مقالات مقالات رأي بحوث ودراسات كتاب الثورة
٢٤ ديسمبر ٢٠١٤
ما وراء اتهامات طلاس للأسد؟

خـرج مناف طلاس من ســوريــا في ٥ تموز عام ٢٠١٢ بمساعدة من المخـــابــرات الفرنسيــة واستــقر في باريس، ومنذ ذلك الحيـــن لم يقــم بأي تحــرّك ضد النظام السوري، والبعض قال إنــه "حصان طروادة" الذي تعمّد صديقه بشار الأسد إنزاله وراء خطوط المعارضة كخلية نائمة في انتظار الوقت المناسب.
هذا يرسم معالم سؤال ضروري:
لماذا سكت مناف سنتين ونصف سنة عن القتل والمذابح المروعة والكيميائي وعن الدمار وهدم بلدته الرستن وهو سكوت يساوي دهراً، ليستيقظ فجأة ويعطي حديثاً لصحيفة "الوول ستريت جورنال"، يسوق فيه جملة من الإتهامات الى بشار الاسد، ومنها أنه أصر على المذابح ضد المتظاهرين وباع سوريا الى ايران، وهذا ليس خافياً على أحد؟
سكوت مناف، وهو ابن وزير الدفاع مصطفى طلاس أحد أبرز اعمدة النظام والذي غادر دمشق أيضاً، كل هذا الوقت ليس مهماً، المهم لماذا اختار مناف وقد كان أحد أبرز أصدقاء الأسد، ان يخرج الآن فجأة من الظل ويدلي بهذا الحديث بعدما رفض سابقاً التصريح والمقابلات الصحافية؟
قبل اسبوعين سرّب مناف معلومات عن انه يرفض أي حل يروّج له ستيفان دو ميستورا وراء الجدران، لكن حديثه الآن أثار شياطين الأسئلة عند المراقبين، وخصوصاً بعد ربطه بما تردد قبل عشرة أيام من ان دو ميستورا يعمل لجعل الإتفاق على تحييد حلب مدخلاً متدحرجاً، للتوصل الى تنفيذ اتفاق غير مكتوب (لا ورقة) تم التوصل اليه بين موسكو وايران ولا تعارضه واشنطن وهو ينص على ما يأتي:
إبقاء الأسد مدة سنتين بعد جمع فصائل المعارضة والنظام في خندق واحد لمحاربة الارهابيين، على ان يكون علي حبيب نائباً له، وتشكيل حكومة برئاسة رياض حجاب يكون مناف طلاس وزيراً للدفاع فيها، بينما يتولى معاذ الخطيب الذي زار موسكو اكثر من مرة رئاساة هيئة المصالحة الوطنية.
الكلام العالي ضد الاسد وايران لا يعني شيئاً في الحساب السياسي اذا صحت نظرية الحل الذي يسعى دو ميستورا وراءه، بل على العكس هذا كلام مطلوب ليكون طلاس مقبولاً عند المعارضة التي تعتبره ظلاً لبشار الاسد.
بالعودة الى اتهام مناف النظام بأنه هو الذي فجّر مبنى الأمن القومي فقتل آصف شوكت وداود راجحة وهشام بختيار وحسن تركماني، فهذا ليس جديداً، الجديد كشفه ان الاسد حاول اغتياله بست عبوات ناسفة، ولكن هذا يطرح سؤالاً آخر: اذا كان خلافه مع الأسد انفجر في ١١ أيار ٢٠١١، فكيف بقي في دمشق رغم محاولة اغتياله الى ٥ تموز من عام ٢٠١٢ ليغادر سوريا؟
أم انه يسوّق نفسه تمهيداً للصعود الى قطار دو ميستورا؟

اقرأ المزيد
٢٤ ديسمبر ٢٠١٤
الإبادة الجماعية المنظمة في سوريا

أكثر من سنوات ثلاث، ولا يزال المجتمع الدولي فاقدا القدرة على لجم ارتكاب المجازر البشعة في سوريا، وعلى الرغم من عمليات التوثيق الواسعة، المتسمة بالدقة والمصداقية، فإن المنظمات الدولية المعنية بانتهاكات حقوق الإنسان، لم تستطع إقناع مجلس الأمن بضرورة اتخاذ موقف ملزم للنظام السوري، بوقف تلك الجرائم الدموية المستمر في ارتكابها.

ولعل القرار الصادر مؤخراً عن الجمعية العامة للأمم المتحدة، بإدانة انتهاكات حقوق الإنسان في سوريا، يوضح مبلغ التهاون الدولي في قضية إنسانية كبرى، من مهامه الحيلولة دون وقوعها. وهو في الواقع مجرد قرار غير ملزم، ولا يتضمن أي آليات من شأنها حماية الحقوق والحريات، وإحالة ملف انتهاكات النظام السوري إلى مجلس الأمن، ومن ثم إلى محكمة الجنايات الدولية، أو إنشاء محكمة دولية خاصة بسوريا، نظير الجرائم والمذابح المرتكبة منذ مارس 2011، بصورة ممنهجة.

الإشكالية الأساسية تكمن في أن آليات اتخاذ القرار في مؤسسات المجتمع الدولي (الأمم المتحدة) تعتمد بدرجة كبيرة على مبدأ التوافق، خشية اصطدام أي مشروع قرار بحق النقض، ما يجعل من اتخاذ أي قرار بمعاقبة نظام بشار الأسد أو محاسبته، أمرا مرتهنا بتطورات الأزمة والصراع في سوريا، وبالتوافق الدولي، خاصة أن روسيا والصين لن تتأخرا في استخدام الفيتو دعما لنظام الأسد وحماية له.

يضاف إلى ذلك، ضعف المعارضة السورية، وعدم قدرتها، حتى اليوم، على حشد رأي عام دولي، حقوقي بالدرجة الأولى، مساند ومتبنٍّ لفكرة حماية السوريين من انتهاك الحقوق والحريات، وداعم لمسألة المحاسبة عبر المحاكم الدولية.

يكاد لا يمر يوم، منذ قرابة أربعة أعوام، دون أن تكون هناك مجزرة جديدة، والضحايا في غالبيتهم مدنيين. هذه هي الصورة الأشد قتامة في المشهد السوري الذي عمّدته دماء وأرواح ربع مليون إنسان، شكلت ذروة لا متناهية في مدى الإجرام الذي وصلت إليه عصابات الأسد، التي خيّرت السوريين ما بين حرق البلد.. أو الرضوخ لبشار الأسد.

لم تكن تلك العبارة نسج خيال، أو نتاجا لتفاعلات الصدام الذي تطور نحو التسلح، بين طلاب الحرية، ومنظومة الدكتاتورية التي تجذرت أظلافها في الجسد الوطني. لكن عبارة “الأسد أو نحرق البلد”، كانت بمثابة إطلاق لإستراتيجية المواجهة والحل الأمني، الذي التزم به النظام مدعوما من إيران وروسيا. فأعمل في حرق البلد بشكل ممنهج وفعّال، بوسائل مختلفة، من الرصاص الحيّ في البدايات، حتى استخدام الكيمياوي، مرورا بالذبح بالسكين، قبل أن تقوم بذلك “داعش” وأخواتها، بسنتين على الأقل، في البيضا وبانياس والحولة.

كانت المجازر منهجية متكاملة الأبعاد، ليس لبث الرعب، بل لمعاقبة السوريين، لخروجهم مطالبين بالحرية والكرامة، لم يكن هدفهم البحث عن رغيف الخبز، الذي صار داميا فيما بعد بأكثر من مجزرة. ولكنها أيضا أنجع وسيلة للخراب، والأهم إفراغ البلد من القدرات البشرية المهولة التي يقوم عليها عبء استنهاض سوريا وإنمائها، لما بعد الحقبة الأسدية. واليوم قرابة 40 بالمئة من السكان، هم لاجئون ونازحون مهجرون. لعبت المجازر دورا بارزا في ذلك. وهي حلقة جديدة استخدمها النظام طوال 45 عاما، في سياسة التغيير الديمغرافي للمجتمع السوري، وخاصة التجمعات المدنية الكبرى، مثل مراكز المدن السورية؛ دمشق وحمص وحلب.

في كل يوم مجزرة: تم توثيق 33 مجزرة في شهر نوفمبر الماضي، توزعت على كامل الأراضي السورية، إلى حدّ ما، كان للرقة النصيب الأكبر من حيث الوحشية الدامية وعدد المجازر وحصيلتها من الضحايا. ارتكب نظام الأسد فقط واحد وثلاثون مجزرة، فيما ارتكبت كل من “داعش” وأخواتها مجزرتين اثنتين، في الشمال السوري. وطوال سنوات المحنة السورية، اتسمت تلك المجازر بأنها موجّهة بصورة خاصة لاستهداف المدنيين، والتجمعات السكنية والأسواق الأكثر كثافة، وفي ساعات الذروة، وهو الأسلوب الذي يتماثل مع أسلوب القاعدة ومشتقاتها، مع الفارق بأن النظام يستخدم الطيران، والقاعدة (داعش والنصرة) تستخدم السيارات المفخخة. الرؤية أو العقلية الإجرامية متطابقة، ما يؤكد العلاقة مابين الطرفين، في الخبرة والهدف.

استخدم نظام الأسد، مبكرا، أسلوب مداهمة القرى والبلدات، وارتكاب المجازر بوسائل باردة غالبا: الذبح بالسكين والساطور، في صورة مشابهة لما حدث في صبرا وشاتيلا. ثم تطورت وسائله عبر الطيران، فاستخدم القذف الصاروخي، وصواريخ سكود، ثم ابتدع البراميل المتفجّرة، التي تعدّ اليوم أكثر الوسائل منخفضة التكاليف، وشديدة التأثير والتدمير. ولم يتوقف الأمر عند استخدام الأسلحة الكيمياوية، ولكنه تعداها إلى الأسلحة الفراغية. والهدف هو المدنيين في كل مرّة.

مجازر أخرى، أشد بشاعة، تتمثل في عمليات التصفية الفردية والجماعية، للمعتقلين السياسيين في سوريا. ليست هناك أرقام دقيقة، ولكنها تجاوزت الـ15 ألفا. يلجأ النظام إلى قتل النشطاء السلميين بصورة منتظمة، من ذوي الكفاءات والمتميزين، تحت التعذيب، وفي عمليات تصفية جماعية، داخل المعتقلات المتوزعة على نطاق واسع داخل المناطق التي يسيطر عليها النظام، بما فيها المعتقلات المستحدثة. يستخدم النظام داخل السجون أساليب التعذيب المبتكرة الأكثر وحشية مثل التجويع، والحرمان من المداواة، وهي غالبا ما تأخذ شكل جرائم يومية، لا يحاسب عليها أحد. ثمة شبه كبير أيضا هنا، مع جرائم نظام معمر القذافي ضد المدنيين، والمعارضين وعائلاتهم. وتعيد إلينا جرائم الأسد، فداحة الإجرام التي مورست بحق سجناء أبي سليم في صيف 1996 بفظاعتها التي تجاوزت كل تصور إنساني.

