هجرة السوريين إلى أوروبا بأعداد غير مسبوقة تشغل الأوساط السياسية والاجتماعية في القارة العجوز، لكنها بالنسبة إلى الوطن الأم نوع من الاستفتاء انتهى إلى رفض الجهتين الحاكمتين، «نظام» الأسد و «لا نظام» الجماعات الإسلامية المتطرفة، وفي مقدمها «داعش» و «النصرة».
نقول «الوطن الأم» تذكيراً بأن كلمة «سورية» ممنوعة في الخطابين المتصارعين، البعثي والإسلامي، الأول يستخدم كلمة «القطر» لئلا تكون سورية وطناً منفصلاً عما تسميه الأدبيات البعثية (والقومية بالتالي) الوطن العربي، فـ «القطر» يشكل إطاراً جغرافياً موقتاً بانتظار أن يجد ديمومته في الإطار العربي الواسع. والخطاب الإسلامي السياسي يرفض مبدئياً فكرة الوطن ويعتبرها انتقاصاً من الانتماء إلى دار الإسلام، معتبراً «الأخوّة الإسلامية» حقيقة تاريخية وروحية تتعارض تماماً مع «المواطنة».
كأن سورية التي نرى حطامها ودم أبنائها المسفوك، لم توجد أبداً في نظر حكامها ومعارضيهم، وكأنها توجد للمرة الأولى في نعت المهاجرين بأنهم «سوريون». هناك ما يشبه المفارقة حين يجد المهاجرون السوريون اعترافاً بهويتهم في لحظة تهيؤهم للانتماء إلى أوطان أوروبية سيحملون جزءاً من هوياتها.
أما وقد وصل المهاجرون السوريون إلى أوروبا فسيُدركون أنها ليست جنّة الأرض، وأن مجتمعاتها التي أنشأت النهضة الحديثة وصدّرتها للعالم، تشكو من أزمات اقتصادية وارتفاع في معدّل البطالة. وأوروبا في الأصل قارة طاردة للسكان، وإن حدث ذلك أثناء الاكتشافات والمدّ الاستعماري، حين شكل أوروبيون الولايات المتحدة وكندا وأستراليا ونيوزيلندا، واستوطنوا في أنحاء كثيرة من العالم، كما في جنوب أفريقيا وبعض جزر الباسيفيك.
ولا تعتمد دول أوروبا إجمالاً التعددية الثقافية التي نجدها في الولايات المتحدة وكندا، فلكل دولة ثقافتها العميقة، وثمة فارق ثقافي واجتماعي بين اليونانيين والألمان والفرنسيين والإنكليز والإسبانيين وغيرهم من شعوب أوروبا التي تعتمد، لأسباب اقتصادية وسياسية، عملة موحدة وتلتقي في اتحاد له برلمانه وقراره السياسي، لكنها تفترق في شؤون أخرى كثيرة.
ويجب أن يعني كثيراً للسوريين المهاجرين قول المستشارة الألمانية انغيلا مركل إن تدفّقهم بأعداد كثيرة «سيغيّر ألمانيا، وهذا سيشغلنا في السنوات المقبلة وسيغيّر بلادنا، ونريد أن يكون هذا التغيير إيجابياً، ونعتقد أن بوسعنا تحقيق ذلك». كلام مركل الصريح عن المهاجرين الجدد الذين سيحميهم القانون، يؤدي إلى طرح قضايا لم تستطع الجاليات العربية والإسلامية التي سبقتهم حلّها بصورة واضحة. ويمكن اختصار هذه القضايا في اثنتين، الأولى مدى الاندماج في مجتمعات فصلت الدين عن الدولة منذ عصر النهضة، فهي تتقبل حرية الإيمان المتصل بأخلاق عابرة للثقافات، لكنها لا تتقبل تقديساً لنماذج من الحكم الشمولي ومحاولة فرضها على أوروبا، سواء بالانسحاب من حركة المجتمع أو بالهجوم على مؤسسات وأفراد يمارسون حرية في إطار القانون.
والقضية الثانية هي عجز المهاجرين عن تكوين رجال دين من الجالية يستطيعون تكوين خطاب إسلامي أمين لأصول الدين ومدرك لطبيعة المجتمع الذي يعيشون فيه، فما زال معظم رجال الدين الإسلامي في أوروبا يأتون من البلاد العربية والإسلامية، ويتسبب خطابهم ومرجعيته الحرفية في بلاد المنشأ، في شرخ الجالية إلى قسمين، الأول ينصرف إلى الاندماج بلا حدود والثاني يتفادى المجتمع أو يعاديه وربما يكفّره في بعض الحالات.
وفضلاً عن اليمين المتطرف القليل النفوذ حالياً في أوروبا، سيسمع المهاجرون أصواتاً شرقية وغربية لن تدعهم وشأنهم في تجربة عيشهم الجديدة، فهي تنغّص حياتهم وتُربك سلوكهم عن سابق تصور وتصميم، ومن الأصوات مثلاً لا حصراً، كلام الرئيس الهنغاري فيكتور أوربان عن تعرّض مسيحية أوروبا للخطر بسبب المهاجرين، وكلام رئيس الوزراء التركي أحمد داود أوغلو عن أن أوروبا عادت قلعة مسيحية، وقد نسي الرئيسان أو تناسيا موقف بابا الفاتيكان الإيجابي من استقبال المهاجرين الهاربين من عنف أعمى يعطّل حياة البشر.
منذ أكثر من عامين كنا نعلم عن دور النشاط العسكري الروسي في منع انهيار نظام بشار الأسد في سوريا، تحت اسم وخبراء ومستشارين وشحنات أسلحة لم تنقطع. التدخل الروسي حينها تزامن مع شبه غزو إيراني لسوريا لا سابقة له، حيث تولى جنرالاتها وقوات من حرسها الثوري معظم المهام القتالية على الأرض، مع جيش من ميليشيات مستوردة من حزب الله اللبناني، وأخرى أفغانية وعراقية. إرسال القوات الإيرانية كان للتعويض عن هروب أكثر من نصف جيش الأسد، وفقدان الثقة في النصف المتبقي، الذي لم يعد يزود إلا بالقليل من الذخيرة والوقود حتى لا يهرب بأسلحته. الروس كانوا في الخطوط الخلفية والإيرانيون في الخطوط الأمامية.
إذن ما الجديد؟
التقارير الأميركية الأخيرة أظهرت نشاطًا روسيًا جديدًا وكبيرًا، حيث أرسلت موسكو تطلب كميات كبيرة من أذونات المرور لقواتها الجوية لعبور الأجواء إلى سوريا، بما يوحي بجسر جوي ضخم. أيضًا، تم رصد جلب وحدات إسكانية كبيرة تستخدم للعسكريين الروس جرى شحنها لمناطق مثل اللاذقية، وخدمات لنحو ثلاثة آلاف عسكري روسي وقاعدة جوية.
والسؤال الأهم: لماذا؟
الروس يحاولون التقليل من خطورة نياتهم، بأنهم ليسوا بصدد غزو سوريا، وما يحدث استمرار لاتفاقية الدفاع الموقعة مع نظام الأسد في إطار التدريب والاستشارات ومبيعات السلاح. لكن الرقم والنشاط أكبر بكثير مما تدعيه موسكو، مما يجعل أفعالها أكبر من أقوالها!
قد ترى روسيا في الوضع الجديد فرصة ثمينة. فالحشد الدولي، والأميركي تحديدًا، لمقاتلة تنظيم داعش يفتح لها فرصة ستستغلها لتغيير الوضع القائم بشن حرب واسعة تقضي على المعارضة السورية الوطنية المعتدلة، وتصبح فيه القوات الإيرانية والروسية تسيطر بشكل تام على الوضع، والأسد أصلاً لم يعد سوى مجرد ورقة توت لأن إيران هي من تحكم سوريا اليوم. وموسكو تريد تحقيق ما فشلت في تحقيقه بترتيب حل سياسي، ومفاوضات هدفها دائمًا كان فرض عودة الأسد حاكمًا، نفس الهدف الإيراني الذي فشل خلال عامين من الحروب ضد كوكتيل من المعارضة المسلحة، وضد الجماعات الإرهابية التي تقاتل الجميع! ونظرًا لأن الحشد الدولي الذي بناه الأميركيون لا يهدف إلا إلى ملاحقة التنظيمات الإرهابية، فإن الروس والإيرانيين يريدون تصفية المعارضة الوطنية. والاستيلاء على سوريا المهمة جدًا لحكم العراق. وبالتالي، نحن على وشك الدخول في فصل جديد وخطير من الحرب السورية. ومحاولات واشنطن لإحراج موسكو بالكشف عن معلومات التدخل الروسي وطلبها من دول مثل اليونان عدم الإذن لطائرات النقل العسكرية الروسية بالمرور عبر أجوائها لن يوقف الروس والإيرانيين عن استغلال الحرب على «داعش» لصالح أهدافهم بالاستيلاء على سوريا.
لماذا يكون خطيرًا وسوريا فعليا اليوم بركة دماء ضخمة وساحة اقتتال لنحو مائتي ألف شخص من جنسيات مختلفة، يحاربون على الجانبين، مع نظام الأسد، ومع «داعش» و«النصرة» وغيرهما.
دخول روسيا كقوة محاربة في سوريا سيؤلب العالم العربي والإسلامي، ويعيد ذكرى أفغانستان. ستكون مثل السكر للذباب. سيدفع تدخلها بالمزيد من الآلاف من الشباب للانخراط في تنظيمات متطرفة إرهابية دفاعًا عن إخوانهم السوريين. ولن يعود حينها لدول، مثل الولايات المتحدة، حجة لإقناع العالم بمحاربة الجماعات المتطرفة. ولن يكون ممكنا طمأنة مخاوف دول الشرق الأوسط من الحلف الإيراني الروسي الذي يريد السيطرة التامة على العراق وسوريا ويهدد أمنها ومصالحها.
لقد استغل الإيرانيون رغبة الجانب الأميركي الجامحة طوال السنتين الماضيتين في مفاوضات البرنامج النووي بالتمدد في المنطقة وتوسيع الفوضى والحروب. حتى لا تفسد المفاوضات حرصت الإدارة في واشنطن على عدم مواجهة طهران، أو حتى انتقادها، وهي ترسل قوات لأول مرة خارج حدودها للقتال في هذين البلدين! ولو أن الصراع في سوريا بقي سوريًا سوريًا، لكانت الأمور قد حسمت منذ فترة طويلة، إما بتراجع نظام الأسد عن عناده والقبول بالحل السياسي، كما تصوره اتفاق جنيف الأول، أو بانهيار ما تبقى من النظام العليل الذي يمثل أقلية صغيرة من السوريين، وتشكيل نظام سياسي جامع لمكونات سوريا.
