: تتجسد الأولى في جمع المعارضة بكل أطيافها وتوجهاتها، أُطراً ومنظمات وشخصيات، من دون أحكام مسبقة، ليتحاور الجميع معاً للوصول إلى قواسم مشتركة بخصوص آفاق وملامح الحل السياسي. بعد ذلك، تأتي الخطوة التالية عبر تنظيم حوار بين المعارضة والنظام، للوصول إلى توافقات في شأن الحل السياسي الممكن.
وهذه المبادرة هي الأخرى تستوجب تساؤلاً مشروعاً: ما طبيعة التصور الروسي وحدوده لسقف الحل المنشود وإمكانيته؟ فهل باتت روسيا مقتنعة فعلاً بضرورة التوصل إلى معالجة الوضع في سورية، بخاصة بعد تفاقم مشكلاتها الاقتصادية نتيجة العقوبات الدولية، وتراجع أسعار النفط، إلى جانب الأزمة المفتوحة في أوكرانيا، وتراجع العلاقات بينها وبين الولايات المتحدة، أم إنها ستظل على موقفها المعهود بالنسبة إلى سورية، وما دعوتها هذه سوى محاولة لإعطاء المزيد من الوقت للنظام، حليفها، عبر إشغال المعارضة، وبلبلتها، والسعي إلى تدجينها، تمهيداً لإدخالها في عملية سياسية مع النظام، وبالشروط التي تناسب الأخير، وتتناغم مع الحسابات والمصالح الروسية؟ وبطبيعة الحال، يبقى الموقف الإيراني من المبادرة المعنية الصندوق الأسود الذي لا بد من أخذ محتوياته في الاعتبار. وإلى هاتين المبادرتين، هناك من يتحدث عن جهود مصرية تتمحور هي الأخرى حول إمكانية إجراء حوار بين المعارضة والنظام، حتى لو بطريقة غير مباشرة، للوصول إلى حل ما.
وربما كان الإيجابي في هذه الجهود، على رغم الملاحظات الجدية حولها، أنها ستساهم في تحريك الأجواء، وتؤكد أن الحل الواقعي الممكن هو في نهاية المطاف سياسي. وعبر التحركات والاتصالات الجارية، يستشف المرء أن هناك خيطاً ناظماً، ولو كان رفيعاً وغير مرئي، بين المبادرات الثلاث.
ولكن هناك، في المقابل، من يرى أن هذه الجهود لن تسفر عن شيء طالما أن النظام يشعر بالارتياح، وبالتالي فالوضع يستوجب إعداد القوى الميدانية، تدريباً ومعدات، وإفهام النظام بالملموس أنه سيواجه ضغطاً عسكرياً في حال عدم انصياعه للحل السياسي الذي لا يكون بشروطه ووفق مقاساته.
وما يعزز موقف هؤلاء أن السمات الراهنة للوضع توحي بعدم وجود استراتيجية أميركية لإحداث تحوّل نوعي في سورية، بينما هناك تركيز على الملف العراقي. وهناك حالة تنسيق غير معلن بين النظام والجهود العسكرية الأميركية في مواجهة «داعش» في سورية. وهي جهود يبدو أنها تستهدف أولاً استنزاف «داعش» وإضعافه، وليس القضاء النهائي عليه. والتسويغ الذي يُقدّم أن الأولوية الآن للملف العراقي.
كل ذلك يؤكد أن الأزمة السورية باتت في غاية التعقيد، بخاصة بعدما تداخلت ثلاثة مستويات هي: الوطني والإقليمي والدولي.
ونتيجة ضعف العامل الوطني بفعل خلافات المعارضة المزمنة، وتبعثر قواهاوتركيز أطرافها على قضايا بينية هامشية، طغى تأثير العاملين الإقليمي والدولي، الأمر الذي أخضع، ويخضع، العملية برمتها لحسابات ومصالح لا تعكس التوجهات السورية، ولا تحترم تطلعات السوريين وتضحياتهم خلال أربعة أعوام. وهذا ما تجلى خصوصاً بعد الإعلان عن التحالف الدولي لمحاربة إرهاب «داعش»، الأمر الذي أدّى إلى تباينات بين مواقف القوى الأساسية في مجموعة أصدقاء الشعب السوري، خصوصاً التباين الأميركي – التركي حول المنطقة العازلة ومصير الأسد. وهناك عدم ارتياح سعودي وقطري لطريقة إدارة الأمور في محاربة الإرهاب في سورية، بخاصة التناسي الأميركي لموضوع النظام، والاكتفاء بضربات جوية ضد «داعش» لم تؤدِّ حتى الآن إلى نتائج حاسمة تقلب الموازين على الأرض. وهذا على رغم دخولهما العلني في التحالف المذكور.
وبناء على ما تقدم، يبقى العامل الذاتي الوطني حجر الأساس في أي تعامل مع المبادرات والجهود التي تقارب المسألة السورية. فمن دون قيادة سياسية متماسكة للمعارضة تمتلك رؤية سياسة واضحة ومطمئنة لسائر المكوّنات السورية، على قاعدة احترام الحقوق والخصوصيات، وتكون بعيدة كل البعد من التعصب والتطرف في أشكالهما، وتأخذ في اعتبارها المعادلات الإقليمية والدولية، وتؤكد للجميع أن سورية المستقبل ستكون عامل استقرار وانسجام لمصلحة الجميع، ستبقى الأمور عائمة، مفتوحة على غير ما هو منشود. ومن دون قيادة كهذه ستبقى كل جهود المعارضة الميدانية، بما في ذلك تدريب القوات لدى الدول المختلفة، مجرد قطع متناثرة في لوحة غير مكتملة.
والائتلاف الوطني السوري باعتباره المؤسسة الوحيدة في المعارضة التي ما زالت تحظى باعتراف دولي، مطالب أكثر من أي وقت مضى بتجاوز خلافاته العقيمة العبثية التي غالباً ما تدور حول حسابات انتخابية في غير محلها، وذلك استعداداً للانفتاح على القوى الأخرى في المعارضة وبناء العلاقات الوثيقة الحقيقية مع القوى الميدانية الفعلية، والدعوة إلى حوار جاد بمبادرة وطنية سورية هدفها اتخاذ قرارات عقلانية جريئة، تكون مقدمة أكيدة لحل واقعي يضع حداً لمحنة الشعب والبلد.
سنختتم عامنا، 2014، من دون أن نُقدم لأنفسنا تفسيراً لذلك الطوفان الذي سميناه رغماً عنه «داعش»، والذي أطلق هو على نفسه اسم «دولة الخلافة».
نعم كان 2014 عام الطوفان الذي أطاح السدود والحدود الرخوة بين الدول والكيانات. عام اهتزاز سايكس بيكو، تلك المعاهدة التي لطالما لاحت لنا بصفتها ذروة المؤامرة على عروبتنا وعلى إسلامنا، لكن أحداً منا لم يجرؤ على المس بها، فجاء «داعش» وأطاحها، لنعود ونكتشف أن ذلك الوعي الشقي بحاضرنا إنما يمكن أن ينبعث ويتحول وحشاً يأكلنا، وأن يكشف لنا أن غير الداعشيين منا هم فقط أولئك الذين قبلوا بسايكس بيكو.
صحيح أن «داعش» ليس ابننا وحدنا، لكن، والحق يُقال، أن لنا فيه أكثر مما لغيرنا، فمثلما لا يُمكن لعروبي أن يتنصل من إغراء إلغاء حدود الكيانات المصطنعة، وهي مصطنعة فعلاً، لا يمكن لإسلامي أن يواجه «الخلافة»، أي خلافة كانت. فـ«داعش» في النهاية يُمسك بالمانيفستو نفسه، ذاك الذي أفضى بالإخوان المسلمين إلى التوجه إلى باكستان لتحرير فلسطين، وقبلهم دفع عبد الناصر لإرسال جيشه إلى اليمن، وبعدهم حزب الله الذي توجه إلى سورية مُلغياً الحدود اللبنانية السورية. وكم يبدو غير مذهل أن يُراكم خطاب «رفض الكيانات المصطنعة» الذي اشتغل لعقود وعقود نتيجة تشبه «داعش»، ففي داخل كل واحد منا ميل لاحتقار «وطنه» الجديد، ورغبة في تجاوزه، وهو شرط نفسي تلبيه دولة الخلافة على نحو لم يلبه أحد.