تبدو جرائم الأسد المتواصلة بحق السوريين، دون أي رادع دولي أو إقليمي، يضع حدّا للجزار الذي يستغل صمت المجتمع الدولي وتواطؤه المشين، ليرتكب المزيد، دون أن يعير اهتماما بالقانون الدولي. وجميع المجازر دون استثناء، تندرج تحت بندي؛ جرائم الحرب ضد المدنيين، وجرائم الإبادة البشرية.. لكن العدالة الدولية، تبدو غير ممكنة في ظل إفلات المستبدين القتلة من العدالة.. ولكن إلى حين.

اقرأ المزيد
٢٤ ديسمبر ٢٠١٤
... عن مثقفين فاقدين للمعنى

من دون الدخول في جدل حول تعريف المثقف وأدواره وأصنافه وعلاقته بالسياسة والسلطة، ومن دون وضع هذه المفردة بين قوسين، يمكن القول إن ظاهرة المثقف والسلطة السورية تحديداً، خلال نصف قرن، تحتاج إلى دراسة خاصة ومعمقة. لكننا نحاول هنا الإشارة إلى مواقف المثقفين من السلطة خلال السنوات الأربع الماضية، وهي مواقف متنوعة تبعاً لأنماطهم الفكرية وعلاقاتهم السابقة بالسلطة، ونمط العلاقات الزبائنية التي خلقتها. بعض المثقفين هم صناعة السلطة أو مندرجون أصلاً في سياساتها منذ زمن بعيد، وهؤلاء لا يستحقون أن نتعب أنفسنا بنقدهم، أو بالأحرى هم دون مستوى النقد بمراحل.

أما المثقفون المحسوبون على معارضة السلطة، فإنهم يحتاجون إلى النقد، فبعضهم كان واضحاً في موقفه من السلطة خلال فترة ما بعد الثورة، فيما بعضهم الآخر تراجع خطوة أو خطوات إلى الوراء، أو وقف على الحياد منتظراً ما ستؤول إليه الأمور، تبعاً لرؤى أو تحليلات خاصة، أو وفقاً لمصالح ذاتية ظهرت إلى العلن بعد أن كانت مخفية. لكن النقطة الرئيسة التي أود تسليط الضوء عليها هي موقف ذلك المثقف المعارض، والعارف بطبيعة السلطة، الذي اتخذ موقفاً حيادياً أو دور «المعارض الناعم» أو حتى المناصر ضمنياً للسلطة القائمة في وجه الثورة، بعد سنوات طويلة من معارضته لها.

يستند هذا المثقف في مواقفه تلك، وفق ما يقول ويكرر، إن افترضنا صدقيته وعدم وجود علاقة وثيقة بين مواقفه ومصالحه الشخصية، إلى معرفته ببنية السلطة المعقدة، وقدراتها وعلاقاتها الإقليمية والدولية ووسائلها وآليات عملها، الأمر الذي يسمح لها بمجالات واسعة من المناورة والبقاء، منكراً بالتالي هذه المعرفة على الآخرين الذين اتخذوا منها موقفاً صريحاً وواضحاً. في الحقيقة، كثيرون من الذين أبدوا مواقف واضحة وصريحة إزاء السلطة، كانوا يعرفون أكثر من ذلك، ولم يستغربوا سلوكها خلال السنوات الأربع الماضية، ومع ذلك عُرفوا بمواقفهم الواضحة والصريحة ضدها.

في 1993 نشر سعدالله ونوس، مسرحيته «منمنمات تاريخية» التي تناول فيها المواجهة التي حدثت عام 1400 بين تيمورلنك وابن خلدون، القاضي والمؤرِّخ والعالم الاجتماعي المعروف. وقد حاول ونوس في مسرحيته أن يستكشف ماذا يمكن أن يكون قد ترتب من انعكاسات في العصر الحالي بسبب قرار ابن خلدون ألَّا يُدينَ الجنرال التتري وعشقه للسلطة.

تيمورلنك يشقُّ طريقه نحو دمشق، ابن خلدون ينتظر في منزل رئيس قضاة دمشق، شيوخ دمشق يناقشون في المسجد الأموي موقفهم من الغزو التتري، حيث اختلفوا في ما إذا كان تجب محاربة الطاغية أم مراضاته، وانتهوا إلى إصدار فتوى بوجوب الجهاد ضد تيمورلنك. وقعت المعركة، ومات كثيرون.

أما ابن خلدون الذي شعر بالاحتقار، خصوصاً إزاء أولئك الذين ليسوا من النخبة، فرأى أنه لا جدوى من الجهاد ضد قوىً جارفة مثل تيمورلنك، فهذا وقت الهزيمة لا ريب، ولا شيء يمكن فعله لإيقافها. ولذلك، بعد أن يلتقي ابن خلدون بتيمورلنك، ينصح وجوه دمشق بالاستسلام من دون قتال. على ما يبدو، يفصل ابن خلدون بين الموقف/الفعل والمعرفة، لأن المعرفة أقوى وتدوم أطول.

يتساءل ونوس عن نوع المعرفة التي كان ابن خلدون يُنتجها. بعد ستمئة عامٍ من الاحترام، يجلب ونوس ابن خلدون ليوبِّخه على تحفظه الأحمق على فعل أي شيء، وانتهازيته السياسية، ورفضه لتحدي تيمورلنك بحجة معرفته بنتائج المعركة وإدراكه لأطوار حياة الدول، ويسأل الجمهور عن النتائج التي كان يمكن أن تحدث لو قرَّر ابن خلدون أن يتدخل. ربما كان ليغير وجه التاريخ، لكنه لم يكن مهتماً بالتغيير، أو التطور، وإنما كان مهتماً بنجاته ونظرياته التي توصل إليها حول حياة الدول.

تطرح «منمنات تاريخية» على المشاهدين تساؤلاً: كيف يجب أن تكون ردة فعل المثقف على الظلم؟ هل يجب أن يرفضه ويقاومه أم عليه أن يحسب نتائج رفضه ومقاومته، ويحدد موقفه في ضوئها؟ ينتقد ونوس هنا عدّة أمور: الطاغية، المثقف الخائف، والاستجابة الانتحارية وغير المدروسة للظلم. هل أخطأ ابن خلدون عندما حافظ على حياته وأعطى تيمورلنك ما طلبه منه؟ لقد عاشت توصيفاته الحيادية وتحليلاته أكثر من الأفعال العاطفية التي قام بها المجاهدون لإيقاف التقدم التتري المميت. وقد أثبت التاريخ صحة ما فعله ابن خلدون عندما قال لطالبه: «التاريخ سيتذكر المعرفة التي أنتجتها والكتب التي كتبتها فحسب». كيف نرى ما فعله ابن خلدون بعد ستمئة عام، كيف نتقبَّل صحة ما فعله؟ نعم لقد نسي التاريخ أولئك الذين قاتلوا وماتوا، واعتُبِرَ «الخائنُ» بطلاً. كيف نستطيع أن نوازن الالتزامات السياسية مع أساسيات البقاء؟

على المسرح يترك ونوس الخيار للمشاهدين ليقرِّروا بأنفسهم إن كانت هذه الشخصية التاريخية قد اتخذت القرار الصحيح أم لا، لكنه لم يدع مجالًا للشك في مناسبات عدة ليقول لنا «إن المعرفة تقتضي مسؤوليةً على من يحملها... يجب على المثقفين أن يتدخَّلوا في الشؤون العامة، ويقاوموا المعتدين والحكَّام الطغاة...». فالكتابة عند ونوس سياسية بطبيعتها، ومن يقف جانباً يُعين الطاغي على طغيانه. بمعنى آخر، ليس هناك حيادٌ في الثقافة، ولا يستطيع المثقف أن يكون على الحياد، وينبغي أن يكون هناك تناسقٌ وتكافؤٌ بين الكلمات ومعناها.

إن إدانة ونوس لتهرب ابن خلدون من مسؤوليته السياسية تتحدى الجميع. قد يبدو في كثير من الأحيان أنه لا جدوى من الاحتجاج، أو قول الحقيقة في مواجهة نظام متسلط، لكن سعدالله يخبرنا بأن المثقفين يستطيعون أن يصنعوا فرقاً، وأن إذعانهم للاستبداد أو حياديتهم أو انتهازيتهم ستؤدي إلى الدمار. كان يوسف العظمة وصحبه يعلمون أنهم سيخسرون في ميسلون، لكنهم آثروا أن يقاوموا ويصنعوا فرقاً، وقد فعلوا.

اقرأ المزيد
٢٤ ديسمبر ٢٠١٤
"داعش" إرهاب خالص أم مشروع سلطة؟

منذ نهاية عام 2010، وعلى مدى أكثر من سنتين، شكلت مفاجأة الثورات والانتفاضات الشعبية التي اجتاحت تونس ومصر وليبيا واليمن، وأخيرا سورية، الشغل الشاغل للعرب وللعالم. انتفاضات أطاحت أهم الأنظمة وأعتاها قمعاً واستبداداً، منذ بداية السبعينيات، من معمر القذافي إلى حسني مبارك، ومن بشار الأسد إلى علي عبد الله صالح وزين العابدين بن علي. فرحة عارمة وتفاؤل بالمستقبل عمّا المنطقة، بعد نحو نصف قرن من الظلم والاستغلال وكمّ الأفواه باسم التحرر والاستقلال ومحاربة الاستعمار والامبريالية، وغيرها من شعارات برّاقة، وظّفت، بديماغوجية وشعبوية، كالوحدة والاشتراكية والقومية والعروبة، استغلالاً لقضية شعب فلسطين المقهور. حتى إنه لم تكن هناك من فسحة، ولو بسيطة، للحق في التعبير التزاماً بمقولة "لا صوت يعلو فوق صوت المعركة"، والمعركة هي مع العدو الصهيوني إسرائيل المغتصب الأرض والشعب الفلسطيني. وها قد مضى على هذا الشعار أكثر من نصف قرن، وما زال الشعب الفلسطيني يرزح تحت نير الاحتلال الاسرائيلي.

أقل من شهر من الحراك الشعبي كان كافياً لهروب بن علي (23 عاماً في السلطة)، وأقل من ثلاثة أسابيع أجبرت مبارك (30 عاماً) على الاستقالة، تبعها ثمانية أشهر من المواجهات الدموية المسلحة أنهت حكم القذافي المطلق (42 عاماً)، ثم سنة من الصمود الشعبي العنيد في شوارع صنعاء اضطرت صالح (34 سنة) إلى مغادرة السلطة، فيما دخلت انتفاضة الشعب السوري على نظام الأسد الأب والابن (44 سنة) في نفق دموي مظلم، لا يزال الخروج منه مجهولاً. انتفاضات شعبية عفوية، بعضها خاطف وبعضها متوسط المدى، تمكنت من دكّ أعتى الديكتاتوريات القومية والعسكرية في القرن العشرين.

