من الصعب أن ترث روسيا الدور السوفياتي في سورية، فتلك حقبة انتهت إلى الأبد، كما لن تنفعها مبادراتها الركيكة والتي فات أوانها في ما يتصل بإيجاد «حل سياسي» للقضية السورية، في إنقاذ ما تبقى من الرصيد الأخلاقي للسياسات السوفياتية السابقة في ضمائر السوريين. فذلك الرصيد أصبح هباءً منثوراً بفعل السلاح الروسي الذي فعل الأفاعيل بالسوريين وممتلكاتهم وأرزاقهم، وبفعل إجهاض روسيا أي مخرج سياسي للمأساة السورية، من دون أن ننسى تلطي السياسة الأوبامية المترددة والمرتبكة خلف ذاك الفجور الماكيافيلي في السياسة الروسية تجاه نكبة السوريين.
يتردد، أخيراً، أن روسيا ستقوم برعاية حوار سوري – سوري، يضم معارضين وشخصيات من النظام، بهدف الوصول إلى «حل سياسي». صحيح أن تزامن تآكل الروبل الحاد مع تآكل النظام السوري بفعل التعفن الناجم عن استنزافه المستمر هو وراء الاندفاعة الروسية الديبلوماسية الراهنة. لكن معضلات مستعصية ستواجه السياسة الروسية في سورية مستقبلاً، منها ما يتصل بالمنظور الروسي لمضمون «الحلول السياسية» في سورية المحكوم بالرؤية السلطوية البوتينية، بوصفها أكثر الرأسماليات ابتذالاً وتأخراً نتيجة ولادتها «مافيوياً» من عملية تفسخ النظام الشيوعي التي تماثلها عملية التفسخ البعثي. وذلك المنظور لا يكترث بمواضيع مثل الحرية وحقوق الإنسان ودولة الحق والقانون، وبالتالي فـ «الحل السياسي»، وفقاً له، لا يغدو أكثر من مسألة توسيع لـ «الجبهة الوطنية التقدمية» القائمة، وتشكيل حكومة «وحدة وطنية». وهذا في كل الأحوال منظور متأخر عن إدراك حجم أو عمق التحول التاريخي الحاصل في سورية.
كما أن مداخل الحضور السوفياتي في سورية منتصف القرن الماضي، سواء تلك التي تعلقت ببناء الجيش السوري «العقائدي» وتسليحه، أو التي ارتبطت بالبعد «النضالي» للأيديولوجيا الشيوعية «الكدحانية»، وجذبت التيار القومي العربي الذي أمسك بالسلطة حديثاً حينذاك، وقادته إلى الانضواء في سياسة المحاور المفروضة بشروط الحرب الباردة، هي ذاتها المخارج التي ستخرج منها روسيا من سورية. لأن الخيار الوطني السوري يملي على السوريين، بداهة، تغيير بنية الجيش وإعادة هيكلته وطنياً، وتقليص التضخم المفرط في التسليح، وتجنب سياسة المحاور القائمة على حساب المصلحة الوطنية السورية، وذلك كله سيؤدي إلى تحجيم الحضور الروسي في سورية.
وعلى رغم انقسام السوريين مذهبياً وطائفياً وقومياً، واختلافهم سياسياً وفكرياً، وتمايزهم اجتماعياً وطبقياً، فإذا نظروا إلى روسيا بعين الانقسام الأول، سيكون هواهم ليس هوىً روسياً، لأن السلاح الروسي دمر مناطق الأكثرية السنّية. وإذا نظروا إليها بعين الاختلاف السياسي الفكري، فالإسلاميون والليبراليون والديموقراطيون والناشطون في الحراك المدني السلمي وقسم من اليساريين هواهم ليس هوىً روسياً أيضاً. وإذا نظروا بعين التمايز الطبقي الاجتماعي، فالسلاح والموقف الروسيان كانا موجّهين ضد الأغنياء والفقراء وضد سكان المدن والأرياف على حد سواء. لذا غدت روسيا دولة منبوذة بالنسبة إلى غالبية السوريين.
ومما يزيد من نبذها أن البوتينية، كنموذج سلطوي في الحكم، تنتمي إلى ماضي البشرية المرتبط بالاســـتغلال والتــسلط والاستبداد والتحكم المطلق، ولا يمكن أن يكون لها حضور مســتقبلي في ظل تحــولها إلى مصدر للنفور الكوني، بخـاصة أن ثورات «الربيع العربي» انتفضت في وجه نسخ كاريكاتورية عنها، وبوتين زعيم بمواصفات الزعماء العرب ولكن بشروط روسيا.
لهذا، فروسيا نموذج آفل، وهي لن تستطيع مواصلة كسر إرادات السوريين، وستدفعها عوامل التحول التاريخي الكبير التي حدثت في بلادنا إلى خارج المستقبل السوري.
مع تواصل انخفاض أسعار النفط بات من الواضح أن هناك حالة من الـ«بارانويا» تصيب كلا من إيران وروسيا، أصدقاء بشار الأسد، حيث خرجت تصريحات متشابهة تقريبا من طهران وموسكو منددة بانخفاض أسعار البترول، ومعتبرة ذلك مؤامرة دولية، وليس نتاج أوضاع اقتصادية.
إيرانيًا، اعتبر الرئيس حسن روحاني الأسبوع الماضي أن هبوط أسعار النفط هو نتيجة «مؤامرة سياسية»، ومؤكدا أنها «ليست اقتصادية بحتة». وهو نفس الكلام الذي كرره النائب الأول للرئيس الإيراني عن «وجود مؤامرة سياسية في العالم وراء هبوط أسعار النفط». بينما روسيًا قال وزير الخارجية سيرغي لافروف أخيرا إن هناك أسسا للاعتقاد بأن واشنطن تحاول زعزعة الاستقرار، وتغيير النظام في روسيا من خلال فرض العقوبات عليها. وجاءت تصريحات لافروف هذه مع حالة هبوط حادة في العملة، وهو ما استدعى عقد اجتماع طوارئ، وحالة استنفار لدى البنك المركزي لحماية العملة الروسية (الروبل)!
وبالنسبة للروس فإن ما يجعل الأمر أكثر سوءا هو الإعلان عن نية الرئيس أوباما توقيع مشروع قانون يسمح بفرض عقوبات جديدة على روسيا، في الوقت الذي لوح فيه وزير الخارجية الأميركي بإمكانية رفع تلك العقوبات إذا اتخذ الرئيس الروسي «الخيارات الصحيحة»، ومضيفا أن الاقتصاد الروسي بيد بوتين!
حسنا، ما معنى ذلك سياسيًا؟ الطريف، وشر البلية ما يضحك، أن إيران وروسيا الآن لا تتحدثان عن أن أميركا تريد تغيير نظام الأسد، بل بات الحديث الآن عن مؤامرة دولية ضد إيران، بحسب الرئيس الإيراني، ومحاولة لتغيير النظام في روسيا نفسها، بحسب وزير الخارجية الروسي!
وعليه فنحن الآن أمام مشهد مختلف، إيرانيًا وروسيًا، حيث نجد أن حلفاء الأسد، والمدافعين عنه بالسلاح والمال، والرجال، هم من يئنون اقتصاديًا بسبب انخفاض أسعار النفط، ويتوجسون من مؤامرة دولية عليهما، وبالتالي الآن فإن السؤال هو إلى أي حد ستذهب إيران، وروسيا، في مساعدة الأسد، وتمويله؟ وبالنسبة لإيران فإلى أي حد تستطيع طهران المضي قدما في تمويل مغامراتها العبثية في المنطقة، وأبسط مثال هنا تمويل الحوثيين، وتعزيز قدرتهم في اليمن، وهو الأمر الذي تعتقد إيران أنه يمثل انتصارا سهلا لها، وعكس ما يحدث في العراق وسوريا، وذلك بحسب تقرير لوكالة «رويترز».
وبالتالي فإن الأسئلة الآن تتركز حول مقدرة روسيا على مواصلة تهورها في أوكرانيا وتمويلها للأسد الذي حاولت حماية عملته قبل أسابيع، وها هي موسكو تحاول حماية عملتها نفسها الآن. وكذلك مقدرة إيران على تمويل الجماعات الطائفية، وتمويل جرائم الأسد. والأمر الجدير بالتفكير هنا هو طالما أن الرئيس أوباما يحاول الآن محاصرة الروس من خلال فرض عقوبات جديدة عليها فلماذا لا يتم الأمر نفسه بحق إيران الراعي الرسمي لحالة اللااستقرار بمنطقتنا من العراق إلى سوريا، ومن اليمن إلى لبنان؟ حينها لن يصاب نظام إيران بالجنون وحسب، بل وبالألم السياسي المؤثر.
لأن الظاهرة الإرهابية، المتمثلة بـ«داعش» وغير «داعش»، قد تضخمت كثيرا، ولأن التعامل الأميركي والغربي مع هذه الظاهرة بدأ قاصرا والمتوقع أنه سيبقى قاصرا إذا بقيت الأمور تسير على هذا النحو وبهذه الطريقة، فإنه لا بد من أن يتولى العرب هذه المسألة المصيرية بأيديهم، فالمستهدف أساسا هو المنطقة العربية، وهو، إذا أردنا المزيد من الدقة، هذا الإقليم الشرق أوسطي كله وفي مقدمته تركيا التي تعتبر جبهة أساسية أمامية ملتهبة، والتي، إذا أردنا قول الحقيقة، تنام على ألغام كثيرة ستنفجر كلها دفعة واحدة إذا لم تكن هناك مواجهة شاملة مع هذه الآفة التي غدت زاحفة في كل الاتجاهات وفي العالم بأسره.
ولهذا، فإنه على العرب أولا: ألا يكونوا مبعثرين على هذا النحو المرعب، فالمثل يقول إن «الذئب يفترس الشاة المطرفة». وثانيا أن يتحرك المقتدرون منهم لتشكيل ما يمكن تسميته «رافعة» تكون جدار استناد لمواجهة هذا الخطر المرعب الزاحف الذي تجاوز كل الخطوط الحمراء والذي إن لم تكن هناك وقفة جدية، فإن ما يجري في العراق وفي سوريا وفي لبنان وفي اليمن، سينتقل حتما إلى دول أصبحت تعاني معاناة فعلية من ظاهرة الإرهاب «الإلكتروني» ومن ظاهرة الخلايا التي لم تعد نائمة.
إن المقصود بـ«العرب المقتدرين» هو: المملكة العربية السعودية، ومصر، وهو: المملكة الأردنية الهاشمية، والمملكة المغربية، وبعض دول مجلس التعاون الخليجي، وهو أيضا تركيا؛ هذه الدولة التي لا يجوز أن تستمر، بالنظر إلى المنطقة العربية، من خلال حزب سياسي هو جماعة الإخوان المسلمين التي أقحمت هذه المنطقة في كل هذه التوترات، وفي مرحلة تاريخية تقتضي الاصطفاف الدفاعي وتغليب الأساسي والرئيسي على الثانوي، وتأجيل المناورات والألاعيب السياسية إلى فترة يصبح فيها مجال لترف المحاكمات والمناورات الحزبية التي ساهمت في إيصال الأحوال العربية إلى ما وصلت إليه.
في ذروة انتصار حزب العدالة والتنمية بقيادة هذا النجم المتألق الصاعد رجب طيب إردوغان، ولكن إلى متى؟! رفع رئيس الوزراء التركي الحالي ووزير الخارجية السابق أحمد داود أوغلو شعار «تصفير الخلافات»، ولكن المؤسف حقا أنه جرى «تصفير الصداقات»، وغدت هذه الدولة العظيمة تنظر إلى دول هذه المنطقة من خلال ثقب الإخوان المسلمين، فانهارت علاقاتها مع مصر، التي هي واسط الخيمة العربية، إنْ في هذا العهد الواعد، وإن في كل العهود السابقة، وتراجعت حتى حدود القطيعة مع دول أخرى.
