رحب وزير الدفاع الإسرائيلي أفيغدور ليبرمان أمس الخميس بسيطرة قوات الرئيس السوري بشار الأسد على الحدود مع الدولة العبرية، قائلاً بصريح العبارة إن «الوضع سيعود إلى ما كان عليه قبل الحرب الأهلية، وإن من مصلحة الأسد، ومن مصلحتنا، أن يكون الوضع مثل سابق عهده»، وربّما كان قتل القوات الإسرائيلية من سمتهم بـ«مسلحين»، في اليوم نفسه، هو نوع من التوقيع الدمويّ على عودة سياسة تبادل المصالح بين كيان الاحتلال الإسرائيلي والنظام السوري.
والحقيقة أن هذا التصريح ليس إلا واحداً من العلامات الكثيرة على الصفقة التي قام على إنجازها الإسرائيليون بالشراكة مع الرئيسين الأمريكي دونالد ترامب والروسي فلاديمير بوتين في اجتماع القمة الأخيرة بينهما في فنلندا.
في تحليل لمجلة «سبيكتاتور» البريطانية لهذه الصفقة، تحت عنوان «إعادة تأهيل الأسد»، قالت إن قمة هلسنكي وافقت على الحاجة إلى وقف إطلاق نار دائم بين إسرائيل وسوريا يضمنه النظام السوري. قالت المجلة إن الصفقة أنجزت بدعم المملكة العربية السعودية والإمارات للموقف الإسرائيلي، وبالتالي فإن بقاء الأسد صار أمرا مفروغا منه، وأن على الغرب أن يبدأ تقبل هذه الأوضاع الجديدة.
تفسّر هذه الصفقة طبعا وقف الولايات المتحدة الأمريكية الدعم عن قوات المعارضة السورية في الجنوب وهو ما أدى إلى تدهورها العسكري السريع، كما تفسّر التصريحات التي أعلنها رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو من أن لا مشكلة لديه في بقاء الأسد، كما تفسّر التصريحات الروسية المتكررة عن ابتعاد (أو إبعاد) القوات الإيرانية عن الحدود السورية مع إسرائيل. باختصار، فكل الأطراف التي لديها تداخلات في سوريا تبدو موافقة، بما في ذلك إيران نفسها التي تبدو ملتزمة بالقيود الجديدة التي وضعت لها(؟).
ولكن ماذا عن موقف ترامب الذي وصف الأسد، في نيسان الماضي، بـ«الوحش»، وكيف يفسّر تغيّر موقف إدارته التي كانت على وشك شن هجوم على النظام السوري إلى البدء بترتيبات إعادة تأهيله؟ وكيف يتسق هذا مع سياق ست سنوات كانت فيها أغلب بلدان العالم، والدول الغربية خصوصا، تتداول قضية إسقاطه عسكريا؟ وكيف سيلتف العالم، والأمم المتحدة، على سياق كامل من القرارات والوقائع التي اعتبرت جرائم حرب، وجرائم ضد الإنسانية، وعلى استخدام الأسد الأسلحة الكيميائية، وتدمير مستقبل البلاد وبناها التحتية وتهجير قرابة نصف عدد سكانها؟
الأسئلة الإنسانية تخفي وراءها أسئلة سياسية أيضا، فالأسد بدأ مواجهته لشعبه قبل سنوات مستعينا بالتدخّل الخارجي الإيراني ثم الروسي، وهو الآن يختتم هذه المواجهة بموافقة الأمريكيين والإسرائيليين، وهذه الحكاية «المستحيلة» لاتفاق الأطراف المتنازعة كلّها على إعادة «ترئيس» الأسد وحذف الشعب السوري بأكمله تلخّص، عمليّا، المآل الكارثي الذي يتجه إليه العالم.
وراء بقاء الأسد في السلطة رغم تجاوز الجرائم التي ارتكبها (وسوف يرتكبها) نظامه حدود العقل، وصولاً إلى هذا الاتفاق ترامب ـ بوتين، والدعم الذي يلقاه من دول عربية نافذة، هو كلمة سرّ واضحة: إسرائيل.
امتلأت وسائل التواصل على مدار أسبوع بمئات الصور لسوريين من مختلف الأعمار، ماتوا تحت التعذيب في سجون النظام. الغالبية العظمى، من سبعة آلاف شخص ضمّتهم القوائم التي جرى تسليمها إلى سجلات النفوس، هم ممن تمّ اعتقالهم في الأعوام الثلاثة الأولى للثورة، وبقي مصيرهم مجهولا، على الرغم من تسرب أنباء عن تصفياتٍ كبيرة، أهمها التي ضمها ملف قيصر الذي سرّب 55 ألف صورة لضحايا التعذيب.
القاسم المشترك بين الذين تم الكشف عنهم أنهم من الشباب الذين تتراوح أعمارهم بين عشرين وثلاثين سنة، وهم من بين شباب التنسيقيات الذين نزلوا إلى الشوارع في بداية الثورة، وهم يهتفون للسلمية، ورفضوا الدخول في مواجهاتٍ مع الأمن والجيش، وشاعت عنهم صور توزيع الماء والورد على الجيش.
لم يعترف النظام بأنه صفّى كل هذا العدد جسديا، وورد في البيانات الرسمية وفيات طبيعية بالسكتة القلبية، لكن إبقاء أمر الوفاة سرّيا عدة سنوات، وعدم وجود جثامين لهذا العدد الكبير يكذّب رواية النظام، فلو كانت الوفاة طبيعية لما انتظر النظام عدة سنوات لكي يبلغ أهالي المعتقلين، وكان في صالحه أن يكشف عن ذلك، ويخلي مسؤوليته، لكنه أبقى الغموض ورقة مساومة، وكان يتحيّن الفرصة المناسبة، وقد جاءت الآن في وقتٍ يبدو أنه سوف يفلت من العقاب.
يؤكد عدم وجود جثامين أو قبور لكل هذا العدد وجود محرقة للجثث، أقامها النظام في سجن صيدنايا. وفي مايو/ أيار من العام الماضي، كشف مساعد وزير الخارجية الأميركي، ستيوارت جونز، أن لدى الولايات المتحدة أدلة على أن نظام بشار الأسد أقام محرقة للجثث قرب سجن صيدنايا. وعرض على الصحافيين صورا التقطت عبر الأقمار الصناعية، تظهر ما بدا وكأنه ثلوج تذوب على سطح المنشأة، وهو ما قد يشير إلى الحرارة المنبعثة من داخلها. وأضاف أنه "منذ عام 2013، عدّل النظام السوري أحد أبنية مجمع صيدنايا، ليصبح قادرا على احتواء ما نعتقد أنها محرقة". وأوضح أنه "على الرغم من أن أعمال النظام الوحشية الكثيرة موثقة بشكل جيد، نعتقد أن بناء محرقة هو محاولة للتغطية على حجم عمليات القتل الجماعي التي تجري في صيدنايا".
وقال جونز إن واشنطن حصلت على معلوماتها من وكالاتٍ إنسانية ذات مصداقية، ومن "المجتمع الاستخباراتي" في الولايات المتحدة، مشيرا إلى أنه يعتقد أنه تم إعدام حوالي 50 شخصا كل يوم في صيدنايا.
وفي فبراير/ شباط الماضي، قدمت منظمة العفو الدولية تقريراً عن عمليات إعدام ممنهج في سجن صيدنايا، جاء فيه أن النظام السوري قتل بين خمسة آلاف وثلاثة عشر ألف معتقل بين عامي 2011 و2015 في السجن المذكور. وأضاف التقرير أن هذه الجرائم "ترقى إلى مصاف جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية، بتفويض من الحكومة السورية على أعلى المستويات"، مطالبة بفتح أبواب السجون أمام المراقبين الدوليين.
وليس هؤلاء كل المعتقلين، بل هناك عشرات الآلاف مجهولو المصير. ومن هنا دعا محامون سوريون أخيرا إلى التحرّك الفوري، من أجل حملة دولية للضغط على النظام للإفراج عن المعتقلين.
وليس توقيت إعلان لوائح المتوفين تحت التعذيب من فراغ، وله صلة، أولا، بحالة الاطمئنان التي يعيشها النظام بأنه بات خارج المساءلة، بفضل التغطية الروسية والصمت الغربي. والأمر الثاني هو بمثابة رسالة من النظام إلى السوريين بأنه عائد بقوة، وسيحاسب كل من وقف في طريقه، ومن لم يمت بالمحارق سيرفعه النظام على المشانق، عملا بنصيحة رفعت الأسد لبيار الجميل، حسب رواية السياسي اللبناني جوزيف أبي خليل "لا نهاية لأي حرب أهلية بلا تعليق مشانق"، وهكذا تتحقق فلسفة بشار الأسد في التجانس.
ما خرج السوريون من أجل حريتهم، ليعودوا إلى العبودية ثانية. تحار بعض الألباب في إطلاق تسميةٍ على ما حدث ويحدث في سورية، وقد يكون من غير المجدي إعمال معايير وقياسات فلسفية وفكرية مشبعة بالدقة العلمية على ما حدث ويحدث؛ فالواقع أقوى وأعمق بكثير من كل فلسفة وعلم قياس أو معايير.
كان الهاجس الأساس لسلطة سورية، ومن يدعمها، نزع صفة "الثورة" عن ذلك. وهي تاريخياً أغرقت السوري ظاهرياً بالقضايا الكبيرة، وحظرت محاكمته المنطقية لهذه القضايا عبر اغتيال الحياة السياسية في سورية، ليتحول السوري، إثر ذلك، إلى حالة انفصام تهتم، كما يريد النظام، بتحرير فلسطين وتقلق على مياه النيل والتضامن العربي، وتخرس تجاه سرقة نفط البلد وهيمنة حيتان العائلة على الاقتصاد، وتنسى الحرية الشخصية والرقابة والمحاسبة. لقد جعل النظام الإنسان السوري يركض والرغيف يركض، من ناحية معدته؛ وفلسطين تركض وهو يركض وراءها من جهة دماغه.
لقد طوّعته سلطة الاحتلال المحلي، وحولته إلى مخلوق يزهق ماء وجهه يومياً، للحصول على حقه الطبيعي، ويعتبر خمسة دولارات زيادةً على مرتبه مكرمة من "القيادة الحكيمة" التي "يفديها بدمه وروحه"، وإلى كائنٍ يكاد يستخدم "وساطة" كي يحصل على حقه، أو حتى لكي ينام في فراشه.