إنما بدخول القوات الروسية في الحرب السورية ستدخل المنطقة فصلا أوسع من الصراع.
للمرة الخامسة، يأتي العام الدراسي، بعد هبوب عواصف التغيير التي خلعت أركان دول ومجتمعات في منطقتنا، فما الذي تغير على صعيد الأنظمة التربوية والتعليمية بعد فاتورة الدم، وتعطّل الحياة في بعض دول الربيع العربي، وفي سورية نموذجاً؟
كان النظام التربوي في سورية، في العقود الماضية، جزءاً من نظام سلطوي خاص، اشتغل على أن يكون النظام التعليمي ركناً أساسياً من أركانه، يعدّ ويخرّج كوادر تخدم النظام القائم، وتعمل على تحقيق أهدافه، وتمكين سلطته وتسلّطه. تجلّى هذا النظام التربوي في أدوات إنتاج المعرفة ومؤسساتها مجتمعة، انطلاقاً من المراحل التعليمية الأولى، وصولاً إلى التعليم العالي، وذلك في المناهج التعليمية والتربوية، وفي طرق التعليم، وفي الإدارة التربوية والإشراف التربوي، بل حتى كانت العملية التعليمية ضمن الفصل الدراسي تجري، وفق النهج التربوي الشامل، إذ كانت علاقة الطلاب بعضهم ببعض، والعلاقة بينهم وبين مدرسيهم تقوم على السلطوية، كذلك علاقة المعلم مع الإدارة والتوجيه، هذا بالإضافة إلى شكل آخر من التسلط السافر، وهو السطوة التي تمارسها الأجهزة الأمنية، وفروع الحزب القائد وشُعبه، على سير العملية التربوية، حتى إنه توجد مكاتب فرعية للتربية في فروع الحزب، تتبع المكتب الرئيسي في القيادة القطرية. هذا الإشراف يمارس دوره القيادي في نظم العملية التربوية، وفي تعيين المديرين والموجهين والمدرسين ومديري التربية، وفي إعداد المناهج والكتاب المدرسي، وعلينا ألاّ ننسى الدور القيادي القمعي الذي كانت تمارسه روابط اتحاد شبيبة الثورة في المدارس، واتحاد الطلبة في الجامعات، حتى إن اتحاد شبيبة الثورة دخل بازار سوق المعرفة "الوطني"، واستحدث لنفسه مفاضلة خاصة للقبول الجامعي، يستفيد بموجبها الرفيق الشبيبي بعلامات إضافية، تخوّله الحصول على مقعد دراسي في فرعٍ، لم يكن مقبولاً فيه بمعدّل نجاحه، يرتفع هذا العطاء الاستثنائي، فيما لو كان هذا الشبيبي قد "قفز" في المظلة، فحقق بطولة خارقة، هي بمثابة طاقة كامنة، سوف تستثمر في مواجهة العدو الصهيوني ومقارعته.
ضمن تلك الشروط الناظمة للتعليم، كان التسلط، مفهوماً ونظاماً، يعيد إنتاج نفسه، وعليه، كان المتضرر هو الفرد والمجتمع. فالعملية التربوية والتعليمية تحتاج مناخاً من الحرية، واتكاء على الديمقراطية، وإلاّ فقدت فاعليتها الإنتاجية. يقول طه حسين في إحدى مقابلاته الصحافية: "المواطن الممتاز هو محصلة للتعليم والديمقراطية معاً، الديمقراطية شرط للتعليم وتوأم له، فالتعليم بلا ديمقراطية محوٌ للأمية لا أكثر، ومنهج ينتج تلميذاً ممتثلاً، لا يحسن الإرسال، ولا الاستقبال، كما لو كان موضوعاً للمعلم، لا ذاتاً تعرف الرفض والاختيار، إن لم يحسن الصمت والخضوع، عوضاً عن الحوار والشعور والكرامة".
هذا النموذج السلبي للتلميذ هو الغالب في المجتمع، وهو الذي كبر وأعطى المواطن المقموع المغيّب عن ذاته، والمسلوب القدرة على المبادرة أو الإبداع، وهو مسؤول، بدرجةٍ ما، عن فشل حركات التمرد وشللها وعجزها عن بلوغ أهدافها في التغيير، وأنتج، أيضاً، مجتمعاً مكوناً من مجموعة من الأفراد، متماثلين في نظم التفكير وأساليب الأداء، ومن تابع ويتابع الأفراد الضالعين بالقضايا العامة، منذ بدء الحراك الشعبي في سورية، يرى الموالين، كما المعارضين، لديهم الأسلوب الخطابي نفسه، ونهج التفكير نفسه، مع استثناءات قليلة طبعاً.
"الصورة القاتمة للتعليم في سورية قبل الأزمة تستفحل أكثر في ظل الواقع الرهيب الحالي"
يعود الموسم الدراسي، مرة أخرى، في ظروف بالغة السوء والتردّي، خصوصاً في المناطق المصنفة آمنة، بينما الواقع يظهر أن لا مكان بقي آمناً في سورية، فالكثافة البشرية الموجودة في هذه المدن والمناطق تفوق القدرة الاستيعابية للمدارس، كما أن الأبنية المدرسية هي، في الأساس، نموذج للترهل والفساد الإداري والحكومي، على الرغم من التنظيمات الهيكلية المتعددة والمتشعبة، ومن القوانين والتشريعات واللوائح التنظيمية، إلاّ أن واقع المدارس مزرٍ، فأعمال الصيانة والإصلاح مشلولة، والبنية التحتية والمرافق الملحقة بالمدارس مهلهلة، لا تليق بزرائب الحيوانات. لم يكن هذا الوضع مسؤولية الدولة بشكل مباشر فقط، بل بشكل غير مباشر، نتيجة للشكل التسلطي الذي كانت تقوم عليه العملية التربوية، والنهج القمعي والإقصائي، إقصاء التلميذ عن مجاله وعدم إشراكه في العملية. لذلك، كانت هناك نزعة انتقامية لدى التلاميذ، ولدى المواطنين عموماً، تجاه كل ما يمت إلى الحكومة أو النظام بصلة، ربما المظاهر الشائعة في المدارس والمؤسسات التعليمية من تكسير مقاعد أو خلع لمبات الإنارة أو تكسير صنابير المياه أو التعدي على المخابر، فيما لو وجدت، وتكسير الأبواب وغيرها من ممارسات الشغب، ليست أكثر من علامات احتجاج وتمرد، وصراخ بلغة أخرى، في وجه كل أشكال المظالم التي يعاني منها التلاميذ، أدركوها أم شعروا بها فقط.
كانت هذه الصورة القاتمة للتعليم في سورية قبل الأزمة، وهي تستفحل أكثر في ظل الواقع الرهيب الحالي. لكن هذا الواقع الذي تنتجه الأزمات تقدم له حلولها أيضاً، حلول تعيد إنتاج الواقع بشكل آخر، فمثلما يتحمل الشعب مفرزات الأزمة، ويقدم تجار الحرب البدائل، فإن الاستثمار في التعليم بات أحد الملامح الجديدة، والتي تنمو بسرعة ضوئية في الوقت الحالي. باتت المدارس الخاصة تتكاثر مثل الفطر في سورية، ابتداء من مرحلة رياض الأطفال، وحتى المراحل التعليمية العليا، تنافس فيها أصحاب الأموال، ومعظمهم من الأثرياء الجدد أو ممن استفادوا من غياب الرقابة والقانون، فحصّلوا رؤوس أموال على هامش الأزمة، وتقدموا بطلبات تراخيص، لإنشاء هذه المدارس، مستفيدين من الفساد المستشري، فصار في كل حي ما يفوق حاجته من رياض الأطفال، وصارت المعاهد والمدارس الخاصة تحلّ محل المدارس الحكومية، وبقي النظام التعليمي نفسه، وأسس التقدم للامتحانات في الشهادات، والقبول في الجامعات هو نفسه، مثلما بقيت النواظم والضوابط نفسها. وفي المحصلة، ما زالت المؤسسات التعليمية عاجزة عن إنتاج المعرفة، بل وبعيدة عن هذا الهدف، وكل التغيير الذي حصل هو تكريس التمييز، وترسيخ التباين الطبقي على أساس الفارق الوحيد بين المدارس الخاصة والمدارس العامة، وهو الناحية الفندقية والخدمية، بينما بقيت النظم التربوية انعكاساً للواقع السياسي القائم.
تدور الأحاديث والتحليلات والأخبار في موضوع موجة الهجرة السورية على حوافها بدل أن تدور حول سياقها الطبيعي. فالأخبار تنقل ما حدث هنا وهناك، وتغرق في الكلام عن المآسي، التي تخلفها موجة الهجرة من موت للسوريين في البحر المتوسط، وما يعانونه قبلها في الوصول إلى محطات الهجرة غير الشرعية في تركيا وليبيا وغيرهما، وفي وقوعهم أسرى عصابات الاتجار بالبشر والمهربين، وكيف يسلبون الراغبين في الهجرة أموالاً، تعبوا كثيرًا حتى جمعوها، فباع البعض كل ما يملك بأبخس الأسعار، واستدان آخر من الأهل والأصدقاء، وجمع بعضهم القرش فوق آخر، ليوفر مبالغ، يمكن أن تذهب سدى، وقد تذهب روحه معها. وإذا قيض له أن يصل إلى البر الأوروبي، فإن المعاناة تتواصل في فصول، تمتد من قوانين البلد العصية على الخرق إلى ممارسات رجال البوليس وعصابات قطاع الطرق وصولاً للنزعات العنصرية، التي أطلقها معارضو موجات الهجرة في الدول الأوروبية، وكله على أمل أن يجد المهاجر بلدًا، يوفر له فرصة إقامة بالحد الأدنى من حقوق الإنسان.
ويظهر جانب آخر على حواف موجة الهجرة، يمثله المواقف من الهجرة وخاصة الدول المنقسمة ما بين مؤيد ومعارض بشروط معينة، وتراوح المواقف بما فيها موقف السوريين بين الإشادة والاستنكار، والتي غالبًا ما تذهب فيها الأقوال إلى تفاصيل صغيرة، وربما إلى مفاصل تاريخية وثقافية وسياسية، يتم استعارتها للدلالة على صحة هذا الموقف أو ذاك، والاصطفاف في ظله تأييدًا أو شجبا.
