ازدادت وتيرة هجرة السوريين الذين يعبرون البحر إلى أوروبا، طلبًا للجوء في الأشهر الأخيرة، وتوقعت الأمم المتحدة أن يصل عددهم إلى 850 ألف شخص في نهاية سنة 2015. وكانت موجات اللجوء خارج سورية قد بدأت منذ منتصف عام 2012، بعد انتقال الثورة السورية إلى طور العمل المسلح، واعتماد النظام سياسات العقاب الجماعي ضدّ السكان في المناطق والمدن الخارجة عن سيطرته. وتزايدت الوتيرة على نحوٍ مضطرد، مع قصف النظام العشوائي المناطق الواقعة تحت سيطرة المعارضة السورية المسلحة، ما زاد من إخفاقها في إدارة المناطق المحررة، وعجزها عن إيجاد مقومات البقاء الأساسيّة لسكانها، إضافةً إلى انتشار جماعات جهاديّة، سعت إلى فرض أفكارها وتصوراتها على المجتمعات المحلية، وارتكبت انتهاكات في حقها.
البدايات
اقتصرت الهجرة إلى أوروبا، في الفترة الأولى، على الأغنياء والميسورين، والناشطين المدنيين، وكذلك العاملين مع منظمات الإغاثة الدولية ومنظمات المجتمع المدني. وانضمّ السوريون المقيمون في أوروبا بهدف العمل، أو الدراسة، إلى هؤلاء، فحصلوا على وثائق لجوء رسمية، وأُدرجوا ضمن لوائح اللاجئين السوريين في أوروبا، في حين استقرت أغلبيّة اللاجئين في دول الجوار (تركيا، والأردن، ولبنان) في انتظار حلّ ينهي الأزمة، ويسمح بعودتهم إلى بلادهم. كما جذبت مصر، في عهد الرئيس السابق محمد مرسي، عشرات آلاف السوريين من أبناء الطبقة الوسطى، نظرًا إلى عدّة أسباب؛ أبرزها مساواتهم بالمصريين في التعليم والصحة، وتسهيلات الإقامة، والسماح لهم بالعمل ونقل أنشطتهم التجارية والصناعية، وانخفاض تكلفة المعيشة في مصر مقارنةً بدول جوارٍ سورية. لذلك، لم تكن أوروبا وِجهةً رئيسةً بالنسبة إلى اللاجئين السوريين. وبحسب مفوضية الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين، استقبلت دول الاتحاد الأوروبي، منذ اندلاع الأزمة حتى نهاية عام 2013، نحو 50 ألف لاجئ سوري، وهو عدد محدود مقارنة بدول اللجوء المجاورة.
"جذبت مصر، في عهد محمد مرسي، عشرات آلاف السوريين من أبناء الطبقة الوسطى"
ما لبث هذا العدد أن تضاعف في عام 2014؛ نتيجةً لعوامل مختلفة، في صدارتها إخفاق مؤتمر جنيف 2، وتراجع فرص الحلّ، وارتفاع مستويات العنف، وانتشار القتال في معظم الأراضي السورية، والتضييق على اللاجئين السوريين في مصر ولبنان والأردن. كما ساهم توسع تنظيم الدولة في المناطق الخاضعة لنفوذ المعارضة المسلحة، وسيطرته على مساحات واسعة من سورية، وكذلك هجومه على المناطق الكرديّة، في زيادة عدد اللاجئين إلى أوروبا؛ إذ فضّل آلاف السوريين من الأكراد من سكان منطقة عين العرب (كوباني) التوجه إلى ألمانيا مثلًا، لوجود جالية كردية كبيرة فيها، وعدم رغبتهم في العيش في مخيمات اللجوء التركيّة.
وقد برزت ألمانيا نقطة جذب للمهاجرين الجدُد، نتيجة التسهيلات المقدَّمة من الحكومة الألمانية في ما يتعلق بالإقامة، ولمِّ الشمل، والمعونة الاجتماعية، وكذلك تجاهلها "بصمة دبلن" التي تفرض على اللاجئ تقديم طلبه في أوّل دولة أوروبية يطأها، ما حفز سوريين كثيرين على اعتماد خيار اللجوء إليها. وقد أعلنت المفوضية الأوروبية لشؤون اللاجئين أنّ عدد طلبات اللجوء المقدَّمة إلى دول الاتحاد الأوروبي من السوريين بلغ 210 آلاف طلبٍ من يوليو/تموز 2014، إلى يوليو/تموز 2015.
غير أنّ ما سلّط الأضواء على مسألة الهجرة، وأكسبها بعدًا سياسيًّا وأخلاقيًّا على الصعيد الدولي، أخيراً، التدفق غير المسبوق للاجئين السوريين؛ إذ قدرت المفوضية الأوروبية أعداد المهاجرين السوريين الواصلين إلى أوروبا بأكثر من 28 ألف مهاجر في يونيو/حزيران 2015، وأكثر من 32 ألف مهاجر في الشهر الذي تلاه، مع توقعات تضاعف الأرقام السابقة في إحصائيات شهر أغسطس/آب، وسبتمبر/أيلول 2015، لتستقبل أوروبا ما بين 4 آلاف و5 آلاف لاجئ سوري يوميًّا.
"قدرت المفوضية الأوروبية أعداد المهاجرين السوريين الواصلين إلى أوروبا بأكثر من 28 ألف مهاجر في يونيو/حزيران 2015، وأكثر من 32 ألف مهاجر في الشهر الذي تلاه"
أسباب موجة اللجوء أخيراً
يُعزى الارتفاع الأخير في معدلات اللجوء إلى مجموعة عوامل، أهمها:
• تضاؤل فرص الحل: شهدت الساحة السورية تطورات مهمةً في النصف الأول من عام 2015، فالانتصارات العسكرية التي حقّقتها المعارضة المسلحة استنزفت النظام، وأظهرت عجزه عن الدفاع عن مواقعه، ومناطق مؤيّديه. ونتيجةً لتوسع تنظيم الدولة في مناطق النظام، أيضًا، عاد الحديث عن ضرورة الحلّ السياسي للأزمة السورية، وشرعت القوى الدولية والإقليمية في جهد دبلوماسي كبير، مثّل بارقة أمل لحلّ الأزمة السورية، ولا سيما بعد تزايد الحديث عن تقارب سعودي – روسي؛ بهدف تجاوز خلافاتهما، ووضع بيان جنيف 1 موضع التنفيذ.
لكنّ تمسك موسكو ببقاء الأسد، وتنامي وتيرة الدعم العسكري المقدم له، بدَّدَا الآمال بقرب التوصّل إلى حلّ؛ ما دفع سوريين كثيرين باحثين عن استقرار دائم إلى ركوب البحر، بدلًا من انتظار حلّ لا يبدو أنه سيأتي قريبًا. ثمّ إنّ انسداد الأفق، وتوقّع استمرار الأزمة سنوات عديدةً، فضلًا عن حاجة سورية عقوداً حتى تتمكن من تجاوز آثار الأزمة وإعادة الإعمار، دفع حتى ببعض السوريين المقيمين في دول الخليج العربية إلى طلب اللجوء إلى أوروبا، بحثًا عن استقرار نهائي لهم ولأسرهم.
• ظروف اللجوء القاسية: ألحقت سنوات الحرب الطويلة الضرر بحياة ملايين السوريين ومصالحهم. كما استنزف اللجوء مقدراتهم ومدّخراتهم، وأفقدهم فرص تحسين أوضاعهم الاقتصادية، أو تعليم أبنائهم. فدول اللجوء الرئيسة (ما عدا تركيا) تعاني مشكلات اقتصادية، واجتماعية، وتنتشر فيها البطالة، إضافةً إلى غلاء المعيشة فيها. وجاء خفْض الأمم المتحدة مساعداتها، ولا سيما في ما يتعلق بالصحة، ودعم التعليم، ليضاعف معاناتهم، ويعرضهم للعوز الشديد، ويهدّد مستقبل أبنائهم. وفي المقابل، شكّل ترحيب ألمانيا التي أعلنت نيتها استقبال 800 ألف لاجئ خلال عام 2015 حافزًا قويًا دفع كثيرين من طالبي اللجوء السوريين إلى إعادة النظر في خططهم المستقبلية، وشدّ الرحال إلى أوروبا، هربًا من أوضاع اللجوء القاسية.
• اختلاف أوضاع تركيا: وفقًا لإحصائية المفوضية العليا لشؤون اللاجئين التابعة للأمم المتحدة، تحتض تركيا 1.8 مليون لاجئ سوري؛ أي نحو 45% من إجمالي اللاجئين السوريين في الخارج المسجلين لدى الأمم المتحدة البالغ عددهم أكثر من 4 ملايين. وفي السنوات الأربع الماضية، كانت تركيا الوجهة المفضَّلة للاجئين والمهجّرين السوريين لأسباب عديدة؛ منها قربها الجغرافي، واقتصادها القوي، والحكومة الداعمة، وتوفر إمكان العودة، وسهولة التنقل من سورية وإليها. لكنّ الأوضاع تغيرت كثيرًا خلال الأشهر الماضية، إذ شدّدت الحكومة التركية إجراءاتها الأمنية، وأغلقت حدودها أمام الخارجين من سورية، بسبب التهديدات الأمنية في ولايتها الجنوبية.
"تحتض تركيا 1.8 مليون لاجئ سوري؛ أي نحو 45% من إجمالي اللاجئين السوريين في الخارج المسجلين لدى الأمم المتحدة البالغ عددهم أكثر من 4 ملايين"
من جهة أخرى، أثارت نتائج الانتخابات البرلمانية، ودخول تركيا مرحلةً من عدم الاستقرار السياسي والأمني قلق سوريين كثيرين، ودفعتهم إلى البحث عن بدائل، إذ يخشى هؤلاء إخفاق حزب العدالة والتنمية في الحصول على أغلبية في الانتخابات المبكرة المقبلة، تمكنه من تشكيل الحكومة منفردًا، واضطراره إلى تقديم تنازلات لأحزاب معارضة تناصب اللاجئين السوريين العداء، وتدعو إلى ترحيلهم، وإلى التحالف مع بشار الأسد في مواجهة "الإرهاب".