" لشدة اهتمام "داعش" بالسلطة، لا يوجد، على سبيل المثال، أي أثر لفلسطين وإسرائيل في خطابه السياسي "

ولكن، بقدر ما كان انهيار هذه الأنظمة سريعاً، بقدر ما كان سريعاً أيضا ضياع، إن لم نقل فشل، بعض هذه الثورات، وانزلاقها إلى أتون تدميري قاتل لجذوة التمرد، وللأمل بسلوك طريق التغيير. صحيح أن التغيير لا يحصل بشحطة قلم، وصحيح أن الثورات عملية تراكمية تدوم عشرات السنين (الثورة الفرنسية)، ولكن أسباب التيه في الانتفاضات الليبية واليمنية والسورية كثيرة ومتشعبة ومتداخلة، لا مجال للخوض فيها هنا، إلا أن ما يعنينا هو الضياع والفراغ الذي حدث لمساراتها، ودفع بالمتضررين (وبقانون الطبيعة) إلى "ملء الفراغ"، وتحديداً في سورية والعراق. وسارع ما سمي "محور الممانعة" إلى حشد ما يملك من طاقات وتأثير سياسي ومذهبي وعسكري وجغرافي ولوجستي وتعبوي ونفسي، وإلى استعمال كل الأساليب المتوفرة بهدف إيجاد بدائل على الأرض، من أجل إجهاض الثورات وتأليب الناس عليها.

وكان الظهور "المفاجىء" لـ"داعش" من الساحة السورية، إثر إطلاق بشار الأسد سراح إسلاميين من سجونه، وزجهم في مواجهة الانتفاضة الشعبية السلمية. وأثبت هذا التنظيم عملياً أن لا علاقة له بـ"القاعدة"، لا يشاركها لا رؤيتها ولا أهدافها، ولا حتى أساليبها. أشهر خطاباً دينياً أصولياً متزمتاً، وبدأ على الفور عنفياً، دموياً، همجياً ومتوحشأً، يقطع رؤوساً لكي يفرض وجوده وسطوته على الأرض. وراح يجند مناصرين في مناطق سيطرة المعارضة على اعتبار أنه فصيل منها، وأخذ يتقدم شمالاً باتجاه الحدود التركية والعراقية، ولم يقاتل يوماً جيش النظام. سيطر على محافظة الرقة السورية وأقام فيها إمارته الاسلامية. ومع الوقت، توسع وتمدد في شمال العراق، وفي المحافظات السنّية تحديداً، رافعاً رايات الجهاد، ومعلناً "دولة الخلافة"، ومنصباً البغدادي "أميراً للمؤمنين".

لم يقاتل "داعش" صانعه النظام السوري، لكنه قاتل في العراق سلطة نوري المالكي، الإيراني الولاء. كبر وتوسع واشتد ساعده، مستفيداً أولاً من المناخ الثوري الذي ولدته الانتفاضات، بما فيها التي قامت بوجه المالكي في الأنبار. واستفاد ثانياً من عوامل ومعطيات ومصالح إقليمية ودولية، متداخلة ومتضاربة ومعقدة، أميركية كانت أم تركية أم خليجية، رأت فيه، على الأرجح، عنصراً من عناصر مواجهة مشروع "محور الممانعة" الإيراني-العراقي-السوري-الحزبللاوي وروسيا من ورائه، بعد أن تقاعست عن تقديم دعم فعلي للمعارضة السورية.

قاتل "داعش" وتوسع، وأصبح مشروعاً قائماً بذاته، عنوانه ووسائله و"عدة شغله" دينية إسلامية متطرفة. وهو يسعى، كما هو ظاهر، إلى ترسيخ وجوده، وتعزيز سلطته في المناطق التي يسيطر عليها، وخصوصاً في العراق. فهو تمركز في الأنبار، ولم يعد يتطلع إلى بغداد، ولم يعد مكترثاً على ما يبدو لمزيد من التوسع، وإنما مهتم بتنظيم وإدارة شؤون الناس في "أراضي دولة الخلافة". وهو يمارس العنف من أجل إرهاب الناس، وإحكام قبضته في مناطق نفوذه، أي يستعمل الإرهاب وسيلة للسلطة، ويستعمله بشكل استعراضي، ويسّوقه إعلامياً، بكثير من الاثارة والضوضاء. ولشدة اهتمامه بالسلطة، لا يوجد، على سبيل المثال، أي أثر لفلسطين وإسرائيل في خطابه السياسي.

بهذا المعنى، ليس "داعش" تنظيماً إرهابياً بالمعنى التقليدي، أو الحرفي، للكلمة، ولا يمارس إرهابا على طريقة "القاعدة"، وإرهابه ليس "مجانياً". هو بات يملك جيشاً فعلياً، تقدره دوائر غربية بعشرات الألوف، ويملك أسلحة وآليات ومعدات ثقيلة، وتمتد سلطته على رقعة جغرافية موزعة بين أراضي دولتين. ويؤكد باراك أوباما، معززاً برأي قائد الجيوش الأميركية، مارتن ديمبسي، أن هزيمة "داعش" تتطلب ثلاث سنوات على الأقل. هذا إذا سلمنا جدلاً أن الغارات الجوية بمفردها كفيلة بالقضاء على هذا التنظيم.

اقرأ المزيد
٢٤ ديسمبر ٢٠١٤
أحوال الرعية تحت حكم «داعش»

الناس في الموصل كما في المدن والبلدات الأخرى التي سيطر عليها مقاتلو «داعش» حائرون بين ماض غير مريح كان سائدا في ظل سيطرة القوات الحكومية، وحاضر مرعب ومستقبل غامض ومجهول بيد هؤلاء المقاتلين. يقول بعض الفارين من سكان هذه المدن والبلدات التي يسيطر عليها «داعش»، ان سلطات «داعش» تمنع المواطنين من مغادرة مدنهم، وعملت على إقفال منافذ الاتصال بالعالم الخارجي، وقد أوقفت في الأسابيع الماضية شبكات الاتصال للهواتف الخليوية، وصارت تراقب مجهزي خدمات الانترنت في المدن التي تسيطر عليها. ويقول الفارون من «الدولة الاسلامية» هكذا يسمونها، لانه ممنوع عليهم قول كلمة «داعش»، ويوضح أحد المواطنين الذين فروا من الموصل مؤخرا، يمنع على المواطنين إطلاق اسم «داعش» على المسلحين، ومن يخالف التوجيهات ويلفظ اسم «داعش» ستفرض عليه عقوبات تصل الى الجلد. وتنتشر اللوحات الإعلانية في أرجاء المدينة للتشديد على أهمية الجهاد والشريعة وعفة النساء، إلى جانب مواضيع أخرى من التقوى المتزمتة. ان حضور المقاتلين الاجانب طاغ، سواء كانوا من جنسيات عربية أم غربية أم آسيوية أم شيشانية أم سواها، هذا كان في بادئ الامر. أما في ما بعد فقل عدد المقاتلين الاجانب وحل محلهم شباب من سكان الموصل بعضهم فتيان تقل اعمارهم عن 16 سنة، تطوعوا حديثا، لأن مقاتلي «داعش» الاساسيين انتقلوا الى بؤر المواجهات والقتال مع القوات الحكومية
ويركز تنظيم «داعش» على تعليم الأطفال طريقته في التفكير، واسلوبه واستراتيجيته، ليكونوا على اتم الاستعداد، للانضمام إليه عند وصولهم إلى السن المناسب، بالإضافة إلى موافقته على مشاركة النساء في القتال، وتدريبهن وتعليمهــــن فنون القــــتال، وكيفية استخدام السلاح. ولكن حســـب احد الفــارين من الموصل «لم نعرف او نسمع ان احدى الموصليات اصبحت مقاتلة في صفوف «داعش»، معظم النساء المقاتلات في صفوفه هن من جنسيات غير عربية».
ولكن الامراء والمقاتلين كانوا يبدون اهتماما بالاطفال وعلمنا انهم استخدموا طرقًا مختلفة لضم الأطفال لمعسكراتهم القتالية واستعانوا برغبة البعض أو بخطف الأطفال من ذويهم أو مقابل المال كتعويض عن الطفل في قرى الموصل الفقيرة، وكنا نرى بعض الاطفال يرتدون قمصانا وقد كتب عليها أشبال دولة الخلافة، بعضهم ليس من الموصل ربما يكونون سوريين، وحسب الروايات التي نسمعها أن الأطفال دون سن الـ16 يتم تدريبهم على استخدام الكلاشينكوف والآر بي جي والقنابل وإعداد المتفجرات، ثم يتم تقسيمهم لقسم المقاتلين وقسم الانتحاريين وقسم مصنعي القنابل».
في مدينة الموصل ينتشر مسلحون بتصنيفات عديدة بعضهم شرطة وآخرون شرطة مرور اسلامية، وهناك قوات تشبه جنود القوات الحكومية السابقة، فيما هناك شرطة اقتصادية، وهناك رجال مسلحون بمسدسات يراقبون الشوارع ويتجولون في الاسواق يسمون انفسهم «جماعة الحسبة».
التعليم في مراحله الاولية قبل الجامعية مستمر، اما الجامعة فمتوقفة. وفي بداية العام الدراسي منع المدرسون من الذهاب للمدرسة حتى إتمام الدورة الشرعية وتم إلغاء كامل لمواد التربية الفنية والموسيقية والوطنية والتاريخ والفيزياء، والمناهج الاخرى تم تغييرها أكثر من مرة ولم تستقر الأمور على حال.
وكما هو معلوم تعرضت بعض النصب والتماثيل المهمة في المدينة الى التدمير، مثل نصب أبي تمام والموسيقار المتصوف عثمان الموصلي، كما تم هدم قبر المؤرخ إبن الاثير، وأزيل تمثال السيدة مريم في كنيسة «مريم العذراء» الموجودة في مركز المدينة. وفي الوقت الذي حرمت فيه الدولة الاسلامية بالنسبة للرجال لبس الجينز والـ»تي شيرت»، فإنها وجهت معمل ألبسة الموصل (الحكومي الذي كان يتبع وزارة الصناعة) الذي توقف أياماً بعد سيطرة قوات الدولة الاسلامية ليعود للعمل مجدداً وينتج الزي القندهاري، الذي يمثل «الزي الرسمي» للدولة الاسلامية، الذي يتكون من قميص طويل يصل إلى الركبة وسروال ، كما بدأ خياطو الموصل بصناعة الزي بحرّفية بحسب الطلبات التي تردهم، لكنهم أدخلوا عليه بعض إضافات الموضة الحديثة، بناء على طلبات الشباب الموصلي الذي اعتبروه موضة الزمن الجديد. فيما ترتدي النساء الجلباب وفوقه عباءة سوداء تغطي الجسد، اما الحجاب فهو مفروض على جميع النسوة، بمن في ذلك الفتيات الصغيرات في عمر ست او سبع سنين.
وفيما تم تحريم التدخين والاريجيلة والخمر والمخدرات وبيع سيديهات الافلام والاغاني والالعاب الالكترونية ، فإنه تم ايضا منع لعب «الطاولي» والدمينو وكذلك ورق اللعب في المقاهي، كما تمت مراقبة الالعاب الالكترونية، كما ان الدولة الاسلامية قننت بعض التعاملات بين الناس، فعلى سبيل المثال فرضت تسعيرة لايجارات المساكن والمكاتب، بحيث تم خفضها على نحو وصل الى 80 او 90 بالمئة عن الاسعار التي كانت سائدة، وهكذا فعلت بخصوص بعض الخدمات مثل تقليل اجرة الكشف عند الاطباء واطباء الاسنان، وغيــــرها من الخدمات. الاعمال في المدينة شبه متوقفة، الكهرباء مقطوعة، تجهيز الكهرباء عبر المولدات مكلف، وصلت كلفته ليلا للامبير الواحد نحو 17 الف دينار (اي ما يعادل 15 دولارا) .. البنزين أسعاره بارتفاع مستمر، وصل سعر اللتر الواحد قبل اسابيع الى 1700 دينار والان وصل سعره الى 3000 دينار، بينما سعر ليتر البنزين في بغداد 450 دينارا، غاز الطبخ بلغ سعر القنينة قبل الاسابيع 40 الف دينار في الاسبوع الماضي ارتفع سعرها الى 75 الف دينار، الاجهزة التي تعمل بالنفط الابيض حلت محل طباخات الغاز او الكهرباء بعض العوائل صارت تحطب وتقطع الاشجار لتستخدم خشب الاشجار في التدفئة والطبخ. الخضروات والمواد الغذائية التي تجلب من سوريا ارتفعت اسعارها، وحده لحم الخروف العراقي انخفض سعره الى النصف ليبلغ 7 الاف دينار للكيلو.
محلات الحلاقة النسائية والرجالية اصبحت ممنوعة في الموصل. عدد قليل من المطاعم التي تبيع الكباب والمشويات مفتوحة ومعظمها يرتادها المسلحون، أما ابناء المدينة من الاهالي فقلما يفعلون ذلك، ووقت الصلاة يمنع على اي محل ان يبقى مفتوحا.
الناس خانفون من الايام المقبلة، فهم يعرفون ان قوات الجيش والبيشمركة تستعد لتحرير الموصل، ورغم ان معظم المتبقين من الموصليين يريدون الخلاص من «داعش» ، الا انهم يخشون ان تستمر حرب تحرير الموصل شهورا وتتخذ «داعش» من الاهالي دروعا بشرية لها ولمقاتليها.