وحقيقة فإنه غير مقبول أن يختطف الإخوان المسلمون تركيا على هذا النحو، كما أنه، وفي الوقت ذاته، غير مقبول أن يستسلم العرب لهذا الاختطاف وإلى تردي العلاقات مع دولة محورية وأساسية في هذه المنطقة وفي العالم بأسره تربطنا بها علاقات تاريخية امتدت لأكثر من 4 قرون متلاحقة، ويربطنا بها، بالإضافة إلى المصالح الاقتصادية الواعدة، الدين الإسلامي الحنيف، والأمن الإقليمي المشترك المتمثل حاليا في مواجهة هذا الإرهاب المتفشي الذي يهدد تركيا ويهدد الدول العربية كلها.
إنه على العرب المعنيين أن يبادروا إلى الخطوة الأولى، فالجفاء يورم القلوب، والبعد يؤدي إلى مزيد من تراكم السلبيات، والمفترض أن تكون البداية الاتفاق مع «الأشقاء» الأتراك، وفي مقدمتهم الرئيس رجب طيب إردوغان على إبعاد التأثيرات الحزبية السلبية عن العلاقات المصرية – التركية؛ إذ دون تصحيح العلاقات بين هذين البلدين، ودون «تصفير» الخلافات بينهما، ستكون هذه المنطقة الشرق أوسطية مكشوفة كلها للإرهاب ولإسرائيل، وأيضا لبعض أصحاب الرؤوس الحامية في إيران الذين كان أحدهم قد أعلن قبل أسابيع قليلة وعلى رؤوس الأشهاد عن أن 4 عواصم عربية هي بغداد ودمشق وبيروت وصنعاء، باتت تابعة للعاصمة الإيرانية طهران وتدور حولها.
إن المفترض أن يسعى «الأشقاء» الأتراك إلى إعادة الإخوان المسلمين المصريين إلى الحياة السياسية المصرية؛ إذ إن ما فات مات، وإن هناك واقعا مستجدا سيستمر بالتأكيد لأجيال متعددة قادمة؛ وإذ إن الإرهاب الذي يضرب مصر الآن باسم «أنصار بيت المقدس» سينتقل حتما إلى تركيا إن لم يتم القضاء عليه بسرعة، فهي، أي تركيا، مستهدفة أيضا، وبالتالي، فإنها معنية بإطفاء جمر التطرف المتأجج في أرض الكنانة وفي سوريا والعراق وليبيا واليمن، وهي معنية أيضا بـ«تصفير الخلافات» وبإذابة الجليد السياسي المتراكم بينها وبين القاهرة وبينها وبين الرياض وعمان والرباط.
لقد بقيت تركيا تقرع أبواب الغرب الأوروبي لنحو نصف قرن وربما أكثر دون أي جدوى ودون أي فائدة أو أي إنجاز، وهذا من المفترض أن يجعلها تدرك أن مجالها الحيوي الاقتصادي والسياسي هو الجنوب الذي تربطها به علاقات متجذرة قديمة، هذا بالإضافة إلى العلاقات الاقتصادية الواعدة، وبالإضافة إلى ضرورة تشكيل جبهة موحدة للقضاء على هذا الإرهاب الأعمى الذي غدا يخبط خبط عشواء والذي لن يوفر أي دولة رئيسية من دول هذه المنطقة.
وهنا، وحتى لا يفهم البعض أن المقصود هو تشكيل تحالف ضد إيران، فإنه لا بد من القول إن المفترض أن تكون جمهورية إيران الإسلامية جزءا من هذا التحالف، أو التكتل، الذي يجري الحديث عنه، والذي لا بد من بلورته في أقرب فرصة ممكنة، ولكن بعد أن تتخلى عن كل محاولاتها التمددية في هذه المنطقة وتتخلى عن تدخلها السافر في الشؤون الداخلية للعراق ولسوريا ولليمن وللبحرين.. إن كل الدول العربية؛ وفي مقدمتها المملكة العربية السعودية، تريد علاقات أخوة وعلاقات مصالح مشتركة مع هذه الدولة المسلمة، المجاورة منذ بداية التاريخ، لكن المشكلة تكمن في أن الحب من طرف واحد لا يفيد، وأن التقارب يقتضي تلاقي الإرادتين؛ إرادة العرب وإرادة الإيرانيين. وحقيقة فإن هذا ممكن وغير مستحيل، ولكن بشرط أن تبادر طهران إلى تصفير خلافاتها مع «أشقائها»، وأن تكف عن تطلعاتها الفارسية الإمبراطورية الطائفية، وأن تقبل بالعيش المشترك الآمن في هذه المنطقة الواسعة التي من المؤكد أنها تتسع للجميع.
ثم، وعود على بدء، فإن التحديات التي تواجه العرب وتواجه تركيا، على اعتبار أنها دولة رئيسية ومحورية في هذه المنطقة الملتهبة، تتطلب سعيا دؤوبا لتطويق الخلافات المصرية - التركية التي لو تم تحييد تأثير الإخوان المسلمين فيها لتحولت إلى صداقات حميمة، وتتطلب أن تأتي المبادرة من قبل الدول العربية المعنية؛ مصر والمملكة العربية السعودية والمملكة الأردنية الهاشمية والمملكة المغربية وبعض دول مجلس التعاون الخليجي، فهناك تحديات كثيرة من بينها، بالإضافة إلى تحدي الإرهاب والتطرف، تحدي القضية الفلسطينية، ومن بينها ضرورة التخلص من هذا النظام السوري القاتل والحفاظ على هذا البلد العربي موحدا جغرافيًا وديموغرافيًا، ومن بينها أيضا ضرورة مساندة العراق ومساعدته للتخلص من كل هذه الأوضاع المأساوية التي يغرق فيها، وضرورة منع اليمن من الانزلاق إلى التشرذم والعودة إلى التشطير بعد نحو ربع قرن من الوحدة.
إن هذه المرحلة هي أخطر مراحل التاريخ العربي الحديث، ولذلك فإنه لا بد من تطوير التنسيق الحالي بين مصر والمملكة العربية السعودية والأردن والمغرب وبعض دول مجلس التعاون الخليجي، والارتقاء به ليقترب من الوحدة السياسية التكاملية القادرة على مواجهة التحديات الآنفة الذكر؛ وأخطرها تحدي التطرف والإرهاب الذي بات يتمدد في المنطقة تمدد ألسنة النيران بالهشيم.
في الوقت الذي تواصل طائرات التحالف الدولي بقيادة الولايات المتحدة غاراتها على مواقع تنظيم الدولة الإسلامية «داعش» في العراق وسوريا، يعمل كل من المبعوث الدولي ستيفان دي مستورا ونائب وزير الخارجية الروسي بوغدانوف على مبادرتين سياسيتين لحل الأزمة في سوريا. ويعتمد اللاعبان الأممي والروسي، كل من جانبه، على صيغة «الغموض الخلاق» فلا يتسرب شيء من «المبادرتين» إلا بالقطارة. من المحتمل أن كلتا المبادرتين غير ناضجتين لتطرحا على أطراف الصراع للقبول أو الرفض، بقدر ما تتم بلورتهما بالتوافق مع تلك الأطراف. لكن منهجية كل منهما باتت معلنة ويمكن تلخيصها فيما يلي:
تقوم مبادرة دي مستورا على الانطلاق من الميداني إلى السياسي، ومن الجزئي إلى الكلي. هذا ما يعنيه «تجميد القتال» بدءاً من مدينة حلب، أو ما يعرف بـ»حلب أولاً». وهو ما يعني توافق النظام والمجموعات المعارضة المسلحة في مدينة حلب على وقف العمليات القتالية ليحتفظ كل طرف بمواقعه، وفتح ممرات لعمليات الإغاثة للمدنيين. بنجاح هذه المرحلة الأولى تنقل التجربة إلى مواقع أخرى فيها جبهات قتال بين الطرفين، وهما قوات النظام والميليشيات الأجنبية التي تقاتل إلى جانبه من جهة، وما يسمى بـ»المعارضة المعتدلة» من جهة ثانية. يتجنب دي ميستورا التطرق إلى موقع الميليشيات الشيعية اللبنانية والعراقية التي تقاتل في حلب إلى جانب النظام، كما لم يعلن عن القوى المشمولة بصفة «الاعتدال»، وإن كان مفهوماً وضع كل من تنظيم الدولة «داعش» وجبهة النصرة خارج المشاورات في إطار المبادرة.
هذه الإنجازات الجزئية على مستوى الميدان، إذا تم تحقيقها، باتت الطريق سالكة نحو الحل السياسي الشامل الذي سيجمع النظام والمعارضة في قوة واحدة لمحاربة داعش وأخواتها.
تنطلق المبادرة الروسية، في المقابل، من فوق إلى تحت، أي من «الحوار» بين النظام والمعارضة في موسكو ثم في دمشق، وصولاً إلى حل سياسي يتوافق عليه الطرفان في نوع من تقاسم السلطة بينهما. من المحتمل، هنا أيضاً، أن الحل السياسي ليس هدفاً بحد ذاته، بل مجرد وسيلة لإعادة التموضع لتشكيل جبهة موحدة ضد «التطرف».
ما يوحي بجدية موسكو هذه المرة بخلاف المناسبات السابقة، ومؤتمر جنيف 2 ضمناً، هو أن ممثل بوتين القوي بوغدانوف ذهب «بنفسه» إلى الائتلاف المعارض في اسطنبول ليطرح عليه الأفكار الروسية الجديدة، في حين أنها طالما تجاهلت هذا الإطار المعترف به دولياً، وفضلت التعامل مع معارضة قريبة منها و»معتدلة» في معارضتها للنظام الكيماوي في دمشق كهيئة التنسيق وتيار بناء الدولة ومجموعة قدري جميل والشيخ معاذ الخطيب.
ما الذي غيَّرَ من السياسة المتصلبة لموسكو في دفاعها عن النظام وجعلها تبذل جهوداً دبلوماسية بحثاً عن حل سياسي؟ يربط كثير من المراقبين بين هذا التغير وما انتهت إليه المفاوضات الدولية مع إيران بشأن مصير برنامجها النووي. فالتمديد الذي ترافق مع تصريحات متفائلة من الجانبين الأمريكي والإيراني أقلق موسكو بصورة جدية، وهي الحاضرة على طاولة المفاوضات والعارفة بدقائقها، من تقارب أمريكي – إيراني قد يرقى إلى مستوى التحالف ويترك موسكو خارج كل الحسابات في رسم مصائر الإقليم المضطرب الممتد من العراق إلى لبنان مروراً بسوريا، خاصةً وأن علاقة نظام دمشق الكيماوي بإيران تتجاوز في متانتها علاقته بموسكو بكثير. أضف إلى ذلك أن الإدارة الأمريكية تبدو بعيدة كل البعد عن البحث عن حلول سياسية للأزمة السورية، وتقتصر اهتماماتها على مواصلة الحرب على داعش في العراق وسوريا، وعلى ترتيب تحالفاتها مع الدول الاقليمية في خدمة هذه الحرب.
موسكو التي باتت تعيش عزلة دولية خانقة بسبب ضمها لشبه جزيرة القرم واستمرارها في تغذية الاضطرابات في شرق أوكرانيا، وآثار العقوبات الاقتصادية الغربية المطبقة بحقها التي بدأت تظهر بقوة، إلى جانب التكاليف الباهظة للحرب النفطية عليها من خلال خفض الأسعار، راحت تبحث عن مخارج أو مسكنات لأزمتها المتفاقمة. من ذلك زيارة بوتين الباذخة إلى أنقرة وما نتج عنها من اتفاقات اقتصادية طموحة. ومن ذلك حركتها الدبلوماسية النشيطة بحثاً عن شركاء سوريين من النظام والمعارضة على أمل تحقيق إنجاز دبلوماسي كبير لبوتين يعوّضه عن عزلته الدولية وتدهور حال الاقتصاد الروسي.
