أي إنسان حرّ وعاقل يكره أن يخوض في غمار تسميات وأوصاف طائفية أو مذهبية أو عرقية، فقد تعودنا في أيام الزمن الجميل على الانفتاح والتسامح والتعايش بين مكوّنات عالمنا العربي وآمنّا بأننا إخوة ننتمي إلى أوطان متعددة وأمة واحدة لا فرق بين عربي وآخر إلا بمقدار وطنيته وإنسانيته ونبذه الغلوّ.
هكذا عاشت الأمة منذ مئات القرون، وهكذا نشأنا وترعرعنا وعرفنا سعادة الأخوّة ومزايا المشاركة وفوائد التضامن والتعاون، ولم نعرف أي نوع من أنواع التفرقة أو نشعر بأحاسيس خاصة تجاه أي مكوّن من مكونات الشعوب والأمة. كما لم نسأل يوماً أي صديق أو جار عن دينه أو طائفته وانتمائه، وأكبر مثال على ذلك هذه الصروح من المقدّسات والمقامات التي بقيت صامدة سليمة محمية منذ أكثر من ١٤ قرناً، وهذا التنوع والتجاور والتآخي بين أبناء أديان وطوائف ومذاهب وأعراق مختلفة... إلى أن جاءت «داعش» وأخواتها لتمارس أعمالها المستنكرة والمدانة ضد الجميع، بل قتلت واضطهدت من أهل السنّة أكثر من أي مكوّن آخر.
كل شيء في ديارنا كان يسير بانسيابية في الاتجاه الصحيح إلى أن بدأت المؤامرة المتعددة الرؤوس في إشاعة أجواء التفرقة وإثارة النعرات، واتخذت لها سبيلاً خارجياً وعوناً داخلياً من بعض ضعاف النفوس الذين رضوا أن يكونوا أدوات هدم عن علم وعمالة أو عن جهل وتعصب. وهكذا بدأت الفتن تطل برأسها على العرب، دولة بعد دولة وشعباً بعد شعب، وطائفة بعد طائفة، إلى أن وصلنا إلى هذه المرحلة السوداء.
وحتى نكون موضوعيين ومنصفين لا بد أن نضع إصبعنا على الجرح ونوجه إصبعنا الآخر نحو المتهمين بالمشاركة في هذه «المذبحة الشاملة» والممتدة من المحيط إلى الخليج. وحتى نكون صادقين وصريحين لا بد من البدء بأنفسنا أولاً، ثم نعترف بأنه ما من أحد بريء من دم الأبرياء وما من طرف إلا وشارك في شكل أو آخر في إيصال السكاكين إلى الأعناق.
ومن لم يشارك يعرف أنه كان شاهد زور على مجريات الأمور إن لم يتحول الى شيطان آخر يسكت عن الحق ويساير الباطل ويسير في ركاب أصحابه هاتفاً ومبجلاً.
ولو استعرضنا ما جرى في المنطقة خلال نصف قرن وتبلورت أخطاره وظهرت مساوئه أكثر في السنوات الأربع المنصرمة، لوجدنا مئات الجروح والمضاعفات والتعقيدات والأزمات والظواهر المدمرة التي تحتاج الى مجلدات لتفنيدها وشرح أبعادها وسبر أغوارها ومحاولة رسم خريطة طريق لمعالجتها والخروج من أنفاقها المظلمة.
ولعل أبرز قضية أو واقع يتقاطع مع كل هذه المضاعفات هو أوضاع مكونات الأمة من الطوائف والمذاهب والأعراق، وبالذات وضع المسلمين السنّة، أو «أهل السنة» بحسب التسمية المتداولة، ووقوفهم من حيث لم يدروا بين فكّي كماشة تحاول تفتيتهم أو تحجيم دورهم والإساءة إلى سمعتهم وإلصاق أسوأ أشكال التهم بهم، مع أنهم كانوا ولا يزالون، في غالبيتهم، يمثلون قمة الاعتدال والانفتاح والتعايش مع الأمم والأديان والطوائف الأخرى عبر العصور. بل يمكن الجزم بأنهم كانوا أول من بدأ بالحوار مع الآخر والمجادلة بالتي هي أحسن منذ ظهور الإسلام، دين الوسطية، (وجعلناكم أمة وسطاً)، مروراً بعلماء وقادة وصولاً الى الدعوات المتكررة والخطوات العملية التي اتخذها خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز ورعايته «المركز العالمي للحوار» وإصراره على حوار آخر بين المذاهب.
ومن يدقق في تداعيات الأحداث المتعاقبة يدرك جيداً صحة هذا الواقع الذي أدى الى وقوع المسلمين السنّة بين «فكي كمّاشة» عرضت مصيرهم للخطر أو بين سندان التطرّف والإرهاب، المنسوب إليهم زوراً وبهتاناً، ومطرقة العداء المستشري الذي اتخذ أشكالاً متعددة، مثل «الإسلاموفوبيا» وتعميم الصورة النمطية المزورة التي تربط كل عمل إرهابي بالإسلام والمسلمين.
والمقصود بهذه التهمة الظالمة المسلمون السنّة بالذات، من دون الأخذ في الاعتبار أنهم يمثلون أكثر من بليون إنسان مؤمن أو من دون الاعتراف بأن مئة أو مئتين أو ألفاً أو ألفين أو حتى مليوناً أو مليونين اختاروا سبيل التطرّف والإرهاب لا يمثلون سوى أقل من واحد في المئة من تعداد المسلمين المنتشرين حول العالم.
فعلى الصعيد الدولي، كان واضحاً ان المقصود بمزاعم صراع الحضارات والإسلاموفوبيا ومزاعم خطر الإسلام على حضارة الغرب هم في أكثرهم من المسلمين السنّة، ولهذا انطلقت الأبواق المغرضة تعلن النفير وبداية الحرب لتضرب خبط عشواء من دون تمييز بين مسالم وإرهابي وبين معتدل ومتطرف. ودأبت الصهيونية العالمية على صب الزيت على النار.
لكن نيران الأحقاد لم تتأجج إلا بعدما أقدم بعض المسلمين على تنفيذ عمليات مسيئة أعطت الحجج والذرائع للأعداء، ومنحت كل حاقد المبرر لممارسة كراهيته الدفينة. فقد تبنت «القاعدة» بقيادة أسامة بن لادن عمليات التفجير في نيويورك وواشنطن التي وصفت بالزلزال لتلصق بعدها تهمة الإرهاب بكل مسلم وتؤدي الى احتلال العراق وأفغانستان وتصعيد إسرائيل لعربدتها ضد الشعب الفلسطيني، مع أن القاصي والداني يعرف جيداً من «اخترع الوحش» ومن غذاه ثم أفلته ليمارس خطاياه، إن لم يكن قد أفلت لوحده بعدما تخلى عنه أربابه عندما أدى مهمته في تدمير الاتحاد السوفياتي انطلاقاً من أفغانستان.
وما يجري حالياً من أعمال عنف وإرهاب ومذابح يندى لها الجبين وعمليات خطف وذبح وصلب وسبي للنساء... ما هو إلا فصل من فصول هذه المؤامرة التي دفعت القريب والبعيد والعدو والصديق إلى وضع كل المسلمين في ميزان واحد يشمل الجميع في الإدانة والاستنكار والعداء، مع أن كل الدلائل تؤكد أن هؤلاء أقلية منحرفة، بينما غالبية المسلمين براء منهم، بل إنهم كانوا أول من تصدى للإرهابيين، فيما كان العالم يغض الطرف عنهم أو يحاورهم ويدافع عنهم بزعم الدفاع عن حقوق الإنسان.
لكن هذا لا يمنع من الاعتراف بحدوث بعض التقصير في المواجهة أو التأخر في حسمها، أو السكوت على واقع كان يبدو للبعض عادياً ومضبوطاً ضمن سياسة الإنكار.
ولا نكشف سراً إذا قلنا إن المقصود بهذا التعميم هم «أهل السنّة»، فإسرائيل تعتبرهم الخطر المستقبلي على وجودها، والولايات المتحدة تنظر إليهم كتهديد أول لمصالحها، وروسيا تتعامل معهم كصاعق تفجير إضافي لكيانها ولهيمنتها على الجمهوريات الإسلامية الآسيوية، والشيشان بالذات، ولهذا تتخذ كل هذه الدول «داعش» و «جبهة النصرة» والتنظيمات المتطرفة الأخرى ذريعة لتبرير مخاوفها، بل إن الغرب يحاول دقّ إسفين في العلاقات بين المسلمين السنّة والمسلمين الشيعة... وغيرهم من المنضوين تحت راية الإسلام، كما يعمل على إذكاء نار الفتن والترويج لفكرة أن الثورة في إيران تخدم أهدافه، لأنها ستؤدي في النهاية الى شق صفوف المسلمين وإشعال نار فتنة مذهبية على المدى البعيد، بل إن هناك من يدعو الى استغلال هذه التباينات للوصول الى الغايات الخبيثة، كما جرى عند اندلاع الحرب العراقية- الإيرانية.
وبكل أسف، فإن علامات الفتنة السنية- الشيعية قائمة ويجري الحديث عنها بين حين وآخر وتتركز نيرانها في العراق قبل الغزو الأميركي، وبعد إسقاط نظام الرئيس صدام حسين وخطايا النظام الجديد حيث جرى ما نعرفه جميعاً، وأدى إلى الدخول المشبوه لـ «داعش» على الخط، والباقي معروف. وفي لبنان، اشتدت المخاوف من الفتنة نتيجة الخلافات المستشرية التي تفجرت في 7 أيار (مايو) 2008... ووصلت الى ذروتها بعد إعلان «حزب الله» القتال في سورية.