لقد أذهلنا تدفق «داعش» على المدن العراقية والسورية، وهو ذهول منافق، ذاك أن «داعش» كان يقيم في هذه المدن منذ سنوات، ويُشارك في إدارتها، وكل ما فعله في 2014 هو أنه أعلن نفسه سيداً عليها. العالم كله منافق، والعالم كله كان شاهداً على تلك الولادة. وكل ما فعله أيضاً أنه واجه العالم بحقيقته، فقال للأميركيين: هذا ما تُخبئه دولتكم وحكومتكم عنكم، وقال للعرب والمسلمين: ها أنذا أشبهكم على نحو ما تُشبهون أنفسكم، وقال للأوروبيين إن من بينكم من أغريه أكثر مما تُغرونه. أنا ابن العالم وابن مآلاته الكثيرة، وابن حداثته وتقدمه.
نعم «داعش» وُلد عـــراقياً، لكنه الآن مخلــوق عالمي. وُلد في سجــن بوقـــا العـــراقي الذي كان يُديره الأميركيون. هناك تحول أبو بكـــر البغـــدادي مـــن مُجوّد عـــادي إلى قائد للتنــظيم. ومـــن هناك انتقل الرجل بصحبة ضباط البعث المفرج عنهـم إلى صحراء الأنبار حيث أقام في ضيافة العشائر التي اضطهدها نوري المالكي وانتقل منها إلى الموصل وديالى.
لكن «داعش» اليوم لم يعد عراقياً. هو كل شيء. هو تونسي مثلما هو بريطاني وشيشاني، وهذه الهويات غير المُطلقة تُشبه، وان على نحو سلبي ومأسوي، الهوية المتقلبة للمواطن العالمي. فذباح «داعش» اللبناني خالد شروف قدم إلى العراق من استراليا، ونجم التنظيم البريطاني جون كان مغني راب، ومثل هؤلاء آلاف هم نواة التنظيم ونجومه، فيما فيالقه العشائرية تبقى ضعيفة الالتحام ببنيته وقابلة للانفصال عنه ما إن تحين ساعتـــه. أما الضباط البعثيون، فلهم حساباتهم المختلفة وضغائنهم الناجمة عن مسارات أخرى.
قد يبــــدو مستحيلاً تفسير ما جـــرى. هو مستحيل على قدر ما هو بديهي. فيقول الطبيب النفسي عن ذلك البريطاني «جهادي جون» الذي أقـــدم على ذبح الرهينة الأميـــركي جيمس فولي، إنه لا يشك بأن جون يعاني من مرض معروف من أعراضه الانفصال عن آلام الآخرين، وانعـــــدام القدرة على معرفة أن للآخرين مشــاعـر، وأنهم يتألمون مثلما هو يتألــم. لكن المريض الإنكليزي «جهادي جون» هز العالم بفعلته، وهو نفسه من أقــدم علـــى ذبح 22 ضابطاً سورياً أسرهم «داعش» في الرقة. فهل يصــــح أن نقول إن العـــالم كــله ترنح تحت تأثير أعراض مرض رجــــل واحد؟ هنا تكمن قوة «داعش»، أي في قدرتها علــــى توظيف مرض، قد يكون تافهاً، في صورة يمكن لها أن تهـــز العالم. وقد تبدو مقاومة «داعش» في أن يتصدى العالم لهـــذا المرض، وهذا أمر مستحيل. وبهذا المعنى يمكن أن تشغــل «داعش» العالم بما لا وقت لديه له، وأن تدفعه إلى مــراجعـــة بديهيات كان تجاوزها في سياق تقدمه. فها هي دول أوروبية عدة تعيد مراجعة قوانينها بما يضمن لها التحصن من «داعش». مئتا هولندي عادوا من القتال مع «داعش» لا يطاولهم القانون الهولندي الراهن، فيما تدرس بريطانيا قانوناً لسحب الجنسية من مواطنين التحقوا بالتنظيم، وهذا مخالف جوهرياً لمعنى المواطنة وتراجع عن قيم التقدم.
«داعش» بهذا المعنى أشعر العالم أنه بالغ في الانقياد وراء التقدم، وأن التنظيم سبقه للاستثمار الدموي في هذا التقدم. يجب العودة إلى الوراء قليلاً، هذا ما يتهيأ العالم للإتيان به. وربما امتد ذلك ليتجاوز القوانين الحديثة، فإجادة التنظيم الاستثمار في وسائل التقدم التكنولوجي مستفيداً من «ديموقراطية» تدفق المعلومات ربما دفع العالم لإعادة النظر بسهولة إتاحتها.
لكن الغريب فعلاً أن العالم لا يبدو أنه بصدد إلحاق هزيمة بالتنظيم المتوحش. لا بل ثمة مؤشرات للقبول بشيء ما حدده «داعش». ويبدو أن الأخير هو من يقاوم رغبة العالم بقبوله، إذ أن التنظيم شعر أن هناك مساحة حقيقية لهذا الجنون ولهذا الموت، وهو لم يتمدد بعد عليها كلها. ويشعر أيضاً أن وراء القصور في الحرب عليه عجزاً حقيقياً يجب أن يستثمره. الصعوبات الهائلة التي تواجه العملية السياسية في العراق وراءها قبول باحتمال أن يكون «داعش» بديلاً حقيقياً، والتحالف الدولي الباهت والركيك أيضاً، وقبول العالم ببشار الأسد وبنظامه ضرب من القبول بـ«داعش».
لكـــن يبقــــى أن همّ العالم منصب اليوم على مرضاه الأفراد، أولئك الذيــــن يكشفون عن أن «داعش» حكــــايات كثيرة وليس حكاية واحدة. وبما أننا لا نملك ناصـــــية هذه الحكايات الكثيرة فسنبقى غير قادرين على تفسير هذا الخلل غير المنطقي الذي أصاب العالم.
ثمة، اليوم، حاجة قوية لدى الحركة الوطنية السورية إلى ثلاثة مواقف متكاملة، هي:
موقف موحّد داخل الائتلاف، يتجاوز خلافاته وتكتلاته وصراعاته العبثية التي لم تخدم أحداً، حتى الآن، غير النظام والفوضى، وأحدثت بلبلة صارت جوهر السياسات المعتمدة في العلاقات بين مكوّنات المعارضة والمقاومة، وداخل كل طرف منهما. لبلوغ هذا الموقف، من الضروري إخراج الائتلاف من النمط التنظيمي الذي أعطي له منذ تأسيسه، ونمط الممارسات والسياسات الجزئية والمحتجزة الذي ترتب عليه، وبلورة صيغ مختلفة، تضبط عمله ضمن استراتيجية عمل وطني، تغطي مختلف الفاعلين في الساحة السورية، معارضة ونظاماً.