بناءً على ذلك، أضحت السواحل التركيّة، بالنسبة إلى المهاجرين السوريين، نقطة انطلاق رئيسة في اتجاه الجزر اليونانية القريبة، خصوصًا أنّ السلطات التركية أخذت تتوانى، في الآونة الأخيرة، في ملاحقة شبكات التهريب، وضبط مراكب المهاجرين، وكأنّ الأمر، في ما يبدو، توجهًا تركيًّا جديدًا لمعاقبة أوروبا، بتقاعسها في البحث عن حلّ للأزمة السورية، واكتفائها بموقف المتفرج على المعاناة الإنسانية، في ظلّ تحمّل دول الجوار، خصوصاً تركيا، أعباء اللجوء.
• المناخ الجغرافي الملائم: تكررت الأحداث المأساوية خلال شتاء 2015؛ إذ قضى مئات اللاجئين، ومعظمهم من السوريين، غرقًا في مياه البحر المتوسط من دون الوصول إلى إيطاليا أو اليونان، بسبب سوء الأحوال الجويّة. وعلى الرغم من أنّ حركة الهجرة لم تتوقف، فإنّ أعدادًا كثيرةً من المهاجرين، خصوصًا العائلات منها، فضّلت تأجيل رحلاتها البحرية إلى أشهر فصل الصيف.
التداعيات
يشكّل اللجوء إلى أوروبا بالنسبة إلى أغلبيّة المهجرين حلًّا لمعاناتهم المستمرّة منذ سنوات؛ إذ يُؤمّن لهم الوصول إليها الاستقرار المادي والنفسي، والتعليم، وفرص العمل، وغير ذلك من المنافع على الصعيد الفردي. وفي المقابل، تبرز آثار سلبية عديدة على المستوى الوطنيّ. فعلى خلاف دول اللجوء المجاورة أو الدول العربية الأخرى، تدمج الدول الأوروبية المهاجرين وتوطنهم، وتمنحهم جنسيتها بعد مضيّ فترة زمنية محددة، ما يعوق عودتهم مستقبلًا.
من أجل ذلك، من المرجح أن تفقد سورية، في حال استمرار وتيرة الهجرة على ما هي عليه أو زيادتها، مئات الآلاف من مواطنيها سنويًّا. وتعزّز تصريحات المسؤولين الغربيين، وبرامجهم الهادفة إلى تنظيم استقبال المهاجرين السوريين في السنوات الخمس المقبلة، مخاوفَ من وجود توجُّه غربي لإطالة عمر الأزمة، وحصرها في أحد جوانبها (اللجوء). فمن شأن ذلك أن يُحدث خللًا في التركيبة السكانية والديمغرافية لسورية، لا يقلّ أثره عن سياسات التجهير الممنهجة التي يتبعها النظام وحلفائه.
"يُعدّ فقدان عنصر الشباب أحد أبرز الآثار السلبية للهجرة الحالية؛ لأنه عنصر ضروري ومهمّ في عمليّة إعادة الإعمار"
وتساهم الهجرة الحالية في اضمحلال الطبقة الوسطى في سورية؛ إذ تفيد عدّة دلائل بأنّ المهاجرين إلى أوروبا ليسوا من المعدمين داخل المخيمات أو الفقراء العاجزين عن تأمين تكاليف الهجرة المقدرة بنحو ثلاثة آلاف يورو للشخص، بل إنهم من أبناء الطبقة الوسطى الباحثين عن استقرار دائمٍ وأوضاع معيشية أفضل (منهم المثقفون، والجامعيون، والمهنيون، والحرفيين).
وفي هذا السياق، يمكن الإشارة إلى دراسة أجراها التلفزيون السويدي، متعلّقة بمستويات تعليم الوافدين حديثًا إلى السويد خلال عام 2014، استنادًا إلى إحصائيات مكتب العمل السويدي ومجلس الهجرة، فقد خلصت إلى أنّ اللاجئين السوريين هم الأكثر تعليمًا من بين اللاجئين الحاصلين على إقامة دائمة في هذا البلد، وأنّ 37 % منهم حاصل على شهادات جامعية، أو شهادات فوق الثانوية.
فضلًا عن ذلك، يُعدّ فقدان عنصر الشباب أحد أبرز الآثار السلبية للهجرة الحالية؛ لأنه عنصر ضروري ومهمّ في عمليّة إعادة الإعمار. ومن المرجح أن تخسر سورية، أيضًا، أعدادًا كبيرة من الجيل الجديد الذي سوف ينشأ في بلاد بعيدة على ثقافة مختلفة، تسلخه بالتدريج عن وطنه الأصليّ، وتغيّر اهتماماته وأولوياته.
لم أستطع أن أخرج من لقائي مع المبعوث الأمريكي إلى سوريا مايكل راتني ، برؤية محددة حول الحل في سوريا ، اللهم الكلام العام ذاته "حل سياسي لا عسكري" ، و فيما عدا ذلك كان الكلام عاماً ، عقيماً ، سرداً درامتيكياً عن جهود و مباحثات هنا و هناك .
سوريا اليوم هي النقطة الأشد تعقيداً سياسياً و عسكرياً ، و الكل يشارك فيها ، هذا الكل مجتمع في المشاركة ، و لكنه يلعب وحيداً و منفرداً ، كأن سوريا هي كرة أرضية مستقلة أو كوكب جديد تم اكتشافه و الجميع يبحث عن موطئ قدم فيه .
اعتمد المبعوث الأمريكي في أول لقاء إعلامي له منذ تسلمه مهمته ، على مبدأ الحذر و التركيز على العموميات ، و التأكيد أن الحل يبدأ بداعش ، ينتهي به ، أما الأسد يأتي في مرحلة قادمة أو متقدمة ، فالأهمية ترتكز على داعش و محاربتها ، والأسد على قائمة المؤجلات ، هذا القائمة قد تحوله من مؤجل إلى مشارك بالفعل الأساسي وفق الرؤية الروسية التي تتعارض مع الفهم الأمريكي كما قال "راتني" ، الذي بدا حاداً بشأن الأسد ، لكن حدته تقتصر على بضع كلمات في غياب أي طريقة لإنهائه إلا عن طريق السياسية التي لاتزال تائهة في دهاليز المؤتمرات و الإجتماعات التي تعتبر في حكم دائمة الإنعقاد منذ أربع سنوات ، إنعقاد للتعقيد لا للحل .
المبعوث الأمريكي الجديد ، خلال لقاءه مع شبكة شام ، أراد أن يقول أن الطريق لايزال طويل بشأن الحل النهائي و الحاسم للحرب في سوريا ، فالإنتظار يجب أن يكون طويلاً حتى يبدأ دي مستورا العمل على خطة المجموعات ، و يخرج بما يشبه الجسم السياسي لجنيف ، فيما سيكون الحسم العسكري بعيداً جداً ، فالأمر الآن هو أمر "داعش" أما الأسد فهو عبارة عن فكرة لاأهمية لها في قاموس الأمريكي و كذلك العالم .
جي سورية
ميشيل كيلو
أقدمت روسيا على خطوة مفصلية، بالنسبة إلى الصراع على سورية، بإرسالها قطعات من جيشها البري وسلاحها الجوي إليها، وتعزيز وجودها البحري على سواحلها. ومع أنها أعلنت أن خطوتها استباقية تريد منع أميركا وبريطانيا وفرنسا وتركيا من بدء تدخل عسكري وشيك في بلادنا، فإن إعلانها يستبعد أن يكون صحيحاً، ليس فقط لأنها عاجزة عن مواجهة عسكرية مع أميركا، بل لأنها ستقضي تماما على جهودها " السلمية"، وسعيها إلى إيجاد غطاء داخلي معارض يؤيد خطتها، لا شك في أن خطوتها العسكرية المؤيدة للنظام ستكشف ظهره، وتقضي عليه، وستنهي قدرة الكرملين على الانتفاع به، وستضع حداً نهائياً لما اقترحه حول بناء تحالف عربي/ إقليمي/ دولي "يحارب الإرهاب"، وواجه رفضاً واضحاً من معظم الذين عرض عليهم، لكن احتلال جيش بوتين سورية سيجعل قيامه ضرباً من المحال، وسيوسع المواجهة الدولية الدائرة في بلادنا، وربما نقل الصراع عليها إلى طور أشد خطورة، وأعلى ثمناً من كل ما عشناه، في سنوات التطاحن الدولي والإقليمي النادر المثال، والذي سيبلغ ذروته الانفجارية، بسبب الإجراء الروسي الخطير.
إذا كانت روسيا لا تمتلك القدرة على مواجهة الغرب، ولا تريد إفساد ما تقوم به من جهود لـ"محاربة الإرهاب وتحقيق السلام"، لماذا أرسلت جيشها إلى سورية، وتحديداً إلى منطقتها الساحلية؟ ثمة احتمالات كثيرة قد تفسر خطوتها المفاجئة، أهمها في اعتقادي:
ـ شعورها بقرب انهيار النظام، مع ما سيترتب عليه من فشل سيصيب استراتيجيتها في ركنيها "السلمي والأمني"، وحاجتها إلى حماية حبيبها بشار الأسد وإنقاذه، وإلا فمرابطة قوات كافية لحماية سكان الساحل، في حال تم الاتفاق على حل، يتطلب نجاحه وجود قوات دولية للفصل بين المتقاتلين، لمنع مجازر قد تقع ضد هؤلاء. في هذه الحالة، تكون القوات الروسية طلائع هذه القوة الدولية.
ـ اعتقاد روسيا أن قوتها في سورية محدودة، وأن إيران قوة حسم، بينما هي قوة مساندة. لذلك، تمس حاجتها إلى زيادة حضورها العسكري الملموس فيها ودعمه، لموازنة الوجود الإيراني أو للتفوق عليه، وجعل الكرملين قادراً على فرض خياراته في دمشق وعلى طهران، في الاتجاه الذي يتم التفاهم عليه مع أميركا.