من جانبها، لا تبدو واشنطن على أي درجة من القلق أو الاستياء من تفرد موسكو بالمسألة السورية. من المحتمل أن إدارة أوباما تعرف محدودية تأثير القيادة الروسية على نظام دمشق الكيماوي، وتراهن على شريكها الإيراني الذي يتفرد بهذا التأثير. إضافة إلى أنها على دراية عميقة بمشكلات المعارضة السورية، سواء من حيث هزال تمثيلية الأطر السياسية جميعاً بما فيها الائتلاف، أو من حيث قوة المنظمات الإسلامية المتطرفة كداعش والنصرة مقابل تراجع وزن المجموعات المسلحة المعتدلة المحسوبة على الجيش الحر. من هذا الإدراك الواقعي لمفردات المشكلة السورية، تركت الإدارة الأمريكية المجال لموسكو لتلعب في الوقت الضائع بلا جدوى عملية، مع إمكان الاستفادة من المشاورات التمهيدية الجارية على خطي دي ميستورا وبوغدانوف معاً لإنضاج وضع قد تتلقفه واشنطن مستقبلاً لفرض تصورها الخاص للحل السياسي على الأطراف. وذلك من غير أي تلكؤ في حربها المتواصلة على داعش، تلك الحرب المديدة التي سترسم خطوط تحالفات جديدة عبر الإقليم وصولاً إلى خلق ستاتسيكو جديد لما بعد الحرب.
الإنضاج المشار إليه في الأسطر السابقة هو قياس مدى الإرهاق الذي أصاب السوريين من سنوات أربع من حرب مجنونة قتلت ربع مليون وشردت نصف السكان. طريقة استجابة الأطراف للمبادرتين الأممية والروسية ستشير إلى مدى الإرهاق الذي أصابها. ينطبق ذلك على كل من النظام والمعارضة. وبصورة أولية يمكننا أن نلاحظ التجاوب الإيجابي المعلن من الطرفين مع كل من المبادرتين، على رغم الشروط المتطرفة التي طرحاها. لم نعد نسمع ذلك الرفض المسبق الصاخب للمبادرات السياسية الذي كنا نسمعه كثيراً إزاء المبادرات السابقة، مع أن المبادرتين الجديدتين أكثر هزالاً من سوابقهما وأقل قابلية للتطبيق.
تبدو خطة المبعوث الأممي ستافان دي ميستورا، وكأنها بصدد ملاءمة الظروف الزمانية والمكانية، لإنضاج حل سياسي في سوريا على نار هادئة. ورغم كل الجهود السابقة، فإنه ليس ممكنا الوصول إلى بداية طريق حقيقية، تدفع أطراف الصراع إلى الدخول في مفاوضات جديّة من أجل التوصل إلى تسوية سياسية، يرى المجتمع الدولي أنها الطريق الوحيد لإنهاء الوضع القائم، لكنه لا يبذل جهوداً حقيقية من أجل ذلك.
رغم ما يتم الحديث عنه، ومنها تصريحات دي ميستورا، فإن الغموض لا يزال يكتنف خطة التجميد المقترحة، وهنا تبرز مشروعية الشكوك التي تطبع مواقف أطراف سياسية وعسكرية في المعارضة السورية، التي رأت في طريقة الطرح وموافقة النظام التي سبقت المشاورات، مؤشرا على أمور قد لا يحمد عقباها، لناحية استفادة النظام من المبادرة.
لاشك أن ثمة أهمية كبيرة وحاجة ضرورية لوقف الأعمال القتالية في كافة المناطق السورية، وخاصة مناطق التماس المباشر، وفي مقدمة ذلك إيقاف الأعمال العسكرية التي يقوم بها النظام عبر سلاح الجو، المتمثلة بالبراميل المتفجرة والقصف الصاروخي، الذي يشكل عمليات إجرامية متواصلة مستهدفة التجمعات السكنية. وهذا “الإيقاف” يؤمّن حماية المدنيين وفرصا ملائمة لتوفير الاحتياجات الإنسانية العاجلة، ولمّ شمل العائلات التي شرد أبناؤها، وكذلك توقف حالات التهجير القسري.
كما يمكن لأي اتفاق مماثل، توفير مناخ لازم لإعادة الخدمات الضرورية، كالماء والكهرباء، وهذا جانب حيوي في الحقيقة، وهناك قدرات محلية يمكن أن تنجز ذلك في حال توفر دعم مباشر من القوى المعنية بتخفيف المعاناة الإنسانية المستمرة منذ أكثر من ثلاث سنوات، في معظم المناطق السورية، ومنها حلب، موضوع خطة دي ميستورا.
لا يمتلك الشارع السوري، بما في ذلك مؤسسات المعارضة، أي معلومات عمّا يتحرك بشأنه المبعوث الأممي. ولكن دي ميستورا الذي كان يتحدث عن مناقشات مع الأطراف السورية، عرض مشروعاً يبدو أنه تصورا متكاملا، أمام وزراء خارجية الاتحاد الأوروبي خلال الأيام الثلاثة الأخيرة. وتشتمل الخطة على ثلاثة بنود أساسية هي: تجميد العمليات العسكرية، وإدخال مواد للإغاثة الإنسانية، وفرض آليات إلزام الأطراف بالاتفاق.
لماذا لم يضع دي ميستورا بنود خطته كاملة أمام المعارضة السورية، وهو بصدد التوجه إلى مجلس الأمن؟، بما يعني العمل بعيداً عن مشاركتها الأساسية في صياغة أي اتفاق، في الوقت الذي يتم فيه التشاور مع نظام دمشق على كافة الخطط والبرامج. ولنلاحظ أن المبعوث الأممي لا يجتمع مع المعارضة كفريق واحد، وفي جزء منه تتحمل المعارضة وزراً في ذلك. فالذهاب بهذه الصورة إلى مجلس الأمن، يعني فرض إجراءات قد تكون فصائل المعارضة المسلحة، هي المستهدف فيما بعد بعمليات “معاقبة” حال عدم الالتزام بها.
ما يؤخذ على دي ميستورا أن خطته تلك، كما أوضحت تصريحاته، لا تشتمل خطة للتسوية، ورفض ربطها بتطبيق مبادئ “جنيف1”. هذا مثار للقلق أيضا، يفهم منه العمل على إنجاز هدنات محلية في المدن والبلدات، على غرار ما تم في ريف دمشق وحمص. بمشاركة أطراف دولية ومؤسسات غير منظورة، كما حدث في هدنة حمص، التي سرعان ما استغلها النظام وأحكم سيطرته على كافة الأحياء موضوع الهدنة.
خطة تجميد القتال في حلب، يجب أن تستند إلى جهود معلنة ترتبط بالتسوية السياسية التي تقوم على “جنيف1”، بمعنى أن ما يتم الاتفاق عليه، لن يكون محدودا ومعزولاً عن المناطق الأخرى، وإذا كانت الخطة معنية بمنطقة حلب، فإنه يتوجب أن تكون حلقة أساسية وأولى لتوسيعها باتجاه إيقاف دائم لإطلاق النار، وخاصة من قبل النظام، وأن ترتبط بوقف العمليات والتحليق الجوي لطيران الأسد، ومنع الأطراف من إعادة تنظيم صفوفها أو إدخال قوات ومعدات جديدة، أو استبدالها. المعني بذلك تحديدا نظام الأسد، بما يمتلكه من قدرات وأصدقاء شركاء له، في الوقت الذي تكاد لا تمتلك فيه قوات المعارضة شيئا يذكر في مواجهة النظام، الذي يحاصر حلب من ثلاث جهات، وأي هدنة ستمكنه من التقاط أنفاسه والتمدد لقضم باقي المناطق وإطباق الحصار على المدينة، كما فعل في مناطق الهدنة الأخرى.
لن يقبل النظام بوجود قوات فصل، من منطلق تحجيم نواياه وخططه. ولكن ذلك يعني إيجاد منطقة عازلة بين الطرفين، من شأنها خلق واقع تقسيمي لمدينة حلب، والحل لا يكمن في ذلك، وإنما بسحب كافة القوى المقاتلة خارج حدود المدينة، وأن يُلزم النظام أولاً على تنفيذ خطة انسحاب شاملة، ولا يمكن دون ذلك من بناء الثقة.
الأحداث الأخيرة في وادي الضيف تجعل موقف النظام أكثر حرجا وأكثر سعيا إلى تجميد القتال في حلب، مع العمل على إعادة تجميع قواه، خاصة أن تحالف كتائب الجيش الحر مع جبهة النصرة قد يتوسع ليشمل مناطق ريف حلب ما يزيد في مخاوف النظام.
التعويل على قرار من مجلس الأمن، لن يكون سهلاً على الإطلاق، ورغم تقدم موسكو وإيران بمبادرات للتسوية السياسية، فإن الفيتو الروسي سيكون حاضرا ما لم تتضمن خطة دي ميستورا بنودا تعزز موقف نظام الأسد. بالمقابل، أي هدنة إن لم تكن ضمن إطار تسوية شاملة وبضمانات دولية، لن يكتب لها النجاح.
لفهم التغييرات الأخيرة ربما علينا أن نعيد تقييم الوضع السياسي والعسكري في سوريا، بافتراض أن روسيا لم تصطف إلى جانب نظام بشار الأسد، ولم تدعمه، فهل كان هذا سيغير مسار تاريخ الثورة السورية؟
كان للروس دور سياسي كبير، أكثر من كونه دورا عسكريا حاسما، وهذا لا يقلل من خطورة الدعم الضخم الذي قدمته موسكو للنظام في دمشق، وساعده على سحق قوى المعارضة في العديد من المناطق المنتفضة. إنما، ربما كان في متناول الأسد الحصول على أسلحة نوعية من مخازن حليفته الأولى إيران، التي تولت فعليا التنسيق للحاجات الدفاعية من الأسواق العالمية وتمويلها بطرق مختلفة. الدور الأكبر للروس كان سياسيا، حيث نجحوا في تعطيل، وتخريب كل المشاريع السياسية الدولية المختلفة، وهم من أسرفوا في استخدام حق الفيتو لمنع قرارات مجلس الأمن الحاسمة، وسهلوا على الأطراف الغربية الرافضة أو المترددة عدم دعم المعارضة. وهكذا نرى أنه كان لموسكو دور خطير في تعطيل التغيير في دمشق لأكثر من ثلاث سنوات، وهي وراء إدامة المأساة الإنسانية في سوريا التي لا مثيل لها في تاريخ المنطقة.
ومحق برهان غليون، عضو الائتلاف السوري، الذي قرع زملاءه في المعارضة لأنهم في كل مرة تصلهم دعوة يركبون أول طائرة إلى موسكو متوهمين أن الرئيس فلاديمير بوتين قد غير رأيه، وأصبح مستعدا للتعاون. يقول غليون إن «موقف روسيا من الأسد لم يتغير في أي وقت. لكن بعضنا هو الذي لم يفهم معنى ما يقوله الروس. منذ أول لقاء معهم في 2011 بعد تشكيل المجلس الوطني قال وزير الخارجية لافروف نحن لسنا متزوجين من الأسد وليست لدينا علاقات خاصة معه، هو بالعكس زار الدول الغربية أكثر من روسيا بكثير»، مبينا أنه «عندما يقول الروس نحن لا ندافع عن الأسد ولسنا متمسكين بشخصه وإنما نريد الحفاظ على مؤسسات الدولة، فهم لا يقصدون أنهم مستعدون للتخلي عنه».
الروس يلعبون بالكلمات، لكن موقفهم دائما هو نفسه، هم مع الأسد ما دام حيا وفي القصر في دمشق. والتواصل مع موسكو، وتقديم الخدمات المختلفة من قبل دول المنطقة على أمل تليين موقفها، لم ينجبا شيئا يذكر. حتى موقفهم من مصر هو في أساسه تحصيل حاصل، مع القاهرة ضد واشنطن، بل مع النظام الواقف. والآن في التحدي الخطير الذي يواجه النظام الروسي بسبب الحصار الغربي، فإن روسيا ليست بالطرف الذي يستحق من المعارضة السورية كل هذا الاهتمام، ولن تبدل موقفها، في سوريا أو في أي نقطة توتر أخرى. ومثلما يقول غليون «في كل لقاء مع لافروف تقع المعارضة السورية في الفخ وتعود لنشر الأوهام، قبل أن تكتشف خدعة موسكو وخداعها. موسكو لم تغير موقفها».