موقف عربي لا تمليه استراتيجية أميركا الشرق أوسطية، بتصفية حساباتها مع إيران وروسيا، وطرقها في إدارة أزمة سورية، وما رسمته لها من خطوط حمراء. إذا لم يبتعد الموقف العربي عامة، والخليجي خاصة، عن سياسات واشنطن، فإنه سيبقى موقفاً ضعيفاً تجاه سورية، وسيتذبذب بين الرغبة في المساعدة والعجز عن تخطي احتجازات أميركا التي تفرض قيوداً متنوعة عليه. يصارع الخليج إيران في سورية بالواسطة، فهل يمكن أن يكسب معركته ضدها عبر سياسات تقيّد دعم حلفائه السوريين، علماً أن سياسات إيرانية تدعم نظام الأسد من دون حدود، وتخوض صراعاً مباشراً ضد الشعب السوري، بواسطة مرتزقتها وأموالها وقدراتها التقنية والسلاحية وقيادتها السياسية، وحضورها الكثيف في جميع مرافق نظام الأسد ومؤسساته؟ وهل يمكن لسياسة لا تستطيع اتخاذ قراراتٍ تعبّر عن مصالحها وأمنها، إنزال الهزيمة بسياسة حربية معلنة على رؤوس الأشهاد، تعتمدها إيران ضد الجهة التي تقاتل النظام السوري، وضد دول الخليج، تحرّض، بطابعها المعلن، أعداء هذه الدول الداخليين والخارجيين، وتشجعهم على تحدي استقرارها؟ هناك اليوم ما يجب أن يدفع الخليج إلى إجراء انفكاك جزئي عن السياسات والخطوط الحمراء الأميركية، منها أولوية مصالح البيت الأبيض مع إيران على أية مصالح خليجية، وأولوية المصالحة معها على علاقاته التاريخية مع العرب، ومنها الابتعاد النسبي لدول عربية وإقليمية مهمة عن أميركا، كتركيا ومصر، وأولوية الحرب الأميركية ضد الإرهاب على الحل السياسي في سورية، وانعكاسات هذا الخيار الجديد والخطير على الأرض، وما أحدثه من اقتراب عملي بين النظام وأميركا، وفتحه بالحرب على الإرهاب من أبواب على علاقات جديدة بين البلدين، بينها عودة قنصل أميركي خلال فترة قريبة إلى دمشق، وما رشح عن تعاون استخباري بين الجانبين، إلى جانب إهمال الجيش الحر وتجاهل دوره الناجح في مقاتلة "داعش"، والانخراط، في المقابل، في التغني ببطولات القوى الكردية المسلحة، وأدوارها في هذه الحرب.
قيام تنسيق وتعاون بين الدول التي تربط دورها في الحرب ضد الإرهاب بالحل في سورية، كفرنسا والمملكة العربية السعودية وتركيا وقطر والأردن ومصر، وتأسيس تحالف في ما بينها ومع الائتلاف والجيش الحر، للحد من انفراد واشنطن بسورية والمنطقة، وتوضيح موقفها من الحل السياسي الذي تكاد تتركه لأعداء الثورة في إيران وروسيا، ويبدو مشروع دي ميستورا حول تجميد القتال في حلب، وكأنه مستوحى منها، أو غير بعيد عنها.
تتحدى قضيتنا، اليوم، قدرتنا على التفعيل الناجح والمؤثر للنقطتين الثانية والثالثة، من خلال توحيد أنفسنا، وجعل الآخرين يرون فينا شريكاً لهم وبديلاً للنظام، وإلا فجهة يستحيل تحقيق أي شيء يجافي مصلحتها وإرادتها. بغير ذلك، سنكون كمَن يضيع وقته في نفخ قربة مليئة بالثقوب، وسنخرج، ونحن مقطوعو الأنفاس، من معادلات الحرب والسلم!
أيام قليلة ويغلق عام 2014 أبوابه، مفسحا المجال لبداية عام جديد في محتوياته وملامحه وتطوراته، وتمثل القضية السورية واحدة من أبرز القضايا في العام الجديد على نحو ما كانته في الأعوام الأربعة الماضية، وما تركته فيها من هزات وتطورات سياسية وأمنية، واقتصادية واجتماعية، وثقافية وإنسانية، أصابت بلدانا كثيرة بينها روسيا وإيران، وقد كانتا طوال الأربع سنوات حاضرتين في القضية السورية عبر وقوفهما الحاسم إلى جانب نظام الأسد في حربه الشاملة ضد السوريين وكل من وقف معهم، أو آزر قضيتهم بأي مجال أو مستوى كان.
لقد تكفلت إيران وروسيا دعم نظام الأسد ومناصرته، بتقديم كل الدعم السياسي والاقتصادي والعسكري والأمني والبشري، وتعاونتا معه في المستويين الداخلي والخارجي، طوال نحو 4 سنوات. فقدمت إيران دعما سياسيا واقتصاديا غير محدود، وكذلك فعلت في المجال العسكري فدفعت وحدات من الحرس الثوري الإيراني للقتال إلى جانب النظام، وأرسلت له الخبراء الأمنيين والعسكريين والتقنيين، ثم وجهت ودفعت ميليشيات حليفة لها من لبنان والعراق للقتال إلى جانب قواته، وجندت استخباراتها مجموعات من أماكن متعددة وأرسلتها إلى سوريا، فيما كانت تعزز مساعي التشيع في أوساط السوريين لتعزيز قاعدة اجتماعية للنظام ولها في آن معا.
ولم يكن مسار روسيا في الموقف من نظام الأسد مختلفا في جوهره عن الموقف الإيراني من حيث الدعم والمساندة، وإن كانت هناك بعض الفروق، فلم تتعد الجوهر، فاختلفت في بعض التفاصيل الناجمة عن خصوصيات ودور كل منهما، كما في الدور الروسي على صعيد السياسة الدولية، حيث منَعت روسيا عبر الفيتو المجتمع الدولي من اتخاذ قرارات تدين نظام الأسد، وأعاقت كل ما يمكن من إجراءات عقابية تصيبه بسبب ما ارتكبه من جرائم، بل عملت كل الوقت على إعادة تسويقه دوليا وإعادته إلى حظيرة السياسة الدولية بما في ذلك تسويقه في قضية عالمية مثل مكافحة الإرهاب، وقدمت روسيا الأسلحة والخبراء للنظام، وسهلت استخباراتها ذهاب متطرفين من دول الاتحاد الروسي إلى سوريا للقتال في صفوف أبناء وأخوات تنظيم القاعدة.
الدور الإيراني - الروسي واصطفافاته في القضية السورية ومع نهاية عام 2014، صار في محل الامتحان، أمام الاستمرار أو التغيير، ليس لانقلاب في استراتيجية البلدين، وهو أمر غير وارد في حسابات قيادتهما، كما ثبت في السنوات الماضية، إنما بسبب متغيرات سياسية واقتصادية واجتماعية، تضع قيادة البلدين أمام ضرورات التغيير العميق في الموقف من قضية باتت مؤشرات خسارتهما فيها أكثر وضوحا من أي وقت مضى، إذ من الصعب على أي منهما، المضي على المسار ذاته في دعم ومساندة نظام الأسد على نحو ما كان في الماضي.
وإذا كانت إيران تواجه وضعا سياسيا إقليميا ودوليا صعبا، سواء لجهة ملفها النووي أو سياستها الإقليمية وخصوصا في الخليج والعراق وسوريا ولبنان، فإن روسيا هي الأخرى، تواجه أوضاعا صعبة هي الأخرى وخاصة في سوريا وأوكرانيا، وقد استدعى الموقف الروسي في الأخيرة عقوبات دولية، ينتظر أن تتواصل، على نحو ما كانت عليه العقوبات الدولية ضد إيران بسبب ملفها النووي.
والوضع الاقتصادي في البلدين، ليس أحسن حالا من وضعهما في السياسة الخارجية، وسوء الوضع الاقتصادي، لا يتصل فقط بسبب انخفاض سعر النفط وكلاهما من أكبر منتجي النفط في العالم، مما أدى إلى انخفاض هائل في حجم مواردهما المالية، نتيجة مساهمة النفط بأكثر من 50 في المائة من ميزانية البلدين، إنما أيضا بسبب انخفاض قيمة العملة في البلدين، إذ أصيب الروبل الروسي والريال الإيراني بانخفاضات كبيرة ولا سيما أخيرا، وكله مقرون بمصاعب اقتصادية تتعلق ببنية الاقتصاد فيهما، وعجزها عن الخروج من مأزق سياسات، تم اللجوء إليها على مدار العقدين الأخيرين، وتركت آثارا اجتماعية، صار من الصعب مواجهتها بالأساليب ذاتها التي كانت متبعة.