وسط كم هائل من الأخبار والتحليلات والمواقف، يضيع الأساس الذي قامت عليه موجة الهجرة، التي لا يمكن أن نراها خارج ما جرى ويجري في سوريا منذ أكثر من أربع سنوات ونصف، بدأها نظام الأسد بإطلاق النار على المتظاهرين واعتقالهم، ثم دفع سياسته للهجوم على الحواضن الاجتماعية للمتظاهرين والمحتجين، قبل أن يلجأ إلى اجتياحها وتدميرها، وتهجير من تبقى حيًا من أهلها على نحو ما حصل في بانياس الساحل والقصير وعشرات المدن والقرى في أنحاء مختلفة من البلاد، فهيا الفرصة لنزوح السوريين وتشردهم، ثم جاءت المجازر وموجات الاعتقال الواسعة، لتدفع موجات النزوح الأولى نحو الدول المحيطة وسط تشجيع النظام فاتحًا حدوده بلا ضوابط لمغادرة السوريين، بل إنه شجع عملية النزوح للخارج، وخاصة للشباب والناشطين والمعارضين السياسيين بصورة عملية، وكثيرًا ما كان المعتقلون في الفروع الأمنية، يتلقون توجيهات بالمغادرة عند إطلاق سراحهم، بأنهم إذا عادوا إلى الاعتقال ثانية، فلن يخرجوا أحياء.
لقد جرى كل ذلك تحت سمع وبصر العالم كله، دون أن يحرك ساكنًا، مما شجع نظام الأسد على الاستمرار في سياسة تطفيش السوريين وإخراجهم من بلدهم. فأمعن في تلك السياسة وشددها عبر خلق مزيد من صعوبات الحياة والبقاء سواء في المناطق التي يسيطر عليها أو التي خارج سيطرته. ففي الأولى طبق سياسات أمنية شديدة القسوة ضد الأغلبية من السكان، وخاصة حيال الشباب عبر الاعتقالات وعمليات القتل العشوائي، وتكريس عمليات الإذلال اليومية، بالتزامن مع الغلاء وفقدان المواد الأساسية، وتزايد الفقر والبطالة، وتوقف الأعمال وتراجع الخدمات الأساسية وصعوبة الحصول عليها.
أما في المناطق الخارجة عن سيطرة النظام، فقد أخذت سياسته شكلاً آخر عبر حصار كثير من المناطق على نحو ما حصل في أحياء جنوب وشمال دمشق وفي الغوطة والقلمون، التي ما زالت مدنها وقراها محاصرة منذ نحو ثلاثة أعوام، منع فيها دخول الأغذية والأدوية والمواد الأساسية، ومنع الدخول إليها والخروج منها، وكانت كغيرها من المناطق الخارجة عن سيطرته، أهدافا يومية للبراميل التي تلقيها طائرات النظام، والصواريخ التي تطلقها المدفعية والدبابات، فيما مناطق التماس صارت مجالاً لرمايات القناصين.
وطبقًا للمعطيات الدولية، فقد كانت مناطق سورية مختلفة هدفًا للأسلحة الكيماوية لأكثر من خمس وعشرين مرة، كانت الأفظع فيها عملية ضرب غوطة دمشق بالسلاح الكيماوي في صيف العام 2013. التي تسببت وحدها بمقتل نحو ألف وخمسمائة، وإصابة نحو ثلاثة آلاف من الأشخاص.
وقد عزز ظهور وممارسات جماعات التطرف والإرهاب «داعش» وأخواته نهج النظام في القتل والتدمير، ودفع السوريين لمغادرة بلدهم، لأن تلك الجماعات، سارت في تشددها وإرهابها على ذات الخط من سياسات نظام الأسد في اضطهاد السكان ومصادرة وتدمير ممتلكاتهم، وخلق مزيد من صعوبات الحياة والبقاء أمامهم في مناطقهم، ودفعهم للمغادرة إلى دول الجوار.
لقد قوبلت تطورات سوريا الكارثية بكثير من الصمت وعدم المبالاة من المجتمع الدولي بالتزامن مع تدخلات إقليمية ودولية، عززت الصراع المسلح في سوريا، وعجزت عن إيجاد حل سياسي لقضية ممتدة منذ أكثر من أربعة أعوام ونصف، دون أن يتبين لها نهاية، وكلها عوامل في انفجار موجة الهجرة الراهنة، وكل ما يقال بعده مجرد كلام على الهامش.
في الوقت الذي هزت فيه صورة الطفل السوري الغريق مشاعر الملايين من كافة أنحاء العالم على اختلاف مذاهبهم ودياناتهم وشاهدنا المظاهرات في الدول الأوربية التي تطالب باستيعاب اللاجئين ومعاملتهم معاملة إنسانية تليق بكرامة الإنسان، ومع استيعاب بعض الدول الأوروبية لمئات الآلاف من اللاجئين واستيعاب تركيا لحوالي مليوني لاجئ سوري.
ومع استمرار كوارث الموت الجماعي التي يتعرض لها اللاجئين السوريين ومع كل الحملات الإعلامية المطالبة بوضع حد لمعاناة اللاجئين.
مع كل ذلك ما يزال الموقف الخليجي الرسمي غارقا في الصمت والسلبية واللامبالاة وكأن شيئا لم يكن.
ندرك جميعا جسامة التحديات التي تواجه دول مجلس التعاون الخليجي، ولكن جميع هذه التحديات لا تبرر التغاضي المعيب عن مأساة اللاجئين السوريين التي تضع الجميع أمام مسؤوليات دينية وإنسانية وقومية لا يمكنهم حيالها السكوت والاستمرار في الموقف السلبي وسياسة اللامبالاة.
ولا تتفق هذه اللامبالاة مع حرص دول الخليج على الحضور السياسي المؤثر والفاعل الذي يستوجب التفاعل الجاد مع المآسي الإنسانية الحساسة الناجمة عن التدخل الإيراني الطائفي لمساندة نظام ديكتاتوري فاسد.
في مقدور دول الخليج أن تتحرك وتعمل إلى إيجاد ملاذات آمنة للهاربين من بطش النظام السوري وجحيم الحرب، في مقدور الخليج الإعلان عن مبادرة خليجية لحل مشكلة اللاجئين وستجد هذه المبادرة تفاعلا كبيرا من الشعوب العربية والإسلامية والمجتمع الدولي.
وفي مقدور الخليج إذا كان لا يرغب في تقديم مبادرات -مع ضرورة ذلك- تأييد المبادرات الإقليمية والدولية ومنها المبادرة التركية التي طرحت مشروع إنشاء منطقة آمنة للاجئين شمال سوريا.
لا يوجد أي مبرر لعدم مساندة هذه المبادرة أو الإعلان عن مشروع مبادرة خليجية عملية وسريعة لمعالجة مأساة النازحين المستمرة، ولا سميا أن المتابع لمأساة النازحين يتأكد له أن ما يحدث هو جريمة تطهير طائفي للسورين السنة يتبناها المشروع الصفوي الإيراني ولا تقل خطورة عن جرائم المليشيات الطائفية في اليمن المدعومة من النظام الإيراني.
إن غياب أي مبادرة خليجية لمعالجة مشكلة النازحيين السوريين سيضع الكثير من علامات الاستفهام حول الموقف الخليجي من هذه الكارثة، وسيصب كل ذلك في خدمة أجندة المشروع الإيراني، وقد يصبح الكثير من هؤلاء اللاجئين فرائس سهلة لجماعات العنف وتستخدمهم المخابرات الإيرانية وغيرها لتهديد أمن واستقرار المنطقة.
مبادرة الرئيس فلاديمير بوتين تستدعي سيلاً من الأسئلة. حظها ليس أفضل من حظ مسودة الخطة التي طرحها المبعوث الدولي ستيفان دي ميستورا. قوى المعارضة في «الائتلاف الوطني» طرحت أكثر من أربعين سؤالاً على المبعوث شكلت مع التحفظ نوعاً من الرفض الديبلوماسي للمسودة. سيد الكرملين أعلن أن الرئيس بشار الأسد مستعد لإجراء انتخابات نيابية مبكرة، ولاقتسام السلطة مع «معارضة بناءة». وهو يعلم بالتأكيد أن الانتخابات العادية يفترض أن تُجرى في الربيع، بعد أشهر. فهل يقصد تقريبها؟ ومن يقصد بالمعارضة البناءة؟ كيف تُجرى انتخابات نظيفة وحوالى عشرة ملايين سوري يهيمون في بلادهم بعدما أخلوا مدنهم وقراهم هرباً من الحرب؟ كيف تُجرى انتخابات بتمثيل حقيقي وحوالى خمسة ملايين سوري باتوا لاجئين في دول الجوار، ويطرق مئات الآلاف منهم أبواب أوروبا بحراً وبراً؟ ومن يقصد بالمعارضة «البناءة» التي ستجلس في صفوف الحكومة «البناءة» التي انعقدت قبل أيام لتناقش «ملف الهجرة» وأسبابها، ودانت «التعامل المخزي» لبعض الدول الأوروبية مع المهاجرين؟!
يعرف الرئيس بوتين بالتأكيد أن الرئيس الأسد لن يسلم السلطة، ولن يشرك فيها أحداً. رفض حتى «المبادرة الإيرانية». ونقل إليه ديبلوماسيوه حتماً ما أبلغهم به وزير الخارجية وليد المعلم في زيارته موسكو أخيراً. رئيسه لن يسلم السلطة، لا عسكرياً ولا سياسياً. أبلغهم خوفه هو السنّي الدمشقي من «اليوم التالي»، فأين منه موقف العلوي؟! أسئلة كثيرة يستدعيها تصريح سيد الكرملين. ولا حاجة إلى أجوبة. صحيح أن المبادرة إلى انتخابات نيابية مبكرة روجت لها موسكو منذ أكثر من شهرين. لكن ما استدعى إطلاقها علناً قبل يومين مستجدات سياسية وتداعيات أزمة اللاجئين ومآل الأزمة السورية برمتها. استهلك الروس لافتة رفعوها منذ بيان جنيف في حزيران (يونيو) 2012. رددوا بلا ملل ولا يزالون يرددون إلى اليوم أن التسوية ومستقبل الرئيس الأسد يقررهما السوريون أنفسهم بلا تدخل وبلا شروط مسبقة. لكنهم تناسوا أن بيان جنيف الذي يريد الجميع اعتماده مرجعية للتسوية أقره وزراء خارجية الخمس الكبار من دون أي حضور ودور للسوريين، أصحاب الشأن والمعنيين الأساسيين!
ما أعلنه الرئيس بوتين لن يصرف في أوساط المعارضة ولا في أوساط جميع المعنيين بالأزمة. ما أراده هو الإيحاء بأن بلاده تسعى فعلاً إلى دفع النظام السوري إلى تقديم تنازلات لا تمس النظام والحكم، بل تحفظ رأسه وتحميه. تماماً كما ضيعت مسودة دي مستورا بند هيئة الحكم وصلاحياتها الكاملة في المرحلة الانتقالية في جملة من البنود واللجان. كأن المطلوب في هذه المرحلة تقطيع الوقت. فالمبعوث الدولي يدرك جيداً أن خطته لن ترى النور. ولا أحد ينتظر أن يقدم «إنجازاً» عندما يعود إلى مجلس الأمن منتصف تشرين الثاني (نوفمبر) المقبل، ما لم يكن هناك توافق بين الكبار المختلفين على مستقبل الرئيس الأسد ومصيره ودوره. وهو يعرف حتماً أن بيان جنيف الذي أعده سلفه الأمين العام السابق كوفي أنان كان ترجمة لتوافق دولي ابن لحظته، خصوصاً بين أميركا وروسيا، ما لبث أن سقط في حمأة التفسيرات المختلفة لمضمونه.
