مقالات مقالات رأي بحوث ودراسات كتاب الثورة
١٠ أغسطس ٢٠١٨
الإصرار الأوروبي على حماية النظام الإيراني... إلى متى؟

عبّرت الدول الأوروبية المشاركة في التوقيع على الاتفاق النووي مع إيران عن أسفها لمعاودة الولايات المتحدة فرض المقاطعة على إيران. وكانت هذه الدول تلاحق التقارير حول التصريحات التي صدرت عن الولايات المتحدة وإيران، وتجد نفسها في وضع إشكالي. كانت تحاول اللعب على الوقت رغم أن دقات الساعة لم تتوقف. ويوم الثلاثاء الماضي بدأ تنفيذ الحزمة الأولى من العقوبات، وستليها الثانية في شهر نوفمبر (تشرين الثاني) المقبل، وهو الموعد الذي قررته الدول الأوروبية الثلاث لتقديم حزمة من المساعدات لإيران. الإجراء الأميركي يشكل تحدياً للدول الأوروبية، وبما أنها تحاول إنقاذ ما تبقى من الاتفاق النووي، فإنها مجبرة على إيجاد حلول مبتكرة لتزويد إيران بتعويضات مالية. هذه الدول حتى مع بدء تنفيذ العقوبات تكرر رغبتها في العثور على صفقة تمكنها من التجارة مع إيران، والاستثمار فيها، وشراء النفط منها، وتنفيذ التعاون المصرفي معها على الرغم من العقوبات الأميركية. القيادة الإيرانية متوترة جداً في هذه الفترة... التهديد بالمقاطعة وتطبيقها بالكامل سيمنعان كل الشركات من العمل مع إيران.

إيران تريد أوروبا، لأن الأوروبيين يدفعون بالعملة الصعبة عندما يشترون النفط الخام والغاز، ولدى الشركات الأوروبية التكنولوجيا التي تحتاجها إيران لا سيما في صناعاتها الدفاعية. بنظر إيران؛ أوروبا في الحقيقة هي الحل. ومع ذلك، فإن الأفعال تتحدث بصوت أعلى من الكلمات، والضمانات التي قدمها الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، والمستشارة الألمانية أنجيلا ميركل، ورئيسة الوزراء البريطانية تيريزا ماي، ردت عليها إيران بكتف باردة، مدعية أن الحزمة المعروضة لن تمكنها من إنقاذ اقتصادها، وتحقيق إنجازات جديدة، مشيرة إلى قطاع تصدير النفط، والقنوات المالية مع المجتمع الدولي، التي من المتوقع أن تتعرض لضربة قاتلة.

تواجه المحاولات التي يبذلها قادة الدول الأوروبية الثلاث لإدراج الشركات الأوروبية والمشاركة في العملية وتسهيل الأمور بالنسبة إلى طهران، صعوبات جمة، فقد أعلنت شركة النفط الفرنسية العملاقة «توتال» أنه في ضوء فرض عقوبات أميركية فلن تتمكن من الوفاء بالتزاماتها بوصفها جزءاً من العقد الذي تبلغ قيمته عدة مليارات من الدولارات، والمتعلق بـ«مشروع غاز جنوب حقل بارس». وأعلنت اثنتان من كبرى شركات اللوجيستيات في العالم وهما: «CMA - CGM» و«DANISH DSV» أنهما على وشك التوقف عن التعامل التجاري مع إيران، كما أعلنت شركة الخطوط الهولندية أنها ستوقف كل رحلاتها المتجهة إلى إيران في شهر سبتمبر (أيلول) المقبل، وقد تتوقف شركة الخطوط الجوية الفرنسية، التي اندمجت مع شركة الخطوط الهولندية، عن السفر إلى طهران. ومن المتوقع أن تتوقف شركات الصلب الأوروبية عن توريد الفولاذ إلى إيران؛ حيث إن شركة «SEVERSTAL» المصنعة للصلب الروسي أنهت كل تجارتها مع إيران. وقالت شركة «رينو» لصناعة السيارات إنها، على عكس إعلاناتها السابقة، ستتوقف عن التعامل مع إيران حيث إن شريكتها «نيسان» لاعب مهم في السوق الأميركية.

وقد زاد رئيس بنك الاستثمار الأوروبي «EIB» من تأثير الدومينو بالإعلان أنه لا يوجد أي مصرف أوروبي قادر حالياً على التعامل مع إيران، كما أن الشركات الأوروبية من الدرجة الثانية تتخلى عن ممارسة الأعمال التجارية في إيران بسبب العقوبات الأميركية خصوصاً عندما تنظر إلى انسحاب الشركات الكبرى.

مسألة أن الشركات الأوروبية ترفض التعاون مع القيادة الأوروبية قد تكون مفهومة، لكن الإحراج الذي يشعر به القادة الأوروبيون الثلاثة عميق؛ إذ بينما يستثمرون الوقت والجهد في استرضاء الرئيس الإيراني حسن روحاني، فإن مؤسساته تشارك في نشاط إرهابي في أوروبا. إن محاولة التفجير التي وقعت في يوليو (تموز) الماضي في باريس والتي تم إحباطها قبل انعقاد مؤتمر منظمة «مجاهدين خلق»، كشفت النقاب عن النشاط الإرهابي الذي ينفذه الإيرانيون في أوروبا تحت غطاء المحادثات النووية المستمرة «لإنقاذ الاتفاق». ولا يمكن للمتابع إلا أن يتخيل الإحراج في مكتب الرئاسة الإيرانية عندما بدأت التقارير تتدفق، بينما كان روحاني في أوروبا، وهي تشير إلى أن الدبلوماسي الإيراني أسد الله أسدي الذي كان معتقلاً في النمسا للاشتباه بتورطه في محاولة التفجير الإرهابي، هو مسؤول في وزارة الاستخبارات التابعة لوزير المخابرات، ويتلقى التعليمات مباشرة من روحاني.

إن الإرهاب الإيراني في أوروبا ليس بجديد، لكن القادة الأوروبيين قرروا عدم التعامل معه في الوقت المفروض. على مدى السنوات الثلاث الماضية، اغتالت وزارة الاستخبارات عدداً من معارضي النظام في هولندا، وألمانيا، وتركيا، ما أودى بحياة 4 إيرانيين على الأقل. هذه الاغتيالات هي استمرار مباشر لسياسة الاغتيال التي اتبعتها وزارة الداخلية خلال التسعينات في أوروبا (من عام 1979 حتى عام 1996 تم تنفيذ أكثر من 200 تفجير إرهابي على المستوى الدولي). وفي واحدة من الحوادث المعروفة التي وقعت في سبتمبر 1992، اغتالت وزارة الاستخبارات الإيرانية 4 من زعماء الحزب الديمقراطي الكردستاني في مطعم «ميكونوس» في برلين. طبعاً نفت إيران تورطها في القضية، لكن المحكمة الألمانية قضت بأن القيادة في طهران أمرت بالاغتيال، وأن الإيرانيين قاموا بالتنفيذ. وقد سمع يومها الإيرانيون بصوت عال وواضح الرد الأوروبي الذي لا يقبل المساومة، والذي أظهر سياسة عدم التسامح الأوروبي في ما يتعلق بأي نشاط إرهابي. في الواقع تم اتهام القيادة الإيرانية، وتشمل القائد، بأنها مسؤولة عن الجريمة، كما صدرت مذكرة توقيف بحق وزير الاستخبارات، واتخذ الأوروبيون خطوة موحدة باستدعاء 15 سفيراً أوروبياً من طهران للتشاور. لم ترد إيران بالمثل يوم ذاك؛ بل لجأت إلى رد فعل معتدل نسبياً في محاولة للحفاظ على علاقات وثيقة مع أوروبا. بعدها خفضت وزارة الاستخبارات الإيرانية من أنشطتها الأوروبية، حتى وقت قريب.

رغم المحاولة الأخيرة، فإن الممثلين الأوروبيين لم يمتنعوا عن العودة إلى طاولة المفاوضات التابعة للجنة التنسيق المشتركة. ويبدو أن قادة الدول الأوروبية الثلاث سيواجهون كثيراً من العقبات في محاولاتهم لإرضاء الإيرانيين. والسؤال هو: إلى أي مدى هم على استعداد للذهاب؟ سيعمل كبار مستشاريهم على حزمة مالية، لكن كم وكيف؛ خصوصاً أن العقوبات الجديدة تمنع إيران من شراء أو حيازة أوراق العملة الأميركية؟

سيحاول مستشارون أوروبيون آخرون إقناع بلدان الاتحاد الأوروبي المتذبذبة بالبقاء تحت مظلة الاتفاق؛ ويعني تحدي أميركا في سبيل إيران، لكن بدأت دول من أوروبا الوسطى والشرقية في كسر جدار الاتحاد الأوروبي، وكانت بولندا وليتوانيا أول بلدين يفعلان ذلك. لا تملك هذه الدول مصالح مالية كبيرة في إيران... إنهم يراجعون السياسة الناجحة للولايات المتحدة في ما يتعلق ببلدان مثل كوريا الشمالية التي توقفت عن التجارب الصاروخية، وفككت منصات صواريخ، ويقارنونها بالجهود الدبلوماسية التي تبذلها أوروبا في ما يتعلق بإيران، والتي فشلت في أن تؤتي ثمارها.

إن ترسيخ إيران في سوريا، ونشر عقيدتها العميقة في العراق، واستمرارها في تسليح الميليشيات في لبنان والعراق، وتقديمها الدعم للتنظيمات الإرهابية الشيعية ولحركات «حماس» و«الجهاد الإسلامي» و«طالبان» وإيواء مسلحي «القاعدة»، والتهديد بوقف عمليات النقل البحري الدولية، والتي استمرت بعد أن تم توقيع اتفاق «أوروباما» النووي مع إيران... إنما هي كلها نتيجة سياسة ضعيفة تجاه إيران ولأن أوروبا تتجاهل النقد.

لقد حان الوقت كي يتوقف قادة أوروبا عن التمييز بين تورط إيران في النشاط الإرهابي وتطلعاتها النووية. إنها القيادة الإيرانية نفسها التي تتحدث بصوتين منفصلين، لذلك يتعين على أوروبا أن تتخذ موقفاً أكثر تشدداً إزاء إيران، وألا تميل إلى الاستجابة بالموقف نفسه. وقبل أن تفكر في مصالحها المالية؛ على الدول الأوروبية أن ترى أنه بعد رفع المقاطعة عن إيران بسبب اتفاق أوباما النووي، وتزويدها بالمليارات من الدولارات نقداً، ها هو الشعب الإيراني مستمر في الاحتجاجات على نقص المياه، وارتفاع الأسعار، وارتفاع نسبة الغضب من النظام الذي تصر أوروبا على حمايته. إنما إلى متى؟

اقرأ المزيد
١٠ أغسطس ٢٠١٨
معنى أن ينجو الأسد

بات واضحا أن بشار الأسد في طريقه إلى النجاة بجرائمه التي ارتكبها بحق السوريين على مرأى ومسمع من العالم الذي يعمل على إعادة تأهيله، على الرغم من كل الدماء والآلام التي سببها للسوريين في سبع سنوات من الحرب الدموية على شعبه. وبالطبع، لم يكن لهذه النجاة أن تتحقق من دون توافق دولي عليها، وتحديدا توافق روسي ـ أميركي ـ إسرائيلي خصوصا.