خيار المعارضة ترتيب صفوفها، والمراهنة على خيارها العسكري الميداني، هنا فقط يمكن للروس والأميركيين أن يستمعوا إليها. ولا توجد أمام الحكومتين خيارات لاحقة أخرى سوى التعامل مع المعارضة، بين الأسد المحاصر والإرهاب المتوحش.
الدور الناشط في مجال العلاقات العامة لمصلحة النظام السوري، الذي لعبه الوزير اللبناني السابق ميشال سماحة حتى توقيفه بتهمة التآمر لإحداث تفجيرات في لبنان بالتنسيق مع علي مملوك، أحد أركان المنظومة الأمنية لنظام دمشق، برز مرتين أمام متابعي شؤون سوريا: المرة الأولى، الظهور العلني التنسيقي في باريس في آخر زيارة رسمية قام بها بشار الأسد لفرنسا. والمرة الثانية دوره المزعوم في ترتيب زيارة الكاتب والإعلامي الأميركي سيمور هيرش لأمين عام «حزب الله» السيد حسن نصر الله.
بعد هاتين المحطتين صار سماحة يوصف بأنه أحد رجال «حلقة العلاقات العامة التابعة لنظام بشار الأسد». غير أن تداعيات ما حدث بالنسبة للمحنة السورية على المستوى الدولي أكدت بضع حقائق أخرى مهمة:
- الأولى أن النظام السوري «صندوق بريد» و«متعهد مهام خاصة» لعدة أطراف دولية يخدمها لقاء مساعدته على تحقيق غايته الوحيدة وهي غاية البقاء.. مهما كان الثمن.
- الثانية أن نظام دمشق، تحديدا في عهد حافظ الأسد، كان يدرك أولويات البقاء ويلم بمقتضيات المناورة وتحاشي قطع خط الرجعة مع من يستفيد من دعمهم له أو صمتهم عليه. وبالتالي، حرص على المحافظة على «صداقاته» العربية إقليميا، وإبراز شخصيات سنّية في الحكومة والجيش على الرغم من تحالفه الاستراتيجي الضمني مع إيران الخمينية.
- الثالثة أن حافظ الأسد في علاقاته السياسية في عواصم القرار الكبرى ما كان يعتمد على الطواقم الدبلوماسية العادية وقنواتها الروتينية - كما ظهر في تسريبات «ويكيليكس» - بل على شخصيات يرتبط معها بعلاقات شخصية ومصلحية، تبادل النظام الخدمات في مجالات وعلى مستويات أكثر حساسية وعمقا مما تستطيع البعثات الرسمية العادية إنجازه. وبالفعل، جنّد النظام منذ عهد الأسد الأب زمرا من رجال الأعمال والمتموّلين السوريين المهاجرين الكبار في أميركا وأوروبا، لا سيما الذين ظلت لهم مصالح داخل سوريا يحرصون عليها، وذلك ليفتحوا له الأبواب على أعلى المستويات، وينفقوا الأموال لشراء تعاون الأكاديميين ومؤسسات العلاقات العامة تحت مختلف المسميات والأدوار.
- الرابعة أن إيران تتولّى اليوم زمام نظام الأسد الابن. وكان قد اتضح بعد 2005 مع سحب القوات السورية من لبنان، في أعقاب تصفية رفيق الحريري، أن ثمة «مؤسسة تحتية أمنية» أسّست وطوّرت في سوريا ولبنان مرجعيتها الحقيقية طهران، وهي التي تحكم البلدين فعليا. وبالتالي، فإن نظام الأسد الابن كان المستفيد الأكبر من قرار باراك أوباما الانفتاح على طهران والتحالف معها إقليميا، ومن جعل أوباما الإسلام السني الجهادي و«التكفيري» غريمه الأول في المنطقة. والمفارقة هنا أن الإسلام السياسي السنّي المتشدّد ما كان في يوم من الأيام عائقا في سبيل المصالح الأميركية في المنطقة، بل العكس هو الصحيح طيلة حقبة «الحرب الباردة» مع الاتحاد السوفياتي.
- الخامسة هي أن واشنطن تعرف الكثير عن دور دمشق الأسد وطهران الخمينية في تهريب «الجهاديين» إلى داخل العراق لمناوشة القوات الأميركية هناك بعد غزو 2003، وذلك بهدف التعجيل بمغادرتها الأراضي العراقية، وهذا بالضبط ما حصل. وبعدما انتهى دور هؤلاء استخدمتهم طهران ودمشق «فزاعة» لأميركا والغرب، وها هم اليوم عبر «داعش» وبقايا «القاعدة» الوسيلة المثلى لكسب الدعم الغربي، ودخول العاصمتين «الممانعتين» تحت المظلة الأميركية الإقليمية في «الحرب على الإرهاب التكفيري».
كل هذه الحقائق تشكل الخلفية اللازمة لفهم «خطة ستافان دي ميستورا» القائمة على مبدأ «تجميد» المواجهات العسكرية في النقاط السورية الساخنة لتسهيل العملية التفاوضية. «التجميد» الذي تنطوي عليه الخطة هو في الواقع ترجمة على مستوى أعلى لنهج «المصالحات» الموضعية التي اعتمدها نظام الأسد مع المناطق والضواحي والأحياء التي كان يحاصرها بالتجويع بعدما تستعصي عليه ميدانيا. ثم إن فكرة «التجميد» من بنات أفكار إعلامي أميركي – إيراني مقرّب جدا من «حزب الله» وبشار الأسد شخصيا، وهو الموكّل بملف سوريا في منظمة «التحاور الإنساني» الدولية التي تتلقى الدعم من بعض الحكومات الأوروبية المهتمة بالتحاور والتفاوض والسلام وعلى رأسها سويسرا والنرويج.
ومن الواضح اليوم أن النظام بعدما نجح، بفضل الدعمين الروسي والإيراني، في تحويل الصراع في سوريا من ثورة شعبية سلمية إلى حرب أهلية وتشريد ومعاناة إنسانية، حرّك أدواته وعملاءه ووكلاء علاقاته العامة في أميركا وأوروبا لطرح الأمر برمّته من زاويتين «إنسانيتين» هما: وقف المعاناة الإنسانية، ومكافحة التطرّف «التكفيري» الذي يهدّد الأقليات.. وفي هذا الاتجاه عُقد مؤتمر «الدفاع عن مسيحيي الشرق» في واشنطن أخيرا برعاية وتمويل من رجال أعمال وناشطين مسيحيين من أصحاب المصالح والصلات مع الأسد وطهران.
المطلعون على خلفيات مهمة دي ميستورا يشيرون أيضا إلى أسماء يصفون أصحابها بـ«مطبخ» مبادرته، بينهم أكاديميون أميركيون وأوروبيون وإسرائيليون، ورجال أعمال وعملاء نظام سوريون، وخبراء أميركيون ولبنانيون في تكتيكات التفاوض. ومن الدراسات المهمة التي شكلت أرضية مفيدة لهذه المبادرة وغيرها التقرير الذي أعده مركز بلفر للعلوم والعلاقات الدولية في معهد جون إف كيندي للدراسات الحكومية بجامعة هارفارد، بالتعاون مع جامعة ترينيتي - تكساس والمعهد النرويجي للعلاقات الدولية في نوفمبر (تشرين الثاني) 2013، تحت عنوان «العقبات التي تعترض حل الأزمة السورية». أما القاسم المشترك بين معدّي التقرير - منهم البروفسور الأميركي ديفيد ليش القريب جدا من بشار الأسد، والبروفسور الإسرائيلي إيال زيسر الذي يتهمه البعض بـ«الصديق الفخري» للرئيس السوري في إسرائيل - فهو تعاطفهم مع النظام وتشكيكهم في قدرة المعارضة ونيّاتها، وبالذات التيار الإسلامي فيها، وتحذيرهم من المبالغة في «تبسيط» هذه الأزمة «المعقّدة».
هذه هي خلفية خطة دي ميستورا..
ولكن لا بد من القول، في الختام، إن مثل هذه المبادرات ما كانت لتبصر النور لو كانت هناك قيادات عالمية تحترم حريات الشعوب، وكانت هناك مقاربات مبدئية عاجلة وناجعة للنزاع السوري بدلا من تحويل سوريا إلى «مصيدة».. والشعب إلى السوري إلى «طُعم» لاصطياد «داعشيي» العالم!
لا يستحق حوار المجرم بشار الأسد مع مجلة باري ماتش، والذي نشرته في الرابع من ديسمبر/كانون الأول الجاري، الاهتمام والتعليق، فهو مشبع بالكذب والادعاء. لكن، لأن الحديث اهتمت بنشره مجلة فرنسية واسعة الانتشار، ولأن سياق الحدث السوري يمر بمرحلتي "داعش" والتحالف الدولي، رأيت واجب التعليق والرد.
لن أستخدم وصفاً آخر للأسد غير المجرم، فوحده المناسب، فقد ارتكب المذكور ما يطلق عليها القانون الدولي جرائم ضد الإنسانية. فكان يجب سوقه، أو على الأقل، المطالبة بسوقه إلى محكمة الجنايات الدولية، بدلاً من إجراء "باري ماتش" مقابلة صحافية معه، وبدلاً من السكوت السافر عن جرائمه الموصوفة. لكن، وللأسف، سياسة الدول والإعلام شيء، والقانون الدولي وشرعة حقوق الإنسان شيء آخر. والواضح لكل ذي بصيرة أن الفارق بينهما على أشده فيما يتعلق بالمأساة السورية المستمرة.
أما عن المقابلة، واحتراماً لحق القارئ الفرنسي في الاطلاع على الأقل، نقول إن المجرم الأسد يكذب، منذ الجملة الأولى في جوابه الأول، وهذا دأبه. وكان الأحرى بنائب رئيس تحرير مجلة باري ماتش، الذي أجرى المقابلة، أن يواجه ذلك بالحقائق التي تقول: على العكس تماماً. منذ الأيام الأولى، كان الشهداء من المدنيين فقط، ففي درعا سقط الطالب أكرم الجوابرة أول شهداء الثورة برصاص الأمن، يوم الجمعة 18 مارس/آذار 2011، ولحقه حسام عبد الوالي عياش وأيهم الحريري، وشاب آخر، ولم يُجرح واحد من السلطة. ومنذ الأيام الأولى، واجهت السلطة المظاهرات السلمية بالعنف، في درعا وحمص وبانياس، ولم يكن هناك أي سلاح لدى المتظاهرين، بل لم تكن الشعارات ضد النظام، ولا ضد الرئيس حتى، بل كانت كل مطالبها تتركز في درعا على إطلاق سراح الأطفال، ومحاسبة من عذّبهم، وتطورت إلى المطالبة بإقالة المحافظ. كذلك في حمص، إذ خرجت المظاهرة الثانية يوم الجمعة 25/ 3/2011، تنادي بإلغاء الأحكام العرفية، وإقالة المحافظ الفاسد والإفراج عن طلّ الملوحي، الصبيّة العشرينية التي صارت رمزاً للاعتقال التعسفي، ولم يفرج عنها حتى اليوم، على الرغم من نيلها تخفيض ربع المدة التقليدي قبل حوالى العام. أما المستشارة الرئاسية، بثينة شعبان، ففي مؤتمر صحافي شهير مساء 24 /3/2011، اتهمت جمهور المتظاهرين بالفتنة والإرهاب مباشرة، وقالت إن "الرئيس" أمر بعدم إطلاق النار على المتظاهرين، حتى لو أطلقوا وبادروا هم أنفسهم بإطلاق النار. وكان هذا منتهى الكذب والخداع. وحيث لم يكن مسموحاً باطلاع صحافة مستقلة أو مراقبين أجانب على ذلك كله، وفق الوضع السوري المعروف، فقد أطلق رصاص الشرطة والأمن والشبيحة على المتظاهرين السلميين، بعد أقل من 18 ساعة من ذلك التصريح.