أقنعته قيادته الحكيمة بأن هناك أولويات في "سياسة الدولة"، ففلسطين هي القضية المركزية، وها هو يكتشف حديثاً أن من يحتل فلسطين هو الأكثر حرصاً على بقاء جلاّده؛ ها هو يكتشف أن تلك المليارات التي أنفقتها قيادته الحكيمة في "شراء سلاح يدافع عن شرف الأمة"، وهو، في الوقت نفسه، يعجز عن شراء اللوازم المدرسة لأطفاله. أما الأسلحة فقد تم تبديدها على قتل هذا المواطن السوري، ومن ثم تنازل "قيادته الحكيمة" عن ذلك الاستراتيجي منها، لصالح محتل الأرض. يكتشف هذا السوري الذي وعى وعاش على كره أميركا أن من برمجه على ذلك يقيم علاقة حميمة معها، وأن المساهمة الأميركية في استمرار منظومة الاستبداد أكبر مما تصوّر. يكتشف هذا الذي فتح قلبه، قبل بيته، "لسيد المقاومة" أن استمرار عذابه وقتله ليس إلا على يد ضيوفه. ها هو السوري يكتشف فجأة أنه طائفي وإرهابي وخائن وقاعدي وهابي، لمجرّد أنه طلب قليلاً من الحرية والكرامة.
من هذه الخلفية التاريخية ومجرياتها، وإذا ما انتقلنا إلى اللحظة، التسمية الوحيدة لما حدث ويحدث في سورية، على الرغم من كل التشويهات والتشوّهات لا يمكن أن يكون إلا ثورة.. فريدة من نوعها، فعلى الرغم من التناقض الصارخ الحاصل بين طيف واسع غير منسجم من قوى الثورة، مدنية كانت أم عسكرية، إلا أن حالة الضياع والإحباط والإرباك والتناقض بين هذه القوى ليس إلا أمراً عابراً، وربما طبيعياً، لأن لا عهد لتلك القوى بالفعل الثوري الحقيقي المبرمج والممنهج؛ وهي ثورةٌ بلا فلسفة، وكل من اشترك فيها كان مكتوماً على نفسه من السلطة، ومن قوى قرّرت أن تستثمر بدهاء وتتاجر بفجور بالدم السوري.
مجموع تلك القوى الثائرة وما تحمله من أمراض لا حصر لها حالة زائدة؛ فجهد من انبرى بنيّة طيبةٍ وصدق فعلٍ كي يأخذ بيدها غير متكافئ مع دهاء النظام وقوته المتراكمة عقودا من حنكة سياسية مجرّبة، وأسلحة فتاكة، رُصدت للحظات كهذه. تدخلات قاتلة من الحريصين على بقاء النظام خلخلت الموازين، وسحبت القوى الثورية المقاومة في أحايين كثيرة إلى ساحة النظام والانجرار وراء خطابه، والتماثل مع تصرفاته. مرة أخرى، ذلك "الاستنقاع" في حالة الثورة ليس إلا مسألة عابرة، لا تشبه الثورة، وما هي من خواصها، ولا بد أنها حالة طارئة تزول بزوال المخطط المرسوم لسحبها إلى هذه الحالات الإحباطية المظلمة. ولا يغرنّ النظام سيطرته على الجغرافيا بفعل الاحتلالات؛ فالقضية السورية ما كانت أصلاً عسكرية؛ وما اختار بعض السوريين حمل السلاح إلا مرغمين أو واهمين. والنظام لا يسيطر على منطقةٍ إلا بعد أن يحولها له الروس إلى ركام، بفعل إنزال ما يساوي حجم مبانيها من الصواريخ والقذائف؛ وفي الوقت نفسه، يعيش فقط سريرياً بفعل عصابات قتلةٍ استجلبها من أصقاع الأرض.
شكل آخر لتجلي تصوير الثورة كتفصيل في الخارطة العالمية متضاربة الأنواء، أو زائدة دودية ملتهبة في الصراع الدولي، البارد حيناً والساخن أحياناً (قمة هلسنكي)، ليس إلا اعتداء على جوهر ثورة أهل سورية وروحها؛ فما هي عراكٌ عبثي بين مكونات الفسيفساء السوري، ولا هي حارة تتقاتل مع حارة أخرى، ولا مجموعة إثنية مع مجموعة آخرى، ولا معتقد ديني أو سياسي مع معتقد آخر. والأهم من ذلك، ليست ثورة سورية ثورة جياع؛ فالسوريون أحرار بجيناتهم؛ "وتجوع الحرة، ولا تأكل بثدييها". مئات بل آلاف السنين مرّت، وما شهد السوريون أو غيرهم ما يحدث في سورية. هناك بشرٌ بمشاعر وأحاسيس ورؤى وطموح وغضب وكرامة وقهر ودوافع وإحباطات وطغيان وإذلال وفساد وابتزاز وتهميش وضياع وانسداد أفق، فمن حالة السكون والهدوء والاستكانة، وجد أهل سورية أنفسهم منتقلين إلى حالة تاريخية ثائرة فاعلة وفعالة، تنظر بمصيرها ومستقبلها وتحرّرها... لا من أجل كمشة طحين، بل من أجل كمشة كرامة. سورية حُوِّلت، وعن عمد، إلى جسد منهك، سعى الجميع، وفي مقدمتهم، النظام، إلى سحق مناعته، وتحويله إلى ساحة صراعاتٍ، أبطالها دمى، شكلها ديني وسياسي، ثورة أهل سورية براء منه.
ومن هنا أقتبس أقوالاً لناشط ثوري سوري يطلقها بشكل سليقي ودون فلسفة موجِهاً كلامه لهؤلاء الذين يقولون إن الثورة قد سقطت: "الثورة السورية لم تسقط. وها هي تنطلق من جديد؛ فسقوط الأقنعة والفصائل والمكاتب الأمنية والامتيازات والرواتب لآلاف الأسماء الوهمية ليس سقوطاً للثورة. توقفُ الاقتتال بين بعض الفصائل المرتبط باختلاف الداعم ليس سقوطاً للثورة؛ وتوقف الاغتيالات ضد شرفاء الثورة وقادتها الحقيقيين ليس سقوطاً للثورة؛ وسقوط المتورّطين بالخطف والفدية، وتوقف نشاطاتهم ليس سقوطاً للثورة؛ وسقوط تجار الدين وشعاراتهم وإماراتهم ليس سقوطاً للثورة؛ وسقوط أبو قتادة وأبو القعقاع وأبو تالا ولالا؛ واكتشاف جحافل من الضفادع والمخبرين علانيةً ليس سقوطاً للثورة. كل ذلك كان مكابح وألغاماً زرعتها وولّدتها ظروف مريضة، ونظام متمرس بسحق كل من يقف في وجهه بطرقٍ لا يعرفها العالم. سقط الساقط فقط، سقط مَن لم يؤمن بثورة أهل سورية، ومَن لم يكن من أهلها يوماً؛ سقط، وبقيت الثورة بعناوينها النقية الصافية وبمداد وتضحيات مليون شهيد ومليوني معاق وجريح وآلاف المعتقلين.. سقط كل ذل، لكن ثورة الشهداء والمستضعفين هي فكرة وحق؛ والحق لا يسقط، والفكرة قيمة، والقيمة باقية لأنها حقيقة. من قال سقطت الثورة فهو من بين الساقطين مع من سبق لأنه لم يدرك معناها يوماً..".
من هنا أيضاَ، ما نشهد من محاولاتٍ لإعادة تأهيل نظامٍ لم يشهد التاريخ له مثيلا؛ ومن هنا كل تلك التصريحات الإسرائيلية والأميركية والروسية التيئيسية لأهل ثورة سورية بأن النظام هو الخيار الوحيد للإبقاء على سورية. أهل سورية مقتنعون أن من لم يكن مؤتمناً على حياتهم لن يكون مؤتمناً على سورية؛ إنه حريصٌ على مسألة واحدة، وهي بقاؤه حتى لو استلزم ذلك حرق سورية بأهلها؛ وهذا تثبته الممارسات التي يشهدها العالم، ويدعم تلك الممارسات لغاياته المريضة. من هنا، ما خرج أهل سورية من أجل حريتهم وكرامتهم، وضحّوا كل تلك التضحيات؛ ليعودوا إلى نير العبودية.
قبل شهور قلت على قناة تلفزيونية، إنني أدعو الله أن تعود سوريا كما كانت دولة واحدة غير ممزقة، وليكن النظام الخصم وحده نقاومه بالسياسة والسلم، دون احتلال روسي أو إيراني، وأن تخرج من سوريا الميليشيات التي تدفقت كطوفان ملأ ساحات سوريا بدماء شعبها وأغرق الجميع، يومها اعترض عليّ كثير ممن كانوا يأملون نصراً شاملاً، لم أكن أراه ممكناً، بعد أن تمزقت المعارضة عسكرياً وسياسياً، وقد خسرت دعمها الدولي.
ولا أحد ينكر أن الصراع مع النظام كان مجرد مطالبة بالحرية وبالكرامة، وكانت الاستجابة سهلة ويسيرة على الطريقة المغربية لو أن النظام اعترف بحق الشعب، لكنه استبد، وحول الصراع السلمي إلى مسلح، ولولا أن «حزب الله» دخل المعركة بشعارات طائفية، لبقيت شعارات الثورة لا تتجاوز حد الكرامة والحرية، ولولا أن النظام أطلق سراح المتشددين من سجونه، وهو يعلم أنهم سيسارعون إلى شعارات دينية، لما ظهرت «النصرة» وأمثالها ممن حاربوا شعار الثورة ورفعوا راياتهم السوداء، ولولا أن خطة جهنمية صنعت «داعش» وشغلت العالم بهذا التنظيم الفاجر لما ظهر تحالف دولي هدفه مكافحة «داعش»، حتى باتت قضية مكافحة الإرهاب هي الشغل الشاغل، بينما ملايين السوريين يقتلون ويشردون ويموتون تحت التعذيب، وقد باتت قضيتهم هامشية، وتحت راية مكافحة الإرهاب دمرت مدن وقرى واستبيحت حرمات، وانتصر الحسم العسكري الذي أعلنه النظام من البداية ونفذته روسيا بكل الوسائل، من الطائرات التي لم تتوقف عن القصف إلى ما سمي بخفض التصعيد الذي انتهى إلى مصالحات وإذعان.
