مقالات مقالات رأي بحوث ودراسات كتاب الثورة
١٢ سبتمبر ٢٠١٥
افتحوا الأبواب.. ليتدفّق الملايين إلى أوروبا

كتب إبراهيم قرة غل: افتحوا الأبواب؛ وليملأ مئات الآلاف حدود أوروبا، لتبدأ مسيرة من أطراف البحر الأبيض المتوسط والأناضول إلى أوروبا.. ولتستمر هذه الموجة حتى مشارف الأطلسي.

لا توقفوهم في الأناضول، سهّلوا مرورهم، افتحوا طريقهم، زوّدوهم بلوازم هذه الرحلة من طعام وغيره.
من أفغانستان، من سوريا، من شرق أفريقيا، من منطقة البحر الأبيض المتوسط، من بلاد الرافدين... ليملأ الملايين عواصم ومدن أوروبا.

من آسيا، من أفريقيا.. ليملأ سيل البشر هذا كل أنحاء الأرض.

لن نحتل أوروبا!

لا تخافوا، لن نحتل أوروبا، فقط سنريهم أن في العالم بشرا آخرين.. وأن ليس الأوروبيون وحدهم يعيشون على هذه الأرض. وأنّ كون الإنسان أوروبيا لا يضمن له الأمن والأمان.. وإن الأسلحة والثروات لن تحمي أوروبا.. سنريهم هذا فقط.

لم نر اعتراضا منهم حين جاءوا إلى بلادنا وأراضينا بأسلحتهم. فما بالهم يعترضون اليوم حين نذهب لبلادهم غير مسلَّحين!

نحن لم نذهب إليهم مسلّحين، ولم نذهب بنيّة سيئة. لم نذهب لنقلب مدنهم رأسا على عقب!
ولم نذهب للفتنة. مثل هذه الأفعال الدنيئة ليست من شيمنا. نحن لا نخطط لاحتلال العالم، نحن نذهب هناك لاختبار مدى إنسانيتهم فقط، فلا يخافوا، لن نحتل أوروبا. ليس لدينا أي شيء ندافع فيه عن أنفسنا؛ فكيف يكون لدينا ما نهدّدهم به!

شعوبنا تُقتَل بقوانينهم!

رغم كل هذا، يخافون منا. ويُغلقون أبوابهم دوننا، ولا يتورّعون عن فعل أي شيء مخجل ليوقفوا هذه الموجة، أيعقل أن يوضع سياج حديدي على طول حدودهم معنا؟! يخافون حتى من النساء والأطفال، ولا يتورّعون عن أي شيء، قراراتهم المخجلة غير الإنسانية كإغراق اللاجئين في البحر، هي ما جعلت شواطئ البحر الأبيض المتوسط ممتلئة بالجثث. ثم لا يخجلون من التظاهر بالحزن على أولئك الغرقى. والصورة التي انتشرت على مواقع التواصل الاجتماعي لطفل غرق وحملته الأمواج إلى الشاطئ؛ كشفت مدى إنسانية الحضارة الغربية المزعومة، وأظهرت أنهم يظهرون ما لا يضمرون.

لقد كان هذا اختبارا لمصداقية القيم وحقوق الإنسان في أوروبا، وقد فشلت أوروبا في هذا الاختبار. الاتحاد الأوروبي الذي كان يقدَّم كأنموذج مثالي للعالم وكان مركزا لجمعيات ومراكز حقوق الإنسان؛ هُزِمت دعاواه هذه أمام بضعة جثث للأطفال اللاجئين، في حين أننا في الشرق الأوسط نموت كل يوم، وجثث الأطفال تتراءى أمام أعيننا كل يوم. نحن هنا ضحايا لمخطط كبير يهدف إلى الفصل العرقي بين أبناء الإنسانية الواحدة.

موجة لن يوقفها شيء

لا تستطيع أي من العوائق إيقاف هذه الموجة، وسيأتي يوم تعيشون فيه المصاعب التي عشناها، الفقر والاغتراب عن البيت والوطن. كل المشاكل التي يعيشها العالم اليوم؛ سببها تكبّركم وتجبّركم. ففي القرنين الأخيرين استطعتم فعل كل شر يمكن أن يرتكبه الإنسان.

ألم تحوّلوا مدننا إلى خراب؟! سيأتي يوم ليحل فيه الخراب على مدنكم أيضا، حرمتم صغارنا من النوم بهدوء، فلا تظنوا أننا سنترككم لترتاحوا في نومكم. من الذي حارب حضارة الإسلام في القرنين الأخيرين؟ ربما تقولون إن "الحضارة النصرانية في خطر".. لكن ألا ترون أن القرنين الأخيرين كشفا لنا أن هذه الأرض مهددة منكم لا منا؟ حتى اليوم تستمر منظمات استخباراتكم في دعم "قنديل" (المركز الرئيس لتنظيم بي كا كا) وتستهدفون بهذا أمن بلادنا.

 لكن حضارتنا الشرقية باقية ونحن ما زلنا واقفين على أقدامنا. أنتم اليوم تحاربون اللاجئين بكل جهدكم؛ أنتم تأتون بلداننا بأسلحتكم، بينما نحن نأتي دون أن نجد ما ندافع به عن أنفسنا حتى. رغم هذا تعيشون كل المخاوف. لهذا تقفون في وجه اللاجئين، بل تحاربونهم.. ألم يكفِ أنكم حاربتم اللاجئين فيما كانوا في بلادهم، وتحاربونهم اليوم حال لجوئهم؟! لقد بنيتم علاقاتكم مع دول العالم على أساس عرقي عنصري. ولقد حاولتم التمسّك بعنصريتكم هذه إلى أبعد حد، وفي سبيل هذا شرعنتم الاضطهاد الذي تقومون به تجاه اللاجئين معتمدين على قوانينكم التي جعلتموها هي الأخرى على أساس عرقي.

افتحوا الحدود

افتحوا الحدود ولتتسّع هذه الموجة.. هل حسبتم عدد الأطفال الذين حمل البحر جثثهم إلى الساحل بعد قراركم الجائر هذا؟

أتوجه بخطابي الآن إلى تركيا، والدول الآسيوية، ودول الشمال الأفريقي: افتحوا حدودكم وادعموا موجة اللاجئين هذه حتى تصل إلى قلب أوروبا.

إن التهديد الأكبر الذي يزعزع قلوب المسؤولين الأوروبيين ليس القوة العسكرية، بل هو القيم الإنسانية . إن هذا اختبار لمدى إنسانيتهم.

اتركوا الملايين يتدفقون كالسيل نحو بلادهم علّهم يستشعرون معاناة اللاجئين من جهة.. ومن جهة أخرى لعل هذا يشغلهم عن التآمر ضدنا.

اقرأ المزيد
١٢ سبتمبر ٢٠١٥
أزمة اللاجئين السوريين :هل هي الضارة النافعة

على المرء أن يسجل الرسوب العربي الإسلامي في اختبار التضامن، في التعامل مع أزمة اللاجئين السوريين في أوروبا، إذ لم تعلن دولة عربية أو إسلامية واحدة أن أولي الأرحام، العرب والمسلمين أولى بإخوانهم السوريين. (نشير إلى أن بعض الدول الخليجية باتت تحتسب كل من يقيم لديها من السوريين لاجئاَ رغم دخوله بتأشيرة نظامية) ومع ذلك فعلينا ألا نغفل عن بعض الأمور التي قد تضيع في حمى الصراخ الإعلامي، والتباكي المفتعل في كثير من الأحيان، ومحاولات التضليل في أحيان أخرى للتغطية عما هو أهم وأخطر.
 
بداية لا بد من الانتباه إلى أن معظم من قدموا إلى أوروبا، اختاروا أوروبا، ولم يختاروا أي بلد عربي آخر، بل وحددوا خياراتهم بالبلدان الأوروبية التي يقصدونها بعينها، وهي ألمانيا والسويد مما يشير إلى أن بلدان العروبة والإسلام ليست وجهتهم المفضلة التي اختاروها لأنفسهم، ولأسرهم وأبنائهم، وهؤلاء جلّهم ممن استطاع أن يجمع ما معدله 5 آلاف دولار لتغطية تكلفة رحلة الشخص الواحد، وهو مبلغ لا يتوفر إلا لفئة محدودة من السوريين أغلبها من أبناء الطبقة المتوسطة، مما سيطرح تساؤلا حقيقيا حول مصير من تبقى خلفهم في سوريا، وأجبرتهم ظروفهم الاقتصادية الاجتماعية أن يطحنوا ألامهم ليخبزوها بنار المعاناة، لتنضج مزيدا من القهر والألم، دون أن يلتفت أحد لإيجاد حل مناسب لهم، بل على العكس من ذلك يتخلى العالم عن تأمين الطعام والشراب لهم عندما أعلن برنامج الأغذية العالمي قبل أيام وقف المساعدات الغذائية لنحو 230 ألف لاجئ سوري خارج المخيمات في الأردن، بسبب نقص التمويل، وذلك كله لا يقلل من وجود تقاعس أوروبي في معالجة أزمة اللاجئين السوريين الذين وصلوا إليهم كما أننا لا نقلل من حجم المعاناة والألم الذي يكابده اللاجئون السوريون في أوروبا، ومشروعية ما يقومون به في اللجوء هربا من جحيم المعارك إلى مستقبل آمن لهم ولأسرهم.
 
إن علينا أن لا نقلل من مخاطر التغيير الديمغرافي في سوريا المستقبل عندما نرى أن غالبية اللاجئين من أبناء طائفة واحدة فلا مناص هنا من التحذير من شبح التفريغ الطائفي الذي قد ينشأ بتهجير هؤلاء طوعا أو قسرا، فعندما يكون 4 ملايين سوري خارج بلادهم، ومن بين هؤلاء  قرابة نصف مليون لاجئ سوري قد وفدوا إلى أوروبا لا نحتاج إلى التحليل لندرك حجم التغيير الذي قد يحدث إن لم يعد هؤلاء إلى وطنهم، ولا نبالغ أن إيران والنظام السوري، وحتى روسيا باتوا أقرب إلى فرض حل تقسيمي لسوريا على أساس طائفي بعد اقتناعهم أن سوريا لن تعود كما كانت، وأن ما خسره الأسد من أراض لن يستطيع استعادته، ويكفي أن نضرب مثالا واحدا على ذلك بحي جوبر الدمشقي ذي الكيلو متر المربع الواحد الذي تحول إلى أيقونة عسكرية للثوار بصموده الأسطوري، لأكثر من ثلاث سنوات. وهكذا فعندما تخلو سوريا من معظم سكانها المنتفضين سيسهل عليهم تنفيذ مخططهم الاستئصالي، وإقامة "دولة الأسد أو لا أحد".
 