خلاصة الأمر، أن التدهور المشترك في السياسات الخارجية والداخلية لطهران وموسكو، مع تراجع أسعار النفط، وتأثيره المرتقب في انخفاض ميزانية البلدين، وتدهور قيمة عملتها، وما يخلفه ذلك على الوقع الاجتماعي في البلدين - سيترك ظلاله على واحد من أهم ملفات سياستهما الخارجية، وهو القضية السورية، التي شكلت ومتعلقاتها في السنوات الأربع الماضية، إحدى بؤر الاستنزاف السياسي والاقتصادي للبلدين ولو بفوارق بين الحالتين.
الأسئلة التي يطرحها الواقع الإيراني أولا والروسي ثانيا كثيرة، لعل الأهم فيها يكمن في القول، إلى أي مدى سيكون أثر العصف الذي يضربهما على موقفهما من نظام الأسد؟ هل تستمر طهران وموسكو في موقفهما الداعم له وحمايته من السقوط، ومناوراتهما من أجل إعادته إلى المجتمع الدولي بعد كل ما قام به من جرائم وارتكابات؟ أم يفهم من تصريحات إيرانية وروسية أخيرة، أنهما غير متمسكتين بالأسد، أنها تشكل بداية تغيير لموقف البلدين من الأسد ومستقبل سوريا؟ وهل ذلك ما يمكن أن نشهده في خلال عام 2015 أو في الأشهر القليلة المقبلة منه؟
أعلن، أواخر شهر نوفمبر/تشرين الثاني المنصرم، عن تشكيل مجلس قيادة الثورة السوريّة، جسماً تنظيمياً يجمع أكبر عدد من الفصائل المسلحة في سورية. ويقف هذا المقال على واقع العمل الثوري المسلح، وتطوراته والمحاولات الاندماجية السابقة، لتوضيح إذا ما كان المجلس المشكل حديثاً يمثل تجربة جديدة، أو نقلة نوعية في مسار الثورة السورية.
ما فتئ السوريون، ومنذ تحولت ثورتهم إلى مسلحة، يطالبون المجموعات المختلفة بالوحدة، وتجاوز منطق الدفاع الذاتي الأهلي إلى العمل العسكري المخطط والمنظم. بعد حادثة جسر الشغور، مطلع يونيو/حزيران 2011، واندفاع شريحة كبيرة من المحتجين إلى رفع السلاح، أعلن المقدم المنشق، حسين هرموش، عن لواء الضباط الأحرار، ليكون واجهة العمل العسكريّ والمؤسسة الجامعة للضباط والمجندين العسكريين المنشقين عن الجيش النظامي. لكن صراع الضباط على تقديم أسبقية الانشقاق، أو الرتب العالية، شرطاً لتولي القيادة، ولّدَ أجساماً عسكريّة أخرى، كالجيش السوري الحر (29 يوليو/تموز 2011) بقيادة العقيد رياض الأسعد، ولاحقاً المجلس العسكري الأعلى للجيش الحر (5 فبراير/شباط 2012) بقيادة العميد مصطفى الشيخ، ليكون هيئة تشرف على عمل المجالس العسكرية المكونة في المحافظات. لم تنجح أي من التجارب السابقة، وساهمت الخلافات بين القادة العسكريّين في ترهل عمل المجلس والعمل العسكري، على المستوى الوطني بشكل عام. كما برزت فصائل إسلامية فاعلة، كأحرار الشام، وصقور الشام، لواء الإسلام وألوية الحبيب المصطفى... إلخ، ولعبت دوراً مهماً في قتال قوات النظام، يفوق في ضراوته وتنظيمه عمل الكتائب المنضوية، أو المرتبطة، بالمجلس العسكري.
جرت أواخر عام 2012 محاولات اندماجية جادة، فأعلن في 12 سبتمبر/أيلول 2012 عن تأسيس جبهة تحرير سورية الإسلامية، وضمت، آنذاك، نحو 20 فصيلاً عسكرياً، أبرزها صقور الشام، ولواء التوحيد ولواء الإسلام. في المقابل، أعلن في 22 ديسمبر/كانون أول 2012 عن تشكيل الجبهة الإسلامية السوريّة، وضمت أكثر من 10 فصائل عسكرية، أبرزها: أحرار الشام، ولواء الحق في حمص، وجماعة الطليعة الإسلاميّة، وحركة الفجر الإسلاميّة (اندمجت لاحقاً في حركة أحرار الشام). وعلى الرغم من التقارب الفكري والتشابه التنظيمي بين الجبهتين، فإن مما ميزهما انضمام فصائل الأولى إلى هيئة الأركان المشتركة، في حين رفضت الثانيّة ذلك، وفضلت العمل المستقل على التواصل مع مؤسسات المعارضة السوريّة. غداة الإعلان عن تشكيلها، في ديسمبر/كانون الأول 2012، أمل من هيئة الأركان المشتركة أن تكون مشروعاً عسكرياً جامعاً ينسق بين الفصائل، وينتج قيادة عسكرية على المستوى الوطني، ويوحد قنوات الدعم المادي والعسكري، لكن طريقة عمل قيادة الهيئة لم تختلف عن تجارب سابقة، لجهة الارتجالية وغياب التخطيط والنظرة المستقبلية، واقتصر نشاطها على توفير السلاح، بحده الأدنى للفصائل المرتبطة معها، فتحولت لجهة
مانحة وقناة دعم ليس إلا. ونتيجة لذلك، وللتغيرات الإقليمية في الملف السوريّ، منتصف العام 2013، نأت فصائل كثيرة فاعلة عن هيئة الأركان، واختارت الانضواء في مشروع سياسي وعسكري، ضم فصائل الجبهتين السابقتين، أعلن عنه (22 نوفمبر/تشرين الثاني 2013) تحت مسمى جديد "الجبهة الإسلاميّة".
" صراع الضباط على تقديم أسبقية الانشقاق، أو الرتب العالية، شرطاً لتولي القيادة، ولّدَ أجساماً عسكريّة أخرى، كالجيش السوري الحر"
حاول الجسم الجديد أن يمايز نفسه عن التجارب السابقة، فوضع سقفاً زمنياً (ثلاثة أشهر منذ إعلان التأسيس) للاندماج الكامل بين فصائله الرئيسة (حركة أحرار الشام، وألوية صقور الشام، وجيش الإسلام، ولواء التوحيد، ولواء الحق، وكتائب أنصار الشام، والجبهة الإسلاميّة الكردية)، كما طرح، ولأول مرة مشروعاً سياسياً، سماه "مشروع أمة"، حدد أهدافه وغاياته. وعلى الرغم من الجهود المبذولة، وزيادة مستوى التنسيق، فإن مشروع الجبهة الإسلاميّة لم يكن أوفر حظاً من المشاريع السابقة، فقد مضى على إعلانه عام، من دون أن يحقق أهدافه التي طرحها عسكرياً، أو سياسيًا، لأسباب عدة، في مقدمتها مقاومة الفصائل مسعى الوحدة، وخلافات قادتها حول أولويات العمل العسكري والسياسيّ، أيضًا، والتباينات والاختلافات الفكرية. وتدريجياً، تحولت الجبهة الإسلاميّة إلى مشروع خاص بحركة أحرار الشام، لا سيما بعد اندماج لواء الحق والجبهة الإسلامية الكردية ضمنها.