أما وقد عاد النظام إلى جل المناطق التي كانت خارجة عليه، فإن ما تبقى على المجتمع الدولي الذي ادعى لسنوات دعمه لمطالب الشعب بالحرية والكرامة والديموقراطية، هو أمران أمام فداحة التراجيديا الدموية التي عاشتها سورية عبر ثماني سنوات، أولهما قانوني، وثانيهما أخلاقي.
فأما الأمر القانوني، فهو التزام مجلس الأمن والأمم المتحدة بتنفيذ القرار الدولي 2254 وما سبقه من قرارات ذات صلة، فما يجري حالياً هو تجاهل مطلق لهذه القرارات، وأخطرها تجاوز إقامة هيئة حكم انتقالي غير طائفي، فالقفز الحاصل نحو وضع الدستور قبل إنشاء الهيئة مخالفة معلنة للقرار 2254.
كانت روسيا التي أصرت على تنفيذ رؤية النظام بتنفيذ الحل العسكري وإهمال الحل السياسي، قد حظيت بتفويض دولي سراً وعلانية، والواضح أن العالم الذي صمت عامين على قيام «داعش» وميلشيات طائفية أخرى بإنهاء قوة «الجيش الحر»، لم يعد يجد أمامه معارضة مقنعة بأن تكون بديلاً عن النظام، فقد فرغت الساحة أو كادت ضمن خطة محكمة فلم يبق غير التنظيمات التي سمت نفسها بأسماء دينية، وأهمها «النصرة»، مع شتات من الفصائل التي بقيت من «الجيش الحر»، وقد توقف عنها الدعم، فصارت ضعيفة إلا من إيمانها بحقها في الدفاع عن الشعب ومطالبه، لكنها شغلت بمواجهة الإرهاب الذي استهدفها منذ البداية. وقد جاءت اتفاقية ترامب وبوتين (الموقعة في فيتنام) بعيداً عن قرارات مجلس الأمن، لتختصر القضية السورية في دستور وانتخابات، وعبرت الولايات المتحدة عن تخليها الكامل في رسالة وزعتها على الفصائل المعارضة في حوران، فكان السقوط المدوي، واليوم تتوجه الأنظار إلى إدلب أمام سلسلة من الاحتمالات، فالنظام يريد متابعة الحسم العسكري، وروسيا تعد بألا تتسع الحرب في إدلب، وتركيا تبحث عن مخرج سياسي عبر التمسك بخفض التصعيد، ولم يكن في لقاء آستانة الأخير، ما يطمئن ثلاثة ملايين مواطن في إدلب يترقبون الخطر القادم.
والوقائع تشير إلى أن النظام قد يسترد كل المناطق بفضل روسيا وإيران، ولئن كان في هذا الاسترداد حفاظ على وحدة سوريا وصد لأية خطة للتقسيم، إلا أنه يبدو مخيفاً من خطر الانتقام الذي يتوعد النظام به معارضيه، وقد جمعهم في إدلب وهو بالتأكيد لن يقول لهم (اذهبوا فأنتم الطلقاء).
لا أسوأ ولا أخطر من أنْ يعتبر البعض أمانيهم وتطلعاتهم حقائق، فالقول «إن الحرب في سوريا قد وضعت أوزارها، وأن الأمور قد عادت إلى ما كانت عليه قبل عام 2011، وأنَّ هذا النظام قد انتصر، وأن شعار (الأسد إلى الأبد) قد تحقق» هو مجرد أمانيّ كاذبة بعيدة عن الواقع القائم بُعد السماء عن الأرض، وهو أيضاً بالإمكان وصفه بأنه مجرد نظرات حولاء لا ترى الأشياء، كما هي، وحيث إن واقع هذا البلد قد أصبح بعد نحو 8 سنوات أسوأ كثيراً مما كان عليه قبلها عندما انطلقت شرارة هذه الثورة، التي من المبكر جداً وصفها بأنها غدت «مغدورة»، وفقاً لتلك البداية المعروفة.
كيف من الممكن تصديق أن نظام بشار الأسد قد انتصر، وأن الحرب قد وضعت أوزارها، وأن الأمور في سوريا قد عادت إلى ما كانت عليه، بينما لا يزال حتى تنظيم «داعش» يفعل كل هذا الذي يفعله وله قواعد على بعد مرمى حجر، كما يقال، من العاصمة دمشق، والأهم بينما لا يزال هذا البلد ممزقاً، وحيث إن هناك مناطق رئيسية تسيطر عليها القوات الأميركية ومناطق تديرها تنظيمات ما يسمى «سوريا الديمقراطية» ومناطق رئيسية في ريف حماة وفي إدلب يسيطر عليها «الجيش الحر» والعديد من فصائل المعارضة المعتدلة منها والمتطرفة؟!
إن سوريا المقطعة أوصالها تخضع الآن لانتداب روسي تحكمه «معاهدة» لا تنتهي قبل نهاية هذا القرن، القرن الحادي والعشرين، وهذا أكده الروس، وعلى ألسنة عدد من كبار مسؤوليهم، من بينهم الرئيس فلاديمير بوتين نفسه، كما أكده بشار الأسد الذي من قبيل طرد الكثير من المخاوف المستبدة به قد قال ليس على استحياء وإنما بتفاخر أهوج أن القوات الروسية باقية في «بلده»!! وأن وجودها سيستمر طويلاً... أي حتى نهايات هذا القرن... القرن الحادي والعشرين.
ثم والمعروف أيضاً أن الوجود الاحتلالي الإيراني لـ«القطر العربي السوري» لا يزال، ورغم كل ما يقال، في ذروته، وأن هناك بالإضافة إلى هذا كله «مستوطنات» إيرانية وأفغانية طائفية ومذهبية على غرار المستوطنات الإسرائيلية في فلسطين (الضفة الغربية) وفي الجولان، بل حتى في دمشق، العاصمة الأموية نفسها، وحتى في المناطق المتاخمة للحدود اللبنانية التي هي جزء رئيسي وأساسي ممّا قال عنه بشار الأسد إنه «سوريا المفيدة» التي جرى تفريغها من سكانها وأهلها الأساسيين، أي من المسلمين «السنة» الذي يشكلون في المناطق السورية كلها نسبة نحو 70 في المائة من السكان.
وأيضاً كيف يمكن القول إن «الحرب قد وضعت أوزارها»، بينما لا يزال هذا البلد بمعظم مدنه وقراه مهدماً على عروشه، وبينما إعادة بنائه تحتاج إلى مئات المليارات من الدولارات التي لم يتوفر منها حتى الآن ولو دولار واحد، وبينما لا يزال أكثر من سبعة ملايين، كلهم من الطائفة السنية، لاجئين في العديد من الدول البعيدة والقريبة؛ معظمهم، إنْ ليس كلهم، لا يطمئنون لنوايا هذا النظام المستبد والطائفي، الذي كان ارتكب مجازر مرعبة بحق أبناء الشعب السوري خلال سنوات حكمه الطويلة... ومدينة حماة تشهد على هذا.
تجدر الإشارة هنا إلى أن صحيفة «سفابودينا براسا» الإلكترونية الروسية كانت قد نشرت تقريراً مثيراً قبل أيام قليلة، أعادت نشره صحيفة «الشرق الأوسط» جريدة العرب الدولية، جاء فيه «إن سوريا تتخبط في وضع لم تعهده من قبل، وإنها قد تحولت إلى ثلاثة أجزاء تقع تحت سيطرة جهات مختلفة، ما يعني أنها ذاهبة إلى التقسيم، وإن إصرار الرئيس بشار الأسد على الاستمرار بالتمسك بموقعه (قد)!! يؤدي إلى تحويل هذا البلد إلى أفغانستان جديدة».
وقالت هذه الصحيفة «رغم أن العادة قد جرت ألا تتناول الصحف الروسية الملفات المتباينة مع الخط السياسي الذي يعلنه الكرملين، فإن الأسد أصبح يسيطر على الجزء الأكبر من الأراضي السورية، بينما تسيطر (وحدات حماية الشعب) الكردية على الجزء الثاني، أما الجزء الثالث (إدلب) وبعض مناطق حلب وحماة فيقع تحت قبضة تركيا بمساعدة حلفائها داخل سوريا... بما في ذلك (الجيش السوري الحر)»، وهنا، وهذا ليس من كلام هذه الصحيفة المشار إليها آنفاً، فإن عدد هذا الجيش الذي جرى توحيده مؤخراً تحت اسم «جيش الفتح» يقدر بأكثر من سبعين ألفاً، وأنه مزود أيضاً بالأسلحة الثقيلة وبالصواريخ. ويقال إن بعض فصائله تمتلك بعض الدبابات والدروع والآليات الثقيلة.
وأضافت أن الأسد وجد نفسه أمام خيار في غاية الصعوبة يتمثل في ضرورة طرد الأطراف الأجنبية، التي أقحمت نفسها في الشؤون السورية، وحيث يعتبر التخلي من قبله عن المعركة بمثابة الاعتراف بعدم جدارته وفشله في انتشال سوريا من أزمتها وتحقيق الاستقرار. لكنها، أي هذه الصحيفة، أشارت إلى أن عدم إقرار الرئيس السوري واعترافه بصعوبة فرص استمراره بالحكم وبرئاسة هذا البلد من المرجح أن يهدد الوحدة الإقليمية، ويؤدي لظهور دولة ضعيفة وفقيرة، خصوصاً في ظل سيطرة الكرد على أكبر موارد النفط السورية.
وقالت هذه الصحيفة الروسية أيضاً إن استمرار الأسد في خوض هذه الحرب، وعدم تخليه عن السلطة، سيؤدي إلى تحويل سوريا إلى أفغانستان ثانية... إن استمرار هذه الحرب وتواصلها في ظل الظروف الراهنة من ضمن الأمور التي تهدده، أي تهدد الرئيس السوري، والتي تنذر بهزيمته... علماً بأن قوته الرئيسية متأتية من مساعدة روسيا له، هذا بالإضافة إلى مساهمة المستشارين الروس المختصين في تقديم التوجيهات العسكرية والدبلوماسية.