المعنى الأول الذي يمكن قراءته لهذه النجاة هو الإعلان المدوي عن افتقاد عالم اليوم إلى الحد الأدنى من العدالة الإنسانية، فأن يبقى مجرمٌ معلنٌ، مثل بشار الأسد، على رأس بلد قتل شعبه، أقل ما يقال فيه، إنه سقوط لفكرة العدالة في عالم اليوم. وهو رسالة لكل الضحايا اليوم، ولكل من يمكن أن يكون ضحية في المستقبل، أن هذا العالم لن يتلفت إلى آلامك، ولا إلى دمائك إن سفكها طاغية، فالعالم لا يملك أي إرادة أو رغبة في معاقبة المجرمين، فليس هناك عقاب للطغاة على جرائمهم، إنما العقاب لمن يفكّر في الاحتجاج على الطغيان.

يبدو عالم اليوم على الضعفاء في ظل السلطتين الأهم في كل من الولايات المتحدة وروسيا، فأن يكون على رأس كل من الدولتين رئيسان شعبويان يتعاملان مع السلطة بوصفها مزرعة شخصية، كما يفعل فلاديمير بوتين مع روسيا، أو شركة تجارية تمارس الابتزاز حتى على أصدقائها، كما يفعل دونالد ترامب، فإنهما يسيران خطوات كبيرة باتجاه تحويل السياسة من أداةٍ تمارس لتحقيق مصالح في الخلفية العملية السياسية، إلى السياسة بوصفها عملية ابتزازٍ، للحصول على مكاسب مباشرة. هذا ما فعله ترامب في اجتماع دول حلف شمال الأطلسي (الناتو) أخيرا، عندما تحدث عن جمع مبلغ معقول من المال، وعندما ضرب عرض الحائط بأصدقائه في الحلف، عندما قال إن اجتماعه مع بوتين كان أفضل من اجتماع "الناتو". ولم يتورع عن اتخاذ إجراءات ضد اللاجئين من بعض الدول الإسلامية، ومنع دخولهم الولايات المتحدة عبر معركة طويلة مع القضاء الأميركي. ولم يتورّع عن نقد المستشارة الألمانية، أنجيلا ميركل، بسبب من سياسة الباب المفتوح التي تتبعها بلدها تجاه اللاجئين السوريين، والتي اعتبرها خطرا على الغرب، حتى إنه اخترع حوادث إرهابية في السويد لم تحصل لمهاجمة سياسة الهجرة الأوروبية. ووصل الابتزاز إلى ذروته مع المكسيك، حيث يريد بناء جدار عنصري على الحدود معها، يمنع الهجرة من المكسيك إلى الولايات المتحدة، على أن تدفع المكسيك كلفته. أما مع بوتين فحدّث ولا حرج، تدخل في الصراع السوري بذراعه العسكرية، ممثلة بالقوات الجوية التي عاثت تدميرا في المدن السورية، بحجة طرد الإرهابيين، وكان المثال الملهم لبوتين السياسة الروسية التدميرية في عاصمة الشيشان، غروزني. والعنوان الرئيسي لهذا السياسة أن ما لا ينجح بالتدمير ينجح في المزيد منه، وصولا إلى الأرض المحروقة بالقضاء على كل شيء، كما جرى في مناطق سورية عديدة، هدمت عن بكرة أبيها، بفضل الطيران الروسي. وقد استثمر بوتين في الأزمة السورية من أجل إثبات أن روسيا لا تزال معادلا في القوة للغرب، وأن التدخل في مناطق النفوذ الروسية، كما جرى في أوكرانيا، يجعل روسيا خطرةً حتى على الداخل الغربي، مثل التدخل في الانتخابات الأميركية لإنجاح ترامب، فهناك اتهاماتٌ جدّية بشأن هذا التدخل، دفعت لتكليف المحقق روبرت مولر للتحقيق في الموضوع، وهناك اتهامات بريطانية لقيام روسيا باغتيالات على الأراضي البريطانية.

عند الحديث عن سلطة شعبوية في كل من الولايات المتحدة وروسيا، ومد يمني عنصري أوروبي، لا نبتعد عن الصراع في سورية، فهذه الخريطة السياسية في العالم هي التي جعلت نجاة بشار الأسد ممكنة، ففي وقتٍ يتخلى من اعتبروا أنفسهم "أصدقاء الشعب السوري" عنه، بعد التوافق الأميركي/ الروسي على تقديم سورية للروس، في مقابل الحفاظ على أمن إسرائيل، بإبعاد الإيرانيين عن الحدود، والحفاظ على سلطة بشار الأسد. كان رئيس الحكومة الإسرائيلية، بنيامين نتنياهو واضحا في قوله إن إسرائيل "لا تعارض استقرار نظام الرئيس السوري بشار الأسد في سورية"، لكنها ستعمل على حماية حدودها، حتى لو كان ضد الجيش السوري، كما فعلت خلال سنوات من الحرب الأهلية. وأضاف، قبل زيارته الشهر الماضي موسكو، "لم تكن لدينا مشكلة مع نظام الأسد (فترتي الرئيسين، السابق حافظ الأسد والحالي بشار الأسد)، أربعون عاما لم تطلق رصاصة واحدة في هضبة الجولان". ولا شك أن السياسية الأميركية بشأن سورية ذات أولوية إسرائيلية، لا يدل عليها الصفقة مع روسيا لبقاء الأسد في السلطة فحسب، بل وأيضا المبادرة الأميركية "صفقة القرن"، والتي تكرّر المطالب الإسرائيلية، بعد أن نقل ترامب السفارة الأميركية في تل أبيب إلى القدس، مستبقا صفقته، وهو ما دلّ على انحياز فج غير مسبوق من إدارة ترامب إلى أجندة إسرائيلية، يتناسب مع عقلية الابتزاز التجاري.

تقاطعات المصالح اليمينية والشعبوية في العالم التي لا ترى أنين الضحايا، ولا تسمعها، ولا تفكر في محاسبة القاتل، جعلت من نجاة الأسد بجرائمه الدرس الأبلغ في عالم اليوم. ولا مبالغة في القول إن سلطات اليوم الفاعلة في العالم لا تهمها أية عدالة، ولا ترى أية ضحايا، فهي لا ترى سوى مصالحها الضيقة. وفي هذا السياق، لا يبدو غريبا أن يتصالح ترامب مع أردأ نظام في العالم في كوريا الشمالية، وأن يوافق على إعادة تأهيل بشار الأسد. والمحتجون على طغيان بشار الأسد هم الذين يُعاقَبون اليوم، بالتوافق على بقاء بشار يحكمهم بالحديد والنار. وهذا العالم الذي يتعايش مع القاتل، ويجبر الضحية على الركوع أمامه، هو عالمٌ أقل ما يقال إنه يتصف بالسفالة، لا أخلاقي، يحتاج إلى تغيير جذري. من دون ذلك، يُشرعن هذا العالم الظلم، ويجعل وجه العالم قاتما، وغير إنساني.

اقرأ المزيد
١٠ أغسطس ٢٠١٨
إعمار سورية والعقوبات

 يجري الحديث عن إعادة إعمار سورية في بعض الأوساط، لا سيما اللبنانية، بطريقة أشبه بالترداد الببغائي أو الفولكلوري الذي يخفي وراءه أهدافاً أخرى أكثر من هدف إعادة الإعمار نفسه.

ولعل ما أعطى دفعاً لهذا الحديث المبادرة الروسية من أجل إعادة النازحين، إذ شملت الخطة التي أعدتها وزارة الدفاع الروسية في هذا الشأن الطلب إلى الأوروبيين والأميركيين المشاركة في إعادة إعمار البنى التحتية المهدمة في المناطق التي يفترض أن يعود إليها النازحون، انطلاقاً من مصلحة دول الغرب في إنهاء مأساة هؤلاء وتجنب المزيد من الأعباء على اقتصادات هذه الدول نتيجة استمرار تسرب اللاجئين إليها، وعلى نسيجها السياسي والاجتماعي، نظراً إلى تحولها قضية سياسية داخلية في بعضها.

إلا أن الهدف الإنساني من وراء المبادرة سرعان ما كشف عن صعوبات سياسية في إقناع دول الغرب بالإقبال على تمويل إعادة الإعمار. وإذا كانت النتيجة السياسية التي ترتكز إليها الدعوة إلى إعادة الإعمار في سورية، هي استتباب الوضع في بلاد الشام بسيطرة نظام بشار الأسد بمساعدة روسية رئيسية وإيرانية، بحيث أنه باق في الحكم وقضي الأمر، فإن قادة الدول الغربية على رغم أنهم يسلمون بهذه الوقائع التي فرضها ميزان القوى الميداني، لكنهم يطرحون الكثير من الأسئلة والموانع. لسان حال الأميركيين هو "أن علينا أن نتعايش مع فكرة بقاء الأسد في السلطة على ما يبدو في هذه المرحلة، لكننا نستغرب كيف سيقدر أن يحكم في ظل تقاسم النفوذ في سورية بين الروس والإيرانيين والأتراك، ووسط هذا الكم من التشكيلات العسكرية الموجودة على الأرض في معظم المناطق، إضافة إلى الأحقاد التي تركتها الحرب"... ولا يرى الجانب الأميركي موجباً للحماسة من أجل إعادة الإعمار. أما الأوروبيون فإنهم يختزلون الموقف بالقول إنه إذا كانت بعض الأجهزة الأمنية الأوروبية تبقي على خيط تواصل مع قيادات أمنية سورية، فهذا لا يعني أن الدول الأوروبية تسلم بشرعية الأسد قبل حصول حل سياسي على أساس قرار مجلس الأمن 2254 بقيام حكم انتقالي.

سيل الأسئلة التي يطرحها الغربيون، سواء كانوا من الديبلوماسيين في لبنان أو في دول أخرى، أم حتى بعض قادة دول الجوار، حول ضمانات عودة النازحين، ينطبق على إعادة الإعمار: هل ستدفع الأموال من أجل أن تستفيد منها إيران بنفوذها الواسع في سورية؟ هل ستنفق كلفة الإعمار من أجل أن يستثمرها الأسد في تثبيت حكمه على حساب سائر الشرائح الاجتماعية التي ثارت ضده ليستعيد القدرة على المزيد من القمع؟ وهل أن المستثمرين الذين يفترض أن يقبلوا على المساهمة في إنهاض سورية سينجون من مشاركة أمراء الحرب النافذين لهم إذا افترضنا أنها ستنتهي، وهل ستتيح مافيات ومواقع النفوذ المستفيدة من النظام لهؤلاء أن يوظفوا أموالاً من دون فرض "الخوات" عليهم؟ وهل أن الدول الغربية مجبرة على دفع كلفة الدمار الذي ألحقته موسكو بالبنى التحتية والسكنية السورية، لتستفيد هي بدورها من استثمارات ببلايين الدولارات؟ هذا كله، إذا جرى تخطي الهواجس الغربية حيال الوضع القانوني والإنساني للنازحين العائدين ومدى تلاؤمه مع القانون الدولي. فبعض الحكومات قد يتعرض للمساءلة من أفراد ومجموعات عائدة، إذا جرى ترحيلها في شكل مخالف لهذا القانون.