اقرأ المزيد
٢٣ ديسمبر ٢٠١٤
حول اقتراح راسموسن تقسيم سورية على الطريقة البوسنية ..

من واجب المعارضة السياسية الراشدة أن تكون قادرة على تتبع تفاصيل المشهد السوري . ولاسيما ما يصدر منها عن جهات مؤثرة أو فاعلة والسبق إلى تحديد موقف إعلامي منها ، ووضع الخطط والآليات العملية للتعامل معها بتعزيز الإيجابي وإماتة ونفي السلبي .
كل الطروحات تبدأ جنينية ، وأحيانا وجهات نظر فردية ، وإذا لم تجد الموقف الذي تستحق ، ربما نما السلبي منها في ظل الصمت والظلمة وتحول إلى مقترحات ومن مقترحات إلى خطط مما يجعل من الصعب التعامل معها والتصدي لانعكاساتها ...
وهذا الجهد في الرصد والتتبع وتحديد الموقف ومن ثم وضع الخطط والآليات العملية للتصرف الراشد هو ما يطلق عليه في العادة ( الحضور) ، الحضور الفاعل المنفعل المتجاوب مع أي وخزة دبوس ولو في طرف إبهام الرجل . وعكس الحضور هو الغياب والغياب هو شكل من أشكال الموت . الأموات يغيبون ، والأموات لا يسمعون ما يقال ، ولا يرون ما يدور حولهم ؛ وبالتالي فالأموات لا يستجيبون ..(( إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ وَالْمَوْتَى يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ ))
في الحديث عن حل سياسي في سورية ظلّ الإعلان عن التمسك بوحدة سورية أرضا وشعبا لازمة تأكيدية يتطوع بها الجميع ويتمسك بها الجميع وهي رغم تكرارها لم تكن مملة بل ظلت دائما ضرورية . ويبدو أن التأكيدات المعلنة المتكررة كانت استباقا تطمينيا ، وربما وقتيا ، لنفي ما يدور في الخلفيات الذهنية والنفسية للمتحدثين ، وربما كان الإصرار على ترك الجرح السوري نازفا ، لجعل ما لا يُقبل الحديث عنه ابتداء مقبولا في ظروف القرار الصعبة انتهاء ..
لقد كان خطيرا ، وهو مرفوض ومستنكر ومدان ، من كل السوريين الأحرار الشرفاء على اختلاف الهويات الفرعية ؛ ما أعلنه أو اقترحه بالأمس الجمعة / 19 / 12 / 2014 السيد أندرس فوغ راسموسن الأمين العام السابق لحلف شمال الأطلسي ( أن يكون الحل في سورية على الطريقة البوسنية ) !!
ففي ندوة تحت عنوان / السلام في الشرق الأوسط - اللاعبون – المشاكل – وسبل الحل ../ التي نظمتها جامعة حسن قليونجي في مدينة غازي عينتاب التركية قال راسموسن : ( في سورية ينبغي تقاسم البلاد في إطار التوزعات الإثنية والدينية عبر إقناع الأسد بمغادرة السلطة .مؤكدا أن هذه الصيغة ليست هي الحل الأمثل إذ بعد الخلافات الدينية والإثنية في سورية أعمق من البلقان ...)
وهذا الكلام على خطورته ، وتداعياته الكارثية على مستقبل سورية الدولة والأرض والإنسان ، وتناقضه مع كل ما استقر عليه الأمر من وحدة الأرض والشعب في سورية يستحق من جميع قوى المعارضة الراشدة رفضا واستنكارا من جهة وخططا وآليات عملية تميت بوارح مثل هذه الأفكار السود في مهدها ...
وهذا الكلام من جهة أخرى كلام متهافت موضوعيا وعلميا ، فلا سورية في خارطتها الديمغرافية العددية هي البلقان ، ولا القطيعة بين أبناء المجتمع السوري الموحد على اختلاف الانتماءات بلغت عشر معشار ما كان عليه الأمر في البلقان .
إن الذي يجب أن يقال للسيد راسموسن إن التناقض الأول والأساسي في سورية هو تناقض بين طغمة مستبدة فاسدة وبين شعب بكل مكوناته يتوق إلى العدل والحرية والتعايش بحب ووفاء وخلا هذا التناقض فإن إرادة البقاء معا ، والعيش المشترك هي قاعدة أساسية يجتمع كل السوريين عليها .
 بل يجب التأكيد أنه حتى هذه المجاميع من السوريين التي لا تقف في صف الثورة والثوار ليست رافضة في الحقيقة لمشروع الثورة ولا لتطلعات الثوار ، وإنما هي تستثقل الكلفة المبهظة من الدماء والدمار من واقع معرفتها بقسوة وبشاعة هذه الطغمة الفاسدة المفسدة . ..
ومما يجب التنويه إليه في هذا المقام هو أن المجتمع الدولي ، والسيد راسموسن بخلفيته أحد كبار ممثليه ، الذي يتمسك بالقيم الكونية التي تمضي بعيدا في إزواء الهويات الكبرى لحساب قيم العولمة التي يصفها بالإنسانية ؛ يحاول اليوم في مجتمعاتنا المتطلعة إلى العدالة والكرامة إعادة استنبات الهويات الفرعية والنفخ فيها ، وتعظيم استحقاقاتها .
وإن هذه القوى الدولية المنحازة في أصل أمرها ضد قضايا الشعوب وتطلعاتها ،والتي ارتضت على مدى ستة عقود أن يستقر هرم المجتمع والدولة في سورية على رأسه ، ولم تجد في ذلك أي ضير أو غضاضة وهي تتابع بصمت على مدى العقود الستة المجازر المادية والمعنوية ؛ نراها اليوم تفزع إلى مثل اقتراحات السيد راسموسن الصفراء القاتلة بديلا عن عودة سورية إلى وضعها الطبيعي باستقرار هرمها الديمغرافي على قاعدة مجتمع مدني موحد تكون فيه المواطنة المجردة من كل اعتبار إضافي مناط الحقوق والواجبات ..
ولن نغادر المقام قبل أن ننهي إلى السيد راسموسن وإلى الذين ربما يصغون لقوله أنه لا عبرة ولا ثقل في ميزان الثورة السورية والثوار السوريين لكل هذه القوى المصنوعة و الظرفية التي تطرح طروحاتها الذرائعية الفجة لتعطي المسوغ لحديث مثل حديث السيد راسموسن ولاقتراح مثل اقتراحه ..
إن الثوار السوريين والمعارضة السورية الراشدة الماضية بكل قوة على طريق النصر تتمسك بالقوة نفسها وبالتصميم نفسه بوحدة الأرض السورية ووحدة المجتمع السوري ، ووحدة الدولة السورية وأي تفكير أو اقتراح ينال من هذه الحقائق سيبقى مستنكرا ومدانا ومرفوضا ومقاوما بكل ما أوتي السوريون كل السوريين الأحرار من قوة وعزيمة ..
لندن : 29 / صفر / 1436

اقرأ المزيد
٢٣ ديسمبر ٢٠١٤
إيران العاجزة عن إطعام شعبها تحلم بالسيطرة على طريق الحرير

التهب سعر الخبز في إيران مؤخرا فارتفع بنسبة 40 بالمئة، ولتفادي موجة احتجاجات شعبيّة، خطّطت حكومة حسن روحاني لرفع أسعار الخبز في المحافظة تلو الأخرى، وذلك لسهولة قمع المحافظات المحتجة على هذا القرار.

جاء ذلك إثر خفض أسعار النفط في الأشهر الستة الأخيرة، لتصل إلى أدنى مستوياتها منذ خمس سنوات، حتى أصبحت إيران تصدّر نفط الأحواز المحتلة بقيمة 50 دولارا للبرميل الواحد. ووفقا لآخر تقارير منظمة أوبك، بلغت خسائر إيران من صادرات النفط فقط، أكثر من 8 مليار دولار خلال ستة أشهر فقط.

