تجاوزت الثورة السورية كل الثورات في قدرتها على التضحية والتحدي، وتحقيق انتصارات مذهلة في مواجهة تحالف قوى كبرى مع النظام توهمت كسر إرادة الشعب السوري باعتماد الإبادة وانتهاك الحرمات والتهجير والتدمير. ومع فشلهم وخيبة حيلهم ولكسب الوقت لجأوا إلى مبادرات لم يوفروا غطاء لتطبيقها بسبب تعطيل مجلس الأمن، وعدم التزامه بمسؤولياته القانونية والأخلاقية.
دي ميستورا المبعوث الدولي الخامس يريد وقف القتال في حلب، قلعة الشمال، فيها أكبر التشكيلات العسكرية تماسكا والتزاما ولا يمكن إسقاطها، وهي متصلة مع تركيا التي فتحت قلبها ومرافقها للسوريين وأحاطتهم بحدب واحترام ما عرفوه في وطنهم الأم منذ أكثر من 40 عاما، وحجة المبعوث الدولي البدء من الأسفل بعد أن فشل المجتمع الدولي (أو لم يرد) المعالجة من الأعلى (تغيير النظام) يريد وقف القتال في حلب تمهيدا لوقفه في أماكن أخرى، وإقامة مناطق تدار لا مركزيا لم يفصح عنها، ومن ثم الحوار مع النظام، وبعدها تقاتل المعارضة وجيش النظام معا «داعش» الخطر الوحيد، أما جرائم النظام فهي قتل من نظام طائفي يتلحف بالعلمانية والتقدمية مسموح به.
الغوطة محاصرة وعصية منذ أكثر من عامين ودرعا وإدلب يتقدم رجالها، لا بأس أن يتفرغ النظام لتدميرها تمهيدا لوقف القتال فيها، وخوفا من أن يتصل أبطال الغوطة الذين يخترقون حصارهم من الداخل بثوار درعا وثوار القلمون وينهار النظام المفكك الذي يعيش أسوأ أيامه داخليا وهو يسوق شباب الطائفة إلى الموت دفاعا عنه، وخارجيا وقد رأى الحلفاء عمق مأزقهم معه، وبقية المناطق تترك للقصف والاعتقال كل يوم.
دي ميستورا الذي يتمثل وضوح مشروعه في إبهامه، ولم يتطرق لرأس النظام والجيش والأمن، يجب أن يسأل ما هو مشروعه السياسي للتغيير، وأفقه الزمني، ماذا عن مقررات جنيف 1 التي أقرها مجلس الأمن، ووافقت عليها مجموعة أصدقاء الشعب السوري، ولماذا لم يعاقب من دفن جنيف 2 بدل تقديم مبادرات جديدة تكافئه لأنه ثبت على إجرامه؟
بوغدانوف على التوازي يصرح من لبنان الذي يحج إليه دوريا بأن المطلوب الآن حوار سوري - سوري غير رسمي دون شروط مسبقة (على الطريقة الإسرائيلية). يقولون روسيا غيرت موقفها وبوغدانوف يكذب ذلك علنا.
النظام أفشل مهمة 4 مبعوثين دوليين وعرب حتى الآن بحوارات خادعة.
فاروق الشرع ممثل النظام قال عن المفاوضات بداية الثورة مع ما يسمى بمعارضة الداخل إن نجاحها 5 في المائة تجاوزا. النظام لا يعرف المفاوضات إلا لتمرير مرحلة وهو لا عهد له ولا ذمة وهذه عقيدته السياسية المخادعة التي رسخها مؤسس النظام الطاغية الأب.
بعد الدابي ومود وأنان والإبراهيمي ألا يجب أن نسال أنفسنا كم مرة يجب أن تلدغ الثورة السورية من جحر واحد.
هناك مجموعة من الحقائق لا يمكن القفز فوقها؛ أولاها أن الثورة السورية التي قدمت حتى الآن نصف مليون شهيد وأكثر منهم من المصابين والمفقودين والمعتقلين وأكثر من 14 مليون من المهجرين ووطنا دمر أكثر من نصفه لا يمكن أن تتوقف قبل تحرير سوريا من النظام المجرم ورغم محاولات الحصار والتفتيت، ولن يستطيع العالم كله أن يهزم الثورة السورية. وثانيها أن القبول بمشاريع جزئية والحوار مع النظام جعلا البعض من أنصار الثورة يعيدون حساباتهم، وثالثها ليس هناك عاقل في المعارضة يعتقد أن إدارة أوباما بخلاف رأي كبار مسؤوليها ورجالات الحزب الجمهوري وبالتناغم مع روسيا ستبادر بعمل جدي لإنهاء معاناة السوريين وتحقيق حريتهم ما لم تفرض الثورة واقعا يلزمهم بذلك. ورابعها أن القضاء على الإرهاب دون تغيير النظام سوف يخلق إرهابا أعتى لنظام أتقن استخدام هذه التنظيمات والكل يذكر «فتح الإسلام» وصاحبه شاكر العبسي في لبنان، وأن أي حلول تقفز فوق أهداف الثورة وتتجاهل ذوي الشهداء والجرحى والمغتصبات محكوم عليها بالزوال مع أصحابها.
إن البديل الموضوعي والملح يتمثل بدعم الثوار على الأرض وتوحيد التشكيلات المقاتلة لمحاربة النظام و«داعش»، وليس لأي هدف آخر، والتمسك بالمنطقة العازلة والآمنة التي تصر عليها تركيا، والتنسيق مع الدول الشقيقة والصديقة التي تقف مع الثورة منذ انطلاقتها لفرضها وهي مطلب الثورة منذ 3 سنوات، وإحياء فكرة عقد مؤتمر وطني نادت به شخصيات معارضة قبل جنيف 2، وأن يتولى الائتلاف الدعوة لعقد المؤتمر بمشاركة كافة مكونات المعارضة المدنية والعسكرية للاتفاق على مشروع وبرنامج واحد يتمسك به الجميع ويوحد المواقف التي ستفرض احترام العالم المفقود في مرحلة هي الأخطر حتى الآن.
لنتذكر دوما أن حلفاء النظام لم يسمحوا له بالتراجع خطوة واحدة عن مواقفه وجرائمه في ظل انتصارات الثورة التي هددت مواقعه على امتداد الأرض السورية فكيف له أن يوافق على الرحيل بعد توقيف القتال معه ومحاورته كشريك في ظل رعاية دولية، من يضمن من؟!
كلنا يعرف أن الطواغيت العرب تاجروا بالإرهاب أكثر مما تاجرت به أمريكا. ما حدا أحسن من حدا. فقد لاحظنا على مدى السنوات الماضية أن تهمة الإرهاب راحت تحل شيئاً فشيئاً محل تهمة الخيانة والعمالة المفضلة لدى الديكتاتوريات العربية.
كيف لا وأن كل من يدّعي مكافحة الإرهاب، حتى لو كان أحقر وأبشع ممارسي العنف في العالم، يحظى فوراً بتأييد دولي لسحق خصومه، لا بل يمكن أن يحصل على مساعدة دولية، طالما أنه يدّعي مواجهة الإرهابيين. وقد لاحظنا أخيراً كيف أن العالم نسي كل ما فعله طاغية الشام بسوريا، وراح ينّسق معه ضد الإرهاب، وكأن قصف الأطفال بالكيماوي وتهجير ملايين الناس وتدمير ثلاثة أرباع البلد عمل وطني مشروع وشريف، بينما ذبح صحافي عمل إرهابي خطير. هل هناك إرهاب حلال، وإرهاب حرام؟ ألا يستوي إرهاب الذبح مع إرهاب التدمير والتجويع والتهجير واستخدام الأسلحة المحرمة دولياً؟
من الواضح أن الإرهاب أصبح كلمة السر لدى أعداء الشعوب في الداخل والخارج لإجهاض أية مطالب شعبية والقضاء على أية ثورة. فكما كانوا في الماضي يطلقون صفة «إرهابي» على كل من كان يقاوم الاحتلال ويدافع عن وطنه، ها هم الآن يشهرون سيف الإرهاب في وجه الشعوب الثائرة لإعادتها إلى زريبة الطاعة. والقذر في الأمر أن الجنرالات العرب الإرهابيين يتلقون دعماً من ضباع العالم الكبار الذين يباركون إرهاب الدولة المنظم في وجه كل من يطالب بأبسط حقوقه. ولو نظرنا إلى التاريخ الحديث لوجدنا أن الطواغيت العرب وأسيادهم في الخارج بدأوا يستخدمون بعبع الإرهاب منذ عقود، وليس فقط الآن لإجهاض الثورات وإعادة الشعوب إلى حظيرة الاستبداد. ويتساءل عبد الفتاح ماضي في هذا السياق: «أليست هذه المرة الثالثة على الأقل، في العقود الأربعة الأخيرة، لإعلان الحرب على الإرهاب في أعقاب ظهور مطالب شعبية لإحداث تغيير حقيقي في نمط السلطة في حكومات المنطقة التي لا تعرف إلا الاستبداد والفساد وتكميم الأفواه؟ ألم تكن المرة الأولى بعد أن انتهى دور من عُرفوا بالمجاهدين في أفغانستان؟ ألم يكن هناك حراك سياسي مناد بالإصلاح السياسي في أكثر من دولة عربية رئيسية وقتها، لكن بعض الأنظمة استغلت عودة من عُرفوا بالمجاهدين العرب إلى بلادهم لبدء المعركة ضد الإرهاب، فانتهى الحديث عن الإصلاح؟»
ثم لمّا عاد الحديث من جديد عن الإصلاح السياسي، في مطلع الألفية الجديدة، جاءت أحداث 11 ايلول/سبتمبر 2001 لتقوم الحكومات الغربية والعربية بشن حربها على الإرهاب….ثم الآن وبعد ثورات الربيع العربي، لاحظوا كيف راحوا يصورون الثورات والنضال من أجل الحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية على أنه نوع من الإرهاب. ويتساءل البعض هنا: لماذا تدخل حكومات المنطقة في تحالف جديد للحرب على الإرهاب بدل تصالحها مع شعوبها وإجرائها عمليات إصلاح حقيقية تقوم على حكم القانون ودولة المؤسسات والمواطنة التامة والتداول السلمي على السلطة والفصل بين المال العام والمال الخاص؟
ألم يصبح شعار مكافحة الإرهاب الحل السحري لمشاكل الديكتاتوريات العربية؟ فكل طاغية يواجه ثورة شعبية يصرخ فوراً: إرهاب، إرهاب، مع العلم أنه يكون هو نفسه صانعاً للإرهاب. فمع انطلاق الثورة السورية مثلاً «استخدم النظام ورقته التي طالما أتقنها، وأفرج عن المعتقلين ذوي الخلفيات الجهادية من سجون صيدنايا وتدمر، واعتقل الأطباء والاعلاميين وأصحاب الرأي، وابتدع جماعات إرهابية خاصة، في محاولة لتصيد التناقضات العالمية ووأد ثورة الحرية، وتجديد عقده لاحتلال سوريا بوصفه متصدياً للإرهاب».