ومن هنا، كشّر الفك الآخر للكمّاشة عن أنيابه بإثارة حساسيات وإطلاق مشاريع مشبوهة وتزايد الأحاديث عن تقسيم وتفتيت ودول طائفية، وإعادة النظر في الحسابات وموازين القوى، ومن بينها كلام كثير عن الدعوة إلى إقامة ما يسمى بتحالف الأقليات، أي بين الشيعة والدروز والعلويين والإسماعيليين والمسيحيين، بمختلف طوائفهم، لتأمين قدر من التوازن العددي والمادي مع المسلمين السنّة الذين يمثلون الأكثرية في العالمين العربي والإسلامي. وعلى خط موازٍ، هناك تركيز إعلامي وسياسي على ارتكابات المنظمات المتطرفة والزعم بأنها جزء من نهج كل المناطق السنية لتأجيج العداء ضدها، مع الرهان على حروب وصراعات سنّية- سنّية بين المتطرفين والمعتدلين وإضعاف أي دولة أو قائد حزب أو اتجاه يمثل الاعتدال بوصفه القلعة الحصينة لمنع الفتن وإظهار الوجه الحضاري والإنساني الذي يمثل الغالبية. وهذا ما تبنته إسرائيل التي شنت حروباً ومؤامرات ضد المعتدلين، من «فتح» وغيرها بقيادة الرئيس الشهيد ياسر عرفات، ومن بعده عمدت الى تحجيم دور الرئيس محمود عباس لأنها تدرك جيداً أخطار الاعتدال على كيانها.
وانطلاقاً من هذه المؤشرات والأخطار لا بد من التنبيه والحذر لمقاومة هذه المشاريع المشبوهة لأن نهايتها وخيمة على الجميع بلا استثناء، بين سنّي وشيعي وأي مكون آخر من مكونات أوطاننا وشعوبنا. ومهما كانت المبررات، فإنه لن يكون فيها منتصر ولا مهزوم، بل خاسر وخاسر، ورابح واحد هو إسرائيل.
ولمواجهة مثل هذه الأخطار، لا بد من الحوار البنّاء وإعادة اللحمة إلى كل أطياف الأوطان وإزالة أسباب الخلاف أو التمييز وإشاعة أجواء المحبة والتعايش والوحدة وتوجيه كل الجهود إلى نزع صواعق التفجير وإيجاد حلول سياسية للأزمات المتفاقمة والالتفات إلى البناء وإعادة الإعمار وتأمين الحياة الكريمة للمواطنين.
والأهم من كل ذلك وضع حد لأي تدخل خارجي ونبذ العنف وتوحيد الطاقات لمحاربة التطرّف والإرهاب بكل أشكاله، والقضاء على الأسباب والدوافع التي أدت الى انتشاره. وبهذا العزم والتصميم، ينجح العرب في كسر فكّي الكماشة قبل أن تسحق كل مكونات الأوطان العربية.
في جلسة استماع خصصت للحديث عن الحرب على داعش، وعن سوريا، استغرب بعض أعضاء الكونغرس من برنامج الحكومة الأميركية تدريب المعارضة السورية على السلاح، لأنه يبدأ في ربيع العام المقبل، وينتهي في ربيع 2016! ما الذي علينا أن نفعله حتى ذلك الحين، تقذفون بالقنابل في مناطق هامشية وتدربون لزمن بعيد؟ تساءلوا مستنكرين!
وبرنامج التدريب الموعود بذاته لا يستحق الاهتمام به إلا من الجانب السياسي، لأنه يعبر عن موقف أميركي مؤيد للمعارضة ومع مشروع إسقاط نظام الأسد. موقف سياسي فقط لا يجب أن يحمل أكثر مما يحتمل، ويمكن نقضه بتصريحات في الملخص الصباحي للبيت الأبيض.
عدد الموعود تدريبهم من الجيش الحر من الضآلة أنه لا يتجاوز رُبع عدد جيش تنظيم داعش الإرهابي، ولا يبلغ ثُمن عدد قوات الأسد. 5 آلاف مقاتل من الجيش الحر يفترض أن يمضوا عاما في معسكرات التدريب الأميركية، والأرجح أن عامين سيمضيان قبل أن يتمكن أحدهم من إطلاق النار في ساحة الحرب، بسبب البيروقراطية وعدم استعجال ترتيب المهمة الموعودة. وحتى عندما يتخرجون جنودا مدربين ما الذي سيفعلونه أمام الطائرات التي تقذف بالبراميل المتفجرة، أو المدافع التي تقصفهم من بعيد؟ لا شيء لأنهم محرومون من الأسلحة الدفاعية.
مع هذا فإن السوريين سيستمرون في القتال، سواء دربوا أم لا، سواء سلحوا أم لا، لأن الحرب ليست خيارا اليوم، ولا يمكن وقفها في انتظار الحل السياسي، أو حتى إنهاء التدريبات العسكرية. هناك 9 ملايين إنسان مشردون في الداخل والخارج، لا يمكنهم القبول بخدمة البطانيات، والخبز، والنوم في العراء كل شتاء، لهذا الحرب لم تتوقف ولن تتوقف. الكثير من السوريين يقاتل بأسلحة بسيطة، وبثياب رثة، وحتى من مل أو تعب منهم، لا حل أمامه للعودة إلى بيته إلا بالقوة، هذا أمله الوحيد. وربما يمضي العامان المقبلان والنظام باق في دمشق، متكلا على دعم حليفه الإيراني، إلا أن الحرب لن تتوقف من دون نهاية للنظام حلا أم حربا.
وكلنا يعرف أنه لو كان بحوزة المعارضة المعتدلة السلاح النوعي، لما عاش النظام، وكانت خسائر حلفائه أكبر من قدرتهم على الاستمرار في حمام الدم إلى اليوم، لأنه ليس هناك نقص في عدد المتطوعين للقتال، بل يبلغ عددهم في الجنوب وحده أكثر من 30 ألف مقاتل وإن كان تأهيلهم بسيطا وأسلحتهم محدودة. ليست الولايات المتحدة، ولا حتى الدول الأوروبية المؤيدة للجيش الحر، هي من تدرب المعارضة التي تقاتل على الأرض، بل معظمهم منح تدريبا سريعا في الدول العربية التي تؤيدهم، وتدعمهم، وكذلك تركيا.
ولهذا نقول للوسطاء الدوليين، ومبعوثي الدول الغربية، إن عليهم أن يفهموا الواقع الجديد، الذي لا ينسجم مع الحلول النظرية التي يعيدون طرحها بلغة مختلفة كل مرة. السر يكمن في الـ9 ملايين لاجئ، ومعظمهم داخل سوريا نفسها. بسببهم ستستمر الحرب، لأن نظام الأسد يعتبرهم خصومه، ولن يسمح لهم بالعودة إلى مدنهم وأحيائهم، خشية أن يسلموها للمعارضة، إن لم يحاربوا أيضا معها. وفي نفس الوقت لا يمكن أن نتوقع منهم البقاء على الحياد وهم مطرودون من منازلهم، لهذا السبب تحديدا الحرب ستستمر حتى حدوث التغيير. الذي لا نستطيع أن نعرفه في المستقبل القريب، هو كيف ستتشكل القوى والأوضاع بين اللاجئين، هل سينضم المزيد من الشباب السوري التائه إلى تنظيمات متطرفة مثل «داعش» و«جبهة النصرة» أم مع «الجيش الحر» المعتدل. من الصعب أن نخمن عن بعد ما الذي يحدث داخل مجتمع المهجرين والمشردين، سوى القول: إنهم خزان بشري هائل، وغاضب.
تتواتر الأنباء عن ضربة إيرانية لمواقع تنظيم الدولة الإسلامية في العراق، ولا يبدو الأمر غريباً، فالعراق منتهك السيادة، وهو ساحة معركة إقليمية ودولية. لذلك، تحوم الطائرات الغربية والإيرانية في سمائه، ولا تجد استنكاراً من الساسة العراقيين الذين تعوّدوا على الحكم تحت سقف التوازنات الإقليمية والدولية، وبدون سيادة (مع التذكير أن وصولهم إلى الحكم جاء من خلال الاحتلال الأميركي)، ولا استنكاراً عربياً حقيقياً في ظل الفوضى التي يعيشها العرب على كل المستويات.
بغض النظر عن تأكيد صحة هذه الأنباء من عدمها، فإن إيران تخوض حرباً ضد تنظيم الدولة، سواءً ضربت مواقعه مباشرة أم لا، فعلى الرغم من أن إيران لم تدخل في إطار التحالف الدولي ضد التنظيم، إلا أنها تعتبر هذا التنظيم خطراً حقيقياً عليها وعلى مصالحها في الإقليم، وهي تعمل بكل قوة، وبالتعاون مع حلفائها، لضربه وإنهاء خطره، وبالذات في العراق، حيث النفوذ الإيراني والمكاسب التي تم تحصيلها منذ عام 2003، مهددة بوجود هذا التنظيم، وتحديه حلفاء إيران في العراق.
استفادت إيران من الاحتلال الأميركي للعراق، وحولت الخطر الذي مثّله عليها إلى فرصة لإيلام الأميركيين، وفي الوقت نفسه، لبسط نفوذها في العراق. عندما أسقط الأميركيون نظام صدام حسين، العدو اللدود للإيرانيين الذين شعروا بأنهم ربحوا بالخلاص من نظام صدام حسين، لكنهم ظلوا يشعرون أنهم مستهدفون من المحافظين الجدد في الولايات المتحدة، وبدأ التفكير الإيراني الجدي في استراتيجية لمواجهة الأميركيين في العراق، وتلخّصت الاستراتيجية الإيرانية في أمرين: العمل على عدم استقرار القوات الأميركية في العراق، بدعم فصائل مقاوِمة، والسيطرة على النظام السياسي الجديد في العراق، لكي لا يكون أداة بيد الأميركيين.
لعبت الأحزاب الشيعية الطائفية دوراً رئيساً في الاستراتيجية الإيرانية داخل العراق، إذ إنها كانت فرس الرهان سياسياً بالنسبة للإيرانيين، وقد كانت إيران تتمتع بعلاقات متفاوتة مع هذه الأحزاب، فعلاقتها وطيدة جداً بالمجلس الأعلى الإسلامي العراقي (المجلس الأعلى للثورة الإسلامية في العراق سابقاً)، بزعامة آل الحكيم، حيث نشأ المجلس في أحضان الإيرانيين، لكن علاقتها أقل مع حزب الدعوة والتيار الصدري. ما حصل بعد عام 2003 عزز علاقة حزب الدعوة والصدريين مع إيران، إذ إن التقسيم الطائفي الذي جاء به الأميركيون، وارتضته النخبة السياسية العراقية، مكّن الإيرانيين من نسج علاقة وطيدة مع "الكتلة الشيعية" في العملية السياسية، باعتبارها راعية إقليمية للساسة الشيعة في العراق، في مقابل الرعاة الإقليميين للقوى السنية، وعلى الرغم من التوحّد، في البداية، بين المكونات الشيعية ضمن ائتلافٍ موحد، فقد نشبت الخلافات والصراعات بين أطراف هذا الائتلاف، وبقيت إيران تضبط الإيقاع، وتحاول حل الخلافات وإيجاد توافقات بين أقطاب الكتلة الشيعية، مثلما فعلت، بإقناعها مقتدى الصدر باختيار نوري المالكي لولاية ثانية، حين حصل الصراع الإقليمي والدولي على شخصية رئيس الحكومة العراقية، بعد انتخابات عام 2010.