ويتنبأ مراقبون بأن إيران مقبلة على ثورة الخبز والجياع في المستقبل المنظور، إذا ما تواصلت الانهيارات في أسعار النفط، خاصة أن اقتصادها المتعطش على الذهب الأسود، يعتمد على تصدير مشتقات النفط بنسبة تفوق الـ60 بالمئة.

ورغم هذه المؤشرات التي تنذر بانهيار اقتصاد إيران، إلا أن النظام الذي أغرته أوهام القوّة ومرونة الموقف الأميركي الصهيوني بل شجعته، بات يفكّر بما هو أكبر بكثير من حجمه، فأعلن مستشار خامنئي للشؤون الدولية علي أكبر ولايتي أن نفوذ بلاده يمتد من اليمن إلى لبنان!

وكان مستشار خامنئي للشؤون العسكرية والقائد السابق للحرس الثوري الإيراني، يحيى رحيم صفوي، قد بيّن أن حدود إيران الدفاعية لا تتوقف عند العراق فحسب بل تصل حتى جنوب لبنان، وأكد أن لسوريا أهميّة خاصّة، كونها جسرا للتواصل بين دول شمال أفريقيا وآسيا، وقال “للمرة الثالثة في تاريخ الإمبراطورية الإيرانية يمتد النفوذ الإيراني حتى البحر المتوسط!”.

وفي حين كان الملك الأردني عبدالله الثاني، أوّل من حذّر العام 2004 من الهلال الشيعي، إلا أنّ الطموحات الفارسيّة تتجاوز حدود الهلال المزعوم وتتسع هذه الطموحات لتصل حتى الهيمنة على أجزاء طريقي الحرير الشمالي الصيفي والجنوبي الشتوي والتي تمرّ من منطقة الشرق الأوسط وسواحل أفريقيا.

ومعلوم أن طريق الحرير الشمالي منه، يمرّ من الموصل في العراق وحلب في سوريا، لذلك نلاحظ أن الحرب على أشدها تدور في هذه المناطق وأن قاسم سليماني قائد فيلق القدس الإيراني، يشرف مباشرة على هذه الحرب، والتي ترى إيران أنها ستحدّد مستقبل استراتيجيتها في المنطقة.وإذا كان ظهور تنظيم داعش قد ساعد على كثافة التواجد الإيراني في كل من الموصل وحلب، فالكثير من الاتهامات كانت ولا زالت موجّهة إلى إيران ونظام بشار وروسيا في صناعة هذا التنظيم المُريب. وفي حال صحّة هذه الاتهامات، فإنّ داعش يعد جزءا من الخطة الإيرانيّة لتوسيع نفوذها في بغداد ودمشق على حد سواء، وبالتالي الثأر من العرب المسلمين الذين أطاحوا بالإمبراطورية الفارسية.

وما إعلان مصر والسعودية والمغرب والبحرين والكويت واليمن والإمارات عن كشفها خلايا تجسس تعمل لمصلحة إيران، إلا دليل آخر على نيّتها في توسيع نفوذها، خاصة أن قادة إيران الذين خرجوا من التقيّة إلى العلنيّة في تصريحاتهم، لا يتردّدون في الإعلان عن أن صنعاء تعد رابع عاصمة عربيّة تصبح تحت هيمنة بلادهم بعد بيروت ودمشق وبغداد، رغم أنها في الواقع خامس عاصمة عربية باحتساب الأحواز العربيّة.

وبعد احتلالها كامل الساحل الشرقي للخليج العربي حيث الجزر الإماراتية وبعض الجزر العُمانيّة وخاصة تلك الواقعة في مضيق باب السلام (هرمز)، سيطرت إيران على أهم ممرّات طريق الحرير البحريّة، حيث احتلت ميناء عصب اليمني المطلّ على البحر الأحمر واستأجرت جزيرتي فاطمة ونهلقة الأرتيريتين لتوسع نفوذها في مضيق باب المندب.

ورغم أن طريق الحرير قد بدأ بتجارة الحرير منذ 3 آلاف سنة قبل الميلاد، إلا أن الدولة الفارسية تبحث عن الهيمنة على أهم ممراته للسيطرة على التجارة وخاصة تجارة المخدرّات التي اشتهرت بها ولنشر الصفوية القائمة على الفتنة.

وإذا كان يحق للدول البحث عن مصالحها، فإن ذلك لا ينفي كون جميع الإمبراطوريات الغابرة في التاريخ قد اندثرت إلى الأبد، بما في ذلك الإمبراطورية البريطانية التي “لا تغيب عنها الشمس”، ورغم ذلك، لم تعد بريطانيا تفكّر بإعادتها.

ويبقى النظام الفارسي وحيدا في تطلعاته نحو العودة إلى إمبراطورية الأكاسرة والساسانيين، ومرد هذه التطلعات هي أوهام القوّة، فالدولة العاجزة عن إطعام شعبها، هي أقل بكثير من أن تمد قدماها أكثر من غطاها، وهذا ما لا ينطبق على إيران التي أصبح اقتصادها يعتمد بنسبة أكثر من 40 بالمئة على التهريب.

اقرأ المزيد
٢٣ ديسمبر ٢٠١٤
مِن مفارقات التراجيديا السورية

كتب كثيرون من الزملاء تعليقاتٍ في وسائل التواصل الاجتماعي على فرحة معارضين سوريّين مدنيّين بسقوط أكبر قاعدتين لنظام الأسد في وادي الضيف والحمدانية في ريف إدلب في قبضة «جبهة النصرة» و «حركة أحرار الشام». وتفاوتت المواقف بين الترحيب بفرحة المعارضين المعنيّين أو تفهّم أسبابها، واستنكارها أو التحذير من مؤدّيات استبدال استبدادٍ بآخر، نظراً الى تجارب سابقة في محافظة الرقّة حيث انتهت السيطرة بعد انكفاء النظام الى «النصرة» ثم «داعش»، أو حتى في بعض المناطق الإدلبية المحرّرة نفسها حيث سعت «النصرة» الى إلغاء سواها من قوى عسكرية وسياسية.

وتشير الفرحة «المدنيّة» المذكورة، وتأييدها كما إدانتها أو التحذير منها، الى جوانب عدّة ممّا يمكن تسميته اليوم بالتراجيديا السورية. فمنذ عامين تقريباً، تعاظم نفوذ الجماعات الإسلامية المقاتلةِ النظامَ بالترافق مع ما أصاب الجيش الحرّ من وهنٍ سبّبه التمنّع الغربي عن تسليحه نوعياً وتعزيزه، وضعف قياداته وغياب التنسيق في ما بينها. وتحوّلت الجماعات الإسلامية منذ أواخر العام الفائت، مدعومة مادّياً من حكومات إقليمية وشبكات إسلامية غير حكومية، الى القوّة العسكرية الأولى على الأرض، ولو أنها لم تتوحّد جميعها في بوتقة واحدة. تزامن الأمر مع تدفّق الجهاديّين الى سورية، ثم إعلان العراقي أبي بكر البغدادي تأسيس «الدولة الإسلامية في العراق والشام» (في نيسان/أبريل 2013)، وبدء قتاله وحدات الجيش الحرّ وبعض الجماعات الإسلامية السورية بهدف السيطرة على مناطق متاخمة للعراق تُيسّر حركة المقاتلين بين البلدين وتُوسّع نفوذه (تحضيراً لإعلانه الخلافة). كل ذلك في لحظةٍ تنامى فيها الخطاب المذهبي وتحوّل الى واحد من أبرز أسلحة الاستقطابِ وجذبِ المقاتلين الى سورية، بخاصة مع تعاظم الأدوار العسكرية لـ «حزب الله» والميليشيات الشيعية العراقية والأفغانية المقاتلة الى جانب الأسد.

هكذا تحوّلت «الجبهة الإسلامية» (بفصيليها الرئيسين، «أحرار الشام» و «جيش الإسلام») ثم «جبهة النصرة» ثم مجموعات متوسّطة الأحجام ذات مرجعيات إسلامية («جيش المجاهدين» و «حركة الزنكي» و «أجناد الشام») وكتائب صغيرة في شمال سورية وشرقها ووسطها وحول العاصمة دمشق، الى القوى ذات التأثير العسكري الأبرز في المعركة مع النظام من جهة، ومع «داعش» من جهة ثانية. أما القوى غير الإسلامية، فتراجع نفوذها في الشمال والوسط، واصطدم بعضها بـ «النصرة»، كما في الريف الإدلبي، لتنحصر رقعة انتشارها الجغرافي هناك، ويبقى حضورها الوازن متركّزاً في الجنوب.

بذلك، صار كل تقدّم عسكري في وجه النظام، يعني تقدّم القوى الإسلامية المُشار إليها (وفي حالة مطار الطبقة أو في ما قد يجري في مطار دير الزور، يعني الأمر تقدّماً لـ «داعش»)، في حين أن كلّ تقدّم للنظام على أي جبهة يعني تراجعاً للثورة السورية وللمعارضة، وليس للمقاتلين الإسلاميّين وحدهم.

والمفارقة العسكرية المذكورة تراجيدية، لأنها تبدو إلزامية ولأن المعركة لا تسمح لغيرها بالبروز. والمدنيّون السوريّون المقيمون في مناطق حدوثها يبدون شديدي الإدراك بمعطياتها. لذلك، لا يمكن استغراب ابتهاج أهالي ريف إدلب مثلاً بدحر قوّات النظام من معسكرَي وادي الضيف والحمدانية ومن الحواجز المحيطة بهما، حتى لو كانت على رأس الداحِرين «جبهة النصرة» إيّاها التي تظاهر بعضهم ضد ممارساتها الاستبدادية قبل ذلك بأيام، وحتى لو كانوا يعرفون أن الأمر سيقوّيها ويجعل التصدّي لممارساتها المشكو منها أصعب. لكن كيف لا يبتهجون وقد طُرد النظام من مواقع صبّت حمم مدفعيّتها عليهم وقتلت وجرحت وشرّدت منهم على مدى ثلاث سنوات عشرات الآلاف؟ وكيف يُحايدون وهم يدركون أن انتصار النظام الموضعي، ولَو على طرفٍ يخشونه ويُعانون من تسلّطه، كان ليعني انتصاره عليهم أيضاً؟ والمفارقة ذاتها نجدها، في مداها التراجيدي، في غوطتَي دمشق. إذ لا يمكن تخيّل أحدٍ من المطالبين بحرّية رزان زيتونة وسميرة الخليل ووائل حمادة وناظم حمّادي، أبرز وجوه الثورة السورية المدنية والمعارضين الجذريّين لنظام الأسد منذ سنوات طويلة (سرق الاعتقال بعضها في حالة سميرة الخليل)، يتردّد في الانحياز الى صمود جوبر ودوما في وجه هجمات قوات النظام وحلفائها، على رغم معرفته بارتباط الكثيرين من المقاتلين في جوبر ودوما بالفصيل المسؤول مباشرة أو تواطؤاً عن خطف رزان وسميرة ووائل وناظم...

