لماذا لا نسمع عن احترام إرادة الشعوب في أوروبا والبلاد المتقدمة؟ ولماذا لا يطنطن بها الزعماء في الغرب، كما يحدث في العالم العربي، ليمنوا على شعوبهم بأنهم طوع أمرهم، وإن إرادتهم ستنفذ عندما يشيرون؟ تقفز هذه الأسئلة إلى الذهن، عندما تستمع إلى الرئيس السوري بشار الأسد، وهو يقول إنه مستعد للتخلي عن السلطة في بلاده، عندما لا يحظى بتأييد الشعب، وعندما لا يمثل المصالح والقيم السورية، كما أردف قائلاً إن الرئيس يأتي إلى السلطة بموافقة الشعب عبر الانتخابات، ويتركها إذا طالب الشعب بذلك، وليس بسبب قرار من الولايات المتحدة أو مجلس الأمن الدولي أو مؤتمر جنيف.
كما تستدعي الدبلوماسية الروسية الشعب أيضاً عند الحاجة، للحفاظ على أحد الأوراق التي كادت تحرق، أو على وشك ذلك، فقد صرّح دميتري بيسكوف الناطق الصحافي باسم الرئيس الروسي، يوم 16 سبتمبر/أيلول الجاري، "منذ بداية الأزمة السورية، كررت روسيا على مختلف المستويات أن الشعب السوري وحده يمكن أن يقرر مستقبله عبر إجراءات ديمقراطية". فالشعب السوري وحده من يقرر، هكذا يزعمون. ولكن، أين هذا الشعب؟ هل تستطلعون إرادته في وسط الأمواج التي تغرقه في وسط البحر، أم ترون نظرات الرضى في عينيه، وهو واقف على أبواب أوروبا يستجدي الولوج إلى منجى من الموت.
ومن الواضح أن فكرة التغني بإرادة الشعوب سلاح كل طاغية أو دكتاتور. وفي مصر، مثلاً، وقبيل مسرحية الانتخابات الرئاسية عام 2014 لترسيم زعيم الانقلاب رئيساً، وإضفاء شرعية مزيفة على الانقلاب العسكري، وفي رده على سؤال عمّا إذا كان يتوقع أن يخلعه الجيش إذا طالب المصريون بذلك، كما حدث مع حسني مبارك، قال عبد الفتاح السيسي: "سأجيب إجابة حاسمة: لن أنتظر حتى نزول الجيش. إذا رفضني الناس، سأقول: أنا تحت أمركم". وهكذا، فالطاغية تحت أمر الشعب. ولكن، من أصدق تعبيراً عن الشعب سوى الطاغية نفسه، فهو يرى ما لا يرون، وهو الذي يحدد متى يعبرون، وكيف يعبرون عمّا يجول بخاطرهم. لذا، يحتاج التظاهر لموافقة الدكتاتور.
أكد السيسي ذلك في مارس/آذار 2015 في حواره مع صحيفة وول ستريت جورنال
" من الرائع أن لدى كل دكتاتور القرار والمرجعية، فهو الذي يحدد متى يتنحى، وهو يحدد شروط تفهمه إرادة الشعب، فالقول النهائي والفصل لديه"
الأميركية، حيث قال إنه بمجرد الحفاظ على أمن مصر، سيترك الشعب يتظاهر ليلاً نهاراً، فهو الذي يتركهم يتظاهرون، عندما يرى في ذلك مصلحة مصر، والتي تختزل في مصلحة فرد.
ومن الرائع أن لدى كل دكتاتور القرار والمرجعية، فهو الذي يحدد متى يتنحى، وما شروط ذلك، فهو يحدد شروط تفهمه إرادة الشعب، فالقول النهائي والفصل لديه، كما أن الحديث عن إرادة الشعوب لا تظهر إلا عندما تنعدم وسائل التعبير عنها، فإذا وجدت الوسيلة لا تجد من يتحدث عن الاستجابة لرغبة الشعب، لأن الاستجابة تصبح حتمية وليست برغبة الحاكم. لذا، لن تسمع عبارات الرضوخ لرأي الشعب في الدول الديمقراطية، لأنها تتم بصورة بدهية، مسلمة منطقية غير قابلة للجدل.
وعندما ضاعت إرادة الشعوب في انتخاباتٍ لا تعدو أكثر من ديكور، أو أدوات تجميل، صدع الشعب بقوله الشعب يريد، لأن إرادته ضاعت في الصناديق معلومة النتائج، وهذا ما رأيناه في ثورات دول الربيع العربي.
الشعوب التي تسرق إرادتها قد تصرخ في صمت، بالعزوف عن المشاركة في ديكورات الديكتاتوريات المسماة الانتخابات. لذا، رأينا في مصر لجان الانتخابات الرئاسية في عهد الانقلاب خالية بلا مشاركين، في حين وقف الشعب نفسه، عام 2012، في طوابير طويلة، من الصباح إلى الليل، ليدلي بصوته، وهو لا يعلم النتيجة مسبقاً قبل فتح باب الترشيح، فقد استرد الشعب المصري إرادته ثلاثين شهراً، ثم سلبت منه مرة أخرى.
لا يرى الدكتاتور إرادة الشعب، إلا من خلال رغباته وطموحاته، فبشار سورية لا يرى ضياع أكثر من ثلثي بلده، ولا يرى ملايين اللاجئين والمشردين، وما زال ينتظر رؤية إرادة الشعب التي تنادي بخلعه، وسيظل السيسي في مصر لا يرى آلاف الشهداء والمعتقلين والشباب الذين يخرجون في مظاهرات تنادي بخلعه ومحاكمته، وبصورة يومية، مدة فاقت العامين بلا كلل، فمتى تسترد الشعوب إرادتها؟
تحولت سوريا للساحة الأفضل ، لكل العالم لتصفية الحسابات ، تقديم التنازلات ، و كذلك المكان الجيد للقاء و الربط و إعادة العلاقات ، حتى باتت مكاناً يحدد القرب و البعد سياسياً ، براغماتياً ، إيدلوجياً ، إقتصادياً ، ثقافياً ، وحتى تحدد مقدار الإنسانية ، الوحشية ، السلام .
ومن تفرقهم ساحات المعارك المختلفة في العالم ، تجمعهم سوريا ، و كذلك العكس صحيح ، باتت الجسر و ساحة الفصال ، بين الجميع .
مع إعلان وزارتا الدفاع في أمريكا و روسيا ، عودة الوئام للعلاقة بينهما و التأكيد على استمرارية التواصل معاً لأجل التنسيق بين البلدين عسكرياً ، بعد طلاق اوكرانياً ، بغية تحقيق نوع من الضمان لعدم حدوث أي صدام بين القوتين على الأرض السورية ، و طبعاً ليس الصدام المدروس ، و إنما التسمية كانت واضحة "صدام غير المقصود" ، فكلا الطرفين سيعمل على أجندته الخاصة ، و لكن يجتمعان في وحدة الهدف هو عدم ارساء السلام في هذه الرقعة الجغرافية .
تتسارع التصريحات الروسية و التناغم الأمريكي ، و بعض الأصداء الأوربية ، حول أن الحل ، الذي بات بحكم المتفق عليه ، والأمور تسير بإتجاه شاء من شاء أو النهاية لمن أبى ، و المتمثل أن الأسد يبقى بهكلية نظامه و قوام قواته المتعددة الجنسيات ، على رأس الحكم ، و يتم دمج من يرغب من المعارضة سياسية كانت أم عسكرية في هذا القالب القديم المحدث ، وتتوحد الجهود ضد "داعش" التي باتت العدو الأول للجميع .
فاليوم بعد أن تحولت سوريا لساحة للتذخير العالمي و رمي العتاد و المقاتلين ، بات من اللازم على المتحاربين أو ينظموا صفوفهم حتى لا يدخلوا بصدام "غير مقصود" ، تتأخر جهودهم في اقتسام ماتبقى من فتات الكعكة السورية .
و يبدو أن الروس و من خلفهم الإيرانيين ، و كذلك الأمريكان قد أوجدوا القناعة التامة أن الأسد بات مقلم الأظافر و لم يعد قادر على الإيذاء أكثر ، وأن تهديداته تنحصر على المدنيين السوريين ، الذين يقعون في ذيل قائمة إهتماماتهم ، و يجب أن يتم التركيز على "داعش" التي وجدوا فيها الشماعة التي تنقذهم دوماً ، و بالطبع فـ"داعش" العدو ، بعد أن وأدت المظاهرات السلمية و اعتقلت مئات الآلاف و تحولت إلى وحش يقصف كل الرقع في سوريا ، و تستخدم كل الأسلحة و حتى الكيماوي كما حدث في الغوطة ، و كررته في مارع .