ويبرز المؤشر الأخطر في أزمة اللاجئين السوريين بأوروبا في كيفية التعاطي الغربي مع الحل فمعظم المواقف الغربية تغافلت عن النظام السوري، وتناست أنه لب المشكلة، ومنبعها والمتسبب بموجات اللجوء والنزوح، ونسيت أن معظم اللاجئين لا يأتون من مناطق سيطرة تنظيم الدولة المتطرف بل يهربون من سطوة النظام الأمنية في المناطق التي مازالت تخضع لسيطرته، أو هربا من براميله التي تلقيها طائراته على رؤوسهم في المناطق التي تخضع للثوار (1591 برميل قتلت 115 خلال الشهر الماضي فقط حسب الشبكة السورية لحقوق الإنسان). تلك المعالجة الخاطئة والتسديد خارج الهدف تجلى في الموقفين البريطاني والفرنسي، باستهداف التنظيم حلا لمشلكة اللاجئين، ونسيا الفشل الغربي في مواجهة هذا التنظيم من قبل التحالف الدولي في سوريا والعراق حتى الآن. فماذا سيستفيد التحالف عندما تشارك بريطانيا في سوريا وماذا سيخسر التنظيم الذي مازال يكسب مزيدا من الأراضي.
 
ومما يؤكد أن الغرب ما زال بعيدا عن الحسم في المشاركة بحل نهائي للأزمة حديثه عن استقبال لاجئين خلال سنوات عديدة قادمة؛ فبريطانيا تتحدث عن استقبال 20 ألف لاجئ خلال السنوات الخمسة القادمة، وفرنسا ستستقبل 24 ألف لاجئ في السنتين المقبلتين. مما يوحي أن الغرب انتهج مقاربة التكيف مع المشكلة ومعالجة آثارها دون السعي إلى حلها وإنهاء مسبباتها. ولا شك أن ذلك يزيد من إحباط السوريين الطامحين إلى حل جذري يساعدهم في التوصل إليه، من اعتبروا أنفسهم أصدقاء للشعب السوري (هل تذكرون آخر اجتماع لمجموعة أصدقاء الشعب السوري؟؟)
 
المقاربة الحقيقية لإنهاء الأزمة مازالت بعيدة ولا يبدو أن الغرب يسعى حتى لحل جزئي يخفف من معاناة اللاجئين بتوفير المنطقة الآمنة التي بحت أصوات السوريين، ومعهم أردوغان بالمطالبة بها، دون جدوى بسبب الفيتو الأمريكي على تلك المنطقة، مما يثير علامة استفهام كبيرة حول جديتهم في معالجة أزمة اللاجئين السوريين في سياق المحنة السورية التي تحولت إلى أزمة دولية جذورها في سوريا وفروعها في كل مكان. وستدرك أوروبا أنها لا تستطيع أن تبقى متفرجة على هذه الحرب الطاحنة في جوارها الأقرب إلى مالا نهاية. فهل ستمحو من سردية تعاملها مع الأزمة مصطلحات القلق، وتأخذ بزمام المبادرة عندما تتهاوى حدودها أمام الباحثين عن الأمان الذي فقدوه في أوطانهم، وتكون قوافل اللاجئين السوريين بذلك الضارة على المدى المنظور والنافعة على مدى نتمنى ألا يطول؟

اقرأ المزيد
١٢ سبتمبر ٢٠١٥
سوريا..لا تغيير في السياسة الأميركية

زيارة العاهل السعودي خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز إلى واشنطن حظيت باهتمام سياسي وإعلامي عالمي. جاءت بعد فترة من التباينات والتناقضات في المواقف سببها السياسة الأميركية في المنطقة، والاتفاق النووي مع إيران الذي ولّد مخاوف كثيرة لدى دول الخليج وخصوصاً المملكة العربية السعودية، لم تبدّدها تأكيدات إعلامية متتالية من قبل المسؤولين الأميركيين على ثبات العلاقة مع المملكة، وحرص واشنطن على التفاهم مع حلفائها، والسعي إلى تطمينهم على قاعدة الإصرار على منع إيران من امتلاك السلاح النووي.

بعد الزيارة، صدر بيان رسمي تحدث عن عمق العلاقات التاريخية والحرص على تعزيزها وتطويرها في المرحلة المقبلة. أتوقف عند الشق المتعلق بالأزمة السورية. في البيان تأكيد على حل الأزمة سياسياً على أساس (جنيف- 1)، الحفاظ على المؤسسات الأمنية والعسكرية. الحفاظ على وحدة وسلامة الأراضي السورية. بناء دولة مسالمة تعددية ديموقراطية خالية من التمييز والطائفية، أي تحول سياسي يجب أن يتضمن رحيل بشار الأسد الذي فقد شرعيته.

كل البنود الأولى مستندة إلى البند الأخير. فمع بقاء الأسد لا حل ولا تحوّل. وبالتالي السؤال الذي يطرح نفسه: هل باتت أميركا مقتنعة بالتحوّل الآن؟ وبالتالي برحيل الأسد الآن؟ كيف؟ لا أشك أنها لحظة في صدقية الموقف السعودي وثباته لناحية رفض أي حل بوجود الأسد. المشكلة في أميركا التي تتحدث منذ بداية الأزمة عن فقدان الأسد شرعيته وضرورة رحيله، لكنها لم تفعل شيئاً لذلك سوى أنها ساهمت بسياساتها بتعزيز ذريعته الدائمة المبررة لكل أعمال النظام وإرهابه ضد الشعب السوري بمواجهة «الإرهاب»، فباتت أميركا نفسها تعتبر أن الأولوية هي لمكافحة هذا «الإرهاب». وانكفأت عن دعم المعارضة عندما فرض عليها اللجوء إلى حمل السلاح للدفاع عن نفسها. تارة تحت عنوان الخوف من وقوع سلاحها في أيدي المتطرفين، وطوراً في الدعوة إلى أولوية المواجهة مع «الإرهاب» إلى حد الحديث عن ضرورة توجه المعارضة والنظام معاً لمواجهته، ثم لاحقاً راحت الإدارة الأميركية تتحدث عن المعارضة المعتدلة وبناء القوة العسكرية لها التي لم يبق منها إلا 60 عنصراً خطفت «النصرة» منها ثلاثين! وسميت الفرقة الباقية بـ«فرقة الثلاثين» فيما استمر النظام يتلقى الدعم العسكري المباشر من إيران وروسيا بأشكال مختلفة، ومع ذلك فقد سيطرته على كثير من الأراضي.

الكارثة حلت بسوريا وهي إلى تفاقم: لاجئون في كل أنحاء العالم. مئات منهم يموتون غرقاً على شواطئ العار، وشهداء أبرياء في الداخل بالأسلحة الكيماوية والبراميل المتفجرة. والنزف مستمر!

كيف يمكن للأسد أن يخرج؟ ثمة احتمالات ثلاثة للتحوّل: أن يتحوّل الأسد نفسه ويتنحىّ وهذا مستحيل. أو تسعى روسيا إلى ذلك. وهذا غير ممكن من دون اتفاق مع أميركا على قضايا تخصها هي في أوكرانيا وغيرها، ويبدو بعيداً جداً، رغم مناورة بوتين الأخيرة حول استعداد الأسد لتقاسم السلطة مع المعارضة الصحيحة! روسيا تحمي الأسد في مجلس الأمن. تمدّه بالسلاح وإيران تحميه على الأرض!

في الحل السياسي، لا اتفاق بعد، في ظل تشعب المصالح والأهداف وتناقضها، بين الدول الكبرى والدول الإقليمية، خصوصاً بين أميركا وروسيا، إضافة إلى تركيز أميركا جهدها لفترة طويلة من الوقت على المفاوضات مع إيران حول ملفها النووي، ولم تكن تريد «إزعاجها» بالموضوع السوري! عدم الإسراع في الحل السياسي يعني استمرار الحرب.

في العمل العسكري، لا تبدو أميركا مستعدة لذلك، فيما تضاعف روسيا حضورها العسكري المباشر ودعمها اللامحدود للأسد ونظامه وكذلك تفعل إيران. فكيف يرحّل الأسد؟ هل يتحقق ذلك على يد فرقة الـ30؟ أم نبقى ننتظر قيام المعارضة المعتدلة لتدعمها الإدارة الأميركية، ولا يبقى شيء في سوريا حتى تلك الساعة مع استمرار الحرب؟ لا حل في السياسة، ولا حل بالقوة؟ كيف يخرج الأسد؟ لن يستمر هذا النظام مهما طال الزمن واشتدت المصاعب على الشعب السوري. هي حقيقة تاريخية، ونتيجة موضوعية لمسار الأحداث. لكن كلما طال الوقت، بات الخطر على وحدة وسلامة الأراضي السورية، وعلى تفاقم المذهبية والطائفية وسقوط الدولة ومؤسساتها أكبر!

كل ما جرى حتى الآن كان منسجماً مع السياسة الأميركية ورزنامة إدارة أوباما وبرنامجها ومع المصالح الإسرائيلية، فحيث كان ثمة ضرورة للتشدّد، فعلت أميركا. وليس فقط بمشاركة روسية، بل بطلب روسي مثل تسليم الأسلحة الكيماوية ونفذت إسرائيل ضربات ميدانية استهدفت مواقع عسكرية ومخازن أسلحة، وغير ذلك.

حتى الآن لا أعتقد أن أميركا غيّرت سياستها، ولذلك سيكون الصراع أكثر حدة، وسيشهد فصولاً جديدة حامية. آخر مظاهرها كان اغتيال الشيخ وحيد البلعوس في جبل العرب، وما تركه من انعكاسات كشفت لعبة النظام وحلفائه!

لإنقاذ سوريا وحماية وحدة وسلامة أراضيها ومؤسساتها ينبغي الإسراع في الحل الذي لا دور للأسد فيه، بسبب أميركا لا نزال بعيدين عن هذا التوجّه. الشعب السوري لم يقصّر في كفاحه وتضحياته. وكثيرون ما زالوا ولا يزالون صادقين في دعمه، لكن المسؤولية الكبرى تقع على عاتق إدارة أوباما!

اقرأ المزيد
١٢ سبتمبر ٢٠١٥
أيهما أرحم: الأنظمة القومجية العربية أم الاستعمار؟

هل لاحظتم أن كل الأنظمة «القومجية» التي رفعت شعار الوحدة العربية لم تستطع في النهاية أن تحافظ على وحدة بلدانها، فما بالك أن تجمع شمل العرب أجمعين تحت راية واحدة؟ مفارقة عجيبة جدا.

ولعل أشهر من رفع شعار الوحدة هم البعثيون بفسطاطيهما السوري والعراقي. وانضم إليهما طبعا الفسطاطان القذافي «الجماهيري» واليمني القومي-قبلي. ولو نظرنا إلى حال سوريا والعراق وليبيا واليمن لوجدنا أنها الأكثر عرضة للتمزق والتفتت والتفكك على أسس طائفية ومذهبية وعرقية وقبلية.