" الإيرانيون وحلفاؤهم لم يتنبّهوا إلى ضرر سياسات نوري المالكي على الوضع العراقي، وعلى نفوذهم "
مع الانسحاب الأميركي من العراق عام 2011، وهيمنة حلفاء إيران على الحكم هناك، ساد الاعتقاد بأن إيران سيطرت تماماً على الوضع في العراق، لكن الإيرانيين وحلفاءهم لم يتنبّهوا إلى ضرر سياسات نوري المالكي على الوضع العراقي، وعلى نفوذهم، فالمالكي اتخذ خيارات صِدَامية مع ممثلي السنّة في العملية السياسية، وأضاف هذا مزيداً من الشعور بالغبن عند السنّة، ما جعل داعش تعزز وجودها داخل الوسط السني، ضمن صراع هوية واضح المعالم، أسهمت فيه بقوة السياسات الطائفية لحكومة نوري المالكي.
تمددت داعش، واستولت على الموصل، ومعظم المناطق التي يسكنها السنّة، وأصبح الإيرانيون أمام تحدٍ جديد يهدد حلفاءهم الرئيسيين في العراق، ونفوذهم وهيمنتهم هناك، ليس فقط لأن داعش تتمدد، بل، أيضاً، لأن الأميركيين يعودون بقوة لينافسوا الإيرانيين على النفوذ السياسي. وهكذا، فإن ما يحصل الآن يعبّر عن تنافس إيراني ـ أميركي في العراق على توجه الحكومة الجديدة، برئاسة حيدر العبادي، كما يعبّر عن استنفار إيراني في مواجهة تنظيم الدولة الإسلامية، بغرض منعه من تحقيق تمدّد كامل في العراق، وضرب المصالح الإيرانية.
مشكلة الإيرانيين أنهم يتصرفون بعقلية إدارة الأزمة، وهم لا يملكون استراتيجية للحل السياسي في العراق، أو تغيير السلوك الطائفي لحلفائهم الذي تسبّب بهذه الأزمة، فهم مهتمون بمواجهة داعش عسكرياً، غير أنهم لا يدركون أن مشاركتهم، بخبراتهم العسكرية، في إعادة ترتيب الميليشيات الشيعية لمقاتلة داعش، وبصور قاسم سليماني من قلب المعارك، تعزز وجود داعش، عبر تعزيز نفور السنة العراقيين من الساسة الشيعة الذين يسلّمون أنفسهم والبلاد إلى إيران. صور سليماني، التي تُظهر تحدياً وتنافساً إيرانياً مع الأميركيين والغرب، تُفهَم عند السنّة تحدياً لهم، وانعداماً لاستقلالية القوى الشيعية العراقية.
من دون عزل داعش عن حواضنها الشعبية، عبر مصالحات وتوافقات وطنية واسعة، يعززها رفض الهيمنة الإيرانية والغربية، وإيجاد حالة عراقية وطنية مستقلة، لا يمكن تصور نهاية ظاهرة "داعش"، فالتنظيم سينبعث مجدداً تحت أي مسمى، حتى لو هُزِم عسكرياً، طالما صراع الهويات في العراق قائمٌ ومستمر، والمعالجات السياسية غائبة، والثقة بين العراقيين مفقودة.
في ندوة متخصصة عقدت مؤخرا في عمان، نقلت وسائل الإعلام عن مسؤول ملف اللاجئين في وزارة الداخلية قوله أن اللاجئين في الأردن، من مختلف الجنسيات، يشكلون 45 % من السكان. اكتفى المسؤول بالنسبة الإجمالية، ولم يعرض أرقاما تفصيلية. لكن نصف هؤلاء تقريبا هم من السوريين، والنصف الثاني يتوزع على الجنسيات الفلسطينية والعراقية والليبية واليمنية. ولا نعلم إن كان المسؤول شمل في حسابه العمالة الوافدة، المصرية منها على وجه التحديد؛ ففي هذه الحالة يصبح الرقم منطقيا، وربما صادما للكثيرين.
تظهر دراسات سكانية أن الأردن من بين أكثر البلدان في العالم قدرة على دمج اللاجئين في بنيته الاجتماعية. فعلى مدار العقود الماضية، استقبل الأردن عدة موجات من اللاجئين، ومن مختلف الجنسيات العربية وغير العربية. وانخرطوا جميعا في الحياة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، من دون صعوبات كبيرة. بيد أن ذلك لا يعني بالضرورة انتفاء أشكال التمييز، كما الحال في مجتمعات معاصرة وأكثر تحضرا من المجتمع الأردني.
لكن الحاصل في الوقت الراهن أن موجات اللجوء أكبر من مثيلاتها في التاريخ الأردني؛ من حيث الأعداد، وفترات اللجوء القياسية. لقد زاد عدد سكان الأردن بنحو 20 % في غضون سنتين تقريبا، وهي نسبة أكبر من طاقة المجتمع والدولة على هضمها.
ولهذا، يخشى باحثون وسياسيون أن تقوض الهزات الديمغرافية المفاجئة استقرار المجتمع، المسكون أصلا بالخوف من تبعات اللجوء، والفوضى في دول الجوار.
ومن بين التحديات التي تواجه السلطات وقادة المجتمعات المحلية في هذه المرحلة، تعزيز قيم التعايش بين السكان واللاجئين في البلدات الصغيرة والأحياء داخل المدن الكبيرة وفي الضواحي، التي تشهد حضورا لافتا للاجئين يفوق في بعض الأحيان أعداد السكان الأصليين في تلك المواقع.
الخبر الجيد بهذا الخصوص أنه لم تقع، لغاية الآن، صدامات أهلية واسعة النطاق بين المجموعتين السكانيتين. لكن في ظل الظروف الاقتصادية الصعبة، وشح الموارد والوظائف، فمن غير المستبعد أن تبرز نزعات عدوانية تجاه اللاجئين، وتأخذ أشكالا خطيرة.
وعادة ما يواجه اللاجئون صعوبات في التأقلم خلال المرحلة الانتقالية. لكن مع مرور الوقت، تتلاشى الفروقات، وينخرط "الغرباء" في البنية المحلية للمجتمعات.
لقد مر المجتمع الأردني بمراحل انتقالية مشابهة في تاريخه. وحاليا يمر بفترة انتقالية عاصفة، بسبب حجم اللجوء هذه المرة، وسيحتاج لبعض سنوات قبل أن يتجاوزها.
وأعتقد أنه مع بداية العقد المقبل، ستبدأ ملامح المجتمع الجديد بالتشكل. العراقيون الذين قدموا إلى الأردن في عقد التسعينيات على سبيل المثال، واستقروا بشكل نهائي، هم الأقرب إلى الاندماج الكامل في المجتمع حاليا، واكتسبوا شروط المواطنة باستثناء الجنسية والحقوق السياسية، مع أن العديدين منهم نالوا الجنسية.
هناك بلا شك قوى وأصوات تقاوم مثل هذا الاندماج، لاعتبارات تتعلق بالهوية. لكن، وكما حصل في الماضي، فإن تلك الأصوات ستخبو مع الزمن، وستفرض الوقائع نفسها على الجميع.
تشير تجارب اللجوء في العالم كله إلى أن نصف اللاجئين تقريبا لا يعودون إلى ديارهم بعد استقرار الأحوال. وكلما طال أمد الأزمات، تتراجع الآمال بالعودة، وتتغلب الرغبة في الاستقرار على حنين العودة للأوطان. هذا ما سيحصل مع معظم اللاجئين السوريين والعراقيين.
لم تشهد أي إدارة أميركية تخبّطاً وتشوّشاً مثل الذي تشهده إدارة باراك أوباما، اليوم، حيال الملف السوري، حيث الارتباك والضعف وغياب الرؤية. وقد تعاملت الإدارة المذكورة مع الأزمة السورية منذ بدايتها بحذر ورويّة كثيرين، معتمدة على مبدأين: العمل الجماعي مع المنظومة الدولية وإعطائها دوراً دولياً أكبر، وممارسة الضغوط السياسية والاقتصادية من بعيد. لكن، مع تعقّد الأزمة، بدأت الإدارة الأميركية تتبع سلوكاً سياسياً متشابكاً، يعكس هذه الطبيعة المعقدة للأزمة، ويعكس، أيضاً، مخاوف الولايات المتحدة ذاتها وحلفائها في المنطقة، فضلاً عن مخاوف النظام السوري التي أصبحت حاضرة في السلوك السياسي الأميركي.
وقد دفع التغيير المستمر في السلوك الأميركي وغياب رؤية محددة شخصيات مرموقة إلى توجيه نقد لاذع لسياسة أوباما، وهذا غير مألوف في تاريخ الولايات المتحدة: المبعوثان الخاصان لأوباما للأزمة السورية، فريد هوف وروبرت فورد، وسبقهما إلى ذلك وزير الدفاع السابق، ليون بانيتا، ووزيرة الخارجية السابقة، هيلاري كلنتون، وأخيراً وزير الدفاع المستقيل تشاك هاغل. وقد مر الموقف الأميركي بأربع تحولات خلال أعوام الأزمة السورية:
ارتباك في التعامل مع الأحداث المتسارعة مع مراقبتها أولاً، ثم دعم المعارضة، بشقيها السياسي والعسكري، في مقابل فرض عقوبات اقتصادية على النظام ثانياً، ثم تراجع الدعم العسكري للمعارضة المسلحة، وتغيير التحالفات الميدانية مع الاستمرار في استنزاف النظام وحلفائه ثالثاً. وأخيراً، الميل إلى إمكانية التفاهم مع حلفاء النظام في محاربة الإرهاب، وتهيئة الأرضية لإيجاد حل سياسي يلائم الواقع السوري.