مبادرة واعتصموا: صرخة لاستعادة البعد الوطني
منتصف عام 2014، بدا المشهد العسكريّ السوريّ مقسما بين ثلاثة مشاريع. أولها؛ مشروع جهادي أممي، يعبر عنه تنظيمان من منبت واحد، يتصارعان في المشروع، هما داعش الذي أعاد تنظيم صفوفه، بعد هزيمته، مطلع العام الجاري، واستغل الزخم المعنوي في العراق لتوسيع نفوذه في سورية. والنصرة التي قادت قيادتها الجديدة تحولاً غير سلوكها ونهجها وأولوياتها. وثانيها: مشروع إسلامي تمثله الجبهة الإسلاميّة، وترتبط به فصائل أخرى فاعلة، مثل الاتحاد الإسلامي لأجناد الشام، وألوية الحبيب المصطفى، يتفق في العنوان حول إقامة دولة إسلامية، ويختلف على الطريقة والتوقيت والمنهج... إلخ. وثالثها: مشروع محلي: تمثله فصائل الجيش الحر المتناثرة في الجغرافيا السوريّة (جبهة ثوار سورية، حركة حزم، فيلق الشام، شهداء اليرموك، المجالس العسكرية). وعلى الرغم من البعد الوطني (الثوري) لهذا المشروع، إلا أنه افتقد المرجعية التنظيمية، بعد حادثة الهجوم على مستودعات الأركان، فبقيت فصائله مرتبطة بغرف العمليات العسكرية في تركيا والأردن.
كان ينظر للانقسام والتشرذم، خلال عامي 2011 و2012، على أنه يؤخر انتصار الثورة، لكنه، وبعد تغيير موازين القوى لصالح النظام، منتصف عام 2013، جرى التعامل معه كأحد الأسباب الرئيسية للهزائم المتتالية التي منيت بها المعارضة المسلحة، والذي قد يؤدي إلى هزيمة الثورة وفكرتها ككل. تأسيساً على ما سبق، ظهرت نداءات على مستوى مناطقي، تطالب الفصائل بالاندماج والوحدة، لمواجهة الأخطار المحدقة بالثورة، ولا سيما في مدينة حلب، فجرى تأسيس غرف مشتركة، وحصلت اندماجات عدة، لكنها لم تستطع إيقاف تمدد النظام والميليشيات المرتبطة به، فجاءت مبادرة "واعتصموا" 3 أغسطس/آب 2014، صرخة أطلقها مشايخ دين وطلاب العلم الشرعي، وفي مقدمتهم الشيخ حسين الدغيم، لجمع الفصائل السوريّة، على اختلاف مشاربها، على أهداف مشتركة، وضمها في مجلس واحد، وانتخاب قيادة سياسية تمثلها.
" مشروع الجبهة الإسلاميّة لم يكن أوفر حظاً من المشاريع السابقة، فقد مضى على إعلانه عام، من دون أن يحقق أهدافه التي طرحها عسكرياً، أو سياسيًا "
مثلت المبادرة، ظاهرياً، أكبر اجتماع للفصائل السوريّة، فقد جمعت، لأول مرة، فصائل في الجبهة الإسلامية وفصائل إسلامية أخرى، كالاتحاد الإسلامي لأجناد الشام، وغالبية فصائل الجيش الحر (جيش المجاهدين، جبهة حق، كتائب شهداء سورية، نور الدين الزنكي، حركة حزم، فيلق الشام، الفرقة 13، ألوية الأنصار، الفرقة 101). واستطاعت لجنة المتابعة، وعلى الرغم من العقبات الكثيرة، أن تضع المبادرة الشفوية موضع التطيبق العمليّ، بجمع الفصائل الموقعة، وفصائل أخرى جديدة، في اجتماع عقد في مدينة غازي عنتاب التركيّة 29 نوفمبر/ تشرين الثاني 2014، وانبثق منه مجلس قيادة الثورة السوريّة، وانتخب قيس الشيخ رئيسا له.
ما الجديد؟
شكليا، لا يختلف المجلس الجديد عن التجارب الاندماجية السابقة، إذ يقوم على النيات الحسنة، ورغبة الفصائل الظاهرية في الاندماج والوحدة، ضمن جسم تنظيمي موحد. لكن، ما يميز المجلس أن القائمين عليه، وعلى الرغم من أن بيانه التأسيسي يحث الفصائل على الاندماج والوحدة، يقرون بصعوبة هذا الاندماج، وينطلقون من واقعه، ولا يطمحون، آنياً، لنسفه أو تجاوزه، بل في التقليل من مضاره وتداعياته. لذلك، جرى اعتماد مبدأ تمثيل الجبهات، وليس تمثيل الفصائل. كما أنه يهدف، وبخلاف ما يظهر في البيان التأسيسي، للتنسيق على المستوى السياسيّ التكتيكي، أكثر منه على المستوى العسكري الميدانيّ. فالمشهد السوريّ مزدحم بالمبادرات السياسيّة، وكان جديدها طرح المبعوث الدوليّ، ستيفان دي ميستورا، تجميد القتال في مدينة حلب السوريّة. وبناء عليه، فإن مجلس قيادة الثورة الجديد يعي واقع التشرذم، وصعوبة التوحد الفصائلي، لكنه يحاول أن يكون منبراً سياسياً للكتائب، لجهة اتخاذ موقف موحد مما يطرح.
" تحولت الجبهة الإسلاميّة إلى مشروع خاص بحركة أحرار الشام "
ولعل المتمعن في البيان التأسيسي يدرك أنه انطلق من مسلمات وأهداف عامة، تشترك عليها جميع الفصائل (إسقاط النظام، استقلالية القرار السوري، العدالة، الحرية، سيادة القانون، رفض الممارسات الخاطئة وظاهرة التكفير... إلخ)، وتقصد تجاهل القضايا الإشكالية، كالدولة الديمقراطية أو تحكيم الشريعة، الموقف الواضح من الائتلاف، التحالف الدولي وغيرها.
وأخيرًا، وبالنظر إلى التباينات الفصائلية القائمة، وتراجع حضور فصائل الجيش الحر في مقابل ازدياد نفوذ جبهة النصرة، فإنه من الصعوبة بمكان القول إن المجلس يشكل نقلة نوعيّة في مسار العمل المسلح السوريّ، من دون أن يعني ذلك تبخيس جهود القائمين عليه، ومساعيهم الحثيثة، في توفير ما يلزم لزيادة التنسيق بين الفصائل المسلحة على المستوى الوطني، وتجاوز البعد المناطقي أو الأيديولوجي، وحل خلافاتها المعقدة، أو التخفيف منها، والتشاور للوصول إلى مواقف سياسية موحدة، أو جامعة.
ليس خبراً مهماً، مقارنة بغيره من أخبار سورية، منعُ الشبان والرجال السوريين المولودين بين 1972 و1995 من مغادرة البلاد، من دون موافقة من شعبة التجنيد تُبيّن أنهم غير مطلوبين للخدمة العسكرية الإلزامية أو الاحتياطية. قبل ذلك أصدر النظام قرارات عدة، بعضها وضع قيد التنفيذ بلا إعلان، منها مثلاً إلزام الأطباء دون سن الخمسين بالحصول على تصريح من شعبة التجنيد، إذا قرروا السفر، وأيضاً إعداد لوائح بثلاثين ألف مطلوب للخدمة الاحتياطية فقط في القسم الذي يسيطر عليه من حلب. كل القرارات الشبيهة فُسّرت بالنقص العددي الذي يعانيه النظام نتيجة استنزاف قواته في المعارك، وهو تفسير صحيح، لكن الأخطر في مجمل الآثار المستقبلية على الشريحة العمرية الفعالة في سورية.
الفئة المستهدفة، كما هو واضح، هي التي يُفترض بها حمل عبء النشاط الاقتصادي والحراك الاجتماعي. من هذه الفئة تحديداً تشير التقارير إلى مقتل ما يقارب نصف مليون شاب، إما في المعارك أو تحت القصف أو في معتقلات النظام، وعليها أيضاً وقعت نسبة كبيرة من الإعاقات الجسدية والنفسية في السنوات الثلاث الأخيرة، فضلاً عن أنها الفئة التي «بسبب كل ما سبق» هي الأكثر نزوحاً خارج البلاد. وتجدر الإشارة إلى أن قرارات منع السفر تؤدي مفعولاً عكسياً، إذ تسعى الفئة المستهدفة إلى الالتفاف عليها عبر الفساد، وتُفاقم تالياً من نزوحها، هكذا على سبيل المثال بلغ شحّ الأطباء في أماكن سيطرة النظام حداً غير مسبوق، وبلغت نسبة الهاربين من الخدمة الإلزامية حداً غير مسبوق حتى في بيئات تُصنّف مؤيدة ولم تشهد ظاهرة التخلف عن الالتحاق بالجيش من قبل.