في الاجتماع الأخير الذي نظمته اللجنة الاقتصادية والاجتماعية لغرب آسيا التابعة للأمم المتحدة (الأسكوا) لنقاش تقرير "مشروع الأجندة الوطنية لمستقبل سورية"، بحث 50 خبيراً سورياً ودولياً، تحت عنوان "سياسات إعادة الإعمار في مرحلة ما بعد الاتفاق السياسي"، كل جوانب العملية ومنها تذليل الصعوبات التي تعترض إعمار ما هدمته الحرب. الأرقام هائلة: كلفة الدمار بلغت حجماً فلكياً تجاوز 388 بليون دولار أميركي، في حين قاربت كلفة الدمار الفعلي الـ120 بليون دولار أميركي. والأرقام لا تشمل الخسائر على الصعيد البشري الناتجة من موت وهروب العقول والقدرات البشرية واليد العاملة الماهرة التي كانت تعتبر أحد أهم ركائز الاقتصاد السوري، كما يقول التقرير نفسه. هذا فضلاً عن أن القدرات البشرية للنازحين وأبنائهم في سن التعليم تراجعت نظراً إلى أن كثراً منهم لم يتسنّ لهم دخول المدارس والمعاهد التقنية والجامعات.

ما لم يتعمق فيه الخبراء بعد هو أثر العقوبات في النظام، وتلك التي تفرضها وتنويها واشنطن على إيران، وعلى الإعمار في سورية.

في الانتظار، قد تكون المحاولات التي يقوم بها لبنان من طريق المديرية العامة للأمن العام لإعادة أعداد متواضعة من النازحين هي الأمر الوحيد المتاح.

اقرأ المزيد
١٠ أغسطس ٢٠١٨
سورية ما بعد الثورة ... أم ما بعد الأسد؟

 سورية أمام خيارين، إما أن تكون جمهورية الأسد، انطلاقاً من الوقائع الراهنة، حيث استعاد الأسد السيطرة على أجزاء واسعة مقابل انهيار مكونات المعارضة، بما يعنيه ذلك من إدارة روسية لشؤون البلد، أو سورية جديدة، عبر عملية انتقال سياسي سلمية بتعاون إقليمي ودولي تحضيراً لاستحقاقات المرحلة القادمة، وبخاصة إعادة الإعمار وعودة اللاجئين.

الخياران، تتحكم بهما القوى الخارجية، ولن يكون هناك طرف سوري مقرّر، وستقتصر أدوار السوريين على تنفيذ القرار الخارجي، وبالتالي فإن سورية المستقبلية، على مستوى طبيعة نظام الحكم وشكل الدولة، والتوجهات السياسية، وحتى ألوان العلم والنشيد الوطني، سيتم تشكيلها وإقرارها خارج دمشق، سواء بقيت جمهورية الأسد أو سورية ما بعد الأسد.

حتى اللحظة، تبدو جمهورية الأسد، مع بعض التحسينات الشكلية، هي الأقرب للواقع والأكثر التصاقاً بمجريات الأحداث، ذلك ان هذه الجمهورية ستعتبر رمز الانتصار الروسي، عسكرياً وديبلوماسياً وإعلامياً، ومثالاً على قدرة روسيا البوتينية، وانعكاساً لمدى تأثيراتها في المستوى الدولي، وستحاول موسكو استعراض هذا النموذج واستثمار رمزيته في إخضاع خصومها الدوليين، كما ستحاول فرض الأسد وإعادة تأهيله دولياً بإعتباره الخيار الوحيد والإجباري لسورية.

غير أن نجاح هذا الخيار يتوقف بدرجة كبيرة، ليس على إرادة روسيا ورغباتها، بل على مدى إستجابة الأطراف الدولية والإقليمية ومدى خضوعها للخيار الروسي، والأهم من ذلك، طبيعة تحضيراتها للتعاطي مع المرحلة السورية المقبلة، فهل سيكون لديها إستراتيجية واضحة ومحدّدة، وإطار تنطلق منه، وتستطيع إجبار روسيا على الإمتثال للرغبة الدولية في حصول إنتقال سياسي في سورية، أم سيكون هناك مواقف متفرقة لكل دولة على حدة، وهو ما تفضله روسيا، حيث سيكون بإمكانها تفتيت قوة خصومها تفاوضيا، تماما كما فعلت مع فصائل المعارضة، ودفعهم للإستسلام لرؤيتها.

على ذلك، فإن القضية السورية اليوم، وبعد انتهاء الجزء الأكبر من العملية العسكرية، باتت في مجال التفاوض، والمعلوم أن عوامل الخبرة وحشد الموارد الديبلوماسية ورفدها بالعناصر الاقتصادية، عوامل مهمة في هذه العملية إذا تم تنظيمها واستثمارها جيداً، وبخاصة أن الموقف العسكري في سورية غير دقيق ولا يكفي وحده لحسم المشهد، إذ عدا عن حقيقة أن انتصار الأسد تم بجهد روسي– إيراني، غير ممكن تأمينه دائماً، فإن المشهد الذي رتبته روسيا على الأرض فوضوي بدرجة كبيرة وقد ينقلب في مدى زمني قريب إلى حالة استنزاف ضدها، والمقصود هنا التسويات التي أجرتها في الجنوب والقلمون وأرياف حمص، ما لم تدعمها بعملية سياسية حقيقية.

تدرك روسيا أنها أمام مرحلة التفاوض هذه ستواجه قوى دولية خبيرة ولديها اشتراطات ورؤى مختلفة، وبالتالي يستدعي هذا الوضع رفع سقف التفاوض بدرجة كبيرة، ولا بأس أن يكون بحجم تسليم الأطراف الدولية والإقليمية بإبقاء الأسد في السلطة وحقه في الترشح للانتخابات المقبلة، مقابل تقديم إغراءات للدول الغربية، على وجه الخصوص، في ملفات لا تؤثر كثيراً في سلطة الأسد، كأن يتم الاعتراف للأكراد بالحكم الذاتي، أو صناعة عملية سلام بين نظام الأسد وإسرائيل، أو حتى إغراء الأطراف الإقليمية والدولية بالفوائد الإقتصادية المتخيلة نتيجة إعادة تنشيط طرق التجارة الإقليمية العابرة لسورية، او الإزدهار الإستثماري الناتج عن إقلاع عملية إعادة الإعمار.

لكن نقطة الضعف في الخطة الروسية تتمثل بدرجة كبيرة بعامل الوقت، ذلك أن تطبيق هذه الأجندة، من إقناع الأطراف الإقليمية والدولية، وتأمين سير الأمور في سورية بسلام، والتحكم بإدارة مفاصل هذه العملية المرهقة، كل ذلك يحتاج وقتا لا تستطيع روسيا الصمود خلاله، بخاصة أن روسيا نفسها بدأت تطوير أهدافها وتوسيع دائرتها ونسج علاقات، وإن كان طابعها تقنياً، مع المجتمعات المحلية، ولم يعد هدفها منحصراً في تامين قاعدة عسكرية لها، فهذا هدف غير قادر على الصمود في بلد محطم، كما أنه لن يفيد روسيا كثيراً اذا بقيت سورية في عزلة إقليمية ودولية، وهذه المعطيات سيكون لها انعكاس على موقف روسيا وسياستها السورية إجمالاً.

بالمقابل، يبدو أن الموقف الدولي ما زال متماسكاً في مواجهة السياسة الروسية، حيث ترفض الدول الفاعلة الانخراط بالخطة الروسية الداعية لإعادة تأهيل نظام الأسد، كما ترفض محاولات روسيا تلزيم المجتمع الدولي عملية إعادة الإعمار في سورية، وقد كان كلام السفير الفرنسي في مجلس الأمن، بأن الدول الغربية ترفض المساهمة في اعادة الإعمار ما لم تحصل عملية انتقال سياسي، بمثابة رسالة تأكيدية لروسيا أن المواقف لم تتبدل بعد، كما أعادت فرنسا أخيراً طرح ورقة «الخمس» التي اتفقت عليها في باريس، بداية العام الجاري، كل من فرنسا والولايات المتحدة وبريطانيا والسعودية والأردن، والتي تتضمن رؤية للحل السياسي في سورية.

من سيفوز بهذا الصراع، جمهورية الأسد، أم دولة سورية للجميع، هذا ما ستحدّده مجريات التفاوض في المرحلة القادمة، وهنا يتوجب على المعارضة السورية أن تلعب دوراً رفيداً للجهود الدولية والإقليمية، وأن تكون بحجم هذه المهمة، بما يتطلبه ذلك من تجهيز ورشات قانونية وسياسية وإعلامية لتدعيم عملية ولادة سورية الجديدة والخلاص من جمهورية الأسد التي تنذر بمستقبل قاتم للسوريين.

اقرأ المزيد
٩ أغسطس ٢٠١٨
غزو الضفادع.. حين عاد العُشّاق إلى حظيرة حُبهم!

كثيراً ما كنّا نظنهم صادقين، لكن حقيقتهم ظهرت بعد أول لقاء، نعم لقد عاد العُشّاق إلى قفص حُبهما، مَنْ هم؟ إنهم نظام الأسد وضفادع الثورة السورية، وأين هو قفص حُبهم؟ إنه حظيرة حضن الوطن. عشاق حظيرة حضن الوطن يتحدثون باستمرار عن وطنهم المزعوم يتحدثون باستمرار عن معاملة قوات النظام السوري لهم بحنية ورفق وذلك بمجرد أن تقول لهم "شكراً لإنقاذنا من الإرهابيين" هكذا كانت في البداية والآن بدأ النظام بمساعدة ضفادعه باعتقال الشباب وسحبهم لقتال تنظيم داعش وقتال المعارضة السورية في شمال البلاد وجنوبها.

وبحجة بسط الأمن والأمان بمساعدة الضفادع الإلكترونية بدأ النظام بنشر نقاط أمنية تحولت إلى حواجز عسكرية في مناطق شمال حمص، مهمة هذه الحواجز المتموضعة في أعلى نقاط في مدن الريف ومداخلها مراقبة المارين وانتظار الأوامر من الضفادع لينقضوا على من يخطئ ويتحدث مع أحد أفراد عائلته الذي هُجّر إلى شمال البلاد.