مع تدفق السلاح والضباط والمعدات العسكرية المتطورة من روسيا لبشار الأسد، يقر جنرال أميركي بإخفاق أميركا في سوريا.
في جلسة بمجلس الشيوخ الأميركي أقر الجنرال لويد أوستن، أعلى قائد عسكري أميركي في الشرق الأوسط، بإخفاق خطة الإدارة الأميركية بتدريب مجموعة سورية متخصصة فقط، حصرًا وحكرًا، بمحاربة «داعش»، ولا غير «داعش»، في سوريا.
الجنرال أوستن ذكر حقائق تثير السخرية والعجب، حيث قال في حديثه أمام لجنة بمجلس الشيوخ الأميركي إن أول 54 ممن أنهوا برنامج التدريب هاجمهم مسلحو تنظيم القاعدة فور دخولهم سوريا في يوليو (تموز)، ولم يبق إلا نحو أربعة أو خمسة رجال! حتى حينه. وهناك من غاب الخبر عنه في الفوضى السورية.
هذا عنوان صارخ لضياع الرؤية الأميركية في أخطر أزمة أمنية في العالم، وهي الأزمة السورية، وسبب ضياع الرؤية هو «تحديدًا» عناد الرئيس الأميركي، أو لنقل إدارته، على صحة المقاربة التي يتناولون بها الأزمة السورية ومنطقة الشرق الأوسط كلها.
لدى أوباما ثقة غير مبررة ولا منطقية بصحة سياساته بالمنطقة، رغم كل النتائج الكارثية التي تمخضت عنها هذه السياسات منذ فترة ولايته الثانية، ليس آخرها أزمة اللاجئين السوريين التي هزت الغرب كله، وهددت دعائمه القانونية وحركة التنقل بين دوله، وتأشيرة «الشينغن نفسها» إحدى مفاخر اتحاد أوروبا. هناك حالة ضياع وتخبط تمر بها أميركا في عهد أوباما، ساقت الضرر لأميركا نفسها وحلفائها بكل مكان.
على الجانب الآخر، نجد أن روسيا بوتين، تتقدم بقوة بل بتهور، مستغلة هذا الضياع الأميركي - الغربي و«تحتل» سوريا، وهي تقول بوضوح: نحن هنا لمحاربة «داعش»، فقط، وإنقاذ الدولة السورية - انتبه ليس نظام بشار الأسد، بل الدولة السورية - كما يشرح لك بعبوس الوزير لافروف!
أليس هذا هو نفس هدف أوباما وبعض قادة الغرب؟! حصر العمل العسكري في سوريا بمحاربة «داعش»؟!
دعك من الكلام الرذاذي عن أنه لا مكان للأسد بمستقبل سوريا، فعلى الأرض لا تفعل واشنطن أوباما شيئًا لترجمة هذا الكلام.
خطورة هذا الاقتحام الروسي السافر لسوريا هو الإسهام في تأجيج الصراع الديني في سوريا، وتحويل الأمر لمواجهة شاملة بين الغزاة «الصليبيين» الذين يدعمون المسيحيين و«الباطنية» ببلاد الشام، في استعادة مدمرة لعصر الحروب الصليبية في بلاد الشام، الذي يفترض أننا عبرناه. ساعتها يصبح الأمر أكبر من قصة «داعش» التي يريد أوباما ومثله بوتين، مع اختلاف الدوافع، حصر الكتاب السوري في صفحتها.
هل يمكن أن يستيقظ العقل الأميركي من سباته القاتل؟
رد جيش الفتح ، ومن ضمنه حركة أحرار الشام ، على جميع المحاولات التي هدفت إلى إيقاع الضغينة و الشقاق بينها و بين جيش الإسلام ، و إنتفضوا مساندين انتفاضة الغوطة في فك الحصار عن نفسها .
بالأمس ظهر تسجيل ، نسب إلى قائد جيش الإسلام زهران علوش ، اُريد منه أن يتم زرع الشقاق بين الأحرار و الجيش ، و لكن الرد جاء أقوى ، وأعطى نتائج عكسية للباحثين عن التفرقة ، فأسرع علوش بإلغاء مضامينه و تأكيد متانة العلاقات بين الفصيلين ، وبدأ اليوم جيش الفتح بإرسال رسائل الدعم و المساندة الفعلية و الحقيقة الحقة ، لجيش الإسلام ، مؤكدين أن مهما فعل اللاعبون بدماء الثوار ، فلا مكان لهم .
والمساندة القادمة من الجيش الفتح تعتبر على درجة عالية من الأهمية ، فالضربات التي توجه لقلب المحتل الإيراني و طائفته في ريف إدلب ، تشكل صفعة ثانية للقتلة الذين يتعرضوا للإلم المبرح في قلب النظام في دمشق .
و يحمل هجوم اليوم من قبل جيش الفتح على الفوعة و كفريا ، وقبل أيام هجوم جيش الإسلام على النقاط المسببت بخنق الغوطة ، يحمل عدة رسائل قوية في الوقت الذي تتنازع فيه القوى العالمية و على رأسها أمريكا و روسيا على وأد الثورة و إعادة إنتاج الاسد ، كنظام و جيش ، على حساب الملايين الذين قتلهم و أخفاهم و شردهم .
التعامل الراقي ، والعميق فكرياً بين أكبر فصيلين ثورين ، سوريين ، خالصين ، يثمر اليوم تماذج لم نشهده في المساندة بين الشمال و الجنوب ، ولأول مرة لا تنجح مساعي لزرع الشقاق ، وتعطي نتيجة عكسية ، وهذا الأمر يبشر بالخير ، رغم كل ظلامية الجهود الدولية لإحباط أي وجود لتوحد حتى فكري أو عملياتي بين الفصائل الثورية السورية ، بل على العكس يسعى الجميع لتشتيتهم ، وزرع الشقاق بينهم ليبقى حال الثورة مراوحة في المكان في أحسن الأحوال ، ليكون قابلاً للتراجع في حال خالف الرغبات .
تشكل عبارة السيادة الوطنية واحدة من المكونات الأساسية في القاموس السياسي لآخر قلاع محور المقاومة والممانعة وفق ما تصفه به أدبيات ذلك المحور الذي تتزعمه طهران، والمقصود به بطبيعة الحال نظام دمشق، والذي بات في الآونة الأخيرة يكثر من استخدام هذه العبارة بشكل مبالغ فيه، ويرفعها جدارا حصينا أمام أي مسعى مهما كان جادا للوصول إلى حل مقبول بالنسبة لكافة الأطراف، بعد أن وصلت الحالة السورية حسب آراء المراقبين والخبراء إلى طريق مسدود، وينبغي وضع حد لهذا التدهور بعد أن تعذرت الحلول العسكرية التي كانت بعض الدول الغربية والعربية تراهن عليها لإسقاط نظام قمعي لم يتورع عن استخدام كافة الوسائل للحفاظ على كرسي الحكم، وقد أسقط في طريقه تلك أكثر من نصف مليون قتيل يضاف إليهم ملايين المشردين والعالقين على الحدود.
فقد رفض بشار الأسد أن يتقاسم السلطة في وقت مبكر وعندما كان ذلك الأمر متاحا مع المعارضة على اعتبار أنه يرفض التدخل في الشؤون الداخلية لسوريا، وأنه لا يقبل أن تفرض عليه أي أجندات خارجية، وقد كرر ذلك مرارا وتكرارا وفي كل ظهور إعلامي، وخلال فترات الرفض كانت المعارضة تتحول بالنسبة له إلى عملاء ومأجورين، وهو ليس مستعدا لا لتقاسم السلطة معهم بل حتى أنه يرفض فكرة التفاوض كليا، وإن كان وافق على الذهاب إلى مؤتمر جنيف 2 مصحوبا بدعم روسي كبير، فإنه كان عازما قبل ذلك على إفشال المؤتمر، وقلب الطاولة على الجميع، إذ لا يهم من يموت من السوريين، ومقدار الدمار الذي حل بالبلد، لكن المهم هو السيادة الوطنية مرة أخرى وأخرى.