الواقع أن الكرملين بدأ يشعر بأن الساحة التي أخليت له طويلاً من أجل إنجاز اختراق لم تعد تتيح له حرية الحركة كما في السابق. ثمة تطورات ضاغطة. لا بد إذاً من مناورة جديدة تواكب تحرك دي ميستورا وتستبق ما قد تحمله الأيام المقبلة قريباً. أراد الإيحاء بأن النظام في دمشق مستعد لتسوية سياسية تواكب الإعداد لتحالف واسع لمحاربة «داعش». لم تعد هذه الحرب أولوية وحدها. بات المساران، الحرب والتسوية، متوازيين. يحاول الرئيس الروسي أن يطرق بجديده السوري أبواب أوروبا والولايات المتحدة أولاً وأخيراً. يريد المقايضة بين أوكرانيا وسورية: قدموا تنازلات هناك أقدم مثيلها هنا. ويأتي جديده أيضاً في إطار إعادة النظر في مواقفه ومواقعه ومصالحه وشبكة علاقاته في الشرق الأوسط وغيره، في ضوء تداعيات الاتفاق النووي. توقيت إعلان هذا الجديد كان لافتاً. واكب محادثات القمة الأميركية - السعودية. ربما أراد زجه في برنامج المحادثات بين الرئيس الأميركي باراك أوباما والملك سلمان بن عبدالعزيز. تقلقه سلفاً نتائج هذه القمة، خصوصاً توافق الزعيمين على التأكيد أن لا دور للرئيس الأسد في مستقبل سورية. وهو ما كرره وزير الخارجية عادل الجبير أمس بعدما كان أبلغ موسكو به علناً في حضرة نظيره الروسي سيرغي لافروف قبل أسابيع.
تدرك موسكو أن الوقت داهم. فإدارة الرئيس باراك أوباما تسعى لإرساء الاستقرار في الشرق الأوسط، عبر تجديد علاقاتها مع إيران وإقامة نوع من التوازن في النظام الإقليمي. ومثل هذا النهج لا يمكن تطبيقه فيما طهران توغل في خرق المنطقة ومجتمعاتها، من العراق وسورية إلى فلسطين واليمن وشرق شبه الجزيرة العربية. ولا شك في أن هذه الإدارة عليها بعد قمة واشنطن ترجمة حرصها أقله على هذا التوازن. والاختبار الأول هو الأزمة السورية. والثابت المعلن حتى الآن أن الجمهورية الإسلامية ليست في وارد المساومة في القضايا الإقليمية. المرشد علي خامنئي اتهم الولايات المتحدة بأنها «تسعى إلى القضاء على المقاومة والهيمنة على سورية، وتتوقع أن تدخل إيران في هذا الإطار». وشدد على أن «هذا الأمر لن يحدث أبداً».
موقف المرشد لا يساعد واشنطن على تصحيح مسار علاقاتها بشركائها الخليجيين. الكرة في ملعب إدارة الرئيس أوباما بعدما تحررت من عبء الجمهوريين وتهديداتهم بإسقاط الاتفاق النووي. لم تعد أسيرة المرحلة الماضية. يبقى أن تبدي لأصدقائها التاريخيين في المنطقة أنها لم ولن تنجرف وراء مشاريع إيران ومخططاتها في المنطقة. علماً أنها لا يمكن أن تسلم باليد المطلقة لإيران في دمشق وهي تعمل على تقليص نفوذها في بغداد. كانت طوال السنوات الثلاث الماضية حريصة حرصاً مبالغاً فيه على عدم إزعاج طهران في أي مسألة لئلا تجازف بدفعها إلى وقف المفاوضات النووية. أما اليوم فلا عذر لها. رفضت دعوات تركيا المتكررة إلى إقامة منطقة آمنة شمال سورية، بل طلبت دفع مشروع المنطقة غرباً بعيداً من مناطق الكرد. لا تريد إضعافهم. ولا تريد المجازفة بسقوط مفاجئ للنظام السوري من دون جاهزية بدائل فاعلة وقادرة. مثلما لا ترغب أيضاً في إطلاق يد أنقرة وتعزيز نفوذها في سورية. ولا تزال عند هذا الموقف.
تعي موسكو معنى هذا التبدل. وتخشى أن تعدل واشنطن موقفها مجاراةً للعرب القلقين من هيمنة إيران، وتأكيداً لحرصها على علاقاتها التاريخية والتزاماتها معهم. وتعي أن أزمة سورية على رأس اهتمامات الإدارة بعد تمرير الاتفاق النووي مع إيران في الكونغرس. وإذا كان الضغط العربي على واشنطن ليس كافياً، فإن الضغط الأوروبي سيكون أكبر. لذلك، واكب إعلان الرئيس بوتين أيضاً التخبط الأوروبي في معالجة أزمة اللاجئين والمخاوف التي تثيرها. فجيش الفارين من أتون الحروب والويلات في سورية وغيرها لا يصل عملياً إلى حدود روسيا أو الولايات المتحدة. لكن صور المآسي والويلات التي يقاسيها هؤلاء، غرقاً في البحر أو اختناقاً في شاحنات التبريد، ولدت موجة من التعاطف في الشارع الأوروبي الذي بدأ الضغط على حكوماته. ولا مفر أمام هذه الحكومات سوى تحويل هذا الضغط نحو واشنطن، الشريكة الكبرى، لتعديل موقفها والانخراط فعلياً في البحث عن حلول سريعة. الدوائر المعنية في القارة العجوز تعلم جيداً أن المعالجة المجدية لمواجهة هذه الموجة الواسعة من المهاجرين فاقمها إحساس السوريين بأن لا أمل لهم بالبقاء في بلادهم، وهم يعيشون عذابات استعصاء الحسم في الميدان العسكري واليأس من إمكان التوافق في الساحة السياسية، محلياً ودولياً.
إلى كل هذه العوامل المستجدة الضاغطة، تشعر موسكو بأنها باتت هي نفسها تحت الضغط. التأثير الواسع الذي كانت تملكه على النظام في دمشق يفلت من بين أصابعها لمصلحة إيران التي يساهم تدخلها في تفكيك ما بقي من مؤسسات الدولة، بل يجد النظام مصلحته في مجاراة تيارها المتشدد الذي لا يلتفت إلى انهيار الدولة والمؤسسة العسكرية. هناك إذاً مصلحة ملحة لبوتين في تحريك المسار السياسي في سورية، والاحتفاظ بأرجحية بلاده في رسم مآلات التسوية. وهو ما يستدعي ليس مغازلة الولايات المتحدة وأوروبا واستدراجهما إلى مقايضات معقدة، بقدر ما يتطلب منه مبادرة «بناءة» قبل البحث عن «معارضة بناءة»! وهناك مصلحة ملحة مماثلة للولايات المتحدة في ترجمة حرصها على إقامة توازن في علاقاتها بالشرق الأوسط. وترجمة حرصها على منع إيران من الهيمنة على المنطقة، وتهديد جيرانها، ووقف تدخلها، والحؤول دون تفردها برسم خريطة النظام الإقليمي الجديد وتفتيت بلاد الشام. لم يعد التردد يجدي. وسورية هي المحك والامتحان بعد تحرر أوباما من الملف النووي وتهديدات خصومه الجمهوريين... بانتظار أن تطيح نتائج قمة واشنطن وزحف اللاجئين إلى أوروبا زحف إيران ومعه مناورات موسكو ومسودة ديستورا؟
في النصف الثاني من عام 2015، زار، ويزور، روسيا سبعة زعماء ومسؤولو دول عربية، في محاولة لتوسيع مروحة العلاقات العربية مع القوى الدولية، وتنويع خياراتها، ما تزامن مع تأكيدات موسكو، أنه لا تغيير في موقفها تجاه قضايا العرب، وخصوصاً قضيتهم الأكثر إلحاحاً في هذه المرحلة، أي الصراع مع إيران التي تهدد، علناً، النظام الإقليمي العربي، واستقرار المجتمعات العربية برمتها، سواء بشكل مباشر أو من خلال أذرعها في المنطقة، بل وصل الأمر بروسيا، فيما يبدو تحدياً للرغبة العربية، إلى الانخراط المباشر في الحرب السورية إلى جانب خصم غالبية البلدان التي ذهب وسيذهب قادتها إلى موسكو.
يحصل ذلك في وقت ترجّح فيه معظم التقديرات العربية أن موسكو لن تغيّر موقفها من إيران ونظام الأسد، الذراع الأخطر لها، ما لم تكن هناك ضغوط حقيقية، تمارسها الأطراف العربية على موسكو، إن بشكل مباشر عبر تخفيض مستويات التواصل والإهمال السياسي للدور الروسي، وكذا بتخفيض التعامل التجاري، خصوصاً وأن العرب هم الطرف الخاسر فيه، أو بالضغط الميداني. حسناً، إذن، ما وظيفة هذه التقديرات، وما أهميتها إذا لم تترجم الى سياسات فعلية، وما دام العرب قد وصلت إليهم هذه الخلاصة، فلماذا يفعلون عكسها؟. ثم ما معنى أنه، على الرغم من كل هذا الزخم العربي باتجاه الكرملين، ما زالت الدبلوماسية الروسية تصر على مواقفها المعادية للمصالح العربية، والمفارقة، أن بعض الأطراف العربية التي ذهبت إلى موسكو قد تزحزحت مواقفها، وخصوصاً تجاه الوضع السوري.
يحلينا هذا الأمر إلى محاولة فهم الموقف الروسي، سواء لكيفية رؤيته لهذا التحرك العربي، أو لجهة مرتكزات بناء هذا الموقف، ذلك أنه من المفترض، نظرياً، وإذا اقتنعنا بالمبررات التي تسوقها الدبلوماسية العربية بهذا الخصوص، أن يصنع التحرك العربي تغييراً ما، وانعاطفة في الموقف الروسي لصالح القضايا العربية، لكن ذلك على أرض الواقع لم يحصل، لماذا؟
تدرك روسيا أن العرب بصدد إجراء تحوّل جوهري في إدارة علاقاتهم الدولية. لذا يلجأون إليها، لحاجتهم إلى تحقيق توازنٍ، يفيدهم عملانياً في حماية أمنهم واستقرارهم الذي بات رهين المساومات بين القوى الدولية والمراكز الإقليمية، وهذا الأمر بالفعل هو نتاج تقديرات عربية لاختلال التوزانات الحاصلة، والمقدر حصولها في المنطقة، ومحاولة بناء شبكة علاقات دولية أوسع، تخفف عنهم التداعيات، هي رؤية استراتيجية يمكن وضعها في خانة الاستجابة الطبيعية والعقلانية لهذه المتغيرات، ويتم تصريفها عبر تكتيك تعميق قنوات التواصل مع مراكز دولية فاعلة، وفق منطق تبادلية المصالح.