والصيغة الأخيرة هي التي يحاول أوباما تكريسها في المرحلة المتبقية من ولايته، إذ تعمد إدارته إلى تعريف الأزمة السورية على أنها صراع بين متساوين، أي حرب أهلية، وهذا ما يفسّر توقف واشنطن عن دعم اللجنة الخاصة بالتحقيق في جرائم الحرب في سورية. وبموجب هذه الصيغة، لن يكون مصير بشار الأسد شرطاً مسبقاً في أي عملية تفاوض، لكن هذا لا يعني، في المقابل، بقاء الأسد في السلطة، ضمن أية تسوية. وتقوم المقاربة الأميركية على الفصل الحاد بين الميدان والسياسة، بين نتائج المعارك العسكرية ونتائج مفاوضات السلام، فهدف استمرار المعارك يتجاوز مسألة بقاء الأسد، أو خروجه من السلطة. والنتائج العسكرية لا يمكن أن تحدد النتائج السياسية، لأن نتائج العمليات العسكرية تتجاوز مسألة بقاء النظام أو عدمه، وفق رؤية أوباما. وبالتالي، لا يمكن أن تختزل الأزمة السورية وتداعياتها الإقليمية والدولية بانتصار عسكري لهذا الجانب أو ذاك.
“ مخاوف النظام السوري أصبحت حاضرة في السلوك السياسي الأميركي "
المهم للولايات المتحدة، في هذه المرحلة، بقاء النظام على حاله، من أجل بقاء الدولة وعدم صوملة سورية، وإقناع الأطراف المعارضة بجعل مصير الأسد نتاجاً للعملية السياسية وليس مقدمة لها، وهذه هي المهمة السياسية الموكلة إلى روسيا خفية، من المجتمع الدولي، بالسماح لموسكو بتتبّع مسار دبلوماسي للأزمة، إثر علاقاتها مع النظام السوري، ومحاولتها تشكيل تكتل سياسي جديد، وليس مصادفة أن تعلن واشنطن، قبل نحو شهرين، عدم اعترافها بالائتلاف الوطني، ممثلاً وحيداً للشعب السوري.
كان أوباما صريحاً للغاية، حين قال في قمة العشرين في أستراليا، الشهر الماضي، إن واشنطن ترغب بحل سياسي في سورية، يرضي جميع الأطراف الداخلية والخارجية، وسيضطر الشعب السوري للقيام بتفاهمات سياسية مع تركيا وإيران وكذلك الأسد. لكن، تتطلّب هذه المعادلة، أولاً، تغييراً، أو تعديلاً، للواقع الميداني في سورية، ولا سيما محاولة القضاء على داعش، وهي معادلة بدأت ترتسم ملامحها أخيراً على الأرض، بالسماح لقوات إيرانية وحزب الله، وأخرى عراقية، مقاتلة داعش وبعض الفصائل في شمالي سورية من جهة، وبوادر اتفاق أميركي ـ تركي على إقامة منطقة عازلة شمالي سورية من جهة ثانية، على الرغم من إعلان الخارجية الأميركية عدم حسمها خيار المنطقة العازلة.
يقوم جوهر السياسة الأميركية على إيجاد حل للأزمة السورية على الطريقة اليمنية، بعد "تبيئتها" لتتلاءم مع الواقع السوري، وبالتالي، العمل العسكري المتاح هو لمحاربة الإرهاب، وليس لإسقاط النظام السوري، فتكاليف إسقاطه عسكرياً تتجاوز بكثير تكاليف تغييره سياسياً، طالما أن الأزمة السورية لا تشكل تهديداً للأمن القومي الأميركي، وفق تعريف أوباما الأزمات الدولية.
يتسم عمل توثيق انتهاك حقوق الإنسان في سوريا بصعوبات مركبة ومتداخلة فيما بينها بدءاً من تصحر الوطن السوري من كل نشاط مجتمعي مدني حقيقي من قبيل الدفاع عن حقوق الإنسان خلال العقود الطويلة من تسيد نظام الاستبداد والدولة الأمنية المافيوية في كل مفاصل حياة المواطن السوري، وصولاً إلى مأساة التغييب القسري سواءً بالقتل أو الاعتقال للعديد من الناشطين الحقوقيين الذين تمكنوا، وخلال فترة وجيزة من عمر الثورة السورية، من الإمساك بالمفاتيح الأساسية للعمل في ميدان حقوق الإنسان وتقديمه في صيغة صحيحة وصادقة، على الرغم من أنها في معظم الأحيان ظلت تتراوح في حيز التوثيق الأولي الخام الذي يحتاج دائماً إلى التدقيق والتنقية لزيادة قدرته التأثيرية عند المتلقي له، ومروراً بالصعوبات المهولة التي تقارب المستحيل لتحرك الناشطين الحقوقيين في سوريا وقدرتهم على العمل المشترك فيما بينهم في الداخل السوري ومع رفاقهم الموجودين خارج حدود الوطن.
وما ساهم بشكل مؤلم في تشويش عمل ونتاج وتعقيد مهمة الناشطين الحقوقيين في سورية ظهور مؤسسة تزعم اهتمامها بالعمل في ميدان حقوق الإنسان وهي في واقع الأمر شخص واحد ليس لكيان المؤسسة التي يتحرك باسمها أي كيان اعتباري أو قانوني أو جسم تنظيمي عياني مشخص سواء في سورية أو في المهجر. وهو الذي قام دائباً بتحويل ضآلة العمل مجال حقوق الإنسان في سورية من توثيق لكل الانتهاكات التي تندرج تحت الأبواب الأساسية في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان إلى عمل إخباري مسطح يتناول التطورات الميدانية في واقع المأساة السورية من اشتباكات ومواجهات وتفجيرات وحوادث قتل على أساس طائفي أو ثأري دون التحقق الموضوعي من أنها في الواقع الحقيقي كذلك.
ولأن معظم المؤسسات الإعلامية الغربية محكومة بمعادلة القرد الذي إن خيرته بين أنواع الطعام فلن يختار إلا الموز من كل ما لذ وطاب لأن ذائقة القرد وتكوينه البنيوي والوظيفي تفرض ذلك، فهي، أي تلك المؤسسات الغربية، ظلت تستمرئ كل الرسائل الإخبارية التي تصور الثورة السورية على أنها حرب أهلية على أساس طائفي ومنذ الأشهر الأولى لعمر الثورة السورية، وأنها لم تقم أساساً كثورة شعبية تطمح للتحرر من الاستبداد وتحقيق الكرامة والعدالة الاجتماعية.
ولذلك ظلت الوسائل الإعلامية الغربية الكبرى تدمن اختزال انتهاكات حقوق الإنسان في سورية بما تقدمه لها تلك المؤسسة/ الفرد من صور شوهاء عن الثورة السورية دون البحث أو التمحيص في مدى صدقية وتوثيق المعلومات المقدمة لها كتفاصيل لتلك الصورة الشوهاء، وخاصة إن كانت من قبيل أكل قاتل همجي لقلب قتيله دون تحليل وشرح الظروف الموضوعية التي أدت إلى ذلك التحول الوحشي وفق مبدأ العنف الذي لا يولد إلا العنف في السياق المكاني والزماني لتلك الحادثة الشاذة، وأن التعميم من حالة استثنائية هو خطأ ما لم يتم التحقق علمياً وإحصائياً من أن ذلك المثال الخاص تشخيص صحيح لحالة عامة وسائدة.
وما ساهم في مفاقمة صعوبة مهمة توثيق انتهاكات حقوق الإنسان في سوريا وإيصالها إلى الإعلام الغربي هو تنطع تلك المؤسسة/ الفرد لتقديم أرقام تحصي أعداد القتلى من أفراد الجيش والجهات الأمنية السورية دون تقديم أي قوائم قابلة للتحقق من صحتها وواقعيتها، واستخدام تلك الطريقة المخاتلة وسيلة للتشكيك في مصداقية الهيئات الحقوقية الأخرى التي لا تستطيع أن تقوم بأي توثيق ملموس لأعداد القتلى من الجيش النظامي والجهات الأمنية الموالية لنظام الأسد لعدم وجود أي ارتباط بينها وبين الجهات الرسمية السورية المعنية بإحصاء أعداد القتلى من أفراد جيش النظام الأسدي وأجهزته الأمنية، وخاصة في ضوء التضييق المهول على ناشطيها وملاحقة معظمهم من قبل الأجهزة الأمنية السورية.
يضاف إلى ذلك وقوع كل الكيانات السورية الأخرى المعنية بتوثيق انتهاكات حقوق الإنسان في سورية على اختلاف مشاربها في أسر المطلب الجوهري والثابت بضرورة الحفاظ على الاستقلالية المطلقة لكل أنواع العمل في ميدان توثيق انتهاكات حقوق الإنسان عن ارتهانات التمويل الخارجي المباشر وغير المباشر، والحفاظ على أن يكون العمل دائماً وفق مبدأ يقيني ينطلق من أن العمل في مجال حقوق الإنسان وخاصة في مثل الحالة السورية يجب أن يكون عملاً تطوعياً وممولاً بشكل ذاتي من مساهمات المنخرطين فيه فقط، وهو ما أصبح مطلباً مركباً ومعقداً خاصاً في ضوء النكبة الشاملة عمقاً وسطحاً لكل تكوينات المجتمع السوري المنتفض، وهو ما أدى في نهاية المطاف إلى اضطرار العديد من الناشطين الحقوقيين الذين لم يعودوا قادرين على القبض على جمرة الاستقلالية المادية إلى قبول عروض العمل هنا وهناك مع مؤسسات إعلامية وحقوقية غربية وعربية وهجران العمل في ميدان توثيق انتهاكات حقوق الإنسان في سورية بشكل موضوعي ومنهج.
وذلك كله كان قد وسع الفسحة لما أتينا على ذكره آنفاً للإدلاء بنتاجه غير الموثق على أنه توثيق لانتهاكات حقوق الإنسان في الإعلام الغربي خاصة وبعض الإعلام العربي المتكاسل أيضاً الذي لم يكلف نفسه عناء البحث عن الحقيقة الموضوعية بما يجرى في سورية إنْ لم يكن في الواقع منغمساً في معادلة تفارق المقول عن الفعل!