وتأسيسا عليه فإن توغل عشرات الآلاف من المقاتلين الأجانب إلى سوريا، سواء معه أم ضده، وفقدان النظام السيطرة على كافة المعابر التي تربط سوريا مع الدول المجاورة، لا ينظر إليه على أنه انتهاك للسيادة الوطنية، بل على أنه جزء من المؤامرة الكونية. هذا إن أغفلنا، أصلا، الأجواء السورية المستباحة منذ ما يزيد على عام من قبل طائرات التحالف الدولي التي تطارد تنظيم داعش الذي يسيطر على مساحات واسعة من سوريا، وهذا الأمر كذلك لا يصنف على أنه انتهاك للسيادة الوطنية.
نظام دمشق تحول إلى بيدق في يد الدب الروسي يلاعب به خصمه الأميركي على أوراق كثيرة في المنطقة وخارجها
بالإضافة إلى الخروقات الإسرائيلية المتكررة التي تستطيع الوصول إلى أي منطقة تشاؤها داخل العمق السوري. وهذا الأمر، وللأمانة، ليس جديدا فقد حدث مرات كثيرة من قبل، بدءا من استهداف معسكر لتدريب إحدى الفصائل الفلسطينية في منطقة عين الصاحب قرب العاصمة دمشق، وصولا إلى مشروع ما يعتقد أنه مفاعل نووي كانت كوريا الشمالية تساعد على بنائه في منطقة الكبر قرب دير الزور في أقصى الشرق السوري، وقد ندد النظام السوري، وقتها، بتلك الغارات الإسرائيلية التي أصابت مقتلا في كل مرة، واعتبرها خروقات عدوانية، واستطرادا، ووفقا لأحد منظري النظام، قرصنة وسفالة إسرائيلية.
وعند هذا الحد كان يكتفي النظام ويتوعد بالرد في وقت وزمان مناسبين، ولكنه وأمام مطالب السوريين بالتغيير تحوّل إلى مقاتل شرس لا يقبل العبث بالسيادة الوطنية، واستعان بمن استعان بهم من حلفائه المقربين في محوره لتدعيم سيادته المزعومة فآل القرار العسكري لهم بادئ الأمر، ثم انتقلت الملفات السياسية والاقتصادية تباعا لتوضع في أيديهم، وليكون بشار الأسد محافظا لواحدة من المحافظات الإيرانية، كما قال مهدي طانب رجل الدين الإيراني المقرب من الخامنئي، والذي اعتبر سوريا محافظة إيرانية وينبغي الدفاع عنها، ولم يعد مستغربا، والحالة هذه، أن يتحدث زعيم ميليشيا حزب الله اللبناني، الذي يعتبر رأس حربة في المشروع الإيراني، عما يحدث في سوريا وكأنه شأن من شؤون الضاحية الجنوبية لبيروت التي يحتلها حزبه.
مؤخرا تحول نظام دمشق إلى بيدق في يد الدب الروسي يلاعب به خصمه الأميركي على أوراق كثيرة في المنطقة وخارجها، وحرصا منه على ألا تخرج الأمور عن سيطرته في أجواء الفوضى التي تعيشها سوريا، فإن فلاديمير بوتين لم يتأخر عن إرسال قواته العسكرية لتكون موجودة وبكثافة داخل الأراضي السورية بعد أن كان وجودها مقتصرا على بعض القواعد العسكرية الروسية، وبعد أن كانت روسيا تكتفي بتزويد النظام بالسلاح، قررت أن تقاتل على الأرض، وأن تفرض منطقها، على اعتبار أنها تخطط للخروج منتصرة، لكن تجربتها الأفغانية تقول عكس ذلك، وما علينا سوى أن نراقب.
وعلى الرغم من هذا الانجراف الكبير والانحدار الكارثي الذي وصلت إليه الأوضاع في سوريا، وعلى كافة الأصعد، وعلى الرغم من فقدان النظام القدرة على توجيه الأوامر العسكرية لقواته التي لم يبق منها شيء فعليا، إلا أنه لا يجد مانعا، بين الحين والآخر، أن يعود ليذكر الجميع بأنه لن يفرط بـ”السيادة الوطنية”، التي تحولت إلى لازمة ضرورية ترافق مفردات المقاومة والممانعة.
أثرت عقود التهميش والقمع الممارس من قبل النظام السوري على أي فعل سياسي، وبالتالي على تبلور معارضة جماهيرية فاعلة قادرة على إدارة الأزمات الحالية.
قدم الواقع السوري الجديد بالإضافة إلى “النظام وداعش” الطرفين الفاعلين اللذين يمتلكان استراتيجية واضحة ولكل منهما قيادة موحدة، وغرف عمليات عسكرية تقوم بمهام التدمير، طيفا صاخبا من المعارضات على سبيل التعداد؛ الائتلاف الوطني، تجمعات حزبية وشبه حزبية، معارضة داخلية معتدلة توافقية وغير توافقية، مجالس للعلماء، بقايا اتحادات التنسيقيات، كتاب وإعلاميون ووسائل إعلام، وتعدد ثوري “افتراضي”، بالإضافة إلى الناطقين الرسميين المرتبطين بفصائل ميدانية، ورغم الفارق الكبير فيما بينهم، إلا أنهم جميعا يواكبون الحدث في خطوات استباقية يقدمون البيانات والتحليلات، ويراكمون كما هائلا من المواقف والتصريحات بالصوت والصورة، فقد باتت الغزارة الكلامية جزءا لا ينفصل عن المسار السوري، في محاولة لتسييس الشارع وتعبئة الجماهير، لكن حجم الاستفادة السورية وخلق ردفاء خارج إطار إسقاط النظام بقي محدوداً وضعيفا نتيجة عجزهم عن الرؤية الشاملة للمعركة كما يراها النظام أو داعش.
سجلت الهيئات المعارضة السورية حضورها القوي في التأكيد على الاختلاف والتباين في القناعات والمنطلقات التي تحملها، فاختلفت الرؤى في تعليل ما جرى ويجري على الأرض السورية، إذ اصطف البعض إلى جانب السلاح مساهما في تأزيم الواقع المأزوم أصلا، وسلّم البعض تسليما مطلقا للقوى الخارجية، كما اختلفت في تحديد ما يجب صنعه في المستقبل، وتعددت رهاناتها بين من يراهن على دولة خلافة معتدلة “غير داعشية”، ومن يراهن على دولة مدنيّة بمرجعية إسلامية أو علمانية، ومن يراهن على دولة دستورية حديثة تاركا تفاصيل بنائها لحين قيامها. هذا التخبط الكبير في الرؤى والقيادات، وانعدام الرؤية الموضوعية للإمكانيات الذاتية السورية أنتج ضحالة سياسية وفكرية واضحة في امتلاك المعارضة، تحت أي مسمّى، لإرادة شعبية فاعلة تساهم في صناعة القرار ورسم المسارات الصحيحة لما يجري، ومحاولة وضع الخطط الأولية للسيناريوهات الممكنة للخلاص من متاهات الدمار، وبالتالي عدم امتلاك إمكانية السير باتجاه المستقبل.
الفوضى المعممة ستبقى معدومة النهاية في ظل توفر مشاريع متعددة تعمل على استئصال أحلام الشعب بالحرية والديمقراطية، وفي ظل غياب “المعارضة” القادرة على توحيد مطالبها على قاعدة بناء وطن للجميع، واتخاذ خطوات عملية لتقديم مشروع وطني سوري يقوّض أسس الدولة التسلطية، وينحّي المعارضات الأيديولوجية المغلقة. خطوات تكون بداية الطريق لاستعادة الكتلة المجتمعية الفاعلة من شرائح وفئات اجتماعية واسعة منفتحة على فكرة المجال الوطني العام، يتم من خلالها إعادة تشكيل معارضة مجتمعية وازنة قادرة على تغيير المسارات الدموية، فهذه الكتلة التاريخية المعارضة رغم هول النكبة ما تزال هي الأكثر قدرة على الفعل نتيجة اتصالها بالعمل الفكري والسياسة وتنوعها واختلافها وتمثيلها لمختلف الأطياف السورية، ما يجعل طابعها شاملاً يتطابق مع حدود الوطنية السورية، وتستطيع مواجهة فوضى الفصائل والميليشيات والأيديولوجيات العقيمة التي مزّقت النسيج الوطني، وتستطيع انتشال سوريا من موقعها كساحة للصراعات الإقليمية والدولية إلى موقع وطن وشعب يسير باتجاه دولة وطنية منشودة.