"تستخدم روسيا في استكمال سياستها العربية طريقة الاستنزاف بالأمل، والتي تقضي بإبقاء العرب على قارعة طريق أوهام تغيير موقفها، أما تكتيكها فيقوم على سياسة الباب المداور"
لكن المشكلة أن روسيا لا تنظر للأمر من هذه الزاوية، أو لا تراه كما يقدّره العرب ويرونه، فهي، أولاً، ترى وتسمع العرب الوافدين عليها يتعاطون معها كونهم أنظمة ودولاً مختلفة، لكل واحد منهم احتياجات ومطالب مختلفة عن الآخر، إن لم تكن متناقضة. وثانياً، تعرف روسيا أن العرب لن يشكلوا قوة ضاغطة ضدها، مهما رفعت سقف عدائها لهم، فالمصري والجزائري معها في كل الحالات، ومواقف قسم كبير من بقية العرب متأرجحة وغير متماسكة. وثالثاً، تدرك أن العرب يصلونها منكسرين، أميركا تخلت عنهم وإيران تحاصرهم وتركيا تستعلي عليهم وإسرائيل تستهتر بهم.
من جهة ثانية، ما يعتقده العرب براعة استراتيجية في التقاط التغيرات الدولية، وإجراء التحولات في الوقت المناسب لا تراه، أيضاً، روسيا كذلك، بل تتعامل مع الأمر بوصفه حالة خضوع، حصلت نتيجة عملية وجهد استراتيجي طويل، قامت به مع حليفتها إيران، وكانت نتيجته تحطيم بنية شبكة الأمان الإقليمي العربي واختراقه، وهي تنظر إلى نفسها على أنها شريك في هذا الانتصار، وإن كانت تدمجه في إطار انتصارها الاستراتيجي على القوى الكبرى المقابلة لها، على المستوى العالمي. الأكثر من ذلك أنها تعتقد أن هذا الانتصار لن يتجوهر، ويأتي بكامل حصاده إلا بمزيد من الضغط على البيئة الأمنية العربية، هذا على الأقل هو الفهم الروسي للواقعية السياسية، كما تجري ترجمتها تجاه العرب.
وثمّة ما هو أبعد من ذلك، وأكثر التصاقاً بواقع روسيا الجيواستراتيجي، حيث تنظر موسكو للوضع العربي بوصفه فرصة استراتيجية، لتحقيق نقلة في تراتبية موقعها الدولي، من خلال فعالية أدوارها في المنطقة العربية، إذ هامش الحركة متاح إلى أبعد الحدود، بعد أن اكتشفت أن تحركها في جوارها الأوروبي، أوكرانيا وجورجيا، تحت مجهر الغرب. وبالتالي، فإن من شأن أي خطوة زائدة زيادة تعقيد وضعها في الفضاء الدولي عامة.
تستخدم روسيا في استكمال سياستها العربية طريقة الاستنزاف بالأمل، والتي تقضي بإبقاء العرب على قارعة طريق أوهام تغيير موقفها، أما تكتيكها فيقوم على سياسة الباب المداور، لجهة عدم رفض سماع أحلام العرب وأمنياتهم، ولا شك أن الروس ينتشون بإنجازاتهم الدبلوماسية، تلك التي تمنح دبلوماسيتهم فرصة الظهور بمظهر السياسة الناجحة، والتي تحقق فرصاً عظيمة لروسيا، ثم إنهم لا يخسرون شيئاً في مغامرتهم هذه التي تبدو أنها بمثابة منحة مأجورة، يحصلون في مقابلها على الصفقات والتمويل، ويحصل دبلوماسيوها على شهادات الثناء والإعجاب العالمي.
لسان حال الروس يقول، في هذه اللحظة، سمعنا أن العرب لا يقرأون وإذا قرأوا لا يفهمون، وها نحن تجاوزنا، في مغامرتنا معهم، الكتابي إلى الشفاهي، ونصرخ بأعلى الصوت "بشار الأسد شرعي وسنكون معه دائماً وأبداً".
اللاجئون السوريون هم، في الواقع، مهجّرون. لقد هُجّروا من مناطق سكناهم، بفعل فاعل، اتّبع سياسة العقوبات الجماعية والقصف والقتل بالجملة، أو هاجروا قسراً من أحياء مأهولة، تحوّلت إلى جبهات قتال، بعد أن تطورت الثورة السورية إلى نوع من الاحتراب الأهلي، نتيجة سياسة العنف المنهجي التي اتبعها النظام بدون سقف، أو خط أحمر يفرضه ما يسمى المجتمع الدولي. وهو أمر نادر الوقوع منذ الحرب العالمية الثانية. وزاد دخول جماعات مسلحة غير ملتزمة بأهداف الثورة السورية، بعد أكثر من عام ونصف من نشوبها، في هجرة أعداد كبيرة أيضاً من السوريين، بسبب قصف النظام المناطق التي حررتها/ احتلتها، أو بسبب ممارسات بعض منها. ويبدو من مراقبة نهج النظام، وسياسة الأرض المحروقة التي يتبعها، أنه يقوم بسياسة تهجير منهجية، للتخلص من أكبر عدد ممكن من السوريين، ولا سيما أنه اعتمد، أخيراً، معايير جديدة في تحديد الانتماء، فالسوري هو من يدعم النظام، حتى لو جاء من باكستان؛ أما من يعارض النظام فليس سورياً.
استمرت مأساة ملايين اللاجئين والمهجّرين السوريين، طوال أربعة أعوام داخل سورية نفسها، وفي تركيا ولبنان والأردن. وهي الدول والمجتمعات التي تحملت العبء الأكبر حتى الآن. والناس عموماً تلجأ من القصف والحرب، وتهرب من القتل والاعتقال إلى المناطق المتاخمة، أو الدول المجاورة، بانتظار استقرار الأوضاع، لكي تعود إلى ديارها.
ما يميز موجة اللاجئين الأخيرة إلى أوروبا هو سأم آلاف اللاجئين السوريين من الانتظار، كلاجئين في الدول الحدودية (مع الفارق بين ظروفهم فيها). راحوا يبحثون عن حلول دائمة لعائلاتهم، ولا سيما أبنائهم، وهو أمر مفهوم بعد انتظار سنوات. إنه ما يميز هذه الهجرة، وهو أيضاً أخطر ما فيها. ليس الحديث، هنا، عن هرب من القصف أو الموت. إنها هجرة من لجأوا من القصف إلى دول أخرى. وهم، الآن، بعد اللجوء، يهاجرون إلى دولٍ يمكن فيها الحديث عن استقرار طويل الأمد. ولا يستغربن أحد إذا قلت إن بعض السوريين غادر حتى دول الخليج التي أتاها لاجئاً/ مهجَّراً، بحثاً عن حياة واستقرار، وربما حتى جنسية جديدة للأبناء، حين سنحت له الفرصة في دول تستوعب مهاجراً يبحث عن مستقر. وأنا أصدق الأب الذي يقول إنه يلجأ إلى أوروبا من أجل أبنائه، فهذه المسؤولية هي التي "تكسر الظهر"، بعربية أهل الشام.
"الجريمة تقع في سورية وليس في أوروبا. ويجب حل المشكلة في سورية. ولا يجوز أن يعمى نقد المقصر في التضامن عن الجريمة الجارية في سورية"
المميز الثاني أن غالبية هؤلاء ليسوا من المعدمين تماماً، بل من أبناء الطبقات الوسطى ممن خسروا كل شيء، وبقي لديهم بالكاد ما يسدّ لوازم التعرض لابتزاز المهربين، أو لديهم أقارب في الخارج. ويمكن القول إن سورية، في هذه الهجرة، تخسر جزءاً كبيراً من طبقتها الوسطى ومهنييها. من يقيم في تركيا ولبنان والأردن، وحتى دول الخليج العربية سوف يعود إلى سورية، عاجلاً أم آجلاً، أما المهاجرون إلى ألمانيا، فشأنهم مختلف. قد يعود يوماً كبار السن من المهجّرين، أما الأبناء الذين سيدخلون مدرسة ألمانية هذا العام، فهدف اللجوء هذا هو البحث لهم عن مستقبل آخر، بعيداً عن هذه المنطقة، إنه هجرة بالنسبة لهم.
هذا هو الموضوع الأساس، وليس عنصرية القيادة الهنغارية وغيرها من دول شرق أوروبا التي تحتاج إلى معالجة خاصة، ولا حتى موقف القيادتين، الألمانية والنمساوية، الناضج والسويّ والمقدَّر فعلاً. ولكن، لدى الإعلام العربي موهبة خاصة في الابتعاد عن جوهر القضية في أثناء عرض الدراما الإنسانية، وهي دراما حقيقية:
1- الجريمة تقع في سورية وليس في أوروبا. ويجب حل المشكلة في سورية. ولا يجوز أن يعمى نقد المقصر في التضامن عن الجريمة الجارية في سورية.
2- يجب وقف سياسة الترانسفير التي يقوم بها النظام، ويضاف إليه حالياً تنظيم الدولة.
3- ثمة أعداد كبيرة من السوريين ممن يئسوا من الحل، وراحوا يبحثون عن مستقبل للأبناء، بعيداً عن "مكان وقوع الجريمة"، على أنواعها.
4- بموازاة دعم الشعب السوري في صموده، والبحث عن حل للأزمة السورية، لا بد من تهيئة ظروف مناسبة للمهجَّرين السوريين في الدول العربية، بما فيها العيش والعمل وتعليم الأبناء بكرامة. فمصير هؤلاء أن يعودوا إلى سورية. ولكن، لا يجوز أن يعيش الإنسان في ظروف لاجئ في "خيمة" (مجازاً، فقد تكون الخيمة من إسمنت) سنوات.
5- بموازاة إدانة موقف هنغاريا وغيرها ممن يقطعون طريق الناس، يجب أن تبذل الدول العربية، وقوى المعارضة السورية والمنظمات الأهلية السورية والعربية، جهداً لإقناع السوريين بعدم الهجرة. وهذا لا يتم بالوعظ، بل بتهيئة الظروف المناسبة للسوري الذي أعيته النكبات وأتعبه الكلام.