حوصرت قضية الجنود اللبنانيين الأسرى لدى تنظيم الدولة الإسلامية وجبهة النصرة بكمّ كبير من الملابسات والتعقيدات، حيث لم تعد شأنا لبنانيا بل كادت صلتها باللبننة على مستوى الحلول والوساطات تكون معدومة.
يعود تفخيخ هذه القضية إلى تراكمات سابقة بكثير على وقوعها وتتعلق بشكل خاص بقضية المحتجزين الإسلاميين في السجون اللبنانية، وهي القضية التي لم تتم تغطيتها قانونيا ولا قضائيا، فارتدت تاليا شكل اعتداء سافر من طرف المخابرات السورية التي كانت تحكم لبنان آنذاك وملحقاتها اللبنانية وأبرزهم حزب الله على المكوّن السني.
هذه الأزمة المفتوحة انفجرت بعد تطور الأحداث ودخول حزب الله في القتال إلى جانب النظام السوري وأصبحت واحدة من علامات الصراع الذي ارتدى شكلا طائفيا.
بات هؤلاء المسجونون عنوانا للتنازع بين من يحملون لواء الدفاع عن السنة وبين حزب الله الشيعي حليف النظام السوري والذي يسيطر على الحكومة اللبنانية ويمنعها من إنجاز أي تفاوض جدي يمكن أن يؤدي إلى إنجاح عملية المقايضة التي تطالب بها الجهات الخاطفة. كل مرة تظهر فيها انفراجات في الملف تشي بقرب التوصل إلى حل يبادر الحزب إلى خطوات تصعيدية، لا تعيد الأمور إلى نقطة الصفر وحسب بل وتساهم في إضفاء تعقيدات جديدة عليها.
أبرز مثال على ذلك هو ما قامت به مؤخرا مخابرات الجيش من اعتقال سجى الدليمي التي قيل إنها زوجة خليفة داعش وآلاء العقيلي زوجة أبي علي الشيشاني، ما استثار ردود فعل غاضبة تسببت بإعدام الجندي علي البزال.
بات من الواضح أن حزب الله وإيران من ورائه لا يريدان لهذا الملف نهاية سعيدة، أو يريدان أن يدفع الجميع ثمنا باهظا مقابل تسهيل التوصل إلى حلول فيه. ولا يبدو هذا الثمن داخليا على الإطلاق بل يتصل بشكل مباشر بالحرب المستعرة في المنطقة والتي تتجاوز سوريا لتصل إلى العراق وإيران.
الثمن الذي تريد إيران الحصول عليه هو إجبار الجميع على إدراجها في سياق الحرب على الإرهاب، ومن ثمة تفكيك كل منظومات العقوبات الدولية ضدها وحلحلة ملفها النووي التي أعلنت مؤخرا عن موعد جديد لإعادة انطلاق المباحثات بشأنه، وإعادة العراق إلى دائرة نفوذها، وإعادة إحكام سيطرتها على الوضع الداخلي في إيران حيث تسببت العقوبات في أزمة اقتصادية خانقة جعلت إمكانية ظهور حركات احتجاج عامة وواسعة أمرا ممكنا.
تريد إيران أن تضع كل البيض في سلتها مقابل تسهيل موضوع الجنود الأسرى ودور حزب الله يقوم على السيطرة على عرسال وإقفال دروب التسلل على المقاتلين لرفع الضغط عن قوات النظام الأسدي التي عانت من خسائر كبيرة في الجبهات الجنوبية.
قضية الجنود الأسرى ارتبطت موضوعيا وميدانيا بعرسال فقد سبق المعركة التي أسر الجنود إثرها تصعيد سياسي وميداني وتحريض كبير ضد عرسال ثم انفجرت المعركة التي كان يراد لها أن تتوسع أكثر بكثير من الحدود التي فرضها قائد الجيش العماد جان قهوجي والذي خسر إثرها تأييد حزب الله كمرشح قوي لرئاسة الجمهورية.
حزب الله كان ينوي محاصرة مجموعات من المقاتلين بالقرب من عرسال، ودفعهم إلى اللجوء إلى داخل القرية، ثم دفع هؤلاء إلى فتح معركة مع الجيش يشارك هو فيها تؤدي إلى تدمير عرسال واحتلالها وتوصيفها كبلدة إرهابية. فعل ذلك ونجح في دفع بعض المقاتلين إلى داخل البلدة حيث شرعوا بإطلاق النار على الجيش.
ما لم ينجح في صناعته هو الصفة التي دخل فيها هؤلاء إلى القرية، فهم لم يدخلوا بشكل طبيعي ولم يكونوا مرحّبا بهم، بل دخلوا كغزاة وفتحوا معركتهم مع الجيش.
الحزب كان يرفض مبدأ المقايضة وكان يسعى إلى إخراج الجنود عبر عملية عسكرية وقد نشرت معلومات منذ فترة تفيد بأن الجيش اللبناني قد قام بمشاركة الحزب بعملية عسكرية لإنقاذ الجنود وقد فشلت تلك العملية وتسببت بمقتل واحد أو أكثر من الجنود الأسرى. بعدها أفادت بعض المصادر أن الحزب عمد إلى قصف مكان وجود الجنود كي يقضي عليهم ويتهم الجهات الخاطفة بتصفيتهم، كي يتسبب في حالة غضب وجنون عارمة تتيح له تنفيذ مشروع شيطنة عرسال.
كذلك تم إطلاق النار على وفد هيئة العلماء المسلمين وهو عائد من إحدى جولاته التفاوضية وقد اتهم الجيش اللبناني بأنه هو من أطلق النار. الالتباس شمل كذلك مهمة الموفد القطري حتى بات البعض يشكك في وجوده أصلا، ففي حين تشير معلومات تنشر في وسائل الإعلام اللبنانية مسربة من جهات حكومية حول تقدم في مسار التفاوض من خلال جهود الموفد القطري، كانت جبهة النصرة تصدر بيانات تقول فيها إن أحدا لم يفاوضها.
القشة التي قصمت ظهر البعير في هذا المسار كانت نجاح حزب الله في إطلاق سراح أسير لديه عبر عملية مقايضة مشبوهة تمت عبر مبادلة العقيد في الجيش الحر مرهف الحسين ومعتقل آخر كانا محتجزين وكان الأمن العام قد سلمهما الى حزب الله، وهو أمر يعمق تعقيد المسألة ويضرب مصداقية مدير الأمن العام عباس إبراهيم، ويضع على المحك مسألة استمرار نشاطه التفاوضي مع النصرة وداعش.
زيارة المالكي السريعة والغامضة إلى لبنان يمكن إضافتها إلى سلسلة التعقيدات التي تتراكم في قضية الأسرى، فقد رشحت معلومات تفيد أن السبب الفعلي لزيارته هو محاولة الإفراج عن نجله الذي ألقي القبض عليه في لبنان وبحوزته مبلغ هائل من المال المهرب يبلغ 1.5 مليار دولار أميركي، وهو الأمر الذي لم ينجح في تحقيقه فغادر لبنان سريعا خاصة أن المحامي اللبناني طارق شندب كان قد رفع دعوى قضائية ضده أمام النيابة العامة التمييزية بتهمة مشاركته في تفجير السفارة العراقية في بيروت في 15 يناير 1981.
هذا المعطى يرجّح أن المالكي كان يحاول مع حزب الله الإفراج عن هذه الأموال لاستخدامها في تمويل الحزب في اللحظة التي بات فيها يعاني من شح شديد في التمويل القادم من إيران ما تسبب بظهور بعض الحركات الاحتجاجية غير المسبوقة داخل الحزب. وفشل هذا التفاوض قد يكون سببا إضافيا لزيادة تعقيد مسألة الجنود الأسرى.
حزب الله كان قد بادل أسيره بعناصر في الجيش الحر. وتؤكد مصادر عديدة أن لا أسرى أحياء لديه من جبهة النصرة ولا من داعش في حين تشير المعلومات إلى وجود ثلاثة أسرى على الأقل له عند عناصر النصرة وداعش الذين يتمركزون في جرود عرسال القلمون، لذا فإن لا أوراق لديه للتفاوض وهو يستعمل ملف الأسرى بطريقة مواربة للتوصل إلى الإفراج عن عناصره واستعادة جثث قتلاه بشكل بعيد عن الأنظار، في حين أنه حين كان يملك خطا مباشرا للتفاوض فإنه لم ينتظر أحدا وبادر إلى إنجاز المقايضة بنفسه.
كذلك وفي قراءة أوسع تتصل بالنزوع الإيراني لاستغلال مسألة الجنود لتركيب سياقات تدخلها إلى التحالف الدولي لمحاربة الإرهاب نرى أنها دفعت بالنظام السوري وحزب الله إلى التضييق على الجيش السوري الحر وتفكيك قوته وإشغاله على جبهتين واحدة مع النظام وأخرى مع داعش. خسر الجيش الحر خلال هذه المواجهات الثنائية المكلفة الآلاف من عناصره وقوته، وكان النظام لا يحاول استعادة السيطرة على المناطق التي ينتزعها النظام من الجيش الحر، بل يتركها ويعمد إلى محاربة الجيش الحر في ما تبقى له من مناطق.
جل منطقة نفوذ داعش في سوريا الآن كانت سابقا واقعة تحت سيطرة الجيش الحر. هذا الأمر انعكس على طبيعة الوجود العسكري على الحدود المتاخمة للبنان التي انحسر فيها وجود الجيش الحر بشكل كبير وبات يشكل هامشا أمنيا وعسكريا، وباتت الغلبة بشكل واضح للمنظمات الخاضعة لتوصيف الإرهاب.
من هنا بات صراع حزب الله ضدها يؤمن مشهدا تحاول إيران من خلاله إغواء التحالف الدولي بضمها إليه من خلاله، وهو أمر حاولته في العراق ولكنه لم يلق انتباه التحالف، لذا فإنها تلجأ إلى الخاصرة الأضعف في المنطقة وتحاول استخدام ملف الجنود الأسرى من أجل تحقيقه. هذه هي طموحات إيران ولكن لا يبدو أن الرياح تسير وفق ما تشتهيه سفنها، فهناك تطورات عديدة يمكن استشفافها من بدء وصول الأسلحة الفرنسية إلى الجيش اللبناني وهبوط أسعار النفط إلى أدنى سعر قياسي لها منذ فترة طويلة.