ـ اقتناع الكرملين بوجود مشروع لتقسيم سورية، سيخرجه منها إذا لم يبادر إلى إرسال جيشه إلى منطقة نفوذه ووجوده القديم في الساحل، لما لانتشاره فيها من أهمية متعددة الأوجه، بالنسبة إلى استراتيجيات القوى الكبرى المتوسطية. في هذا الاحتمال، تتصرف روسيا كما تتصرّف إيران التي عزّزت، في الآونة الأخيرة، تعزيزا كبيراَ حضورها العسكري والديمغرافي/ الاستيطاني داخل دمشق وحولها، وصولا إلى حمص والبقاع والهرمل وجنوب لبنان، وتستبق دخول تركيا العسكري المباشر إلى شمال سورية، وتشحنه بصعوبات قد تقنع أردوغان وقياداته بالعدول عنه، كما تستبق دخول الأردن إلى مناطق آمنة في جنوبها. قبل التقسيم، هناك التقاسم، وهو جار على قدم وساق، وسيقبل الأميركيون به إن كان القصد منه تقوية الموقف الروسي حيال إيران وداخل النظام، وتسهيل التفاهم على حل تقاسمي، يصعب على أي طرف معارض، أو موالٍ، إحباطه أو مقاومته.
إذا لم تندرج الخطوة الروسية في واحد من هذه الاحتمالات، فإنها ستنقل الصراع الدائر في بلادنا إلى عوالم تخرجنا نحن منه بصورة نهائية، وتضع العالم على حافة حربٍ فيها موت وطننا، وهلاك البشرية جمعاء.
كتب «مثقف» النظام السوري: «معظم اللاجئين السوريين خارج وطنهم هم من الفئات غير القادرة على التعايش مع التعددية... وهكذا فإن خساراتهم لا تعد نزفاً ديموغرافياً»!، وذلك قبل أن تبادر صحيفة «الأقلوية الممانعة» إلى سحب مقاله من موقعها الإلكتروني والاعتذار. وسبق هذه الواقعة أن أقدمت مصورة في تلفزيون يميني مجري على ركل نازح سوري يحمل ابنه ويحاول الإفلات من عناصر الشرطة التي تحاصره. وأيضاً أقدم التلفزيون اليميني على إنهاء عقد عمل المصورة لديه.
والحال أن سحب المقال من الصحيفة اللبنانية وإنهاء عمل المصورة التلفزيونية المجرية لا يلغيان حقيقة أن فعلتي الكاتب والمصورة صادرتان عن وعي وتصميم هما وليدا ثقافة نزق وطني عنصري لطالما شاب الوعي الأقلوي، ودفعه نحو مستويات هذيانية.
وإذا كانت فعلة المصورة المجرية شأناً أوروبياً تتولى مجتمعات القارة العجوز نقاشه ومحاسبة نفسها وثقافتها عليه، فإن فعلة كاتب النظام في سورية ليست سقطة عابرة، إنما هي جزء من لغة ومن أفعال ومن أداء أنظمة ودول لا تقتصر على النظام في سورية. وقد ابتكرت لهذه اللغة مفاتيح تمكنت من حجز مكان لها في قاموس ما هو مقبول في لغتنا السياسية. فعبارة «سورية المفيدة» تنطوي ضمناً على قناعة بأن ثمة «سورية غير مفيدة». وهذه العبارة مهدت من دون شك لمقولة كاتب النظام، إذ إن وجود «سورية غير مفيدة» يعني أيضاً وجود «سوريين غير مفيدين»، وهم من باشرت آلة النظام عملية ترحيلهم على نحو منهجي.
وهنا علينا أن لا نهمل جهداً بدأ يُبذل لإنتاج رواية تتخلص فيها الأقليات من الإرث الثقافي الجماعي للمنطقة، وتنسب إلى نفسها فضائل «التعددية» في مقابل الأحادية، فيُنتج تلفزيون «المنار» مثلاً برنامجاً عن الإمام الثاني عشر، يشير فيه إلى أن والدته «رومية مسيحية»، في إشارة إلى «قابلية ثقافية» للاختلاط بالأقليات، ويهمل التلفزيون في برنامجه هذا أن والدة الإمام في هذه الرواية غير المحققة أصلاً، كانت سبية.
النقاش يجب أن يتركز هنا على مدى صحة مقولة أن ثمة ترحيلاً منهجياً يرقى لأن يُسمى ترانسفير في سورية. ذاك أن وجود «سوريين غير مفيدين» عبارة موازية للعبارة الصهيونية التي استعملت في وصف سكان الجليل عندما باشرت المنظمات الصهيونية عملية ترحيلهم وتوطين يهود أوروبيين في مدنهم وقراهم. فهم وِفقها «بدو لا يصلحون للبقاء في هذه الأرض الخصبة». وبعد ثلاثة عقود من هذه العملية ظهر في اسرائيل من يعترف بأن دولته أقدمت على ترانسفير.
وبغض النظر عن حقيقة أن عبارة كاتب النظام كشفت عن مدى إعجابه بالنجاح «غير الأخلاقي» للترانسفير الإسرائيلي، على حد تعبير المؤرخ الاسرائيلي بيني موريس، فإن ثمة وقائع تؤكد أن ثمة تمهيداً حقيقياً لعملية ترانسفير سورية أنجزت فيها مهام محددة، فيما تنتظرها خطوات لاحقة يبدو أن النظام وحلفاءه في طريقهم إلى مباشرتها. والوقائع المنجزة يُمكن بسهولة إدراجها في سياق خطة منهجية تهدف إلى تغيير ديموغرافي واضح.
المهمة هي تأمين بيئة تساعد على تحقيق «سورية المفيدة». المهمة شاقة وصعبة، لكنّ النظام وحلفاءه الإقليميين والدوليين سائرون فيها على ما يبدو. «سورية المفيدة» التي تمتد من دمشق وريفها إلى الساحل السوري مروراً بحمص وريفها، يجب أن تتخلص من «السوريين غير المفيدين»، وهؤلاء يشكلون أكثر من 60 في المئة من سكان هذه المناطق.
المهمة بدأ تنفيذها منذ سنوات. وثمة وقائع كثيرة أصبحت وراءنا في سياقها. فالطريق من دمشق إلى حمص، تم ترحيل الكتل السكانية الرئيسة منها. ومدن القصير ويبرود وأحياء حمص القديمة، جميعها صارت مناطق غير مأهولة تقريباً. مدينة الزبداني في طريقها الى الالتحاق أيضاً بسلسلة المدن السورية الخالية من السكان. ثمة أكثر من مليون لاجئ سوري في لبنان جميعهم من هذه المناطق. وإذا كان الترانسفير يحتاج لكي يتحقق إلى أكثر من ربط الوقائع بالنوايا، أي إلى إعلان واضح عن موقع السكان من مشروع الدولة المستجدة، فإن كاتب النظام كشف عن موقع هؤلاء المرحلين في ثقافة النظام. فهم «لا يخدمون التعددية»، وهم «شعب القاعدة وداعش». علماً أن النظام يملك ثقافة احتقارية لهؤلاء السكان سبقت انتفاضهم عليه، وما عبارات كاتب النظام سوى صدى مباشر لهذه الثقافة.
لكن، وعلى رغم وجود النوايا وضعف الوازع الأخلاقي، تبقى المهمة شبه مستحيلة. صمت العالم عما يجري للسوريين لا يُشبه صمته حيال ما حل بالفلسطينيين في 1948. في ذلك الوقت، قرر العالم أن ليهود أوروبا الناجين من المحرقة دولة في الشرق يجب عدم اعتراضهم في مهمة تأسيسها. أما في سورية، فالعالم مستهدف أيضاً في هذا الترانسفير، وأوروبا منقسمة حيال مصير مئات الآلاف من السوريين العالقين بين حدود دولها. والكتل السكانية التي استهدفت بقرار الترانسفير كانت أقل انسجاماً وتماسكاً من الكتل المستهدفة بالترانسفير السوري. الأعداد أيضاً كانت أقل، والمجتمعات المجاورة التي استقبلت اللاجئين الفلسطينيين في حينه لم تكن مضطربة على نحو ما هي مضطربة اليوم. وتبقى المشكلة الأكبر في وجه الترانسفير السوري والتي تتمثل بهوية المستوطنين الذين يُفترض إحلالهم في الأرض التي اقتلع سكانها. فحتى الآن لا يبدو أن ثمة تصوراً لدى النظام عن آلية نقل للسكان، وما زالت الأخبار عن توطين ايرانيين ولبنانيين وعراقيين ضعيفة وغير واقعية.
هذا كله لا يُضعف حقيقة أن السوريين يتعرضون لنوع جديد من الترانسفير، مع فارق أنه ترانسفير بعثي لا صهيوني، أي أنه يحمل من هوية أصحابه انعدام وجهة واضحة وخطة واقعية، ويبدو أن التجريب هو وسيلته في «الإنجاز». وهذا يعني ارتفاعاً في طاقته العنفية والتدميرية، وترافقه مع نزعة استئصالية.
يبقى أن دراسة مقارنة بين الترانسفيرين السوري والفلسطيني لا تساعد على استبعاد وصف ما يجري في سورية بأنه عملية ترحيل منهجية. فالعالم اعترف بأن اسرائيل أقدمت على اقتلاع سكان من أرضهم وإحلال غيرهم محلهم بعد عقود من وقوع الكارثة. والعالم اليوم يُمارس نكراناً مشابهاً.
مما يثير القلق أن الدول الأوروبية والغربية يمكن لها بدلا من دفع المليارات لاستضافة اللاجئين السوريين إصدار قرار بفرض عدم تحليق سلاح الجو السوري فوق الأراضي السورية، وهو ما سيمنع القاء البراميل المتفجرة، وهي احد انواع اسلحة الدمار الشامل المحرمة دوليا، كما انها المتسبب الأول في ترك السوريين لديارهم، وذلك القرار أو الخيار لن يكلف الغرب سنتا واحدا، حيث لن تجرؤ طائرة سورية على التحليق مع ذلك الخطر الذي سيساعد في الوقت ذاته على تطبيق القرارات الدولية وإنهاء الحرب في اسرع وقت ومن ثم توقف اللاجئين وعودتهم الى ديارهم، لو كان هذا ما يريده المجتمع الدولي الذي تذرف مآقيه الدمع على الشعب السوري ويده تنحر بهم عبر سكوته عما يفعله نظام دمشق في شعبه.