" للأسف، سياسة الدول والإعلام شيء، والقانون الدولي وشرعة حقوق الإنسان شيء آخر "
وشهدت ذلك بنفسي ذلك اليوم، في حمص، وأعلنته على عدة فضائيات. صحيح أنه لم يمت أحد بالرصاص يومها، بل جرح كثيرون، ومات مجند شاب كان حارساً على باب نادي الضباط، لكنه مات بالحجارة التي لجأ إليها المتظاهرون رداً، وهم هاربون من رصاص الأمن، فاقتحموا النادي المذكور، الذي كان رمزا لكل قباحات النظام، وتسلق اثنان منهم البناء، ومزقا لوحة الأسد الأب، فرفسها أحدهما بقدمه، في منظر صار من أوائل أيقونات الثورة السلمية السورية.
أما الحديث عن دعم قطر وتركيا الإرهابيين، فالجميع يعلم أن البلدين تأخرا في تأييد الثورة السورية، بعدما كانا أبرز أصدقاء النظام وشركائه، ولم يكفّ البلدان، عبر وزيري خارجيتهما، عن زيارة دمشق ونصح المجرم ومطالبته بالإصلاح واستيعاب مطالب شعبه، وبدون فائدة طوال الشهرين الأولين من أحداث الثورة.
لكن، يستغبي المجرم القراء وذاكرتهم، ويمضي في حديثه عن أخطاء الممارسة بطبيعة الأمور، وكأن قتل آلاف المدنيين، وتشريد ملايين السوريين لاجئين، ومحو أجزاء كبيرة من حمص ودرعا وحلب وغيرها، وتدمير سورية وإعادتها قروناً إلى الوراء، مجرد أخطاء طبيعية ومتوقعة في الممارسة، تماثل أخطاء متمرن جديد في لعبة كرة القدم، أو رحلة كشافة.
في جوابه الثاني، يناقض خطاباته الأولى التي اعترف فيها بنفسه بسلمية الثورة، خلال أشهرها الستة الأولى، ويمضي منسجماً مع الرواية التي استكملها ونجح، مع الأسف، في إخراجها وتنفيذها واقعياً في سياق دولي ملائم. وهي رواية تتلخص في أن كل ما حدث من مظاهرات محض إرهاب. لذا، كان لا بد من مواجهته بالسلاح. وذلك، بالضبط، ما يلاقي هوى الغرب الذي تجتاحه، اليوم، فوبيا الإرهاب. وفي ذلك يتابع، فيقول: لو لم ندافع عن الشعب، لما كنا قادرين على الصمود. بينما نعلم جميعاً أن إرهابيي حزب الله هم الذين استعادوا القصير من الثوار، وليس جيشه مدعي الصمود. علما أنهم استعادوا القصير بعد تدميرها، ومسحها بالطيران، كما أن تدخل قوات الباسيج الإيرانية، والدعم الروسي والإيراني لجيشه وخزانته لا يحتاج دليلاً جديداً.
وجرياً على عادته في الادعاء، إن لم نقل أكثر، يرفض أرقام الأمم المتحدة ومصادرها، وكأن لديه أفضل منها، لكنه لا يعلمنا عنها مع ذلك! فتفلت منه، ومن الذين لا شك أنهم أعدوا له الأجوبة، عبارة ستثير الرعب لدى مواليه، فضلا عن أنها تنسف ادعاءاته بتحقيق النصر. ويعترف، أو يدعي، فيها، بأن العدد الأكبر من الضحايا في سورية هم من مؤيديه، على الرغم من محاولته الظهور بمظهر الضحية. فلا شك أن أعداد القتلى هي أحد المؤشرات العسكرية للنصر أو الهزيمة، لكنها هنا، وبتأثير سلاح الطيران وصواريخ سكود والبراميل المتفجرة، والتي يملكها النظام، ولا تملكها المعارضة، كما يعلم العالم بأجمعه، وخصوصا من يمنع الأسلحة عن الجيش السوري الحر. وبتأثير ذلك كله، في التسبب بأعداد هائلة من القتلى المدنيين، ملأت صور مجازرهم الشاشات والصحف، لكي تبرهن انتصاره، لكن ليس على جثث شعبه فقط، بل على آثار سورية وعمرانها واقتصادها وبيئتها كذلك.
" نعلم جميعاً أن إرهابيي حزب الله هم الذين استعادوا القصير من الثوار، وليس جيشه مدعي الصمود "
أما الكذبة الكبرى، والأكثر ادعاء وفضائحية، فهو تكراره مصطلح الدولة، الغريب بكل المقاييس عن نظامه، على الرغم من لعبة تحديد المصطلحات التي يتفاصح بها دوماً، وطالما عبّرت عن إحساسه بالنقص تجاه الثقافة والمثقفين. وهو، بذلك، يتعامى عن خصائص نظامه الذي اشتهر بالفوز بنسبة تقارب الـ99% في كل أشكال ومستويات انتخاباته، كما اشتهر بالرئاسة الوراثية، واستدامة العائلة الحاكمة إلى الأبد. لكن، والحق يقال، كان صادقا للمرة الأولى بقوله "من المستحيل لدولة أن تقتل المدنيين". ولما كان معروفاً بصورة قاطعة، أنه قتل المدنيين، فإن نظامه لا يمثل دولة فعلاً، وبحسب أقواله تحديداً، إنما هو نظام عصابة عائلية، عنصرية ضد الآخرين من شعبها، كما كان نظام سلوبودان ميلوسيفتش، وكما كان نظام الأبارتايد، والمعلم الكبير للتمييز العنصري نظام هتلر!
وحين يعترف بأنه لا يستطيع الحديث عن نهاية الحرب، فيحاول الظهور بمظهر الواقعي، على العكس من كل إعلاناته السابقة عن قرب انتصاره، وقضائه على فلول الإرهابيين، وذلك لأنه فشل عملياً في الانتصار على الثوار، وامتد صراعه معهم حوالى أربع سنوات، ولا أفق يبدو لنهاية الكرّ والفرّ معهم، فقد لجأ للعبة عاطفية تثير السخرية، بحديثه عن كسب قلوب السوريين، وهو المعروف عنه، بكل بساطة: أنه حطّم قلوب كل السوريين، معارضين أو موالين، على السواء.
أما أطرف ما جاء في الحوار، فهو عن اشتراط الإجراءات الدستورية التي يأتي بواسطتها الرئيس، وكأن الانتخابات السورية مجهولة عالمياً، أو كأن تزويرها، ونسب النجاح فيها، لم تعد تثير ضحك الناس في العالم، بل قرفهم، ويأسهم من فشل الأنظمة والمجتمعات العربية أيضاً.
" لجأ الأسد للعبة عاطفية تثير السخرية، بحديثه عن كسب قلوب السوريين، وهو المعروف عنه، بكل بساطة: أنه حطّم قلوب كل السوريين، معارضين أو موالين، على السواء "
وحين يستحق القسم الثاني من الحوار بعض الاهتمام، نظراً لجدة الموضوع المتعلق بداعش والتحالف الدولي، فيسأله مندوب "باري ماتش": "قام سلاحكم الجوي بألفي طلعة على الأقل خلال 40 يوماً، وهذا عدد ضخم. عندما تتقاطع طائراتكم مع طائراتهم، مثلاً، وهي في طريقها إلى قصف الرقة، هل هناك تنسيق بينكم أو اتفاق عدم اعتداء؟" هنا، يكاد المجرم يشير إلى تنسيق غير مباشر بين قواته وضربات طيرانه وبين قوات التحالف الدولي. لكنه لا يكشف أن تلك الضربات لم تصب أحداً من داعش، على الإطلاق، في غاراتها تلك، بين يومي الثلاثاء والخميس الأسودين 25/ 26 نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، بل أصابت كثيرين من أهل الرقة، وأرسلت 305 منهم مباشرة إلى الجنّة.
وبالطبع لن يحب أن نذكّر بإفراجه المدروس، أوائل الثورة، وفي أوائل الثورة السلمية، عن حوالى 700 سجين إسلامي متشدد، من سجن صيدنايا الشهير، وعلى رأسهم الأربعة، الذين قادوا أكبر القوى الإسلامية التي ستستولي على قيادة الثورة السلمية السورية، وتتابع عسكرتها لاحقاً، وصولاً إلى تحول معظم مقاتليها إلى صفوف داعش. (بموجب أول مراسيم العفو 31/05/2011، أفرج عن زهران علوش، قائد لواء الإسلام لاحقا، ثم جيش الإسلام. وحسان عبود، أبو عبد الله الحموي قائد أحرار الشام، الذي قتل بصورة غامضة، مع حوالى 50 من قادته في اجتماع سري، في أوائل سبتمبر/أيلول 2014. وعيسى الشيخ قائد لواء صقور الشام، وأبومحمد الجولاني أمير جبهة النصرة).
وإذ لا تستحق تفاصيل عديدة، في الحوار، الوقوف عندها، نظراً لارتفاع نسبة الكذب والادعاء وتضخم تأثيرات انفصامه عن الواقع، مثل حديثه عن قبطان السفينة الذي لا يفكر بحياته، بل بإنقاذ السفينة، فإن كل ما هو مكشوف ومفضوح من مسؤوليته عن إغراقها وإغراق مواطنيها في مآس غير مسبوقة في تاريخ الشعوب، يؤكد أن إنقاذ سفينة سورية في أي حل عسكري أو سياسي قادم لا يمكن أن يتم بدون إبعاد مريض ومجرم مثل بشار الأسد.
تتصادم في منطقتنا ثلاث قوى أساسية، موجودة تاريخياً، وهي من صلب المنطقة، ورابعة دخيلة. ولكل منها مشروعها، وبسبب غياب قوة مهيمنة من جهة، وغياب تفاهم ينظم العلاقة بينها، ينشأ الصدام بدلاً من التنافس.
إيران: القوة الخشنة"، هي قوة من صلب المنطقة، لها أمجاد تاريخية ما زالت تعشعش في عقول قادتها وقلوب شعبها الفارسي، وتحلم ببعث فارسي. ولديها كتلة سكانية كبيرة، تقارب الـ 75 مليوناً، وقدرة علمية وتكنولوجية تفوق جيرانها، وقدرة على صناعة قنبلة نووية، وتحتل موقعاً حاكما في أهم منطقة لإنتاج النفط في العالم، وهي تقيم حكماً شمولياً استبدادياً معادياً للديمقراطية وحق الشعب في قول كلمتة بحرية، ويعيق تداول السلطة، ويمنع أي تغيير في طبيعة النظام والفئة الأوليغارشية الثيوقراطية الحاكمة.
لأنها تحولت إلى المذهب الشيعي منذ أربعة قرون، في صراعها مع الدولة العثمانية، وقامت بها ثورة، اتخذت لبوساً دينياً في ربيع سنة 1979، وأقامت سلطة استبدادية أوليغارشية، فقد اتخذت الإسلام الشيعي هوية، وتسعى إلى تهييج الشعور الديني الشيعي، وتضخيم ما يسمى المظلومية التاريخية للشيعة، وتعيد إحياء خلاف مر عليه أربعة عشر قرناً، وتعكسه في ممارسات اللطم الغريبة عن روح العصر، كأداة لإيجاد عصبية تعزيز نفوذها في منطقةٍ، تدين غالبيتها بالمذهب السني. يستلزم هذا التحول صداماً كبيراً لكي تستطيع إيران أن تزيد نفوذها وتتمدد عبر تصدير الثورة وتوسيع التشيع الذي يغدو أشبه بحصان طروادة. لذلك، هي تدخل المنطقة في صراعات لا تنتهي. وسيكون توسيع نفوذها على حساب العرب الضعفاء.