كلّ هذا يُشير الى جوانب مأسوية من المعضلة السورية اليوم. ففي ظلّ استبعاد الحلّ السياسي في الأمد المنظور نتيجة استمرار روسيا وإيران بدعم الأسد، يبقى ما يجري على جبهات القتال (على رغم استحالة الحسم النهائي) الأكثر تأثيراً في المعادلة الراهنة، حيث كل إضعاف للأسد وإنهاك لحلفائه يفيد سياسياً، على رغم ما يحمله من أخطار تعزيز نفوذ بعض القوى التي تقاتله.

التراجيديا السورية إذاً كامنة في هذه المفارقة وما يبدو تلازماً بين جانبَيها. وانعدامُ الخيارات البديلة لم يعد مسؤوليةً سوريةً بمقدار ما صار، منذ عامين، مسؤوليةً دولية نتيجة محدودية الاكتراث الأميركي والعجز الأوروبي والحسابات الإقليمية الضيقة. ووسط كلّ ذلك، يظلّ نظام الأسد المسؤول الأوّل بلا منازع عمّا أصاب سورية وسيصيبها من ويلات. وكلّ تقدّم له أو تمديد لوجوده يعني المزيد من المصائب والمزيد من الأثمان التي ستُدفع لاحقاً، ولسنوات، بعد التخلّص منه...

اقرأ المزيد
٢٣ ديسمبر ٢٠١٤
من أي باب سيدخل أوباما التاريخ

غريب أمر الإدارة الأميركية التي على رأسها باراك أوباما. يريد الرجل دخول التاريخ. سيدخل التاريخ حتما بصفة كونه أوّل رئيس أسود للولايات المتحدة. هل يدخل التاريخ بفضل إنجاز تحقق في عهده في المجال السياسي؟ الواضح أنه يبحث عن إنجاز. فالسنة 2014 تنتهي والإدارة الأميركية تتطلع في ثلاثة اتجاهات، في حين يبدو مطلوبا التركيز أيضا على اتجاه رابع، وآخر خامس.

يساعد الاتجاهان الرابع والخامس في معالجة ما يمكن تسميته الاستثناء الفلسطيني والظلم اللاحق بالشعب السوري وبسوريا عموما.

في الموضوعين الفلسطيني والسوري، تستطيع الإدارة إثبات جدّيتها بدل الاكتفاء بانتصارات أقلّ ما يمكن أن توصف به أنّها سهلة. في الواقع، تكشف مواقف الإدارة من فلسطين وسوريا تهرّبا من تحمّل مسؤولياتها التاريخية تجاه شعبين مظلومين. الفلسطينيون يعانون من الاحتلال، والسوريون يعانون من نظام مصمّم على جعلهم عبيدا لديه من جهة، وعلى وضعهم تحت الاحتلال الإيراني من جهة أخرى.

بالنسبة إلى باراك أوباما، لا يزال الملف النووي الإيراني يختزل كلّ أزمات الشرق الأوسط.

بالنسبة إليه، هناك مكان وحيد يمكن فيه تحقيق اختراق في الشرق الأوسط. هذا المكان هو إيران. إيران بلد مهم. لا يختلف اثنان في هذا الشأن. ولكن ما لا يسأله الرئيس الأميركي الباحث عن إنجاز يجعل التاريخ يتذكّره، كيف يمكن شنّ حرب ناجحة على “داعش”، بدل الشكوى من “داعش”؟

هل ذلك ممكن من دون السعي إلى معالجة ما تتسبب فيه السياسة الإيرانية في المنطقة من كوارث؟ هل هذا ممكن من دون الاعتراف، أوّلا، بأن الحرب الأميركية على العراق أمّنت لإيران موطئ قدم في هذا البلد الذي كان إلى ما قبل فترة قصيرة أحد أعمدة التوازن الإقليمي؟

يرفض أوباما أن يسأل نفسه، أيضا، كيف يمكن الاكتفاء بالتركيز على “داعش” السنّية، وتجاهل الدواعش الشيعية التي هي في أساس انتعاش “داعش” وتمدّدها؟ لا يجوز، في أيّ شكل، تجاهل المشروع التوسّعي الإيراني في المنطقة، في حال كان مطلوبا القضاء على الإرهاب الذي بات مرتبطا أساسا بإثارة الغرائز المذهبية التي هي في صلب المشروع الإيراني في الشرق الأوسط. يبدأ المشروع بأفغانستان، وصولا إلى اليمن والسودان ودول الخليج العربي وشمال أفريقيا، مرورا بالعراق والبحرين وسوريا ولبنان طبعا.

لا يمكن إلا استغراب هذا التوجه الأميركي إلى إيران، على الرغم من أنّه لا يمكن في أيّ لحظة تجاهل أهمّية هذا البلد ذي الحضارة العريقة. ولكن يبقى السؤال ما الذي لدى إيران، بنظامها الحالي، ما تقدمه للمنطقة في مجال المحافظة على الاستقرار فيها وتكريسه بدل العمل على تفكيك البلدان العربية، كلّ بلد تلو الآخر من منطلق مذهبي؟ هل تعتبر إيران في الوقت الحاضر أنه آن أوان قبض ثمن مشاركتها في الحرب الأميركية على العراق؟ في النهاية ليس لدى إيران ما تقدّمه سوى الاستثمار في المذهبية بدل السعي إلى نشر الأفكار التي تدعو إلى التسامح والاعتراف بالآخر والانفتاح على العالم المتحضّر.

في غياب مردود سريع لعملية استرضاء إيران، اتجه باراك أوباما نحو كوبا. ما أعلن عنه الرئيس الأميركي قبل أيّام كان خطوة تاريخية تعكس، أول ما تعكس، الانتهاء من مقاطعة استمرت ما يزيد على نصف قرن للجزيرة التي حكمها فيديل كاسترو طويلا. كان كاسترو يظنّ أنه سيكون شريكا في تغيير العالم. كل ما في الأمر أن كوبا تغيّرت، واكتشفت أن ليس في استطاعتها الاستمرار من دون العودة إلى الفلك الأميركي.

المضحك – المبكي في الموضوع أنّ كوبا المفلسة وجدت نفسها مضطرّة، في غياب الاتحاد السوفيتي والحرب الباردة، إلى الاعتماد على بلد يسير نحو الإفلاس هو فنزويلا. كانت فنزويلا بين أكثر الدول تأثّرا بانهيار أسعار النفط. انكشفت فنزويلا التي اعتمدت في عهد الراحل هوغو شافيز سياسة لم تجلب لها سوى الخراب. كانت النتيجة أن انتصرت عليها الولايات المتحدة بالنقاط. ما حصل أن أوباما الذي هرب إلى كوبا، إنّما قطف الثمرة بعد نضوجها وبعدما لم يعد أمام هافانا خيارات أخرى.

هناك مكان ثالث يسعى باراك أوباما إلى إظهار وجوده فيه. إنّه أوكرانيا. نعم، تعاني روسيا من العقوبات التي فرضت عليها بسبب سياستها الهجومية في أوكرانيا. لكنّ العامل الحاسم في المواجهة مع الرئيس فلاديمير بوتين كان هبوط أسعار النفط التي جعلت الاقتصاد الروسي في الحضيض. من وراء هبوط أسعار النفط؟ وحده الوقت سيكشف من وراء هذا التطور التاريخي الذي فضح دولا مثل فنزويلا وروسيا وإيران…

لماذا لا يمتلك أوباما الشجاعة نفسها في مواجهة إسرائيل والانتهاء من الاحتلال؟ هل كثير الطلب من الرئيس الأميركي ذلك؟ لماذا هذا التراجع أمام إسرائيل، في حين أنّ كل المطلوب هو إنهاء الاحتلال استنادا إلى قرارات واضحة لمجلس الأمن؟ هذه القرارات تمثّل الشرعية الدولية التي تعتبر الولايات المتحدة نفسها حريصة عليها، أقلّه نظريا.

لكنّ الفضيحة الأميركية الأكبر تظل الموقف من النظام السوري. هناك رعب أميركي من إسرائيل ومن بنيامين نتانياهو الذي يعترض على أي عمل يمكن أن يسيء إلى النظام السوري. كذلك، هناك مسايرة إلى أبعد حدود لإيران في مجال التعاطي مع النظام السوري.

هل هذا ما يبرّر كلّ هذا التخاذل حيال سوريا، حيث يوجد شعب عانى ما يزيد على نصف قرن من تخلّف حزب البعث، فإذا به يبحث منذ نحو أربع سنوات عن أبسط حقوقه؟

فشل أوباما في إيجاد سياسة واضحة أميركية في الشرق الأوسط. هناك جهل حتّى في البديهيات. في الإمكان تحقيق اختراق مع إيران، وفي الإمكان التوصل إلى مصالحة تاريخية مع كوبا. كذلك، في الإمكان تركيع روسيا بفضل أسعار النفط. ولكن حيث كان في استطاعة الإدارة الأميركية لعب دور بناء يخدم شعبين يبحثان عن شيء من كرامتهما، لا مجال لتحقيق أي تقدم.
هل إلى هذا الحد تخشى إدارة باراك أوباما إسرائيل التي لا هدف لديها، إلى إشعار آخر، سوى تفتيت سوريا، والقضاء على أي أمل بقيام دولة فلسطينية مستقلة؟ يبدو أن الإدارة التي تضع مسايرة إيران في طليعة أولوياتها، مستعدة لكلّ شيء باستثناء المواجهة مع إسرائيل.