لقد حاول النظام السوري وحلفاؤه إظهار الثورة السورية منذ أيامها الأولى بأنها مجرد عمليات إرهابية. وقد لجأوا إلى كل الحيل والفبركات والأكاذيب كي يجعلوا الثورة تبدو بأن من قام بها إرهابيون. وبعد أربعة أعوام يبدو أن العالم قد صدّقهم، وراح يتعامل مع الحدث السوري على أنه مجرد إرهاب بعد أن نجح النظام وأعوانه في تحويل الأرض السورية إلى ساحة فوضى ودم ودمار.
ليس هناك شك أبداً في أن ضباع العالم الكبار يعرفون الحقيقة كاملة بأن بشار الأسد وغيره من جنرالات الإجرام هم سبب الإرهاب وصانعوه، لكن لا بأس في المتاجرة معهم بسلعة الإرهاب طالما أنها تجهض الثورات، وتقضي على أحلام الشعوب في التحرر من الطغيان، ليبقى الطواغيت في خدمة مشغليهم في موسكو وواشنطن وتل أبيب. القوى الكبرى ترصد دبيب النمل، وتعرف من خلال أقمارها الصناعية كل شاردة وواردة، وتعرف الحقيقة، لكنها تناصر ما يناسب مصالحها. لا يهمها الدم والدمار والفوضى، طالما أن الطغاة العرب يحققون لها مرادها في الهيمنة والنهب باسم مكافحة الإرهاب.
لقد راح ضباع العالم وأذنابهم في بلادنا منذ عقود يصورون كل من قال: «الله أكبر» على أنه إرهابي محتمل، فهل يصبح من الآن فصاعداً كل من ينادي بالحرية والكرامة ولقمة الخبز إرهابياً حتى لو كان اسمه «عبد الشيطان»؟
عندما انطلقت الثورة كان النظام يملك كامل قوته التي بناها على مدى خمسين عاما من أسلحة، وجيش، وأجهزة أمنية، ومؤيدين، ومعنوية عالية، وثقة لامتناهية بالنفس، بينما لم يكن لدى الثوار سوى العزيمة التي دبت في قلوبهم بعد سقوط الرعب الذي زرعه النظام في نفوسهم، ولم يكونوا يسيطرون حتى على مناطقهم.
بعد أربع سنوات انعكس الوضع، إذ فقد النظام معظم ما كان يملكه من عناصر القوة، بينما استطاع الثوار أن يكسبوا الكثير منها إضافة إلى التصميم على الاستمرار، لكنهم لم يتمكنوا من ترجمة ذلك سياسيا لعدم قيام جسم يمثلهم، إذ احتل بعض معارضي الماضي التقليدي الساحة السياسية بالتحاصص فيما بينهم، وجاؤوا بشخصيات كاريكاتورية بدعوى تمثيل الثوار والأقليات، في حين أنهم قاموا عمليا (ولازالوا) بأقصاء الثوار الفاعلين وغيرهم من العسكريين والخبراء، فأنتجوا أجساما عاجزة عن التأثير في الداخل والخارج، ولم يتمكنوا من تحقيق مكاسب سياسية للثورة، بل حتى أنهم أضاعوا الزخم والتأييد الخارجي الذي كسبته الثورة في بدايتها.
والآن، وفي هذا الوضع المتدهور للنظام بدأ من يدعمه بالتحرك لإنقاذ ما يمكن انقاذه من بقايا النظام، ولكن بما لا يذكر من " التنازلات "، وكأن النظام لازال يتمتع بكامل قوته. ويساند هذا التحرك من ليس له مصلحة بإسقاط النظام، ويسعى إلى المشاركة فيه بعض اللاهثين وراء السلطة، والمخدوعين بوهم حنكتهم وشعبيتهم الفيسبوكية، وإمكانية قبول النظام بتسليمهم السلطة أو حتى القليل منها.
ومع أن جميع القوى الدولية تسعى لحل سياسي يتفادى سقوط الدولة ومؤسساتها مع سقوط النظام كما حدث في العراق وليبيا، وأن الحل السياسي مطلوب شريطة أن يحقق ما قامت من أجله الثورة - وليس وهما لذلك - إلا أن هذا لا يتأتى إلا من خلال القدرة على التفاوض المهني الصحيح ومن موقع القوة، وليس من موقف ضعف وقبول شروط الطرف الآخر حتى قبل أن تبدأ المفاوضات كما يفعل بعضهم، فبالرغم من الخسائر البشرية والمادية الكبيرة التي دفعها السوريون – بل من أجلها – يجب ألا يتم التفريط بأهداف الثورة، بل بـ "صبر ساعة" فإنهم " يألمون كما تألمون" بل ربما أصبحوا الآن يألمون أكثر.
يسعى الرئيس باراك أوباما، في المدة المتبقية من ولايته الثانية التي تنتهي بداية 2016، إلى تحقيق بعض الوعود التي أطلقها في خطابه الانتخابي قبل بدء ولايته الأولى عام 2008، بعد أن خذل الكثيرين على مدى السنوات الست الماضية.
وبالأمس، قال في تبرير اندفاعته لتطبيع العلاقات مع كوبا، أنه لا يعتقد أن «الاستمرار بالقيام بالشيء نفسه طول خمسة عقود، سيفضي إلى نتائج مختلفة»، في إشارته إلى أن سياسة واشنطن إزاء كوبا باتت عتيقة وغير مفيدة. وهو قرر، بعد 6 سنوات من رئاسته أن يعدّل سلوك بلاده على مدى أكثر من 50 سنة حيال كوبا، على رغم أن إنهاء القطيعة كان متوقعاً في السنة الأولى من دخوله البيت الأبيض.
ألا يفترض أن ينطبق ما قاله عن استنفار سلوك واشنطن حيال كوبا، على القضية الفلسطينية؟ فالولايات المتحدة تقوم بالشيء نفسه من دون نتائج مختلفة، على مدى 7 عقود في دعمها الأعمى لسعي إسرائيل إلى إلغاء حقوق الشعب الفلسطيني بالدولة المستقلة، على رغم أن أوباما كان وعد عند انتخابه بوقف الاستيطان الإسرائيلي وإقامة الدولتين.
إلا أن لائحة الوعود التي ينوي تحقيق بعضها في المدة المتبقية، والتي يقول المعلقون الذين ينتظرون أفعالاً منه، تقتصر على قضايا متعلقة بالمهاجرين وتحديات تغيّر المناخ ومسائل داخلية. ووفق هؤلاء لا يبدو الشرق الأوسط من ضمن هذه الأولويات، بدليل الضغط الذي مارسه عبر الدول الأوروبية على السلطة الفلسطينية، مع التهديد باستخدام الفيتو حيال مشروع القرار المعروض على مجلس الأمن بإنهاء الاحتلال وإقامة الدولة الفلسطينية خلال مهلة أقصاها سنتان، هذا على رغم تقدم فرنسا بمشروع ملطف للمشروع الفلسطيني.
وما اعتبره معلقون «تجرؤ» أوباما في حالة كوبا، في وجه غلاة الجمهوريين، ليس وارداً في الشرق الأوسط حيث ستبقى قاعدة «القيام بالشيء نفسه»، تحصد «النتائج نفسها»: المزيد من توالد أشكال الإرهاب طالما لم يحصل الفلسطينيون على حقوقهم، وما دامت واشنطن تمالئ التطرف الإسرائيلي المتنامي. فالناشطون الإسرائيليون الساعون إلى السلام يعتبرون أن المشكلة كانت في كل مرة تلوح فيها إمكانية لمفاوضات فلسطينية - إسرائيلية، إحجام واشنطن عن الضغط على القيادة الإسرائيلية، فتفشل بذلك هذه الإمكانية.
وحتى أولوية التطبيع مع إيران في سياسة أوباما الشرق أوسطية، تأخذ في الاعتبار مصالح إسرائيل ومطالبها قبل أن تلتفت إلى هواجس الدول العربية التي تعتبرها واشنطن حليفة. فما تأمله من هذا التطبيع هو أن يشمل أي اتفاق حول الدور الإقليمي، تخلي ايران عن ورقة الاستثمار في القضية الفلسطينية التي لعبتها طهران طوال العقود الثلاثة الماضية. أما ورقة الاستثمار الإيراني في المسرح العربي، عبر تمددها في غير دولة، فإنها تترك لدول الخليج التعاطي معها. وهنا أيضاً تساهم واشنطن بالتسبب في نمو أشكال الإرهاب الممزوج بجذور العداء لسياساتها مع النقمة على أنظمة الاستبداد، إضافة إلى استعار التناحر المذهبي.