النظام بقراراته يضع المستهدفين أمام خيارين، فإما المشاركة في حربه أو مغادرة البلد، ويُذكر أن حزب الاتحاد الديموقراطي فرض نوعاً من التجنيد الإلزامي أيضاً في المناطق الكردية، ما تسبب في نزوح عدد كبير من الشبان المتبقين فيها، وسبق لبعض الفصائل المعارضة في غوطة دمشق، على رأسها جيش الإسلام، إعلان التجنيد الإلزامي في مناطق سيطرتها، القرار الذي لم يدخل التنفيذ الجاد لكن يُحتمل ألا تختلف آثاره إلا بسبب الحصار الخانق الذي يفرضه النظام ويمنع الراغبين من المغادرة.
في كل الأحوال، يتم تغليب مقتضيات الحرب على ما عداها، وفي المقدمة تغليبها على اعتبارات الحرية الشخصية، لكنْ إلى جانب هذا تماماً يُقضى على الحد الأدنى من المقومات الاقتصادية للعيش بسبب الخيارين المذكورين، وهي ضربة تكاد تكون قاصمة ونهائية في ظل المعطيات الحالية، إذ توزّع مستهدفيها بين قتيل محتمل ونازح لن يعود.
الدراسات القليلة عن الخسائر السورية منذ انطلاق الثورة، بما فيها تلك الصادرة عن منظمات دولية، تلجأ إلى تخمينات تحاول مقاربة الواقع، لكن أيّاً منها لا يشير إلى هذا النوع من النزيف البشري والاقتصادي تخصيصاً له من أزمة النزوح والإبادة ككل. إذ من المحتمل جداً، في مجتمع كان يُصنّف شابّاً، أن يخسر ميزته هذه نهائياً مع توقف الحرب، أي في الوقت الذي سيكون في أمسّ الحاجة إليها لإعادة الإعمار. ومن المحتمل جداً، في حال طال أمد الصراع، أن تحتاج سورية إلى ما لا يقل عن مرور جيلين لتعويض النزيف البشري الهائل من شبابها.
الملاحظ على هذا الصعيد أن شحّ الدراسات وأرقامها المتفائلة قياساً إلى الواقع ناجم عن تسييسها. فالمنظمات الدولية بذريعة فقدانها مصادر موثوقة للمعلومات لا تريد الوصول إلى إعلان سورية منطقة منكوبة بما للإعلان من تبعات، ولا تريد التعاطي مع الآثار المستدامة للصراع على «أمل» بقائه حالة طارئة. أما النظام فليس من مصلحته الكشف عن الأرقام التي يملكها أمام مؤيديه، في حين تتراوح هيئات المعارضة بين التقليل من شأن الخسائر لتشجيع الداعمين وبين المبالغة أحياناً من باب التسييس الفاقع.
التقليل من هول الكارثة هو من الآليات المشتركة بين أطراف عدة، وهو يضمر التلميح إلى غنى الموارد البشرية على نحو مبالغ فيه جداً، فضلاً عن حساسيته الأخلاقية المتدنية تجاه القتلى.
من جهة أخرى، يتعاطى أولئك مع قضية النزوح بصفتها حدثاً طارئاً سينتهي مع انقضاء الحرب، بينما تدل تجارب أقل بؤساً على عدم عودة النازحين إلى بلدانهم تلقائياً بعد انتهاء الصراع، ومن المرجح ضمن الفئة العمرية المعنية ألا تعود سوى نسبة ضئيلة جداً بعدما وطنت نفسها في بلدان النزوح. تنبغي الإشارة إلى أن هذه الفئة هي الأقل نسبة ضمن المخيمات لأنها تحظى بفرص خارجها، إما بموجب الكفاءة أو كقوة عمل في مهن لا تتطلب المهارة، وفي الحالتين فعودتها غير متوقعة إلى بلد منهار.
يمكن وصف ما يحدث الآن، وما لم تظهر آثاره الكلية بعد، بعملية تصحّر اقتصادي كبرى حتى في مناطق سيطرة النظام المستقرة نسبياً. فانتزاع قوة العمل الأساسية أدى إلى تدهور كبير على المستويين الصناعي والزراعي في البيئات التي لم تنل منها الحرب مباشرة، والأخطر أن ذلك الانتزاع ترافق مع نمط اقتصادي مليشيوي صنعه النظام بثقافة التشبيح والسلب. بهذا المعنى، فالتدهور لن يكون عارضاً وموقتاً لترافقه مع تدهور قيمي يرى في القوة السبيل الأقصر إلى الثراء، ومعالجة هذا الواقع ستكون عسيرة وطويلة أسوة بعمليات مكافحة التصحر، وستقتضي العمل الشاق على إعادة تأهيل العامل البشري أسوة بتأهيل المصانع أو الأراضي الآخذة بالتصحر بفعل الإهمال وسياسة الأرض المحروقة.
ما يزيد اللوحة سوداوية وضع الأطفال الذين يُفترض بهم لاحقاً سدّ الفراغ. فالجيل الحالي منهم موزّع بين مخيمات اللجوء وأماكن النزوح الداخلي، والنسبة الغالبة منهم لا تتلقى الحد الأدنى من المهارات التعليمية أو الخدمات الضرورية، ويصح الجزم بأن الأطفال في مناطق سيطرة النظام ليسوا في حال جيدة أيضاً من هذه الناحية، أي أننا أمام جيل شاب قادم بحاجة ماسة إلى إعادة تأهيل، إذا كانت عودة قسم كبير منه إلى البلد متاحة. هذه سورية التي لا يكترث العالم بـ «صندوقها الأسود»، ويطالب من نجا فيها من محرقة الأسد بالتطوع لمحاربة الإرهاب.
منـــذ عامين، لـــم تــعد ثورة السوريين هي ذاتها، فقد باتت في مـــجال آخـــر، في موضوعاتها، وخطاباتها، ومشـــكلاتها، وفي مسـار آخر نسبة لأشكال عملها، والقــــوى المؤثرة فيها، إلى درجة يبدو معها إنكار ذلك بمثابة تعمية على الواقع، او ميلاً لاستمراء العيش على الأوهام، وهو ما لا يخدم قضية السوريين.
ثمة عوامل عدة ساهمت في حصول هذه الانزياحات، ضمنها، أو الأساسي فيها، تفلّت النظام من أية قواعد، أو حدود، سياسية أو أخلاقية، في استخدامه القوة العسكرية الغاشمة لفرض سيطرته، في محاولته قتل تطلع السوريين المشروع للحرية والتغيير السياسي. وقد يجدر التذكير هنا أنه منذ تموز (يوليو) 2012، مثلاً، بات عدد ضحايا القصف الجـــوي والمدفعي بين أربعة إلى خمسة آلاف، كمعدل شـــهري (وفي أشهر معينة وصل الى ستة آلاف)، بعد ان كان يتراوح بين الف والفين، علماً ان عددهم كان بين 600 ـ 800 في أول ستة أشهر من اندلاع الثورة، أي الأشهر السلمية، حيث لم يكن وقتها لا سلاح ولا مسلحون، وبالطبع لا «داعش» ولا «نصرة» ولا «علوش».
وقد يجدر لفت الانتباه هنا إلى ان توحّش النظام ترتّب عليــــه، ليس قمع الحراكات الشعبية فحسب، وإنما تحـــويل الثـــورة مـــن حالة صراع على السياسة والسلطة، إلى حالة صراع على الوجود والهوية، وهـــذا هو الأخطر، وهو ما نجح النظام فيه، وأكسبه عنصــر قوة مضافة، وهو ما لم يكن بالإمكان تداركه وتفـــويته، بسبب تدني الوعي بمخاطر هذا التحول، وبحكم الطابع العفوي للثورة، وغياب الاجماعات بين القوى التي حاولت تصدرها، او التعبير عنها.