لا شك أن بعض «القومجيين» «بتوع الصمود والتصدي والمماتعة والمقاولة ومقارعة الامبريالية والصهيونية» سيظهرون لنا فجأة ليتهموا المؤامرات الكونية التي تريد تمزيق المنطقة على أسس فئوية ومناطقية وطائفية وعرقية. وبالطبع لن نختلف أبدا مع «القومجيين» الذين يتهمون المتآمرين بتقسيم المقسّم وتجزئة المجزّأ. لا بل يمكن أن نزايد عليهم في اتهام إسرائيل وأمريكا في شرذمة العالم العربي وتحويله إلى دويلات. ووثيقة «كيفونيم» الإسرائيلية أكبر شاهد على المحاولات الإسرائيلية لتمزيق المنطقة.

لكن لو نظرنا إلى حال الدول القومجية لوجدنا أن أكثر من عبث بتركيبتها الطائفية والمذهبية والقبلية هي الأنظمة «القومجية الوحدوية» المزعومة، التي كانت ترفع شعارات وحدوية، بينما على أرض الواقع كانت تمارس أحقر أنواع السياسات الاستعمارية الطائفية على مبدأ «فرق تسد» كي تعيش على تناقضات شعوبها. فكلما تعمقت الشروخ الطائفية والقبلية والمذهبية والعرقية في البلدان «القومجية» ضَمِنَ طواغيتها فترة أطول في السلطة. ولو نظرنا إلى حال اليمن وسوريا والعراق وليبيا لاتضح لنا الأمر بجلاء.

لا يمكن لأي نظام فئوي أن يبني دولة وطنية، فما بالك أن يدعو إلى الوحدة بين الدول. في سوريا مثلا رفع النظام شعارا قوميا عريضا، بينما كان في الواقع يحكم على أساس طائفي لا تخطئه عين. ولو سألت أي سوري بسيط لأعطاك مئات الأمثلة على أن النظام السوري له علاقة بالوطنية كما أنا لي علاقة بكوكب المشتري، فما بالك أن يكون قوميا. عندما يقوم النظام بتفضيل طائفة أو جماعة على أخرى، ويسلمها كل المقاليد العسكرية والأمنية في البلاد، فهذا يعني ضمنيا أنه يقوم بالتحضير لتفتيت البلد على أساس طائفي لاحقا.

فمهما طال الزمن لا بد لبقية الطوائف ومكونات المجتمع أن تتململ، وربما تنتفض ضد الأقلية الحاكمة أو المسيطرة. وهذا ليس اكتشافا جديدا، بل أمر بديهي جدا، فعندما تضيق الطوائف ذرعا بتصرفات أي فئة مهيمنة، فلا بد أن يحدث التصادم، وربما الحرب الأهلية. وهذا بالنتيجة سيؤدي إلى تفتيت البلاد على أسس طائفية ومذهبية وعرقية وقبلية. وهذا ما يحدث الآن في سوريا بالضبط. حتى النظام يعترف أنه يواجه حربا أهلية طائفية. ولو كان النظام السوري وغيره من الأنظمة القومجية قد بنى دولة لكل مواطنيها أساسها المواطنة، لما انتفض قسم من الشعب على القسم المهيمن، لأن المواطنة تضمن للجميع حقوقهم، بغض النظر عن انتماءاتهم الطائفية والفئوية الضيقة.

لاحظوا أن اكثر نظامين تشدقا بالوحدة العربية كانا النظامين السوري والعراقي، مع ذلك فقد وصل الأمر بالنظام البعثي السوري إلى السماح للسوريين بزيارة كل دول العالم ما عدا العراق. وكل السوريين يتذكرون عبارة «مسموح السفر لحامل هذا الجواز إلى كل دول العالم باستثناء العراق». لقد وصلت العداوة بين النظامين البعثيين السوري والعراقي إلى حد القطيعة الكاملة. فإذا كان الفسطاطان البعثيان لا يستطيعان الوحدة، فكيف كانا يريدان توحيد العرب من المحيط إلى الخليج؟ وكما نلاحظ الآن، فإن سوريا والعراق يواجهان خطر التقسيم والتشرذم أكثر من أي بلد آخر. وكذلك اليمن وليبيا بتوع «القومية».

بعبارة أخرى، فإن رافعي شعار الوحدة العربية، لم يفشلوا فقط في تحقيق شيء من شعارهم الفضفاض، بل فشلوا أيضا في تحصين بلادهم ضد التقسيم والتفتيت. وبينما استطاعت بقية الدول العربية أن تحافظ على نسيجها الوطني، ها هي سوريا تتشرذم. والأنكى من ذلك أن النظام «القومجي» لم يعد يُخفي ألاعيبه الطائفية القذرة، فقد أوعز لإيران بأن تتلاعب بتركيبة سوريا الديمغرافية على أساس مذهبي. فكلنا سمعنا عن المفاوضات التي تجريها إيران مع جيش الفتح في الزبداني كي ينتقل سكان الزبداني السنة إلى إدلب السنية، وأن ينتقل سكان الفوعا وكفريا الشيعة من إدلب إلى الزبداني لتجميع الشيعة حول دمشق. يا هيك القومية العربية يا بلاش.

وفي دمشق وريفها يتم تهجير بعض سكان بالمنطقة بحجة بناء ناطحات سحاب إيرانية، بينما الهدف الحقيقي تغيير التركيبة السكانية للعاصمة، كما فعلوا من قبل مع العاصمة العراقية بغداد وحزامها. والسؤال الأكثر كوميدية وفضحا للمتشدقين بالقومية: كيف يرفع النظام السوري البعثي شعار الوحدة والقومية العربية، بينما يتحالف استراتيجيا مع ألد أعداء العرب، وهم الفرس؟

وفي ليبيا نجد أن النظام الساقط لم يكتف بالدعوة إلى الوحدة العربية، بل أراد أن يوّحد إفريقيا أيضا، مع العلم أنه كان في الواقع يعيش على تناقضات وتناحر القبائل الليبية، فكان يحرّض قبيلة أو منطقة ضد أخرى؛ كي تبقى البلاد تحت سيطرته على مبدأ: فرق تسد. وقد لاحظنا كيف تشظت ليبيا بعد سقوط النظام، لأنه لم يصنع دولة وطنية، بل دولة قائمة على صراعات عشائرية وقبلية.

وآخر مثال على الأنظمة القومجية التي تاجرت بشعار الوحدة، بينما كانت تدق الأسافين بين شعوبها نظام المخلوع علي عبد الله صالح في اليمن، الذي أدت سياساته اللاقومية واللاوطنية إلى شرذمة اليمن وربما تمزيقه إلى مقاطعات ودويلات لا سمح الله.

أخيرا: أليس من حقنا أن نسأل: هل هناك فرق بين الأنظمة القومجية العربية والاستعمار؟ نعم. لقد كان الاستعمار أرحم من القومجيين، فعلى الأقل قسمنا إلى دول بينما الأنظمة القومجية رفعت شعار الوحدة العربية، بينما كانت على الأرض تقسم المقسّم وتجزئ المجزأ إلى دويلات طائفية وقبلية ومذهبية وكانتونات عرقية كما يفعل النظام الطائفي في دمشق. وستكون الخطة باء في سوريا شاهدا على ذلك. انتظروها.

اقرأ المزيد
١١ سبتمبر ٢٠١٥
صدى القمة الأميركية السعودية.. سياسة روسية أكثر هجومية


تمت الزيارة الأولى للعاهل السعودي، سلمان بن عبدالعزيز، إلى واشنطن، وهي على جانب من الأهمية، بعد تحضيرات طويلة، وبعد تحفظات سعودية شبه معلنة على الأداء الأميركي في المنطقة، وحتى بعد انعقاد قمة كامب ديفيد الخليجية الأميركية في مايو/أيار الماضي، التي غاب عنها الملك سلمان. وقد أعلنت الرياض التزامها بنتائج تلك القمة، وتنتظر التزاماً أميركياً مماثلاً. وخصوصاً بما يتعلق ببرامج التسلح الخليجية، ومراقبة السلوك الإيراني. القمة التي وصفها رئيس الدبلوماسية السعودية، عادل الجبير، بأنها محورية وتاريخية، ما زال الانتظار قائماً لنتائجها على أرض الواقع، وسوف يظل هذا الانتظار قائماً على مدى الأسابيع والشهور المقبلة. لتبين ما إذا كانت الإدارة الديمقراطية بصدد إجراء تعديلات على سياستها الانكفائية في المنطقة (باستثناء كل ما يتعلق بالعلاقة مع تل أبيب).

غير أنه يسترعي الانتباه أن اصداء القمة الأميركية السعودية بدت قوية في مكان آخر. في موسكو بالذات، التي لم تبد اهتماماً إعلامياً خاصاً بالمناسبة، لكنها سارعت إلى تعزيز دعمها، ورفع مستواه، النظام في دمشق. فما أن انفضت القمة الثنائية في واشنطن، حتى كانت الأنباء تتوالى عن منع اليونان وبلغاريا طائرات روسية من التوجه إلى دمشق، عبر أجواء البلدين. وجاء الاعتراض عبر التشكك بنقل تلك الطائرات أسلحة. وواقع الأمر أن هناك شواهد عديدة على أن موسكو باتت تعتبر سورية جزءاً من أراضي الكومنولث الروسي. وكانت دعوات حارة قد صدرت من دمشق لموسكو لإقامة قاعدة عسكرية روسية ثانية، بعد قاعدة طرطوس. كما تواترت أنباء عن تزويد موسكو دمشق بطائرات ميغ حديثة، على الرغم من الوضع المالي الميئوس منه للنظام. لا يتعلق الأمر فقط بمواكبة روسية للقمة السعودية الأميركية، بل باضطرار أعداد متزايدة من السوريين للهجرة، نتيجة بطش النظام وداعش، ذلك شجّع موسكو على مد النظام بمزيد من الأسلحة! فيما يتحدث ناشطون سوريون عن وجود جنود روس على الأراضي السورية، وكما هو حال وجود جنود إيرانيين من الحرس الثوري.
دأب النظام في دمشق على إثارة التنافس بين طهران وموسكو، لتعظيم وجود كل منهما في سورية، مع منح كل التسهيلات من أجل ذلك. وسوف يشكل الوجود الروسي البشري المباشر سبباً في إثارة مخاوف عميقة من أن تصل الأزمة إلى هذه الدرجة من التدويل. وبينما تحاول موسكو ذرّ الرماد في العيون بنفي كل ما يرد من تقارير بهذا الشأن، إلا أن أزمة روسية أميركية تلوح في الأفق، وعلى درجة من الشبه بالأزمة في أوكرانيا. وقد بدأ مسؤولون أميركيون يحذرون من هذه التطورات الجديدة، ومن مخاوف إشعال مواجهة بين القوات الروسية وقوات التحالف الدولي التي تقوم بغارات جوية منتظمة على داعش ، وكثيراً ما تخطىء أهدافها، ويذهب مدنيون ضحية لها.
"بينما تعتصم واشنطن بسياسة وقائية دفاعية في كل ما يتعلق ببسط النفوذ في الشرق الأوسط، فذلك يحفز موسكو وطهران على مواصلة سياستهما الهجومية"