أما أولوية محاربة «داعش» والإرهاب، فإن جل ما طمحت إليه إدارة أوباما، هو اعتماد سياسة شراء الوقت، عبر قرارها استخدام الضربات الجوية لـ «داعش» لـ «احتواء» تمدده تاركة «القضاء عليه» لخطط بعيدة المدى تمتد لسنوات، لا دليل على إمكان بلورتها في المرحلة المنظورة، لعل الإدارة اللاحقة تتولى أمرها. وتصور خطة واشنطن ينسحب حكماً على سبل التعاطي مع الأزمة السورية، المتروكة لمحاولات يلفها الغموض بحثاً عن حل سياسي تبذل موسكو جهوداً من أجله ومعها المبعوث الخاص للأمم المتحدة ستيفان دي ميستورا، لا يحظى بالتوافق العربي عليه وسط الخلاف على الأولويات بين دول تريد محاربة الإرهاب وتسوية تقود إلى تغيير رأس النظام في سورية، ودول تفضّل مواجهة «داعش»، وتأجيل البت بمصير بشار الأسد.
ويبدو أن إدارة أوباما اكتفت بالأخذ بنصيحة بعض أركان فريقه من الديموقراطيين بأن يستخدم الأزمة السورية للضغط على روسيا كي لا تتوغل أكثر مما فعلت في أوكرانيا، ولدفعها إلى تقديم بعض التنازلات في اتجاه التفاوض مع القيادة الأوكرانية، بموازاة الضغوط التي تمارسها ادارة اوباما مع أوروبا عبر العقوبات. وفي أحسن الأحوال فإن التوتر الروسي - الأميركي في شأن أوكرانيا يقود إلى إبطاء جهود الحلول في سورية، مع ما تتطلبه من تعديلات في الميدان.
من فلسطين إلى «داعش» (في العراق وسورية) لا يمكن توقع أي «تجرؤ» أميركي شبيه بذلك الذي مارسه أوباما حيال المسألة الكوبية. والمنطقة ستترك لصراعات قواها الإقليمية، ضمن ضوابط، مقياسها الأمن الإسرائيلي.
من بين كل القوى المتصارعة في سورية وعليها، وحده تنظيم «داعش» يمتلك استراتيجية واضحة ومحدّدة حيال الحاضر والمستقبل. يتطلع إليهما كما هما، ويعمل على جعلهما كما يجب ان يكونا. يظهر ذلك من خلال أداء مقاتليه في العراق وسورية بالمقارنة مع أداء أعدائه الكثيرين.
ذاك أن النظام العراقي لم يفعل شيئاً خلال السنوات التي تبوأ فيها نوري المالكي رئاسة الحكومة إلا تعبيد الطريق أمام أكبر حالة إلتفاف سنّي وراء تنظيم «القاعدة»، الذي صار لاحقاً تنظيم «داعش». أتى ذلك بعد حرب ضروس بين الصحوات والمجاهدين انتهت بتسليم الأخيرين مفاتيح مناطق لا يستهان بها من العراق. اللااستراتيجية العراقية، إذاً، تسببت بتحول تنظيم القاعدة إلى تنظيم «داعش» الذي باتت وحشيته المطلقة تستدعي، للمفارقة الساخرة، الترحم على سماحة سلفه!
في سورية، وعلى رغم أن بعض الوقائع الطافية على سطح مسرحها الحربي قد تشي بأن نظامها اتّبع استراتيجية متسقة منذ بداية الأزمة، فالتدقيق قليلاً في العمق سيظهر خلاف ذلك. فإذا كانت غاية النظام منذ اللحظة الأولى لاندلاع الثورة السورية استمرار إمساكه بمقاليد الحكم، فإن ما قام به حتى الآن أدى إلى عكس هذه النتيجة تماماً. لقائل ان يقول: لكنه ما زال الحاكم الأوحد، وهذا صحيح، إلا أنه الحاكم لكيان مختلف كثيراً وأصغر بأشواط ومستقبله غير مضمون بالمرة، مقارنة مع ما كان عليه الأمر قبيل آذار (مارس) 2011. فلا الحل الأمني أعاد الناس إلى بيوتهم. ولا إخلاء السجون من قياديي السلفية الجهادية أقنع العالم بعقد حلف معه في مواجهة إرهاب هؤلاء المتفاقم. هذا ولم يساهم إدخال الميليشيات الإيرانية الحرب سوى بتسليم رقبة النظام لمرشدها الأعلى.
أمّا إيران، وبصرف النظر عمّا تروجه بعض المنابر الإعلامية لبطولات قائد حرسها الثوري قاسم سليماني في ميادين العراق وسورية، فإزاحة نوري المالكي من الموقع التنفيذي الأول في العراق، فضلاً عن خسارة نظام الأسد حكم سورية الحديدي، يثبتان ان ما قيل عن إستراتيجية «حائك السجاد» ما هي إلا تعبير عن افتقار خصوم إيران الى إستراتيجية في مواجهتها. بكلمات أخرى، الفراغ الإستراتيجي، الإقليمي والدولي، في مواجهة إيران، أتاح لها الظهور بمظهر مالك الإستراتيجية. ولا أدل على ذلك إلا ردود فعلها الجنونية حيال بلوغ أسعار النفط القعر الذي بلغته، ما بدّد الإيجابيات المالية الناجمة عن رفع بعض العقوبات عنها.
كذا الأمر بالنسبة إلى ميليشياتها المقاتلة، لا سيما حزب الله. إذ مع كل يوم قتالي جديد في سورية، تزداد خسائر الحزب الإستراتيجية، على رغم مساعيه الدؤوبة لتضخيم بعض نجاحاته التكتيكية، التي ستجني إيران لاحقاً غنمها، ولن يكون نصيب الحزب منها إلا الغرم.
الأمر نفسه ينطبق على الأدوار العربية في سورية. ذاك أن الأخيرة وبتجلياتها كافة لم تنجح خلال سنوات الحرب الأربع في بناء موقع عربي راسخ قد يكون له دور تقريري في مستقبل سورية. على العكس، أسهمت الأدوار العربية في بناء مواقع متصارعة على لوحة تتداعى قطعها، الواحدة تلو الأخرى.
تقييم الدورين الأميركي والروسي لا يختلف منهجياً عن نقاش الأدوار السالفة الذكر. إذ، على رغم كونهما الدولتين العظميين الفاعلتين في سورية، فأداؤهما يكاد يقارب أداء الدول الصغرى فيها. أميركا، تارة تتحدث عن «القيادة من الخلف»، وطوراً تعود إلى الحديث عن «القيادة من الأمام»، وقد استقرت أخيراً عند «القيادة من الجو»! أمّا روسيا، فما كادت تظن أنها تربح في سورية حتى جاءتها الخسارة من أوكرانيا، حديقتها الخلفية. كما أنها، إلى جانب حليفتها إيران، من أكبر المتضررين من تراجع أسعار النفط العالمية. فبحسب وزير ماليتها انطون سلوانوف تخسر روسيا نحو 40 مليار دولار سنوياً من العقوبات، ومن 90 الى 100 مليار أخرى بسبب تدني اسعار النفط.
بالإنتقال إلى لبنان، وهو متلقٍ سلبي لنتائج السياسات الإقليمية والدولية أكثر ممّا هو فاعل فيها، يظهر ان دولته تقف أمام هول الأحداث بلا حول ولا قوّة. فلا هي قادرة على رسم سياسات فاعلة لاحتواء تداعيات اللجوء السوري، ولا هي قادرة على احتواء التداعيات الأمنية لتلاقي حمم حربه مع حروب الآخرين. جيشها يتخبط بين ضغط حزب الله عليه لخوض حربه في لبنان، وضغط تيار المستقبل عليه لعدم الانخراط في حرب ضد السنّة. وقصارى القول إن العجز اللبناني تعبير عن اللااستراتيجية في مواجهة كل شيء.
في كتابه الصادر بعد 11 أيلول (على الإنترنت)، «إدارة التوحش، أخطر مرحلة ستمر بها الأمة»، يقسم المنظّر القاعدي أبو بكر ناجي التاريخ كما يراه المجاهدون إلى ثلاث مراحل: مرحلة شوكة النكاية والإنهاك، مرحلة إدارة التوحش، ثم مرحلة شوكة التمكين وإقامة الدولة.
وحـــــســـب هـــذه التـــرسيمة الإستراتيجية، والتفاصيل الواردة في الكتاب، يظهر أننا نعيش اليوم مرحلة «إدارة التوحش» تحت قيادة «داعش». فكل ما نعيشه لا يعدو كونه ردّاً على محاولة التنظيم الانتقال من هذه المرحلة إلى مرحلة «شوكة التمكين»، أي إقامة الدولة، التي ربّما يكون الخليفة أبو بكر البغدادي قد تسرّع في إعلانها، كمحاولة لقطف ثمار بلوغ المظلومية السنية أعلى ذراها.
إستراتيجية «داعش» في تحقيق ذلك واضحة: قطع رؤوس الكفار والمتعاونين معهم. وهو لا يخفي ذلك، تعبيراً وتنفيذاً. وما الرؤوس المتطايرة في كل مكان، إلا التعبير الأمضى عن نجاح استراتيجية التنظيم حتى اللحظة. والحال أن الفراغ الإستراتيجي في مواجهة الأخير، لا يمكن سدّه إلا بإستراتيجية شعبية لإبقاء الرؤوس حيث يجب ان تكون. وهذه، لا تزال، مجرّد احتمال، تحوم فوقه شكوك كثيرة.
رغم مرور نحو ثلاثة أشهر على بدء الهجمات الجوية للتحالف الذي تقوده الولايات المتحدة ضد تنظيم الدولة الإسلامية في سوريا، لم يتضح حتى الآن ما هي الأهداف التي حققها هذا التحالف ولا حجم الخسائر التي مُني بها تنظيم الدولة الإسلامية وغيره من الجماعات الإسلامية المتشددة التي تُقاتل في سوريا، بل حتى أن لا أحد يعرف ما هي الخطوة التالية بعد الضربات الجوية.
