"سوتشي".. اللقاء العاشر
لم يبق في سورية من مناطق خفض التصعيد الذي أُعلن في مؤتمر سوتشي التاسع سوى محافظة إدلب، فقد سقط كل ما عداها في يد النظام، عبر سيناريو عسكري وتهجيري، يبدأ بقصف الطيران الروسي المستشفيات ومستودعات تخزين الأغذية والأدوية، مترافقاً مع حملة إعلامية مركّزة، عبر أجهزة النظام وبمساعدة الإعلام الروسي، تأتي بعدها مفاوضات المصالحة، مؤذنةً لمواسم الهجرة إلى الشمال بالبدء، ومخليةً الأرض مع مَنْ بقي من السكان للنظام الأمني والإعلامي، ليطلق حملات الدعاية تحت مسمّى العودة إلى حضن الوطن.
تبدو إدلب، في سوتشي العاشر، بنداً مهماً، فالنقاش الأساسي يحصل بين تركيا وروسيا وإيران، فيما تقدّم الوفود السورية من الطرفين حضوراً شرفياً بالتقاط الصور تحت الإعلان الكبير المكتوب بثلاث لغات، تاركةً لمن يقدر على القراءة ما بين السطور تفسير البيان النهائي الذي صدر بلغة عامة، مؤكداً على ما أكده في الرحلة الطويلة لمؤتمرات السلام السورية التي تُعَدُّ بالعشرات، قاطعةً مسافات النار والمعارك والموت، من دون التقدّم في السياسة خطوة واحدة، فيما تكبر الأرض وتصغر تحت أقدام المقاتلين من الطرفين، أو جيوش الدول الضامنة.
لم يتحدّث البيان عن أي هجوم على إدلب، لكنه قال إن أطراف الضمان الثلاثة ناقشت الوضع على الأرض، وهضمت كل التغيرات التي حدثت في الفترات الأخيرة، واتفقت على متابعة التنسيق على ضوء اتفاقاتها. وعقب الاجتماع، قال المندوب الروسي إنه لا توجد نياتٌ للهجوم على إدلب. نحن بحاجة هنا أن نكون على دراية بعِلْم "لغة الجسد"، لمعرفة صدقية تطبيق هذه العبارة، وسكان إدلب حالياً الذين يفوق عددهم مليونين ونصف نسمة في حيرةٍ من أمرهم، فهم لا يستطيعون الهجرة إلى أي مكان آخر، وفي الوقت نفسه، لا يريدون العودة إلى حضن بارد وبغيض، كالذي سيعرضه عليهم النظام، لكنهم يتابعون عمليات النظام المتلاحقة أخيرا، والتي مسح فيها البقع الخضراء (الممثلة مناطق سيطرة المعارضة) من على خريطة الصراع في سورية، وحولها إلى نقاط حمراء، عقب مؤتمر سوتشي التاسع.
لا يبدو أن مسألة إدلب هي الوحيدة التي نوقشت في الاجتماع الثلاثي، فهناك القلق الإسرائيلي الذي ينعكس على شكل هجمات متزايدة على الأهداف الإيرانية في سورية، مع اتساع الرقعة التي يسيطر عليها النظام، فانتصارات النظام فيها ترسيخ للوجود الإيراني، وهذا يبعث قلقاً إسرائيلياً تعبر عنه على شكل هجمات جوية، لكن مبعوث روسية إلى سورية، ألكسندر لافرنتيف، أقرّ بأن اتفاقاً قد عقد بالفعل مع إيران، لتبقى بعيدة عن الخط الساخن للجولان مسافة 85 كيلومتراً، وقد تبدو هذه المسافة مرضيةً فعلاً لإيران، لأنها ستبقيها على حدود مرقد السيدة زينب في جنوب دمشق.
لم تكن الاستجابة الإيرانية سهلةً أو مجانية، فقد وافقت على الابتعاد عن الجنوب، بعد أن سمعت مسؤولاً إسرائيلياً يقول بوضوح إن الوضع في الجنوب سيعود كما كان عليه قبل مارس/ آذار 2011، بما يوافق الاستراتيجية الإيرانية في "إبقاء الأسد"، وتحقيقها يعني أنها لم تضيع كل استثماراتها المالية والبشرية والسياسية التي أنفقتها في سورية، و85 كيلومترا بعيداً عن حدود "إسرائيل" معناه أن تستمتع بجنة الألف كيلومتر الباقية التي تفصلها عن حدود سورية مع العراق.
قد لا يكون مهماً أن نتحدّث الآن عن الهجوم على إدلب، أو نتائج "سوتشي"، وقد تشكلت في الإقليم بيئة مستعدة لاحتضان النظام من جديد، فلم تفصل بين مظاهرات الأردن المطلبية التي دفعت الحكومة الأردنية إلى إعادة التفكير في أهمية معبر نصيب، واستيلاء النظام السوري على الجنوب سوى أيام قليلة، وها هو الأثر الجانبي ل "سوتشي" يعطي مباركة أخرى للأسد من إسرائيل. في ظل هذا المجال الحيوي الكبير، تصبح إدلب مجرد وقتٍ قد لا يفصل بيننا وبينه إلا سوتشي آخر.