ومغزى ذلك أن موسكو، وبعد أيام فقط على القمة السعودية الأميركية، تسعى إلى دفع الأمور نحو التصعيد، وحتى إلى حافة الهاوية، من أجل تثبيت حاكم دمشق في موقعه، وتهجير ملايين السوريين عن أرضهم، وضمان أن تبقى سورية ساحة للنفوذ الروسي (والإيراني)، بصرف النظر عن أي اعتبار آخر، بما في ذلك مصير السوريين. تماماً كما هو الموقف الروسي من أوكرانيا.
قدم السعوديون مشروعاً لتعاون استراتيجي وشراكة اقتصادية طويلة الأمد بين الرياض وواشنطن، وتولى الأمير محمد بن سلمان تقديم هذا المشروع الذي يمنح الأميركيين أولوية في كل ما يتعلق بالمشاريع الاقتصادية والاستثمار في المملكة. على أمل أن يسهم هذا العرض في رفع مستوى التنسيق العسكري والسياسي بين البلدين. ويعكف الأميركيون الذين رحبوا بالعرض على دراسته، ووضع خطط لآلية تنفيذه من جانبهم، غير أن لا شيء يلوح ويفيد بأن واشنطن بصدد مراجعة سياستها الخارجية في الشرق الأوسط التي أدت إلى تعظيم النفوذ الروسي في بعض الدول. أما بخصوص النفوذ الإيراني، ما زالت واشنطن تمتنع عن مجرد الطلب إلى المليشيات الطائفية التي ترعاها وتمولها إيران بمغادرة الأراضي السورية، ولعل واشنطن تكتفي بمراقبة عدم ضخ مزيد من الأموال الإيرانية إلى تلك المليشيات، بعد رفع تجميد الأرصدة الإيرانية في أميركا والغرب بموجب الاتفاق النووي. ومن طرف خفي، تصغي واشنطن لخطاب إيراني وروسي يفيد بأن داعش ومنظمات سنية متطرفة هي العدو المشترك الذي يجمع واشنطن وموسكو وطهران، وهو خطاب مضى عليه نحو عامين، تعاظم فيهما نفوذ المليشيات الإيرانية في العراق وسورية واليمن، ولولا عاصفة الحزم في اليمن، لكانت واشنطن اكتفت بمراقبة الوضع في اليمن، ولاعتبرت أن القاعدة وحدها، دون الحوثيين الانقلابيين، هي مصدر الخطر الوحيد على بقية دول المنطقة!
أرسلت واشنطن، في الأسابيع الماضية، إشارات عديدة، تفيد بعدم رضاها عن زعزعة إيران لاستقرار المنطقة، لكنها لم تفعل الكثير أو القليل، للحد من هذا النفوذ، ربما باستثناء وضع أحد قادة حزب الله، أخيراً، (سمير القنطار) على قائمة الإرهابيين، مع معاقبة بعض الشركات الإيرانية. وهي خطوات، في مجملها، ذات طابع رمزي، ووقائي وتطويقي، ولا تنطوي على مواجهة تُذكر مع التطرف الإيراني الذي يماثل التطرف السني في خطورته، حاضراً ومستقبلاً.
وفي هذه الأثناء، يتواصل التنسيق شبه الاستراتيجي بين موسكو وإيران، طرفين حليفين، يسعيان إلى تقاسم النفوذ في الشرق الأوسط، فموسكو تقف على الدوام ومسبقاً مع طهران، في كل ما يتعلق بملفها النووي، بما في ذلك طريقة تطبيق طهران اتفاق جنيف النووي، كذلك الأمر بتسليحها بأسلحة روسية متطورة، ومن أحدث ما تضمه الترسانة الروسية.
وبينما تعتصم واشنطن بسياسة وقائية دفاعية في كل ما يتعلق ببسط النفوذ في الشرق الأوسط، فذلك يحفز موسكو وطهران على مواصلة سياستهما الهجومية، واستثمار الأجواء "المريحة" التي توفرها الإدارة الديمقراطية، بقيادة باراك أوباما، وبما يبدو أنه سباق مع الزمن، قبل انتهاء العام 2016 الذي سيشهد نهاية ولاية المحامي، باراك أوباما، الذي يراقب الأوضاع في منطقتنا والعالم عن كثب، ويجيد المراقبة ذات النفس الطويل، بينما يجيد الروس والإيرانيون أموراً أخرى.

اقرأ المزيد
١١ سبتمبر ٢٠١٥
صورة الطفل الغريق

ليس مؤكداً أن يبقى الألم الذي تخلفه صور الفواجع الإنسانية في نفوس الناس بالقدر نفسه لحظة حدوث الفواجع. هناك ألمٌ تتركه الصورة لطفل متشظي الجسد نتيجة الحروب، أو لأطفال قتلوا بالغازات السامة، أو لرجال ونساء قضوا تحت التعذيب، وحملت صورهم دلائل رعب إنسانياً، عند إدراك فقد الحياة في ذروة فقد الإنسانية في لحظة أصعب من أن تحتمل، وقد كان لصورة الطفل السوري الذي وجد على شاطئ في تركيا ميتاً غرقاً، هو وأخوه الذي يكبره في الأيام الأخيرة، أبعد الأثر في إشاعة الألم لدى الناس، فقد انتشرت هذه الصورة التي تقدم لنا طفلاً في إغفاءة على رمال الشاطئ لا تظهر وجهه كاملاً، وقد أدار جسده إلى العالم، وبرز حذاؤه في مقدمة الصورة، كأنه يصفع الضمائر، أو كأنه زعلان من أبيه الذي كان يصارع أمواج البحر كي ينقذه، أو ربما من الفراغ الذي يمثله امتداد البحر، أو من خواء الموج من القلوب الرحيمة.
كتب كثيرون عن الصورة، وشاركها ملايين من متسخدمي وسائط التواصل الاجتماعي، معبرين عن حزنهم وغضبهم أحياناً، وتناولت الصحف والتلفزات الصورة، لتبرز تراجيديا السوريين التي فاضت عن أرض سورية، لتنتشر في بقاع الأرض دليلاً على عمق المأساة. رفض كثيرون استخدام الصورة بهذه الكثافة، ربما بسبب الألم الذي تثيره في النفوس، فجميعنا نجد في صورة طفل ميت منتهى العنف وذروة الوجع، لكننا جميعاً تحدثنا عنها، حتى الذين رفضوا كثافة استخدامها تحدثوا عن ألمهم، بمكابرة إنسانية من السهل تفسيرها، فنحن إزاء الصور القاسية، بما تنتجه من مشاعر الخيبة والانكسار في أرواحنا ندرك عجزنا، نحن البشر، ونلمس في تفاصيل الصورة هشاشتنا وقلة حيلتنا أمام المصير التراجيدي لصاحب الصورة، خصوصاً عندما يكون طفلاً قليل الحيلة في الواقع.
ولذا نكتشف، فجأة، وجعنا الإنساني، وضعفنا المرعب على مواجهة ذلك كله، فترانا نخاف من وحدتنا مع الألم. نخاف أن تتركنا الصورة وحيدين مع ألمها ونفوسنا، فنهرع جميعاً إلى مشاركة ألم الصورة مع الآخرين، لكي ننجو من وحدتنا معها، أو نروح نطلب بكل غضب وقف دهمنا بالصورة، ونحلل ما نراه، من غير أن نعي أن تكثيف استخدام الصورة يتعمد حشرنا في زنزانة الألم اليوم وإلى الأبد. وقد نلجأ إلى تحليلات سياسية، نتحايل بها على ألمنا ووحدتنا مع الألم حتى إن بعضهم شتم تلك المصورة التركية التي التقطت صورة الطفل السوري على شاطئ تركي، واتهمها تارة بالسادية، وتارة أخرى بالمازوخية.
ولو خرجنا من كل هذا التحليل للتفاعلات السيكولوجية التي نحسّها تجاه صورة الطفل الغريق، والتي بقيت، في معظمها، تفاعلات في داخل الفرد، قدمت تأويلات عن مدى العذاب الروحي الذي تركته عند كل واحد منا، وخصوصاً الآباء والأمهات الذين ربما يشعرون بالفاجعة أكثر من غيرهم، فهم في قرارة نفوسهم، وهذا أمر طبيعي، يُصدمون للمقارنة العفوية الخارجة عن سيطرتهم بين جثة هذا الطفل وأطفالهم، يتخيلون طفلاً من أطفالهم، وتتكثف معاناة ألمهم، وربما يخرج غضبهم ممزوجاً بالدموع، وقد يهاجمهم شعور طاغ بحماية أطفالهم، قد يصل إلى حالة مرضية، قد تدوم طويلاً.
ولكن، كم من هؤلاء الناس فكّر بأسباب موت هذا الطفل على الشاطئ، وقبله أطفالٌ في الغوطة. أطفال كثيرون ظهرت صورهم كأنها آتية من متحف الشمع جليدية، بسبب غاز السارين الذي استخدمه نظام الأسد. أطفال ماتوا في لحظةٍ، وهم يصارعون الهواء القاتل، كما مات الطفل على الشاطئ، يصارع الماء المتوحش، وظهروا في الصورة كأنهم في إغفاءة نوم هادئ، لا أثر لجرح سببته رصاصة، أو شظية صاروخ، أو سكين. هل سأل العالم المفجوع القتلة في طهران وموسكو وواشنطن وعواصم الغرب: لماذا يحافظون على القاتل في دمشق.