أعلنت قوات التحالف عن شنها لأكثر من ألف غارة جوية، استهدفت مراكز قيادة تنظيم الدولة ومراكز تدريب تابعة له ومستودعات أسلحة ومصافي نفط صغيرة تستخرج النفط لصالحه، كما استهدفت مقاتلي التنظيم الذين حاصروا عين العرب (كوباني) شمال سوريا، وقال التحالف إن الحملة الجوية بدأت تحقق أهدافها.
التنظيم الذي يعتبره السوريون أحد أكبر المخاطر على ثورتهم، ويواجه في سوريا خليطا غير متجانس من مقاتلي المعارضة السورية ومقاتلي البيشمركة الكردية ومقاتلين من عشائر سنّية، ويتلقى في نفس الوقت ضربات جوية مستمرة من أقوى دول العالم، لم يتراجع كثيرا على الأرض، ولم يخسر مناطق مهمة.
وكل ما في الأمر أن تمدده قد توقف في بعض المحاور، بل وعلى ما يبدو يكسب بطريقة أخرى، فقد أعلن أنه كسب تأييد السكان المحليين واجتذب مقاتلين جدد، وكل ذلك برأي الكثيرين بسبب عدم وجود حلفاء على الأرض يدعمون القصف الجوي للتحالف.
حاول النظام السوري ويحاول أن يُسوّق نفسه كشريك على الأرض للتحالف، وهو ما لم ولن يحصل، فيما تؤكد المعارضة على أن أهداف التحالف لن تتحقق ما لم يقض على أصل المشكلة، وهو النظام، ودعا -دون فائدة- للاستفادة من طاقات الجيش الحر الذي من المفترض أنه الشريك الطبيعي للتحالف والقوة المطلوبة لملء الفراغ بعد هزيمة الدولة الإسلامية. النظام والمعارضة يريدان مشاركة التحالف، على الرغم من أن لا أحد يعرف بالضبط ما هي أهداف التحالف قريبة المدى ولا الأهداف النهائية.
يبدو للمراقب أن هناك تضاربا في الاستراتيجية الأميركية في سوريا والعراق، فهي في العراق تريد هزيمة تنظيم الدولة الإسلامية بالتعاون مع الحكومة العراقية، بينما تريد في سوريا “عزل التنظيم” وتشكيل معارضة لتحارب الإرهاب ثم تتفاوض مع النظام، وهناك أيضا خلط في الأولويات لدى الإدارة الأميركية، فلا هي تريد إشراك مقاتليها للقضاء على تنظيم الدولة، ولا تريد القضاء على النظام السوري، ولا تريد دعم الجيش الحر كشريك للتحالف على الأرض، فيما ظهر أن المستفيد الوحيد من هذه (الفوضى الاستراتيجية) الأميركية هو النظام السوري الذي التفت لتصعيد هجماته على المعارضة السورية وكثّف هجماته عليها، وترك لقوات التحالف مهمة الانشغال بتنظيم الدولة. لاشك أن هناك “فانتازيا” في الاستراتيجية الأميركية في سوريا، وفي خضم غموض أهداف التحالف الدولي وتناقض مواقف الولايات المتحدة، ضاع السوريون، ومن قبلهم المحللون، فقوات التحالف لن تحقق أهدافها بالقصف الجوي وحده، ولن تحرر أرضا، والولايات المتحدة لن تستطيع رفع رايات النصر المؤزر على القاعدة دون شريك أرضي، ولا يوجد خطة تالية لما بعد القصف الجوي، ولا يعرف أحد من سيملأ الفراغ.
لم يبق لـ “قارئ فنجان” الاستراتيجية الأميركية إلا أن يرى طريقين أو احتمالين قد تنتهجهما الولايات المتحدة، عاجلا أو آجلا، الطريق الأول يعتمد على البدء بتفكيك العلاقة بين سوريا وإيران، وتُجفف منابع الإرهاب بدءا من صانعيه، إيران والنظام السوري والقاعدة معا، وتضرب بقوة وقسوة، عندها ستضمن نهاية لأزمة المنطقة وتوقف توليد العنف والإرهاب، وستُفتح بعدها أبواب الحلول لمشاكل المنطقة. أما الطريق الثاني، فهو التدخل العسكري على الأرض، فدون ذلك تعرف الولايات المتحدة أن الفوضى ستستمر إلى ما لا نهاية حتى لو قُضي على الدولة الإسلامية، وسيشهد الشرق الأوسط مسارات عديدة متشعبة، وستُفرّخ الدولة الإسلامية دويلات، وستبدأ سلسلة من الحروب الأهلية والطائفية والقومية، لن يفيد معها أية مبادرات سياسية.
رغم أن الفكرة الثانية مستبعدة أميركيا ومرفوضة بشكل علني، إلا أن السياسة عادة ما يُخطط لها وراء الكواليس، ولا يُعلن منها إلا رأس جبل الثلج، والقرار الحاسم يُعلن عادة أيضا في اللحظات الأخيرة، بالإضافة إلى أنه لابد من لفت الانتباه إلى أن هذه الفكرة ـ المستبعدة أميركيا حاليا ستجعل الولايات المتحدة منتصرا دون شريك، وهو ما يناسب الأميركي دائما.
ينصت كل الفرقاء في سوريا بشغف إلى حملة المبادرات لحل ما في سوريا. يجولُ ميخائيل بوغدانوف، نائب وزير الخارجية الروسي، في العواصم مسوّقاً لخطة تتحرى مسارا تسوويا يرث ما أنجز على الورق في جنيف، فيما ستفان دي ميستورا، الدبلوماسي السويدي، يلوح بعلم الأمم المتحدة مدافعا عن مبادرته لتجميد القتال في حلب. لا شيء فوق العادة في السعي الروسي أو الأممي سوى أن الجميع يستمع، ومستعد لأن يستمعَ دون سلبية تحبط مساعي الساعين.
في رد فعل النظام السوري، كما المعارضة، قناعة مشتركة بعقمِ المقاربة العسكرية في حسم الأمور. لم تستطعْ دمشق من خلال الدعم العلني الروسي الإيراني المالي والعسكري والسياسي، ومن خلال التدخل المعلن من حزب الله وفصائل شيعية أخرى، أن تفرضَ رؤاها أو أن تسحقُ معارضيها. ثبتَ أن الحربَ كرٌ وفر، وأن الانتصارات التي يعلنها النظام نهاراً (كتلك التي تحدّث عنها رئيس الوزراء السوري في طهران) سرعان ما ينسفها حلول الظلام (سقوط معسكرات إدلب مؤخراً).
بالمقابل، بات واضحاً أن القوات العسكرية للمعارضة لا تملكُ القضاء على نظام دمشق، كما لا تملكُ خوض معارك على جبهات متعددة، بعد أن بدا أن النصرة وداعش يشكلان خطراً جديداً يتقاطع مع النظام لضرب المنجزات الميدانية للمعارضة المعتدلة.
بالمحصلة، لن يقبل النظام التنازل للمعارضة، لاسيما بعد أن استنفر العالم تحالفاته لضرب داعش والنصرة بما يرجّح موقف دمشق الرسمي المبشّر دوماً بمحاربته للإرهاب، فيما تتعرضُ المعارضة لحصار سياسي عسكري، لا يخفف منه ما يعلَن عن دعمٍ دولي لما هو في تلك المعارضة معتدل.
الجديد أن رواج داعش أدخل عاملاً عاجلاً يحرّك الأمم المتحدة كما روسيا. في التقاء التحرّكيْن ما يشبه السعي الواحد على مسارين، ذلك أن مبادرة بوغدانوف، كما مبادرة دي ميستورا، تنطلقُ من شرفة النظام (بوغدانوف يصرّح في دمشق أنه جاء للقاء القيادة الشرعية السورية) من حيث أن تجميد القتال، والانغماس في نقاش تفصيل ذلك، يلغي نهائياً البحث في العقدة الأساسية التي أجهضت جنيف 1 وجنيف 2 وأي جنيف آخر، وهي موقع بشار الأسد في التسوية النهائية.
في ذلك يبتعدُ النظام والمعارضة إلى أقصى النقيض. مجردُ طرح الفكرة كان وراء انهيار مهمة الأخضر الإبراهيمي وفشل مقارباته واستقالته، كما فشل المفاوضات اليتيمة بين نظام ومعارضة في جنيف أوائل هذا العام. فلا دمشق تقبلُ بنقاش موقع الرئيس في التسوية العتيدة، ولا المعارضة تقبل بغير رحيله.
تنصتُ دمشق إلى مساعي المبعوث الأممي. لا شيء تخسره ولن توافق على التخلي عن منجزٍ ميداني مكتسب. تناقشُ دمشق، من خلال دي ميستورا، عودة موظفيها إلى شرق حلب حيث تسيطر المعارضة، فيما تجميد المعارك في حلب يتيح لها نقل قواتها نحو مناطق صدام أخرى (الغوطة الشرقية مثلا) على ما تخشى المعارضة. بالمقابل تقارب المعارضة مشروع ميستورا بتحفظ وكثير من التساؤلات، على نحو يناقض التفاؤل الذي أعلنه الرجل بعد لقائه المعارضة في غازي عنتاب.
تخشى المعارضة من تدابير تقنية ميدانية لا يواكبها مشروع سياسي شامل، كما تخشى استغلال داعش والنظام لوقف المعارك للانقضاض على مناطق المعارضة. ثم أن المعارضة تشكو من غياب التفاصيل وضبابيتها حول الجهة الضامنة والمرجعية بعد فشل محاولات عربية أممية سابقة لمراقبة الاتفاقات.
في حركة وليد المعلم بين موسكو وطهران، وفي حركة دي ميستورا وبوغدانوف على من يهمه الأمر في العالم والإقليم، ما يوحي بجدية ما يستورد حديثا من بضاعة أممية روسية لتنشيط ورشة حل. في تجوال الموفد الأممي في أوروبا ما يفرج عن أزمة أوروبية – أميركية في أن لا مكان للأسد في التسوية المقبلة، فيما لندن، كما باريس، تحذّر مما تخشاه المعارضة بشأن خطر استغلال النظام لدي ميستورا، وخططه لتحريك قواته بشكل مريح.