وانتهت هذه الصحيفة، التي يقال إنها مقربة من دوائر صنع القرار في موسكو، إلى القول إن «روسيا قد تنسحب من هذه الحرب التي لا نهاية لها، بينما ولأسباب أمنية فإن تركيا ستضطر للبقاء، نظراً لأن سوريا بلد مجاور، ستؤثر أحداثه بشكل كبير عليها، مما قد يستوجب البقاء في هذا البلد لسنوات طويلة».
وعليه فإنه معروف أن الأسد عندما انطلقت من درعا شرارة هذه الثورة، التي لا تزال متواصلة، في مارس (آذار) عام 2011، كان يعتبر أنه في كامل لياقته العسكرية والأمنية، وأنه تمكن من استعادة نفوذه في لبنان المجاور الذي كان قد خسره بعد اغتيال رئيس الوزراء اللبناني السابق رفيق الحريري في عام 2005، وإنهاء وجوده العسكري هناك خلال أيام قليلة، تحت وطأة ضغط دولي، في مقدمته ضغط الولايات المتحدة. والمعروف أن روسيا في تلك المرحلة كانت في أسوأ أوضاعها العسكرية والاقتصادية، وإلى حدِّ أنها لم تستطع تقديم أي عون له، ولو في الحدود الدنيا من النصائح السياسية.
لكن وبعد نحو ثمانية أعوام من انطلاق هذه الثورة، التي تآمرت عليها أطراف كثيرة، وخذلها بعض الذين كانوا يُعتبرون من مؤازريها، وأن انتصارها في مصلحتهم، فإن الأمور قد تغيرت كثيراً، وبشار الأسد لم يعد يملك القوة الذاتية التي كان يملكها قبل نحو ثمانية أعوام، وحلفاءه الروس والإيرانيين قد أصبحوا في غاية الإنهاك، والإيرانيين تحديداً يتعرضون لضغط إسرائيلي بمساندة أميركية وموافقة روسية على الانسحاب من هذا البلد الذي أصبح ساحة تقاطع رماح كثيرة.
وهكذا وخلافاً للذين يغلبون رغباتهم على واقع الأمور، ويدّعون أن هذه الحرب قد وضعت أوزارها، وأن كل شيء قد انتهى، و«أن الأسد إلى الأبد»، فإنَّ ما يجب أن يأخذه هؤلاء وغيرهم بعين الاعتبار هو أنه لا يزال هناك جمر متقد ومتوهج تحت رماد هذه الأزمة، وأن المتدخلين من الخارج كثر، وإنه لا هدوء ولا استقرار في هذا البلد الذي غدا ممزقاً ومدمراً ومحتلاً إلا بتطبيق حل «جنيف1» والقرار 2254، وبالمرحلة الانتقالية التي تمهد لانتخابات نزيهة بإشراف دولي تؤدي إلى نظام ديمقراطي ودولة غير هذه الدولة القمعية «الإسبارطية»!!
إن الروس، ورغم أنهم أصبحوا منتدبين على هذا البلد حتى نهايات القرن الحالي، يعرفون أن عودة أوضاع ما قبل مارس عام 2011 غير ممكنة، على الإطلاق، وأنه لا بد من التغيير على أساس ما تم الاتفاق عليه دولياًّ، وبالتالي فإنه يمكن الإبقاء على بشار الأسد حتى نهاية ولايته الحالية، لكنه من غير الممكن إدارة الظهر لكل هذه المستجدات ولكل هذه الحقائق التي تجسدت على الأرض، وأن سوريا الموحدة لا يمكن الحفاظ عليها إلاّ برحيل هذا النظام واستبداله بالانتخابات الديمقراطية بنظام عصري يكون لمكونات الشعب السورية كله بكل فئاته وأعراقه ومذاهبه وطوائفه.
خلال المفاوضات التي يجريها وفد من تنظيم "ي ب ك" برئاسة إلهام أحمد، مع نظام الأسد، عرض الوفد مقترحًا قد يتمخض عن نتائج شديدة الخطورة بخصوص إدلب، بحسب ما ذكرته لي مصادر في الأجهزة المكلفة بمتابعة المنطقة باستمرار، في واشنطن.
المصادر قالت إن الهدف الأساسي لوفد "ي ب ك" من المفاوضات مع الأسد هو تأسيس كيان يتمتع بحكم ذاتي في شرق الفرات، موضحة أن الوفد أعرب عن استعداده، في حال موافقة الأسد، للتحرك مع الجيش السوري في عملية محتملة للنظام ضد إدلب، في إطار التعاون المزمع إقامته بين الطرفين.
وأضافت المصادر أن الوفد ذهب أبعد من ذلك في مقترحاته، وعرض على النظام أن يشارك مسلحوه في العملية وهم يرتدون زي الجيش السوري إذا تطلب الأمر.
ولفتت إلى أن هذه التطورات ستزعج إلى أبعد حد أنقرة التي تملك 12 نقطة مراقبة في إدلب، وقد تؤدي إلى رد تركي عليها.
وبحسب ما ورد من معلومات إلى المصادر المذكورة، فإن أردوغان يبحث هذه التطورات مع بوتين، بل إنه من المعتقد أن الزعيمين ناقشا هذه المسألة خلال لقائهما في جوهانسبورغ.
تولي واشنطن أهمية كبيرة للقمة التركية الروسية الإيرانية المزمع عقدها في إيران أواخر أغسطس أو مطلع سبتمبر، في إطار مسار أستانة. ومع أن البيت الأبيض لا يرسل مراقبين إلى هذه القمم، إلا أن الإدارة طلبت من أجهزتها متابعة القمة عن كثب وإعداد تحليلات عنها.
مفاوضات الإدارة الذاتية
أقامت إلهام أحمد، عندما كانت ممثلة "ي ب ك"، علاقات قوية مع البيت الأبيض، وكانت تظهر فيه باستمرار. والوفد الذي ترأسه يجري مفاوضات مع نظام الأسد في دمشق بشأن مستقبل الكيان المزمع تأسيسه في شرق الفرات.
تقول المصادر إن تنظيم "ي ب ك" شكل مجالس في المناطق التي يسيطر عليها تحت اسم الإدارة الذاتية الديمقراطية، وأن هذه المجالس تدرس إمكانيات التعاون مع نظام الأسد.
وتشير المصادر إلى أن هذه المجالس مهدت الطريق أمام إجراء عمليات ترميم لبعض البنى التحتية والسدود بالتعاون ما بين الأكراد ونظام الأسد، وتتوقع أن يكون لهذه المجالس دور فعال في حال تشكيل كيان بحكم ذاتي في المنطقة مستقبلًا.
كانت روسيا أول من طرح فكرة تشكيل كيان بحكم ذاتي شرقي الفرات في إطار الدولة المركزية بسوريا. وتقول المصادر إن ترامب الذي يجري استعدادت للانسحاب من المنطقة، بدأ يتحمس لتطبيق هذا النموذج الذي شبهه الروس بإقليم شمال العراق.
لم يتسرب شيء عن فحوى المباحثات التي جرت في دمشق، بين وفد يمثل «مجلس سوريا الديمقراطية» ووفد استخباري لنظام الأسد، بقيادة علي مملوك، ومن المرجح ألا يتسرب في وقت قريب. «اتفق الجانبان على تشكيل لجان تخصصية للتباحث حول مختلف الجوانب» هذا كل ما لدينا إلى الآن.
بعيداً عما قد يكون دار في ذلك الاجتماع، يمكن الحديث عن معناه أو معانيه، في سياق سيالة الأحداث السورية بأبعادها المحلية والإقليمية والدولية، كما عن مفاعيله في الرأي العام المحلي بانقساماته وانحيازاته.
يمكن القول، قبل كل شيء، إن حزب الاتحاد الديمقراطي الذي يشكل لب مجلس سوريا الديمقراطية، هو بصدد إعادة تموضع استراتيجية، على ضوء الانسحاب الأمريكي المحتمل من سوريا الذي يضغط الرئيس ترامب على وزارة الدفاع بشأن تنفيذه. واضح أن الأمر أصبح مسألة وقت ربما يقاس بالأشهر لا بالسنوات. ويقال إن تفاهمات قمة هلسنكي بين ترامب وبوتين بشأن سوريا، هي التي سرعت من وتيرة إعادة التموضع المذكورة، فكان اجتماع دمشق تتويجاً لسلسلة اجتماعات سرية سبقته. يقال أيضاً إن الأمريكيين دفعوا باتجاه هذا التقارب من خلال مصارحة حليفهم الكردي بأن «المهمة انتهت» بالنسبة لواشنطن بالقضاء على دولة داعش، ولا مفر من عودة الحزب الكردي إلى علاقته السابقة مع النظام، ربما مع مظلة حماية روسية.
قد تعني إعادة التموضع، بهذا المعنى، تحالفاً روسياً ـ كردياً، لمرحلة ما بعد الانسحاب الأمريكي، لا بد أن ينطوي على أكثر من مجرد إعادة مناطق سيطرة «قسد» إلى سيطرة النظام، أو التوافق مع النظام على شكل من أشكال الإدارة الذاتية لحزب الاتحاد الديمقراطي مع شركائه في مجلس سوريا الديمقراطية أو بدونهم. ذلك أن الروس سبق وعبروا، في مناسبات عدة، عن رؤية لمستقبل سوريا تلاحظ وضعاً خاصاً للمناطق الكردية، يتراوح بين الإدارة الذاتية والكيان الفيدرالي المرتبط بالمركز على مثال ما هو قائم في شمال العراق.
من المحتمل أن روسيا التي حصلت على موافقة ترامب على استفرادها برسم مصير سوريا، قد تعمل على ملء الفراغ الذي يمكن أن يتركه انسحاب ـ جزئي على الأرجح ـ للميليشيات الموالية لإيران، تنفيذاً للرغبة الأمريكية، بقوات «قسد» وعمودها الفقري وحدات حماية الشعب (الكردية). فتكسب روسيا، بهذا الاستبدال، مرتين: تتخلص، من جهة أولى، من عبء الحليف الإيراني ومنَّته كحليف ميداني للطيران الحربي الروسي، وتكسب، من جهة ثانية، حليفاً ميدانياً مجرباً وأكثر طواعية، لا يتبع إيران ولا النظام الكيماوي، وإن كان لا يصطدم مع الأخير. وهذا ما من شأنه أن يمنح السياسة الروسية في سوريا هامش حركة واستقلالية أكبر عن كل من إيران والنظام الذي لا يبدي الخضوع الكامل في جميع الأمور، ولا تملك موسكو أدوات ضغط كافية لإخضاعه، وخاصةً فيما يتعلق بمسائل «الحل السياسي» الذي تريد موسكو فرضه على الأطراف.