الضفدع الموالي للنظام يعيش على مواقع التواصل الاجتماعي يبث الفتن بين فصائل الثورة السورية ويبخس عمل الجميع يطعن بالمجالس المحلي ومنظمات حقوق الإنسان ويردد باستمرار عبارات "النظام أحسن منكم" "لو كنا عند النظام بـ 100 ليرة منشتري نص البلد" صحيح لماذا تشتري نصف البلد بـ 100 ليرة لأن النظام السوري ورئيسه بشار حافظ الأسد يسوا أبناء هذا البلد والدليل تدمير مدن ومحافظات سوريا واحدة واحدة شرّد الملايين وقتل مئات الألاف واعتقل الألاف من أجل الرئاسة هل يبدو هذا الحاكم جديراً بحكم سوريا العظيمة؟

كما كان الضفدع البشري يدخل في كل تفصيل حتى لو كان صغيراً كان يسعى لهدم أي مشروع حتى لو كان صغيراً لماذا ؟ كي لا يتمكن الثوار من خلق مؤسسة قد تكون حجرة عثرة في طريق مهمته في إخضاع البلاد فكان يدخل بصفة ثورية وكان يقاتل ويخرب ويغرر حتى تهدم تلك المؤسسة وبالمقابل كان النظام السوري يقدم له كل الدعم حسب وثائق نشرت بعد انتهاء المناطق المحاصرة تبين أن النظام وأجهزة المخابرات السورية كانت تقدم الدعم اللازم لكافة الضفادع المنتشرة كي تقضِ على روح الثور وجعل الجيش الحر والمعارضة مكروهة من قبل الحاضنة الشعبية لها بغض النظر عن المنطقة وتضاريسها وهذا ما حصل في حمص ودمشق ومناطق أخرى .

الضفدعة: خرج هذا المصطلح من الغوطة الشرقية بريف دمشق بعد أن أحدث المدعو "بسام ضفدع " ثغرةً مكنت النظام السوري من احتلال الغوطة بعد أعوام من حصارها بدأت عدوة الضفدعة تنتشر في الأراضي السورية رويداً رويداً سقطت الغوطة الشرقية واتجهت الأنظار إلى آخر معاقل المعارضة في المنطقة الوسطى لينهي النظام بذلك ملفي دمشق وحمص. كان لا بد للنظام تجنيد عدد من الأشخاص داخل الريف الشمالي لحمص، فكان أضعف شخص انصاع له يملك أقوى العتاد في شمال حمص إنه "منهل الصلوع" والذي خلف أبو حاتم الضحيك الذي كان يترأس أكبر فصائل الريف الشمالي لحمص قوةً.

جيش التوحيد الذي ساهم في تسليم آخر مناطق المعارضة في المنطقة الوسطى إلى حظيرة حضن الوطن على طبق من ذهب، نعم بعض الدولارات وجولة صغيرة من قبل صبايا العطاء مع قائد جيش التوحيد جعلته يبيع بلده من أجل العودة إلى حظيرة حضن الوطن ويخلّد اسمه على أنه بطل قومي من أولئك الأبطال الذين سلموا البلاد إلى قاتل الأطفال هل نسوا مجازر الأسد في الغوطة الشرقية ؟ في حمص وحماه في إدلب.

وبعد انتهاء النظام من آخر المناطق المحاصرة أي سوريا انتقل ليحتل الجنوب الروسي والذي قدم أيضاً على طبق من ذهب بوجود الضفادع أيضاً كأمثال أحمد العودة و بعد الانتهاء من الجنوب السوري لم يبقى بيد المعارضة سوى ومناطق النفوذ التركي " إدلب وريف حلب". فهل وصلت الضفادع إلى هناك؟ هل ستكون محافظة إدلب وما تبقى من ريفي حلب وحماه بيد المعارضة السورية؟

اقرأ المزيد
٩ أغسطس ٢٠١٨
الشباب السوري وضرورات العمل السياسي

ليهنأ من أرادها "نصراً" يُسحقُ به المجتمع، وتتوجُ فيه قيم التسلط والتفرد؛ فقد صار مؤكداً غياب "اللحظة السياسية الجديدة" في سورية (سمّوها انتقالا، تغييرا، إصلاحا، سمّوها ما شئتم)؛ وصار خراب سورية (دولة ومجتمعاً) الثابت الأكثر وضوحاً في المدى المنظور؛ فمنذ حوّل المجتمع الدولي قضية الكرامة المجتمعية والمطالب الشعبية السورية، السياسية منها أو السياساتيّة، إلى مسألة تنازعٍ سياسي بين نظام أمني ومعارضة لم تعن بقضية التمثيل؛ أضحت "السيولة" و"تغيير الاتجاهات" و"تدمير حوامل الثورة" البوصلة المتحكّمة بمسار العملية السياسية؛ حتى غدت دفعاً نحو عودة سورية إلى ما قبل الأزمة مع كثير من الخراب الاجتماعي والاقتصادي والإنساني؛ وتمكين الاستبداد ومليشياته، ومنحهم كل الأدوات اللازمة لجعل الاستحقاقات السياسية الكبرى تحدياتٍ حكوميةً غير مستعجلة، وغير مرتبطة بأي محدّد سياسي؛ ولا يعد ملف المعتقلين، وما يفعله النظام والروس، استثناء عن هذا الدفع، فها هو وعلى مرأى العالم يعلن بكل بساطة عن موتهم، وبالتالي عن وجع سورية الأبدي، وليكشف، للمرة الألف، زيف ادّعاءات الفواعل المحلية أولاً، والإقليمية والدولية لاحقاً، إذ باتوا جميعهم وفق منطق"البراغماتية المتخيلة" يبنون خططهم للتكيّف مع الظلم والقهر، إن لم نقل لجعله مدخلاً لشرعنة نظرية جديدة في العلاقات الدولية، ربما سيسمونها "النيو نيو ليبرالية".

"بشّرنا" مؤتمر سوتشي أخيرا، وسيبقى "يبشّرنا" المؤتمر المقبل بمزيد من الإنكار لفواتير التضحية التي دفعها المجتمع السوري ولا يزال؛ وبكثيرٍ من سياسات الهشاشة والتبسيط و"العودة الكريمة" لتحكّم الأجهزة الأمنية، وأزلامها الجدد، في رقاب الدولة والمجتمع، هذا المؤتمر الذي أرادته الإدارة الروسية مساراً وحيداً لتعريف الحل السياسي في سورية، واختصارها بتغييرات دستورية، مشروطة بموافقة رأس النظام، حتى تغدو تعديلات دستورية (وهذا ما لم يمنحه أيام ضعفه)، أو انتخاباتٍ يكون فيها حزب البعث الناظم للقواعد الانتخابية، وشروط العمل في الهيئة العليا للانتخابات ومعاييره، حلٌ سياسيٌّ يهندسه "المنتصر" عسكرياً، كيف لا؟ وموسكو منذ تدخلها وهي تعمل على المضي في إعادة تشكيل المشهد السوري، وترتيب مسرحه العسكري بما يتفق كلياً مع محدّدات الحل الصفري، وفرض واقع عسكري مثبت باتفاقات مصالحة (استسلام) متباينة، ليصعب على المجموعة الدولية تجاهل هذا المشهد الجديد، فكان البدء من الغوطة الشرقية، وإبعادها عن دوائر التأثير في المحيط الجيوسياسي للعاصمة، ومن بعدها القلمون الذي يشرف على عقد مواصلات بالغة الأهمية في المعنى العسكريّاتي، لينتقل إلى جنوب دمشق، ومن بعدها إلى ريفي حمص وحماة، ولتخرج كل جيوب المقاومة من مناطق "سورية المفيدة"، ليضمن كلياً سحب كل أدوات التأثير للمعارضة، وداعميهم ضمن المناطق الحيوية للنظام، والتي تؤمن له تمكيناً أمنياً يسمح له بامتلاك زمام الفاعلية التنموية والإدارية؛ ولتعزّز أخيرا القواعد الضابطة لحدود التأثير الدولي، ومحاصرة المناطق المتبقية بخياراتٍ لا تتجاوز ثنائية "الرضوخ، التهجير"، وهذا ما كان في درعا.

بالتزامن مع ذلك كله؛ وصلت الارتكاسات السياسية الذاتية للمعارضة إلى مداها الأوسع بعد معركة حلب، والتي تبيّن أنها لم تعد قادرةً على الفعل السياسي، ولو بأدنى درجاته، فمرت كوارث التدخل الروسي والإيراني، وما حمله من تغييرات ديمغرافية وعسكرية واضحة، من دون أن يلمس المراقبون لهذه الأجسام أي استراتيجية تعاط إبّان هذا التدخل، إذ لا تزال تمضي المعارضة باتجاه موتها الوظيفي، إلى درجةٍ غدت فيها ظاهرة "الضفادع" الفاعل المتحكّم في بنى هذه المعارضة السياسية والعسكرية؛ حقائق عديدة تدل على هذا المآل، فلا أفعالُ مراجعة، ولا البدء بتقييم الأدوات، سوى محاولتين ترقيان إلى أن تكونا استعراضاً لمص الصدمة ليس إلا، ولا تدارساَ موضوعياً لصلاحية البنية الحالية لهذه المرحلة، الشكل الذي حال دون أي فعل سياسي حقيقي يُحدث أثراً ملموساً، سواء على المستوى المحلي، كتنظيم الصف الثوري الداخلي، أو على المستوى الخارجي، كتمثيل بديل مقنع للمجتمع الدولي، ما ولّد فراغاً سياسياً في الثورة السورية، وغُربة عن الشارع الثوري الذي شُرعِن خروجه من كل المعادلات.

أمام هذا الانكسار الذي لا يبقي ولا يذر؛ والذي يقيّد حركات التفاعل الوطني المستقبلية، ويجعلها أسيرة التكيف مع الفشل الوظيفي للدولة والسلطة والموت السريري الحتمي لقوى المعارضة التقليدية من جهة؛ ويخرج أي أثر متوقع لـ "داعمين" إقليميين أو دوليين من دوائر أي حساب وطني مستقبلي من جهة أخرى؛ يبرز الشباب السوري الوطني المؤمن بالتغيير فرصة لتشكيل حامل مجتمعي استراتيجي، يعنى بأسباب الاستقرار والبناء، تلك الشريحة التي جعلت السبع سنوات الماضية منهم جيلاً مكتظاً بالتجارب والخبرات والخيبات والاهتزازات، فتعرّفوا على كل أشكال الممارسة والفعل الثوري، وخاضوا كفاحاً مسلحاً في ظروفٍ بالغة التعقيد، فأنتجوا وزرعوا وصنعوا وصمدوا وشكلوا من بلداتهم وقراهم أيقوناتٍ في العزّة والحرية، وشهدوا أيضاً على غوغائية مشاريع التبعية والتطرّف، فوهبهم ذلك توازناً فكرياً ينبغي له أن يدفعهم إلى تشكيل مشروعهم السياسي وفق فلسفةٍ تحيط بكل الجراح، وتستوعب ألم المراجعات، وتدرك أهمية تدافعهم لانتشال ما تبقى، والبناء عليه بمحدّدات جديدة، وأدوات مقاومة نوعية، تطاول المهجّر منهم وغير المهجّر؛ وأن تبدأ بتصدير خطاباً سياسياً وطنياً نوعياً عابراً للعقائد والأيديولوجيات، وكل ما تمليه الثنائيات الفكرية من احترابٍ مجانيٍّ، استنزف القدرات وشتّت المسير.