واضح أن تنظيم داعش يتقدّم بصفته خطراً مشتركاً يعجّل في قلب التحالفات الدولية والإقليمية. داخل المعسكر الدولي لمكافحة تنظيم البغدادي تنشطُ دول إقليمية بمستويات متفاوتة. واشنطن تعترفُ بمشاركة عسكرية إيرانية في ضرب مواقع لداعش في العراق، فيما دولٌ عربية مناوئة لإيران تشاركُ الحلف الدولي قتال داعش. بدا من تقديرات الخبراء أن داعش بات خطراً جدياً يهددُ النظام الجيواستراتيحي برمته، ما يستدعي، ربما، هذه العجالة الروسية الأممية للإعداد لحل في سوريا.
مفتاحُ الحل مصيرُ الأسد في التسوية المقبلة. لا شيء معلن في هذا الصدد في موسكو وطهران، لكن ما هو غير معلن، وبعضه مسرّب، يتحدث عن تبدّل في مواقف العاصمتين بما يوحي ببدء القبول بنقاش دور أو لا دور للأسد في التسوية المقبلة. على أن السيناريوهات ما زالت مجمّعة على دور يتراوح بين الأساسي والمؤقت للرئيس السوري، فيما السيناريوهات المؤقتة تتحدثُ عن دور انتقالي يتراوح ما بين 6 أشهر وسنتين.
لا تملكُ المعارضة طرد الأسد من الحكم، لكنها تملك تعطيل أي تسوية لا تضمن ذلك. بدا أن المعارضةَ صارت مقتنعة بالتسوية التي تخلط حلا تشارك فيه المعارضة كما النظام بعد إبعاد نواته وشخصياتها المتورطة بالدم (لاحظ تصريحات زهران علوش قائد “جيش الإسلام”). استمع بوغدانوف كما دي ميستورا للمعارضة في تركيا، لاحظوا الحذر والتحفظ والقلق. لكنهم لاحظوا أيضاً ما يشجّعهم على المضي في ورشاتهما.
تتأسسُ المقاربتان على صمت أميركي يشبه القبول. الموقف الأميركي الرسمي الروتيني يُحمّل الأسد مسؤولية رواج داعش (وفق كيري على سبيل المثال لا الحصر) ولا يريده جزءا من الحل المحتمل، بالمقابل لا تقترب نيران التحالف ضد داعش مما يهدد أو يقوّض قوة دمشق. لا تريد واشنطن أن تُغضبَ أو تستفزَ طهران في سوريا، فتترك للدبلوماسييْن الروسي والأممي مقاربة الأمور بما تيسّر. في السلوك الأميركي ما يشبه الاستسلام للرؤى الروسية (الإيرانية) في الشأن السوري، فيما الحليف الأوروبي يواكب المسعى الروسي ويعمل على تصويبه بما لا يشكل اختراقا للمسلمات الغربية في الشأن السوري (ينبغي تأمل الأنباء التي تحدثت عن احتمال إعادة إيطاليا رئيسة الاتحاد الأوروبي لسفارتها في دمشق). وفيما يروق للبعض أن ترى في مبادرة دي ميستورا وجهاَ آخر لمبادرة موسكو، فقد يجوز تأكيد ذلك، ويجوز قراءتها، وتلك الروسية، بأنهما متسقتان مع مقاربة الولايات المتحدة في الشأن السوري (لاحظ جهود المشرف الأميركي على الملف السوري السفير دانيال روبنشتاين في التأثير على خطط لجمع المعارضة في موسكو منتصف الشهر المقبل).
مبادرة بوغدانوف ودي ميستورا خطان متوازيان يلتقيان بإذن واشنطن. تولّت روسيا تفكيك الترسانة الكيميائية السورية حين أرادت الولايات المتحدة ذلك، وهي اليوم تتحرك وفق نفس الروح، وتذهب هذه المرة للتبشير بحوار بين دمشق وواشنطن في العاصمة الروسية (حسب بوغدانوف). لا تملك موسكو النفخ برياح ضد الأشرعة الأميركية في اليم السوري، ذلك أن العقوبات الغربية المتصلّة بالأزمة الأوكرانية (لاسيما إفراج الكونغرس عن “معدات قاتلة” لأوكرانيا)، معطوفة على التراجع المقلق في أسعار النفط، وانهيار سعر الروبل لا يتيح للكرملين هامشاً مريحاً لممارسة العناد.
لا تغيب دول الخليج عن أجواء المبادرات. ثلاث ساعات من المداولات بين دي ميستورا وسعود الفيصل تعكسُ اهتماماً سعودياً بنقاش مسعى “حلب أولاً”. يذكّر المراقبون أن همّة بوغدانوف أتت بعد زيارة وزير الخارجية السعودي لموسكو الشهر الماضي. وتتردد أنباء عن جهد أردني مصري مشترك لتسويق التسوية لدى دول الخليج (قد تعبّر عنه زيارة الرئيس السيسي لعمّان). أصحاب المبادرات يدركون أن تمرير التسوية العتيدة لا يمكن أن يمر دون مباركة خليجية تركية، ما زال الخليجيون بعيدين عن هضمها، كما تكشفُ تصريحات وزير الخارجية التركي (مولود شاوش) قبل أيام في طهران كم أن أنقرة ما زالت بعيدة عن رؤى طهران (وموسكو) في مقاربة الشأن السوري.
منذ تبشير معاذ الخطيب بالحلِّ الروسي، وموسكو هي قِبلة النظام والمعارضة على طريق التسوية العتيدة. تعمل موسكو على نسج ثوب سياسي لورشة دي ميستورا الميدانية. لا يعمل الأخير على تجميد القتال فقط (حلب أولا)، بل يبشّر بإدارة مشتركة، بين نظام ومعارضة للمناطق التي يشملها الاتفاق. ربما يسعى الرجل إلى إرساء نموذج محليّ محدود لحلّ يتمدد ليكون شاملاً. أما ضمانات ذلك على حدّ تعبير دي ميستورا فهي على عاتق “الله”، ذلك أن عجز البشر عن الخروج بالترياق يحتاج إلى كثير من الدعاء، وربما استسلام لما هو قدر.
كارثة سياسية واقتصادية وإنسانية، لم يعرف لها العالم مثيلاً من قبل، كارثة لم تقتصر على سورية، بل تجاوزت ذلك إلى دول جوارها، ليكون الرئيس السوري، بشار الأسد، صاحب الصفحة الأكثر سواداً في التاريخ العربي الحديث. الكارثة التي أصابت سورية والجوار لم تكن إلا تراكمية مناورات قاتلة، من أجل الحفاظ على السلطة، ويبقى الحديث عن مسوغاتٍ، من قبيل المؤامرة وشرك الثورات التي ما هي في الحقيقة سوى فخاخ، الغاية منها النيل من هذه الأنظمة المقاومة والممانعة، مثلما يحب أو يحلو لبعضهم التوصيف، متناسين أن المؤامرة الجوهرية على الشعوب هي وجود مغامرين يقايضون بقاءهم في السلطة، ولو على حساب كوارث سياسية. أثبت التحالف الدولي على الإرهاب فشله، وازدادت الأزمة الاجتماعية والإنسانية والمعيشية حدة، وباتت تنذر بما يشتهيه النظام، وبات التحالف أمام البنى الأهلية السورية، تحديداً السُنة، أصحاب المظلومية منذ قدوم الحكم العلوي إلى سورية، في بداية ستينيات القرن المنصرم، الحامي الأول والأخير للنظام. لذلك، لا بد للتحالف الدولي لصرف أنظارهم عن إيجاد حاضنة شعبية للتطرف، من الاشتغال على القضاء على الإرهاب لا على احتوائه، وذلك بقوة حقيقية جوية وبرية، تقضي على الإرهاب بأشكاله كافة، منطق قوة يلجأ إليه التحالف في وجه نظام الأسد، والإرهاب الخاص به، الذي أوجده في سبيل إعادة إنتاج نظامه، بوصفه يواجه إرهاباً سنيّاً.
سياسة الترقيع التي تتبعها الولايات المتحدة الأميركية حيال ملفات المنطقة الساخنة بعد حرب العراق، حيث فشلت فشلاً ذريعاً في العراق، ولم تستطع، إلى الآن، فرض حل للصراع الفلسطيني - الإسرائيلي، وترددت كثيراً حيال أزمة سلاح حزب الله في لبنان، والذي بات معوقاً لحل ملفاتٍ كثيرة، أشياء تجعل النظام السوري يفكر بمناورات جديدة، تجعل الولايات المتحدة مرتبكة حيال مساومة النظام، ومماشاة روسيا والصين وإيران حول بقاء الأسد ونظامه في مقابل تسوية ما، والقبول بحلول غير جذرية.
" في سورية والعراق، حيث الأنظمة الطائفية الحاكمة تتلقى أموالاً طائلة ودعماً عسكرياً وسياسياً من الجمهورية الإسلامية الإيرانية "
المؤامرة التي يواجهها الشعب السوري اليوم، بتدبير من النظام وخصومه الظاهريين/ أصدقائه الباطنيين، لا يتحمل وزرها سوى البنى الأهلية، وخصوصاً السُنة. لذلك، يبقى الحديث عن مناورات داخلية، وأخرى خارجية، وخلط للأوراق، تهويمات بغرض فرض حلول وسط لا مكان فيها للداخل المتحمل لكل شيء، ليس بغرض فرض حلول تضمن للنظام بقاءه، بل رحيله مع رموز الدم.