اقرأ المزيد
١١ سبتمبر ٢٠١٥
داعش ورقة إيران الثمينة

يمكن اعتبار "الدعشنة" أثمن منتوج تراهن عليه إيران اليوم، فبعد أن وضع الاتفاق مع دول 5+1 خطر التهديد النووي جانباً مدة 15 سنة، لاحت في الأفق فرصة الحرب ضد داعش. ومن خلال تعاطي طهران مع ورقة التنظيم الإرهابي، طوال الفترة الماضية، يظهر أنها تتعامل معها سلاحَ إرهاب وابتزاز ومساومة قوياً، قابلاً للتثمير في سوق العرض والطلب سنوات، لاسيما وأن الولايات المتحدة تضع محاربة داعش في مقدمة قائمة الاهتمامات الدولية، وتعمل، منذ أكثر من عام، على تركيب تحالف يواجه الفك المفترس الذي يهدّد العراق وسورية ويهزمه، ويتمدد ضرره إلى مصر وليبيا ودول الغرب. وكما هو معروف، ليست إيران دولة حديثة العهد، أو هاوية في ميدان بورصة الإرهاب، فهي، منذ أوائل الثمانينات، تلاعب العالم بأسلحة إرهابية، تبيع وتشتري من خلال رأسمال خاص، أثبت جدواه، وحقق نتائج باهرة جداً. وحين أوجدت حزب الله، في بداية الثمانينات، لم يكن هدفها الرئيسي محاربة إسرائيل فقط، بل صناعة سلاح فتاك متعدد الأوجه، أحدها إيجاد توازن رعب مع إسرائيل. ولكن، في الوقت نفسه، التلويح للمنطقة بعصى غليظة. ولهذا، نفذ الحزب عمليات مختلفة، مثل خطف الرهائن الأجانب والتفجيرات في بلدان عربية وأجنبية. ونظراً للعمليات التي ابتعدت عن خط المواجهة مع إسرائيل، تم إدراجه على لائحة المنظمات الإرهابية.
وبعيداً عن نظرية المؤامرة، انتبهت إيران، منذ زمن طويل، إلى مسألة الاستثمار في الإرهاب، تعلق الأمر بدعم أنظمة ذات بنية أمنية خالصة، مثل النظام السوري، أو حركات ومنظمات متطرفة. وكانت القاعدة من المنظمات التي فتحت معها الأجهزة الإيرانية صلات خاصة، قبل هجمات 11 سبتمبر/ أيلول 2001، وهذا ما يفسر أن الكادر الرئيسي الذي هرب من أفغانستان سنة 2011، بعد سقوط حكم طالبان، اتجه الى إيران، ووجدت كوادر وعائلات نازحة كثيرة اهتماماً إيرانياً رسمياً خاصاً، بما فيها عائلة أسامة بن لادن.
هذا الأمر شائع في عالم وأجهزة مخابرات الدول الكبرى ذات المصالح والاهتمامات المتشعبة وعملها. وعادةً، تلجأ الأجهزة إلى عمليات تجسس واختراقات أمنية واسعة، من أجل الدفاع عن مصالح البلد. ومن الطبيعي جداً أن تكون لدى الولايات المتحدة وروسيا وبريطانيا وفرنسا، وحتى إسرائيل، عيون وآذان وكاميرات وولاءات وعوامل تأثير داخل القاعدة وداعش وحزب الله، تراقب وتسمع وتنقل وتؤثر في القرارات المصيرية. لكن، تبين من مجريات الحرب في سورية أن الاختراق الكبير للقاعدة، إيراني سوري وروسي، أعطى نتائج ملموسة، حيث حرف بوصلة الثورة السورية السلمية في 2011 إلى حرب مسلحة، ثم حولها إلى فوضى شاملة، تستدعي التدخل الدولي في عموم المنطقة. قلب الطاولة على هذا النحو لا يستطيع أبو بكر البغدادي وبضعة ضباط مخابرات بعثيين سابقين من جهاز صدام حسين القيام به وحدهم، لو لم ترعاه، وتشرف عليه وتموله، دول عظمى، مثل إيران وروسيا.
وفي المعادلة التي نشهدها في سورية والعراق، تبدو إيران صاحبة الحصة الكبرى في قرار داعش. ولذا، لا يجاملها أو يحاورها ويراعيها الغرب من فراغ، حينما يعتبرها المرجع الرئيسي في القضاء على البعبع، ويذهب إلى التفاهم معها إلى ملفات إقليمية أخرى، منها مستقبل الرئيس السوري، بشار الأسد، حيث كان لافتاً، الثلاثاء الماضي، تطابق تصريحي وزيري خارجية النمسا وإسبانيا بشأن الأسد، حيث قالا من طهران، وكل على حدة، إنه "لابد من ضم الأسد إلى التحالف ضد داعش".
تطابق كلام الوزيرين يتجاوز ضريبة المكان إلى اعتراف يصل إلى المثل المعروف "يكاد المريب أن يقول خذوني".

اقرأ المزيد
١٠ سبتمبر ٢٠١٥
البلعوس على درب الأطرش وجنبلاط

في انفجار غادر، استشهد الشيخ وحيد البلعوس ورفاقه في السويداء جنوب سوريا، وليس غريبا اتهام بشار الأسد وحلفاؤه وشبيحته باغتيال الشيخ الثائر، كما استهدفوا سلفا أحرار لبنان وسوريا، خصوصا أن البلعوس قد تعرض لاستهداف سابق وفاشل من فرقة ماهر الأسد.

في السويداء، تزعم الشيخ البلعوس حركة مشايخ الكرامة التي ضمت كوكبة من مشايخ الطائفة الدرزية الكريمة ومن أعيان المنطقة لتصدح بمعارضتها ورفضها لطغيان بشار الأسد وحزب الله وداعش والقاعدة، كان بإمكان الشيخ الفارس أن يركن للدعة، لكنه أراد أن يعبر عن امتداد أصيل لبني معروف، فامتشق صهوة الحق ورفع راية العروبة، وقال لا لبشار الأسد ومن خلفه إيران، كما قال لا للإرهاب السلفي، كان بإمكانه أن يركن إلى إغواءات إيران وإغراءاتها بوطن درزي أو أقلوي، لكنه كرر ما أعلنه سلطان باشا الأطرش، ثم كمال جنبلاط ووليد جنبلاط، في وجه الاستعمار ثم إسرائيل والآن إيران: ليس كل عربي درزي لكن كل درزي عربي، بل إن الموحدين الدروز عرب قبل أن يكونوا دروزا.

حالة وحيد البلعوس في السويداء شكلت مصدر إزعاج جدي لبشار الأسد وشبيحته وحلفه، فالرجل لعب دورا محوريا في مقاطعة أبناء السويداء للتجنيد في جيش الأسد، كما قام بدور مؤثر في التواصل والتوسط بين فصائل المعارضة السورية من جهة، وأهل السويداء من جهة أخرى، وقد استشهد البلعوس وهو يسير باتجاه المصالحة التاريخية بين درعا والسويداء لتوحيد الجهود والصفوف ضد إيران وبشار وداعش، وهذه المصالحة، لو تمت، فإنها ستشكل تحصينا نهائيا للجنوب السوري أمام تهديدات الشبيحة والإرهابيين والحرس الثوري، كما أنها ستؤسس مناعة وطنية ضد الطائفية والعنصرية والتطرف لصالح المواطنة، وكلنا ثقة وأمل بأن لا ينسى أنصار البلعوس حلم زعيمهم وقائدهم.

إن العقلية الفذة التي خسرتها سوريا برحيل البلعوس تعبر عنها بوضوح مقولته “نحن لسنا مؤيدين ولسنا معارضين، إنما نحن وطنيون نغار على وطننا وطائفتنا”، ويضيف الشيخ الجليل “الدروز معروفون بموقفهم الوطني، نحن حريصون على وحدة سوريا ونرفض التقسيم والتعدي على كرامة الناس من كل الطوائف، سنحارب الفساد وندافع على الأرض والعرض ضد كل المعتدين”، ثم يتحدث عن بشار الأسد “النظام لا يقيم أي اعتبار لنا، وفوق ذلك غدر بنا وأطلق علينا النار من الظهر، بشار يصفنا بالإرهابيين بينما يصف رجاله الفاسدين بالوطنيين، وكرامة الجبل أهم من بشار الأسد نفسه”. ويشرح حال منطقته الغاضبة “أقام النظام حواجز في مناطقنا بحجة حماية المواطنين، لكن تلك الحواجز أهانت النساء وأطلقت النار على العزّل وسرقت المحروقات والأغذية، والرئيس الذي يعجز عن حماية المواطنين يجب أن يرحل، والرئيس الذي يريد بيع وطنه يجب أن يرحل، لا نريد إسرائيل ولا نريد وطنا درزيا ولا نريد رئيسا يختلق المعارك المزيّفة ويمتهن تهريب الدخان والمخدرات ويقوّي داعش بشراء المازوت منها بمئات الملايين، هو له إيران، أما نحن فسوريا أمّنا وسنعيش فوق أرضها بكرامة أو ندفن تحت أرضنا بكرامة، ومستعدون للذهاب إلى دمشق لإسقاط بشار الأسد، مع السلامة ما بدنا ياه”.

أبو فهد، الشيخ وحيد البلعوس، امتهن الزراعة والبناء رغم مكانته الدينية من أجل الرزق الحلال، أخطاؤه، كما يقول، أوصلته إلى الله فقد تعلم منها أن لا شيء ينفع إلا التقرب إلى الله. ويصف الثورة السورية بالطبيعية نتيجة عقود عانى فيها المواطنون بسبب الفساد وتسلط الأجهزة الأمنية وإذلالها للناس، وحين رفض النظام مطالبة الناس بالإصلاح والتجديد والتغيير كان لا بد من الثورة، وللأسف هناك من عمل على أن تكون سوريا مكسّر عصا للدول الكبرى ولتصفية الحسابات المذهبية التي يقدر عمرها بأكثر من ألف سنة، وفوق ذلك كله نُسيت فلسطين وضاعت مطالب السوريين المحقة في دهاليز الملفات الدولية، وحتى لا يساهم في إضاعة الحق أكد، مرارا، على رفضه لاستهداف مؤسسات الدولة التي هي ملك للشعب، كما أكد دائما رفضه لكل أشكال التطرف والإرهاب، وعن علاقة الدروز بغيرهم يقول “نحن نحرّم التعدي منا ونحرّم التعدي علينا، وقد عاش المسلمون الدروز مع غيرهم من الأديان والمذاهب لمئات السنين بلا تفرقة، وتقاسمنا الحياة والمخاطر والأرض، وانضوينا جميعا مع بقية الطوائف تحت راية زعيم الثورة العربية سلطان باشا الأطرش الذي رفع شعار “الدين لله والوطن للجميع″، ونبّه البلعوس إلى أنه لم يتعاط مع أحد في الخارج وأن سنده الوحيد هو الله ثم الشعب، والدليل الناصع على ذلك معركة الكرامة (داما) التي أذل من خلالها نظام الأسد على حد وصفه.

انضم وحيد البلعوس إلى نجوم بني معروف، سلطان باشا الأطرش وكمال جنبلاط، في خدمة الحق والمعالي والكرامة، ولعل استشهاده يعلن هزيمة فادحة للنظام بانتفاضة السويداء نصرة للثورة وإسقاط الأسد فتنبلج سوريا التي حلمنا بها جميعا كوطن مستقر ومزدهر وعادل وحر، وإن غاب بلعوس فالسويداء والدروز في جعبتهم ألف بلعوس، رحمه الله وأسكنه فسيح جناته، إنا لله وإنا إليه راجعون.