وليس قبول الأسد بالمقترح الإيراني الذي يقضي بإجراء انتخابات لا يشارك فيها سوى استجابة لمعطيات تقول إن هناك نية للحسم ضد النظام باتت بشائرها تلوح عبر قوة بريطانية فرنسية تركية عربية، كما أن نجاح داعش في التوسع في العراق على الرغم من ضربات قوات التحالف واقترابه من الحدود الإيرانية يفرض واقعا جديدا يقول إن الضربة الإيرانية لداعش في العراق ليست سوى نوع من استثمار يائس ومحاولة مذعورة لتجنب تداعيات كارثية.
من هنا يمكن أن نلحظ في الفترة القادمة انفراجات في ملف الجنود الأسرى الذي بات ملفا دوليا مرتبطا بكامل أزمة المنطقة.
إيران لا تفهم سوى لغة القوة. هذا ما أثبتته التجارب معها، لذا يمكن أن نتوقع تشددا وعرقلة في ملف الجنود الأسرى يليه انفراج مفاجئ حيث لا يظهر وكأنه انعكاس لضعف إيراني.
القضية الأولى التي تشغل العالم العربي، والمجتمع الدولي أيضا، هي الحرب على الإرهاب، يليها المشروع النووي الإيراني المقرون بمخطط الهيمنة السياسية على دول المنطقة، وفي الدرجة الثالثة تأتي الحروب الأهلية والصراعات المتعددة الألوان والأهداف في سوريا والعراق وليبيا واليمن، والأقل احتداما في مصر ولبنان والأردن.. وغيرها من الدول العربية والإسلامية. أما القضية الفلسطينية فلا نغالي إذا قلنا إنها تراجعت إلى المرتبة الرابعة أو الخامسة في سلم أولويات وهموم المسؤولين والرأي العام؟
ولا تنحصر المحنة المصيرية العربية في هذه الصراعات والتحديات السياسية والقتالية، بل تتعداها إلى ما هو أخطر، ونعني إدخال الدين في هذه الصراعات على أكثر من مستوى ومنطلق، وتصنيف المسلمين العرب وغير العرب، إلى «معتدلين» و«متطرفين»، وإلى «مؤمنين» و«مجاهدين»، وإلى «منفتحين على العصر والحداثة» و«غلاة متعصبين» منغلقين؛ تفكيرا ولباسا وأسلوبا في القتال، يعتقدون أن نهضة المسلمين لا تكون إلا بالعودة إلى المجتمع الإسلامي الأول، أي ألف وخمسمائة سنة إلى الوراء، وأن من أصول الجهاد اللجوء إلى أسلوب إعدام الأسرى والذبح وترويع البشر وسجن النساء في المنازل، ويقسمون العالم، في ذهنهم، إلى «دار الإسلام» و«دار الحرب»، ويستبيحون دم كل من لا يدين بالإسلام على طريقتهم.
لقد قام حلف دولي - عربي لمحاربة الجماعات الإسلامية التي باتت تحتل قسما من العراق وسوريا، وباتت أكثر من دولة عربية وإسلامية «حليفة» للدول الكبرى المستعمرة لها سابقا، في هذه الحرب على الإرهاب الممارس تحت شعار الإسلام. غير أن هذه الحرب - كما يتفق الجميع - قد تستمر سنوات. والله وحده يعرف ماذا يمكن أن يحدث في هذه السنوات من تحولات دولية وإقليمية.. هل سيبقى العراق دولة عربية موحدة؟ أم تبقى سوريا بكيانها وحدودها الدولية المعترف بها؟ وهل ينفجر الخلاف بين أنقرة وطهران على مستقبل الهلال الخصيب؟ وهل ستتمكن المملكة العربية السعودية ومصر والأردن ودول مجلس التعاون الخليجي من تأليف نواة صلبة لكتلة عربية تستطيع صدّ جموح الجماعات الإسلاموية المتطرفة وإرساء قواعد جديدة لمستقبل الأمة العربية؟ وماذا عن أوضاع المغرب العربي الكبير ومستقبل علاقته بالمشرق العربي.. بعد أن لوحظ موقف أكثر من دولة مغاربية «النأي بالنفس» عما يجري في المشرق؟
إن الحركات والأحزاب والتنظيمات الجهادية الإسلاموية المتطرفة لا تنحصر في «داعش» و«القاعدة» و«النصرة» وطالبان و«بوكو حرام»، ولا في من هم أخف تطرفا وإرهابا كالإخوان المسلمين و«حزب الله» وحزب التحرير، بل هناك اليوم انتشار قاري لمثل هذه الجماعات المتطرفة في المغرب وفي أفغانستان وإندونيسيا وأفريقيا السوداء؛ من الصومال إلى نيجيريا، وهذه الحركات والدعوات تتواصل وتتعاون في شق طريقها إلى الحكم بالعنف الدموي. وليس أمام الأنظمة القائمة في هذه البلدان للوقوف في وجهها سوى الاستعانة بالدول الكبرى. ولسنا نغالي إذا تصورنا المعركة، المحتدمة بين الحلف الدولي – العربي، و«داعش»، وقد تحولت إلى حرب عالمية على هذا الإرهاب الإسلاموي. أفلا تلتقي الولايات المتحدة وروسيا والصين والاتحاد الأوروبي، اليوم، معا في جبهة واحدة في الحرب على الإرهاب؟
لقد صمد النظام السوري في وجه معارضيه وحاملي السلاح عليه، من إسلامويين وغير إسلامويين بفضل دعم روسيا وإيران العسكري والسياسي، وكون معظم كبار ضباط القيادة من العلويين، ولا نسقط موقف الأقليات المتخوفة من الوقوع تحت حكم ديني متشدد.. إلا أن موازين القوى قد تتغير إذا كانت الدول الغربية جادة في تعزيز دعمها للمعارضة وفي استمرار ضرباتها الجوية. أما في العراق، فإن كل شيء يدل على أن المساحة المحتلة من قبل «داعش» من الأراضي العراقية سوف تتقلص. ويمكننا، بالتالي، القول بأن طموحات التنظيمات الإسلاموية المتطرفة أكبر بكثير من طاقاتها وقدراتها، على الرغم مما حققته من انتصارات ونجاحات.
أما الجراحات العميقة التي أحدثتها هذه الهبة الجهادية المرتجلة في جسم الأمة على حساب ملايين المشردين من ديارهم ومنازلهم، ومئات الألوف من الأقليات غير المسلمة المقيمة في العراق وسوريا منذ ما قبل الإسلام، والتي أثار تهجيرها أو اضطهادها الرأي العام العالمي.. وأما الدمار الذي لحق بالمدن السورية والعراقية والليبية، وعشرات المليارات التي أهدرت في هذه المعارك وأكثر منها ما خسرته الأمة العربية من فرص التنمية.. كل ذلك سوف يؤخر استعادة الشعوب العربية صحة اقتصادها ونمو مجتمعاتها.
صحيح أن هذه التنظيمات والجماعات الإسلاموية المتطرفة ما كانت لتنشأ ولتستقطب ألوف الشباب المسلمين، لو أن الشعوب العربية والإسلامية كانت متمتعة بما يتمناه كل شعب من سلام واستقرار وحرية وعدالة ونمو اقتصادي ورقي اجتماعي.. ولو لم تتكرر إصابة الدول العربية بالهزائم والنكبات، ولولا جور بعض الحكام.. ولكن إذا كان ما حدث في عام 2011 وسمي بالربيع العربي له مبرره، فإن ما تطورت إليه هذه الثورات لم يكن باتجاه مجرى التاريخ ومسار حضارة القرن الحادي والعشرين، فكيف حين تحولت إلى حروب أهلية وتدمير مدن وتشريد ملايين البشر؟!
لقد ناضل العرب والمسلمون قرنا بكامله كي يتحرروا من الاستعمار ويبلغوا الاستقلال، وبدلا من أن يتكاتفوا ويوحدوا صفوفهم ويسعد بعض حكامهم رعاياهم، انقسم بعضهم على بعض، بل وتحولوا إلى خصوم وأعداء، وهم اليوم في طريقهم إلى أن يفقدوا أوطانهم واستقلالاتهم وهويتهم القومية. رحماك ربي.
لم تكن الغارات الإسرائيلية على مخازن أسلحة، في الأسبوع الفائت، الأولى من نوعها، فقد سبقتها ستّ غارات من هذا النوع منذ بدء الثورة، ما يعني أن ثمة أمراً واقعاً قد تكرّس، يستطيع الطيران الإسرائيلي بموجبه استباحة الأجواء السورية على نحو ما يفعل في الأجواء اللبنانية.
يُذكر أيضاً أن الغارات الإسرائيلية على مواقع سورية سبقت الثورة بسنوات، وفي 2006 حلق الطيران فوق القصر الرئاسي في مدينة اللاذقية أثناء تواجد بشار الأسد فيه، أي أن الغارات لا تُعدّ استقواءً على النظام في ضعفه الحالي، بل أتى التحليق على القصر الرئاسي بينما كان صاحبه يزهو بإفلاته من العدالة في قضية اغتيال الحريري، ولم تردعه تلك الإهانة الصارخة عن وصف قادة عرب آخرين بأنصاف الرجال، في خطاب له بعد انتهاء حرب تموز.
وبما أن خطاب الممانعة انكشف زيفه وسفاهته، ولم يعد يستحق التفنيد، فالأجدى النظــــر في سياق الغارات الحالية وارتباطها بتكريس الوقائع على الأرض. فمنذ حرب تموز 2006 سارت القيادات الإسرائيلية، ومن خلفها القوى الكبرى في المـــجتمع الدولي، على نحو يُبعد الخطر عـــن شمال إسرائيل، ولم تعد تُستثنى طرق الإمـــدادات من الضربات الاستباقية، أما حق الرد الذي كان يلوّح به النظام إثر كل غـــارة فمــحـــض إنشاء ممانع، لأن جبهة الجنوب اللبناني التي كانت تتكفل بالرد أُقفلت بموافقـــة حلــــف الممانعة نفسه علـــى القرار 1701 الذي نص على سحب قوة حزب الله الضاربة إلى شمال الليطاني.