في عام 1948 بدأت القضية الفلسطينية، وشجع أمينها العام أمين الحسيني الفلسطينيين على ترك ديارهم عبر تضخيم ما جرى في بعض قراهم بحجة ان ذلك الخروج سيساعد الجيوش العربية (المعارضة السورية هذه الأيام) في عملها، كما انه سيمهد لتدريب اللاجئين في الخارج، وهو امر لم يحدث وتم وضع الفلسطينيين آنذاك كحال السوريين هذه الأيام في مخيمات لاجئين ولم يعودوا منها الى ديارهم قط، ومازال اصحاب المخيمات يعانون العذاب في البلدان المجاورة التي ارتحلوا إليها حيث تبدل حسن الاستقبال الى التذمر ثم المحاربة بعد ان طال المقام.
ان ما يحدث في سورية هذه الايام قريب مما حدث لفلسطين عام 1948، وتعلما من درس الماضي علينا ان نشجع بقاء السوريين على ارضهم عبر خلق مناطق آمنة ضمن الداخل السوري، فأغلب ما يحدث هو تهجير متعمد لترسيم حدود دويلات طائفية لن يعود إليها ابدا من يخرج منها، والأفضل عدم تشجيع الهجرة الى الخارج بل ضمان العودة السريعة للاجئين الى محافظاتهم ومدنهم وقراهم تحت رعاية دولية.. ومن لم يتعلم من مأساة 1948 فلن يتعلم شيئا أبدا.
ولمن يتساءل بطيبة وجهل أو بخبث شديد: لماذا لا تخلق دول الخليج مخيمات للاجئين على أراضيها؟ فالإجابة هي لأسباب عديدة، منها ان التهجير لم يمس السوريين فقط فهناك ملايين المهجّرين العراقيين واليمنيين، وهم أقرب جغرافيا، فكيف تبرر عمليات استقبال السوريين وإهمال الباقي؟ كذلك فدول الخليج تقوم فعليا باستضافة السوريين، حيث يوجد نصف مليون سوري في السعودية ومئات الآلاف في دول الخليج الأخرى، حيث يعملون ويرسلون الاموال التي تدفع سوريي الداخل إلى الصمود ولا يمكن استقبال المزيد دون الحاجة، كما ان اهل الخليج وبعكس الأوروبيين يمثلون في الاغلب ربع السكان في دولهم او اقل وأي إضافة غير مدروسة لهم ستجعلهم يتحولون الى أقليات بشكل دائم، حيث لا يمكن اخراج اللاجئين بعكس المهاجرين القادمين للعمل من عرب وآسيويين ممن يمكن تقليل اعدادهم حسب الحاجة، يتبقى ان انخفاض اسعار النفط سيتسبب بالتبعية في خفض دول الخليج للقادمين إليها بحكم انها وبعكس الدول الغربية تقوم بدعم الغذاء والكهرباء والماء والبنزين .. إلخ، ولا تحصّل اي ضرائب دخل وتلك الصعاب الاقتصادية القائمة والقادمة تفرض تقليل عدد السكان لا زيادتهم.
آخر محطة:
(1) من يروج لمشروع استضافة دول الخليج للاجئين السوريين يرمي لدق إسفين الخلاف بين الشعب السوري واقوى الداعمين له وتوجيه الغضب من اعدائه لأشقائه.
(2) ما تقوم به الدول الخليجية من كونها الداعم السياسي والاقتصادي الأول للشعب السوري المظلوم في الداخل والخارج واستضافتها لجميع مؤتمرات الدول المانحة هو الوضع الامثل لما يمكن لدول الخليج القيام به.
(3) تجربة مخيمات رفح عام 1991 للاجئين العراقيين لم تكن مشجعة كي تتم اعادتها وقد ساعد على إنهائها التغيير الذي حدث عام 2003.
دخلت الأزمة السورية منعطفًا جديدًا بعد التدخل الروسي العسكري في سوريا، وهو ما سيكون له تبعات سورية، وإقليمية، ودولية. سوريًا، يمكن القول إن بشار الأسد بات الآن الحلقة الأضعف بمعادلة الأزمة. بعد التدخل الروسي العسكري أصبح الأسد أضعف من خالد مشعل، وحسن نصر الله، وعلي عبد الله صالح، وحتى أكثر ضعفًا من صدام حسين في آخر أسبوع له قبل الغزو الأميركي، وإسقاط نظامه، حيث كان صدام يحكم دولة، وحتى قبل إطلاق أول صاروخ أميركي. اليوم بات الأسد مجرد بيدق في لوحة شطرنج يلعب بها الرئيس الروسي فلاديمير بوتين. الأسد ليس مشعل الذي لا يزال يملك ورقة التفاوض مع إسرائيل. ولا حسن نصر الله الذي يستطيع إشعال حرب بجنوب لبنان مع إسرائيل، أو تسهيل تمرير انتخاب الرئيس اللبناني. ولا هو صالح الذي قد يبيع الحوثيين في أي لحظة، ولا يزال تحت يده عدد كبير من الحرس الجمهوري اليمني. وأيًا كانت نتائج التدخل الروسي فإنها لا تعني أن بمقدور الأسد الحفاظ على حكمه.
بالأمس نشرت صحيفة «الفايننشيال تايمز» البريطانية قصة مهمة عن التدخل الروسي بسوريا، ونقلت فيها آراء لافتة لمستشارين روس، واثنين من قيادات حزب الله العسكرية، ملخصها وجود قناعة بانتهاء الأسد، وإن استخدم لبعض الوقت. فقد نقلت الصحيفة عن مسؤول روسي قوله: «نتخذ هذه المبادرة بهذه الأزمة، بما لا علاقة له بمن يحكم دمشق، وإنما بمن يستطيع مقاتلة أشرس خطر مهدد، وهو الإرهاب». وهذا التصريح وإن كانت له معانٍ كثيرة إلا أنه يظهر عدم الاكتراث بالأسد كرئيس، خصوصًا أن الصحيفة تنقل عن مسؤول روسي آخر قوله إن سوريا التي نعرفها لم يعد لها وجود، من ناحية السيادة، وهذا أمر طبيعي لأن الأسد لم يعد يحكم أجزاء كبيرة من سوريا. ويضيف مسؤول آخر أنه قد يكون البعض بالمنطقة يشاهد التحركات الروسية في سوريا بـ«أمل»!
ومن اللافت أيضًا نقل الصحيفة عن قائدين عسكريين بحزب الله قولهم إنهم يعتقدون أن الروس مقتنعون بأنه من المحتمل أن تنقسم سوريا إلى جزأين، وأن الروس يفضلون السيطرة على أكبر جزء، على أن يكون تحت حكم الأسد على الأقل في المرحلة الأولى. مما يعني أن حزب الله أيضًا بات مقتنعًا بأن التدخل الروسي يعني نهاية الأسد لا محالة، عاجلاً أو آجلاً، وأن هذا التدخل أضعف من قيمة الأسد الذي بات طرفًا لا قيمة أساسية له بالمعادلة، وقد يكون هذا هو الرأي الإيراني اليوم أيضًا، خصوصًا أن الأسد بات تحت وصاية روسية كاملة، بحالة غير مسبوقة في منطقتنا، مما قد يعيد تجربة أفغانستان بكل مرارتها! والسؤال الآن هو: ماذا عن دائرة الأسد؛ العائلة، والطائفة؟ أعتقد أنهم أيقنوا بأن الأسد قد انتهى، وما هو إلا ورقة بيد بوتين.. متى يلعبها؟ هذا ما سيظهره سير الأحداث.
يبدو نظام الأسد اليوم في أضعف حالاته. وهذا أمر طبيعي بعد نحو خمس سنوات من حربه على السوريين، وصراعه معهم. ولولا اعتماد النظام على القوى والدعم الخارجي، ما كان له أن يبقى ويستمر، وهو دعم بدأ مع إطلاق الهتافات الأولى للمتظاهرين في درعا، وتصاعد مع انتشار المظاهرات في الأنحاء الأخرى، ثم ما لبث أن تطور ليتجاوز الدعم السياسي شاملاً الدعم العسكر والاقتصادي وصولاً إلى الدعم البشري المسلح.
والمثال الأهم والأشد وضوحًا للدعم الخارجي لنظام الأسد، كان الدعم الإيراني الذي ما زال مستمرًا، لكنه أصبح أقل قدرة عن تلبية احتياجات نظام الأسد في حربه المتواصلة، مما أفسح المجال لتدخلات أخرى، كان أصحابها وقفوا إلى جانب النظام لحمايته، قبل أن يندفعوا لانخراط مباشر في الصراع السوري على نحو ما تظهر خطوات روسيا الأخيرة، والتي تأتي في سياق تحرك روسي سياسي وعسكري، يقدم دعمًا نوعيًا لنظام الأسد في ظرف تغيرت فيه ظروف نظام الأسد.
إن التمايز بين دور إيران وروسيا في دعم نظام الأسد، يكمن فيما يشكله كلاهما من حضور في سوريا وحولها من جهة، وفي الأهداف الظاهرة والكامنة لكل منهما في موقفه من الوضع السوري، واحتمالات تطوره في المديين القريب والبعيد.
يقوم الحضور الإيراني في سوريا على وجود مادي ملموس أساسه ثلاث أذرع؛ أولاها وجود إيراني مباشر عبر أجهزة ومؤسسات الدولة الإيرانية السياسية والعسكرية والاقتصادية والثقافية، وخاصة القوات العسكرية، التي تشمل عناصر من الحرس الثوري وفيلق القدس وخبراء عسكريين وأمنيين وتقنيين. والذراع الثانية غير المباشرة، تضم ميليشيات تابعة لإيران وفيها ميليشيات حزب الله اللبناني والميليشيات العراقية المسلحة. وتضم الذراع الثالثة، مدنيين شيعة من إيرانيين وعراقيين ولبنانيين وأفغان وغيرهم بمن فيهم شيعة سوريون، تم تحشيدهم على أساس طائفي، مرتبط بالمرجعية الدينية في إيران.