اقرأ المزيد
١٠ سبتمبر ٢٠١٥
لاجئون ومهاجرون.. ومع حق العودة

ندفع باباً مفتوحاً، حين نتحدث عن صعود أحداث اللاجئين، ومعظمهم من السوريين، إلى مرتبة القصة الأولى عالمياً، فلا شك أن كل ما يتعلق بهم صار الشغل الشاغل للهموم السياسية والإعلامية، أوروبياً وعربياً، وإلى حد ما عالمياً. وارتبط الصعود بتكرار حوادث الغرق المأساوية لمن ركب منهم زوارق التهريب، بقصد دخول أوروبا، أو لمن مات داخل شاحنة التهريب في النمسا، ما أدى إلى انفجار التعاطف الإنساني عند جماهير المتظاهرين في أكثر من بلد أوروبي، وخروجهم في مظاهراتٍ ترحب بقدوم اللاجئين. كما انعكس في قرارات حكومات غربية، تميزت في مقدمتها ألمانيا والنمسا، وفيها قدمت تسهيلات جديدة لدخول اللاجئين واستيعابهم. وبلغت قمة ذلك التعاطف أوجها، بعد نشر صورة الطفل السوري الغريق (عيلان) والتي تحولت إلى رمز عالمي لمأساة اللاجئين، ارتفع التعاطف معه إلى مرتبة اليقظة الأخلاقية الجديدة، والتي دفعت موجات رفيعة من التضامن مع أوضاع اللاجئين، تمثلت في مبادرات فردية غزيرة، وتعبيرات تظاهرية ممتدة إلى جانب تضامنات عديدة من مؤسسات المجتمع المدني الأوروبي والكنيسة الكاثوليكية وغيرها، ثم برزت في إلغاء الحكومة الألمانية الشرط الأساسي (بصمة دبلن) أمام دخول اللاجئين، وتخصيص ستة مليارات يورو لاستيعابهم، الأمر الذي تبعته قرارات أوروبية أخرى، ترحب باستيعاب مزيد منهم، وإن لم ترق إلى المستوى الألماني، لأسباب اقتصادية واجتماعية متوفرة.

هكذا، يبدو أن المجتمع الدولي، والأوروبي الغربي تحديداً، استيقظ أخيراً، وهو يحاول القيام بواجبه تجاه قضية اللاجئين، والذين صار قسم منهم مهاجرين، راغبين في حياة ومستقبل أفضل لهم ولأولادهم، بعد أن عانوا الأمرّين في بلادهم الفاشلة، إلى جانب القسم الأعظم من اللاجئين الذين خرجوا من بلادهم، وخصوصاً منها سورية، هاربين من الموت والعنف اللامحدود، فضلاً عن الإهانة والذل، وكل أشكال الحيونة المبتكرة لمليشيات الأنظمة. صحيح أن هذه اليقظة، وخصوصاً على مستوى الحكومات، تستجيب مستقبلاً لحاجات اقتصادية واجتماعية، لا تخفى على الملاحظين، ومنها تباطؤ النمو الديمغرافي والحاجة إلى اليد العاملة في البلدان المعنية، وأنها تخضع مجدداً لاعتبارات تمييزية، مثل اشتراط رئيسي بلديتين فرنسيتين قبول اللاجئين من الديانة المسيحية فقط. لكنها، في الواقع، وفي هذه اللحظة، تأتي استجابة لضغط أخلاقي، قام به الرأي العام والمجتمع المدني الأوروبي قبل كل شيء.
"علينا ألا نغفل عن مأساة السوريين في الداخل الذين صارت حياتهم جحيماً مستمراً، تحت رحمة شبيحة النظام وغلاء تكاليف البقاء على قيد الحياة"

وإذا كان من الطبيعي أن نتساءل عن أسباب تأخر هذه اليقظة الأخلاقية وانتظارها الطويل، بعد آلاف الغرقى والموتى والمهانين والمتسولين، حيث تستمر المأساة السورية منذ أكثر من أربع سنوات، وحيث قتل النظام أكثر من 300 ألف سوري، ويعتقل ما يماثلهم أو أكثر، كما دمّر حوالى نصف عمران سورية، وأرجعها إلى ما خلف حياة القرون الوسطى، بمشاركة أو توزيع أدوار مكشوف مع صنوه الجديد الداعشي، وبدعم حثيث وعلني من حليفيه، الإيراني والروسي، وتحت سمع العالم وبصره، إذا كان من حقنا أن نتساءل، فيمكن لنا أن نلاحظ أن هذه اليقظة لم تتحرك، إلا بعد أن اخترق اللاجئون حدود أوروبا وبموجات جماعية، وأن إعلام النظام وحلفائه نجح سابقاً في إيقاظ فوبيا الإسلام، ودمجها بفوبيا الإرهاب الجديدة التي ساهم بعض ثوارنا ومعارضينا بردود أفعالهم العفوية والغريزية في تعزيزها. كما لنا أن نعترف بتأثير الصورة البسيطة، لكن الحاسمة، للطفل السوري الغريق عيلان، إلى جانب صورة موتى شاحنة التهريب، في مقابل الفشل المريع لإعلام الثورة والمعارضة في التكرار النمطي والجزئي والغرق في المبالغات السوقية في أحيان كثيرة.
وفي هذا المجال، يمكن القول: حسناً، تحاول أوروبا أن تقوم بواجبها تجاه اللاجئين. لكن، علينا ألا ننسى أن هذا الواجب مازال محدوداً تجاه الملايين الأخرى التي تعيش في المخيمات، أو ما أشبه بالمخيمات في كل البلدان حول سورية، وأن حياة هذه الملايين تدهورت في جميع مستوياتها الإنسانية، خصوصاً في فقدان تعليم أطفالها أو انحدار ما هو متحقق منه، ما يثير أسئلة خطيرة حول مستقبلهم وتطلعاتهم، وما يمكن أن يجعل منهم وقوداً لردود أفعال، لا يستبعد أن تكون الجريمة والإرهاب شر مستفيدين منها. لكن ذلك كله لا يجوز أن يدفعنا إلى نسيان التساؤل الأكثر أهمية، والذي يبدو أن العالم، وأوروبا في مقدمته، يتناسيانه، وهو أن قضايا اللاجئين، أو المهاجرين، إنما هي مجرد نتائج ينبغي معالجة أسبابها، أولاً وأخيراً.
حسناً، إذن، هناك يقظة تجاه قضايا اللاجئين، والسوريين منهم خصوصاً، ويعبر العالم بذلك عن عجزه تجاه حل المشكلة السورية، أو هو يعبّر عن ملله منها، وينصرف إلى معالجة المشكلات الراهنة على حدوده، وهي أمور إنسانية لا يجوز تأخيرمعالجتها، على طريقة أن تأتي متأخراً خير من ألا تأتي أبداً.
لكن، من الضروري أن لا يدفعنا ذلك إلى إغفال أن النظام السوري، وحلفاءه ووجوهه المتعددة، هم أصل البلاء وسببه المستمر، فهم الذين أنتجوا مشكلة اللاجئين، وسينتجون المزيد منها، طالما تأخر حل المشكلة السورية، وطالما وجد فيها المتدخلون واللاعبون الدوليون استثماراً ومصلحة ما. كما أن علينا ألا نغفل عن مأساة السوريين في الداخل الذين صارت حياتهم جحيماً مستمراً، تحت رحمة شبيحة النظام وغلاء تكاليف البقاء على قيد الحياة، وشظف عيشها في ظل العنف المستشري، والذي أضاف له داعش وأشباهه جحيماً آخر فوق جحيمه.
الغريب إلى درجة النكتة السوداء في هذا المجال، وإلى درجة الوقاحة السافرة، أن مسؤولي النظام وحلفاءه ينتقدون، علناً وبصورة رسمية، الحكومات الغربية على تقييدها دخول اللاجئين، ويطالبونها بمزيد من التسهيلات أمام ذلك، كأنهم متفرجون، ولا علاقة لهم ولا مسؤولية، بينما هم عملياً يرتكبون جريمة التطهير الطائفي، في دفع ملايين الشعب السوري، وهم غالباً من طائفة محددة، إلى اللجوء والهجرة خارج سورية، بينما ينبغي جرّ هؤلاء المسؤولين، ومحاسبتهم على تلك الجريمة أمام محكمة الجنايات الدولية في أقل تقدير.
وقبل ذلك كله، ينبغي التأكيد على أن هؤلاء اللاجئين، أو المهاجرين، هم مواطنون سوريون لهم حق العودة إلى بلدهم، حالما يفتح طريق التغيير، وحالما تنتهي المحنة التي أجبرتهم على اختيار ذلك الطريق.

اقرأ المزيد
١٠ سبتمبر ٢٠١٥
شرق أوسط بلا عرب؟

 نحن شعوب الخِيَم وقوارب الموت، لمَنْ نترك الشرق الأوسط «الجديد»؟ هل يعرف الجواب باراك أوباما المنشغل بحفلات البيت الأبيض، بعد اطمئنانه إلى كسر معارضة «المشاغبين» في الكونغرس الاتفاق النووي مع إيران؟ هل يدرك الجواب فلاديمير بوتين النائم على حرير الانتقام من عقوبات الغرب، الشامت بالأوروبيين القلقين من طوفان اللاجئين السوريين؟

شرق أوسط بلا عرب؟ هل يكون نهاية للحرب العالمية التي يخوضها الروس والإيرانيون والأتراك والأميركيون و«الأطلسيون» و«داعش» وأبناء «القاعدة»... كل على طريقته وبوسائله؟

بعد ربع مليون قتيل في سورية، يصرّ الكرملين على إعادة تأهيل آلة الحرب الوحشية في يد نظام ما زال مقتنعاً بإنقاذ نفسه، ولو بيعت سورية للروس والإيرانيين. هم يكفلون الترويج لبقائه وتعويمه شريكاً في الحل... رغم كل المجازر. مع ذلك، يوهمنا الإيرانيون بأنهم لا يريدون إلا السلام، وهو لوقف القتل يفرض- في معزوفة علنية- شراكة وطيدة مع القاتل، ما دامت الأولوية وقف بطش «داعش» وفظائعه. مَنْ يقرأ تصريحات الرئيس الإيراني حسن روحاني ونصائحه للأوروبيين، لا يستخلص سوى السخرية من كل التضحيات التي قدّمها الشعب السوري ثمناً لحريته. في الظاهر، يرأف به، فيما يجدد شرايين القاتل.