لم يعد الواقع السوري كما كان سابقاً، لكن حتى اللحظة، مع السعي الدولي لفتح ثغرة في جدار الحرب الوحشية السورية للتقدم نحو التهدئة، لم تمتلك المعارضة أي خطة إنقاذ سواء في مستوى التفاوض أو في مستوى تغيير موازين القوى على الأرض، ومازالت تسجل غيابها المجتمعي، وتغوص بمطالبها وتغرق في ارتباكاتها متجاهلة واقع المتغيرات التي يعيشها شعب سدّت في وجهه إمكانية إنهاء الصراع العبثي، حتى باتت الهجرة أمله الوحيد بالخلاص.
تقف روسيا على الحافة بين التزامها مقولة الكرملين الدائمة بوجوب التزام القانون الدولي وتشريع أي تدخل عسكري أممي في أزمات العالم، لا سيما في سورية، عبر مجلس الأمن، أو الانتقال الى اعتماد سياسة أحادية تستغني عن الغطاء القانوني الدولي، تحت شعار محاربة الإرهاب والقضاء على "داعش"، مع ما يعنيه ذلك من تصاعد في الصراع مع الولايات المتحدة الأميركية ودول الغرب.
فسعي موسكو الى حماية نظام الرئيس بشار الأسد وحماية مكتسبات نفوذها في الشرق الأوسط انطلاقاً من دورها هذا في سورية، من طريق زيادة تواجدها العسكري كما حصل في الأسابيع الماضية، يشكل رسالة أولى بإمكان تخلي موسكو عن مبدأ الغطاء الدولي تمهيداً للدخول في صراع مكشوف، لا سيما مع الولايات المتحدة الأميركية على الصعيد العالمي ككل. وإذا صح أن روسيا تتجه الى هذا المنحى فمعنى ذلك أن الرئيس فلاديمير بوتين حزم أمره للدخول في حرب باردة جديدة شاملة في مواجهة واشنطن وأنه سيتدخل حيث يستطيع ضد النفوذ الأميركي في القارات كافة.
قد يكون من المبكر الوصول الى هذا الاستنتاج، قبل أن يحدد بوتين نفسه استراتيجيته في خطابه بعد أيام في الأمم المتحدة، وقبل أن يتضح ما إذا كان نظيره الأميركي باراك أوباما سيلتقيه في نيويورك، لمعرفة نياته من وراء تصعيد وجوده العسكري في بلاد الشام.
صحيح أن بوتين، بموازاة تمسك الديبلوماسية الروسية بالغطاء الدولي لأي تدخل عسكري في الخارج، مارس سياسة التدخل العسكري المباشر من دون إذن او تشريع دولي مرتين، في جورجيا عام 2008 ومن ثم في أوكرانيا عام 2014، ما تسبب بعقوبات اقتصادية غربية تنهك اقتصاد روسيا وتتسبب بعزلتها، لكن هذين التدخلين بقيا في الميدان الحيوي الروسي شرق أوروبا، وفي دولتين تقعان على حدود بلاد القيصر. أما الانخراط المكشوف في سورية فله بُعد آخر لأنه ينزلق بروسيا إذا ازداد تورطها مع إطالة الحرب السورية الى استنزاف طويل الأمد قد يصبح شبيهاً بتجربتها في أفغانستان في ثمانينات القرن الماضي، ما أدى الى هزيمتها التي ساعدت مع عوامل أخرى في تفكك الاتحاد السوفياتي.
وبقدر النقاش الحاصل في واشنطن في جدوى لقاء أوباما مع القيصر إزاء الهجوم الذي يقوم به وسط معلومات عن أن الرئيس الأميركي يفضل الانخراط الديبلوماسي مع بوتين، هناك نقاش في روسيا حول جدوى الدخول في مواجهة كاملة مع الغرب لأن ظروف الحرب الباردة ولّت ولأن الاستقطاب العالمي تبدّل جذرياً لغير مصلحة موسكو، بدءاً من أوروبا، و حول عقيدة بوتين بالتدخل العسكري حيث تتوافر الإمكانات لحماية المصالح الروسية وإيصال الأمور الى حافة الهاوية على طريق استعادة الدور القطبي في السياسة الدولية.
يبقي بوتين على خيط رفيع مع الغرب وواشنطن بحجة أن دول الغرب تعطي الأولوية لمحاربة "داعش" في سورية وأن طائرات التحالف التي تقصف مواقع التنظيم بدأت بذلك بعد أن أرسلت تطمينات بأنها لا تهاجم مواقع جيش الأسد وأنها دربت عناصر معارضة معتدلة (265 عنصراً) شرط حصر نشاطته بمحاربة "داعش" وأن التمسك بشرعية الأسد بالنسبة إليه شبيه باعتراف الولايات المتحدة بشرعية الرئيس الأوكراني بيترو بوروشينكو على رغم التشكيك في نسبة الاقتراع خلال الانتخابات نتيجة الأزمة وانفصال القرم.
وإذا كانت حجة بوتين من وراء تعزيز وجوده العسكري في سورية هي الشراكة مع الغرب في محاربة "داعش" كهدف يلتقي مع دوله عليه، فإن هذه الحجة تفترض رغبة الدب الروسي في التوصل الى تسوية مع الولايات المتحدة على سبل إدارة الأزمة السورية، والحل فيها، استناداً الى البيان الرئاسي الصادر عن مجلس الأمن في 18 آب (أغسطس) الماضي استناداً الى خطة ستيفان دي ميستورا التي تنطلق من صيغة جنيف 2012، بقيام هيئة انتقالية تنتقل إليها كامل الصلاحيات. وإذا كانت هذه الصيغة هي الطرف الأخير من الخيط فإنها النقطة التي يمكن للخيط أن ينقطع عندها، والتي تختصر الكثير من عوامل الصراع الدائر بين الدولتين العظميين. وإذا كانتا تتفقان على أن بداية الحل السياسي في سورية ليست مشروطة بذهاب الأسد وأن نهايته ليست مرهونة ببقائه، فإن المسافة التي تفصل هذه عن تلك هي المشكلة، لأنها تبقي الحل معلقاً على تبادل للضغوط تحت غطاء اتفاق مزعوم حول سورية، هو في الحقيقة اتفاق على نقل الأزمة الى مستوى جديد من الصراع، يناسب بوتين أكثر مما يناسب الغرب، من دون الوصول الى نهاية الحرب.
تفيض وسائل الإعلام بمصطلح أصلي مع تبعية لازمة و ضرورية وأساسية ، ينتشران في كل نقطة على الشبكة العنكبوتية أو المرئية أم المسموعة ، "أزمة اللاجئين" و الإرتباط مع جنسية بعينها "السورية " .
أرقام مبعثرة ، صوراً تنثر في كل مكان و تنقلها رياح المغردين و الناشرين و العارضين ، و تشحذ فيها همم الإنسانيين ، وتجمع لأجلها الملايين ، تعقد لحلها القمم و المؤتمرات ، و تخرج التوصيات ، تُعدل القوانين ، وتزال العراقيل .
و في نفس الوقت ، تنتفض دول تبحث عن مكان لها في ساحة القرار و السيادة ، وأخرى تضرب طوقاً حول نفسها كأنها تصنع أمجاد التاريخ .
و لكن هل كل المهاجرين إلى أوربا و الواصلين هم لاجئين !؟
وهل كل اللاجئين أو المهاجرين سوريين !؟
الصور تشي بشيء غير الحقيقة ، المصطلحات المستخدمة ، التركيز على القضية ، جعل منها أمراً غير مستساغ ، ولا يعني لي أي نظرية من إفراغ سوريا أو خطف عقولها أو ... أو ... ، لكن الأهم هو خطف إسم سوريا من جديد ، و إدخاله في مزاد جديد ، تغيير البوصلة و الوجهة التي خرج من أجلها السوريين و قدموا مئات الآلاف من الشهداء و المغيبين ، و ملايين المشردين.
الذي يهم أن من بين أولئك المهاجرين ، مئات الآلاف من العراقيين و الأفغان و المصريين و الليبيين ، و كل ما يمكنه الوصول إلى الشواطئ الأوربية .