صحيح أن الثورة لم تصلح كل عيوبنا، إلا أنها أظهرت أجمل ما لدينا”، كتبتُ هذا الشعار الرومنسي في السنة الأولى من الثورة السورية، واتخذه البعض أيقونة، ولم يكن أحدنا يدري إلى أين نحن ذاهبون، ولم نتوقع حينها أن المنحنى البياني المتصاعد لأخلاقنا سيتوقف عند ذروته يوما، وأنه سيترنح بعدها ويميل نحو الأسفل، ثم يهوي سريعا كانهيار مدننا المصنوعة من الملح.
أمضيتُ عاما كاملا قبل اندلاع الثورات في اعتزال الناس والتأمل، وشرعت في تدوين رواية وكتاب، فتضخّما ليسوّدا مئات الصفحات، وما زالا في الطور الجنيني. رواية تحكي ضياع الشباب في عالم زائف، وكتاب يبحث حرفيا في “جنون العالم”. وعندما انقدحت شرارة الثورات طويتُ الصحف وكسرت الأقلام، وعقدت الأمل على هتاف الشارع ورصاصة البندقية.
أظهرت المأساة أجمل ما لدينا بالفعل، وكشفت زيف فقهاء السلطان وخواء “الدعاة الجدد” ونفاق مثقفي القومجية. كُسرت الأصنام وسقطت المرجعيات الكاذبة وأعيد ترتيب الأولويات، وتضخم فينا نحن الشباب جنون العظمة. ثم ماذا؟
بلغت الدماء الركب، واختلط السلاح، ولفظت السجون حثالة المجتمع إلى الشوارع، وفُتحت حدود البلاد أمام شذاذ الآفاق، واغتيل بعض قادة الجهاد المخلصين، وسقط مرتادو الفنادق بالبزات السوداء، وكشّر “المجتمع الدولي” عن أنيابه، وتخاذل الأشقاء العرب، ورخصت الذمم في سوق الحاجة، وغاب الراعي فنشبت الذئاب أنيابها في ظهور الرعية.
ظهرت داعش في المسافات الفاصلة بين طرفي الصراع، وأطاحت بكل الشعارات في تطبيق استعراضي لأكثر أفلام الرعب وحشية. فانهار منحنى الأخلاق نحو الهاوية، وأظهرت الثورة أخيرا أسوأ ما لدينا!
إسقاط هيبة الدين
كان ثمة أمل في الدعاة وطلبة العلم، وكانت ثمة جهود قاصرة للترقيع وسد الثغرات. لكن انهيار صورة فقهاء السلطان أخذ معه كل شيء، والمنظومة العلمية لدى سلك المشيخة ـ الذي لم يكن النظام ليسمح لغيره بالبقاء ـ لم تجد في جعبتها الكثير لتقدمه، وتلطُّخ لحى الخوارج بالدماء والجهل قلب الطاولة على العلم الشرعي كله، بل على الدين نفسه في أذهان جيل كان قد أضاع البوصلة أصلا في ظل تربية العسكر العلماني وحُكم الأقليات، قبل أن تجرفه ريح العولمة.
كان العلماء والدعاة على مر التاريخ نخبة الأمة وملاذها، فصاروا اليوم ـ ونحن في قلب المحنة ـ رمزا للخيانة. كان سمْتهم رمزا للانصراف عما في أيدي الناس، فأصبح اليوم ـ شاءوا أم أبوا ـ شعارا للإقبال على الدنيا، وهناك من يغذي هذه الصورة النمطية كل يوم.
ودخل أنصاف المشايخ على الخط، وقد كان بعضهم في مطلع الثورات مترددا متخوفا على مصالحه، ثم وجد في الثورات طريقا أسرع للشهرة والمناصب. وبدأ سباق البحث عن لقب “شيخ الثورة” و”شرعيّ” اللواء أو الجبهة، وصار معيار المشيخة في إعلان طالب العلم موقفه من الثورة “المبجلة” أو من الجهاد، وبالتبرؤ من مشايخه الصامتين، حتى إن كانوا في آخر أيام شيخوختهم وكان موقفهم السياسي لن يغير من عزيمة الثوار ولا من ظلم الطاغية.
أما معيار المفاضلة في التأهل لمناصب القضاء الشرعي بالمحاكم الثورية فهو مدة المحكومية في سجون النظام ما قبل الثورة، وثمة أفضلية لمن تخرّج من سجن صيدنايا العتيد، فهو في عُرف “أخوّة المنهج” من أعظم “جامعات” العلم الشرعي!
وبطبيعة الحال، دخل مثقفو الحداثة أيضا على الخط، وأخرجوا ما في جعبتهم من الحقد على “المؤسسة الدينية” كما فعل أسيادهم إبان الثورة الفرنسية في “رجال الدين”. وبعد أن كان الطعن في “مؤسسة” فقهاء السلطان؛ اتسع ليشمل طبقة العلماء المتسلسلة منذ أكثر من ألف عام، فباتت في أدبياتهم حلقةً متصلة من “المتآمرين” على الوحي للانحطاط بالأمة إلى ما صارت إليه. وبعد أن كان تجديد الدين على رأس كل قرن هو تخليصه من الشوائب المستوردة؛ بات في قرن الثورة نقضا للتراث كله واستيرادا جاهزا للبديل من مصانع ما بعد الحداثة.
وهكذا انصرفت الأبصار عن اليهود والماسون والاستعمار والرأسمالية والشيوعية والقومجية، وصارت المؤامرة في قلب كتب تراثنا، وفي ما تركه الكبار من ذخائر التفسير والفقه وعلم الحديث واللغة. لم يعد العدو موضوعا بل أصبح فكرة، ثم أصبح ذاتاً تُجلد وتُداس بتلذذ “مازوشي” مريض، وأصبح الشاب المنفتح مفتوحا خاويا كأعجاز نخل منقعر، وغاية نشوته في التشفي من ذاته التي أعياها الفشل.
بلغ هوان الشاب على نفسه ألا يرى لنفسه قيمة في عين العالم، والعالم عنده هو الغرب ولا أحد سواه. حتى لم تعد هناك مؤامرة تُحاك ولا عدو يكترث في منظور مدرسة الانفتاح. أوَليس “العيب كله فينا”؟ فمنذا الذي يهتم لأمرنا ليتآمر علينا؟
أصبح معيار الحق والباطل في مدرسة “أصول الفقه الفيسبوكية” هو موقع إقامة العالم أو طالب العلم، فإن كان يقيم تحت وابل الرصاص فكل ما يقوله “حق يُسمع” ولو كان مجرد دعيّ أميّ، أما إن كان جالسا في غرفة مكيفة آمنة فكل ما يقوله “هراء”، حتى لو فتح الله له فأبدع من العلم ما يبز فتاوى أبي حنيفة والشافعي وابن تيمية.
أصبح قيام العالم وطالب العلم بحده الأدنى من واجبه الشرعي “تنظيرا”، وسواء كان تبليغه حكمَ الله للناس اجتهادا صائبا أم خاطئا فالأمر في عُرف الثائرين سيان، فإما أن يوافق الحكم الشرعي هواهم فيُقبل؛ أو يُبصق على لحية صاحبه مهما بلغ طولها وبياضها، وما أسهل الإتيان بالرد والنقض من سوق التجديد المنفتح.
أصبح العلم الشرعي بكل عظمته في ميزان الجيل ورقةً صفراء تُقتطع من كتب تراث “الانحطاط”، وأصبح التراث المحفوظ منذ أكثر من ألف عام كلأً مباحاً. فصار لكل طالب في كلية تقنية الحق في أن يختار ويرجح ويقابل ويعارض، وأن يقول “رأيي هو كذا” وهو لا يجيد كتابته بلغة سليمة. ولم يعد الأمر في أن يستفتي الفتى قلبه في الاختيار بين فتاوى أهل الذكر، بل في أن يُعمل هواه في ما لم يقله أحد سواه، وأن يضرب بالعلم حائطا اسمه “لا يحق لمن لا يجاهد أن يفتي”، وهو قد جمع إلى قعوده عن الجهاد جهلا مركبا.
يقول الشيخ سلمان العودة في مذكراته، إن أحد زملاء الصبا من طلبة العلم جادل شيخه الدكتور محمد عبد الوهاب البحيري في حلقة علم قائلا “عندي أن الأمر كذا”، فقال له الشيخ “يا ابني إنت ما لكش عند!”.
يقولون هذا عندنا غير جائزٍ، ومن أنتم حتى يكون لكم عندُ؟
أما الروائي الإيطالي أمبرتو إيكو فصرّح مؤخرا بأن مواقع التواصل الاجتماعي “تمنح حق الكلام لفيالق من الحمقى، ممن كانوا يتكلمون في البارات فقط بعد تناول كأس من النبيذ، دون أن يتسببوا بأي ضرر للمجتمع، وكان يتم إسكاتهم فورا، أما الآن فلهم الحق بالكلام مثلهم مثل من يحمل جائزة نوبل؛ إنه غزو البلهاء”. ولعل إيكو، الذي يعد ثاني مشاهير العالم تأثيرا في تويتر، والذي كتب سابقا رواية “بندول فوكو” وسخر فيها من كل من يتهم الحركات السرية بالمؤامرة، لعله يعلم أن مواقع التواصل كلها في يد اليهود!
وسواء علم إيكو أم لم يعلم، فما قاله عن الحمقى في بارات الغرب لا يختلف كثيرا عن الحمقى في مجالسنا، فالذين كان الشيخ يسكتهم فورا في مجالس العلم ـ عندما كان الشيخ العودة صبيا ـ أصبحت لديهم الآن في هواتفهم الذكية منابر، وخلفهم قطيع يصفق ويرفع شعارات الإسقاط لكل من لا يروق لهم.
ظن الجيل أن التغريد سلاحٌ يغير العالم، وأنهم أسقطوا به طاغيتين في تونس ومصر بثلاثة أسابيع، وأنهم سيُسقطون به أيضا “تراث الانحطاط” في غمضة عين. ومع أن خيوط المؤامرة تكشفت في الثورات المضادة فمازال الاعتراف بالخديعة صعبا، وما دام التغريد هو “السلاح” الوحيد الذي كان ولا يزال متاحا فسيبقى هو الملاذ الوحيد، وطالما ظل المشايخ هم الطرف الأضعف فلتتجه إليهم إذن فوهات الأسلحة الزائفة.
اتسع الخرق على الراقع، وسقطت هيبة الحق في بئر العدمية، وحُمّلت مسئولية الفشل الجماعي على أولئك “الدراويش”، وقُدم المنطق قربانا على مذبح الفوضى.
أصبحت الفضيلة رذيلة، بل أصبح الهروب أم الفضائل، وبات الغريق في قوارب اللجوء إلى بلاد الفرنجة “سيد الشهداء”، وأقطاب المؤامرة الحاكمون باسم الديمقراطية في “الفردوس” الأوروبي هم “خلفاء” الله في أرضه.