كل ما ذكر أعلاه هو دعوة صريحة وملحة إلى أن يكون شعار واستراتيجية "السياسة أولاً" عنوان الحركة الشبابية السورية التي يعوّل على وعيها في التأثير الإيجابي في هذا المشهد القاتم؛ فوفقاً لمدخلات المشهد السوري الراهن لا استقرار يُرتجى في المدى المنظور؛ ولا عملية تغيير سياسية حقيقة؛ ولا تماسكاً اجتماعياً؛ ولا دستوراً قوياً؛ يلغي القوانين الاستثنائية ويعيد للمجتمع حقوقه، ولا ولا... إلخ. هذه الحركة، كما كانت المنظم والمنفذ والمنسق لثورة العز والكرامة في سورية، قادرة على أن تكون الرابطة الوطنية الجامعة والدافعة لاسترداد الوطن واستقراره.

اقرأ المزيد
٩ أغسطس ٢٠١٨
أساطير التسوية السورية

لا شيء حقيقياً ينتج عن القمم والمؤتمرات الدولية والإقليمية الخاصة بسورية، ولا تسويات فعلية تنتجها الأتفاقيات العديدة، ولا تعدو المسألة سوى مناورات دبلوماسية بين اللاعبين، أو تحليلات متفائلة، وتوقعات تحاول القفز بخطوات واسعة إلى الأمام على أرض رخوة.

ومنذ حلّت روسيا في سورية، تم الإعلان عن عشرات التفاهمات والتسويات، وصدرت قرارات عن مجلس الأمن بهذا الخصوص، وعلى الأرض لا يوجد صدى لذلك كله، وما هو موجود حرب، تلك التي يسمّونها الأرض المحروقة، ينتج عنها خسارة طرف وتقدم آخر، أما التسوية التي طالما جرى الحديث عنها فلن تأتي أبداً، حتى لو سكتت الجبهات ووقفت المدافع، ما يعني أن وزن السياسة صفر في هذه المعادلة، والعملية حرب وليست سياسة.

سيجري الحديث عن تسوية سياسية في سورية ونجاحها وإنتهاء الأزمة، وعلى الرغم من بروز عشرات الأسئلة في مواجهة مثل هذه التسوية، إلا أنه سيجري تعميمها بوصفها تسوية التسويات في سورية، وماذا تحتاج التسويات سوى ممثلين عن الطرفين، وستجد روسيا مئات من منصات دمشق وحميميم وموسكو وأستانة، والمرأة والمجتمع المدني، وربما منصّات لم نسمع بها، لتعتبرهم ممثلين للشعب السوري، لن يحاسبها أحدٌ على معايير السورنة الخاصة باختيارها سوريين يمثلون شعبهم واستبعادها آخرين.

لكن، هل بين هؤلاء من يمثل اللاجئين في لبنان والأردن وتركيا، وهم يشكلون أكثر من ربع السوريين؟ أو هل بينهم من يمثل أبناء الأحياء المدمّرة في دمشق وحلب وحمص وحماة وإدلب ودير الزور والرقة والقنيطرة، وأرياف هذه المدن، أولئك من يسمّونهم نازحي الداخل، وعددهم يساوي ثلث سكان سورية؟ وهل بينهم من يمثل أهالي القتلى والمعتقلين والمفقودين والمعاقين، ومجموع هذه الفئات، وفق تقديرات متحفظة، يتجاوز مليونين؟ هل يوجد ضمن وفد المرأة واحدة اغتصبت في سجون الأسد، لتمثل المغتصبات اللاتي يقدّرن بالآلاف.

وإذا لم تطرح قضايا هؤلاء، ولم يكونوا ممثلين في هيئات التفاوض، ولن يكونوا، فإن أي تسويةٍ ستحصل في سورية ستكون مجرد كذبة، أو بلغةٍ أدق، ستكون على مقاسات فلاديمير بوتين ووزير خارجيته سيرغي لافروف، اللذين يعتبران كل معارض لبشار الأسد إرهابيا، ويعقدان التسويات مع فصائل المعارضة، ويوقعان معهم على التفاهمات، وبعد أقل من ساعة يصفانهم بإرهابيين، من دون تبرير كيف لدولة عظمى عقد اتفاقيات وتفاهمات مع إرهابيين، وما بنود تلك الاتفاقيات وعناصرها؟

أما المشهد الذي يجري العمل على إنتاجه، على خلفية قمة هلسنكي وأخواتها، فهو مجرّد فانتازيا غير مسلية، إبعاد إيران عن حدود "إسرائيل" أو بقاءها، بعد أن صارت أهداف إيران وراءها، القضاء على ثورة الشعب السوري، ولو كانت تريد مهاجمة إسرائيل لفعلت ذلك منذ عشرين سنة وأكثر، فهي موجودة في سورية قبل تاريخ الثورة بكثير، وتملك حرية حركة كاملة، ولديها تأثير كبير على صناعة القرار في سورية، ثم إن سورية كانت ضمن مدار حلف الممانعة، حين كان ذلك الحلف يبحث عن طريق للوصول إلى القدس.

من المضحك المبكي، معا، أن المسألة السورية يجري اختصارها بحجم المسافة التي يجب أن تبتعد فيها ايران عند الحدود السورية. ولكن ماذا عن ملايين السوريين الذين سحقتهم آلة الموت، وماذا عن الذين ستنتقم منهم أجهزة نظام الأسد، حينما تنتهي روسيا من تجريدهم من وسائل الدفاع عن أنفسهم، قبل الحصول على تسوية منطقية؟

تحاجج الدبلوماسية الروسية بأن بوتين لا يستطيع إخراج الإيرانيين من سورية، لانه لا يستطيع فرض الأمر على إيران وسورية، إذاً لماذا دخل اللعبة "العملية" من الأساس: هل لأنه يستطيع أن يفرض على السوريين احتلال ايران لهم، وعبثها بتركيبتهم الديمغرافية وتوازناتهم المذهبية، وما دامت المطالبة بإخراج إيران من كامل سورية أمرا غير منطقي، حسب لافروف، فهل فرض تسوية ليس فيها ملامح عدالة أمر منطقي؟

ليس صعبا تصوّر بقية السيناريو من هذه المؤتمرات والقمم واللقاءات، ستبقى إيران في سورية، وسيستنزف بوتين مفاوضيه من الإسرائيليين والأميريكيين بعدد الأمتار التي ستبتعد فيها مليشيات إيران عن حدود الجولان، وستستمر إسرائيل بضرباتها الجراحية إلى حين تجد إيران وسيلة لتمويه وجودها في سورية، وشيئاّ فشيئاَ تصبح الضربات الإسرائيلية من ذكريات الماضي، ويعلن ترامب أن انسحابه من سورية صار مستحقاً بعد زوال الخطر الإيراني.

وحقيقة الأمر أن كل ما يجري مناورة لإعادة تاهيل الأسد ونظامه، لكن الأطراف تبحث عن ذريعةٍ للتخلص من عقابيل الأزمة، والخروج من حال الانسداد التي تراوح فيها أزمات كثيرة، وهي أوهام يمنّي الطرف المقابل لروسيا نفسه فيها، عبر الاعتقاد أن الحل في سورية سيكون مفتاح حلول أزماتٍ كثيرة، وأن السماح لبوتين بتحقيق اختراق في الأزمة السورية سيجعل حصول ذلك ممكنا في أزمات أوكرانيا والتسلح النووي، وغيرها من الأزمات.

غير أن هذا النمط من الحلول ولّاد لأزمات لن تنتهي، ستخمد مدافع الحرب السورية، وستخمد تعبيرات الاعتراض الشعبية، وتتراجع إلى مجرد اعتراضات مكبوتة ومخنوقة في الصدور، لكن ذلك ليس مؤشّراً على نهاية أزمةٍ قذفت ملايين من البشر في أتون محرقة كبرى، ولم توفر حلولها رافعةً لإخراج هؤلاء من الجحيم.

اقرأ المزيد
٩ أغسطس ٢٠١٨
اتفاقية 1974 هل أصبحت حدوداً سورية ـ إسرائيلية نهائية؟

مع أنَّ وقف إطلاق النار الذي أُبرم بين سوريا وإسرائيل عام 1974 بقي صامداً ولم يتم اختراقه، حتى بعد انطلاق الثورة السورية في عام 2011، فإن الإسرائيليين قد استقبلوا المستجدات الأخيرة، التي توصل إليها الروس في أعقاب حسم مواجهة الجبهة الجنوبية بدرعا ولاحقاً حوض اليرموك وعودة قوات تابعة لنظام بشار الأسد بمشاركة قوات روسية وقوات تابعة للأمم المتحدة إلى حدود وقف إطلاق النار بإقامة الأفراح والليالي الملاح كما يقال، وبالترحيب الغامر بهذه العودة وكأنها هبطت عليهم أي على الإسرائيليين من السماء!!

وحتى قبل أن تُحسم مواجهات الجبهة الجنوبية، التي كان دور القوات الروسية ومعها قوات من الحرس الثوري الإيراني ومن «حزب الله» اللبناني وأيضاً مجموعات من التنظيمات المذهبية والطائفية التابعة للجنرال قاسم سليماني وتالياً للولي الفقيه في طهران، فقد دأب رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو ومعه وزير دفاعه أفيغدور ليبرمان على كيل المديح لنظام بشار الأسد والترحيب بعودة قواته إلى مواقعها السابقة، قبل عام 2011، والإشادة بدورها في ضبط الأوضاع الأمنية فيما يسمى خطوط وقف إطلاق النار، والحرص كل الحرص على اتفاقية عام 1974 التي اعتبرتها إسرائيل ولا تزال تعتبرها اتفاقية حدود أبدية.

وهنا فإن المفترض أنه بات معروفاً أن هذا النظام، حتى في عهد «صاحبه» الأول حافظ الأسد وقبل سيطرته النهائية على الحكم في عام 1970 لا بل وقبل ذلك، كان أحرص من الإسرائيليين أنفسهم على ضبط خطوط وقف إطلاق النار في هضبة الجولان التي غدت محتلة بعد حرب عام 1967 ويومها كان وزيراً للدفاع، وكان في حقيقة الأمر هو الحاكم الفعلي في سوريا لا الدكتور نور الدين الأتاسي الذي كان يعتبر، مراسمياً وشكلياً، رئيساً للجمهورية، ولا اللواء صلاح جديد الذي كان يحتل موقع الأمين القطري المساعد ولا القيادة القطرية لحزب البعث وأيضاً لا القيادة القومية.