للقاتل وجهان معروفان، وأي ترف يريده السوريون الآن في البحث عن الديموقراطية؟ ألم يتعلّموا درس البراميل؟ الأولوية الآن لوقف القتل، يقول روحاني ويتجاهل ان إيران وليست جزر القمر هي التي زوّدت النظام السوري كل ما يلزم ليواصل حرب الدمار الشامل. وإذ يشير إلى انفتاح على التعاون مع الأوروبيين لإيجاد حلٍّ منتهزاً ضغط طوفان اللاجئين على القارة «العجوز»، يكمل المرشد علي خامنئي ان لا تفاوض مع الأميركي في الملفات الإقليمية.

شرق أوسط بلا عرب؟... من ليبيا إلى سورية والعراق، مشرّدون ونازحون ولاجئون، أدركوا أن المتناحرين على السلطة والمتصارعين على النفوذ، لا يطيقون رؤية الخِيَم. فيها احتمالات البطش كثيرة. في الشرق الأوسط «الجديد» كتل بشرية لن تبقى في مناطقها وأقاليمها، لذلك لا تتوقف رحلات المشرّدين عبر البحر المتوسط.

حلم السوري والليبي والعراقي التائه بين الحدود الضائعة وبحور مهرّبي البشر، هو الخروج من جحيم الوطن ... في حرب عالمية- عربية كل شيء فيها مباح. مِنْ صورها البائسة ان يجعل أوباما الأولوية لقتال «داعش»، فيما يترك السوريين لمصيرهم وغارات البراميل المتفجّرة. ولكن، ما العلاقة بين قتل بالذبح والتفجير، وآخر بالإبادة؟

ومن قذارة الحرب أن يضع بوتين قواته في حال تأهب متحدّياً الحلف الأطلسي بجسر جوي مصغّر، لإنقاذ النظام السوري بقاعدة عسكرية في اللاذقية. ولكن، هل من الديبلوماسية أن يستغل الكرملين انشغال الرئيس الأميركي برحلاته واحتفالاته، ليفتح الأجواء السورية لطائراته؟ لعله لا يدرك ما وراء انزعاج واشنطن، وأنها فقط تخشى «مواجهة» مع الروس الذين يصرّون على أولوية مكافحة الإرهاب، كما يكافحه النظام في دمشق.

كلهم يقاتلون «داعش»، لكن غالبية الضحايا مدنيون، ضحايا للتنظيم والنظام ولحلفائه. المفارقة أن يجد بعض الساسة في طوفان اللاجئين واستمراره المرجّح، ما يقرّب «داعش» من الانتصار. صحيح ان تفريغ الأرض في الشرق الأوسط «الجديد»، سيتيح للتنظيم قدرة أكبر على ابتلاعها، لكن الصحيح أيضاً أن الاتحاد الأوروبي لم يجد في بداية الحرب على الشعب السوري، سبيلاً للحل سوى ممالأة الأميركي ومواجهة النظام بالبيانات والأسى... والانتظار.

واضح أن إدارة أوباما ليست في وارد خوض مواجهة عسكرية مع موسكو بسبب تعزيز ترسانة النظام السوري وإنقاذه، بالتالي لا رادع لروسيا في استكمال انتزاعها ورقة «تسوية» ما في سورية، بعد تعديلها ميزان القوى على الأرض. وإلى أن تعدل الوقائع، تفريغ المدن والقرى مستمر، ومعه الطوفان العراقي- السوري- الليبي- الـ...

شعوب بلا دول ولا خِيَم؟ إنه جحيم الشرق الأوسط.

اقرأ المزيد
١٠ سبتمبر ٢٠١٥
إيران وإسرائيل والأسد و «داعش» تشقّ دروب اللاجئين

تُرك السوريون لمصيرهم، يمارس نظام بشار الاسد ضدّهم كل ضروب الإبادة والإجرام والتدمير، فهذا حاكمٌ يقتلع شعبه اقتلاعاً على مرأى من العالم. وقبلهم تُرك العراقيون لمصيرهم، فرّوا أولاً من بطش نظام صدّام حسين، وهُجّروا أيضاً بفعل الاحتلال الاميركي والحرب الأهلية التي اشتعلت في ظلّه ثم بفعل الارهاب «القاعدي» فـ «الداعشي». كذلك الليبيون متروكون الآن لمصيرهم، فمَن لم يدفعه نظام معمر القذافي الى الهجرة تولّت الميليشيات طرده باسم «الثورة». وقبل هؤلاء جميعاً تُرك الفلسطينيون يتشتتون في كل أصقاع الأرض بعدما اصطفت دول «العالم الحرّ المتقدم» لمباركة الاحتلال الاسرائيلي والجرائم التي ارتكبها لاقتلاع السكان من بلداتهم وبيوتهم. ومع هؤلاء جميعاً كانت «حروب الآخرين» في لبنان اضطرّت كثيرين من أهله لركوب البحر الى قبرص ومنها الى كل مكان. وكاد اليمنيون ينجون من هذه المحنة، رغم سوءات نظام علي عبدالله صالح، إلا أن الحوثي، عدوّهم الداخلي الآخر، شاء للبلاد مصيراً ايرانياً بات صنواً للخراب المتعمّد.

تعدّدت الأسباب والمنفى القسري واحد، فإذا الطغاة يتناسلون ويتشابهون، من الاسرائيلي الى الايراني، ومن الصدّامي الى الاسدي والقذافي والحوثي/ «الصالحي». ووراء هؤلاء وقف الاميركي دائماً أكان يقود من أمام مثل جورج دبليو بوش وأسلافه أو من خلف كباراك اوباما، ووقف أيضاً الروسي أكان الاتحاد السوفياتي أو روسيا فلاديمير بوتين. ولم تكن قيادة الطغاة لتعني ولا مرّة حلَّ الصراعات والأزمات بل ادارتها لاستغلالها. هذا النهج الاستبدادي مستمر بلا أي تغيير على مستوى الدولتين الكبريين، متصارعتين أو متوافقتين، سرّاً أو علناً. فلا اوباما يستطيع الادعاء بأنه «رجل سلام» لأنه لم يحرّك جيوشه مفضلاً حروباً بالوكالة أقلّ كلفةً، ولا بوتين يستطيع أن يخادع بأنه يريد «اصلاح» النظام العالمي، فإصلاحه هذا بات مُختزلاً بالتمسّك بالأسد ونظامه لتقسيم سورية، وبافتعال حرب أهلية لتقسيم اوكرانيا. وعلى مرّ العقود تناوبت الدولتان على تعطيل القانون الدولي، فجعلا من الأمم المتحدة مجرّد كيان مشلول وعاجز.

لا مبالغة في القول أنه كان هناك دائماً بحث عن «شريعة غابٍ» ما مستدامة في الشرق الأوسط. فما يسمّى المجتمع الدولي لم يبالِ يوماً بـ «حماية المدنيين» الفلسطينيين، لا بموجب المعاهدات الملزمة لسلطات الاحتلال الاسرائيلي، ولا بأي قانون أو قرار لمجلس الأمن أو أي عُرف انساني. كانت تلك رسالة واضحة الى اسرائيل بأن أحداً لن يحاسبها، وكذلك الى الأنظمة المستبدّة التي شعرت بأنها محصّنة فتحوّلت مع الوقت الى عدو وسلطة احتلال داخليين. بل ان هذه الممارسة الدولية اللامسؤولة والمتهوّرة أقرب الى وصفة مدروسة لاستنهاض التطرّف والارهاب. لذلك حين أزف اسقاط تلك الأنظمة، بتدخل القوى الخارجية اياها كما في العراق وليبيا أو من دونها كما في سورية واليمن، ارتسمت اشكالية «الاستبداد - الارهاب» أمام الداخل والخارج معاً، لكن الخارج بدا أكثر تأهّلاً لتوظيفها والاستفادة منها.

فأميركا/ أوباما التي انسحبت من العراق مفتخرةً بأنها أقامت فيه «ديموقراطية» سرعان ما تبيّن أنها واقعياً سلّمت البلد الى ايران التي أعادت انتاج الاستبداد الذي اجتذب الارهاب الذي أعاد اميركا الى العراق لتجد ايران في انتظارها لتكون «شريكة» في محاربة الإرهاب الذي ساهمت مباشرة في انتاج نسخته «الداعشية» من خريجي «القاعدة» ومعتقلي السجون السورية والعراقية. أما روسيا/ بوتين فكانت طوال الوقت منسجمة مع الخط الايراني، لأن «الاستبداد - الارهاب» بالنسبة اليها ليس «جدلية» فلسفية بل معادلة تعني مضاعفة حاجة الأنظمة الى السلاح. ففي سورية، مثلاً، وجدت موسكو أن تلك المعادلة استشكلت أخيراً الى حدّ بات يتطلّب أن تستثمر فيها مباشرةً ولا تكتفي بتلبية حاجات النظام وتحصيل الفواتير من حليفه الايراني، لذلك كان شروعها في اقامة بنية تحتية لقاعدة عسكرية ثانية بمثابة تكذيب رسمي وفعلي لما ردّدته مراراً بأنها «غير متمسكة بالأسد»، وتكذيب أيضاً لما روّجته عن خلافها مع طهران التي ترفض الاعتراف بـ «بيان جنيف 1». الواقع أن روسيا وايران تفعّلان تحالفهما في سورية لتفرضا شراكتهما ونظام الأسد في «الحرب على داعش»، كونها أصبحت مدخلاً الزامياً الى «حلّ» الأزمة السورية.

ثمة مدخل إلزامي آخر انفتح أخيراً الى ذلك «الحلّ» عبر المهاجرين المتدفّقين على اوروبا. فبعدما تعهّدت الحكومات الاوروبية جميعاً لناخبيها بسياسات صارمة لمكافحة الهجرة غير الشرعية، ها هي ترضخ لضرورة استيعاب الهجرية القسرية من سورية والعراق. هنا أيضاً لعب ثنائي «الاستبداد - الارهاب» دوراً محورياً أشار اليه وزير الخزانة البريطاني بقوله إن المشكلة تكمن في «نظام الاسد الشرير وارهابيي داعش» ولا بدّ أن تُواجَه «في المنبع». لكن هذا التشخيص للمشكلة كان معروفاً قبل نحو عام على ظهور «داعش» كحليف ضمني للنظام، تحديداً منذ هدّد الاسد للمرة الأولى في لقائه مع أحمد داود أوغلو وزير الخارجية التركي آنذاك «بإشعال المنطقة خلال ست ساعات» (تموز/ يوليو 2011). كان هذا ردّه على كل العواصم الغربية التي دعته وقتئذ الى «اعلان اصلاحات جدّية وقيادة تنفيذها» (!) احتواءً للانتفاضة الشعبية التي كانت لا تزال في طورها السلمي. بعد أسابيع قليلة بدأ مسلسل الإخفاق الدولي في مجلس الأمن، ولا يزال مستمرّاً.