ما يتلطى خلفه خطاب الممانعة الحالي هو أن إسرائيل تستغل انشغال الحلف بالحرب في سورية لتكيل الضربات، في رهان على ضعف ذاكرة الناس عموماً، لكن من جانب آخر لحصر الغارات في إطارها السوري، بحيث يبدو النظام السوري كأنه وحده من يتلقى الضربة والإهانة، وعلى هذا الصعيد لا بأس في ضمها إلى الإهانات التي يتلقاها من هنا ومن هناك، وأحياناً من الحلفاء قبل الأعداء. وضع الاعتداءات في إطارها يستلزم خطاباً من نوع آخر، ويستلزم الجرأة لأن الغارات الإسرائيلية تفنّد المزاعم التي ساقها حزب الله تبريراً لتدخله في سورية. وإذا كان الحزب قد بدّل مبررات تدخله حسب الحاجة، فإن المبرر الثابت والأقوى بقي حماية النظام السوري، بوصفه ظهيراً للإمدادات القادمة من إيران. الإقرار بأن الغارات الإسرائيلية المتتالية تقطع خط الإمدادات يعني ضعف الحجة التي يسوقها الحزب، أو يقتضي منه رداً مباشراً على الاعتداءات.
يزعم الحزب أنه يحارب التكفيريين عملاء الغرب وإسرائيل، ويزعم النظام أن الغارات الإسرائيلية أتت بعد تحقيق قواته انتصارات كبيرة على المعارضة العميلة. يقتضي المنطق هنا محاربة الأصيل بعد فشل الوكلاء، خاصة عندما يتقدم الأصيل "الإسرائيلي" إلى الساحة، أو على الأقل خوض معركة متكاملة ضد الأصيل وأعوانه. ذلك يوجب الاعتراف بأن الحلف الممتد من طهران إلى جنوب لبنان صار مخترقاً، وأنه يتعرض لخطر حقيقي، بخلاف المزاعم الإعلامية عن الانتصارات التي يحققها، وبناء عليه يتوجب الإقرار بأن قواعد اللعبة تغيرت تماماً منذ حرب تموز، في شقيها اللبناني والفلسطيني.
لا يفيد هنا التحدث عن تغير في قواعد الاشتباك، لأنه ينتمي إلى اللغو الممانع نفسه، فالتغير أصاب فقط قدرة حلف الممانعة على الوصول بشكل مجدٍ إلى أهداف إسرائيلية، وأيضاً القدرة على تلقي الإمدادات المرسلة إلى الجنوب أو إلى غزة، في الوقت الذي لم تفقد فيه إسرائيل قوتها الهجومية وقدرتها على شن غارات استباقية في عمليات تدل على قوتها الاستخباراتية مع قوة سلاحها الجوي.
لا يفيد هنا أيضاً الحديث عن أزمات داخلية تعيش فيها القيادات الإسرائيلية، وتدفعها إلى افتعال الحروب، فالحكومات الإسرائيلية المتعاقبة أبقت على الإستراتيجية ذاتها في ما يخص دفع الخطر بعيداً عن الحدود البرية، مع الاحتفاظ بقوة رادعة كبيرة من خلال سلاح الجو. يجوز الاعتقاد أن هذه الاستراتيجية بدأت مع الانسحاب من جنوب لبنان، الأمر الذي أغضب حلف الممانعة، واعتبره النظام السوري حينها بمثابة مؤامرة عليه.
أيضاً، يجوز الاعتقاد أن مكانة النظام قد تأذت عموماً لمصلحة وظيفته المحدودة كمعبر لإمدادات الحزب، في الوقت الذي راح فيه الأخير يباشر مهمته اللبنانية بالأصالة بعد انكفائه إلى شمال الليطاني. أي أننا كنا إزاء تبادل في الأدوار لم يظهر إلى العلن إلا مع بدء الثورة السورية، تبادل بانت فيه الأفضلية لحزب الله على النظام ضمن الإستراتيجية الإيرانية. وإذا كان النظام قد حاول سابقاً تعويض مكانته الإقليمية المنهارة، من خلال الانفتاح على الغرب والعلاقة الوطيدة مع الجار التركي، إلا أن الثورة وعدم قدرته على قمعها أعاداه إلى حجمه الفعلي الذي تضاءل منذ انسحاب قواته من لبنان.
وأن يتحدث إعلام الممانعة عن بقاء الضربات الإسرائيلية "ضمن قواعد اللعبة"، لأنها لا تنال من البنى العسكرية للنظام، فلهذا معنى محدد هو عدم تأثير الضربات على مجريات الحرب في سورية، الأمر الذي يعكس رضوخاً لمتطلبات أمن إسرائيل ما دام منسجماً مع أمن النظام وبقائه. ليس سراً على هذا الصعيد أن إسرائيل لا ترى مصلحة لها في إسقاط نظام الأسد، لا لأنها تتخوف من البديل وإنما لأن بقاءه على هذا النحو من الضعف مصلحةً إسرائيلية، بعد أدائه لدوره في ضبط الجبهتين السورية واللبنانية طوال عقود، ولا يدعو للاستغراب أن تتوافق مصلحتها مع مصالح الحلف الإيراني الذي لا يزال يرى بقاء نظام تابع ضعيف أفضل من خسارته كلياً.
السؤال الفعلي هو: لماذا لا ترد إيران أو يرد حزب الله، بصفتهما المتضررين مباشرة، على الغارات الإسرائيلية؟ ألا يعني هذا إقراراً منهما بالقواعد الإسرائيلية للعبة؟ وإذا كان الأمر كذلك، فعن أية انتصارات يتحدث الممانعون؟
من التجربة القريبة نستطيع الجزم بأن هزيمة كبيرة قد تلقوها، هزيمة تعادل أو تفوق الضجيج عن الانتصار في سورية. يبقى أن يعي هؤلاء أن إسرائيل لا تتحرش، وفق وصفهم، بل تنفذ ما تريده بالضبط، وأنهم في الجانب الآخر لم يعودوا يمانعون.
نعم إنها الشعوب ، فهي مصدر أحقية الحاكم بالسلطة ، هي نبع قوته ، هي متلقي الإستبداد ، و مُستقبل الضربات ... فهي وُجدت فداء للرئيس ، تنتهي ولا يفنى الزعيم .
بالأمس إحتفلنا بإنتصار العدل مع براءة مبارك ، و اليوم نقيم الأفراح لإنتصار البشير على المحاكم الاستعمارية ، و لم لا يكون في الغد القريب على موعدِ جديد لرئيس آخر فعل الأهوال ليفنى الجميع و يبقى على سدة عرشه الإستبدادي .
فالتسلسل الحاصل حالياً يجمع بين عناصره كثيرٌ من الأمور المتشابهة مما يجعل أمر تكرار النهايات أمرٌ وارد .
و إذا ما دخلنا أكثر و تسائلنا : هل هي عبارة عن رسائل تطمين لم حان الدور عليه أو موجود على القائمة ، بأن إفعل ما تشاء فهذا هو الجزاء .
الرئيس المصري الأسبق حسني مبارك جاء بإرادة العسكر ، و كذلك عمر البشير الرئيس السوداني الحالي كذلك جاء عن طريق العسكر ، و رئيس النظام السوري جاء هو الأخر كمولود طبيعي لقبضة العسكر .
مبارك حكم بأجهزة مخابراتية فاسدة ، البشير قدّم الفساد على المخابرات ، أما الأسد فجمع بين الإثنين و أضاف نكهته الخاصة ( الإحاطة بالطائفة العشائرية ) .
مبارك لعب بمنطق الحزب الأقوى ، البشير غيّب الأحزاب و ظهر بشخصه مع وجود صوري لحزبه ، و هنا الأسد أثبت تفوقه على الإثنين بأن إخترع الحزب الأوحد ، القائد للدولة و المجتمع ، المتعلق وجوده و إنهاءه بشخصه .
لا شك التقاطعات هي كثيرة و تحتاج لأبحاث مفصّلة إلاّ أن مرتكزاتها الأساسية تتمثل بالنقاط الثلاث آنفة الذكر ، و ما يترتب عليها من تبعيات من حيث العنف و الإستبداد و التغيّب و النفي للآخر ، الفساد ، الإعتماد على الحكم الاُسري الولائي و إنهاء أي بديل أو معارض .
مبارك بريئ من قتل المتظاهرين و سرقت البلاد ، البشير بلا محاكمة بعد تجميد ملف قضية دارفور وإعادتها الى مجلس الامن ، و لم لا يأتي ذلك الغد الذي يكون فيه بشار الأسد نبع الأمل و الوفاء و الوطنية ، فالبدايات و المراحل تتشابه ، و من المفروض النهايات كذلك ، فالرسائل تتالى و المرسل إليه سعيد بالتطمينات.
يا لها من سخرية، ففي الوقت الذي تتحدث فيه الإدارة الأميركية عن الحاجة لفترة طويلة لتدريب المعارضة السورية المعتدلة لمقاتلة نظام الأسد الإجرامي، والتنظيمات الإرهابية، تعلن «داعش» عن وقف التدريس بمدارس مدينة منبج بريف حلب إلى حين الانتهاء من إخضاع المدرسين لـ«دورات شرعية»!
وهنا نحن أمام احتمالين؛ فإما أن «داعش» تقوم بدعاية لإظهار قوتها، وعدم مبالاتها بالتحالف الدولي، أو أننا أمام كارثة حقيقية تنافي تصريحات وزير الدفاع الأميركي هيغل بأن قوات التحالف تحقق نجاحات ضد «داعش»! والحقيقة أن قرار «داعش» إيقاف التدريس بمنبج سبقه قرار مماثل في مدارس دير الزور، والبوكمال والرقة مما يعني أن «داعش» تتصرف بحرية! ولذا فعندما نقول إن خبر إيقاف «داعش» للدراسة مثير للسخرية، وكارثة، فلأسباب بسيطة، لكنها مهمة جدا، تفعل «داعش» ما تفعله في سوريا بسبب حالة الاضطراب الحقيقية التي تشهدها الإدارة الأميركية الآن داخليا، فبعد إشكالية تردد الرئيس الأميركي، نحن الآن أمام حالة ضعفه الواضحة، التي ليست بسبب سيطرة الجمهوريين على الكونغرس بمجلسيه، أو قرب انتهاء فترة أوباما الرئاسية، بل بسبب الخلافات التي باتت واضحة داخل إدارة أوباما حاليا، وعلى مستوى القيادات المؤثرة.