برزت نتائج سياستها في العراق، فأدت إلى خرابه عبر حربين وحصار واحتلال أميركي، وحكم مستبد مذهبي. وفي اليمن، أنتجت الحوثيين ببرنامجهم لاحتلال اليمن الذي سيؤدي، اليوم، إلى دماره. وفي غزة، تدعم حماس على نحو يعيق أية مصالحة فلسطينية. وفي لبنان، حولت الطائفة الشيعية من جماعة منفتحة على العصر، وحاوية للفكر الوطني والقومي واليساري، إلى جماعة تخضع لحزب الله الذي يجاهر بولائه لإيران، وليس للبنان، وأصبح قوة تزعزع استقرار لبنان. وفي البحرين، تسعى إلى الاستيلاء على السلطة، وتعمل على إثارة الشيعة في شرق السعودية. وفي سورية، تسهم بقوة في إعاقة الوصول إلى حل سياسي للكارثة السورية.
تركيا: القوة الناعمة، قوة أساسية من صلب المنطقة، وإن كانت أحدث من الفرس، لكن تركيا التي تدين بالمذهب السني، ولديها حكومة إسلامية، وتشعر أنها تعمل في محيط صديق، لسببين، فهي كانت، حتى الأمس القريب، تسيطر على فضاء عثماني واسع، يشمل الجزء الأكبر من بلدان العرب، وجزءاً من شرق أوروبا، ثم لها امتداد إثني في وسط آسيا. هذا يشجعها لأن تكون قوة إقليمية كبرى، وهي دولة تعد 75 مليون نسمة، وقد أطلق على نهجها تجاه المنطقة "العثمانية الجديدة"، وتقع على منطقة مهمة ومضائق استراتيجية، وتربط بين أوروبا والعرب، وأوروبا ودول وسط آسيا، وهي عضو في حلف الناتو، ولها علاقات وثيقة بأوروبا، ولديها قوة علمية وقدرة تكنولوجية متقدمة، تستطيع أن تصنع قنبلة ذرية، لكنها لا تفعل، وهذا أحد أمثلة التضاد بين نهجها ونهج إيران.
ويشجع نجاحها الاقتصادي على أن تكون قوة إقليمية أولى، وهي تستعمل ما تسمى القوة الناعمة، أي العلاقات التجارية والاقتصادية والعلاقات الدبلوماسية والنشاط الثقافي (موجة المسلسلات التركية مثلا). وقد وسعت علاقاتها التجارية مع بلدان المنطقة، لترتفع تبادلاتها التجارية معها من نحو 10% إلى نحو 35%. وهي تقدم نموذجاً إسلامياً معتدلاً، يتعايش مع قيم العصر ومقبولاً عالمياً. ولا تطرح نهجها الإسلامي بقوة. وقد حققت نجاحاتٍ في العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، وكانت تحلم طوال 2011 بأن يكون الربيع العربي موجة من الثورات التي تحول بلدانه إلى نماذج من أنظمة حكم إسلامية قريبة منها، وقدمت نموذجها الاسلامي التركي موديلاً يحتذى. ولكن نجاحاتها بدأت تتراجع، ولم يسمح لها أن تمد نفوذها إلى أواسط آسيا، حيث سيطر الأميركان. وتقف بوجه حكومتها الإسلامية قوى داخلية علمانية قوية، تجبرها على نهج سياسي ديمقراطي، يعززه طموح بالانضمام إلى أوروبا، ما يخلق التوازن في سياساتها.
إسرائيل: القوة الدخيلة، قوة دخيلة على المنطقة، هي تحقيق لحلم بعض المجانين، وقد لقي هوى في نفوس قادة بريطانيا أولاً، وأوروبا ثانياً، وتعتمد في بقائها على الدعم الغربي، والأميركي خصوصاً. وإسرائيل واليهود عموماً بارعون في ابتزاز هذا الدعم. وهي القوة العلمية والتكنولوجية والصناعية الأولى في المنطقة، ولديها نحو 200 قنبلة ذرية، على الرغم من صغر حجمها. ولكن، ولأنها دخيلة لم تستطع أن تحقق اختراقاً في المنطقة، ولا أن تكون مقبولة، ولا يعتقد أنها ستنجح في ذلك، فتعصب قادتها وتحول مجتمعها نحو اليمين، ونمو قوى التطرف الديني، يحولانها إلى مجتمع عسكري، وتصبح أشبه بثكنة عسكرية، تحتاج دائماً لمن تحاربه كي تبقى. فهي مجتمع صغير يخشى السلام، ويخشى الاستقرار، ويخشى الانفتاح، ما يهدد وجودها بالذوبان في محيط واسع من العرب. لكنها، بتقدمها العلمي والتقني والإداري والاقتصادي، تتفوق على جميع العرب مجتمعين. وهذا ما يتسق مع طبيعة العصر، فالقوة اليوم للعلم والمعرفة، وهي لا تسمح للمجانين المتعصبين وغيبياتهم أن يقتربوا من عقلها وعقلانيتها، لكيلا يؤثروا على قدرتها العلمية والتكنولوجية والإنتاجية، بل تحول هذا التعصب إلى خدمة مصالحها، كثكنة عسكرية في محيط معاد، كان وسيبقى.
" القوة اليوم للعلم والمعرفة، وإسرائيل لا تسمح للمجانين المتعصبين وغيبياتهم أن يقتربوا من عقلها وعقلانيتها "
العرب: القوة الفاشلة، هم قوة أساسية كبيرة في المنطقة، لها ماض مجيد تحلم باستعادته، وتملك، اليوم، قوة بشرية لا تضاهى في المنطقة، وقوة اقتصادية كبيرة وموقعاً استراتيجياً، ولديها جامعة عربية، ومنظمات عربية مشتركة كثيرة، لكنها جميعها بفاعلية ضعيفة. وقد فشل القوميون في بعث الأمة العربية من رمادها، فبقي العرب شراذم مشتتة متفرقة، تفتقد المشروع والقيادة. لذا، تستبيحها القوى الثلاث الأخرى، فهم، اليوم، أشبه بـ"تركة الرجل المحتضر"، كما أطلق على الامبراطورية العثمانية، مطلع القرن العشرين.
كل قوة تسعى إلى تعزيز نفوذها وتوسيعه، وإن اختلفت المناهج. وعلى الرغم من أن العرب كانوا سباقين في مشاريعهم النهضوية، غير أنهم لم يكونوا حازمين، وتتغلب نزعتهم الماضوية على نزعتهم الحداثية، ومشروع النهوض القومي الذي مثله جمال عبد الناصر لم يؤسس لمشروع ثابت، لاعتماده على شخص عبد الناصر فقط، بدلاً من تحويله إلى تيار، واليوم ثمة من يريد إعادتنا 14 قرناً إلى الوراء.
الربيع العربي بشر، في بداياته، بنهضة وعي شعبي ذاتي، كان يتوقع له أن يطلق، في حال انتصاره، القوة العربية الكامنة، لكنه تحول إلى خريف، بات يهدد ما لدى دوله من إمكانات، على الرغم من الاعتقاد بأنه سيؤدي، مستقبلاً، إلى أوضاع تطلق قدرات الشعوب والبلدان العربية، وتدمجها في مشروع نهضوي واحد، ليكون المشروع العربي القوة الأولى في المنطقة، فإن الوصول إلى ذاك اليوم لا يبدو على الأبواب. ولن يكون العرب قوة تحسب حسابها إلا إذا امتلكوا مشروعهم، واتخذوا من العقل والعقلانية نبراساً يهديهم سواء الطريق.
مهما يكن من أمر الغارات التي شنها سلاح الجو الإسرائيلي، ضد أهداف داخل الأراضي السورية، فإن التقديرات في إسرائيل تفيد أن سورية وحزب الله غير معنيين، على الأقل حاليّاً، في ظل ما يجري من حرب أهلية، بتفرعاتها وتداعياتها الإقليمية والدولية في سورية، بالتصعيد مع الإسرائيليين، ما ينطبق، أيضاً، على إسرائيل نفسها. في وقت ما زالت الأخيرة تعمل على تفادي ردود فعل غير متوقعة من حزب الله، ردّاً على غارات الطيران الإسرائيلي بين حين وآخر داخل الأراضي السورية، والقليل منها داخل الأراضي اللبنانية.
ومهما تكن "سياسة النعامة" التي تحاول إسرائيل اتباعها، إزاء استهدافها من الجو مجموعة أهداف حيوية، من قبيل السلاح الكيماوي السوري، أو الأسلحة الإيرانية والروسية التي يجري شحنها إلى حزب الله داخل الأراضي اللبنانية، فإن عدم التأكيد الرسمي الإسرائيلي المسؤولية عن الغارات لا ينفي، بالطبع، تلك المسؤولية المباشرة عن الفعل، وعن السياسة التي تحاول الاختباء وراء غلالة شفافة من الغموض.
وليست هذه السياسة بنت ساعتها، فقد اعتادت الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة، على الفعل، وترك الداخل، لا سيما الإعلامي منه، ينشغل، وإن بارتباك، بقراءة توقعات وتقديرات، معروفة ومكشوفة للمستويين السياسي والعسكري، وليست خافية، أيضاً، على صعيد الخارج. على الرغم من ذلك، ومن الصمت الرسمي حيال الغارات الأخيرة، كان رئيس الحكومة، بنيامين نتنياهو، قد ألمح إلى مسؤولية سلاح الجو الإسرائيلي عن شن الغارات، حين قال في جلسة للحكومة، الأسبوع الماضي: "سنعالج كل التهديدات، بالمسؤولية نفسها التي عالجناها بها لغاية الآن. نحن نتابع ما يحدث في الشرق الأوسط باهتمام كبير، نصغي السمع، ونتابع بعيون مفتوحة ما يحدث. أمور كثيرة تحدث، وسنبقى طوال الوقت على أهبة الاستعداد، وسنعالج هذه التهديدات والتحديات التي لا تتوقف".
إلا أن تصريح وزير الأمن، موشيه يعالون، كان أوضح ما صدر عن القيادة العسكرية الإسرائيلية، حين قال إن "على من يحاول تسليح أعدائنا أن يعرف أننا سنصل إلى أي مكان، وفي أي وقت، وبكل طريقة من أجل إحباط مخططاته. ولن نساوم في ذلك، ولن نسمح بتجاوز خطوط حمراء، تشكل خطراً على أمن إسرائيل. ولن نساوم على أمن مواطني إسرائيل".
أما لجهة الحظر الذي تفرضه الرقابة العسكرية الإسرائيلية على موضوع الغارات، فقد ظهر في كلام معلق الشؤون العسكرية في القناة الثانية، روني دانييل، الذي ألمح، أيضاً، إلى إمكان رد حزب الله على الغارة. وقال "من الممكن جدّاً أن يكون سلاح الجو قد عمل في سورية، لكننا ممنوعون من أن نصرح عن أمور دقيقة. ولكن، من غير الصحيح الافتراض أن مثل هذا الهجوم، ولفترة طويلة، لن يرد عليه بإطلاق نار من حزب الله". لهذا، ما كان من صحيفة هآرتس إلا أن لفتت الانتباه، مرة أخرى، إلى أن الغارات الجوية على الأراضي السورية هي استمرار لسياسة إسرائيل الأمنية، فيما يتعلق بالأزمة السورية، وإن "رد حزب الله يصعب التنبؤ به، لكن الحزب يظهر ثقة كبيرة بالنفس عند استفزازه إسرائيل"، ولاحظت أن الضربات تزامنت مع إعلان نتنياهو أنه سيذهب إلى الانتخابات، وتثير هذه المصادفة مزيداً من التساؤلات عن الدوافع السياسية للضربات الجوية.
ولئن لم تؤكد، أو تنفي، إسرائيل مسؤوليتها، فإن الغارات، في حد ذاتها، مؤشر على وجود خط أحمر، ينبغي أن تقف عنده عملية تسليح حزب الله من أسلحة في الأراضي السورية، وعدم نقلها إلى الأراضي اللبنانية، وإلا فإن التعرض للأسلحة في مخازنها استعداداً لنقلها، أو القيام بعمليات استباقية ضد قوافل تتحرك، استعداداً لعبور الحدود، سيكون الدافع والمحفز الرئيس للقيام بغارات، كلما استدعت الحاجة، ولن يكون هناك ما يردع إسرائيل عن القيام بعمليات كهذه، والذريعة دائماً وجود تهديدات أمنية.