والقوة البشرية المحسوبة على إيران، تجعل للأخيرة فاعلية وتأثيرًا كبيرين في الواقع الجغرافي الذي يسيطر عليه النظام، فيما تلعب الوحدات العسكرية الإيرانية والميليشيات اللبنانية والعراقية دورها في الدفاع عن مناطق النظام، إضافة لدورها في الحرب ضد قوات المعارضة المسلحة، وهو ما أكدته مجريات الصراع بينهما سواء في درعا جنوبًا أو في حلب وإدلب شمالاً، ولعل معارك القلمون والزبداني الأخيرة، تعكس المثال الأوضح على دور حزب الله اللبناني في معارك النظام ضد المعارضة.
ولا يحتاج إلى تأكيد، القول: إن الحضور الإيراني، جعل من إيران صاحبة التأثير الأكبر والأبرز في قرارات النظام، سواء المتصلة بالصراع العسكري أو بالتحركات السياسية، الأمر الذي بينت نتائجه، أن سوريا واقعة تحت الحماية أو الاحتلال الإيراني.
ويختلف الحضور الروسي في سوريا عن مثيله الإيراني بصورة جوهرية، والأساس فيه اعتماده على ما تقوم به الدولة الروسية ومؤسساتها وأجهزتها في المجالين السياسي والعسكري. ويتجسد الدور الروسي في المستوى الخارجي في ثلاثة أمور؛ أولها تشكيل مظلة دولية لحماية النظام من العقوبات ولا سيما في مجلس الأمن الدولي، والثاني القيام بدور الممانع لأي تدخل عسكري خارجي في سوريا، وثالثها السعي المستمر لإعادة تأهيل نظام الأسد ودمجه عبر بوابة انخراطه في الحرب الدولية على الإرهاب وخاصة تنظيم داعش.
ولا يقل دور الحضور الروسي في سوريا على المستوى الداخلي أهمية عن المستوى الخارجي. ففي الداخل ثمة مهمات، يقوم بها عسكريون وخبراء روس، تزايدت أعدادهم بصورة كبيرة في الفترة الأخيرة بفعل تعدد الأنشطة، التي يقومون بها. فثمة خبراء لدى الوحدات العسكرية التابعة لنظام الأسد وخاصة وحدات النخبة، التي تم تزويدها بأسلحة ومعدات حديثة من طائرات ودبابات وعربات مدرعة، وقواعد صاروخية ومحطات تشويش، وهناك وحدات روسية للتدخل السريع، ومجموعات قناصة موزعة بالقرب من أماكن الصراع الحساسة وخاصة في دمشق واللاذقية، وهناك خبراء أمنيون وتقنيون، يعملون مع فرق المتابعة، وكله يضاف إلى وحدات تطوير وتوسعة مطارات النظام وخاصة في المنطقة الساحلية، وفي القاعدة البحرية الروسية بطرطوس.
وقد ازداد الدور السياسي الروسي أهمية في الأشهر الأخيرة، فبعد اقتصاره لسنوات على علاقة محدودة ببعض جماعات المعارضة في الداخل، والبحث معها في الظروف السياسية، انتقل إلى علاقات أوسع مع قوى المعارضة في الخارج، ولا سيما الائتلاف الوطني، ساعيًا إلى إشراك المعارضة في الحل السياسي وفق وجهة النظر الروسية، التي لا تختلف عن وجهة نظر النظام.
إن تطور مستوى الحضور الروسي في سوريا وحولها في الأشهر الأخيرة بما له من خصوصيات سياسية وعسكرية، يجعله القوة الأكثر أهمية وتأثيرًا من الحضور والدور الإيراني، الأمر الذي يخلق تناقضات وتنافسًا بين الطرفين، وصراعًا على الدور والنفوذ رغم وحدة هدف الطرفين في حماية النظام، وقد لا يتأخر كثيرًا تحول نظام الأسد من الحماية الإيرانية المباشرة إلى حماية روسية مباشرة وبديلة.
كتب إبراهيم قرة غل: افتحوا الأبواب؛ وليملأ مئات الآلاف حدود أوروبا، لتبدأ مسيرة من أطراف البحر الأبيض المتوسط والأناضول إلى أوروبا.. ولتستمر هذه الموجة حتى مشارف الأطلسي.
لا توقفوهم في الأناضول، سهّلوا مرورهم، افتحوا طريقهم، زوّدوهم بلوازم هذه الرحلة من طعام وغيره.
من أفغانستان، من سوريا، من شرق أفريقيا، من منطقة البحر الأبيض المتوسط، من بلاد الرافدين... ليملأ الملايين عواصم ومدن أوروبا.
من آسيا، من أفريقيا.. ليملأ سيل البشر هذا كل أنحاء الأرض.
لن نحتل أوروبا!
لا تخافوا، لن نحتل أوروبا، فقط سنريهم أن في العالم بشرا آخرين.. وأن ليس الأوروبيون وحدهم يعيشون على هذه الأرض. وأنّ كون الإنسان أوروبيا لا يضمن له الأمن والأمان.. وإن الأسلحة والثروات لن تحمي أوروبا.. سنريهم هذا فقط.
لم نر اعتراضا منهم حين جاءوا إلى بلادنا وأراضينا بأسلحتهم. فما بالهم يعترضون اليوم حين نذهب لبلادهم غير مسلَّحين!
نحن لم نذهب إليهم مسلّحين، ولم نذهب بنيّة سيئة. لم نذهب لنقلب مدنهم رأسا على عقب!
ولم نذهب للفتنة. مثل هذه الأفعال الدنيئة ليست من شيمنا. نحن لا نخطط لاحتلال العالم، نحن نذهب هناك لاختبار مدى إنسانيتهم فقط، فلا يخافوا، لن نحتل أوروبا. ليس لدينا أي شيء ندافع فيه عن أنفسنا؛ فكيف يكون لدينا ما نهدّدهم به!
شعوبنا تُقتَل بقوانينهم!
رغم كل هذا، يخافون منا. ويُغلقون أبوابهم دوننا، ولا يتورّعون عن فعل أي شيء مخجل ليوقفوا هذه الموجة، أيعقل أن يوضع سياج حديدي على طول حدودهم معنا؟! يخافون حتى من النساء والأطفال، ولا يتورّعون عن أي شيء، قراراتهم المخجلة غير الإنسانية كإغراق اللاجئين في البحر، هي ما جعلت شواطئ البحر الأبيض المتوسط ممتلئة بالجثث. ثم لا يخجلون من التظاهر بالحزن على أولئك الغرقى. والصورة التي انتشرت على مواقع التواصل الاجتماعي لطفل غرق وحملته الأمواج إلى الشاطئ؛ كشفت مدى إنسانية الحضارة الغربية المزعومة، وأظهرت أنهم يظهرون ما لا يضمرون.
لقد كان هذا اختبارا لمصداقية القيم وحقوق الإنسان في أوروبا، وقد فشلت أوروبا في هذا الاختبار. الاتحاد الأوروبي الذي كان يقدَّم كأنموذج مثالي للعالم وكان مركزا لجمعيات ومراكز حقوق الإنسان؛ هُزِمت دعاواه هذه أمام بضعة جثث للأطفال اللاجئين، في حين أننا في الشرق الأوسط نموت كل يوم، وجثث الأطفال تتراءى أمام أعيننا كل يوم. نحن هنا ضحايا لمخطط كبير يهدف إلى الفصل العرقي بين أبناء الإنسانية الواحدة.
موجة لن يوقفها شيء
لا تستطيع أي من العوائق إيقاف هذه الموجة، وسيأتي يوم تعيشون فيه المصاعب التي عشناها، الفقر والاغتراب عن البيت والوطن. كل المشاكل التي يعيشها العالم اليوم؛ سببها تكبّركم وتجبّركم. ففي القرنين الأخيرين استطعتم فعل كل شر يمكن أن يرتكبه الإنسان.
ألم تحوّلوا مدننا إلى خراب؟! سيأتي يوم ليحل فيه الخراب على مدنكم أيضا، حرمتم صغارنا من النوم بهدوء، فلا تظنوا أننا سنترككم لترتاحوا في نومكم. من الذي حارب حضارة الإسلام في القرنين الأخيرين؟ ربما تقولون إن "الحضارة النصرانية في خطر".. لكن ألا ترون أن القرنين الأخيرين كشفا لنا أن هذه الأرض مهددة منكم لا منا؟ حتى اليوم تستمر منظمات استخباراتكم في دعم "قنديل" (المركز الرئيس لتنظيم بي كا كا) وتستهدفون بهذا أمن بلادنا.
لكن حضارتنا الشرقية باقية ونحن ما زلنا واقفين على أقدامنا. أنتم اليوم تحاربون اللاجئين بكل جهدكم؛ أنتم تأتون بلداننا بأسلحتكم، بينما نحن نأتي دون أن نجد ما ندافع به عن أنفسنا حتى. رغم هذا تعيشون كل المخاوف. لهذا تقفون في وجه اللاجئين، بل تحاربونهم.. ألم يكفِ أنكم حاربتم اللاجئين فيما كانوا في بلادهم، وتحاربونهم اليوم حال لجوئهم؟! لقد بنيتم علاقاتكم مع دول العالم على أساس عرقي عنصري. ولقد حاولتم التمسّك بعنصريتكم هذه إلى أبعد حد، وفي سبيل هذا شرعنتم الاضطهاد الذي تقومون به تجاه اللاجئين معتمدين على قوانينكم التي جعلتموها هي الأخرى على أساس عرقي.
افتحوا الحدود
افتحوا الحدود ولتتسّع هذه الموجة.. هل حسبتم عدد الأطفال الذين حمل البحر جثثهم إلى الساحل بعد قراركم الجائر هذا؟
أتوجه بخطابي الآن إلى تركيا، والدول الآسيوية، ودول الشمال الأفريقي: افتحوا حدودكم وادعموا موجة اللاجئين هذه حتى تصل إلى قلب أوروبا.