ولعل النقطة التي بحاجة لدراسة مستفيضة ، هل كل سوري وصل أو يصل إلى أوربا هو لاجئ من الظلم بالفعل ، أم أنه "شبّح" حتى ملّ ، و الآن جاء دور التنعم بحياة هانئة .
الذي يتجول في المدن التركية و الأردنية و اللبنانية و مناطق الشريط الحدودية و المناطق المحررة و المخيمات المبعثرة في كل حدب و صوب ، يجد ملايين اللاجئين الحقيقين ، و يجد المعاناة الحقيقة ، والألم الفعلي ، و العجز الكامل عن كل شيء ، ففي كل هذه الأمكنة ، لا يوجد من يملك بضع دولارات للطعام ، لا يجد قبعة تقيه حر الشمس ، ولا "سترة" تستره في الشتاء .
عذراً .. ليس كل واصل إلى أوربا بـ"لاجئ" أو "سوري" ..
يشهد الاتحاد الأوروبي موجة من المهاجرين غير الشرعيين، تعتبر الأكبر منذ الحرب العالمية الثانية، وتقدّر أعدادهم بمئات الآلاف في العام الجاري، وصاحبتها عشرات من المآسي الإنسانية الفظيعة، والتي قرعت بشاعتها وهولها وجدان الضمير البشري في العالم كله، احتل اللاجئون السوريون عناوينها العريضة، عبر قوارب الموت، حيث يقدمون، في رحلتهم الأخيرة، كل ما يملكون من المال، وأرواحهم أحياناً، قرباناً للوصول إلى "الحلم الأوروبي" كما يصفونه، بعدما انقطعت بهم سبل الحياة في بلادهم وبلاد اللجوء الأول، حاملين فيها القليل من المتاع، والكثير من الأمل بحياة أفضل في دول أوروبا الغنية، لينضموا بذلك إلى قوافل المهاجرين من أنحاء أخرى من العالم، والتي يبدو أن الإحصاءات الرسمية والتقديرات حول أعدادهم تشهد تفاوتاً كبيراً حتى الآن، حيث أفاد تقرير إحصائي للمرصد الأورومتوسطي، أخيراً، بأن حوالي 380 ألف مهاجر وصلوا إلى الأراضي الأوروبية هذا العام، ومن المتوقع أن تصل أعدادهم إلى نصف مليون مهاجر مع نهايته، بينهم 126 ألف لاجئ سوري. بينما قفزت توقعات الحكومة الألمانية الرسمية حول أعداد المهاجرين المتوقعة إلى البلاد العام الجاري من 400 ألف إلى 800 ألف مهاجر غير شرعي في ألمانيا وحدها.
أسباب الهجرة وأنواعها:
تعتبر الحروب والصراعات الجارية في بلدان عديدة في الشرق الأوسط، والاضطرابات الأمنية والحروب الأهلية في بلدان شمال أفريقيا وغربها، فضلاً عن أفغانستان، من أهم أسباب الهجرة الحالية، وهؤلاء يعتبرون لاجئين فرّوا من ويلات الحرب والاضطهاد في بلادهم الأصلية، ويمكن أن تنضم إليهم قوافل جديدة قادمة من شرق أوكرانيا، في حال تصاعدت حدة المعارك هناك. ومن جانب آخر، هنالك مهاجرون لأسباب اقتصادية، جُلّهم من الشباب، قادمون من بلاد غرب البلقان، مثل صربيا وألبانيا والبوسنة والهرسك، وجميعهم يتوسلون الوصول إلى الأمان والرفاه الأوروبي الغربي.
أوروبا وكابوس الهجرة والتفكك:
منذ بداية ظهور أزمة الهجرة الحالية، سادت حالة من الارتباك والتردد بين دول عديدة في أوروبا حول الطريقة المُثلى للتعامل مع الأعداد المتدفقة بالآلاف شهرياً من المهاجرين، والتي تزايدت معها حدة الاعتداءات والمعاملة القاسية التي تلقّاها هؤلاء في بلدان الممر (مقدونيا ـ هنغاريا ـ بلغاريا ـ اليونان)، فضلاً عن إعلان مقدونيا حالة الطوارئ في البلاد، ونشر قواتها العسكرية، من أجل التصدي لقوافل المهاجرين، وبناء المجر (هنغاريا) جداراً من الأسلاك الشائكة لمنع المهاجرين من التقدم عبر البلاد. أثار ذلك كله ردود فعل قوية من بعض القادة الأوروبيين، حيث اعتبرتها فرنسا "تصرفات مخزية"، كما أن رفض دول عديدة استقبالهم،
“ كشفت هذه الأزمة عن عمق الاختلال السياسي والاقتصادي بين دول شرق الاتحاد الأوروبي وغربه “
والقبول بمبدأ المحاصصة وتوزيعهم على دول الاتحاد، اعتبرته المستشارة الألمانية، أنجيلا ميركل، يُهدد "بانقطاع الرابط بين أوروبا والحقوق المدنية العالمية المرتبطة تماماً بتاريخها، والمبدأ المؤسس للاتحاد الأوروبي"، كما كشفت هذه الأزمة عن عمق الاختلال السياسي والاقتصادي بين دول شرق الاتحاد الأوروبي وغربه، من حيث بروز تناقضات حادة في طريقة التعامل مع الأزمة، وصعوبة التوصل إلى صيغة عمل مشتركة. ومن جانب آخر، اختفت ملامح الأزمة اليونانية واحتمالات خروجها من الاتحاد الأوروبي تحت الغطاء الكثيف لأزمة المهاجرين الحالية، بيد أنها، وللسبب نفسه، سوف تعود إلى الظهور، محمّلة بعبئها الاقتصادي الجديد، في حال فُرض عليها استقبال اللاجئين على أراضيها، وفق خطة المحاصصة المطروحة حالياً، كما أنه من المرجح عودة قوية للأصوات المطالبة بالخروج من "الاتحاد" في فرنسا وبريطانيا، بسبب الكساد الاقتصادي في كلا البلدين، وميل ميزان المكاسب الاقتصادية فيه، إلى بلدان بعينها مثل ألمانيا، والتي ارتفعت، في وقت سابق، مع صعود أحزاب يمينية رافضة للوحدة في تلك البلدان.
وفي الآونة الأخيرة، تزايد حضور الأحزاب القومية واليمينية المتطرفة على الأرض، وبالتالي،
“ رئيس الوزراء الهنغاري: في حال لم يتم اتخاذ إجراءات حازمة لإيقاف تدفقهم "سنجد أنفسنا فجأة أقلية في قارتنا “
العامل الاقتصادي ليس السبب الوحيد الذي قد يدفع باتجاه "تفكك الاتحاد"، فأزمة الهجرة الحالية من المتوقع أن يعطيها زخماً أوسع، في حال فشلت دول الاتحاد في معالجتها بطريقة ناجحة، خصوصاً بعد تنامي المخاوف "العنصرية" على هوية البلاد وديموغرافيتها، ولعل أبرزها كانت تصريحات رئيس الوزراء الهنغاري، فيكتور أوربان (4 سبتمبر/ أيلول 2015)، متوقعاً تدفق ملايين المهاجرين في العام المقبل، قائلاً: في حال لم يتم اتخاذ إجراءات حازمة لإيقاف تدفقهم "سنجد أنفسنا فجأة أقلية في قارتنا". كما أعلنت دول أخرى، منها سلوفاكيا، في أواسط أغسطس/ آب الماضي، عن استقبالها بطريقة "انتقائية" للمهاجرين المسيحيين فقط "بسبب الفوارق الثقافية" مع المسلمين، بحسب تعبير الرئيس السلوفاكي ميلوس زيمن. كما أن هذه الدول وغيرها ترفض الالتزام بخطة "التوزيع العادل" للاجئين في دول أوروبا، وكل هذا يؤكد غياب موقف موحّد وآلية عمل متفق عليها ومشتركة بين مختلف دول الاتحاد حول الأزمة الحالية، والتي قد تدفع نحو مزيد من التصدع في بُنية الاتحاد والعلاقة البينية بين مختلف مكوناته.