في ظلّ هذه المعطيات، يصحّ السؤال من أي باب سيدخل باراك أوباما التاريخ؟

اقرأ المزيد
٢٣ ديسمبر ٢٠١٤
الثورات العربية والزمن الخطأ

حدّثني دبلوماسي غربي، بعد فترة وجيزة من خروج بن علي من السلطة في تونس، وقال متأسفاً "من معضلات الثورات العربية أنها اندلعت في ظرف تواجه فيه أوروبا، والغرب عموماً، أزمة مالية واقتصادية هيكلية، ومرشحة لكي تطول". وقد يعكس هذا الرأي نوعاً من الوصاية المتوارثة، لكنه يحمل درجة عالية من الحقيقة. فالأزمة التي أشار إليها الدبلوماسي، واندلعت شرارتها الأولى في الولايات المتحدة، لا تزال تفعل فعلها في معظم بقاع المعمورة، وانهيار اليونان والمخاطر التي تهدد البرتغال وإسبانيا، والمؤشرات السلبية الخطيرة التي تواجهها بلجيكا وفرنسا وإيطاليا، أمثلة من سلسلة حالات لدول غربية مأزومة، توحد بينها اقتصادات هشة، لم تغادر بعد عنق الزجاجة.
ما لم يدركه كثيرون أن الغرب، عموماً، تراجعت قدراته الاقتصادية والسياسية والأمنية، مقارنة بأوضاعه في مراحل سابقة. وهو ما لاحظه غسان سلامة، عندما تحدث عمّا وصفها بأقلمة السياسة، ويقصد الدور المتزايد للدول الإقليمية، على حساب الدول الكبرى التي انحسر دورها أخيراً. فيتسع، حاليّاً، الحضور الإيراني والتركي في المشرق العربي، لملء الفراغ نتيجة انهيار نظام صدام حسين، وتراجع نظام الأسد، والتغييرات في السياسة الخارجية الأميركية في مرحلة حكم أوباما، وانكماش سياسات الاتحاد الأوروبي.
في هذا المنحدر الصعب، تصاعدت حركات الاحتجاج العربي، وأطاحت خمسة حكام مستبدين، ما خلخل النظام الإقليمي السابق، وكشف عن رغبة شعبية في تغيير الأوضاع والسياسات والوجوه والأهداف. لكن، بدا، منذ اللحظات الأولى، أن القوى المحلية التي كانت في المعارضة، أو كانت مهمشة، ليست قادرة على ملء الفراغ، والاعتماد على نفسها للعب دور المنقذ والبديل. فعمدت هذه النخب، منذ البداية، إلى التوجه نحو أوروبا وأميركا لطلب المساعدة، من أجل إعادة ترتيب البيت الداخلي. كان خطاب الدول الغربية براقاً وجميلاً، وقدمت وعوداً عريضة، بعنوان دعم الربيع العربي، واعتبرت أن الفرصة توفرت لبناء شراكة فعلية وحقيقية مع هذه الدول. وتكفي الإشارة إلى مشروع "دوفيل" الذي وضع على عجل، وتضمن أشكالاً متعددة من الدعم. لكن، سرعان ما تراجعت النيات والحسابات، لتجد الدول التي يفترض أن تكون المستفيدة تستمر في التخبط في مشكلاتها المحلية، من دون سند حقيقي خارجي.
هنا، عدلت النخب الجديدة في مسعاها للبحث عن دعم من خارج المحاور الغربية، من دون أن تتخلى عنها، فاتجهت إلى العواصم الإقليمية، لكنها سرعان ما اكتشفت أن هذه العواصم ليست صيدليات مفتوحة لتوزيع الأدوية مجاناً، وإنما لها أولوياتها ومصالحها وارتباطاتها وشروطها. كما أن لهذه العواصم تقييماتها المختلفة للمتغيرات المفاجئة التي هزت المنطقة. فهي ليست مع الثورات التي أفقدتها حلفاء قدامى موثوق في ولاءاتهم، وقذفت على السطح بقوى جديدة، تتحدث لغة مختلفة، وتريد أن تغير من قواعد اللعبة، وإنْ ينقصها القدرة والخبرة والذكاء السياسي والوضوح الاستراتيجي. وهكذا، بدل أن تكون هذه الأطراف الإقليمية قوة مساعدة على تحصين فرصة تحقيق تحول ديمقراطي سليم وفعال، تحولت إلى أطراف لاعبة داخل المربعات الوطنية، ما زاد من التحديات، وضاعف تعقيدات الأوضاع المحلية، وفتح المجال أمام سيناريوهات تهدف إلى العمل على إيقاف ساعة الزمن، وإرجاعها إلى الخلف.
هذه أحد مآزق تواجهها الثورات العربية، وجدت نفسها غير قادرة على الفصل بين العامليْن، الداخلي والخارجي، بحكم ضعفها البنيوي. ولأن للخارج منطقه الخاص، وآلياته التي يستند عليها لتحقيق الاختراق والولاء وتغيير الأوضاع لصالحه، فإنه، في غياب تحصين الداخل، باعتباره الفضاء الحيوي والاستراتيجي، يصبح الانفتاح على الخارج، وهو ضروري في ظل الإمكانات الفعلية لهذه الدول، قادراً على أن يتحول إلى تهديد جدي للأوطان، ويصبح شيطاناً في وجه ملاك، يبيع السموم في شكل دواء نافع وعاجل، وهو ما تتقنه جيداً خطابات المناورات الدبلوماسية.

اقرأ المزيد
٢٣ ديسمبر ٢٠١٤
إيران تواجه الخليج بضم العراق وسورية

ليس مصادفة ذهاب إيران إلى التأكيد على تنسيقها مع أنظمة العراق وسورية، وإمكانية مأسسة العلاقات معهما، في وقت كانت دول الخليج تعلن من الدوحة عن رفع سقف درجات التعاون والتنسيق بين أعضائها، بما قد يشمل قضايا عسكرية وأمنية، فما حصل على ضفتي الخليج لم يكن سوى ترتيبات حان وقتها، وستظهر نتائجها العملانية بالتتابع، في إطار نسق يمكن تسميته بإعادة تشكيل قواعد اللعبة في المنطقة.

ليس سراً أن دول الخليج، في المدرك الإيراني، وضمن تقديراتها وتصوراتها الاستراتيجية، تشكّل المكّون الوحيد، ضمن المنظومة العربية، التي لا تزال لديها القدرة والمحفّز على مواجهة سياسات إيران في المنطقة، فهي، بالإضافة إلى العراق وسورية والأردن، تشكّل القلب العربي، كما أنها الجهة الوحيدة التي قد تشكّل النواة لإمكانية إعادة بناء النظام العربي من جديد، وتفعيل أهدافه ومقوماته. وبالتالي، أرادت إيران استباق أي إمكانية تطور في هذا الاتجاه، عبر إيصال الرسائل إلى قمة الدوحة بأن الوقت فات، وأن أي إجراءات قد تتخذها دول الخليج لم تعد ذات فائدة، فقطار إيران استقر في المحطات العراقية والسورية، وأن دول الخليج باتت في حالة من الانكشاف الاستراتيجي، بعد أن انتزعت طهران منها كل أحزمة الأمان وساحات الحركة وفضاءات المناورة، براً وبحراً، من الشام إلى اليمن، ومن شواطئ البصرة إلى مضيق باب المندب.

وليس سراً، في المقابل، أن دول الخليج باتت مدركة أنها تقع على خط حزمة من المتغيّرات الإقليمية والدولية، والتي تنذر كلها بالخطر، ولم يعد هناك فائض من الوقت لتركها تتشكل. وبالتالي، لا بد من إعادة ترتيب المخاطر، وتحديد مصادرها والعمل الجدي على مواجهتها. وليس خافياً أن ما صنعته إيران في المنطقة يأتي على رأس قائمة المخاطر. كل التحضيرات والترتيبات التي سبقت انعقاد مؤتمر الدوحة كانت تصب في هذا الاتجاه، حتى الأطراف التي كانت تراهن على عدم انعقاد القمة، ثم الفشل في اتخاذ قراراتها، كانت مدفوعة بهاجس الخوف من تحويل الفعل الخليجي إلى عمل استراتيجي مثمر.

أرادت إيران التدليس على دول الخليج، بداية من اسم المؤتمر الذي عقدته، ولم يحضره غير وكلائها، "العالم في مواجهة التطرف والإرهاب"، إلى رمزية مكان لقاء وزراء خارجية إيران وسورية والعراق، "مكتب الدراسات السياسية والدولية في وزارة الخارجية الإيرانية". وفي ذلك كله، أرادت الإيحاء بأنها وكيلة عن العالم في محاربة الإرهاب، وأنها حصلت على هذا الدور، نتيجة المفاوضات التي تجريها مع الغرب على ملفها النووي، وأن العالم صار مقتنعاً بوجهة نظرها في هذا الموضوع، على ما حاول رئيسها، حسن روحاني، الإيحاء به.

" باتت دول الخليج في حالة من الانكشاف الاستراتيجي، بعد أن انتزعت طهران منها كل أحزمة الأمان وساحات الحركة وفضاءات المناورة، براً وبحراً "

لا شك أنّ إيران على دراية تامة بالتوجهات الخليجية الجديدة، وخصوصاً ما يتعلق منها بإعادة تجديد قواعد الاشتباك، وأن ذلك سيطال حكماً ساحات نفوذ إيران، بما يعنيه ذلك من اصطدام حتمي قادم مع البنى والهياكل التي أسستها، وإمكانية تأسيس بدائل لها. وتتحسس إيران من الشرعية التي تملكها دول الخليج في الفضاء العربي، والمستندة إلى مكونات الهوية والتاريخ المشترك والرغبة الشعبية، وهو ما لا تمتلكه طهران، كما أنّ دول الخليج صارت على دراية، نتيجة مراقبتها تداعيات الأحداث في المنطقة، وطبيعة المساومات الجارية، أنّها ما لم تشكّل إطاراً قوياً ومركز ثقل وتصوغ استجابات متماسكة، فإنّه لا توجد ضمانات كافية لعدم وصول التداعيات إليها وتعرضها للمخاطر.

تحاول إيران استباق هجوم خليجي مضاد، وهي تدرك أن مشروعها فقد زخمه، وما لم تسعَ إلى تثبيته باعتراف دولي، فإن من الصعب المحافظة عليه ضمن الإمكانات المتاحة لها حالياً، وخصوصاً بعد انتشارها الواسع الذي يفوق طاقتها. وبالتالي، هي تدرك أن توجه الخليج نحو بلورة موارده، وتفعيل طاقاته، ضمن مشروع مضاد، سيعني تحطيماً أكيداً لمشروعها الذي استنفد كل طاقاتها. وإذا كانت إيران صرخت على جبهة واحدة "تخفيض أسعار النفط"، فإنها، بلا شك، لن تصمد أمام تداعي الجبهات عليها.

تسعى إيران على عجل إلى تلفيق حالة سياسية في العراق، وهي تدرك أن الوضع يتغيّر بسرعة لغير صالحها، لن يسعفها الوقت في منع تشكل بنية سنية عربية في العراق، ولن يعود بإمكانها تسخير موارد العراق لدعم تشكيلاتها في المنطقة، فخزائن العراق باتت فارغة، والمشاركة السنية في السلطة ستستدعي التركيز على الشفافية في الميزانيات، ما لم تخضع المسألة برمتها لرقابة دولية، بغرض ترشيد الإنفاق. وفي سورية، يتكشّف أن طهران كانت، بطريقة أو أخرى، وراء مبادرة "تثبيت الأوضاع" في محاولة لتثبيت ما تبقى من نظام الأسد وإنقاذه، فالتطورات على الأرض والتقديرات العسكرية توضح أن الوضع في سورية لن يكون في صالحها بعد فترة.