هناك وزير الدفاع المستقيل، وسبق له أن احتج على أسلوب إدارة أوباما بسوريا، والآن هناك رئيس الاستخبارات الأميركية الذي يواجه عاصفة نتيجة تحقيقات أساليب الاستخبارات الأميركية بعد أحداث سبتمبر الإرهابية في أميركا، ولم يقف معه الرئيس أوباما، بل إنه، أي رئيس الاستخبارات، تناقض مع أوباما في تصريحاته دفاعا عن جهاز الاستخبارات الأميركية الخارجية. وقبل هذه القضية المشتعلة في الداخل الأميركي، أي أسلوب التحقيقات الذي انتهجته «سي آي إيه» في التحقيق مع الإرهابيين، سبق لأوباما أن انتقد جهاز استخباراته الخارجية بأنه فشل في تقدير قوة «داعش» الحقيقية!
وعليه يحدث كل ذلك في داخل الإدارة الأميركية نفسها الآن بينما تعلن «داعش» عن إيقاف الدراسة في مناطق سورية وذلك لتدريب المعلمين، والأخطر من كل ذلك، وهو ما لم يجد اهتماما إعلاميا، سواء عربيا أو غربيا، أو اهتماما سياسيا، أنه طوال قرابة 4 أعوام من عمر الأزمة السورية فإن جيلا من السوريين الصغار بات بعيدا عن التعليم، سواء داخل سوريا، أو خارجها، حيث اللاجئون، مما يعني أن سوريا، والمنطقة، بانتظار دفعة جديدة من غير المتعلمين، والقابلين للتطرف، إما انتقاما أو جهلا، وهو ما سيزيد من تعقيد ملف الأزمة السورية، وحتى في حال رحيل الأسد، والحقيقة أن كل ذلك يحدث بسبب الإهمال الدولي، وتحديدا الإهمال الأميركي، فالأزمة السورية لن تحل بعامل الوقت كما يعتقد البعض، بل إنها تتطلب قيادة دولية حقيقية، وهو الأمر غير الموجود الآن، وتحديدا بأميركا، وهذا أمر مريح بكل تأكيد بالنسبة لـ«داعش» والأسد، وإيران!
عندما أعلنت فيديريكا موغيريني مسؤولة السياسة الخارجية الأوروبية أن وزراء خارجية الاتحاد سيلتقون غدا الأحد مع مبعوث الأمم المتحدة ستيفان دي ميستورا في بروكسل، للبحث في استئناف عملية السلام في سوريا في موازاة تنسيق المعركة ضد تنظيم داعش، طرح الكثيرون سؤالا واحدا:
ولكن متى قبل النظام السوري وحلفاؤه عملية السلام لكي يتم الحديث الآن عن استئنافها؟
لا يملك ستيفان دي ميستورا حتى الآن سوى تلك الخريطة المرسومة باللونين الأحمر والأخضر التي «يشهرها» في وجوه الصحافيين، وتمثّل خطوط القتال في مدينة حلب المنكوبة بالبراميل المتفجرة، ويحاول من خلالها القول إن لديه خطة اسمها «تجميد القتال في حلب»، كمدخل للعودة إلى التسوية السلمية.
التسوية السلمية؟
بعد 5 أشهر من بدء الأزمة السورية إثر تكسير أصابع الأطفال في درعا، دعت الجامعة العربية إلى تسوية سلمية للأزمة. كان هناك متظاهرون يهتفون «سلمية سلمية»، وكان هناك نظام يمطرهم بالرصاص، ومنذ 4 أعوام تقريبا ليس هناك ما يوازي القصف والتدمير والقتل أكثر من الحديث عن الوسطاء والمبعوثين.. والتسوية السلمية!
ليس في «خطة» دي ميستورا التي يبدو أن الروس دسّوها في رأسه، أي شيء جديد، فبعد 3 أيام من الاجتماعات التي عقدها مع المعارضة في غازي عنتاب في تركيا، قال قيس الشيخ رئيس مجلس قيادة الثورة، وهو تحالف جديد يضم عشرات الفصائل المقاتلة بينها العلمانية والإسلامية «إن خطة دي ميستورا التي عرضها لنا لم تكن مكتوبة ولا تحتوي على كل الآليات والضمانات المطلوبة، ولقد ناقشناه في القناعات التي بنى عليها خطته والتي تختلف عن قناعاتنا»!
منذ أسابيع والمبعوث الدولي يتحدث عن «تجميد القتال» في حلب، لكن ليس هناك من يشرح للمعارضة السورية على الأقل، ما الفرق بين «تجميد» القتال و«وقف» القتال، وخصوصا إذا كان التجميد سيتحوّل مدخلا يدفع حلب إلى الاستسلام للنظام على ما جرى في حمص.
عندما يتحدث دي ميستورا عن «تجميد القتال» فإنه ينسى أو يتناسى سلسلة طويلة من المساعي العربية والدولية الفاشلة في هذا السياق، من «المراقبين العرب» الذين سعوا إلى وقف متدرّج للقتال يفضي إلى الحل السلمي، إلى «المراقبين الدوليين» الذين خرجوا أيضا بخفي حنين أمام إصرار النظام على الحل العسكري.
ثم ما الذي سعى إليه كوفي أنان مثلا غير وقف للنار يجمّد العمليات العسكرية، بما يمهّد للدخول في التسوية السلمية التي تقرع الآن طبولها الكلامية في كل العواصم هذه الأيام دون أي مستند ميداني يساعد على ذلك، وهل يتفضل دي ميستورا فيقرأ نص البنود الستة التي حملها أنان إلى الرئيس بشار الأسد، وخصوصا البند الثاني الذي ينص على «الالتزام بوقف القتال والتوصل إلى وقف العنف المسلح من كل الأطراف تحت إشراف الأمم المتحدة لحماية المدنيين وتحقيق الاستقرار».
وماذا فعل الأخضر الإبراهيمي غير السعي إلى وقف أو تجميد للقتال يسمح بالانتقال إلى التسوية السلمية، ليكتشف أن عليه الاستقالة لأن مهمته مستحيلة فعلا كما قال عشية تكليفه بها، أولم يكن الحافز الإنساني حيال المهجّرين والمحاصرين دائما المستند الذي تأبّطه أنان والإبراهيمي، تماما كما يفعل دي ميستورا الآن عندما يتحدث عن مأساة 300 ألف من المحاصرين المهددين في حلب؟
بعد ستة اجتماعات بين دي ميستورا والمعارضين في غازي عنتاب، قال إنه أجرى «محادثات بناءة» لكن تصريحات قيس الشيخ لم توحِ بوجود ما يمكن أن يبنى عليه، وقال إنها خطة للأمم المتحدة وليست لأحد آخر بينما الواضح تماما أنها خطة روسية يراد لها أن تلبس أقنعة الأمم المتحدة، أما بخصوص مسألة التجميد فيقول إنها «ليست وقفا للنار مثلما هي الحال في حمص.. هذا تجميد وقف القتال»، هكذا بالحرف والشاطر من يفهم!
وليد المعلم كان قد قدّم من سوتشي بعد لقائه مع فلاديمير بوتين شرحا أكثر وضوحا لموضوع التجميد عندما أعلن أن شروط النظام لقبول مبادرة دي ميستورا هي «استعادة السلطة المركزية» لكل المناطق التي تسيطر عليها المعارضة، وأن تبدأ المجموعات المسلحة بالتجميد وتقوم بتسليم سلاحها الثقيل وتسوية أوضاعها، أو أن تخرج من المدينة لمقاتلة «داعش» و«النصرة»، وأن تستعيد دمشق سلطتها على المدينة.
أمام هذا لا يرى المعارضون فرقا بين حال الاستسلام الذي انتهت إليه حمص وبين ما يطلبه المعلم ويمثّل استسلاما كاملا لحلب، ليس هذا فحسب فبعد ستة اجتماعات بين دي ميستورا والمعارضين في تركيا قال الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة السورية، إن أي خطة للهدنة (لم يستعمل كلمة تجميد) تحتاج إلى أن تكون جزءا من استراتيجية أشمل تتضمن عزل بشار الأسد من السلطة!
عزل الأسد من السلطة؟
ولكن من قال إن عزل الأسد، ليس في رأي النظام أكثر من «يا حصرمًا يراه مستر ميستورا في حلب»، ذلك أن أقصى التفاؤل بإمكان نجاح خطة التجميد وتحويلها مدخلا إلى الحل السلمي الذي يطالب به الجميع دون وجود تصوّر واضح للحل، وما توافر حتى الآن في هذا السياق لا يتجاوز الإشارة إلى أنه يمكن البدء في التسوية السياسية سنة 2016، ولكن على أي أساس؟
السفير رمزي علم الدين نائب المبعوث الدولي إلى سوريا قال في حديثه إلى «الشرق الأوسط» قبل أيام إن تفاصيل خطة دي ميستورا تستند إلى مستويين، الأول هو التعامل مع موضوع تجميد القتال في حلب ثم تعميم التجميد إلى مناطق أخرى، والثاني يتم في المدى المتوسط أي بعد سنة 2016، ويرتبط بالأفق السياسي الذي سيكون قوامه اتفاق «جنيف - 1» وهو الوثيقة الوحيدة المقبولة دوليا.
صحيح أنها مقبولة دوليا ولكن من الذي يستطيع أن يجعل منها وثيقة صالحة للتطبيق وإرساء التسوية السلمية في سوريا، وخصوصا بعد الفشل المزدوج الذي انتهى إليه مؤتمر جنيف في مرحلتيه انطلاقا من العقدة الواحدة التي اعترضته ولا تزال، وهي موقع الأسد من الحل ومصيره بعد التسوية؟
ولأنه ليس من الواضح حتى الآن إذا كانت التسوية التي يسعى إليها المبعوث الدولي بدفع من روسيا وتأييد مشروط من النظام وتشجيع من إيران، ستحدد مصير الأسد عبر عملية توضّح مراحل عملية الانتقال السياسي، فيا حصرما يراه دي ميستورا ولافروف في حلب!