البحث عن حلول:
أدى ثقل الأزمة وأصداؤها المدوية في جميع أنحاء أوروبا إلى البحث عن حل يستطيع المواءمة بين حاجات أوروبا للمهاجرين في سوق العمل من ناحية، والتقليل من مخاطر استمرار التصدع الداخلي والمخاوف المتنامية من تدفق المهاجرين لدى بعض دول الاتحاد، من ناحية ثانية، وقد توجهت الأنظار نحو معالجتها عبر تعزيز التعاون الأمني المشترك مع "دول الجوار الأوروبي"، كما يجري الحديث عن تشكيل قوة أوروبية مشتركة لكشف شبكات تهريب اللاجئين والمهاجرين إلى أوروبا وتفكيكها، ومتابعة المرحلة الثانية من حملتها في البحر المتوسط، وتطبيق إجراءات مشددة لمراقبة الشواطئ وتفتيش السفن، فضلاً عن إقامة مراكز
“ تتجه ألمانيا التي استقبلت أكبر عدد للاجئين في أوروبا نحو الحد من تدفق المهاجرين القادمين من غرب البلقان بطريقة غير شرعية “
إيواء بتمويل من المفوضية الأوروبية في بلدان أوروبا الأمامية (إيطاليا واليونان)، لاستقبال اللاجئين في المرحلة الأولى، وإنشاء نظام لفرزهم وتوزيعهم منها إلى بلدان الداخل الأوروبي، ومعالجة "العيوب" في قوانين الهجرة المعمول بها حالياً، كما تتجه ألمانيا التي استقبلت أكبر عدد للاجئين في أوروبا نحو الحد من تدفق المهاجرين القادمين من غرب البلقان بطريقة غير شرعية، وإعادتهم إلى بلادهم باعتبارهم ليسوا لاجئين بفعل الحرب والاضطهاد. ولم تقتصر أطروحات التصدي ومعالجة الأزمة الأوروبية في إطار الداخل والحدود، بل امتدت إلى بلدان "المنبع"، فقد شملت اقتراحات تقديم الدعم الاقتصادي وتعزيز برامج التنمية في تلك البلدان، فضلاً عن اعتماد الاتحاد الأوروبي على نفوذه في غرب البلقان من الدول الأعضاء في "الاتحاد"، أو التي تسعى إلى الحصول على العضوية فيه، والضغط عليها لوضع برامج اقتصادية تحد من هجرة مواطنيها.
الخطة النمساوية:
جاء التطور الأبرز في سياق الحلول المقترحة في الخطة التي قدمها وزير الخارجية النمساوي، سباستيان كورتس، لمعالجة قضية اللاجئين (23 أغسطس/ آب)، وتشمل خمس نقاط أساسية، أهمها محاربة تنظيم داعش و(ضرورة أن يعمل الاتحاد الأوروبي على إنشاء مناطق حماية آمنة وعازلة في مناطق النزاع في الشرق الأوسط وأفريقيا). والنقطة الأخيرة قد تمثل انعطافة حقيقية في السياسة الخارجية للاتحاد الأوروبي، فهي، من جهة، تُنعش الآمال التركية والائتلاف السوري المعارض في إقامة "منطقة عازلة " في شمال سورية، و تُبشّر بموافقة حلف الناتو، أخيراً، على المطلب التركي بعد رفض طويل. ومن جهة ثانية، قد يُمهّد ذلك لدور أوروبي كبير ومؤثر في الملف السوري خصوصاً، والذي احتكرته سياسة التعنت الروسي والانكفاءة الأميركية سنوات مريرة من عمر الانتفاضة السورية، ويبدو أن أصداء الخطة النمساوية وصلت إلى بريطانيا، حيث قال رئيس الوزراء، ديفيد كاميرون، إن بلاده سوف تتعامل مع قضية اللاجئين "بما يمليه قلبها وعقلها في تقديم المساعدة لهم، والعمل لإيجاد حل على المدى الطويل للأزمة في سورية". كما أن الرئيس الفرنسي، فرانسوا هولاند، والذي يدعم إقامة منطقة عازلة في شمال سورية، قد أعلن، في 7 سبتمبر/ أيلول الجاري، عن مشاركة بلاده في عمليات التحالف الدولي ضد تنظيم داعش، واعتبر أن الحل السياسي في سورية يمر عبر حكومة انتقالية، لا وجود للأسد فيها.
قد تمثل هذه المواقف من القادة الأوربيين مؤشراً قوياً على توجه الأنظار نحو التعاطي بشكل أكبر في ملفات الشرق الأوسط، باعتباره مصدراً رئيسياً لأزمة المهاجرين التي تعصف بهم، وتفاقم من أزماتهم الداخلية ضمن جدران الاتحاد، بيد أن الطريق ما يزال طويلاً أمامها حتى تتبلور سياسة عامة للاتحاد، وليست مواقف منفردة من بعض الدول الأعضاء، الأمر الذي يُكسبها قوة دفع كبيرة وتأثير فعال في مجرى الأحداث في تلك الملفات، فحتى الآن لم يتم التوصل إلى خطة عمل موحدة للتعامل مع أزمة اللاجئين داخلياً والاتفاق على نظام التوزيع العادل، حيث اقتصرت الموافقة عليه من بعض الدول من أصل 28 دولة عضو في الاتحاد الأوروبي، ولعل القمة الأوروبية المرتقبة، في سبتمبر الجاري، سوف تحمل معها مزيداً من القرارات التي تكشف بطريقة أكثر وضوحاً، مدى عمق هذه التحولات المحتملة وجديتها في السياسة الخارجية الأوروبية.
شكلت أزمة اللاجئين الذين تدفقوا على أوروبا، في الأسابيع القليلة الماضية، اختباراً حقيقياً لمنظومة القيم الحداثية التي تحكم القارة العجوز، منذ بدء عصر التنوير في القرن السابع عشر. كما أنها كشفت، في الوقت نفسه، أن بعض البلدان الأوروبية لا تزال تعيش بثقافة القرون الوسطى المظلمة، فما تفعله دولة مثل المجر مع المهاجرين، والذي سيظل نقطة سوداء وعاراً في السجّل التاريخي لهذه الدولة، يتجاوز مجرد الخوف من تدفق المهاجرين، وما يحمله من تبعات أمنية واقتصادية، وإنما يصل الأمر إلى حد الكراهية والرفض المبدئي للآخر. وقد رأينا ذلك في طريقة تعاطي السلطات المجرية مع اللاجئين، والتي تراوحت بين الرفض والاستهجان إلى سحل آلاف من اللاجئين والمهاجرين واعتقالهم. ناهيك عن التصريحات العنصرية الواضحة لرئيس وزراء المجر، والتي تراوحت بين احتقار المهاجرين وامتهانهم إلى التحريض الديني ضدهم، وذلك حين قال إنهم يهددون "مسيحية أوروبا"، وكأن أوروبا لا تزال تعيش فى عصر الحروب الصليبية! أما الأكثر أسفاً وأسى، فقد كان موقف الشعب المجري الذي تعامل مع أزمة اللاجئين والمهاجرين بطريقة متعجرفة ومتطرفة. وموقف "امرأة الكاميرا" المجرية التي أعاقت بقدمها سورياً كان يحمل طفله، ويجري مذعوراً من الشرطة المجرية، نموذج مصغّر لهذه الطريقة.
في الوقت نفسه، إذا قارنا موقف المجر، حكومة وشعباً، مع أزمة اللاجئين والمهاجرين بمواقف حكومات وشعوب دول أخرى، مثل ألمانيا والنمسا، لوجدنا أنفسنا أمام صورتين مغايرتين لأوروبا. إحداهما صورة همجية وقروسطية وأخرى متقدمة وإنسانية. فما فعله ألمان ونمساويون كثيرون من ضغط ومظاهرات ومطالبات بضرورة استيعاب اللاجئين كان بمثابة تعويض، ولو جزئي، لهؤلاء المهاجرين، عما لاقوه من معاناة وصعوبات في أثناء رحلة الخطر والمجهول التي عايشوها، حتى وصلوا إلى أوروبا. وقد اضطرتبلدان أخرى، مثل بريطانيا وأستراليا وفرنسا، تحت ضغط أحزابها وشعوبها، أن توافق على استقبال آلاف المهاجرين، وأن تمنحهم اللجوء السياسي. ولولا هذا الضغط، لربما رأينا استجابة شبيهة لتلك التي اتبعتها المجر.