إن التهديد الأكبر الذي يزعزع قلوب المسؤولين الأوروبيين ليس القوة العسكرية، بل هو القيم الإنسانية . إن هذا اختبار لمدى إنسانيتهم.
اتركوا الملايين يتدفقون كالسيل نحو بلادهم علّهم يستشعرون معاناة اللاجئين من جهة.. ومن جهة أخرى لعل هذا يشغلهم عن التآمر ضدنا.
على المرء أن يسجل الرسوب العربي الإسلامي في اختبار التضامن، في التعامل مع أزمة اللاجئين السوريين في أوروبا، إذ لم تعلن دولة عربية أو إسلامية واحدة أن أولي الأرحام، العرب والمسلمين أولى بإخوانهم السوريين. (نشير إلى أن بعض الدول الخليجية باتت تحتسب كل من يقيم لديها من السوريين لاجئاَ رغم دخوله بتأشيرة نظامية) ومع ذلك فعلينا ألا نغفل عن بعض الأمور التي قد تضيع في حمى الصراخ الإعلامي، والتباكي المفتعل في كثير من الأحيان، ومحاولات التضليل في أحيان أخرى للتغطية عما هو أهم وأخطر.
بداية لا بد من الانتباه إلى أن معظم من قدموا إلى أوروبا، اختاروا أوروبا، ولم يختاروا أي بلد عربي آخر، بل وحددوا خياراتهم بالبلدان الأوروبية التي يقصدونها بعينها، وهي ألمانيا والسويد مما يشير إلى أن بلدان العروبة والإسلام ليست وجهتهم المفضلة التي اختاروها لأنفسهم، ولأسرهم وأبنائهم، وهؤلاء جلّهم ممن استطاع أن يجمع ما معدله 5 آلاف دولار لتغطية تكلفة رحلة الشخص الواحد، وهو مبلغ لا يتوفر إلا لفئة محدودة من السوريين أغلبها من أبناء الطبقة المتوسطة، مما سيطرح تساؤلا حقيقيا حول مصير من تبقى خلفهم في سوريا، وأجبرتهم ظروفهم الاقتصادية الاجتماعية أن يطحنوا ألامهم ليخبزوها بنار المعاناة، لتنضج مزيدا من القهر والألم، دون أن يلتفت أحد لإيجاد حل مناسب لهم، بل على العكس من ذلك يتخلى العالم عن تأمين الطعام والشراب لهم عندما أعلن برنامج الأغذية العالمي قبل أيام وقف المساعدات الغذائية لنحو 230 ألف لاجئ سوري خارج المخيمات في الأردن، بسبب نقص التمويل، وذلك كله لا يقلل من وجود تقاعس أوروبي في معالجة أزمة اللاجئين السوريين الذين وصلوا إليهم كما أننا لا نقلل من حجم المعاناة والألم الذي يكابده اللاجئون السوريون في أوروبا، ومشروعية ما يقومون به في اللجوء هربا من جحيم المعارك إلى مستقبل آمن لهم ولأسرهم.
إن علينا أن لا نقلل من مخاطر التغيير الديمغرافي في سوريا المستقبل عندما نرى أن غالبية اللاجئين من أبناء طائفة واحدة فلا مناص هنا من التحذير من شبح التفريغ الطائفي الذي قد ينشأ بتهجير هؤلاء طوعا أو قسرا، فعندما يكون 4 ملايين سوري خارج بلادهم، ومن بين هؤلاء قرابة نصف مليون لاجئ سوري قد وفدوا إلى أوروبا لا نحتاج إلى التحليل لندرك حجم التغيير الذي قد يحدث إن لم يعد هؤلاء إلى وطنهم، ولا نبالغ أن إيران والنظام السوري، وحتى روسيا باتوا أقرب إلى فرض حل تقسيمي لسوريا على أساس طائفي بعد اقتناعهم أن سوريا لن تعود كما كانت، وأن ما خسره الأسد من أراض لن يستطيع استعادته، ويكفي أن نضرب مثالا واحدا على ذلك بحي جوبر الدمشقي ذي الكيلو متر المربع الواحد الذي تحول إلى أيقونة عسكرية للثوار بصموده الأسطوري، لأكثر من ثلاث سنوات. وهكذا فعندما تخلو سوريا من معظم سكانها المنتفضين سيسهل عليهم تنفيذ مخططهم الاستئصالي، وإقامة "دولة الأسد أو لا أحد".
ويبرز المؤشر الأخطر في أزمة اللاجئين السوريين بأوروبا في كيفية التعاطي الغربي مع الحل فمعظم المواقف الغربية تغافلت عن النظام السوري، وتناست أنه لب المشكلة، ومنبعها والمتسبب بموجات اللجوء والنزوح، ونسيت أن معظم اللاجئين لا يأتون من مناطق سيطرة تنظيم الدولة المتطرف بل يهربون من سطوة النظام الأمنية في المناطق التي مازالت تخضع لسيطرته، أو هربا من براميله التي تلقيها طائراته على رؤوسهم في المناطق التي تخضع للثوار (1591 برميل قتلت 115 خلال الشهر الماضي فقط حسب الشبكة السورية لحقوق الإنسان). تلك المعالجة الخاطئة والتسديد خارج الهدف تجلى في الموقفين البريطاني والفرنسي، باستهداف التنظيم حلا لمشلكة اللاجئين، ونسيا الفشل الغربي في مواجهة هذا التنظيم من قبل التحالف الدولي في سوريا والعراق حتى الآن. فماذا سيستفيد التحالف عندما تشارك بريطانيا في سوريا وماذا سيخسر التنظيم الذي مازال يكسب مزيدا من الأراضي.
ومما يؤكد أن الغرب ما زال بعيدا عن الحسم في المشاركة بحل نهائي للأزمة حديثه عن استقبال لاجئين خلال سنوات عديدة قادمة؛ فبريطانيا تتحدث عن استقبال 20 ألف لاجئ خلال السنوات الخمسة القادمة، وفرنسا ستستقبل 24 ألف لاجئ في السنتين المقبلتين. مما يوحي أن الغرب انتهج مقاربة التكيف مع المشكلة ومعالجة آثارها دون السعي إلى حلها وإنهاء مسبباتها. ولا شك أن ذلك يزيد من إحباط السوريين الطامحين إلى حل جذري يساعدهم في التوصل إليه، من اعتبروا أنفسهم أصدقاء للشعب السوري (هل تذكرون آخر اجتماع لمجموعة أصدقاء الشعب السوري؟؟)
المقاربة الحقيقية لإنهاء الأزمة مازالت بعيدة ولا يبدو أن الغرب يسعى حتى لحل جزئي يخفف من معاناة اللاجئين بتوفير المنطقة الآمنة التي بحت أصوات السوريين، ومعهم أردوغان بالمطالبة بها، دون جدوى بسبب الفيتو الأمريكي على تلك المنطقة، مما يثير علامة استفهام كبيرة حول جديتهم في معالجة أزمة اللاجئين السوريين في سياق المحنة السورية التي تحولت إلى أزمة دولية جذورها في سوريا وفروعها في كل مكان. وستدرك أوروبا أنها لا تستطيع أن تبقى متفرجة على هذه الحرب الطاحنة في جوارها الأقرب إلى مالا نهاية. فهل ستمحو من سردية تعاملها مع الأزمة مصطلحات القلق، وتأخذ بزمام المبادرة عندما تتهاوى حدودها أمام الباحثين عن الأمان الذي فقدوه في أوطانهم، وتكون قوافل اللاجئين السوريين بذلك الضارة على المدى المنظور والنافعة على مدى نتمنى ألا يطول؟
زيارة العاهل السعودي خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز إلى واشنطن حظيت باهتمام سياسي وإعلامي عالمي. جاءت بعد فترة من التباينات والتناقضات في المواقف سببها السياسة الأميركية في المنطقة، والاتفاق النووي مع إيران الذي ولّد مخاوف كثيرة لدى دول الخليج وخصوصاً المملكة العربية السعودية، لم تبدّدها تأكيدات إعلامية متتالية من قبل المسؤولين الأميركيين على ثبات العلاقة مع المملكة، وحرص واشنطن على التفاهم مع حلفائها، والسعي إلى تطمينهم على قاعدة الإصرار على منع إيران من امتلاك السلاح النووي.
بعد الزيارة، صدر بيان رسمي تحدث عن عمق العلاقات التاريخية والحرص على تعزيزها وتطويرها في المرحلة المقبلة. أتوقف عند الشق المتعلق بالأزمة السورية. في البيان تأكيد على حل الأزمة سياسياً على أساس (جنيف- 1)، الحفاظ على المؤسسات الأمنية والعسكرية. الحفاظ على وحدة وسلامة الأراضي السورية. بناء دولة مسالمة تعددية ديموقراطية خالية من التمييز والطائفية، أي تحول سياسي يجب أن يتضمن رحيل بشار الأسد الذي فقد شرعيته.
كل البنود الأولى مستندة إلى البند الأخير. فمع بقاء الأسد لا حل ولا تحوّل. وبالتالي السؤال الذي يطرح نفسه: هل باتت أميركا مقتنعة بالتحوّل الآن؟ وبالتالي برحيل الأسد الآن؟ كيف؟ لا أشك أنها لحظة في صدقية الموقف السعودي وثباته لناحية رفض أي حل بوجود الأسد. المشكلة في أميركا التي تتحدث منذ بداية الأزمة عن فقدان الأسد شرعيته وضرورة رحيله، لكنها لم تفعل شيئاً لذلك سوى أنها ساهمت بسياساتها بتعزيز ذريعته الدائمة المبررة لكل أعمال النظام وإرهابه ضد الشعب السوري بمواجهة «الإرهاب»، فباتت أميركا نفسها تعتبر أن الأولوية هي لمكافحة هذا «الإرهاب». وانكفأت عن دعم المعارضة عندما فرض عليها اللجوء إلى حمل السلاح للدفاع عن نفسها. تارة تحت عنوان الخوف من وقوع سلاحها في أيدي المتطرفين، وطوراً في الدعوة إلى أولوية المواجهة مع «الإرهاب» إلى حد الحديث عن ضرورة توجه المعارضة والنظام معاً لمواجهته، ثم لاحقاً راحت الإدارة الأميركية تتحدث عن المعارضة المعتدلة وبناء القوة العسكرية لها التي لم يبق منها إلا 60 عنصراً خطفت «النصرة» منها ثلاثين! وسميت الفرقة الباقية بـ«فرقة الثلاثين» فيما استمر النظام يتلقى الدعم العسكري المباشر من إيران وروسيا بأشكال مختلفة، ومع ذلك فقد سيطرته على كثير من الأراضي.