في المحصلة فإن القوى المعنية لم تنتبه جيداً لاستراتيجية النظام الرامية لحرق الأرض من تحت «أرجل» الثورة، وتصحيرها، وحرمانها من البيئات الشعبية الحاضنة لها او المتعاطفة معها، بل تحويل قطاعات واسعة من السوريين، تُقدر بالملايين، إلى حالة تثقل على الثورة بدل ان تكون حاملاً، او حاضناً لها، وهو ما توج بحرمانها من عمقها الشعبي. هكذا تمت عملية إزاحة غالبية المجتمع السوري من المشهد، إن مع وجود «طوائف» الخائفين والحائرين والقلقين، أو بحكم استهداف البيئات الشعبية الحاضنة للثورة بالحصار والتقتيل والتدمير، كما بسبب تشريد أهالي مدن بأكملها، داخل وخارج سورية.
يأتي ضمن العوامل، التي أخرجت الثورة عن مســـارها، تلكؤ المجتمع الدولي عن تحمل مسؤولياته إزاء تحديد مستوى العنف، ووضع حدود للسيطرة عليه، أو إزاء إيجاد حل سياسي للمسألة السورية. والـواقع فإنه في هذين الأمرين تعرضت ثـــورة السوريين لانتكاسة خطيرة، وربما إلى نوع من «خيانة»، سواء مع وعود التدخل مختلف الاشكال، أو مع تغذية الأوهام بشأن «الخطوط الحمر»، من نوع «حلب خط احمر»، و «الكيماوي خط احمر»، وصولاً إلى الحديث عن اعتبار النظام غير شرعي، وأن على الأسد ان يتنحى، مروراً بوعود الدعم المادي والتسليحي والسياسي، وهي وعود او أوهام ساهمت فيها قوى دولية وإقليمية وعربية معروفة.
المشكلة أنه على هذه الوعود، والأوهام، جرى رفع مستوى وتيرة الصراع في سورية، ليس من حيث مقاصده، وإنما من حيث اشكاله، ووتائره، او الرؤية التي جعلته يسير على النحو الذي سار عليه. أي ان السوريين، من غير ذلك، كان بإمكانهم ان يسيروا على نحو آخر، ربما أكثر تأثيراً، وفاعلية، حتى لو كان اطول زمناً، لكن بأثمان وأكلاف وعذابات أقل، هذا بالقياس إلى الأهوال التي اختبروها طوال الأعوام الأربعة الماضية.
على أية حال ترتبت على وحشية النظام، وسلبية المجتمع الدولي، والمداخلات الخارجية المضرة، من الأعداء و «الأصدقاء»، عدة ظواهر، أولاها، انحسار الثورة السورية، وخروج الوضع من تحت سيطرتها، من دون ان يعني ذلك انتهاءها، بدلالة تراجع مكانة إطاراتها، او تعبيراتها، السياسية والعسكرية والمدنية والإغاثية. وثانيتها، تحول سورية ساحة مفتوحة، للصراعات الدولية والإقليمية والعربية، على المشرق العربي، بمعزل عن مصالح السوريين، وبما يضر الثورة والمجتمع. وثالثتها، تصدر الجماعات المسلحة المتطرفة والتكفيرية، التي تتغطى بالإسلام، والتي يصعب التمييز بين كونها معطى داخلياً، وبين كونها معطى خارجياً، او كنتاج للمداخلات المخابراتية، الدولية والإقليمية والعربية المتضاربة.
طبعاً، ليس ثمة مجال هنا للحديث عن أنه كان بالإمكان أفضل مما كان، لأن القول بذلك مجرد تعبير نظري، إذ إن الواقع، او التاريخ، يشتغل على النحو الذي يتشـــغل عليه، بمعزل عن النوايا، وعن النظريات. والمعـــنى أنه لم يكن متاحاً للسوريين، ولا بأي شكل، ثــورة، أو حراكات شعبية، على المسطرة، او بحسب التنظيرات الكلاسيكية المعروفة، لأن المقدمات التـــي تؤدي إليها لم تكن متوافرة اصلاً، ولا كان من الممكن توفرها في المدى المنظور، فما كان متوافر هو استمرار الاستبداد فقط، واستمرار حال تغييب وامتهان السوريين، ومصادرة حقوقهم كبشر.
هذا لا يلغي ناحيتين، اولاهما، أن القوى، أو الشخصيات، التي تصدرت الثورة السورية لم تثبت ذاتها، حتى بالمعنى النسبي، بخاصة أنها لم تحافظ على مكانتها إزاء المداخلات الخارجية المضرة، ومالت أكثر نحو الارتهان لهذه القوى، على حساب مصلحة السوريين، وسلامة مسار الثورة السورية. وثانيتهما، أن الموازنة بين كلفة الثورة، وضرورتها، في هذه الظروف تبقى مجالاً للتساؤل لا سيما على الصعيد الأخلاقي، ومع كل الأكلاف والعذابات والمعاناة التي كابدها السوريون، والتي بالتأكيد يتحمل النظام المسؤولية الأساسية فيها. ذلك ان مسؤولية اية ثورة تقليل الاكلاف، لا زيادة وطأتها، او التعامل معها من دون مبالاة وكأنها تحصيل حاصل.
ثمة قضايا ومشكلات وتعقيدات كثيرة اعترضت ثورة السوريين، واعاقت طلبهم الحرية والكرامة والتغيير السياسي، وساهمت في كل الخراب والتشقق في أحوالهم، وفي رؤيتهم لذاتهم، ينبغي تداركها، والعمل على ترميمها، لأنه من دون ذلك قد تذهب هذه الثورة من الانحسار إلى الأفول، وربما يصبح الوضع السوري حينها مجرد لعبة للصراعات الدولية والإقليمية.
تقول التجربة إن الحروب الأميركية قد تكون أكبر مصادر الخطر على حلفاء أميركا. هذه حقيقة، خصوصاً بعد الحرب العالمية الثانية. يعرف الكوريون والفيتناميون والأفغان ذلك جيداً. الآن هناك حرب جديدة على تنظيم «الدولة الإسلامية» (داعش)، مضى عليها أكثر من خمسة أشهر، ولم يتضح شيء في شأنها بعد. لا أحد يعرف شيئاً عن هدفها الاستراتيجي، ولا إن كانت حرباً على «داعش»؟ أم على الإرهاب؟ والمربك في ذلك أنه من الممكن جداً هزيمة هذا التنظيم، خصوصاً أمام تحالف يضم أكثر من 30 دولة بقيادة أميركا. فهذا تنظيم معادٍ للجميع تقريباً: للعرب، وللغرب. ومعادٍ لغالبية المسلمين سنّة وشيعة، وللمسيحيين، والإزيديين، وغيرهم، الأمر الذي يجعل أو يفترض أن يجعل مهمة تقليص وجوده ودوره وصولاً إلى تدميره، كما يقول الرئيس الأميركي أوباما، في متناول اليد. لكن تجربة الحرب على «القاعدة» تؤشر إلى أن الأمر ليس بالسهولة التي قد تبدو عليها. فبعد أكثر من 13 عاماً لا يزال تنظيم «القاعدة» نشطاً في اليمن، والعراق، وسورية، والمغرب العربي. ضعف تنظيماً وإمكانات، لكنه ضعف لم يؤذن بنهاية التنظيم، ونهاية الإرهاب. على العكس، تبيّن الآن أن ضعف «القاعدة» كان إيذاناً بموجة إرهابية جديدة أعتى وأكثر خطورة.