لقد كانت كل جبهات المواجهة مع المحتلين الإسرائيليين إنْ برضا الدول المعنية وإنْ بحكم الأمر الواقع كلها مفتوحة أمام الفدائيين الفلسطينيين باستثناء الجبهة السورية، جبهة هضبة الجولان المحتلة، وكانت حجة حافظ الأسد عندما كان وزيراً للدفاع وعندما أصبح رئيساً للجمهورية ورئيساً لكل شيء في «القطر العربي» السوري وأيضاً حجة ابنه بشار هذا الرئيس الحالي عندما حل محله لاحقاً بعد وفاته، أنه لا يجوز توفير أي حجة وأي عذر للإسرائيليين لافتعال حرب مع سوريا هي غير مستعدة لها وقبل أوانها، وهذا ما بقي قائماً ومتواصلاً اللهم باستثناء حرب عام 1973 المعروفة وأيضاً باستثناء ما يسمى حرب «الاستنزاف» التي انتهت باتفاق وقف إطلاق النار على أساس «معاهدة» عام 1974 التي إنْ ليس من المؤكد فمن الواضح، أنها قد تحولت إلى اتفاقية حدود أبدية دولية، وذلك مع أن الأمم المتحدة لا تزال تطلق على الهضبة السورية اسم الهضبة المحتلة.

ولعل ما يجب أخذه بعين الاعتبار ونحن بصدد الحديث عن هذا الموضوع الخطير بالفعل والذي يهم الشعب السوري كله والأمة العربية كلها وكثيرين في العالم بأسره من مسلمين وغير مسلمين، أنه كان واضحاً عندما أسقط بلاغ وزير الدفاع في ذلك الحين، في يونيو (حزيران) عام 1967 هضبة الجولان قبل سقوطها بيومين... والبعض يقول لا بل بثلاثة أيام؛ ذلك البلاغ الذي نسب إلى عبد الحليم خدام وكان يومها محافظاً لمدينة القنيطرة، والذي هناك الآن معلومات تتحدث عن أنه يسعى بعد هجرة كل هذه السنوات الطويلة للتصالح مع نظام بشار الأسد والعودة إلى دمشق وسوريا، وهذا يقال أيضاً عن النجل الأكبر لمصطفى طلاس رجل الأعمال الناجح فراس طلاس الذي يبدو أنه يريد أن يحصل على حصة مجزية في إعادة إعمار «بلده» الذي تسعى للمشاركة في إعماره جهات كثيرة... وكل هذا وكأنه قد جرى تدميره كل هذا الدمار من أجل هذه الغاية غير الشريفة.

في كل الأحوال فإن ما أصبح واضحاً ومؤكداً هو أن اتفاقية عام 1974 هذه المشار إليها قد أصبحت اتفاقية حدود دولية نهائية وبضمانة روسية وعلى أساس أن روسيا الاتحادية غدت دولة منتدبة على هذا البلد العربي وحتى نهاية القرن الحالي، القرن الحادي والعشرين، وهذه مسألة غدت معلنة وغير سرية، وقد اعترف بها بشار الأسد نفسه عندما قال في أحد تصريحاته التي أطلقها مؤخراً، أي قبل أيام قليلة، إنَّ القوات الروسية باقية في سوريا إلى فترة طويلة أي حتى نهايات هذا القرن وربما إلى ما بعد ذلك!!

وهكذا ولأن «السكوت» هو علامة الرضا، كما يقال، فإن هذا الصمت المريب الذي يلوذ به بشار الأسد تجاه كل ما يقوله وما يفعله الإسرائيليون بالنسبة لاعتبار معاهدة عام 1974 التي من المفترض أنها اتفاقية مؤقتة لوقف إطلاق النار وليس اتفاقية حدود دولية سرمدية وأبدية تعني اعتراف الطرف المعني الرئيسي الذي هو النظام السوري بهذا التطور الخطير الحمّال لأوجه كثيرة بضم إسرائيل لهضبة الجولان التي احتلت في عام 1967، والواضح أنَّ روسيا التي غدت «منتدبة» على هذا البلد العربي وبكل معنى الانتداب هي من قامت بترتيب هذه الفعلة، وعلى أساس، ما دام أنها أصبحت دولة شرق أوسطية، أن حليفها الذي يعتمد عليه والذي لا غنى عنه هو إسرائيل التي غدت بعد كل هذا التمزق العربي والرضا الأميركي الرقم الرئيسي في هذه المنطقة الملتهبة التي لا تزال تنتظر مآسي كثيرة.

وعليه فإن السؤال الواجب طرحه ونحن بصدد الحديث عن هذا التطور الخطير الذي ستترتب عليه خرائط سياسية وجغرافية كثيرة هو: لماذا يا ترى انقلب الروس على حلفائهم الإيرانيين بعد حسم مواجهة الجبهة الجنوبية مباشرة وأيضاً بعد حسم موضوع تحول اتفاقية وقف إطلاق النار 1974 التي من المفترض أنها عابرة ومؤقتة إلى اتفاقية حدود دولية نهائية وأبدية لا يمكن إلا اعتبار أنها مكملة لذلك القرار الإسرائيلي المشؤوم بضم إسرائيل للهضبة السورية المحتلة مما يعني أن الإسرائيليين قد أصبحوا يتحكمون بسوريا بأكملها ومعها كل الطرق التي تربط هذا البلد العربي بلبنان وبالأردن وأيضاً بالعراق؟!

لقد انقلب الروس على حلفائهم الإيرانيين لأنهم باتوا يشعرون أن هؤلاء كنظام باتت نهايتهم قريبة ولأنهم بعد تمتين تحالفهم مع إسرائيل ما عادوا بحاجة إلى حليفهم الإيراني، ولأنهم في ضوء هذا كله غدوا مطمئنين للبقاء في سوريا حتى نهاية هذا القرن، ولأن استمرار الأمور على ما كانت عليه بين موسكو وطهران سيجعل الإسرائيليين أكثر حذراً وغير مطمئنين لعلاقاتهم مع الروس الذين بدورهم لا يمكن أن يستمر رهانهم على من أصبح حصاناً خاسراً بينما البديل الآخر الذي هو الدولة الإسرائيلية قد أصبح الرقم الرئيسي في هذه المعادلة الشرق أوسطية المستجدة!!

والآن وبعد ما تمكنت إسرائيل من الحصول على ما بقيت تسعى للحصول عليه قبل احتلال عام 1967 وبعده، فإن الخطوة اللاحقة التي لن تكون بعيدة على أي حال هي البدء باستيراد مهاجرين من اليهود من أربع رياح الأرض لتوطينهم ليس بالألوف وإنما بالملايين في هضبة الجولان هذه التي يبدو أن «تهويدها» هو الدافع الرئيسي لقرار اعتبار الدين اليهودي «قومية» اليهود كلهم من هم داخل إسرائيل ومن هم خارجها، وحيث كان بنيامين نتنياهو قد أطلق تصريحاً قبل أيام قليلة قال فيه إنه بعد هذا القرار بإمكان أي يهودي أن يأتي إلى إسرائيل كإسرائيلي مثله مثل الإسرائيليين الذين جاءوا إليها في عام 1948 وبعد ذلك وبالطبع فإنه يعني هضبة الجولان تحديداً بهذا التصريح التي غدت تعتبر أراضي إسرائيلية بعد هذا الاعتراف الشائن باتفاقية عام 1974 الآنفة الذكر اتفاقية حدود دولية دائمة بين الدولة الصهيونية وسوريا.

ولذلك وفي النهاية فإن الواضح أيضاً هو أن إصرار الإسرائيليين على مغادرة الإيرانيين لسوريا يعني تفادي أي محاولات شغب قد يقومون بها لاحقاً ضد اتفاق عام 1974 الذي أصبحت حدود الجولان بموجبه حدوداً إسرائيلية يعترف بها من قبل الروس قبل نظام بشار الأسد، وأيضاً.. أيضاً ربما يأتي ذلك انسجاماً مع هذا الاستهداف الأميركي لإيران وعلى أساس الاعتقاد الذي يلامس اليقين بأن مغادرة إيران لهذا البلد العربي ستعني وتلقائياً مغادرتهم للعراق ولبنان واليمن وهذه المنطقة كلها والانكماش داخل حدودها «القديمة» التي أصبحت سياجاً لكل هذه الاضطرابات الهائلة التي باتت تضرب هذا البلد بكل مدنه وكل قراه وكل مناطق أعرافه ومذاهبه الكثيرة والمتعددة.

اقرأ المزيد
٨ أغسطس ٢٠١٨
العقوبات ضد إيران مختلفة وقاتلة

كثير من الغموض يخيّم على مصير مناطق كثيرة في الشمال السوري الممتد على أربع محافظات، إدلب وحلب وحماة واللاذقية، لا سيما بعد سيناريو درعا وتخلي واشنطن العلني عن دعم المعارضة في الجنوب السوري، بعد أن كانت طرفاً ضامناً في اتفاق التهدئة هناك، إلا أن مستقبل إدلب بات يتصدر معظم التصريحات السياسية والإعلامية، بالإضافة إلى تحذيراتٍ من مختلف الأطراف بشأن الكارثة الإنسانية التي تتربص بالمدينة، في حال شن أي هجوم عسكري عليها.

يعيش في إدلب اليوم قرابة أربعة ملايين نسمة، ونصفهم ممن هجروا إليها من مدن ومحافظات سورية أخرى، الأمر الذي يجعل أي عملية عسكرية على المدينة كارثية من الناحية الإنسانية، كما أنها ستضع علاقات وتفاهمات أنقرة - موسكو على المحكّ، وتدفع محادثات أستانة الخماسية نحو المجهول.

ولعل أبرز تعقيدات شن عملية عسكرية واسعة على إدلب تكمن في المساحة الشاسعة للمحافظة، وامتلاك المعارضة هناك مقاتلين كثيرين، وكميات ضخمة من السلاح الثقيل، وتعزّزت قوتها أكثر، بعد نزوح آلاف المقاتلين إليها من مناطق كانت تحت سيطرة المعارضة سابقاً، وهو الشيء الذي يجعل أي هجوم عسكري عليها باهظ الثمن للطرف المهاجم.

لا يمكن تجاهل حقيقة أن أكثر من سيناريو ينتظر إدلب والمعارضة التي حشرت فيها، من بينها السيناريو العسكري، وقد يساهم تعقيد حالة إدلب، في دفع الأطراف الأخرى إلى تجزئة الملف  وقضم المناطق المحيطة بشكل تدريجي، بعضها عسكري، وبعضها الآخر عبر تسوياتٍ، وربما تبادل في المناطق. وبكلام آخر، سيكون هناك سيناريو مزيج للمحافظة (غير مستبعد أن يتضمن أيضاً صفقات) بين القوى صاحبة النفوذ الحقيقي، في إطار نظرة أوسع للمرحلة التالية من الصراع في سورية وعليها، وذلك كله في حال لم تتمكن تركيا، في فترة زمنية باتت قصيرة، من التعامل، بشكل ناعم وسريع، مع المنظمات الموجودة هناك، والمصنفة على قوائم الإرهاب.