إيران، وفي الوقت الضائع، ترفع في وجه التحرك الخليجي الجديد، آخر البنى العربية الفاعلة، بطاقة "مأسسة العلاقات" مع ما تعتبره محمياتها في سورية والعراق، وهو في الواقع "إعلان ضم" أكثر منه مأسسة لعلاقات غير متكافئة أصلاً، ورسالتها أن أي تصعيد للمواجهة سيعني إعلان هيكلية جديدة للعلاقة بين إيران وتوابعها، تعيد تقسيم الإقليم على أسس وهويات جديدة، وإخراج البلدين من المنظومة العربية نهائياً.

اقرأ المزيد
٢٣ ديسمبر ٢٠١٤
مؤامرة بندر بن سلطان

لا أعرف لماذا تهوى ذاكرتي العودة إلى البدايات. بداية الثورة السورية في مارس/ آذار 2011، واستحضار أحداث لم أعطها أهميتها وقتها، وإذ بي أجدها تداهمني، وتفرض نفسها علي، وتأمرني أن أكشف النقاب عنها، ولأني أؤمن أن النهايات تحددها البدايات، فقد طاوعت ضميري، لأكتب عن تلك الحوادث التي تبدو مُضحكة وأشبه بالنكتة، لكنها ذات دلالات خطيرة.

منذ بداية الثورة السورية، وكنت لا أزال موظفة (طبيبة عيون) في المشفى الوطني في اللاذقية، وكنا كالعادة، أطباء وممرضات، نخربش توقيعنا الصباحي على دفتر الدوام، ومعظمنا كان يفرّ من المشفى، بعد التوقيع، ويذهب إلى عيادته الخاصة. في تلك الفترة، أي في شهر مارس/آذار من عام 2011، تم توزيع عدة أوراق إلى كل العاملين في المشفى الوطني، أوراق أعطوها لكل موظف، بعد أن خربش توقيعه على دفتر الدوام تشرح لنا خطة الأمير بندر بن سلطان لتدمير سورية! وتحكي بالتفصيل الدقيق مراحل تلك الخطة، وتصاعد العنف والإجرام فيها، واكتشفتُ لاحقاً أن كل مؤسسات الدولة وزعت تلك الأوراق (عن مؤامرة بندر بن سلطان) على العاملين لديها! يومها، قرأت تلك الأوراق بذهول، وتساءلت طالما أن الخطة، أو المؤامرة، مكشوفة إلى هذه الدرجة، فلماذا لا تُتخذ إجراءات لإحباطها؟ والعجيب أن كثيرين من الموظفين صدقوا تلك الخطة، كما لو أن بندر بن سلطان لاعب شطرنج، يحرك الأوضاع في سورية كما يشاء.

في تلك الفترة، غصّت الشوارع في اللاذقية بلافتات من نوع (الجزيرة، والعربية، والفرانس 24) قنوات سفك الدم السوري، ولافتات أخرى، أعترف، بكل خجل، بأنني لا أملك الشجاعة لذكرها. وبعد أيام، فوجئت بمسرحية من الطراز الرفيع، إذ أحضر مسؤولون في المشفى الوطني في اللاذقية كُوَماً من حبوب دوائية، كوّموها مثل هضبة في ساحة المشفى، وقالوا إنها حبوب هلوسة، أرسلتها قناة الجزيرة إلى اللاذقية. ووسط مشهد لا يمكن أن أنساه، تحلق معظم العاملين، من أطباء وممرضات في المشفى الوطني في ساحته، وتفرجوا مذهولين على هضبة حبوب الهلوسة، كيف صبّ عليها المسؤولون البنزين وأحرقوها. كنت أتمنى لو أحصل على حفنة من تلك الحبوب، لأعرف إن كانت سكاكر أم طباشير. وانطلت المحرقة على كثيرين صدقوا أن هضبة الحبوب البيضاء الصغيرة هي حبوب هلوسة، أرسلتها قناة الجزيرة للشعب السوري، تماماً، كحبوب الهلوسة التي تحدّث عنها القذافي. ولمّا سألت زملاء، كيف تأكدوا أن قناة الجزيرة هي من أرسلت حبوب الهلوسة، قالوا إن العنوان كان مكتوباً على الأكياس العملاقة التي تضم حبوب الهلوسة!!

لا أعرف سيناريو أتعس وأفشل من هكذا سيناريو، فلو أرادت جهة ما إرسال سمومٍ، أو حبوب هلوسة، إلى جهة عدوٍّ، هل تكتب عنوانها صراحة؟ المحرقة التي تمت في ساحة المشفى الوطني في اللاذقية تمثيلية مفضوحة إلى حد كبير، لكن أناساً بسطاء مُروعين، طوال عقود من الذل والخوف والذعر، يجدون مبرراً ليصدقوا، ليُخرسوا صوت العقل والمنطق، ويصدقوا أن قناة الجزيرة أرسلت حبوب هلوسة للشعب السوري. لست بصدد الدفاع عن قناة الجزيرة، هنا. لكن، ما يعنيني هو ذلك الاستخفاف والاحتقار للشعب السوري، تلك التمثيليات المفضوحة والمُقززة التي تُقدم له حقائق لا يجرؤ أحد أن يشك بها.

" أعظم مخرجي العالم الموهوبين عاجزون عن ابتكار مسرحية إحراق حبوب الهلوسة التي أرسلتها قناة الجزيرة إلى المشفى الوطني، وقد كتبت عنوانها صريحاً على الأكياس؟ "

جدران المشفى الوطني منذ بداية الثورة عليها لافتة أبدية: خلصت، خلصت، خلصت، مكتوبة بخط كبير ثم متوسط وصغير، والمقصود خلصت المؤامرة على سورية، ولا يجرؤ أحد من العاملين في المشفى أن يقول لهم إن المؤامرة ما خلصت. الخوف يلصق الشفاه بصمغ الخوف والذعر، وحتى حين أصبح المشفى الوطني في اللاذقية يغصّ بالنازحين، من حلب وريف إدلب، لم يجرؤ أحد أن يسأل المنكوبين عن ظروف نزوحهم؟ وكيف تدمرت بيوتهم؟ ومن دمرها؟ الخوف سيد الموقف. الخوف الذي تخمّر في النفوس طوال عقود وعقود. لا أنسى منظر جندي سوري أسعفوه إلى المشفى الوطني، بحالة خطيرة، وكسورٌ عديدة في كل أنحاء جسمه. كان في الثالثة والثلاثين من عمره، ودخلت أمّه في حالة ذهول وهذيان، وهي تردد: في سبيل من عُطب إبني؟

يا لروعة الفعل المبني للمجهول. يومها تمنيت الموت الرحيم لرجل ستكون إعاقته، إن بقي على قيد الحياة، جحيماً لأسرته. يمكنني ذكر مئات القصص المُشابهة من خلال عملي في المشفى الوطني في اللاذقية، ومن خلال إطلاعي الدقيق على قصص وحالات مُروعة، كم من شاب مات في المُعتقل بالسكتة القلبية، كما يقولون للأهل، ولم تُسلم جثثهم لأهلهم، بل بالكاد يعطونهم تقريراً بالوفاة. شباب سورية يتحولون أوراقاً، إما ورقة نعي: الشهيد البطل، أو ورقة بشهادة وفاة إن مات الشاب في المعتقل.

إلى متى سيُعامل الشعب السوري باحتقار واستخفاف وعدم احترام؟ إلى متى سوف تستمر المسرحيات الهزلية تُقدم له حقائق؟ أعظم مخرجي العالم الموهوبين عاجزون عن ابتكار مسرحية إحراق حبوب الهلوسة التي أرسلتها قناة الجزيرة إلى المشفى الوطني، وقد كتبت عنوانها صريحاً على الأكياس؟ وبعد أربع سنوات من الجحيم السوري، حيث نزح أكثر من ثلث الشعب، ويعاني أكثر من 80% من السوريين من الفقر، وبعد الانهيار الاقتصادي وموت مئات الألوف، بعد كل تلك المعطيات، أين هي خطة الأمير بندر بن سلطان التي وزعها المسؤولون في سورية على عامة الشعب؟ لماذا لم تتخذ الإجراءات لمقاومتها؟ من يصدقها الآن؟ ألم يحن الأوان ليحترم النظام والمعارضة ودول العالم كلها الكبرى في الإجرام، ومنظمات حقوق الإنسان الشكلية الوهمية، والفضائيات ببرامجها الندابة النواحة على سورية والشعب السوري، ألم يحن لكل تلك الجهات أن تحترم الشعب السوري، وحقه في حياة حرة كريمة بلا نفاق وتمثيليات وحبوب هلوسة، وعبارات خلصت، خلصت، خلصت، وتوزيع أوراق المؤامرة للأمير بندر بن سلطان. إلى متى سيُعامل السوريون كبهاليل؟

قد تكون ذاكرتي مشوشة من هول ما أشهد وأتألم، كأحبائي السوريين. لكن تلك الأحداث أعتقد أنها بالغة الأهمية، لتعطي صورة كيف يُعامل الشعب السوري، وبأي ضلال واحتقار يتعامل معه المسؤولون والعالم بأسره. إنها ثورة كرامة حقاً، وثورة حرية بلا أدنى شك.

اقرأ المزيد

مقالات

عرض المزيد >
● مقالات رأي
٢٤ يناير ٢٠٢٥
دور الإعلام في محاربة الإفلات من العقاب في سوريا
فضل عبد الغني - مؤسس ومدير الشبكة السورية لحقوق الإنسان
● مقالات رأي
١٦ يناير ٢٠٢٥
من "الجـ ـولاني" إلى "الشرع" .. تحوّلاتٌ كثيرة وقائدٌ واحد
أحمد أبازيد كاتب سوري
● مقالات رأي
٩ يناير ٢٠٢٥
في معركة الكلمة والهوية ... فكرة "الناشط الإعلامي الثوري" في مواجهة "المــكوعيـن"
Ahmed Elreslan (أحمد نور)
● مقالات رأي
٨ يناير ٢٠٢٥
عن «الشرعية» في مرحلة التحول السوري إعادة تشكيل السلطة في مرحلة ما بعد الأسد
مقال بقلم: نور الخطيب
● مقالات رأي
٨ ديسمبر ٢٠٢٤
لم يكن حلماً بل هدفاً راسخاً .. ثورتنا مستمرة لصون مكتسباتها وبناء سوريا الحرة
Ahmed Elreslan  (أحمد نور)
● مقالات رأي
٦ ديسمبر ٢٠٢٤
حتى لاتضيع مكاسب ثورتنا ... رسالتي إلى أحرار سوريا عامة 
Ahmed Elreslan  (أحمد نور)
● مقالات رأي
١٣ سبتمبر ٢٠٢٤
"إدلب الخضراء"... "ثورة لكل السوريين" بكل أطيافهم لا مشاريع "أحمد زيدان" الإقصائية
ولاء زيدان