تعيش الولايات المتحدة، اليوم، حالات من الضعف لم يشهد لها التاريخ السياسي الأميركي المعاصر مثيلاً، حيث باتت الجمهورية الإسلامية الإيرانية على بوابة مناطق نفوذها في الخليج العربي، حيث السيادة الأميركية للطاقة، بينما الولايات المتحدة منشغلة بالملف النووي الإيراني، الذي لا يقدّم ولا يؤخر كثيراً، حيث المطلوب إضعاف إيران كلياً، والبوابة السورية جزء من سياسة القمع السياسي ككل. لذلك، ستكون الانتخابات الأميركية المقبلة فرصة جد مناسبة لتوجيه صفعة لإيران، تخرجها نهائياً من مناطق نفوذ الكبار. تبقى الولايات المتحدة المسؤولة عن المأساة التي وصل إليها السنة في سورية والعراق، حيث الأنظمة الطائفية الحاكمة تتلقى أموالاً طائلة ودعماً عسكرياً وسياسياً من الجمهورية الإسلامية الإيرانية، دعماً موجهاً ضد السنُة، بغرض المضاعفة من أزمتهم السياسية والاجتماعية والإنسانية، بغية فرض واقع سياسي وديموغرافي جديد، لا يقيم وزناً للمساواة والتعددية. لا يمكن الحديث، اليوم، عن بقاء قطب واحد بعد الحرب الباردة، ظهور الاتحاد الأوروبي قوة اقتصادية، وصعود الصين قوة اقتصادية وعسكرية طامحة في النفوذ، وملاحقة روسيا حلمها بعودة امبراطوريتها المنهارة، أمور تفترض واقعية الضعف الأميركي. وتالياً، التعامل بواقع مع المنطق الذي يفرضه النظام: إما الانتحار مع الشعب أو البقاء. لذلك، على أميركا والكبار مراعاة مصالح السنُة، ورحيل النظام لضمان بقاء سيادة نفوذها أمام تهديد دول من قبيل إيران.
عنوانان وهدفان لا يمكن أحداً أن يرفضهما لسورية: وقف القتال أو «تجميده»، والحوار من أجل حل سياسي... لكن كيف؟ من الطبيعي أن تثار الأسئلة. فالحلول الداخلية «الوطنية» قتلها النظام السوري في مهدها، والحلول الخارجية قتلها حلفاء النظام و»أصدقاء» المعارضة وصارت فريسة صراعاتهم. ثم وجد الجميع أنفسهم في مهب «الحرب على الإرهاب»، فانطلقت منافسة محمومة بين «الحلفاء» و»الأصدقاء» يجمعهم هدف القضاء على «داعش» وتفرّقهم إزاحة بشار الأسد كهدف لا بدّ منه للتحرك في الاتجاهين: تفكيك منظومة الارهاب، ومعالجة الأزمة الداخلية. كانت «الحرب على داعش» عزلت روسيا تلقائياً في المربع الاوكراني، لكن الثغرات الكثيرة التي أبقتها استراتيجية باراك اوباما لـ «التحالف ضد الارهاب»، مثلها مثل الثغرات في استراتيجيته للتعامل مع الأزمة السورية، فتحت لموسكو أبواباً واسعة للعودة كلاعب دولي مكّنه الملف السوري من مصادرة مجلس الأمن وتعطيله، ومن التلاعب بمبادرات مبعوثي الأمم المتحدة، وسيمكّنه تواطؤه العميق مع ايران من التدخل في الحرب على الارهاب والتحكّم ببعض مساراتها.
فالمنطق العام الذي يخيّم على «مبادرة» روسيا و»خطّة» المبعوث الأممي ستيفان دي ميستورا الى سورية هو أن نظام الاسد استطاع الصمود وتجب مساعدته على استثمار «نصره» تحت ستار البحث عن حل سياسي، وأن المعارضة بمسالميها ومقاتليها تراجعت اجتماعياً وتقهقرت ميدانياً وتجب مساعدتها على «ادارة هزيمتها». وتعتقد الجهتان المبادرتان أن المساعي السابقة لوقف القتال لم تنجح لأن طرفي الصراع ظنّا لفترة طويلة أنهما قادران على الحسم، ومرّا بمراحل متقلّبة جرّبا خلالها كل ما يستطيعان، لكن الواقع ظلّ أقوى منهما. فالنظام انعطب منذ اللحظة الأولى، حين كُسِرت حواجز الخوف والصمت، ففقد رشده وصوابه وحنكته، وأسرَ نفسه في حل عسكري لن يجديه حتى لو تفوّق على خصومه. أما المعارضة فبدأت عملياً من الصفر، لا يعرف بعضها بعضاً في الداخل، ولا تراث قريباً أو تجربة جارية تستند اليهما، ولا أحد في الخارج يعرفها أو سبق أن عمل معها، فكان عليها أن تعتمد على من تيسّر من « الأصدقاء» الذين قدّم بعضهم الدعم لكنها أدركت متأخرة أن الولايات المتحدة تحكّمت بمصيرها طوال الوقت وبدّدت تضحياتها وجهدها لإسقاط النظام فانتهت بعد أربعة أعوام الى ما يشبه الضياع.
سبق للاسد أن عرض خططه لحل سياسي من داخل النظام وتحت اشرافه وقيادته، مستبقاً «جنيف 1» الذي شاركت فيه روسيا واعتبرت أن صيغته لا تتناقض مع ما اقترحه الاسد، وتبنّت ايران هذا التفسير بل صاغت «مبادرةً» لتطبيق «جنيف 1» ولم تجد سوى مؤيد واحد لها هو الاسد. كل ذلك تأخذه موسكو اليوم وتعيد عجنه موحيةً بأنها أدخلت عليه تعديلات، لكنها لا تزال واقعياً في المربع الأول من تفكيرها: فبيان جنيف (30 حزيران/ يونيو 2012) بالنسبة اليها كان يعني حواراً بين النظام والمعارضة التي يقبلها النظام، وكان الاسد ضيّق حيّز «المقبولين» كثيراً، مقصياً أولاً «معارضة الخارج» كلّها، ثم مستبعداً وزيره «المعارض» قدري جميل الذي لجأ الى موسكو، وممارساً الترهيب لمعارضي الداخل فحتى لؤي حسين «اختفى» ولا يعرف الاسد نفسه مكان وجوده (كما أبلغ المبعوث الروسي ميخائيل بوغدانوف). الجديد أن الروس يتحدثون عن مشاركة المعارضة من دون إقصاء، ويقدّمون ذلك على أنه «تنازل» وافق عليه الاسد بطلب منهم، بل يشيرون الى جملة «تنازلات» بينها قبوله ان يكون «الحوار» في موسكو وليس في دمشق (!)، وبينها أيضاً أنه لم يعد متمسكاً بخطّته التي تستغرق عشرات السنوات ولا يمانع التخلّي عن صلاحيات لا علاقة لها بشؤون المؤسسة العسكرية وأجهزة الأمن، أي أنه يتفضّل على الحكومة ورئيسها بصلاحيات ادارة السياحة والزراعة والبيئة والخدمات البلدية وما الى ذلك... لكنه لن يضمن مثلاً عدم تدخل عسس الأجهزة و»الشبّيحة» في كل الوزارات كما في القضاء وملف «العدالة الانتقالية» وموجباته.
ما الذي منع الروس من دفع النظام الى هذه الأريحية في «التنازل» خلال مفاوضات جنيف؟ ثلاثة أسباب: 1) لأنها كانت أكثر تركيزاً على البحث في «هيئة انتقالية للحكم بصلاحيات كاملة»، علماً أنها استندت الى ما سمّي «جنيف 2» الذي كان ثمرة توافق روسي - اميركي وأُثبت في القرار الدولي 2118 بناء على «صفقة» التخلّص من السلاح الكيماوي من دون معاقبة الاسد على استخدامه لقتل نحو 1466 شخصاً في الغوطة الدمشقية الشرقية. 2) لأنها فرضت تمثيل المعارضة بوفد واحد من «الائتلاف» في حين أن موسكو ودمشق حاولتا اشراك وفد ثانٍ للمعارضات الاخرى بغية تشتيت المفاوضات والاشتغال على التناقضات من خلال معارضي الداخل الذين سيتجنبون أي طرح «انتقالي» جوهري مخافة التعرّض لهم لدى عودتهم الى سورية. 3) لأن «جنيف 2» تضمن عنواناً وآليةً لحل سياسي غير مناسب للنظام فوجب احباطه والتخلّص منه، ووجد السوريون والايرانيون أنه لا يزال متاحاً آنذاك استغلال مسألة «محاربة الارهاب» واللعب بها، فشَهَرها النظام كورقة لمصلحته وكشرط أولي للشروع في تفاوض لا يريده، علماً أنه كان مستفيداً مباشرةً من انتشار تنظيم «داعش» و»جبهة النصرة»...
هذه الورقة - الخدعة كانت مفيدة للنظام وحلفائه لتعطيل «جنيف 2»، لكنها تغيّرت بعدما قلب «داعش» الطاولة في العراق ثم في سورية، فأصبحت «محاربة الارهاب» مهمة تحالف دولي تقوده اميركا ويضرب في سورية محاولاً رسم خط فاصل بين «محاربة الارهاب» والأزمة الداخلية. كما يضرب في العراق بعدما فرض بعض الشروط السياسية، التي تكيّفت ايران معها لفترة، وعلى مضض، قبل أن تجد الثغرات للالتفاف عليها، تحديداً من خلال التحرك برّاً بواسطة ميليشياتها الشيعية العراقية. ولا شك في أنها تبلور حالياً ترتيبات لتكرار السيناريو نفسه في سورية، بدليل الاجتماع الأخير في طهران لوزراء خارجية «الحلف الثلاثي» (ايران والعراق وسورية) بحضور مسؤولي الأمن وأبرزهم قائد «فيلق القدس» قاسم سليماني بالاضافة الى قادة ميليشيات عراقية ولبنانية («حزب الله») وفلسطينية (حماس). ثمة عنوان واحد لهذا الاجتماع وهو «القضاء على داعش»، وثمة منطلقان: 1) الحرب الحالية وسيلة لتحديد المستقبل فإمّا أن يكون الفوز لإيران (بمواكبة روسية بالسلاح والديبلوماسية) أو يكون لاميركا. و2) الفوز لإيران يعني ابقاء «التحالف» في الجو وحرمانه من قوات برية لقيادة الحرب على الأرض.