كشفت أزمة اللاجئين أيضاً أن الأزمة في سورية باتت تشكل تهديداً حقيقياً للغرب ولمجتمعاته، وذلك بعدما فشلت البلدان الغربية، وخصوصاً الأوروبية، في وضع حد للمجازر والجرائم التي يباشرها نظام بشار الأسد ضد السوريين. ولعل هذا ما دفع النمسا، وهي المعروفة تاريخياً بحيادها وعدم تحزبها في سياساتها الخارجية، إلى حث المجتمع الدولي على ضرورة وقف الحرب فى سورية. وقد بات من المسلّم به أنه كلما استمرت هذه الأزمة استمر تدفق المهاجرين واللاجئين السوريين على أوروبا، وهو ما لن تتحمله مجتمعاتها كثيراً، فقد بدأت بالفعل المعارضات اليمينية فى الضغط من أجل وقف استقبال اللاجئين والمهاجرين في بلدانٍ، مثل ألمانيا.
ولعل المفارقة أن بعض البلدان الغربية لا تزال تصم آذانها عن هذه الحقيقة، فعلى سبيل المثال، دعا وزير الخارجية الإسباني، خوسيه جارسيا، إلى التفاوض مع بشار الأسد. وكأن شيئاً لم يتغير، وكأن جارسيا لا يرى حجم الأزمة التي نجمت عن بقاء الأسد فى السلطة! في الوقت نفسه، لا يوجد ضغط أوروبي جاد على روسيا، من أجل تعديل موقفها من الأسد. بل العكس، لم تتحرك هذه البلدان، بعد الأخبار المتواترة حول الدعم العسكري الروسي لنظام الأسد، فضلاً عما كشفت عنه الصحافة الغربية، أخيراً، بشأن بناء روسيا قاعدة عسكرية وإرسال جنود روس لدعم قوات الأسد. بكلمات أخرى، لم تتحرك أوروبا لوقف الدعم الروسي المتواصل للنظام السوري، على الرغم من إدراكها عواقب ذلك ونتائجه.
ومع استمرار تدفق المهاجرين إلى الشواطئ والحدود الأوروبية، سيظل الصراع بين القيم والمصالح أمراً مؤثراً في رسم المشهد الأوروبي للعقود المقبل
لم تعد تقارير تعزيز روسيا وجودها العسكري في سورية، وتحديداً في مدينة اللاذقية، معقل نظام الرئيس السوري بشار الأسد، مجرد تكهنات، أو اتهامات مصدرها الاستخبارات الأميركية. فروسيا نفسها لا تتحرّج، اليوم، من تأكيد دعمها العسكري نظام الأسد في حربه على شعبه. بل قال وزير الخارجية الروسي، سيرغي لافروف، من دون أي مداراة أو مواراة: "كانت هناك إمدادات عسكرية، وهي مستمرة وستتواصل، ويرافقها حتماً اختصاصيون روس، يساعدون في تركيب العتاد وتدريب السوريين على كيفية استخدام هذه الأسلحة".
واستناداً إلى المعلومات الاستخبارية الأميركية، نشرت روسيا، في مطار اللاذقية العسكري، إلى اليوم، أربع طائرات هليكوبتر، وسبع دبابات روسية من نوع تي-90، فضلاً عن قطع مدفعية. كما تشير المعلومات إلى نشر 200 جندي من مشاة البحرية الروسية في المطار، بالإضافة إلى إقامة وحدات إسكان مؤقتة، ومحطة متنقلة للمراقبة الجوية ومكونات لمنظومة للدفاع الجوي. وحسب التقديرات الاستخبارية الأميركية، يعمل الروس على إقامة مركز عمليات جوية في سورية، وهم يجرون، في سبيل ذلك، تحسينات على المطار ومدرجاته، لكي يكون بمقدوره استيعاب طائرات أكبر حجماً في المستقبل. ويقول المسؤولون الأميركيون إن روسيا ترسل نحو طائرتي شحن عسكريتين يومياً إلى مطار اللاذقية.
تتوافق التحركات الروسية السابقة مع تأكيدات من مصادر عسكرية وسياسية في المعارضة السورية، من أن جنوداً روساً يقاتلون مع قوات النظام على الأرض، وأن التدخل الروسي المتصاعد في سورية يأتي في سياق حماية "الدولة العلوية" التي قد تنشأ على الساحل السوري، في محافظتي اللاذقية وطرطوس، وذلك في حال فقدان النظام سيطرته على ما تبقى في يديه من الداخل السوري، وتحديداً العاصمة دمشق. وطبعاً، في إنشاء "مَحْمِيَّةٍ" على الساحل السوري ضماناً لبقاء القاعدة البحرية العسكرية للروس في طرطوس، وهي آخر قاعدة عسكرية متبقية لروسيا في المنطقة وفي البحر الأبيض المتوسط.
ما سبق بعض ما تقدمه روسيا لحليفها الأسد، فماذا عن موقف الولايات المتحدة التي تصر، إلى اليوم، على أن الأسد فقد شرعيته، وعليه التخلي عن الحكم؟ الإجابة ليست سارة أبداً للشعب السوري وللمعارضة.
بالإضافة لإعلان إدارة الرئيس بارك أوباما، قلقها من التحركات الروسية، وطلبها توضيحات من موسكو، فإن أوباما اعتبر أن مضاعفة التدخل العسكري في سورية مؤشر على قلق الأسد ولجوئه للمستشارين الروس لمساعدته. وأضاف أن إدارته ستتواصل مع روسيا لتبلغها أن دعمها الأسد "محكوم عليه بالفشل". ولم تكد تمضي أيام على تصريحات أوباما تلك، حتى كان البيت الأبيض يعدّل من لهجته، ويناشد الروس التواصل "بطريقة بنّاءة مع الائتلاف الذي يضم
"إدارة أوباما شريك أساسي، إلى جانب روسيا وإيران ونظام الأسد، في تدمير سورية وسفك دماء مئات الآلاف من أبنائها"
60 بلداً، وتقوده الولايات المتحدة، ويركز على إضعاف تنظيم الدولة الإسلامية وتدميره في نهاية المطاف". ويوم الأربعاء الماضي، أعلن وزير الخارجية الأميركي، جون كيري، أن الإدارة تبحث كيفية الرد على اقتراح روسي بإجراء محادثات عسكرية بشأن سورية، بما في ذلك ضمان أن لا يقع صدام بين الطائرات الحربية الأميركية والروسية في الأجواء السورية.
تردد موقف إدارة أوباما في سورية وضبابيته ليسا وليد اللحظة. بل يمكن القول إن إدارة أوباما شريك أساسي، إلى جانب روسيا وإيران ونظام الأسد، في تدمير سورية وسفك دماء مئات الآلاف من أبنائها، وتشريد الملايين من شعبها، وتحويلهم إلى نازحين ولاجئين وطالبي لجوء على أعتاب دول المنطقة والدول الأوروبية والغربية الأخرى، دع عنك الضحايا الذين تبتلعهم البحار.
فإدارة أوباما هي من تضع، إلى اليوم، "فيتو" على تسليح المعارضة السورية بأسلحة ثقيلة ومتقدمة، بما في ذلك الصواريخ المحمولة على الكتف، للتصدي للطيران الحربي للنظام، بذريعة الخوف من "وقوعها بالأيدي الخطأ". وفي أتون الفوضى التي سمحت إدارة أوباما باستمرارها سنوات في سورية، تمددت "داعش"، فكان أن أعلن أوباما الحرب عليها، وأمر بتدريب آلاف من "المعارضة السورية المعتدلة"، لا للتصدي لنظام الأسد، بل للتصدي لـ"داعش". واليوم، وبعد عام من إعلان أوباما "استراتيجيته" لمحاربة "داعش"، نكتشف أن وزارة دفاعه لم تدرب سوى بضع عشرات من المقاتلين السوريين، في حين أن الخطة كانت تقضي بتدريب خمسة آلاف، على الأقل، في هذه المدة! أيضاً، إدارة أوباما هي من تعارض، إلى اليوم، إنشاء منطقة حظر للطيران، داخل سورية، لحماية النازحين من فظاعات البراميل المتفجرة التي يمطرهم بها طيران النظام، وبالتالي، لم يعد أمامهم من خيار إلا الاندفاع إلى خارج الحدود. المفارقة، هنا، أن الغرب، وتحديداً أوروبا، لم يتفاعل مع مأساة الملايين من اللاجئين السوريين، إلا عندما بدأ آلاف منهم يطرقون أبوابه عبر رحلات الموت في البحار، وها هم بعض الأوروبيين، اليوم، كألمانيا والنمسا وإسبانيا وبريطانيا، لا يرون بداً عن التفاوض مع الروس، والقبول ببقاء الأسد في السلطة ضمن "مرحلة انتقالية".