أليس طبيعيا إذن أن تسأل إحداهن صديقاتها: ألم تخلعن الحجاب بعد؟ وأن يعلن أحدهم بين أصحابه أنه وجد ضالته في “الإلحاد”، وأن يُلام “المشايخ” مجددا: لماذا لا تنقذون هؤلاء؟ وأن يصبح الانشغال بالكشف عن أصابع اليهود في كل ثورات العصر الحديث مؤشرا على “خرف” الباحث الرصين.
أين هو الحل؟
في كل مرة تقريبا أصف فيها هذه الأمراض المزمنة يتكرر التعليق الاستنكاري على الفور: “حسنا لقد فهمنا، أين هو الحل؟” ولا يمكن فهم هذا السياق الاحتجاجي إلا من وجهة نظر “أصول الفقه الفيسبوكية”، والتي تنص على أن كل من لا يملك الحل لا يحق له طرح المشكلة، وعليه أن يجلس بجانب الفاشلين ويلتزم الصمت.
حسنا، قل لي بالله عليك، ما الذي يمنعك من الانسلاخ عن تلك الجماهير والتوقف لحظة للتأمل، ومن أن تغلق التلفاز والفيسبوك وتويتر وتعتزل المقاهي وجلسات الجدل ليلة واحدة فقط، ثم تفكر بعقلك المجرد عن الهوى؟ وأن تستحضر الاقتراح القرآني للمشركين في إتاحة الفرصة لعقولهم بالنظر مرة واحدة بعيدا عن تأثير المحيط: {قل إنما أعظكم بواحدة أن تقوموا لله مثنى وفرادى ثم تتفكروا ما بصاحبكم من جنة}.
ولتسأل نفسك حينئذ: هل هناك مانع عقلي وفيزيائي وتاريخي من التصديق بحبكة العدو لكل هذه اللعبة؟
ألا يمكننا استعادة رشدنا الذاتي ما دام الوحي الإلهي مطبوعا في مصاحف ومكتوبا بلغتنا؟ ألا نستطيع التفكير مجددا في الواقع دون السقوط المزمن في المغالطات المنطقية؟ هل نحن مضطرون للاستماع إلى الجدل المشحون بكل الأمراض النفسية على مواقع التواصل؟
حتى إن كان المحيط عاجزا ومُحبِطا، فالحساب في الآخرة سيكون فرديا، وسيركز على نوايانا وأفعالنا وليس على النتائج الخارجة عن إرادتنا. فهل أخلصنا النية؟ وهل قام كل منا بدوره الفردي البسيط؛ حتى وهو يعلم أن الجماهير تتجه نحو الهاوية؟ وهل حاولنا إصلاح أنفسنا وتذكير الدائرة الضيقة التي حولنا بواجبها الفردي لإبراء الذمة؛ حتى ونحن نسقط معها في الهاوية؟
وإن لم نفعل، فهل اعتزلنا الجماهير المندفعة نحو الهاوية على الأقل؟ وهل حفظنا ألسنتنا وأقلامنا عن مشاركتهم في السقوط ولو بالكلام؟
هناك أبطال مخلصون “يقاتلون على أبواب دمشق وما حوله، لا يضرهم خذلان من خذلهم”، ومعهم صالحون مرابطون لا يتركون بيوتهم وأرضهم للمحتل الإيراني/الإسرائيلي، وبينهم دعاة صادقون يحتكمون إلى الشرع ولو خالف هوى الجماهير الفاقدة للوعي.
النصر يكون للأمة كلها، فلا يتحقق ما لم تستحق أغلبيتها تلك الجائزة. فإن لم تجد أمتك أهلا لذلك فعليك بخاصة نفسك، وليس ذلك بالانسحاب والقنوط، بل بإصلاح نفسك التي تُحاسب عليها، وبإصلاح ما أمكن حتى لو تيقنت بأن جهدك لن يغير في الأمة شيئا. فمن كانت في يده فسيلة وقامت عليه القيامة فليغرسها، حتى لو علم أنها لن تثمر في هذه الدنيا، فإنها ستثمر حتما في صحيفته، وقد يُحاسب إن لم يفعل.
من لم يستطع أن يبني أمته بهذه الثورات فليحرص على ألا يجعلها معولا للهدم، ومن لم تُظهر هذه الثورات أجمل ما لديه، فليعمل على ألا تمسخه إلى كائن غريزي بدائي متوحش، وذلك أضعف الإيمان.
أعطني حلا عمليا!
تغيير النفس هو حل عملي وليس نظريا بالطبع، ولكن إن كنت ترى في نفسك قدرة أكبر على التغيير فاقرأ أولا كتب منير العكش عن الأساطير التوراتية التي أسست وما زالت تحرك القوة العظمى في العالم (الولايات المتحدة)، ثم كتاب “من أجل صهيون” لفؤاد شعبان. وهما أكاديميان علمانيان عمِلا في أمريكا نفسها، وليسا من أمثالي “المهووسين” بنظرية المؤامرة وعودة المهدي في آخر الزمان!
وعندما تكتشف أن الغرب يتحرك بدوافع أيديولوجية تسعى لاستئصالنا بنبوءات توراتية حتمية، وأن الصراعات التقليدية التي لا يرى الإعلام سواها على الساحة الجيوسياسية هي إجراءات مرحلية؛ أعد التفكير فيما نفعله وفيما يراد منا وما ننتظره ممن يملك القرار السياسي والقوة العسكرية ووسائل التأثير.
أعترف لك بأن بعض زملائي الباحثين في هذا المجال اعتزلوا يائسين محيطهم الذي وصفته لك أعلاه واكتفوا بتأليف كتاب يطرحونه كل عام للأجيال القادمة.
وسأكشف لك عن سر المفكر الراحل مالك بن نبي الذي احتفى به جيلنا الحداثي المنفتح بصفته منظّرا للقابلية للاستعمار وجلد الذات، حيث نشر أوصياء تراثه مؤخرا كتابه “المسألة اليهودية” الذي أوصى عند تأليفه عام 1952م بأن ينشر بعد موته، وكأنه أراد أن يقول لجيلنا إن اللعبة أكبر مما نتوقع وإن الحل يكمن في إصلاح أنفسنا أولا، ثم اكتشاف هول المؤامرة، غير أننا لم نصلح أنفسنا بعد ولا نريد أن نصدّق ما وصل إليه العدو من خبث.
أبو حامد الغزالي وعبد القادر الجيلاني اشتغلا على تأسيس جيل جديد يعيد إحياء الأمة المنهارة، ثم جاء صلاح الدين الأيوبي بعد نحو قرن ليقطف ثمار تلك التربية ويحرر القدس.
حاولتُ في بعض الأحيان أن أوصل الرسالة إلى صناع القرار بيننا، ولعلك تعرف النتيجة. يمكنك أن تحاول أيضا، وأن تعمل على تأسيس الجيل المرتقب حسب استطاعتك.
أما عن الحل المرحلي، فلا أعلم إن كانت قدراتنا البحثية القاصرة قادرة على إيجاد خيار أفضل من الاستمرار على ما هو عليه الحال في جبهات القتال ضد إيران وإسرائيل، فنحن لا نملك مراكز بحثية ولا أنشطة استخباراتية، وجُهدنا يقتصر حتى الآن على “التنظير” من داخل الغرف المكيفة الآمنة، كما هو حال كاتب هذا المقال.
وإن لم تستطع إيصال الرسالة إلى صناع القرار، ولا المساهمة في تأسيس جيل النصر، ولا إعداد تقرير استراتيجي ـ استخباراتي يستشرف المستقبل، ويكشف كواليس الغرب وطهران، ويحدد ما يجب فعله لكتائب الثوار في سوريا والعراق وليبيا وغزة، وللمتظاهرين على أنقاض ميدان رابعة؛ فأرجو على الأقل ألا تترك مكانك للعدو وتهاجر إلى أوروبا، وذلك أضعف الإيمان. والله أعلم.
تدور منذ فترة اجتماعات توصف بـ"الماراثونية" في الغوطة الشرقية لضم الفصيلين الأكبر في هيكلية واحدة ، تحت مسمى "جيش الغوطة" ، الذي سيكون التجربة التوحد الخاصة بالغوطة ، على أن يكون الإعلان قريباً جداً.
جيش الإسلام و فيلق الرحمن ، قطعا أشواطاً كبيرة في التوحد و تشكيل جيش تنتظره الغوطة منذ سنوات ، والذي يأتي كخطوة متقدمة بعد نجاح القيادة العسكرية الموحدة و القضاء الموحد .
مصادر من احد الفصيلين أكدت أن امر تشكيل "جيش الغوطة" نهائي ، وأن الإجتماعات تركز حالياً على الآلية أو الأسلوب الذي سيظهر عليه من جهة ، وكيفية طبيعة التوحد هل على شكل اندماج أو ذوبان الفصيلين في الجيش أم التوحد في غرفة عمليات .
ويعتبر جيش الإسلام هو الفصيل الأكبر في الغوطة الشرقية و يملك ما يقارب 17 ألف مقاتل ، فيما يعتبر فيلق الرحمن من أنشط الفصائل و أشدها حنكة و يتحمل مسؤولية أهم نقطة و أقربها إلى دمشق ألا وهو جوبر.
وإلى هذه اللحظة لا يوجد سوى جيش الإسلام و الفيلق سيشاركان في هذا الجيش ، فيما لم ترد أنباء عن وجود مفاوضات مع فصائل أخرى ، وإن القرار بأن يكون باب المشاركة في "جيش الغوطة" مفتوحاً للجميع .
انطفأت أنوار بيروت وملأتها القمامة، وجف رافدا العراق دجلة والفرات، بينما فاض بردى دمشق بالدم ..
هكذا حولت أنظمة هذه البلاد الثلاث، التي كانت تعد منارات الشرق والعرب الحضارية، إلى برك ظلام ودم، فثار الشعب السوري بعد عقود، بينما كان آخر شعبين يتوقع أحد أن يثورا على نظام الحكم في بلديهما، هما الشعبان اللبناني والعراقي..
ليس مرد ذلك إلى أي سبب آخر، سوى تركيبة النظام السياسي في هذين البلدين، والقائم على حكم الزعامات، والمحاصصة الطائفية والمرجعيات الدينية، رغم أنهما نظامان ديمقراطيان من حيث الشكل.
لم تتمكن الزعامات السياسية في كل من العراق ولبنان من تقاسم كعكة البلدين وحسب، بل واستطاعت، بدعمٍ أو بتمثيلٍ للمرجعيات الدينية، السيطرة على مجموع الشعبين من خلال اللعب على تناقضات تركيبتهما المذهبية والأثنية، ومعها تحول الشعب إلى مجرد أتباع ومجاميع ملحقة، كل طائفة وكل أثنية بزعامتها ومرجعيتها.