هناك تكهنات، نابعة من الهواجس التركية الكلاسيكية، بشأن اتفاق مفترض بين النظام الكيماوي و«الوحدات» لاستخدام قوات الأخيرة في معركة السيطرة على إدلب. مع استبعادي لسيناريو من هذا النوع، بالنظر إلى ما سيخلفه تعاون من هذا القبيل من آثار مدمرة على العلاقات العربية ـ الكردية، تتجاوز كل ما سبق من أحداث مماثلة في الرقة وريفها وريفي الحسكة وحلب، لكن مجرد الابتزاز بهذا الاحتمال من شأنه دفع تركيا إلى ارتكاب حماقات قد تكلفها طرداً روسياً لقواتها من الأراضي التي تسيطر عليها في منطقتي «درع الفرات» وعفرين، إضافة إلى نقاط المراقبة التركية في محافظة إدلب، أي عملياً إخراجها من الصراع السوري والتسوية السورية.
إن «تفعيل» هذا الابتزاز روسياً، يتوقف على مدى استمرار توافق «ثلاثي آستانة»، روسيا وتركيا وإيران، أو تفجره المحتمل من الداخل، بالارتباط مع قدرة روسيا على التخفف من عبء هذين الشريكين بموازاة التفاهم مع واشنطن. ولكن من وجهة نظر حزب الاتحاد الديمقراطي، يستبعد أن يوافق على المشاركة في القتال في معركة إدلب، المؤجلة حالياً حتى إشعار آخر، كما فهمنا من المخرجات المعلنة لاجتماع «آستانة 10» الذي انعقد مؤخراً في سوتشي. فلا بد أن الحزب المذكور قد اتعظ من تجربة تحالفه مع الأمريكيين في الحرب على داعش، وتخلي الأمريكيين عنهم في معركة عفرين، فلا يكرر الخطأ نفسه مرة ثانية مع روسيا والنظام الكيماوي.
لعل أكبر المتوجسين من مباحثات دمشق بين النظام ووفد «مجلس سوريا الديمقراطية» هو تركيا التي بذلت الكثير من الجهود الدبلوماسية لإقناع واشنطن بفك تحالفها مع القوات الكردية، وكانت الثمرة الهزيلة لتلك الجهود، بعد سنوات، هي الدوريات التركية ـ الأمريكية المشتركة حول منبج (العربية!). وها هو كابوس جديد يقض مضجع أنقرة مفاده أن مظلة الحماية التي تتمتع بها القوات الكردية ستنتقل من الأمريكي المنسحب إلى الروسي الباقي الذي يريد، فوق ذلك، إشراك حزب الاتحاد الديموقراطي في مباحثات التسوية السياسية في سوريا.
أما كارهو «الاتحاد الديمقراطي» من البيئة العربية المعارضة في سوريا، ومع وجود أسباب وجيهة كثيرة لتلك الكراهية، فهم ينتقلون بطريقة عجيبة من اتهام الحزب الكردي (وأحياناً الكرد بعامة) بالنزعة الانفصالية، إلى اتهامه بالعمالة للنظام، ولا يرون التناقض بين الاتهامين.
يُتقن وليد جنبلاط فن التعامل مع الرسائل السياسية، خصوصاً تلك التي تصله عبر بريد النظام السوري المتعدد الأشكال والأوجه، والتي يستخدمها كعادته في تحذير خصومه مباشرة، أو تهديدهم عبر وكلائه، والمعروف أن دمشق تحترف استخدام القسوة في رسائلها الدموية من المجازر إلى الاغتيالات، ولأن الأخيرة غير متاحة حتى الآن في لبنان، تلجأ إلى الاغتيالات الجماعية - الإبادة - إما مباشرة، كما تتصرف مع الشعب السوري منذ استيلاء «البعث» على الحكم لترهيبه، وإما بأساليب غير مباشرة عبر أدواتها، كما حدث مع دروز جبل العرب، ومحاولات ترغيبهم وتطويعهم. ولكن منذ ظهور «داعش» وأخواتها، توفرت للنظام أدوات ممتازة لضرب الثورة وإدانة رموزها وتشويه شعاراتها، كما استخدمت هذه الجماعات المتطرفة في الضغط على دول الجوار، خصوصاً لبنان، الذي يتأثر مباشرة في لعبة الترهيب التي تطال من وقف وما زال إلى جانب الشعب السوري، والترغيب الذي تستخدمه في تطويع الجماعات الإثنية والدينية وجرّها إلى معسكر الأسد الذي يرفع شعار حِلف الأقليات وحمايتها.
في مجزرة السويداء، التقط الزعيم الدرزي وليد جنبلاط الإشارة كعادته وأحسَّ بخطورتها، ومدى انعكاساتها السلبية على دروز سوريا ولبنان وعلاقتهم مع الجماعات الوطنية الأخرى، خصوصاً الأغلبية، وقلقه المبكر من خطورة استدراج الدروز إلى شبكات صيد النظام من أجل الإيقاع بهم، ومن ثم استخدامهم في مواجهة شركائهم في الوطن، فعمل جنبلاط على تعطيل مشروع النظام منذ انطلاق الثورة السورية، وتفكيك شباكه بهدف تحييد دروز جبل العرب قدر المستطاع عن أتون الحرب السورية، رغم العقبات الكبيرة التي وضعها النظام عبر مُوالين له داخل البيئة الدرزية التي حاولت مصادرة قرار الدروز السياسي والعسكري، وجزّهم في معركة النظام ضد الشعب السوري.
في مدينة عبيّة في جبل لبنان، جدد رئيس الحزب التقدمي الاشتراكي وليد جنبلاط أمام حشد كبير من أبناء طائفته وشيوخها، أثناء قيامهم بأداء صلاة الغائب على أرواح ضحايا السويداء، تمسكه بموقفه من النظام السوري ورئيسه، ومرر رسالة واضحة لأصدقائه الروس بأن سوريا ليست الشيشان، ولعل جنبلاط يريد تذكير سيد الكرملين بأن تطبيق تجربة الحرب الشيشانية في سوريا مستحيلة، وبأن القوة الغاشمة تستطيع أن تحقق انتصاراً مؤقتاً، وبأن عوامل الجغرافيا والدمغرافيا تختلف كلياً مع سوريا، فالشعب السوري ليس معزولاً، كما الشعب الشيشاني، أو محاصراً إثنياً ودينياً كما تحاصر روسيا شعوب شمال القوقاز، فروسيا التي تتدخل في سوريا، وتفرض عليها نظاماً أقلَّوياً غير قابل للاستمرار، حيث حجم الجريمة التي ارتكبها بحق شعبه تقضي على كل مشاريع إعادة تعويمه، فالقابع في قصر المهاجرين بات بقاؤه مرهوناً بوجود الطائرات الروسية تحلق فوق قصره، واستمرار المرتزقة الإيرانية في الوقوف على بابه لحمايته.
ليس سهلاً إقناع الدروز بالخدمة في جيش النظام، فالذاكرة الجماعية للمواطنين في بلاد الشام لم تزل تعاني من الويلات التي تسبب بها نظام التجنيد الإجباري الذي طبقه الأتراك على سكان بلاد الشام عشية الحرب العالمية الأولى، والمعروف بـ«سفر برلك»، إضافة إلى رفضهم الكامل لتجربة «سفر برلك الشيعي» الذي طبقه الجنرال قاسم سليماني عبر الميليشيات الشيعية التي جلبها إلى سوريا للدفاع عن النظام، وفي موازاة ذلك لن يكون صعباً على الدروز هذه المرة رفض «سفر برلك» جديد بنسخته الروسية، حيث تحاول موسكو فرض التجنيد الإجباري على أبناء جبل العرب لتغطية حاجة جيش النظام الملحة للعديد، فالدروز الذين نجحوا نسبياً في حماية مناطقهم، والتمتع بشبه إدارة ذاتية، رفضوا الخدمة العسكرية مع النظام، ودفع الشيخ وحيد البلعوس حياته ثمن دفاعه عن هذا القرار فتم اغتياله 2015. واللافت أن عملية «داعش» في السويداء تزامنت مع فشل جنرالات روس وممثلين عن النظام في إقناع عشرات آلاف الشباب الدروز بالالتحاق بجيش النظام، وهو في إطار استعداده لمعركة إدلب، فلجأ النظام كعادته إلى الترهيب بعد فشل الترغيب، فظهر «داعش» في اللحظة التي تحتاجها مصالحه ومصالح حُماته، وهذا ما دفع جنبلاط إلى الإشارة مباشرة إلى الروس في خطابه حيث قال: «لقد بقيت هناك شعرة معاوية بيننا وبين الروس، ولكن نريد من هذه العلاقة أن تكون ضماناً لأهل الجبل، وأن يبقوا في الجبل، وألا يستخدمهم الأسد وقوداً من أجل مآربه».
جنبلاط المؤمن بالحتمية التاريخية وحق الشعوب، يواجه خصومه هذه المرة صعوبة في انتزاع اعتراف بانتصارهم المؤقت.