هذه حصيلة سياسات إدارة أوباما، "جعجعة" كثيرة حول فقدان الأسد الشرعية منذ عام2011، وضرورة تخليه عن الحكم، لأن بقاءه "مزعزع للاستقرار وغير إيجابي"، في حين أنها لا تقوم بشيء لتحقيق ذلك واقعاً، بما في ذلك التنحي من طريق آخرين من حلفاء أميركا ممّن يريدون تهيئة الظروف لإخراج الأسد، وإراحة سورية منه. في المقابل، تستميت روسيا وإيران في دعم نظام الأسد على حساب سورية التي تحوّلت أطلالاً من الخراب، ومقبرة جماعية لأبنائها. فما يهم روسيا وإيران هو بقاء "مَحْمِيَّةٍ" تابعة لهم، سواء في كل سورية، أم في بعضها، وهم "يطحنون" سورية كلها وشعبها، في سبيل ذلك.
قد تكون حسابات إدارة أوباما قائمة على أن سورية ساحة استنزاف لكل خصومها وخصوم إسرائيل، عرباً وأتراكاً وإيرانيين وروساً، غير أن تلك "الخِفِّة الاستراتيجية"، حتى في منظور كثير من أعمدة إدارتيه، عادت بالوبال على الاستقرار العالمي كله. فها هي "داعش" تهدد الغرب بالويل والثبور من هناك. وها هم اللاجئون السوريون يُعَرّون "إنسانية" الغرب. وها هي سورية أضحت ساحة صراع إقليمي ودولي بالوكالة، وقد تكون شرارة صدام عسكري بين الولايات المتحدة وروسيا. دع عنك أنها، اليوم، ثقب أسود، قد يمتص المنطقة كلها إلى أتون الفوضى، بما في ذلك إسرائيل.
لم يصدر اي رد فعل عن اي من الدول العربية ولا سيما منها المجاورة لسوريا على تعزيز روسيا وجودها في مناطق الساحل السوري وزيادة الدعم لقوات النظام. فهل يمكن ان تكون هذه الدول على بينة من الخطة الروسية في هذا الاطار خصوصاً ان موسكو شهدت زيارات عدة لمسؤولين عرب بارزين في الأسابيع الاخيرة عقب التوقيع على الاتفاق مع طهران على ملفها النووي وبحثت مع كل منهم في سبل تفعيل الحل لأزمة سوريا من دون ان تنجح في تليين مواقفهم من الرئيس السوري ومصيره؟
قد يقال ان الدول العربية نادراً ما عبّرت علناً وبصراحة عن مواقفها من مسائل حساسة ومهمة على غرار استيائها الكبير من المفاوضات السرية التي اجرتها الولايات المتحدة مع ايران حول ملفها النووي من دون اطلاع حلفائها ، وحصرت هذه المواقف عبر القنوات الديبلوماسية. وينسحب الأمر نفسه على الموقف من الخطوة التي أقدمت عليها روسيا بتعزيز وجودها العسكري في مدن الساحل السوري التي يسيطر عليها النظام جنباً الى جنب مع اعلان روسيا ان التنسيق مع بشار الاسد وحده يساعد على تدمير تنظيم الدولة الاسلامية. الا ان ما تم توافره من معلومات من سياسيين التقوا قادة عرب خلال الفترة الأخيرة يفيد بان الدول العربية المؤثرة قد لا تكون منزعجة من تعزيز روسيا تدخلها في سوريا، وهي لا تبدي حرصاً على مماشاة المواقف الاميركية المعلنة التي حذرت روسيا من تدخلها او رفعت الصوت من تداعيات هذه المسألة. لا بل ان هذه الدول لم تخف ارتياحاً مضمراً الى تعزيز روسيا حضورها انطلاقاً من ان واشنطن وخلال ما يزيد عن اربع سنوات من المناشدات العربية من اجل التدخل لوقف النزف السوري، خيبت آمال جميع حلفائها في هذا الاطار وهي لا تنوي وفق لما بات يعرف بعقيدة الرئيس الاميركي باراك اوباما في ما تبقى من ولايته التدخل من اجل المساعدة في انهاء الحرب السورية. وبقطع النظر عما اذا كان تعزيز الوجود الروسي العسكري سيساهم في ذلك اي ايجاد حل للازمة في سوريا او لا في هذه المرحلة على رغم ترجيح الاحتمال الثاني، فان واشنطن لا يمكنها التخلي عن المنطقة وخصوصا عن سوريا بعد ليبيا والتذمر في الوقت نفسه من ان يشغل آخرون الفراغ الذي كان ينبغي ان تشغله كقوة عالمية لها مصالحها الحيوية في المنطقة.
منطق ايران خلال العامين الماضيين تمحور حول هذا المنطق انطلاقاً من ان انسحاب اميركا من المنطقة دفع بايران الى محاولة احتلال ساحات وشغل حيز من هذا الفراغ. هكذا فعلت في العراق حين انسحبت قواتها تاركة لإيران الحرية بان تضع يدها على العراق ما تسبب بما حصل لجهة انطلاق تنظيم الدولة الاسلامية وسيطرته على مدن عراقية. وليس خافياً من ان كل التطمينات التي قدمتها واشنطن عن عدم ترك ايران متفلتة في المنطقة بعد توقيع الاتفاق النووي لا تشكل ضمانات للدول العربية التي تخشى خصوصاً بعد اقرار الكونغرس الاميركي الاتفاق النووي مع ايران وفي فترة انطلاق الانتخابات الرئاسية الاميركية تراخياً اكبر في ما خص نقاط الازمات في المنطقة . الا انه سيكون مثيراً معرفة رد الفعل الذي يمكن ان تبديه الادارة الاميركية والخطوات التي يمكن ان تتخذها ازاء الخطوات الروسية الاخيرة خصوصاً ان الرئيس اوباما سيكون معرضاً لانتقادات شديدة لتركه منطقة الشرق الاوسط لدول كبيرة اخرى ولروسيا بعد ايران من اجل ان تملأ الفراغ الذي تركه الانسحاب الاميركي منها نتيجة السياسة التي انتهجها ما سيترك تداعيات بالغة على المصالح الاميركية التاريخية في المنطقة. كما سيكون مثيراً معرفة كيف ستوظف روسيا قدراتها في سوريا وفي اي اتجاه ضد المعارضة تحت عنوان مواجهة الارهاب او ضد مواقع تنظيم داعش وهل سينقذ ذلك الاسد او نظامه؟
في الزيارات التي قام بها المسؤول الامني لدى النظام السوري علي المملوك لكل من جدة في تموز الماضي كما لمصر قبل اسابيع قليلة، سمع كلاماً واضحاً من الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي مماثلاً للكلام الذي سمعه من ولي ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان والذي يفيد بانه من غير الممكن وقف دعم المعارضة في سوريا من دول المنطقة ما لم يتخذ الرئيس السوري اجراءات تحسم وجود ايران و"حزب الله" في الاراضي السورية، اذ ان استمرارهما الى جانبه يعني استمرار المعارضة التي يدرك الاسد عدم قدرته على إزالتها بتجاهل وجودها او وسمها بالطابع الارهابي، وطلبه من الدول العربية وقف دعمها انما يعود لمعرفته بان الحرب ستكون طويلة وستستنزفه كلياً مع عجزه عن الطلب الى ايران والحزب الانسحاب من سوريا. ولذلك فان تعزيز روسيا وجودها يأخذ من طريق ايران في الدرجة الاولى بحيث يدخل عناصر جديدة على المعادلة المتحكمة بوضع الرئيس السوري ونظامه كما من طريق الولايات المتحدة في الدرجة الثانية وبدرجات اقل من سائر الدول الاقليمية المعنية بحسب المعنيين انفسهم، هذا اذا تم التسليم جدلاً بان افق الحلول ممكنة في المدى المنظور، وهذا ليس اكيداً. اذ يجزم السياسيون المعنيون انه على رغم انه يتم العمل على انعقاد جنيف من اجل ايجاد حل للأزمة السورية، فان هذا متوقع على المدى الطويل وليس قريبا على الاطلاق.