وبعد السيطرة على هذه التقسيمات ما قبل الوطنية، تفشى الفساد في البلدين إلى درجة مذهلة، نتيجة غياب المساءلة والمحاسبة، بحيث يتحول أي مساس بأي زعامة أو مرجعية، إلى مساس بالطائفة أو الأثنية التي تمثلها، وينتج عن ذلك بكل بساطة، احتقان اجتماعي، يتكرر أن يسيل بسببه الدم .. دم الشعب نفسه، الذي تمتصه النخب، ثم يُسفك دفاعاً عنها !
في العراق، الذي يعتبر من أغنى الدول في العالم، والذي تبلغ ميزانيته السنوية أكثر من مئة وعشرين مليار دولاراً، يعيش الشعب منذ أعوام بلا ماء ولا كهرباء ولا خدمات ولا فرص عمل، بينما تذهب خيرات البلد وأمواله إلى جيوب قادته، الذين يعاد انتخابهم في كل مرة بإملاء من المرجعيات.
وفي لبنان، الذي يتغنى أهله بأنه بلد الديمقراطية وواحتها العربية، يمدد المجلس النيابي لنفسه، وتُعطل الحكومة بسبب مصالح القادة، ويخلو موقع الرئاسة ممن يشغله لسنوات، بينما يغرق البلد الذي يفيض أبناؤه في تفاخرهم على العرب بحضارته ورقيه في الزبالة بكل معنى الكلمة !
في العراق، الذي هتف المتظاهرون في ساحاته (لا سنية ولا شيعية) و (بغداد حرة حرة .. إيران تطلع برا) وطالبوا بمحاسبة شاملة ووضع حد للفساد، هرع الجميع لاسترضاء الجماهير الغاضبة، ومن ثم تمكنوا من تعطيل هذا الحراك والالتفاف عليه .. أو هكذا بدى.
في لبنان أيضاً سيحصل الأمر نفسه.. سيحاول الساسة احتواء الغضب الشعبي بمسكنات، قد تنجح لبرهة، لكن في النهاية لن يتمكن أحد من رأب الصدع الذي أحدثه صوت الغضب في بنية النظام، الذي لم يعد مقبولاً، وخاصة لجيل الشباب الذي مل هذه التقسيمات المكبلة للتحرر وبناء دولة وطنية حقيقية.
لكن ما علاقة كل ذلك بسوريا وثورتها، وهل علينا نحن الغرقى في بحر الدم حتى آذاننا، أن ننشغل بما يجري من مظاهرات في لبنان والعراق ؟!
يجب الاعتراف أن المشهد بدى لنا مشوشاً عندما انطلقت الاحتجاجات الشعبية في الحارة الشرقية، فانكمش السوريون عن ابداء أي رأي حيال هذا الحراك، بينما كان على الثورة أن تكون سعيدة بانتفاضة الشعب العراقي ضد هذ النظام البائس، الذي سلم كل مقاليده للإيراني، مقابل الاستمرار في نهب وتجهيل الشعب، إلى حد إفلاسه، واستنزاف دم ابنائه داخل الحدود وخارجها.
فمن لم يهاجر من شباب العراق، كان عليه أن يموت بالتفجيرات أو الحروب الطائفية التي يشعلها ويعتاش عليها أركان النظام ومرجعياته، ومن لم يمت في هذه الحروب، يمكن تصديره إلى سوريا مثلاً، للمساهمة في الدفاع عن التاريخ، أو استعجال المستقبل الهرمجدوني كخلاص..!
هكذا أشغل القادة والزعماء والمراجع العراقيون طاقات الشعب وشبابه، وبالطريقة ذاتها حكم وسيطر وتغول زعماء لبنان ومرجعياته التقليدية، وكانت سوريا هي آخر ضحايا هذا الحلف الباطني، الذي يمثل أطرافه الخصومة في العلن.
إن أول ضربة وجهت للثورة في سورية، كانت بنجاح القيادات اللبنانية أولاً، ومن ثم العراقية، في نقل جزء كبير من حروبهم إلى سوريا للهرب من المشاكل والاستحقاقات الداخلية، واشغال الشعبين، بل واشراك قطاعاً غير قليل منهما، في تغذية الحرب لدينا، بعد أن نجحوا في تمرير مشاكل البلدين -الطائفية منها خاصة- إلينا، بحيث أصبحت الثورة تقاتل عن الجميع في محيطها، ويقاتلها كل من في هذا المحيط، من أجل الدفع بها نحو انتاج الأشباح التي يخوفون بها (رعاياهم)، وتشغلهم عن فسادهم وجرائمهم.
نعم، لا نملك كسوريين أن نفعل أي شيء بصدد ما يجري في لبنان اليوم، كما لم نملك ما نفعله حيال ما جرى ويستمر في العراق، لكن نمتلك الأمل بالتغيير في هذين البلدين لصالح شعبيهما، وما هو بصالح الشعب في أي مكان، سيكون حتماً بصالحنا.
تتجدد اليوم الذكرى السنوية لثاني أكبر هجوم بالأسلحة الكيميائية في العصر الحديث، حيث ثبت لدينا ولدى منظمات دولية مثل هيومن رايتس ووتش، أن النظام السوري هو الذي شن الهجوم على غوطتي دمشق قبل سنتين، والذي أسفر -بحسب وثائق الشبكة السورية لحقوق الإنسان- عن مقتل 1127 شخصا، بينهم 201 سيدة و107 أطفال، مما يجعلها أكبر مجزرة في سوريا من ناحية عدد الضحايا.
وفي ظل هذه المجزرة تحديدا يتكرر السؤال: لماذا لم تتم حتى الآن محاسبة المجرمين في سوريا؟ ويجدر بنا القول من الناحية القانونية إن هذه المجزرة تحمل جريمتين: الأولى هي أنها ترقى لجريمة ضد الإنسانية، لأن القتل يمارسه النظام منذ عام 2011 بشكل منهجي وواسع النطاق، وذلك بحسب المادة السابعة من قانون روما الأساسي.
والجريمة الثانية هي أنها ترقى لجريمة حرب، لكون السلاح المستخدم محرما دوليا حتى ضمن الحروب، وذلك بحسب المادة الثامنة من قانون روما الأساسي.
مسار الجنائية الدولية
ومن غير المعقول في ظل النظام السوري أن تتم محاكمة المجرمين في القضاء المحلي غير المستقل، والذي يتبع فعليا سلطة أجهزة الأمن، فلا يوجد حاليا سوى خيار المحكمة الجنائية الدولية.
وهنا تبرز العقبة الأساسية، كون النظام السوري غير مصادق على ميثاق هذه المحكمة، وبالتالي فلا تعد مخولة لإصدار أي حكم قضائي بحقه، إلا إذا طلب مجلس الأمن ذلك من المحكمة، هنا تصبح المحكمة الجنائية الدولية مختصة.
لكن مجلس الأمن منذ مارس/آذار 2011 وحتى الآن، وبسبب استخدام حق النقض (فيتو) من جانب روسيا والصين أربع مرات، يمنع بشكل صارخ إحقاق العدالة، على الرغم من أن مشاريع القرارات التي قدمت نصت على محاسبة جميع الأطراف المتورطة وليس فقط النظام السوري، لكن روسيا والصين رفضتا ذلك بشكل قطعي.
وهذا يرسل رسالة للنظام السوري، أولا أن يبقى مرتاحا عندما تقلق الأمم المتحدة، وأن يضحك من الخطوط الحمراء، بل أن يهين ويسخر من قرارات مجلس الأمن نفسه.
مسؤولية مجلس الأمن
بكل تأكيد هناك خيارات أخرى غير المحكمة الجنائية الدولية، لكنها تعود بنا مجددا إلى مجلس الأمن الذي يتحكم في مصير شعوب وبلدان العالم بشكل غير عادل وغير مسؤول.
على سبيل المثال، بإمكان مجلس الأمن إصدار قرار تشكيل محكمة خاصة على غرار محكمتي يوغسلافيا عام 1993، ورواندا عام 1994، لأن الجرائم ضد الإنسانية وجرائم الحرب من شأنها تهديد السلم والأمن الدوليين، وهو ما يُمارس يوميا بحق الشعب السوري.
وهذه المحاكم الدولية الخاصة يكون كل قضاتها من دول غير الدولة التي ارتكبت فيها الجرائم الدولية، وتكون مرجعيتها القانون الإنساني الدولي.
هناك خيارات خارج مجلس الأمن مثل اللجوء إلى "الاتحاد من أجل السلم"، وذلك وفقاً للقرار المؤرخ في شهر نوفمبر/تشرين الثاني 1950 بشأن الاتحاد من أجل السلم، ويمكن للجمعية العامة أن تنظر في الأمر بهدف رفع توصيات إلى الأعضاء لاتخاذ تدابير جماعية لصون السلم والأمن الدوليين أو استعادتهما، لكنه لم يطبق فعليا إلا ثلاث مرات، وهو بحاجة إلى جدية عدد كبير من الدول وتشكيل تحالف من أجل إنجاح ذلك.
أخيرا هناك الاختصاص العالمي للمحاكم الوطنية، حيث يوجد عدد من السوريين يحملون جنسيات متعددة، من الممكن اللجوء لمحاكم بعض الدول التي تأخذ بالولاية العالمية لقضائها مثل سويسرا وإسبانيا وغيرهما، ولكن معظم هذه الدول أصبحت قوانينها تشترط وجود المتهمين في أراضيها لإمكانية رفع الدعوى.
الفصل السابع
يبقى في هذا المجال الإشارة إلى أن هناك ثلاثة قرارات صدرت في استخدام النظام السوري الغازات السامة، اثنان منها يهددان باستخدام الفصل السابع في حال حصول أي انتهاك، الأول قرار مجلس الأمن رقم 2118 الصادر في 27 سبتمبر/أيلول 2013، في الفقرة 21 منه ينص بشكل واضح على أنه:
"في حالة عدم الامتثال لهذا القرار، بما يشمل نقل الأسلحة الكيميائية دون إذن، أو استخدام أي أحد الأسلحة الكيميائية في الجمهورية العربية السورية، أن تفرض تدابير بموجب الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة". كما قرر أن "استخدام الأسلحة الكيميائية أينما كان يشكل تهديدا للسلام والأمن الدوليين".
والثاني هو القرار 2209 الصادر في السادس من مارس/آذار 2015. ونحن نؤكد أن النظام السوري قام بخرق القرارين، فقد سجلت الشبكة السورية لحقوق الإنسان ما لا يقل عن 125 خرقا للقرار 2118، من بينها 56 خرقا للقرار 2209، دون أي إدانة جدية على الأقل، نحن لم نصل بعد إلى مستوى محاسبة المجرمين.
أما القرار الأخير 2235 فقد طلب من لجنة نزع الأسلحة الكيميائية تحديد المجرمين، وكأن مجلس الأمن لا يعلم من هم!