أثارت روسيا، بشكل مفاجئ، فتح ملف عودة اللاجئين السوريين، بإعلان وزارة الدفاع الروسية يوم 18 الشهر الماضي (يوليو/ تموز) عن خطة لإعادة 1.7 مليون لاجئ: 890 ألفاً من لبنان، 300 ألف من تركيا، 200 ألف من أوروبا، 150 ألفاً من الأردن 100 ألف من العراق، و100 ألف من مصر. وقولها "إنه يمكن استقبال حوالى 336 ألف لاجئ في مراكز لجوء داخل سورية، 134.500 منهم في حلب و73.600 في ريف دمشق، و64 ألفاً في حمص، و45 ألفاً في دير الزور. وتقدمت موسكو بطلبات إلى 45 دولة، للحصول على بيانات وأرقام دقيقة عن اللاجئين السوريين المقيمين فيها، وأرسلت وفدا كبيرا رفيع المستوى، من 13 مسؤولاً، شمل نائب وزير الخارجية، سيرغي فيرشينين، ومسؤولين في وزارة الدفاع والأجهزة الأمنية برئاسة مبعوث الرئيس الروسي إلى سورية، ألكسندر لافرنتييف، إلى الأردن ولبنان، لتسويق الخطة، وأخذ موافقة البلدين عليها، والإعلان عن افتتاح مراكز لتسجيل أسماء اللاجئين الراغبين بالعودة، وتحديد معابر رسمية لعودتهم. كل هذا بالتنسيق مع وزارة الخارجية، حيث زار وزير الخارجية، سيرغي لافروف، يرافقه رئيس هيئة الأركان العامة، فاليري غيراسيموف، ألمانيا وفرنسا لمناقشة الخطة. وكان لافتا فرض الملف الإنساني ببند رئيس، عودة اللاجئين، على جدول أعمال اجتماع أستانة 10 الذي عقد يومي 30 و31 يوليو/ تموز في مدينة سوتشي الروسية، فقد صرح نائب مدير قسم الإعلام والصحافة في الخارجية الروسية، أرتيوم كوجين، "إن اجتماع سوتشي سيولي اهتماماً خاصاً للأوضاع الإنسانية في سورية وعودة اللاجئين السوريين". وقد أثار (التوجه) استغراب مراقبين ومحللين سياسيين، في ضوء تصدّر ملف الإصلاح الدستوري جدول أولويات روسيا، طوال الأشهر الأخيرة، وتحرّكها المحموم لتشكيل اللجنة الدستورية، على طريق إحلالها بديلاً عن مسار التسوية السياسية.
عكست تصريحات المسؤولين الروس، وقراءات المحللين والمعلقين، الغاية من المناورة الروسية الجديدة، بإعطائها أولوية قصوى لإعادة اللاجئين التي تمثلت في هدف مزدوج: تعويم النظام السوري إقليميا ودوليا. وبرز ذلك في ربط المبعوث الرئاسي الروسي بين مسار عودة اللاجئين ومسارات عدة سياسية وأمنية وعسكرية، ما يعني ضرورة تطبيع العلاقات مع النظام السوري، لضمان تنفيذ كامل وسريع لخطة إعادة اللاجئين. وهذا ما حقّقه المبعوث الرئاسي في محادثاته في الأردن ولبنان، وفق قراءة مراقبين روس، وما منعه من زيارة أنقرة، حيث أكبر عدد من اللاجئين (3.5 ملايين)، أن تركيا غير مستعدة بعد للتطبيع مع النظام. واستدراج دول إلى رفع العقوبات الدولية المفروضة على النظام، والمساهمة في عملية إعادة الإعمار، عبر ربطها بعودة اللاجئين إلى مواطنهم الأصلية، وتوفير شروط حياة مستقرة لهم. وهذا دفعها إلى الضغط على النظام، لإعلان موقف ايجابي من عودة اللاجئين، تجلى بدعوة رئيسه إلى عودة اللاجئين، وترحيبه بالخطة الروسية، دعوة تتناقض مع حديثه السابق عن المجتمع المتجانس الذي نشأ في سورية، بعد هجرة 5.6 ملايين من أبنائها، لتسهيل المناورة الروسية، وإنجاح عملية تعويم النظام، ورفع العقوبات الدولية، والمساهمة في إعادة الإعمار.
جاءت النقلة الروسية في سياق إدراك موسكو أن طريق التسوية الروسية للصراع في سورية وعليها غير سالكة، لاعتبارات ثلاثة، أولها عدم ثبات الموقف الأميركي وتردّده في تنفيذ تفاهمات قمة هلسنكي، خصوصا بعد العاصفة التي أثارها الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، إنْ في الداخل الأميركي أو في الدول الأوروبية الحليفة، بتصريحاته في المؤتمر الصحافي المشترك مع الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، يوم 16/7/2018، عن تقويم المخابرات الأميركية للتدخل الروسي في الانتخابات الأميركية، ما دفعه إلى تغيير هذه التصريحات، وتأجيل القمة الأميركية الروسية إلى العام المقبل، خوفا من انعكاسات أدائه فيها على فرص نجاح المرشحين الجمهوريين في انتخابات الكونغرس النصفية في نوفمبر/ تشرين الثاني، وخسارتهم الأغلبية في مجلسي النواب والشيوخ، وإلى التشدّد في الملف السوري، حيث رفض المشاركة في اجتماع أستانة 10، وأعلن تمسّكه بمسار جنيف، باعتبار المسارات الأخرى ليست أكثر من "عامل صرف أنظار عن تنفيذ القرار الدولي 2254"، وفق تصريح ناطق باسم الخارجية الأميركية، نقلته وكالة تاس الروسية، جدد التأكيد على تمسك واشنطن بمسار جنيف الذي ترعاه الأمم المتحدة طريقا للوصول إلى حل سياسي، وردّها المتحفظ على الدعوات الروسية بخصوص عودة اللاجئين "نحن ندعم عودة اللاجئين السوريين إلى ديارهم، على أن تكون آمنةً وطوعيةً وكريمة (…) لا أعتقد أن الوضع يسمح بذلك حاليًا، وفقًا لما تقوله المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين"، وفق تصريح المتحدثة الرسمية باسم الخارجية الأميركية، هيذر نويرت.
ثاني تلك الاعتبارات تمسّك دول الاتحاد الأوروبي بموقفها الذي يربط بين المساهمة في إعادة الإعمار وتحقق انتقال سياسي حقيقي وحل سياسي يرضي جميع الأطراف في سورية، وقد تبنت الموقف نفسه مجموعة الدول السبع الصناعية الكبرى (الولايات المتحدة وكندا واليابان وبريطانيا وفرنسا وألمانيا وإيطاليا) في قمتها في مقاطعة كيبك جنوب كندا يوم 8 يونيو/ حزيران الماضي، فمساهمة الاتحاد الأوروبي، والدول الغنية الأخرى، مثل كندا واليابان ودول الخليج، ضرورية وحيوية في ضوء تكلفة عملية إعادة الإعمار الكبيرة (قدرت ما بين 200 و 400 مليار دولار من عشر سنوات إلى 15)، ناهيك عن الاحتياجات الفنية والتقنية التي يمكن أن توفرها الدول الغربية المتقدمة، وعجز روسيا وحلفائها عن توفير المال اللازم للعملية.
ثالث الاعتبارات، الشروط الإسرائيلية التي لم تكتف بالعرض الروسي إبعاد القوات الإيرانية ومليشياتها الشيعية مسافة مائة كيلومتر عن حدود الجولان السوري المحتل، بل أصرت على سحب الصواريخ طويلة المدى، والدفاعات الجوية المرافقة، وتفكيك مصانع الصواريخ الدقيقة في سورية ولبنان، وإغلاق المعابر على الحدود السورية العراقية والسورية اللبنانية في وجه حركة الإيرانيين، لمنع نقل الأسلحة إلى حزب الله، ومنع إقامة جبهة مستقلة ضد إسرائيل مع المليشيات الموالية لها، ومع حزب الله في الأراضي السورية، باعتبارها خطواتٍ على طريق إخراج القوات الإيرانية من سورية بالكامل، وهذا ما لا تريد روسيا الانخراط فيه، الآن على الأقل، نظرا إلى حاجتها للدور الإيراني في بسط سيطرة النظام على الأراضي، واستخدام الورقة الإيرانية في المقايضة مع الولايات المتحدة بشأن القضايا العالقة بينهما.
رابعها، التعارض العميق في المصالح بينها وبين تركيا، وحاجتها، في الوقت نفسه، للإبقاء على العلاقة المستجدة معها، لضبط تحركاتها في سورية، حيث في وسعها إجهاض العملية السياسية التي تقودها، عبر تسليح فصائل المعارضة في الشمال، واستدراجها إلى التخلي عن تبني مشروع المعارضة ضد النظام، ما يضطرّها هي للإقرار بمصالحها في سورية، وغض النظر عن خططها ضد كرد سورية، وتوظيف تحرّكها ضدهم ودفعهم إلى التفاهم مع النظام، ولدق إسفين بينها وبين حلف شمال الأطلسي (الناتو).
بقي أن ثمّة عقبات واقعية، يمكن أن تعيق المسعى الروسي إلى إعادة اللاجئين، واستثمار عودتهم سياسيا، أولها غياب مصداقية روسيا، في ضوء الضمانات التي قدمتها لمناطق خفض التصعيد، وعمليات المصالحة مع الفصائل المسلحة التي لم تأخذ طريقها إلى التنفيذ؛ بل بالعكس اخترقت وتلاشت بمشاركة روسية فاعلة. وثانيها عدم توفر المعايير الدولية لعودة اللاجئين، من العودة الطوعية من دون إكراه، إلى توفير الحد الأدنى من معايير الحياة الكريمة في مجالات الصحة والتعليم والسكن اللائق، مرورا بشروطٍ تتعلق بتأمين الاحتياجات الأمنية والمعيشية للسكان العائدين، كانت المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين قد صاغتها في عشرين شرطاً، لا بد من تحققها قبل أن توافق على التعاون مع الدول المعنية بتنظيم عودة اللاجئين. ثالثها وأهمها موقف اللاجئين أنفسهم من العودة إلى سورية تحت حكم النظام، من دون ضمانات حقيقية تقيهم بطشه وتحميهم من مخاطر التصفية والملاحقة على أيدي مليشياته.
تصريح السفير الروسي في إسرائيل، أناتولي فيكتوروف، في 30 يوليو/ تموز، مثير للاهتمام، في الوقت الذي تقود روسيا في سوتشي محادثات السوريين من أجل التسوية، وتطرح نفسها في سورية صانعة سلام. قال السفير على القناة الإسرائيلية العاشرة، مطمئنا الإسرائيليين إن أمن إسرائيل أولوية روسيا في سورية. وهذا ما لم يشكّ فيه أحد، منذ بداية الثورة السورية والتدخل الروسي فيها، سواء من خلال تعطيل مجلس الأمن وقراراته التي شاركت موسكو نفسها فيها، أو من خلال تدخلها العسكري المباشر منذ العام 2015، بعد أن أيقنت أن النظام السوري على طريق الانهيار، ومعه حشود المليشيات الإيرانية.