يأتي تنظيم «داعش» على رأس هذه الموجة، وهي موجة دشنت أكبر وأخطر حرب أهلية على أسس مذهبية في التاريخ الحديث للمنطقة العربية. أميركا هي المسؤول الأول عن إطلاق هذه الموجة، لأنها بدأت من العراق تحت الاحتلال الأميركي. آنذاك سلمت واشنطن الحكم ومسؤولية إعادة بناء الدولة ليس للعراقيين كمواطنين، وإنما للقوى الشيعية التي تعاونت معها في الاجتياح كمعارضة للنظام السابق. وبالتوازي مع ذلك سمحت وبشكل لافت بتنامي النفوذ الإيراني داخل مؤسسات الدولة الوليدة. ووصل الأمر إلى أن النفوذ الأميركي يتراجع أحياناً أمام النفوذ الإيراني. واتضح ذلك في حال رئيس الوزراء السابق نوري المالكي. كانت إدارة أوباما تفضّل إياد علاوي لرئاسة الحكومة بعد فوزه في انتخابات 2010. لكن علاوي بالنسبة إلى طهران خط أحمر، لذلك كان من نوادر التقاليد الأميركية في السياسة الخارجية أن تذعن، وهي الدولة المحتلة، لخيار تولي المالكي رئاسة الحكومة على رغم خسارته الانتخابات، وعلى رغم أنه خيار إيران، الدولة التي ليست لها علاقات ديبلوماسية مع واشنطن، بل هي في حال عداء معها.
هنا تكمن خطورة السياسة الأميركية. وهذا واضح في أن إدارة أوباما الحالية بعد انسحابها من العراق ترهن سياستها في المنطقة، وتحديداً في العراق وسورية والخليج العربي، بالاتفاق النووي مع طهران، وما يمكن أن يفضي إليه من تفاهمات إقليمية معها. في السياق نفسه، يتعامل أوباما مع الحرب على الإرهاب في المنطقة، وعلى «داعش» تحديداً، انطلاقاً من الارتهان نفسه، أي أنه لا يريد أن يلزم نفسه بخطة واضحة الأهداف في هذه الحرب قبل أن تتضح معالم مستقبل علاقته مع إيران. الأكثر من ذلك أن التحالف الدولي ضد «داعش» سمح لإيران بالمشاركة في هذه الحرب، من دون أن تكون عضواً رسمياً في التحالف، لكنها عملياً وبمشاركتها عضو فيه (انظر صحيفة الـ«نيويورك تايمز»، 3 كانون الأول / ديسمبر الجاري). وإذا أخذنا الاختلافات بين أميركا وحلفائها العرب حول العراق وسورية وإيران، أمكن القول بأن التحالف ضد «داعش» يتشكل عملياً من دول لا يجمع بينها إلا أمر واحد، وهو هزيمة «داعش». ما عدا ذلك تبدو صورة الوضع غامضة إلى حد الإرباك. وهنا مكمن الخطر. على خلفية ذلك، لم يعد من الممكن وضع خطة أو استراتيجية واضحة تكون الحرب على «داعش» جزءاً منها، وتكون هزيمة هذا التنظيم أحد أهدافها وليست هدفها الوحيد. لذلك ظلت هذه الحرب وقد مضى عليها أكثر من خمسة أشهر الآن غامضة، وتثير الكثير من الأسئلة التي لا يجد أحد جواباً عليها. مثلاً، ما هو الهدف من هزيمة «داعش»؟ سيقال أن هزيمة «داعش» هزيمة للإرهاب. لكن هذا يختزل الإرهاب في تنظيم واحد. ثم إن مثال تنظيم «القاعدة» وما آلت إليه الحرب عليه يقول عكس ذلك. ضَعُف تنظيم «القاعدة»، ولم ينهزم الإرهاب ولم يضعف، بل تفاقم. الآن إلى جانب «القاعدة» هناك مئات، بل ربما آلاف الميليشيات الإرهابية. السؤال الثاني: ماذا بعد هزيمة «داعش»؟ ما الذي ينبغي فعله بعد ذلك؟ بعبارة أخرى، ما هو الهدف التالي لهزيمة «داعش»؟ لا أحد يعرف إجابة على هذا السؤال. ما هي علاقة «داعش» وظاهرة الإرهاب في العراق تحديداً بالاجتياح الأميركي لهذا البلد، وبالدور الإيراني في هذا الاجتياح، وبالطريقة التي تمت بها عملية إعادة بناء الدولة العراقية بعد تدميرها على يد الاحتلال؟ ثم ما هي علاقة الإرهاب الذي بدأ في العراق بالحرب الأهلية في سورية؟ تفضّل إدارة أوباما الفصل بين الحالين، وهي تعرف أنهما غير قابلتين للفصل. يكفي أن إيران و«داعش» وأخواته، والميليشيات الشيعية عامل مشترك بين ما يجري في العراق، وما يجري في سورية. لكن كيف يمكن تفادي هذا التخبط من دون خطة، ومن دون استراتيجية؟ سؤال ثالث: لماذا يسمح بمشاركة ميليشيات شيعية عراقية وغيرها في الحرب على «داعش»؟ هذا يؤجج الشحن الطائفي، ويزيد أوار حرب طائفية يراد إخمادها. ثم إن السماح بمشاركة هذه الميليشيات يضع شبهة لا حاجة لأحد بها، وهي أن الحرب على «داعش» هي أيضاً حرب على فريق مذهبي بعينه من فرق الإرهاب. وهذا ما تتردد أصداؤه الآن في المنطقة، ويمثل خطورة على الجميع. والسماح بمشاركة ميليشيات هي في الواقع إرهابية يجعل منها عملياً حليفاً لدول تحارب الإرهاب في المنطقة.
بقاء هذه الأسئلة من دون إجابات يؤكد المؤكد، وهو أنه ليست هناك خطة، أو استراتيجية لمحاربة الإرهاب، بما في ذلك «داعش». كما ذكرت هزيمة «داعش» ممكنة جداً، لكنها لن تكون نهاية للمشكلة، بل قد تؤدي إلى استئناف جديد لها. ما لم تكن الحرب على الإرهاب حرباً عليه كمفهوم، وسلوك، وقيم وسياسات، وتنظيمات، فإنها ستكون من الحروب التي تلد إحداها الأخرى. وتاريخ حروب أميركا لا يطمئن كثيراً. نجحت في عاصفة الصحراء لتحرير الكويت، وفي كوسوفو إلى حد ما. لكنها فشلت في كوريا، وفيتنام، وأفغانستان، والعراق. وأهم ما يميز حروب واشنطن الفاشلة أنها كانت من دون استراتيجية واضحة. وافتقار الحرب على «داعش» لخطة واضحة هو ما سمح لإيران بأن تكون طرفاً مشاركاً فيها، وهي الدولة الطائفية، التي تنشئ وتتبنى ظاهرة الميليشيات الإرهابية كأداة لدورها الإقليمي في المنطقة. تمثل مشاركة إيران أحد العوائق الآن أمام وضع خطط سياسية وفكرية وتربوية ضد الإرهاب كمفهوم، وكظاهرة تهدد الجميع. ولأن الإرهاب في مرحلته الحالية ينطلق من الطائفية، وإيران لا تستطيع محاربة الطائفية لأن نظامها السياسي تأسس عليها، وتعتاش منها في سياستها الإقليمية، فكيف يمكن وضع خطة في هذه الحال؟ المدهش أن الدول العربية المشاركة في التحالف قبلت أولاً بحرب من دون خطة واضحة بمراحلها وأهدافها، وقبلت ثانياً، أو لم تعترض على مشاركة إيران في هذه الحرب وفقاً لأجندتها هي، وليس أجندة أحد آخر. هل يعني هذا ضرورة مقاطعة إيران؟ ليس بالضرورة. لو كانت للتحالف استراتيجية واضحة مشتركة، لكانت مشاركة إيران في إطار هذه الاستراتيجية، وليس خارجها. لكن ليس هذا ما تريده واشنطن الآن. وكثير مما لم ترده واشنطن في حروبها السابقة تسبب في إرباكها، وإرباك حلفائها، وأخيراً تسبب بفشل حروبها السابقة. هل سيكون هذا مآل الحرب الحالية على «داعش»؟ إذا استمرت الأمور على ما هي عليه، لا ينبغي استبعاد ذلك.