وبحسب المراسل العسكري للقناة العاشرة الإسرائيلية، أور هيلر، فإنه "منذ اندلاع الحرب الأهلية في سورية، وضعت إسرائيل خطوطاً حمراء تقضي بمنع نقل أسلحة استراتيجية ونوعية من سورية إلى حزب الله، مثل صواريخ "سكود ب"، وسلاح حديث مضاد للطائرات مثل "إس 300" أو صواريخ بر بحر متطورة من طراز "ياخونت".
" هذه هي المرة الأولى التي تعمل فيها إسرائيل في سورية، منذ إعلان نتنياهو نيته الذهاب إلى الانتخابات "
ورجحت القناة الإسرائيلية الثانية أن يكون الهجوم محاولة لإحباط تهريب شحنة صواريخ متطورة من سورية إلى حزب الله عبر جبال القلمون. وقال معلق الشؤون العربية، إيهود يعري، "إن الغارة الثانية استهدفت منطقة تقع على الطريق الرئيسي القديم من دمشق إلى بيروت. ومن هذا، يبدو أننا، هذه المرة، نتحدث عن محاولة تهريب شحنة صواريخ متطورة من سورية إلى حزب الله، عبر جبال القلمون، وهو أمر عملت إسرائيل من قبل على إحباطه". ولقد لاحظ عاموس هارئيل في "هآرتس" أن ما جرى، أخيراً، جاء بعد أن بذل حزب الله جهوداً لتحديد قوانين لعب جديدة أمام إسرائيل في الساحة الشمالية، وهو يتم بعد أن قام المجتمع الدولي بتغيير أولوياته، فيما يتعلق بالحرب في سورية (في البداية إسقاط الأسد وبعد ذلك هزيمة أعدائه، وهم حاليّاً داعش)، وهذه هي المرة الأولى التي تعمل فيها إسرائيل في سورية، منذ إعلان نتنياهو نيته الذهاب إلى الانتخابات.
وبحسب وسائل الإعلام الأجنبية، قصفت إسرائيل من الجو بين خمس إلى عشر مرات في عامين. وردت سورية وحزب الله بالتهديد والتحذير، لكنهما لم يفعلا بشكل مباشر. وقد تغير ميزان الردع في فبراير/شباط. وحسب تلك التقارير، حاولت إسرائيل إصابة قافلة سلاح قرب الحدود السورية اللبنانية، لكنها فعلت ذلك، أول مرة، في الأراضي اللبنانية، وليس في سورية. وبعد الهجوم، وضع حزب الله ثمناً خاصاً به: أي عمل إسرائيلي في الأراضي اللبنانية سيأتي بعده الرد. ووقف حزب الله وراء مجموعة عمليات من العبوات وإطلاق الصواريخ في هار دوف وهضبة الجولان، ووصفت بأنها انتقام للقصف في جنتا، وعلى حادثين قتل فيهما ناشطون لحزب الله.
إلى هنا، من الواضح أن حدود القوة الإسرائيلية، وحدود التهديدات التي يطلقها النظام السوري، كما أن حدود رد حزب الله، باتت واضحة، بل أكثر من واضحة، وهي حدود لا تذهب بعيداً، إذا ما كان الأمر يتعلق بقصف أهداف داخل الأراضي السورية. وفي حال تعلق الأمر بقصف طائرات إسرائيلية أهدافاً داخل الأراضي اللبنانية، فإن الأمر قد يختلف؛ لكنه، في كل الأحوال، لن يتجاوز ردود فعله التي باتت محدودة ومحصورة بما يعكسه دوره ومفاعيله وتداعياته داخل الأراضي السورية، من انشغالاتٍ أضحت تمتد وتطاول دوره المقيد داخل الأراضي اللبنانية، في ظل تحدياتٍ بات يثيرها انتقال الصراع السوري إلى الداخل اللبناني، المنهك بالأزمات الداخلية، وما تثيره الأزمات الإقليمية، خصوصاً السورية، من تأثيرات مباشرة وغير مباشرة؛ حزب الله أول من يتأثر بها، الأمر الذي حدّ، ويحدّ، من فاعليته وقدرته على التعاطي بحيوية مع الوضع العسكري ضد المستوطنات والقطعات العسكرية الإسرائيلية في الشمال الفلسطيني، انطلاقاً من الجنوب اللبناني. وذلك على الرغم من ردود متناثرة هنا أو هناك، لم تعد تبلغ "سوية الردع" الذي كان يتمتع به الحزب قبل نشوب الأزمة السورية.
بحسب صحيفة السفير المقربة من حزب الله، فإن بشار الأسد سيزور موسكو خلال الأسابيع المقبلة من أجل دراسة مبادرة من نقاط عدة وضعتها طهران وموسكو لحل الأزمة السورية.
وبحسب مصادر "السفير" -وهي بالضرورة إيرانية أو من تلك التابعة لإيران وتحظى بالثقة، لأن إيران هي من تحكم دمشق عمليا وليس بشار الأسد- فإن المبادرة تتضمن "الإعلان عن أن الأسد مستعد للتنازل عن بعض صلاحياته، والموافقة على الحوار في موسكو أولا ثم في دمشق".
لم يخلُ الخبر من تفاصيل، إذ قالت "السفير" إن "الأسماء المطروحة للحوار والمقبولة بالنسبة للنظام السوري للمشاركة في الحوار هي: معاذ الخطيب، وحسن عبد العظيم ومجموعته، إلى جانب قدري جميل (كان وزيرا في الحكومة السابقة)، و12 حزبا كرديا، بالإضافة إلى بعض القوى الإسلامية على الأرض، والتي لا علاقة لها بداعش"، ولا حتى جبهة النصرة.
"ما يجري يشكل اعترافا من قبل النظام باستحالة الحسم العسكري، دون أن يعني ذلك اعترافا من الأطراف التي تقاتله بذلك، أقله في المدى المتوسط، لأن تنظيم الدولة الإسلامية وجبهة النصرة وربما أحرار الشام وفصائل أخرى لا تقول ذلك"
وزادت أن المبادرة "تطرح تشكيل حكومة في أبريل/نيسان المقبل، يرأسها معاذ الخطيب، وتكون غالبيتها من المعارضة، منوط بها تعديل الدستور، والتحضير لانتخابات برلمانية جديدة، على أن يحتفظ الأسد بوزارة الدفاع، وهو ما تصر عليه روسيا"، فضلا عن احتفاظه "بثلاثة أجهزة أمنية، وهي الجوية والأمن العسكري وأمن الدولة، ولا مانع من وزير داخلية من المعارضة".
من جهة أخرى، ما زالت خطة المبعوث الدولي دي ميستورا مطروحة للتداول، وهي التي تنص على تجميد القتال في حلب، دون الحديث عن حل سياسي، مما يشير إلى إمكانية إيجاد شكل من التزامن بين مساعي البحث في الخطتين اللتين تصبان عمليا في صالح النظام ومسار إعادة تأهيله الذي يبدو أنه حظي بدفعة كبيرة من خلال التأييد المصري الضمني الذي لا يتجاوز ذلك كثيرا خشية إغضاب السعوديين.
من الواضح أن ما يجري يشكل اعترافا من قبل النظام (من إيران التي تقود القتال على الأرض بالضرورة) باستحالة الحسم العسكري، من دون أن يعني ذلك اعترافا من الأطراف التي تقاتله بذلك، أقله في المدى المتوسط، لأن تنظيم الدولة الإسلامية وجبهة النصرة وربما أحرار الشام وفصائل أخرى لا تقول ذلك، وإن بدا أن قناعة كهذه ربما شملت فعاليات ما يُعرف بالائتلاف الوطني السوري، أو أكثرها في أقل تقدير.
وحتى لو قلنا إن القناعة مشتركة، فإن الفارق كبير بين جماعات لم يعد لديها من خيار غير استمرار القتال، وليس لديها ما تخسره، وبين نظام منهك، ودولة تقف وراءه وينهكها النزيف الاقتصادي بدفعها لكلفة الحرب كاملة (أعني إيران)، فضلا عن الكلفة البشرية من مؤيديها، إن كانوا من الخارج، بمن فيهم حزب الله، أم من الداخل، من الكتلة العلوية.
والنتيجة أن النظام وداعميه هم الأكثر حاجة للحل السياسي من الثورة، بل حتى من الأطراف الداعمة لها عربيا وإقليميا (تركيا تحديدا). وحتى لو كانت الأخيرة في حاجة فعلية للحل، فإن عدم تحقيقه أفضل بكثير من حل بائس كالذي تبشر به إيران وروسيا. وعموما، فإن جميع أعداء إيران لا يرون أنها في وضع قوي، حتى بعد دخولها اليمن، بل يرونها في حالة استنزاف بشعة، خاصة بعد التدهور الأخير في أسعار النفط، وهم غير معنيين هنا بإيجاد تفاهم محدود معها في سوريا، وإذا كان ولا بد، فليكن تفاهما شاملا يتضمن جميع الملفات، وهو ما لا تبدو إيران (المحافظين تحديدا) مستعدة له بشكل معقول إلى الآن.
"الحل السياسي ليس مرفوضا من حيث المبدأ، لكن المطروح حاليا، ومهما أجري عليه من تعديلات، لن يلبي شروط الغالبية السورية بعد التضحيات والمعاناة الرهيبة، ولذلك سيبقى حبرا على ورق أو مجرد مساع سياسية لا تقدم ولا تؤخر"
في ضوء ذلك كله لا يبدو أن أيا من المبادرتين (خطة دي ميستورا والمبادرة الروسية) في وارد كسب النجاح، بخاصة الثانية التي تتحدث عن معارضين ليسوا معارضين من الناحية العملية، لأن من يملك الفعل المسلح هو صاحب الرأي الأول والأخير، وليس الآخر، بخاصة حين لا يأتي بحل يحظى برضا الغالبية من الناس.
حتى الأميركيين (وربما عموم الغربيين) الذين لا يريدون القضاء على بشار لأن نتنياهو لا يريد ذلك، ويفضل استمرار الصراع لاستنزاف جميع الأعداء.. حتى هؤلاء، سيكون من الصعب عليهم تمرير إخراج إيران من مأزقها، وهي لما تقبل بعد بالشروط الغربية لإنجاز اتفاق النووي، وهم يدركون أن استمرار نزيفها هو ما سيجعلها أكثر قابلية لتمرير الاتفاق، والشروط التالية من بعده على الصعيد السياسي، فضلا عن أن منح موسكو إنجازا في هذه المرحلة لا يبدو مناسبا في ظل استمرار الصراع معها على أوكرانيا وملفات دولية أخرى.
يبقى القول إن الحل السياسي ليس مرفوضا من حيث المبدأ، لكن المطروح حاليا، ومهما أجري عليه من تعديلات لن يلبي شروط الغالبية السورية بعد التضحيات والمعاناة الرهيبة، ولذلك سيبقى حبرا على ورق أو مجرد مساع سياسية لا تقدم ولا تؤخر، بينما يتواصل الاستنزاف على الأرض.
ولكن إلى متى؟ إلى الوقت الذي تقبل فيه إيران تجرع كأس السم والتفاهم مع تركيا والجوار العربي على حل شامل لكل الملفات المشتعلة، وقواسم مشتركة بعيدا عن روحية التغول والهيمنة واستثمار المذهب وأتباعه في كل مكان من أجل تحقيق مكاسب سياسية على صعيد القوة والنفوذ.
الانقلاب العسكري يفقد الشرعية، لاعتماده القوة في الاستيلاء على السلطة. الانقلاب يلغي السياسة، ويعتمد الفاشية الأمنية، وهو لا يستخدم العنف لإرهاب خصومه وأعدائه، وإنما أيضا لتصفية الخلاف بين قادته. والانقلاب على الانقلاب سهل، لأن قائد الانقلاب لا يملك شرعية النظام الديمقراطي، ولم يأتِ عبر سلطة شعبية منتخبة تدعم شرعيته.