منذ ذلك الوقت، لم تكفّ علاقات الطرفين، الروسي والإسرائيلي، عن التحسّن على حساب جميع الأطراف الأخرى. وقد تجاوز التفاهم اليوم بين رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، والرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، أي تفاهم مع أي طرفٍ من هذه الأطراف، بما فيها النظام السوري الذي من المفترض أن روسيا جاءت لدعمه بالدرجة الأولى. وتحول التنسيق بين الروس والإسرائيليين، لتجنب الصدام بين سلاحي جو البلدين في سماء سورية، إلى شراكة إقليمية وتخطيط مشترك لمستقبل سورية. في هذه المعادلة مكاسب بوتين أساسية. فهو لا يضمن، بتحالفه مع الدولة الأكثر دلالا في العالم، والمعفاة من احترام أي قانون أو التزام دوليين، التغطية السياسية الكاملة لتفرّده بتقرير مصير البلد المحتل فحسب، لكنه يكسب إلى جانبه حليفا مهما على الأرض، وفي الميدان العسكري تجاه جميع الأطراف الأخرى، بما فيها طهران التي اعتقدت وقتا أن لديها ما يكفي من النفوذ والقوة متعددة الأشكال، الناعمة والخشنة على الأرض، لمنافسة موسكو على الأسبقية في تقرير مصير سورية. هكذا يستطيع السفير الروسي، ورئيسه، من دون الشعور بأي حرج، أن يقول إن من غير الواقعي إخراج إيران من سورية كليا، فالروس بحاجة لمليشياتها قواتٍ بريةً على الأرض، لكنه لن يمنع إسرائيل من الهجوم على مواقعها وتدميرها.
أما مكاسب نتنياهو فهي لا تحدّ، فبعد أن ضمنت لنفسها إطلاق يدها تماما في فلسطين من قبل الإدارة الأميركية الجديدة بما سميت صفقة القرن، تتقدّم مع روسيا إلى موقع القوة الإقليمية التي لا يمكن تجنب رأيها ومصالحها في أي قرارٍ يخص المنطقة بأكملها. تحلم إسرائيل، من خلال الوضع الاستراتيجي الاستثنائي الذي حصلت عليه بعد تدمير سورية، ومن قبلها العراق، وانسحاب مصر، ومرض الخليج، وقبل ذلك بعد الانحسار الإجباري في نفوذ إيران، أنها تستطيع، بالتفاهم مع روسيا والتعاون معها، أن تنهي حقبة الحرب العربية الإسرائيلية الطويلة لصالحها، وتحقق جميع المشاريع الاستيطانية في فلسطين بأكملها والجولان، وتخترق أي حصاراتٍ أخرى، سياسية أو اقتصادية. التفاهم الاستراتيجي الروسي الإسرائيلي في سورية والمنطقة صفقة قرن ثانية، تضاف إلى صفقة القرن الأميركية التي حصدت تل أبيب أول ثمارها بضم القدس برعاية أميركية.
عندما يكون أمن إسرائيل أولوية روسية في سورية فهذا يعني أنه أولوية للأسد الذي يعمل تحت أوامر الروس وفي حمايتهم، ولا يستطيع أن يستمر من دونهم. لكن، بعكس ما قد يظنه بعض العرب والسوريين، أو ما يخطر في بالهم، لا ينبغي أن يعتقدوا أن الأسد مستاءٌ من هذا الأمر، أو أنه يشعر إزاءه بأي حرجٍ أو إهانة. إنه يرى فيه استكمالا للوعد الذي قطعه على نفسه بحرق سورية والمنطقة، إذا قرّر السوريون "التآمر" ضده. العمل العلني اليوم مع إسرائيل من خلال الغطاء الروسي مناسبة أخرى لمعاقبة السوريين الذين عارضوه وتجرأوا على مواجهته، ودليل إضافي على قدرته تجاوز جميع الصعاب، واستعداده الدائم لتحدي أعدائه في الداخل والخارج، خصوصا العرب، والتشفّي منهم وإذلالهم. وبالإضافة إلى ذلك، سوف يوفر عليه هذا الوضع الجديد الحاجة إلى خطابات المقاومة والممانعة الكاذبة وبهلوانيات القومية والاشتراكية والتطوير والتحديث التي كان تثقل على كاهله. وسوف يعزّز موقفه أمام المنظمات الدولية، والدول المتردّدة في إعادة تأهيله، ويحرّره من الخوف من احتمال الاضطرار إلى الرد على تقارير المنظمات الدولية، والتعرّض، في يوم ما، إلى المساءلة والمحاسبة عما ارتكبه من الجرائم التي وصفتها منظمات حقوق الإنسان الدولية جرائم ضد الإنسانية.
عندما تكون معك روسيا وإسرائيل في الشرق فأنت تملك العالم، وليس عليك أن تخشى أحدا. هذا ما أثبته مثال الأسد خلال السنوات الثماني الماضية، والذي أبقاه حاكما، بصرف النظر عن مضمون الحكم وشكله وظروفه. وهذا كل ما يطلبه.
هل يجيب هذا كله أو يقدم بعض عناصر الإجابة عن السؤال الكبير والدائم الذي لا يكفّ السوريون، على مختلف أطيافهم واعتقاداتهم، عن طرحه: ما الذي يفسّر هذا التواطؤ الشامل على ما يجري في سورية من استهتارٍ لا يقارن بالمواثيق والشرائع والقرارات الدولية، وتحدٍّ سافر لأبسط معايير الإنسانية، والتلاعب بحياة البشر والمتاجرة بأرواحهم وأعضائهم، وزجّهم في معارك وحروب إبادة جماعية، والصمت المطبق على المجازر التي كانت آخرها قبل أيام المجزرة التي راح ضحيتها 246 شهيدا بسبب رفض وجهائها وشيوخها إرسال شبابهم للقتال ضد مواطنيهم في مناطق أخرى، وما ينشرُه النظام، من دون أي تفسير أو حرج، من قوائم الموت التي تعني الآلاف من المخطوفين الذين قضوا تحت التعذيب، بتعليلٍ واحد، هو الجلطة القلبية أو العوارض الصحية، من دون تهم ولا محاكمات ولا أي أثر للضحايا، ومن دون أن يثير ذلك أي رد فعل سياسي، لا من الدول، ولا الأحزاب الديمقراطية، ولا الرأي العام، ولا حتى المنظمة الدولية؟
كان السوريون يعتقدون أن أمن إسرائيل أولوية في سياسة واشنطن المشرقية، واكتشفوا، بعد ثورتهم المغدورة، أنه أولوية أكثر في سياسة موسكو البوتينية. والآن بعد التصريح الروسي، وبجهود محور الممانعة والمقاومة في طهران وضاحية بيروت والقرداحة. صارت، بحكم الواقع، أولوية في السياسة السورية ذاتها، وربما تتحول قريبا إلى أولويةٍ في السياسات الدولية تفوق أولويات حفظ السلام العالمي، وتحقيق التنمية ومكافحة الفقر والحدّ من الجريمة والاتجار بالمخدرات والمخاطر البيئية وانتشار الأوبئة، ومختلف التهديدات القائمة والمحتملة. يشعر السوريون في محنتهم العظيمة أن بشار الأسد لم يكن وحده الكارثة، لكنه كان الأداة المنفذة لجريمةٍ خطط لها وشارك فيها، بوعي أو من دون وعي، عالمٌ كاملٌ فقد روحه، وقبل الاستسلام لمبدأ القوة المتفوقة، وتحالف الجريمة مع انعدام المسؤولية.
لم يعد الاستمرار في المقاومة، ورفض تمرير الجريمة والتسليم بها، شرطا لاستعادة سورية إلى الحياة فقط، وإنما أكثر من ذلك لإعادة أحياء الضمير العالمي المطعون في الصميم.
شهد لبنان مغادرة عدد قليل من النازحين السوريين الى أماكن في سورية، في إطار تعهّد فلاديمير بوتين لنظيره الأميركي دونالد ترامب في قمة هلسنكي. وقد هلّل بعض اللبنانيين لهذه المبادرة الروسية التي هي من دون أي خطة وأي ضمانات. فروسيا التي ساهمت في قتل الشعب السوري وتهجيره لحماية بشار الأسد، تدّعي أنها الآن تخطط لعودة من هجرتهم من المدنيين. ووزير خارجية لبنان الذي يسيء معاملة أعضاء اللجنة العليا للاجئين في لبنان، مستعجل لإعادتهم كيفما كان لأنهم يمثلون قضية شعبوية يستفيد منها، فيتباهى بأنه وراء إعادتهم مهما كان شكل عودتهم .
في صفوف هؤلاء النازحين، هناك عدد من المعارضين للنظام، وهم قد يعودون ويُقتلون ويُعذبون. والبعض الآخر يتم إجباره على التجنيد في الجيش النظامي للاستمرار في قتل إخوانه.
الخطة الروسية التي قررها بوتين بضوء أخضر من رئيس أميركي لا يبالي بمصير اللاجئين ولا بمستقبل سورية، في مثابة كذبة سياسية لا ترتكز على خطوات منظمة لا بالنسبة الى عدد النازحين العائدين ولا بالنسبة الى سلامتهم ولا بالنسبة الى ضمان الأماكن التي يعودون إليها. فطالما تتصرف روسيا من دون اللجنة العليا للاجئين التي تعاني من تصرفات السيد باسيل، الصهر الحاكم، تبقى عودتهم مجازفة. فهم يعودون بإشراف روسي كما القاتل الذي قتل القتيل ومشى في جنازته، بدلاً من أن يعودوا تحت إشراف اللجنة العليا للاجئين وضماناتها. وكيف تكون الثقة بروسيا المتواطئة مع نظام مجرم لإعادة نساء وأطفال ورجال شرّدتهم ودمرت بيوتهم بالطائرات والبراميل؟ والمبادرة الروسية في إعادة اللاجئين غير معروف فحواها. كيف ومن وأي عدد ستعيد... والى أي مناطق؟! أما اللبنانيون الموالون للنظام السوري، فأصبحوا مستعجلين للهرولة لزيارة الأسد وجماعته لأنهم في شوق ليده الملطخة بدماء أبناء بلده وبلدهم لبنان. فها هو الآن يحاول مجدداً عبر وكلائه في لبنان، النيل من زعيم دروز لبنان وليد جنبلاط، ومحاولة تهميشه لأنه زعيم حقيقي للدروز في لبنان، وقد أظهرت الانتخابات، على رغم قانون فصّله «حزب الله» مع حليفه الماروني، أن جنبلاط هو فعلاً قائدهم شاء أو أبى الأسد وجماعته. وما جرى من مجزرة في السويداء تحت مجهر الروس والإسرائيليين، ليس إلا جريمة نظامية سورية لدفع اهلها الى التجنيد، لأن الأسد محتاج الى التجنيد حتى ولو أنه أصبح دمية في يد روسيا وإيران. والآن وبعد قمة هلسنكي حيث حصلت روسيا على توقيع أميركي بأنها المسوؤلة عن مستقبل سورية، طالما تضمن أمن إسرائيل في غياب الولايات المتحدة من المنطقة، من يثق في إعادة إعمار سورية تحت المظلة الروسية - الإيرانية؟ ورفاق بشار الأسد اللبنانيون وشركاؤه في الفساد سيهرولون من أجل ذلك، في حين أن بعض الدول الأخرى ستضع شروطاً بإصلاحات سياسية، وإلا كيف يعاد إعمار بلد في ظل سلطة من دمره؟
التحرك الروسي لإعادة عدد من النازحين السوريين قد يثير ارتياح عدد كبير من اللبنانيين الذين يعانون من عبء اللاجئين، لكنه غير مطمئن، لأنه لم ينظّم وفق خطة مقنعة وآمنة.