الواضح أن أنقرة استشعرت الخطر الذي يحيق بإدلب، وبعض مناطق الشمال، واتصال الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، قبل أيام، بنظيره الروسي، فلاديمير بوتين، وإشارته إلى أن تقدُّم قوات النظام السوري نحو الشمال، بشكل مماثل لما حصل في الجنوب، يعني تدمير جوهر اتفاق أستانة، لم يكن سوى خطوة استباقية، في ظل التركيز الإعلامي الكبير على مصير الشمال السوري، وفي ضوء التقارير التي تعلن محافظة إدلب وجهة عسكرية مقبلة .

لا يرضي الوضع في إدلب اليوم وانتشار المنظمات المصنفة على قوائم الإرهاب تركيا، لكن ما تخشاه هو وقوع كارثة إنسانية هناك، بذريعة وجود تلك المنظمات، خصوصا بعد حشر كل أصناف المعارضة فيها، بالإضافة إلى كل الرافضين أي تسوياتٍ وتهجيرهم إلى إدلب من باقي المناطق والمدن السورية. وبالتأكيد العواصم الأوروبية الفاعلة أقرب إلى تسوية بإشراف تركي، حتى لا تشهد المنطقة موجة نزوحٍ جديدة، على غرار ما حصل في العام 2015، إلا أن هناك صعوبة كبيرة أمام المهمة التركية، وخصوصا في ما يتعلق بمصير عناصر هيئة تحرير الشام الأجانب.

ولا يخفى أن المعارضة السورية لم تعد تتحكم باتجاه الأوضاع داخل سورية، منذ ظهور التنظيمات الإرهابية، المتطرّفة منها والانفصالية، وسيطرتها على مناطق واسعة في الجغرافيا السورية، وهو ما جعل الأولويات تتغيّر لدى القوى العظمى والإقليمية في تعاملها مع الحالة السورية.

ويكتنف الغموض مصير إدلب تحديدا، لا سيما بعد جمع مجموعات وفصائل عسكرية كثيرة، مختلفة المشارب والتوجهات فيها، بالإضافة إلى وجود المنظمات المصنّفة على قوائم الإرهاب. وسبب الغموض عدة أمور، أبرزها أن تلك الفصائل التي فشلت بالتعامل في إدارة مناطقها، وفهم توجهات القوى الدولية والإقليمية الفاعلة على الأرض السورية، وتمسّكت بتفرقها، فحالها بالتأكيد لن يكون أفضل في إدلب، وستقبل هناك بالشروط التي كانت مرفوضة بالنسبة لها في مناطقها، والهدوء النسبي الذي تعيشه المدينة اليوم مرحلي.

لم يعد سرّا أن إعلان إدلب منطقة وقف إطلاق نار شامل مرتبط بإعلانها خالية من أي وجودٍ لقوى مصنّفة إرهابية، فكل طرف دولي سيجعل من المنظمات المصنفة إرهابية في إدلب هدفا له، ويؤكد المشهد اليوم على أرض إدلب أن الوقت مبكر على إعلانها منطقة آمنة، لا سيما أن تركيا لم تظهر أي توجهات سياسية أو عسكرية جديدة للتعامل مع الوضع في إدلب، حيث فوضى السلاح.

ويعزّز الاعتقاد بأن إدلب باتت في مرمى النيران ما تم تنفيذه سابقاً بدعم روسيا من شن عمليات عسكرية انتهت بالسيطرة على حلب، مرورا بالغوطة الشرقية، وصولا إلى الجنوب السوري، بعد أن عقدت تفاهمات مع الولايات المتحدة والأردن وإسرائيل انتهت بوصول قوات النظام إلى الحدود الجنوبية لسورية، للمرة الأولى منذ ستة أعوام.

يبقى القول إنه لا يمكن تجاهل السلاسة والسرعة التي تم فيها تنفيذ أو استكمال تنفيذ اتفاق سابق لإفراغ بلدتي كفريا الفوعة، وتوقيت هذه العملية الذي يتزامن مع رسم مرحلة جديدة من عمر الصراع في سورية وعليها، وملامحها الواضحة "ظاهريا" بانتصار فريق روسيا وإيران والنظام، ما يجعل غضّ الطرف الروسي عن استكمال عملية الإخلاء يثير تساؤلاتٍ كثيرة بشأن ما ينتظر الشمال السوري خصوصا، وخريطة سورية بشكل عام، ويجعل كل الخيارات المتناقضة مطروحة في الوقت نفسه، من سيناريو عسكري شامل إلى صفقة كاملة المعالم.

اقرأ المزيد
٨ أغسطس ٢٠١٨
إعجازا السلالة الأسديّة

في الفترة المقبلة، والمقبلة سريعاً، سوف نقرأ أو نسمع تنويعات كثيرة على هذه العبارة:

«ألقى فضيلة الشيخ الدكتور محمّد عبدالستّار السيّد، وزير الأوقاف، مساء أمس، محاضرة كبيرة في حشد من السادة العلماء بعنوان: ضوابط وقواعد تفسير القرآن الكريم تفسيراً معاصراً (التفسير الجامع نموذجاً) وفق المرتكزات الفكريّة للسيّد الرئيس بشّار الأسد في الإصلاح الدينيّ. وتأتي هذه المحاضرة ضمن فاعليّات الدورة السادسة والعشرين لجائزة الشيخ أحمد كفتارو لحفظ القرآن الكريم وتحفيظه».

استدعاء «المرتكزات الفكريّة» للسيّد الرئيس لا يُغني عن استدعاء «المرتكزات المبدئيّة» لوالده، السيّد الرئيس أيضاً. لهذا الغرض، مثلاً، بدأتْ قناة «الميادين» تعرض مسلسلاً سمته «الرجل الذي لم يوقّع» (قاصدةً التوقيع على سلام مع إسرائيل)، حيث تُرك تاريخ سوريّة والمنطقة في عهدة السيّدة بثينة شعبان.

بطبيعة الحال هناك تفاصيل كثيرة لا تحتمل هذه العجالة أكثر من إشارة عابرة إليها، كأنْ يكون النظام السوريّ اليوم مهتمّاً بمخاطبة الحساسيّات السنّيّة، الدينيّة والقوميّة، بالطريقة التي يظنّها مفيدة، وأن يكون الشيخ كفتارو هو من نُصّب مفتياً عامّاً ورئيساً لمجلس الإفتاء عام 1964، بُعيد وصول حزب البعث إلى السلطة، إثر إسقاط الشيخ حسن الحبنّكة المنافس على المنصب. وعام 1964، للتذكير، كانت تستدعي غطاء دينيّاً قويّاً لأفعال كاقتحام حماة الأوّل وهدم جامع السلطان فيها. أمّا عدم التوقيع، الميدانيّ – الشعبانيّ، فأعطى «العدوّ الإسرائيليّ» ما لم يُعطه أيّ توقيع: الجولان كانت أهدأ الجبهات ما بين 1974 و2011. الهدوء هذا استدعى تأجيج الحروب الأهليّة في عموم المشرق العربيّ، وأمّن للأسد سلطة تحترف قهر مجتمعها وإخضاعه.

الشيء المهمّ هنا، وهو الجديد نسبيّاً، هو تجديد ذاك الميل (الذي قطعته سنوات الثورة ثمّ الحرب الأهليّة) المعهود: إسباغ الإعجاز على السلالة الأسديّة، وبالتالي تمليكها «مرتكزات» فكريّة أو سياسيّة لا يحلم الآخرون، كلّ الآخرين، بامتلاكها.

لكنْ لنلاحظ أنّ الإعجاز الأسديّ مرّ بطورين وانطوى على معنيين:

مع حافظ خصوصاً، وقبل الثورة عموماً، كان واحداً من التعابير المضخّمة لعبادة الشخصيّة التي تستعرضها، بقدر ما تستدعيها، سلطة بالغة العتوّ والفيضان. هذا سبق أن رأيناه في الصفات الخارقة التي نُسبت لستالين وماو تسي تونغ وكيم إيل سونغ وصدّام حسين، وهم يتربّعون في ذروة البأس والتمكّن.

مع بشّار خصوصاً، وبعد الثورة عموماً، بات الإعجاز تمكيناً يعوّض نقص التمكّن: صحيح أنّ بشّار انتصر، إلا أنّه لم ينتصر بقوّته الذاتيّة. لقد تدخّلت قوى هائلة، إقليميّة ودوليّة، لجعله ينتصر. إذاً الإعجاز مطلوب بوصفه الأداة التي تجعل الخيال، لا الواقع، مسرح الفعل. إنّه إعلان عجز لا إعلان قدرة.وفي أنظمة كهذه تقوم على الهيبة المفروضة بالقوّة، سيكون صعباً التعامل بجدّ مع تلك الهيبة بعد كلّ الوحل الذي لُطّخت به أسماءً وصوراً وتماثيل. هكذا تتعاظم الحاجة إلى الإعجاز الذي سيغدو، مع مرور الزمن، أكثر فأكثر غرائبيّة وأقلّ فأقلّ قابليّة للتصديق!

لقد كان إعجاز حافظ في حياته، وفي عداده «انتصاراته» في تشرين وفي عدم التوقيع، سبباً للغضب الممزوج بالخوف. إعجاز بشّار، ومعه إعجاز حافظ في الزمن البشّاري، هو سبب لقهقهة طويلة لا يمنعها ألم السوريّين العميق.

اقرأ المزيد
٨ أغسطس ٢٠١٨
حوار أميركي ـ إيراني

لم يعد الحوار الأميركي ـ الإيراني محظوراً. في الواقع، لم يكن كذلك إطلاقاً. تحالف الثمانينيات أو "إيران كونترا" بين إيران والولايات المتحدة ضد العراق مؤرّخ تاريخياً، وتصادمهما في أحيان كثيرة لم يؤدِّ لا إلى إسقاط النظام الإيراني، ولا إلى إطاحة "الاستكبار الأميركي". لكن الأميركيين دائماً ما كانوا متقدّمين بخطوة على الإيرانيين، وحالياً باتوا يتقدّمون بخطوات في سياق العقوبات الأميركية المفروضة على إيران. لم تعد إيران في موقع قوي، وحتى أنها باتت أضعف من ذي قبل. في سورية، تراجعت إلى مسافة 85 كيلومتراً عن الحدود السورية مع فلسطين المحتلة. في اليمن، تصارع للحفاظ، عبر حلفائها الحوثيين، على منطقة الحديدة. في العراق، لم تفز بما كانت تظن أنها ستفوز به في الانتخابات العراقية، كما أن تظاهرات الجنوب أثّرت سلباً عليها.