وهكذا تتضح أكثر معالم الصورة. فموسكو تجري اتصالات مكثّفة لتنظيم حوار سوري، وتقول إنها تحظى بتأييد اميركي غير معروف الشروط، وتبدو مبادرتها مكمّلة بل يقال منسّقة مع خطة دي ميستورا الذي يحاول جاهداً اظهار أن النظام لن يكون المستفيد الوحيد منها. لكن الدعم الذي يتلقاه من موسكو وطهران، والتشكيك الذي يلقاه من كل العواصم الأخرى، يشيان بأن البعد الإنساني لخطّته لا يكفي لتجميد موضوعي للقتال. فالروس والإيرانيون يريدون هذا «التجميد» كمعطى شكلي يوفّر بعض الغطاء لتمرير «حل سياسي» قريب من الصيغة التي يريدها النظام (حكومة تحت رئاسة الأسد تتضمن معارضين وتخضع لتوجيهاته)، لكنهم يريدون «التجميد» كمعطى عملي يتيح وضع قوات النظام في واجهة محاربة «داعش» برّاً، في حين أن القتال الفعلي بقيادة ايرانية سيكون لتشكيلة من الميليشيات على رأسها «حزب الله» اللبناني، تماماً كما يفعل الإيرانيون حالياً في العراق بواسطة ميليشياتهم التي تبيّن أنها أفضل قتالاً من الجيش الذي بناه الأميركيون لكن قيادة نوري المالكي أودت به الى التهلكة.
من الصعب أن ترث روسيا الدور السوفياتي في سورية، فتلك حقبة انتهت إلى الأبد، كما لن تنفعها مبادراتها الركيكة والتي فات أوانها في ما يتصل بإيجاد «حل سياسي» للقضية السورية، في إنقاذ ما تبقى من الرصيد الأخلاقي للسياسات السوفياتية السابقة في ضمائر السوريين. فذلك الرصيد أصبح هباءً منثوراً بفعل السلاح الروسي الذي فعل الأفاعيل بالسوريين وممتلكاتهم وأرزاقهم، وبفعل إجهاض روسيا أي مخرج سياسي للمأساة السورية، من دون أن ننسى تلطي السياسة الأوبامية المترددة والمرتبكة خلف ذاك الفجور الماكيافيلي في السياسة الروسية تجاه نكبة السوريين.
يتردد، أخيراً، أن روسيا ستقوم برعاية حوار سوري – سوري، يضم معارضين وشخصيات من النظام، بهدف الوصول إلى «حل سياسي». صحيح أن تزامن تآكل الروبل الحاد مع تآكل النظام السوري بفعل التعفن الناجم عن استنزافه المستمر هو وراء الاندفاعة الروسية الديبلوماسية الراهنة. لكن معضلات مستعصية ستواجه السياسة الروسية في سورية مستقبلاً، منها ما يتصل بالمنظور الروسي لمضمون «الحلول السياسية» في سورية المحكوم بالرؤية السلطوية البوتينية، بوصفها أكثر الرأسماليات ابتذالاً وتأخراً نتيجة ولادتها «مافيوياً» من عملية تفسخ النظام الشيوعي التي تماثلها عملية التفسخ البعثي. وذلك المنظور لا يكترث بمواضيع مثل الحرية وحقوق الإنسان ودولة الحق والقانون، وبالتالي فـ «الحل السياسي»، وفقاً له، لا يغدو أكثر من مسألة توسيع لـ «الجبهة الوطنية التقدمية» القائمة، وتشكيل حكومة «وحدة وطنية». وهذا في كل الأحوال منظور متأخر عن إدراك حجم أو عمق التحول التاريخي الحاصل في سورية.
كما أن مداخل الحضور السوفياتي في سورية منتصف القرن الماضي، سواء تلك التي تعلقت ببناء الجيش السوري «العقائدي» وتسليحه، أو التي ارتبطت بالبعد «النضالي» للأيديولوجيا الشيوعية «الكدحانية»، وجذبت التيار القومي العربي الذي أمسك بالسلطة حديثاً حينذاك، وقادته إلى الانضواء في سياسة المحاور المفروضة بشروط الحرب الباردة، هي ذاتها المخارج التي ستخرج منها روسيا من سورية. لأن الخيار الوطني السوري يملي على السوريين، بداهة، تغيير بنية الجيش وإعادة هيكلته وطنياً، وتقليص التضخم المفرط في التسليح، وتجنب سياسة المحاور القائمة على حساب المصلحة الوطنية السورية، وذلك كله سيؤدي إلى تحجيم الحضور الروسي في سورية.
وعلى رغم انقسام السوريين مذهبياً وطائفياً وقومياً، واختلافهم سياسياً وفكرياً، وتمايزهم اجتماعياً وطبقياً، فإذا نظروا إلى روسيا بعين الانقسام الأول، سيكون هواهم ليس هوىً روسياً، لأن السلاح الروسي دمر مناطق الأكثرية السنّية. وإذا نظروا إليها بعين الاختلاف السياسي الفكري، فالإسلاميون والليبراليون والديموقراطيون والناشطون في الحراك المدني السلمي وقسم من اليساريين هواهم ليس هوىً روسياً أيضاً. وإذا نظروا بعين التمايز الطبقي الاجتماعي، فالسلاح والموقف الروسيان كانا موجّهين ضد الأغنياء والفقراء وضد سكان المدن والأرياف على حد سواء. لذا غدت روسيا دولة منبوذة بالنسبة إلى غالبية السوريين.
ومما يزيد من نبذها أن البوتينية، كنموذج سلطوي في الحكم، تنتمي إلى ماضي البشرية المرتبط بالاســـتغلال والتــسلط والاستبداد والتحكم المطلق، ولا يمكن أن يكون لها حضور مســتقبلي في ظل تحــولها إلى مصدر للنفور الكوني، بخـاصة أن ثورات «الربيع العربي» انتفضت في وجه نسخ كاريكاتورية عنها، وبوتين زعيم بمواصفات الزعماء العرب ولكن بشروط روسيا.
لهذا، فروسيا نموذج آفل، وهي لن تستطيع مواصلة كسر إرادات السوريين، وستدفعها عوامل التحول التاريخي الكبير التي حدثت في بلادنا إلى خارج المستقبل السوري.
مع تواصل انخفاض أسعار النفط بات من الواضح أن هناك حالة من الـ«بارانويا» تصيب كلا من إيران وروسيا، أصدقاء بشار الأسد، حيث خرجت تصريحات متشابهة تقريبا من طهران وموسكو منددة بانخفاض أسعار البترول، ومعتبرة ذلك مؤامرة دولية، وليس نتاج أوضاع اقتصادية.
إيرانيًا، اعتبر الرئيس حسن روحاني الأسبوع الماضي أن هبوط أسعار النفط هو نتيجة «مؤامرة سياسية»، ومؤكدا أنها «ليست اقتصادية بحتة». وهو نفس الكلام الذي كرره النائب الأول للرئيس الإيراني عن «وجود مؤامرة سياسية في العالم وراء هبوط أسعار النفط». بينما روسيًا قال وزير الخارجية سيرغي لافروف أخيرا إن هناك أسسا للاعتقاد بأن واشنطن تحاول زعزعة الاستقرار، وتغيير النظام في روسيا من خلال فرض العقوبات عليها. وجاءت تصريحات لافروف هذه مع حالة هبوط حادة في العملة، وهو ما استدعى عقد اجتماع طوارئ، وحالة استنفار لدى البنك المركزي لحماية العملة الروسية (الروبل)!
وبالنسبة للروس فإن ما يجعل الأمر أكثر سوءا هو الإعلان عن نية الرئيس أوباما توقيع مشروع قانون يسمح بفرض عقوبات جديدة على روسيا، في الوقت الذي لوح فيه وزير الخارجية الأميركي بإمكانية رفع تلك العقوبات إذا اتخذ الرئيس الروسي «الخيارات الصحيحة»، ومضيفا أن الاقتصاد الروسي بيد بوتين!
حسنا، ما معنى ذلك سياسيًا؟ الطريف، وشر البلية ما يضحك، أن إيران وروسيا الآن لا تتحدثان عن أن أميركا تريد تغيير نظام الأسد، بل بات الحديث الآن عن مؤامرة دولية ضد إيران، بحسب الرئيس الإيراني، ومحاولة لتغيير النظام في روسيا نفسها، بحسب وزير الخارجية الروسي!
وعليه فنحن الآن أمام مشهد مختلف، إيرانيًا وروسيًا، حيث نجد أن حلفاء الأسد، والمدافعين عنه بالسلاح والمال، والرجال، هم من يئنون اقتصاديًا بسبب انخفاض أسعار النفط، ويتوجسون من مؤامرة دولية عليهما، وبالتالي الآن فإن السؤال هو إلى أي حد ستذهب إيران، وروسيا، في مساعدة الأسد، وتمويله؟ وبالنسبة لإيران فإلى أي حد تستطيع طهران المضي قدما في تمويل مغامراتها العبثية في المنطقة، وأبسط مثال هنا تمويل الحوثيين، وتعزيز قدرتهم في اليمن، وهو الأمر الذي تعتقد إيران أنه يمثل انتصارا سهلا لها، وعكس ما يحدث في العراق وسوريا، وذلك بحسب تقرير لوكالة «رويترز».
وبالتالي فإن الأسئلة الآن تتركز حول مقدرة روسيا على مواصلة تهورها في أوكرانيا وتمويلها للأسد الذي حاولت حماية عملته قبل أسابيع، وها هي موسكو تحاول حماية عملتها نفسها الآن. وكذلك مقدرة إيران على تمويل الجماعات الطائفية، وتمويل جرائم الأسد. والأمر الجدير بالتفكير هنا هو طالما أن الرئيس أوباما يحاول الآن محاصرة الروس من خلال فرض عقوبات جديدة عليها فلماذا لا يتم الأمر نفسه بحق إيران الراعي الرسمي لحالة اللااستقرار بمنطقتنا من العراق إلى سوريا، ومن اليمن إلى لبنان؟ حينها لن يصاب نظام إيران بالجنون وحسب، بل وبالألم السياسي المؤثر.