مشكلة اللاجئين السوريين في لبنان تستخدم أينما كان وكيفما كان. حتى أن نقص الكهرباء هو وفق المسوؤلين عن الملف، بسبب اللاجئين وليس بسبب فشلهم خلال سبع أو ثماني سنوات شغلوا وزارة الطاقة وأهدروا الوقت والأموال ولم ينجحوا في تأمين الحاجات الأساسية من الكهرباء للمواطن اللبناني. لا أحد يشك في أن الوجود السوري في لبنان مشكلة اجتماعية لها تداعيات كبرى وخطيرة، لكن المبادرة الروسية لإعادتهم تبدو كأنها ارتجال من بوتين الذي يريد القول لترامب أنه يقدم على شيء ما، لا يبشر بأي حل فعلي وحقيقي للمحنة السورية.
عندما دخل الجيش السوري إلى مناطق الجنوب السوري خلال الأسابيع الماضية، كان ينجز عملية الدخول بعدما اتفقت القوى الدولية والإقليمية المؤثرة ضمن اتفاق خفض التوتر الشهير في الجنوب السوري، على انتشار الجيش النظامي وإنهاء دور قوى المعارضة السورية المسلحة، وكانت على رأس هذه القوى الدولية واشنطن وموسكو وتل أبيب.
وقد أدّى هذا الاتفاق الذي عكس توجها صريحا لواشنطن بإنهاء دور قوى المعارضة السورية، إلى تمكين الجيش السوري بإشراف موسكو من الدخول إلى درعا وغيرها من المناطق في سهل حوران والأرياف، وحتى القنيطرة على حدود الجولان، وتمّ ذلك إما بخوض معارك عنيفة كما حصل في درعا وأريافها، وإما عبر اتفاقات أدّت إلى تقديم الروس ضمانات لمن بقي من المقاتلين لم تحترم، وإما بخروج المقاتلين إلى مناطق الشمال السوري ولا سيما إلى مدينة إدلب.
دخل الجيش السوري والذي يتوزع على فرق عدة تسيطر روسيا على جزء أساسي منها، فيما تتحكم طهران بجزء آخر منه إلى جانب الفرقة الرابعة التي يقودها ماهر الأسد، شقيق الرئيس السوري بشار الأسد، وواكبت هذه الفرق مجموعات ميليشيوية تعد بالعشرات وتعتمد على دعم مالي من إيران ومن النظام، والأهم أنّها تقوم في مجملها بمهمات السلب والنهب والعمليات القذرة التي يأبى الجيش النظامي القيام بها.
بعد دخول الجيش السوري إلى درعا وإلى غيرها من البلدات والقرى التي كانت تحت سيطرة المعارضة منذ بدء الثورة وحتى الأمس القريب، قامت تلك الميليشيات بتنفيذ عمليات نهب واسعة وتنفيذ جرائم ضد المدنيين، بعدما كانت قوى المعارضة قد سلمت سلاحها إلى الجيش السوري بإشراف روسي، ويروي بعض أبناء درعا تفاصيل عن عمليات مريعة تعرضوا لها من قبل الميليشيات.
إذ أكد هؤلاء أنّ النظام كان قد تقصّد إطلاق يد الميليشيات التابعة له في السويداء لارتكاب عمليات خطف وقتل ونهب العشرات من الحواضر والقرى في درعا وريفها، وبحسب هذه المصادر فإنّ ما فعلته هذه الميليشيات أنّها نقلت أثاث البيوت وكل ما وقعت عليه قواتها من المقتنيات، إلى مدينة السويداء، وعمدت إلى عرضه وبيعه بشكل علني في أسواق المدينة بطريقة علنية ومستفزة لأبناء درعا وأريافها ومنهم من كان قد نزح منذ سنوات إلى هذه المدينة.
إطلاق يد ميليشيات درزية لتنفيذ مثل هذه العمليات القذرة في درعا وريفها وفي سهل حوران، لم يكن عفويا، بل تقصد النظام وداعموه ذلك كل في سياق حساباته. فالنظام السوري الذي تفنن في لعبة إثارة المخاوف لدى الأقليات والعمل على خلق وتعميق الشروخ الطائفية والمذهبية، كان يعاني من السيطرة والتحكم على الدروز في منطقة السويداء، وكان من داخل الطائفة الدرزية من نجح في منع النظام من إلزام الشباب الدروز بالانخراط في الجيش السوري، وظلّ الشباب الدرزيّ، على وجه العموم، نائيا بنفسه عن الانخراط في الحروب التي تم خوضها ضد المعارضة السورية على امتداد الأرض السورية.
لكن ذلك لا يمنع من القول إنّ بعض الفئات الدرزية التي راهنت على النظام، عملت على استقطاب المقاتلين من خلال إيجاد أطر ميليشيوية وعسكرية لعب جزء منها دورا في استفزاز محيطه من خلال استغلال سقوط مناطق الجنوب في يد النظام، عبر تنفيذ عمليات انتقامية أراد النظام أن تنفذها مجموعات درزية بغاية إثارة الفتنة، واستثمارها لإعادة تقديم نفسه كحام للأكثرية السنية في درعا والجنوب السوري وحام أيضا للدروز في السويداء.
ويجب الإشارة هنا إلى أنّ الطبيعة العشائرية في درعا ومحيطها تجعلها بخلاف مدن سورية أخرى أكثر التصاقا بقيم عشائرية وقبلية وبالثأر. ومن جانب آخر لم تكن روسيا عاجزة عن ضبط الميليشيات القادمة من السويداء نحو درعا، بل لم تمنعها وغضت الطرف عن ارتكاباتها، ولعل دعوة الزعيم الدرزي وليد جنبلاط روسيا إلى حماية أبناء السويداء، انطوت خاصة مع تكراره لهذه الدعوة، على أنّ روسيا تتحمل مسؤولية على هذا الصعيد، لأن جنبلاط يدرك أنّ الدروز في السويداء هم عرضة لتنازع إيراني-إسرائيلي. فإيران نجحت في استقطاب بعض الميليشيات الدرزية، وإسرائيل تريد ضمن الاتفاق مع روسيا إبعاد النفوذ الإيراني عن حدودها، وهي تستثمر إلى حدّ بعيد علاقاتها مع بعض دروز إسرائيل في تقديم نفسها كطرف قادر على حماية الدروز في سوريا أيضا.
الغاية الروسية والإسرائيلية ضمنا في الجنوب السوري هي إبعاد النفوذ الإيراني، وإنهاء كل ما يمكن أن يربط إيران بأهل السويداء، وجعل العلاقة مع إيران مكلفة لهم.
من هنا تأتي الجريمة التي ارتكبها تنظيم داعش في قرى جبل العرب وفي محيط السويداء، لتلبي مصالح إسرائيلية وروسية في الدرجة الأولى، وللنظام الذي يريد أن يفرض وجوده اجتماعيا كطرف لا يمكن أن يضمن الناس بالحدّ الأدنى من أمنهم وأمانهم بمعزل عنه.
تنظيم داعش نفذ جريمته بقتل نحو ثلاثمئة مدني وعسكري من بينهم النساء والأطفال الدروز في جريمة بشعة، يؤكد بعض أبناء درعا أنّ بعض الذين شاركوا في تنفيذ هذه الجريمة، هم من الضباط والجنود في الجيش السوري ومن الذين يقاتلون في صفوفه في مناطق سورية خارج الجنوب السوري، ويضيف هؤلاء أنّ بعض أهالي هؤلاء تعرضوا لاعتداءات من بعض أتباع النظام في السويداء، وهم نفذوا جريمتهم هذه بعلم مسبق من النظام السوري وحتى من القوات الروسية، وتنظيم داعش لم يكن إلا الستارة التي لا بد منها لإلصاق الجريمة بتنظيم يمكن أن تلصق به كل الجرائم.
جريمة السويداء البشعة هي أعقد من أن تكون نتاج تنظيم داعش، يسميها البعض عملية ثأر وانتقام ضد ما ارتكب في درعا وريفها، دفع ثمنها مدنيون أبرياء بالدرجة الأولى، وهي في نفس الوقت عملية مدروسة ومقررة منذ أن دفع النظام السوري وحلفاؤه بميليشيات من السويداء لارتكاب جرائم ضد “الدرعاويين”، مدركا أنّه سيدير عملية انتقامية بطريقة غير مباشرة ضد السويداء، فيما إسرائيل من جانبها وبتنسيق ضمني مع روسيا، تستهدف من خلال ما جرى إنهاء العلاقة بين بعض الدروز وإيران.
تعميق الشرخ بين السويداء ذات الغالبية الدرزية وبين محيطها السني، أمر كفيل بجعل البيئة الاجتماعية في الجنوب السوري والتي انطلقت منها الثورة في حالة هلع من شريكها في الوطن، ومدفوعة بحكم غريزة البقاء والحماية، نحو مصدر حماية لا يبدو أنّه متوفر سوى لدى إسرائيل وروسيا، وما بينهما النظام الذي حظي انتشاره في الجنوب برعاية روسية - إسرائيلية شرطها، الذي لم يكتمل بعد، التطهر من إيران والتي بدورها لن توفر ما لديها من قوة ونفوذ في سوريا في سبيل حماية وجودها ودورها ومصالحها.
جريمة السويداء وما سبقها من جرائم في الجنوب السوري هي أدوات المواجهة المتاحة تحت سقف التفاهم الأميركي الروسي حول سوريا.