أشرت في حديث الثلاثاء السابق إلى رواية صديقي الراحل نذير فنصة، مدير مكتب المشير حسني الزعيم، قائد أول انقلاب كلاسيكي في سوريا، كان اللواء سامي الحناوي، رئيس الأركان وقائد الانقلاب الثاني، يرقص لتسلية وطمأنة قائد الانقلاب الأول، ثم غدر به. جيء بحسني الزعيم ورئيس حكومته محسن البرازي بالبيجاما حافيين إلى ساحة الإعدام. شاهد فنصة المأساة. أطلق ثلاثة ضباط شباب (سني، علوي، درزي) الرصاص على الرجلين دون محاكمة.
كان استقلال سوريا ولبنان (1946) إنجليزيا! ماطل الرئيس ديغول بالانسحاب فهدده الإنجليز بالزحف إلى البلدين. وكان الانقلاب الأول «أميركيا»، وكان انقلاب سامي الحناوي «إنجليزيا» يستلهم العون من عراق غير مستقل! وكان الانقلاب الثالث «أميركيا» بقيادة أديب الشيشكلي. 3 انقلابات في سنة واحدة (1949)، ثم قتل القادة الـ3، قتل سامي الحناوي في بيروت برصاص شاب من أسرة البرازي، انتقاما لمقتل محسن البرازي، وقتل أديب الشيشكلي في منفاه بالأرجنتين، برصاص شاب درزي، انتقاما لاجتياح الشيشكلي جبل الدروز بالدبابات.
الديمقراطية نبتة رقيقة تفقد براءتها بمجرد الشبهة. كان الرئيس شكري القوتلي ديمقراطيا، ناضل بشجاعة من أجل الاستقلال، حكم (1943)، ولم يكن يملك الثقافة السياسية لمتابعة التحولات الاجتماعية والسياسية المتسارعة، ظل معتمدا على زعماء الأحياء القديمة كقاعدة شعبية له، بينما تشكلت أحزاب سياسية جديدة استقطبت الشباب والطلبة قاعدة سياسية لها.
داوى القوتلي نظامه بالتي كانت هي الداء، سمح لتجار طبقته البورجوازية والأرستقراطية الدمشقية باستثناءات تجارية واقتصادية، وبمس عذرية الانتخابات الرئاسية والتشريعية (1947)، فمهد الفساد للانقلابات الكلاسيكية.
حكم حسني الزعيم 137 يوما، وحكم أديب الشيشكلي 5 سنوات، فكان هو الذي أرسى الانقلاب قاعدة للحكم، وأجهزة المخابرات أدوات للهيمنة بالعنف والقوة. أخرج عبد الناصر ضباط السياسة من الجيش السوري، فقاد الانقلاب عليه ضباط الطبقة التجارية الوسطى الدمشقية (1961). عاد ضباط الآيديولوجيا البعثية والناصرية. وقلبوا انقلاب دمشق (1963). صفى البعثيون الناصريين، فدشن ضباط البعث الطائفي (العلوي) حكم الأب والابن منذ 44 سنة، فأنتجوا جيلا سوريا متأسلما يريد فرض دولة دينية، على مجتمع يضم 18 دينا، وطائفة، ومذهبا!
بعد الفشل في سوريا، وخيبة الأمل بالشيشكلي والزعيم، توجه ضباط المخابرات «العروبيون» إلى مصر، فأبدوا إعجابهم بجمال عبد الناصر وذكائه، وتعاطفوا مع مشروعه القومي، ورأوا فيه «بطلهم» الجاد لتوحيد العرب، وللتنسيق مع أميركا في مكافحة الشيوعية، ولتبديد سوء التفاهم مع رؤسائها، وإدارتها، وطبقتها السياسية.
أترك هنا المؤرخ والباحث هيو ويلفورد، ليروي تفاصيل علاقة عبد الناصر بالضباط «العروبيين»، وذلك من خلال الوثائق الرسمية الأميركية، وكتب ومؤلفات هؤلاء، لأطرح سؤالا ما زال يثير مواقف أنصار القومية العربية وخصومها من عبد الناصر ومشروعه القومي الوحدوي: هل كان الرجل عميلا للمخابرات الأميركية؟
السؤال مؤلم لإنسان عربي لم يعمل في السياسة، لكن ارتبطت حياته بأمل الوحدة، كخلاص للعرب من الانقسام، والضعف، والهزائم المريرة، وتسييس الدين الذي انتهى بالانتفاضات إلى هذا الاقتتال بأبشع صوره الدامية. نعم السؤال مؤلم لي كشاهد على عصر بدا فيه عبد الناصر مكرسا حياته ونظامه لخدمة مصر والمشروع القومي، وبالتالي ليس هناك من داع للتشكيك بالرجل.
لكن رواية ويلفورد المحايدة لتفاصيل العلاقة المخابراتية مع الناصرية، من خلال الوثائق الأميركية وحدها، لا تكفي للحسم، وهي تترك المجال واسعا للتشكيك، وللاتهام، وللنفي. والمؤسف أن ويلفورد لم يطلع على الوثائق البريطانية والفرنسية التي تتناول العلاقة الغربية بالناصرية، في مرحلة الأربعينات والخمسينات، مع غياب تام للوثائق العربية، لعدم الجرأة الرسمية على نشرها، وندرة المذكرات الصريحة للعسكر والساسة العرب.
من هنا، أحاول الإجابة عن السؤال من خلال مراجعة ودراسة التفاصيل الطويلة التي قدمها ويلفورد، فأقول إن عبد الناصر امتلك من الجرأة ما يكفي للظهور، على الأقل، أمام ضباط مجلس قيادة الثورة، مع هؤلاء «العروبيين»، وفي مقدمتهم كبيرهم كيرمت روزفلت، ومعاونه مايلز كوبلاند.. من دون أن يشعر بأي حرج، ولم يبدِ ضباطه أي اعتراض على هذه الصداقة، لإيمانهم العميق بإخلاص عبد الناصر لوطنه وأمته، ورأوها تتجاوب مع رغبتهم هم أنفسهم بإقامة علاقة مع أميركا، لعصرنة مصر، وتنمية اقتصادها، وتبديد سوء التفاهم مع إدارتها الناشئ عن دعاية الصهيونية اليهودية ضد مصر، والعرب، وناصر.
بل كان أعوان عبد الناصر، وفي مقدمتهم محمد حسنين هيكل، يشجعون ضباط المخابرات الأميركية على إرضائه والتجاوب مع «لذائذه» الرأسمالية المتواضعة. كحبه للثقافة الشعبية الأميركية، وبالذات الأفلام، وشطائر الـ«هوت دوغ». مع نصيحة كيم لصديقه المصري، بأن يبتسم قليلا أمام الصحافيين.
غير أن الصدام بين عبد الناصر وإدارة الرئيس آيزنهاور بالذات يسقط كل الشكوك بعلاقته بالمخابرات الأميركية: معارضته لحلف بغداد الإنجليزي (تركيا، العراق، إيران). إصرار عبد الناصر على تسليح مصر بالسلاح الروسي، بعد غارات شارون على الحاميات المصرية في غزة وسيناء، وتحليق الطيران الإسرائيلي في سماء القاهرة، ثم إسقاط ناصر لمحمد نجيب الراغب في التعاون مع «الإخوان المسلمين» الذين غدوا في عصر الرئيس أوباما أعزاء على قلب أميركا.
تتابعت الاستفزازات المتبادلة: سحبُ البنك الدولي العرض الجزئي لتمويل السد العالي (200 مليون دولار). تأميمُ عبد الناصر للشركة الأنغلو - فرنسية التي تدير قناة السويس. رفضُ عبد الناصر مواصلة المحادثات السرية غير المباشرة مع إسرائيل بعد كشفه عملاء الموساد من يهود مصر الذين خربوا بعض المصالح الغربية.
كل ذلك يبرئ عبد الناصر من علاقة الصداقة المرتبكة مع ضباط المخابرات الأميركية، لكن هل كان حقا هؤلاء الضباط صادقين في النيات تجاه مصر، وعبد الناصر، ومشروعه القومي الوحدوي؟ شخصيا أميل إلى الأخذ بحكاية التعاطف، مشيرا إلى نجاح كيم روزفلت، في وساطته السرية، لعقد معاهدة إنهاء الاحتلال البريطاني لمصر (1954). ثم بجهده المتفاني في مكافحة الصهيونية الأميركية، وإنشاء جمعيات خيرية، وثقافية، وسياسية، مولتها المخابرات الأميركية ضد اللوبي الإسرائيلي في واشنطن، وتقديمه مساعدة اقتصادية وتنموية لمصر، مع «رشوة» لعبد الناصر بـ3 ملايين دولار. أغضبت الرشوة عبد الناصر، فأمر بصرف المبلغ على بناء برج على ضفة النيل.
حكمت الحيرة والذبذة إدارة آيزنهاور/ جون فوستر دالس. الجنون فنون. جُنَّ رئيس حكومة بريطانيا العظمى أنطوني إيدن بعد تأميم قناة السويس، فدبر مؤامرة الحرب الثلاثية مع فرنسا، الجمهورية الرابعة، وإسرائيل. فشلت الحرب في إسقاط ناصر. جن آيزنهاور لإخفاء مؤامرة الحرب عن أميركا (سيدة القرن الـ20)، فأجبر الدول الـ3 على الانسحاب. جن جون فوستر دالس بعدما أصبح ناصر أحد زعماء العالم الثالث بعد حضوره مؤتمر عدم الانحياز في باندونغ الإندونيسية، واعترافه بالصين الشيوعية، فأمر بالقطيعة المخابراتية والسياسية مع مصر.
على أنغام موشح صباح فخري، لم تكن المخابرات الأميركية بعيدة عن «بعض الجنون»، فقد طوى الضباط «العروبيون» أحزان الصداقة مع عبد الناصر، وانصاعوا لأوامر الوزير جون فوستر دالس، بإدارة عمليات ضد شعبية ناصر ومشروعه القومي، بالتعاون مع المخابرات البريطانية في العراق، ولبنان، وسوريا، فسبقهم انقلاب قاسم/ عارف في العراق (1958). هنا تقول وثائق المؤرخ ويلفورد إن محاولة صدام حسين الفاشلة لاغتيال قاسم كانت بتدبير مخابراتي أميركي.
في لبنان، عانى كميل شمعون من مخاض علاقته البريطانية، فقامت ثورة ناصرية صغيرة على محاولته تمديد ولايته، فنزلت قوات أميركية لحمايته من «جنونه»، ومن يومها (1958)، دخل لبنان تحت المظلة الأميركية، إلى أن اقتلعها جنون المخابرات الإيرانية التي صفت عملاء المخابرات الغربية، بالتعاون مع المخابرات السورية في الثمانينات.
أما في سوريا، فقد تورط «العروبي» آرتشي (ابن عم كيم روزفلت) مع «تاجر» انقلابات يمينية، فسلفه نصف مليون ليرة سورية للتحضير لانقلاب يعيد أديب الشيشكلي رئيسا.
قبض السياسي الإقطاعي ميخائيل ليان المبلغ، واختفى من سوريا. زميل آرتشي، هوارد ستون، وقع ضحية ضابط دبابات سوري عميل لعبد الحميد السراج، مدير المخابرات العسكرية، فطرد وسط جلجلة دعائية ضد أميركا، في لحظة بدت دمشق مستعدة لاستقبال عبد الناصر رئيسا لجمهورية الوحدة المصرية/ السورية.
ماذا حدث لأميركا؟ أصيب آيزنهاور بنوبة قلبية، فأعلن هدنة مؤقتة في حرب أميركا مع عبد الناصر. استقال جون فوستر دالس احتجاجا على السرطان الذي فتك به بعد شهر من الاستقالة. استقال الضباط «العروبيون» من الـ«سي آي إيه» احتجاجا على أخطاء دالس العربية. عملوا سماسرة لدى الشركات النفطية والمتعددة الجنسية في العالم العربي، كسبوا مالا لكن ماتوا غما، بمن فيهم مايلز كوبلاند الذي حافظ على صداقته مع عبد الناصر. أما آرتشي روزفلت فقد تقبل سخرية حلاقه منه في «وول ستريت»، فقد سماه «مستر روكفلر».