لأن الظاهرة الإرهابية، المتمثلة بـ«داعش» وغير «داعش»، قد تضخمت كثيرا، ولأن التعامل الأميركي والغربي مع هذه الظاهرة بدأ قاصرا والمتوقع أنه سيبقى قاصرا إذا بقيت الأمور تسير على هذا النحو وبهذه الطريقة، فإنه لا بد من أن يتولى العرب هذه المسألة المصيرية بأيديهم، فالمستهدف أساسا هو المنطقة العربية، وهو، إذا أردنا المزيد من الدقة، هذا الإقليم الشرق أوسطي كله وفي مقدمته تركيا التي تعتبر جبهة أساسية أمامية ملتهبة، والتي، إذا أردنا قول الحقيقة، تنام على ألغام كثيرة ستنفجر كلها دفعة واحدة إذا لم تكن هناك مواجهة شاملة مع هذه الآفة التي غدت زاحفة في كل الاتجاهات وفي العالم بأسره.
ولهذا، فإنه على العرب أولا: ألا يكونوا مبعثرين على هذا النحو المرعب، فالمثل يقول إن «الذئب يفترس الشاة المطرفة». وثانيا أن يتحرك المقتدرون منهم لتشكيل ما يمكن تسميته «رافعة» تكون جدار استناد لمواجهة هذا الخطر المرعب الزاحف الذي تجاوز كل الخطوط الحمراء والذي إن لم تكن هناك وقفة جدية، فإن ما يجري في العراق وفي سوريا وفي لبنان وفي اليمن، سينتقل حتما إلى دول أصبحت تعاني معاناة فعلية من ظاهرة الإرهاب «الإلكتروني» ومن ظاهرة الخلايا التي لم تعد نائمة.
إن المقصود بـ«العرب المقتدرين» هو: المملكة العربية السعودية، ومصر، وهو: المملكة الأردنية الهاشمية، والمملكة المغربية، وبعض دول مجلس التعاون الخليجي، وهو أيضا تركيا؛ هذه الدولة التي لا يجوز أن تستمر، بالنظر إلى المنطقة العربية، من خلال حزب سياسي هو جماعة الإخوان المسلمين التي أقحمت هذه المنطقة في كل هذه التوترات، وفي مرحلة تاريخية تقتضي الاصطفاف الدفاعي وتغليب الأساسي والرئيسي على الثانوي، وتأجيل المناورات والألاعيب السياسية إلى فترة يصبح فيها مجال لترف المحاكمات والمناورات الحزبية التي ساهمت في إيصال الأحوال العربية إلى ما وصلت إليه.
في ذروة انتصار حزب العدالة والتنمية بقيادة هذا النجم المتألق الصاعد رجب طيب إردوغان، ولكن إلى متى؟! رفع رئيس الوزراء التركي الحالي ووزير الخارجية السابق أحمد داود أوغلو شعار «تصفير الخلافات»، ولكن المؤسف حقا أنه جرى «تصفير الصداقات»، وغدت هذه الدولة العظيمة تنظر إلى دول هذه المنطقة من خلال ثقب الإخوان المسلمين، فانهارت علاقاتها مع مصر، التي هي واسط الخيمة العربية، إنْ في هذا العهد الواعد، وإن في كل العهود السابقة، وتراجعت حتى حدود القطيعة مع دول أخرى.
وحقيقة فإنه غير مقبول أن يختطف الإخوان المسلمون تركيا على هذا النحو، كما أنه، وفي الوقت ذاته، غير مقبول أن يستسلم العرب لهذا الاختطاف وإلى تردي العلاقات مع دولة محورية وأساسية في هذه المنطقة وفي العالم بأسره تربطنا بها علاقات تاريخية امتدت لأكثر من 4 قرون متلاحقة، ويربطنا بها، بالإضافة إلى المصالح الاقتصادية الواعدة، الدين الإسلامي الحنيف، والأمن الإقليمي المشترك المتمثل حاليا في مواجهة هذا الإرهاب المتفشي الذي يهدد تركيا ويهدد الدول العربية كلها.
إنه على العرب المعنيين أن يبادروا إلى الخطوة الأولى، فالجفاء يورم القلوب، والبعد يؤدي إلى مزيد من تراكم السلبيات، والمفترض أن تكون البداية الاتفاق مع «الأشقاء» الأتراك، وفي مقدمتهم الرئيس رجب طيب إردوغان على إبعاد التأثيرات الحزبية السلبية عن العلاقات المصرية – التركية؛ إذ دون تصحيح العلاقات بين هذين البلدين، ودون «تصفير» الخلافات بينهما، ستكون هذه المنطقة الشرق أوسطية مكشوفة كلها للإرهاب ولإسرائيل، وأيضا لبعض أصحاب الرؤوس الحامية في إيران الذين كان أحدهم قد أعلن قبل أسابيع قليلة وعلى رؤوس الأشهاد عن أن 4 عواصم عربية هي بغداد ودمشق وبيروت وصنعاء، باتت تابعة للعاصمة الإيرانية طهران وتدور حولها.
إن المفترض أن يسعى «الأشقاء» الأتراك إلى إعادة الإخوان المسلمين المصريين إلى الحياة السياسية المصرية؛ إذ إن ما فات مات، وإن هناك واقعا مستجدا سيستمر بالتأكيد لأجيال متعددة قادمة؛ وإذ إن الإرهاب الذي يضرب مصر الآن باسم «أنصار بيت المقدس» سينتقل حتما إلى تركيا إن لم يتم القضاء عليه بسرعة، فهي، أي تركيا، مستهدفة أيضا، وبالتالي، فإنها معنية بإطفاء جمر التطرف المتأجج في أرض الكنانة وفي سوريا والعراق وليبيا واليمن، وهي معنية أيضا بـ«تصفير الخلافات» وبإذابة الجليد السياسي المتراكم بينها وبين القاهرة وبينها وبين الرياض وعمان والرباط.
لقد بقيت تركيا تقرع أبواب الغرب الأوروبي لنحو نصف قرن وربما أكثر دون أي جدوى ودون أي فائدة أو أي إنجاز، وهذا من المفترض أن يجعلها تدرك أن مجالها الحيوي الاقتصادي والسياسي هو الجنوب الذي تربطها به علاقات متجذرة قديمة، هذا بالإضافة إلى العلاقات الاقتصادية الواعدة، وبالإضافة إلى ضرورة تشكيل جبهة موحدة للقضاء على هذا الإرهاب الأعمى الذي غدا يخبط خبط عشواء والذي لن يوفر أي دولة رئيسية من دول هذه المنطقة.
وهنا، وحتى لا يفهم البعض أن المقصود هو تشكيل تحالف ضد إيران، فإنه لا بد من القول إن المفترض أن تكون جمهورية إيران الإسلامية جزءا من هذا التحالف، أو التكتل، الذي يجري الحديث عنه، والذي لا بد من بلورته في أقرب فرصة ممكنة، ولكن بعد أن تتخلى عن كل محاولاتها التمددية في هذه المنطقة وتتخلى عن تدخلها السافر في الشؤون الداخلية للعراق ولسوريا ولليمن وللبحرين.. إن كل الدول العربية؛ وفي مقدمتها المملكة العربية السعودية، تريد علاقات أخوة وعلاقات مصالح مشتركة مع هذه الدولة المسلمة، المجاورة منذ بداية التاريخ، لكن المشكلة تكمن في أن الحب من طرف واحد لا يفيد، وأن التقارب يقتضي تلاقي الإرادتين؛ إرادة العرب وإرادة الإيرانيين. وحقيقة فإن هذا ممكن وغير مستحيل، ولكن بشرط أن تبادر طهران إلى تصفير خلافاتها مع «أشقائها»، وأن تكف عن تطلعاتها الفارسية الإمبراطورية الطائفية، وأن تقبل بالعيش المشترك الآمن في هذه المنطقة الواسعة التي من المؤكد أنها تتسع للجميع.
ثم، وعود على بدء، فإن التحديات التي تواجه العرب وتواجه تركيا، على اعتبار أنها دولة رئيسية ومحورية في هذه المنطقة الملتهبة، تتطلب سعيا دؤوبا لتطويق الخلافات المصرية - التركية التي لو تم تحييد تأثير الإخوان المسلمين فيها لتحولت إلى صداقات حميمة، وتتطلب أن تأتي المبادرة من قبل الدول العربية المعنية؛ مصر والمملكة العربية السعودية والمملكة الأردنية الهاشمية والمملكة المغربية وبعض دول مجلس التعاون الخليجي، فهناك تحديات كثيرة من بينها، بالإضافة إلى تحدي الإرهاب والتطرف، تحدي القضية الفلسطينية، ومن بينها ضرورة التخلص من هذا النظام السوري القاتل والحفاظ على هذا البلد العربي موحدا جغرافيًا وديموغرافيًا، ومن بينها أيضا ضرورة مساندة العراق ومساعدته للتخلص من كل هذه الأوضاع المأساوية التي يغرق فيها، وضرورة منع اليمن من الانزلاق إلى التشرذم والعودة إلى التشطير بعد نحو ربع قرن من الوحدة.
إن هذه المرحلة هي أخطر مراحل التاريخ العربي الحديث، ولذلك فإنه لا بد من تطوير التنسيق الحالي بين مصر والمملكة العربية السعودية والأردن والمغرب وبعض دول مجلس التعاون الخليجي، والارتقاء به ليقترب من الوحدة السياسية التكاملية القادرة على مواجهة التحديات الآنفة الذكر؛ وأخطرها تحدي التطرف والإرهاب الذي بات يتمدد في المنطقة تمدد ألسنة النيران بالهشيم.