الكارثة حلت بسوريا وهي إلى تفاقم: لاجئون في كل أنحاء العالم. مئات منهم يموتون غرقاً على شواطئ العار، وشهداء أبرياء في الداخل بالأسلحة الكيماوية والبراميل المتفجرة. والنزف مستمر!
كيف يمكن للأسد أن يخرج؟ ثمة احتمالات ثلاثة للتحوّل: أن يتحوّل الأسد نفسه ويتنحىّ وهذا مستحيل. أو تسعى روسيا إلى ذلك. وهذا غير ممكن من دون اتفاق مع أميركا على قضايا تخصها هي في أوكرانيا وغيرها، ويبدو بعيداً جداً، رغم مناورة بوتين الأخيرة حول استعداد الأسد لتقاسم السلطة مع المعارضة الصحيحة! روسيا تحمي الأسد في مجلس الأمن. تمدّه بالسلاح وإيران تحميه على الأرض!
في الحل السياسي، لا اتفاق بعد، في ظل تشعب المصالح والأهداف وتناقضها، بين الدول الكبرى والدول الإقليمية، خصوصاً بين أميركا وروسيا، إضافة إلى تركيز أميركا جهدها لفترة طويلة من الوقت على المفاوضات مع إيران حول ملفها النووي، ولم تكن تريد «إزعاجها» بالموضوع السوري! عدم الإسراع في الحل السياسي يعني استمرار الحرب.
في العمل العسكري، لا تبدو أميركا مستعدة لذلك، فيما تضاعف روسيا حضورها العسكري المباشر ودعمها اللامحدود للأسد ونظامه وكذلك تفعل إيران. فكيف يرحّل الأسد؟ هل يتحقق ذلك على يد فرقة الـ30؟ أم نبقى ننتظر قيام المعارضة المعتدلة لتدعمها الإدارة الأميركية، ولا يبقى شيء في سوريا حتى تلك الساعة مع استمرار الحرب؟ لا حل في السياسة، ولا حل بالقوة؟ كيف يخرج الأسد؟ لن يستمر هذا النظام مهما طال الزمن واشتدت المصاعب على الشعب السوري. هي حقيقة تاريخية، ونتيجة موضوعية لمسار الأحداث. لكن كلما طال الوقت، بات الخطر على وحدة وسلامة الأراضي السورية، وعلى تفاقم المذهبية والطائفية وسقوط الدولة ومؤسساتها أكبر!
كل ما جرى حتى الآن كان منسجماً مع السياسة الأميركية ورزنامة إدارة أوباما وبرنامجها ومع المصالح الإسرائيلية، فحيث كان ثمة ضرورة للتشدّد، فعلت أميركا. وليس فقط بمشاركة روسية، بل بطلب روسي مثل تسليم الأسلحة الكيماوية ونفذت إسرائيل ضربات ميدانية استهدفت مواقع عسكرية ومخازن أسلحة، وغير ذلك.
حتى الآن لا أعتقد أن أميركا غيّرت سياستها، ولذلك سيكون الصراع أكثر حدة، وسيشهد فصولاً جديدة حامية. آخر مظاهرها كان اغتيال الشيخ وحيد البلعوس في جبل العرب، وما تركه من انعكاسات كشفت لعبة النظام وحلفائه!
لإنقاذ سوريا وحماية وحدة وسلامة أراضيها ومؤسساتها ينبغي الإسراع في الحل الذي لا دور للأسد فيه، بسبب أميركا لا نزال بعيدين عن هذا التوجّه. الشعب السوري لم يقصّر في كفاحه وتضحياته. وكثيرون ما زالوا ولا يزالون صادقين في دعمه، لكن المسؤولية الكبرى تقع على عاتق إدارة أوباما!
هل لاحظتم أن كل الأنظمة «القومجية» التي رفعت شعار الوحدة العربية لم تستطع في النهاية أن تحافظ على وحدة بلدانها، فما بالك أن تجمع شمل العرب أجمعين تحت راية واحدة؟ مفارقة عجيبة جدا.
ولعل أشهر من رفع شعار الوحدة هم البعثيون بفسطاطيهما السوري والعراقي. وانضم إليهما طبعا الفسطاطان القذافي «الجماهيري» واليمني القومي-قبلي. ولو نظرنا إلى حال سوريا والعراق وليبيا واليمن لوجدنا أنها الأكثر عرضة للتمزق والتفتت والتفكك على أسس طائفية ومذهبية وعرقية وقبلية.
لا شك أن بعض «القومجيين» «بتوع الصمود والتصدي والمماتعة والمقاولة ومقارعة الامبريالية والصهيونية» سيظهرون لنا فجأة ليتهموا المؤامرات الكونية التي تريد تمزيق المنطقة على أسس فئوية ومناطقية وطائفية وعرقية. وبالطبع لن نختلف أبدا مع «القومجيين» الذين يتهمون المتآمرين بتقسيم المقسّم وتجزئة المجزّأ. لا بل يمكن أن نزايد عليهم في اتهام إسرائيل وأمريكا في شرذمة العالم العربي وتحويله إلى دويلات. ووثيقة «كيفونيم» الإسرائيلية أكبر شاهد على المحاولات الإسرائيلية لتمزيق المنطقة.
لكن لو نظرنا إلى حال الدول القومجية لوجدنا أن أكثر من عبث بتركيبتها الطائفية والمذهبية والقبلية هي الأنظمة «القومجية الوحدوية» المزعومة، التي كانت ترفع شعارات وحدوية، بينما على أرض الواقع كانت تمارس أحقر أنواع السياسات الاستعمارية الطائفية على مبدأ «فرق تسد» كي تعيش على تناقضات شعوبها. فكلما تعمقت الشروخ الطائفية والقبلية والمذهبية والعرقية في البلدان «القومجية» ضَمِنَ طواغيتها فترة أطول في السلطة. ولو نظرنا إلى حال اليمن وسوريا والعراق وليبيا لاتضح لنا الأمر بجلاء.
لا يمكن لأي نظام فئوي أن يبني دولة وطنية، فما بالك أن يدعو إلى الوحدة بين الدول. في سوريا مثلا رفع النظام شعارا قوميا عريضا، بينما كان في الواقع يحكم على أساس طائفي لا تخطئه عين. ولو سألت أي سوري بسيط لأعطاك مئات الأمثلة على أن النظام السوري له علاقة بالوطنية كما أنا لي علاقة بكوكب المشتري، فما بالك أن يكون قوميا. عندما يقوم النظام بتفضيل طائفة أو جماعة على أخرى، ويسلمها كل المقاليد العسكرية والأمنية في البلاد، فهذا يعني ضمنيا أنه يقوم بالتحضير لتفتيت البلد على أساس طائفي لاحقا.
فمهما طال الزمن لا بد لبقية الطوائف ومكونات المجتمع أن تتململ، وربما تنتفض ضد الأقلية الحاكمة أو المسيطرة. وهذا ليس اكتشافا جديدا، بل أمر بديهي جدا، فعندما تضيق الطوائف ذرعا بتصرفات أي فئة مهيمنة، فلا بد أن يحدث التصادم، وربما الحرب الأهلية. وهذا بالنتيجة سيؤدي إلى تفتيت البلاد على أسس طائفية ومذهبية وعرقية وقبلية. وهذا ما يحدث الآن في سوريا بالضبط. حتى النظام يعترف أنه يواجه حربا أهلية طائفية. ولو كان النظام السوري وغيره من الأنظمة القومجية قد بنى دولة لكل مواطنيها أساسها المواطنة، لما انتفض قسم من الشعب على القسم المهيمن، لأن المواطنة تضمن للجميع حقوقهم، بغض النظر عن انتماءاتهم الطائفية والفئوية الضيقة.
لاحظوا أن اكثر نظامين تشدقا بالوحدة العربية كانا النظامين السوري والعراقي، مع ذلك فقد وصل الأمر بالنظام البعثي السوري إلى السماح للسوريين بزيارة كل دول العالم ما عدا العراق. وكل السوريين يتذكرون عبارة «مسموح السفر لحامل هذا الجواز إلى كل دول العالم باستثناء العراق». لقد وصلت العداوة بين النظامين البعثيين السوري والعراقي إلى حد القطيعة الكاملة. فإذا كان الفسطاطان البعثيان لا يستطيعان الوحدة، فكيف كانا يريدان توحيد العرب من المحيط إلى الخليج؟ وكما نلاحظ الآن، فإن سوريا والعراق يواجهان خطر التقسيم والتشرذم أكثر من أي بلد آخر. وكذلك اليمن وليبيا بتوع «القومية».
بعبارة أخرى، فإن رافعي شعار الوحدة العربية، لم يفشلوا فقط في تحقيق شيء من شعارهم الفضفاض، بل فشلوا أيضا في تحصين بلادهم ضد التقسيم والتفتيت. وبينما استطاعت بقية الدول العربية أن تحافظ على نسيجها الوطني، ها هي سوريا تتشرذم. والأنكى من ذلك أن النظام «القومجي» لم يعد يُخفي ألاعيبه الطائفية القذرة، فقد أوعز لإيران بأن تتلاعب بتركيبة سوريا الديمغرافية على أساس مذهبي. فكلنا سمعنا عن المفاوضات التي تجريها إيران مع جيش الفتح في الزبداني كي ينتقل سكان الزبداني السنة إلى إدلب السنية، وأن ينتقل سكان الفوعا وكفريا الشيعة من إدلب إلى الزبداني لتجميع الشيعة حول دمشق. يا هيك القومية العربية يا بلاش.