قبلت إيران الحوار مع الأميركيين، فموقف المساعد الأول للشؤون الدولية لرئيس البرلمان الإيراني، حسين أمير عبد اللهيان، واضحٌ في هذا الصدد، إذ ذكر في تغريدة على "تويتر" أن "التفاوض مع الولايات المتحدة لم يكن محرّماً أو محظوراً أبداً"، معتبراً أن "المشكلة ليست بالحوار، وإنما بالسلوك العدائي، وبانتهاك التعهدات، وبالجرائم المرتكبة". كما أن المتحدث باسم لجنة الأمن القومي والسياسات الخارجية في البرلمان، علي نجفي خوشرودي، اعتبر أنه "إذا كانت المفاوضات ضمن إطار يحفظ العزّة والمصلحة والحكمة، التي يؤكد عليها المرشد الأعلى (علي خامنئي)، وإذا ما قدّمت واشنطن اعتذاراً، ووضعت سياساتها العدائية جانباً، وعادت إلى الاتفاق النووي، والتزمت ببنوده، فمن الممكن القبول بالحوار".

تريد إيران الحوار، حتى أنها مرّرت رسالة سورية في هذا السياق، فقد أكد المتحدث باسم الخارجية الإيرانية، بهرام قاسمي، يوم السبت، أنّ "وجود المستشارين الإيرانيين في سورية يأتي بناءً على طلب من حكومة دمشق، وسيبقون هناك ما دامت هذه الحكومة تريد ذلك"، قائلاً إنه "حين تشعر طهران بأن الوضع في سورية وصل إلى استقرار نسبي، وأن الحرب على الإرهاب انتهت، وأن الإنجازات تحققت، فمن الممكن حينها تقليص الوجود في سورية، أو الخروج منها". وجاءت هذه التصريحات خلال لقاء خاص أجراه قاسمي مع موقع "بانا" الإيراني. وأضاف "أن تدخل إيران في سورية لم يأت بناءً على طلب دولةٍ أخرى، فلن نتركها وفقاً لمطلب دولة ثانية"، في إشارة منه إلى التطوّرات الأخيرة المتعلقة بالحديث الروسي الإسرائيلي عن الوجود الإيراني في الجنوب السوري.

وبالإضافة إلى قرار الحوثيين وقف العمليات العسكرية في منطقة الحديدة أخيراً، فإن الإيرانيين أرادوا إظهار قبولهم بالحوار مع الأميركيين، على وقع تظاهراتٍ اجتماعيةٍ في طهران، ومشهد وأصفهان، في ظلّ التدهور الاقتصادي غير المسبوق، والتراجع المقلق للعملة المحلية، مع بدء حزمة العقوبات الأميركية الجديدة اليوم الاثنين. تخشى إيران من أن التأخر في الحوار سيجعلها في موقعٍ أضعف تجاه الأميركيين، والتعويل على أوروبا والصين وروسيا لإنجاد اقتصادهم، والوقوف بوجه الأميركي أمر غير مطروح. الجميع تقريباً، لا يريد إيران قوية. يريدها دولة أخرى وغير قطبية، على الرغم من موقعها الجيوبوليتيكي على طريق الحرير. لا أحد يرغب في رؤية مجموعة من الجنود المؤمنين بشعار "الموت لأميركا" يحكمون ضمن عالم متعدّد الأقطاب. كانت كوريا الشمالية عقبة وانتهى الأمر. ولن يختلف مصير إيران عن مصير كوريا الشمالية.

أمام إيران عملياً ثلاثة أشهر لبدء الحوار مع الأميركي، قبل فرض العقوبات الجديدة في نوفمبر/ تشرين الثاني، والمرتبطة بالنفط، وهو ما سيؤلم الاقتصاد الإيراني كثيراً. لا يريد الأميركيون إسقاط النظام. هم واضحون في هذا الصدد. لا أحد يرغب في رؤية جحافل من اللاجئين الإيرانيين إلى تركيا وأوروبا، لكن الأميركي لن يرغب بأقلّ من أن تكون إيران جزءاً من حيّزه الجغرافي الواسع، وتطلع إلى وسط آسيا، لا عدواً له.

اقرأ المزيد
٨ أغسطس ٢٠١٨
الموت سيد من دمشق

لم يخطر في بالي سوى بيت شعر بول سيلان هذا، عندما قرأت أخبار توزيع النظام السوري، بكل برود واستهتار ويقين عميق بالإفلات من العقاب، أسماء مئات، إن لم يكن آلاف الشبان الذين قضوا في سجونه على مدار سني الثورة: الموت سيد من ألمانيا عينُه زرقاء.

حضور الشعريِّ في حالةٍ كثيفة الألم كهذه حتمي على ما يبدو. فماذا يمكن أن يقال حيال هذه الميتات المجهولة، حيال كل هذه الأسماء التي كانت لها وجوه وسير حياة يومية معلومة، وصارت أرقاماً أو تبليغات رسمية؟

يتحدّثون عن آلاف الأسماء التي انقطع خبرها وصارت أثراً بعد عين! يتحدّثون عن مجزرة عملت في صمت مطبق، وراء القضبان، وجدران الإسمنت، وفي الأقبية العميقة، سنين عديدة.

كيف يمكن لخبرٍ كهذا أن يثير ما يظنّ النشطاء السوريون أن يثيره في فضاء العالم المشبع بالنفاق، المستسلم، بلا أدنى مقاومة، لإرادة "الأيدي الإلهية" التي ترتفع، كقضاءٍ لا رادَّ له، تحت قبة مجلس الأمن الدولي، لتحمي الجريمة باعتبارها حقاً سيادياً؟ ما لا نلاحظه، أو نفعل ونعجز عن حرف مساره، أن كثرة الموت تزري بالموت، وتجعله أقل، وأن التكرار لا يعني مزيداً من تركيز الحقائق. كلا. الأمر مقلوب. وهذا ما يعرفه المجرمون، فالمثل السائر يقول إن سرقتَ فاسرق جملاً. إن قتلت فكثِّر، لأن فعلتك، يستحيل، حينها، تعدادُها وحصرها، فالدم يتوزّع في جهاتٍ ومسارب، ولا يعود له مُطالب. من يطالب بدم مجزرة؟ من في وسعه تبيَن وجوه الراقدين في قبور جماعية، وردَّ حقوقهم الفردية؟

لكي يكون الموت موتاً، وقابلاً لرد فعل إنساني وقانوني، عليه أن يكون فردياً، ومتعيّناً. وهذا يعني تحويل أسماء القتلى إلى وجوه وقصص ملموسة. غير ذلك ليس للموت كلفة، وهذا ما يعرفه نظام عائلة الأسد، ومارسه ونجح فيه، وأفلت كل مرةٍ من دفع الثمن. يعرف هذا النظام أنه لكي لا يكون لفعلته حساب عليه أن يدفعها خارج المتوقع والمتعارف عليه، حتى لتصبح عمل كائنات قادمةٍ من الفضاء الخارجي، لا يمكن التكهن بأفعالها، لأن لا مرجع لها، في تجاربنا وأذهاننا، ولا قياس.

التقط بعض النشطاء السوريين بعداً غير معهودٍ في سياسة السجن والإخفاء والتعذيب وهدر الكرامة البشرية التي سنَّها نظام عائلة الأسد دستوراً مُعلناً له، فإذا كانت صور العقاب وأشكاله التي تطاول المعترضين على النظام (أيِّ نظام في العالم حتى عند وحشيات القرن العشرين الثلاث: النازية والفاشية والستالينية) تبقى، غالباً، في حيز وسائل الإخضاع والسيطرة. بيد أن نظام عائلة الأسد أحدث تحوّلاً فريداً على هذه "السياسة" لفهم ما لا يُفهم. فكيف يمكن فهم إرساله برقيات، رسائل، أو نصوص هاتفية لآلاف العائلات، تفيدها بموت أبنائها وأقاربها المباشرين في السجون: سكتات قلبية؟ لكن ليس تحت التعذيب؟!

لقد بيّنت الحرب في سورية أن نظام عائلة الأسد ليس سوى جهاز أمني كبير بمئة جسد ووجه. كادت الحرب تقتلع النظام من جذوره، وخرجت معظم مناطق سورية من سيطرته، وكادت البلاد تتفكّك أجزاء، لكنَّ شيئاً واحداً ظل يعمل في كفاءةٍ طول الوقت: جهازه الأمني. هذا هو سرّ النظام السوري (الأسدي بالأحرى) ولا شيء غيره. ولا ضرورة للتذكير أن "حلفاءه" الذين مكَّنوه من "البقاء" حتى الآن لم يرهق كاهلهم على هذا الصعيد، فهنا اختصاصه، وبهذا هو قادرٌ على تقديم خدمةٍ حتى لرجل "كي جي بي" في موسكو. عندما تنكشف "الدولة" عن لا شيء سوى جهاز أمني، فهذا يعني أننا كنّا دائماً حيال عصابة وفرق موت صنعت "دولة" من عظام معارضيها. يعود صوت بول سيلان الفردي، ما بعد المحرقة، ليطلّ على دخان المحرقة السورية، ويتقمّصني: الموت سيدٌ من دمشق، مُكمَّمٌ بقناع غاز، على صدره تشعُّ محاجر القتلى بأضواء الفسفور.

اقرأ المزيد

مقالات

عرض المزيد >
● مقالات رأي
١٦ يناير ٢٠٢٥
من "الجـ ـولاني" إلى "الشرع" .. تحوّلاتٌ كثيرة وقائدٌ واحد
أحمد أبازيد كاتب سوري
● مقالات رأي
٩ يناير ٢٠٢٥
في معركة الكلمة والهوية ... فكرة "الناشط الإعلامي الثوري" في مواجهة "المــكوعيـن"
Ahmed Elreslan (أحمد نور)
● مقالات رأي
٨ يناير ٢٠٢٥
عن «الشرعية» في مرحلة التحول السوري إعادة تشكيل السلطة في مرحلة ما بعد الأسد
مقال بقلم: نور الخطيب
● مقالات رأي
٨ ديسمبر ٢٠٢٤
لم يكن حلماً بل هدفاً راسخاً .. ثورتنا مستمرة لصون مكتسباتها وبناء سوريا الحرة
Ahmed Elreslan  (أحمد نور)
● مقالات رأي
٦ ديسمبر ٢٠٢٤
حتى لاتضيع مكاسب ثورتنا ... رسالتي إلى أحرار سوريا عامة 
Ahmed Elreslan  (أحمد نور)
● مقالات رأي
١٣ سبتمبر ٢٠٢٤
"إدلب الخضراء"... "ثورة لكل السوريين" بكل أطيافهم لا مشاريع "أحمد زيدان" الإقصائية
ولاء زيدان
● مقالات رأي
٣٠ يوليو ٢٠٢٤
التطبيع التركي مع نظام الأسد وتداعياته على الثورة والشعب السوري 
المحامي عبد الناصر حوشان