كان الفشل الدولي الأول في استجابة استغاثة المتظاهرين المطالبة بـ «حماية المدنيين»، فلا «القانون الانساني الدولي» المعني بأبسط حقوق الانسان ولا قرار «الاتحاد من أجل السلام» كانا كافيين لاقناع روسيا والصين بالامتناع عن استخدام «الفيتو» لوقف جرائم يومية موثّقة. وأدّى اليأس من توفير تلك «الحماية» الى المرحلة التالية، أي عسكرة الصراع، كما سعى اليها النظام معتقداً بإمكان حسمها سريعاً لمصلحته، وبدأت مجازره المتنقّلة بين المناطق تدفع بالمهجّرين الى الداخل والنازحين الى الخارج. أما الفشل الدولي الأكثر خطورة فارتكبه الاميركيون عندما أغرقوا المعارضة وداعميها في متاهة جدالات عقيمة حول المعتدلين الممكن تسليحهم والمتطرفين غير المرغوب فيهم، وحول الخشية من التنظيمات الارهابية وإمكان وقوع الأسلحة في أيديها. ولم تبدّل واشنطن ذرائعيتها العدمية رغم تراجع أحوال المعارضة ميدانياً، بل حتى بعدما أدّت الهزائم الى وقوع المحظور بانتشار «داعش» وتوسّعه.

ليس معروفاً في أي رواية كانت واشنطن تكذب، أفي تحذيرها المسبق من ظهور الارهاب أم في حربها عليه، أم في كليهما؟ تذهب «نظريات المؤامرة» الى أن اميركا تعتبر «داعش» من تداعيات حربيها على الارهاب والعراق ومن النتائج التي توقّعتها من ادارتها للأزمة السورية. اذاً، فلا عزاء لأوروبا المربكة حالياً في ادارتها لـ «غزو» المهاجرين، وقد لمست أخيراً مردود التقصير في مواجهة نظام الاسد وحلفائه. واذا كانت حكومات اوروبا غلّبت أخلاقياتها الانسانية على اعتباراتها السياسية الداخلية إلا أن ترحيبها البطيء والمتأخّر باللاجئين يعيد الى الأذهان ممارسات مشابهة سابقة تجاه شعوب اخرى، اذ يرى كثيرون في فتح أبواب نذيراً بأن نهاية أزمة سورية ليست في الأجل المنظور.

في أي حال، ثمة حكومات اخرى لم ترَ ضرورةً للتمتع بفضيلة الصمت طالما أن الأخلاقيات تعوزها: اذ لم تتردد طهران، كأي طرف مراقب ومحايد، في حثّ الاوروبيين على القيام بـ «الواجب الانساني» ازاء المهاجرين. فيما تنكّر بوتين نفسه بزيّ «الشبّيحة» ليقول أن هؤلاء لم يهربوا من سورية بسبب نظام الاسد. أما الجدل الاسرائيلي فكان نموذجاً انحطاطياً بامتياز، سواء من جانب زعيم المعارضة اسحق هيرتزوغ الذي دعا الى استقبال لاجئين سوريين متجاهلاً أن ثمة لاجئين فلسطينيين استولت دولته على أرضهم وحقوقهم بل ان فلسطينيين فرّوا من مخيمات سورية وترفض دولته لجوءهم الى مناطق السلطة الفلسطينية، أو من جانب رئيس الحكومة بنيامين نتانياهو ووزرائه الذين هرعوا الى رفض دعوة هيرتزوغ كما لو أن اللاجئين يتزاحمون على المعابر الحدودية.

اقرأ المزيد
٩ سبتمبر ٢٠١٥
السويداء مع الأسد أو ضمن دولة درزية

اغتيال الشيخ وحيد البلعوس دعسة زائدة أقدمت عليها أجهزة أمن النظام السوري ولها تداعيات كبيرة على علاقته بالمكون الدرزي المتركز جنوب البلاد، لكنها لا تصل إلى الدرجة التي قد تحدث قطيعة نهائية في علاقة الطرفين، والمقدّر أن تنتهي الأزمة بينهما بصياغة عقد جديد للعلاقة يمنح الدروز بعض التسهيلات وهامشاً أكبر في إدارة أنفسهم.

على عكس ما يتصور الكثير من المتحمسين الذين راهنوا على انضمام السويداء للتمرد على حكم الأسد، فإن تفحص الواقع في شكل عقلاني يثبت أن القضية أعقد من ذلك بكثير وأنها تخضع لاعتبارات كثيرة يندمج فيها الحل السوري النهائي وتشابكات الأزمة السورية الإقليمية والدولية بإضافة إلى تعقيدات الخريطة السورية المذهبية والسياسية.

على الأرض تبدو السويداء مرتبطة بدرجة كبيرة بنظام الأسد لدرجة يستحيل الانفكاك عنه، حتى أن السويداء نفسها لا تستطيع فعل هذا الأمر في الظروف الراهنة وحاجتها للنظام تبدو أكبر من حاجة الأخير لها رغم أنها تؤمن له وظائف إستراتيجية مهمة لحماية خاصرة دمشق من الجنوب ووظائف دعائية تنطوي قي إطار مزاعمه بحماية الأقليات ووحدتها ضد ما يسميه «الإرهاب التكفيري».

في تفاصيل تلك العلاقة المعقّدة، يتكشّف أن كل المنظومة القتالية التي تأسست في السويداء، والمقدّرة بحوالى عشرة آلاف مقاتل، تأسّست بغرض محاربة الطرف الأخر وجرى دمجها ضمن فعالية وجهود منظومة الأسد، وتأسست عقيدتها القتالية على مبدأ حماية السويداء من الجماعات المعارضة» التكفيرية»، وهي تشكيلات أشرف النظام على تدريبها وتسليحها وبناء هيكليتها، وبالتالي فإن أمر الانفصام عنه أشبه بالمستحيل، بل إن الضغط في هذا الاتجاه من شأنه إحداث انقسام داخل المكون الدرزي قد يفضي إلى حرب أهلية داخلية، وذلك لوجود تيارات ترى في التصادم مع النظام تناقضاً ثانوياّ لا يصل إلى حد التناقض الجوهري مع الكثير من تشكيلات المعارضة الإسلامية.

من جهة ثانية، تبدو السويداء أكثر محافظات سورية ارتباطاً بالنظام الذي يؤمن لها كل الخدمات ويوظف شريحة كبيرة من أبنائها داخل أطر الدولة ويؤمن تالياً أسباب معيشتهم، فالمحافظة لا تحتوي على مشاريع استثمارية مهمة ولا تملك أراضي زراعية كافية لتحقيق شيء من الاكتفاء الغذائي الذاتي، حتى أن مصادر مياه شربها تأتي من درعا، ولا يوجد بدائل جاهزة لتأمين هذه الحاجات في هذه المرحلة.

اللأهم من كل ذلك سلهمت السنوات الماضية برفع مستوى التعقيد في العلاقات بين السويداء وجيرانها في محافظتي درعا والقنيطرة وحتى الريف الدمشقي، صحيح أن الأمور بقيت مضبوطة بدرجة كبيرة، لكن من دون وجود قنوات تواصل بين الطرفين إضافة إلى انعدام المشتركات بينهما، وهذا الأمر يصعّب بدرجة كبيرة حصول نقلة نوعية في علاقات السويداء، من علاقة مع النظام، حتى ولو كانت حذرة ومتوترة في الفترة الأخيرة لكنها تمتلك أطر وقنوات تواصل ومصالح متبادلة، إلى علاقة مع طرف عملت سنوات خمس على زيادة الريبة والشك بل والقناعة أنه يشكل خطراً وجودياً على المجتمع الدرزي.

تشكّل هذه الاعتبارات أساس حسابات الدروز في الخيارات التي سيتبنونها لحل أزمتهم مع النظام، ونظراً لقلة البدائل المتاحة سيرجحون البقاء على شكل معين من العلاقة مع النظام حتى نضوج بدائل أخرى، وأهم هذه البدائل تأكدهم من ذهاب سورية نهائياً الى التقسيم حينذاك قد يذهب الدروز إلى خيار الدولة الدرزية تحت مظلة إقليمية ودولية، وبخاصة أن بعض الترتيبات لهذه الدولة قد بدأت تتمظهر على شكل علم الحدود الخمسة وبنية قتالية يتم التجهيز لها لحماية هذا الخيار، مع العلم أن ذلك أيضاً لن يتحقق من دون توافق إقليمي شامل ذلك أن هذه الدولة سيكون لها تأثيرات إقليمية نظراً لتوزع الدروز على كامل منطقة بلاد الشام وسكنهم في مناطق متجاورة ومتواصلة بين سورية ولبنان وفلسطين.

لا يستطيع دروز سورية الثورة على نظام الأسد كما يشتهي وليد جنبلاط وكما يرغب معارضو نظام الأسد السوريون، هذا الأمر فات أوانه ولم يعد ممكناً تحقّقه، الوقائع على الأرض تبدو طاردة بقوة لمثل هذا الاحتمال، الدروز اليوم أمامهم خيار واحد إجباري التنسيق مع نظام الأسد تحت غطاء البقاء تحت ولاية الدولة السورية، إلى حين نضوج بدائل أخرى لم يأت وقتها بعد، على الأقل في هذه المرحلة.

اقرأ المزيد

مقالات

عرض المزيد >
● مقالات رأي
٥ مايو ٢٠٢٥
حكم الأغلبية للسويداء ورفض حكم الأغلبية على عموم سوريا.. ازدواجية الهجري الطائفية
أحمد ابازيد
● مقالات رأي
٢٤ يناير ٢٠٢٥
دور الإعلام في محاربة الإفلات من العقاب في سوريا
فضل عبد الغني - مؤسس ومدير الشبكة السورية لحقوق الإنسان
● مقالات رأي
١٦ يناير ٢٠٢٥
من "الجـ ـولاني" إلى "الشرع" .. تحوّلاتٌ كثيرة وقائدٌ واحد
أحمد أبازيد كاتب سوري
● مقالات رأي
٩ يناير ٢٠٢٥
في معركة الكلمة والهوية ... فكرة "الناشط الإعلامي الثوري" في مواجهة "المــكوعيـن"
Ahmed Elreslan (أحمد نور)
● مقالات رأي
٨ يناير ٢٠٢٥
عن «الشرعية» في مرحلة التحول السوري إعادة تشكيل السلطة في مرحلة ما بعد الأسد
مقال بقلم: نور الخطيب
● مقالات رأي
٨ ديسمبر ٢٠٢٤
لم يكن حلماً بل هدفاً راسخاً .. ثورتنا مستمرة لصون مكتسباتها وبناء سوريا الحرة
Ahmed Elreslan  (أحمد نور)
● مقالات رأي
٦ ديسمبر ٢٠٢٤
حتى لاتضيع مكاسب ثورتنا ... رسالتي إلى أحرار سوريا عامة 
Ahmed Elreslan  (أحمد نور)