وفي دمشق وريفها يتم تهجير بعض سكان بالمنطقة بحجة بناء ناطحات سحاب إيرانية، بينما الهدف الحقيقي تغيير التركيبة السكانية للعاصمة، كما فعلوا من قبل مع العاصمة العراقية بغداد وحزامها. والسؤال الأكثر كوميدية وفضحا للمتشدقين بالقومية: كيف يرفع النظام السوري البعثي شعار الوحدة والقومية العربية، بينما يتحالف استراتيجيا مع ألد أعداء العرب، وهم الفرس؟
وفي ليبيا نجد أن النظام الساقط لم يكتف بالدعوة إلى الوحدة العربية، بل أراد أن يوّحد إفريقيا أيضا، مع العلم أنه كان في الواقع يعيش على تناقضات وتناحر القبائل الليبية، فكان يحرّض قبيلة أو منطقة ضد أخرى؛ كي تبقى البلاد تحت سيطرته على مبدأ: فرق تسد. وقد لاحظنا كيف تشظت ليبيا بعد سقوط النظام، لأنه لم يصنع دولة وطنية، بل دولة قائمة على صراعات عشائرية وقبلية.
وآخر مثال على الأنظمة القومجية التي تاجرت بشعار الوحدة، بينما كانت تدق الأسافين بين شعوبها نظام المخلوع علي عبد الله صالح في اليمن، الذي أدت سياساته اللاقومية واللاوطنية إلى شرذمة اليمن وربما تمزيقه إلى مقاطعات ودويلات لا سمح الله.
أخيرا: أليس من حقنا أن نسأل: هل هناك فرق بين الأنظمة القومجية العربية والاستعمار؟ نعم. لقد كان الاستعمار أرحم من القومجيين، فعلى الأقل قسمنا إلى دول بينما الأنظمة القومجية رفعت شعار الوحدة العربية، بينما كانت على الأرض تقسم المقسّم وتجزئ المجزأ إلى دويلات طائفية وقبلية ومذهبية وكانتونات عرقية كما يفعل النظام الطائفي في دمشق. وستكون الخطة باء في سوريا شاهدا على ذلك. انتظروها.
تمت الزيارة الأولى للعاهل السعودي، سلمان بن عبدالعزيز، إلى واشنطن، وهي على جانب من الأهمية، بعد تحضيرات طويلة، وبعد تحفظات سعودية شبه معلنة على الأداء الأميركي في المنطقة، وحتى بعد انعقاد قمة كامب ديفيد الخليجية الأميركية في مايو/أيار الماضي، التي غاب عنها الملك سلمان. وقد أعلنت الرياض التزامها بنتائج تلك القمة، وتنتظر التزاماً أميركياً مماثلاً. وخصوصاً بما يتعلق ببرامج التسلح الخليجية، ومراقبة السلوك الإيراني. القمة التي وصفها رئيس الدبلوماسية السعودية، عادل الجبير، بأنها محورية وتاريخية، ما زال الانتظار قائماً لنتائجها على أرض الواقع، وسوف يظل هذا الانتظار قائماً على مدى الأسابيع والشهور المقبلة. لتبين ما إذا كانت الإدارة الديمقراطية بصدد إجراء تعديلات على سياستها الانكفائية في المنطقة (باستثناء كل ما يتعلق بالعلاقة مع تل أبيب).
غير أنه يسترعي الانتباه أن اصداء القمة الأميركية السعودية بدت قوية في مكان آخر. في موسكو بالذات، التي لم تبد اهتماماً إعلامياً خاصاً بالمناسبة، لكنها سارعت إلى تعزيز دعمها، ورفع مستواه، النظام في دمشق. فما أن انفضت القمة الثنائية في واشنطن، حتى كانت الأنباء تتوالى عن منع اليونان وبلغاريا طائرات روسية من التوجه إلى دمشق، عبر أجواء البلدين. وجاء الاعتراض عبر التشكك بنقل تلك الطائرات أسلحة. وواقع الأمر أن هناك شواهد عديدة على أن موسكو باتت تعتبر سورية جزءاً من أراضي الكومنولث الروسي. وكانت دعوات حارة قد صدرت من دمشق لموسكو لإقامة قاعدة عسكرية روسية ثانية، بعد قاعدة طرطوس. كما تواترت أنباء عن تزويد موسكو دمشق بطائرات ميغ حديثة، على الرغم من الوضع المالي الميئوس منه للنظام. لا يتعلق الأمر فقط بمواكبة روسية للقمة السعودية الأميركية، بل باضطرار أعداد متزايدة من السوريين للهجرة، نتيجة بطش النظام وداعش، ذلك شجّع موسكو على مد النظام بمزيد من الأسلحة! فيما يتحدث ناشطون سوريون عن وجود جنود روس على الأراضي السورية، وكما هو حال وجود جنود إيرانيين من الحرس الثوري.
دأب النظام في دمشق على إثارة التنافس بين طهران وموسكو، لتعظيم وجود كل منهما في سورية، مع منح كل التسهيلات من أجل ذلك. وسوف يشكل الوجود الروسي البشري المباشر سبباً في إثارة مخاوف عميقة من أن تصل الأزمة إلى هذه الدرجة من التدويل. وبينما تحاول موسكو ذرّ الرماد في العيون بنفي كل ما يرد من تقارير بهذا الشأن، إلا أن أزمة روسية أميركية تلوح في الأفق، وعلى درجة من الشبه بالأزمة في أوكرانيا. وقد بدأ مسؤولون أميركيون يحذرون من هذه التطورات الجديدة، ومن مخاوف إشعال مواجهة بين القوات الروسية وقوات التحالف الدولي التي تقوم بغارات جوية منتظمة على داعش ، وكثيراً ما تخطىء أهدافها، ويذهب مدنيون ضحية لها.
"بينما تعتصم واشنطن بسياسة وقائية دفاعية في كل ما يتعلق ببسط النفوذ في الشرق الأوسط، فذلك يحفز موسكو وطهران على مواصلة سياستهما الهجومية"
ومغزى ذلك أن موسكو، وبعد أيام فقط على القمة السعودية الأميركية، تسعى إلى دفع الأمور نحو التصعيد، وحتى إلى حافة الهاوية، من أجل تثبيت حاكم دمشق في موقعه، وتهجير ملايين السوريين عن أرضهم، وضمان أن تبقى سورية ساحة للنفوذ الروسي (والإيراني)، بصرف النظر عن أي اعتبار آخر، بما في ذلك مصير السوريين. تماماً كما هو الموقف الروسي من أوكرانيا.
قدم السعوديون مشروعاً لتعاون استراتيجي وشراكة اقتصادية طويلة الأمد بين الرياض وواشنطن، وتولى الأمير محمد بن سلمان تقديم هذا المشروع الذي يمنح الأميركيين أولوية في كل ما يتعلق بالمشاريع الاقتصادية والاستثمار في المملكة. على أمل أن يسهم هذا العرض في رفع مستوى التنسيق العسكري والسياسي بين البلدين. ويعكف الأميركيون الذين رحبوا بالعرض على دراسته، ووضع خطط لآلية تنفيذه من جانبهم، غير أن لا شيء يلوح ويفيد بأن واشنطن بصدد مراجعة سياستها الخارجية في الشرق الأوسط التي أدت إلى تعظيم النفوذ الروسي في بعض الدول. أما بخصوص النفوذ الإيراني، ما زالت واشنطن تمتنع عن مجرد الطلب إلى المليشيات الطائفية التي ترعاها وتمولها إيران بمغادرة الأراضي السورية، ولعل واشنطن تكتفي بمراقبة عدم ضخ مزيد من الأموال الإيرانية إلى تلك المليشيات، بعد رفع تجميد الأرصدة الإيرانية في أميركا والغرب بموجب الاتفاق النووي. ومن طرف خفي، تصغي واشنطن لخطاب إيراني وروسي يفيد بأن داعش ومنظمات سنية متطرفة هي العدو المشترك الذي يجمع واشنطن وموسكو وطهران، وهو خطاب مضى عليه نحو عامين، تعاظم فيهما نفوذ المليشيات الإيرانية في العراق وسورية واليمن، ولولا عاصفة الحزم في اليمن، لكانت واشنطن اكتفت بمراقبة الوضع في اليمن، ولاعتبرت أن القاعدة وحدها، دون الحوثيين الانقلابيين، هي مصدر الخطر الوحيد على بقية دول المنطقة!
أرسلت واشنطن، في الأسابيع الماضية، إشارات عديدة، تفيد بعدم رضاها عن زعزعة إيران لاستقرار المنطقة، لكنها لم تفعل الكثير أو القليل، للحد من هذا النفوذ، ربما باستثناء وضع أحد قادة حزب الله، أخيراً، (سمير القنطار) على قائمة الإرهابيين، مع معاقبة بعض الشركات الإيرانية. وهي خطوات، في مجملها، ذات طابع رمزي، ووقائي وتطويقي، ولا تنطوي على مواجهة تُذكر مع التطرف الإيراني الذي يماثل التطرف السني في خطورته، حاضراً ومستقبلاً.
وفي هذه الأثناء، يتواصل التنسيق شبه الاستراتيجي بين موسكو وإيران، طرفين حليفين، يسعيان إلى تقاسم النفوذ في الشرق الأوسط، فموسكو تقف على الدوام ومسبقاً مع طهران، في كل ما يتعلق بملفها النووي، بما في ذلك طريقة تطبيق طهران اتفاق جنيف النووي، كذلك الأمر بتسليحها بأسلحة روسية متطورة، ومن أحدث ما تضمه الترسانة الروسية.
وبينما تعتصم واشنطن بسياسة وقائية دفاعية في كل ما يتعلق ببسط النفوذ في الشرق الأوسط، فذلك يحفز موسكو وطهران على مواصلة سياستهما الهجومية، واستثمار الأجواء "المريحة" التي توفرها الإدارة الديمقراطية، بقيادة باراك أوباما، وبما يبدو أنه سباق مع الزمن، قبل انتهاء العام 2016 الذي سيشهد نهاية ولاية المحامي، باراك أوباما، الذي يراقب الأوضاع في منطقتنا والعالم عن كثب، ويجيد المراقبة ذات النفس الطويل، بينما يجيد الروس والإيرانيون أموراً أخرى.