يترنح الحوار الروسي - الأمريكي على جهاز الانعاش كما وصف المتحدث باسم الخارجية الأمريكية ، بعد أكثر من عشرة أيام على انهيار الهدنة الأخيرة ، والتي أفضت حتى اللحظة إلى ما يفوق الـ ٥٠٠ شهيد و آلاف الجرحى في حلب وحدها، ووسط هذا الترنح خرج جون كيري يآساً من العملية برمتها ، و مستسلماً بشكل يشي بأن لم يعد بالامكان أكثر مما كان .
فبعد الاتصال الأخير ، مساء الجمعة ، بعد عرابي الاتفاق جون كيري و سيرغي لافروف ، خرج كالعادة بيانين متناقضين يفتحان الآفاق باسهاب أمام جملة متوالية من التحليلات التي لاتصل إلى معنى دقيق لما تم ، و لكنها تصب في زيادة الغموض في العلاقة “الغير نظيفة تاريخياً” بين الطرفين فيما يتعلق بالملف السوري.
فبيان الخارجية الروسية كان كالعادة ابداء لرغبة في الحل ، و استعداد للولوج به ، شريطة التي تبقى الطائرات تحوم في الأجواء السورية و تقتل و تجرح و تدمر ما تشاء و أينما تشاء دون أي توقف ، و في الوقت ذاته تضع روسيا سلسلة من الاحجيات كفصل المعارضة و تصنيفها و ادلاء بالمعلومات الدقيقة عنها ، وصولاً لما وصفه بيان الخارجية الروسية بـ”التطبيع في حلب”، تطبيعاً لم يوضحه البيان ، و لكن المجريات تشير إلى صفقة جديدة تزيد من رصيد حلفاء روسيا على الأرض.
أمريكا المنقسمة على نفسها و داخلها خرجت بتصريح يفهم منه اليأس و اليقين أن لا حل سياسي ، و إنما الفصل ميداني بحت ، و لكنها كما عادتها تلجئ إلى الكلام عن النيات و التأكيدات على استمرارية الأبواب المفتوحة أمام المفاوضات ، و لو تمتلك يقينا تام بأنها تحاول عبثاً في احياء جسد متعفن بعد أن ملّ من الضرب المتكرر .
كلام المتحدث باسم وزارة الخارجية الأمريكية مارك تونر عن أن الولايات المتحدة الأمريكية "على وشك" تعليق الاتصالات الثنائية مع روسيا بشأن سوريا، في اشارة إلى أن هذا لن يغلق ، أتبعها بتوصيف الحالة بأنها “بغرفة الانعاش” بأن الموت قد يلحق به بأي لحظة ، و إن لم يلحق لن يكون بحال جيدة للاستمرار.
و بعيداً عن المعلن و ما يرشح للعوام ، كان في حديث جون كيري لمجموعة “صغيرة” من السوريين ، تأكيد دون مواربة أن الامور انهارت ، و أن صقور “الحل السياسي” في ادارة باراك أوباما “المنتيهة” قد فقدوا أي دليل على صوابية مسيرتهم طوال السنوات الماضية ، و على وجه الخصوص العام المنصرم الذي حمل في طياته العدوان الروسي على الشعب السوري.
و لكن يأس كيري و احباطه انسحب على مختلف القطاعات وصولاً إلى العسكرة ، معتبراً في جزء من حديثة ، الذي سربته نيورك تايمز أمس ، أنه وسيلة للتعبير عن الغضب الأمريكي من الخيانات الروسية المتتالية ، و لكن كما قلت اليأس أصاب كل مفاصل الاداراة الأمريكية ، التي كانت تمني النفس بأن تخرج من الحكم عبر وضع الأمور على سكة الحل المؤقت ، ولكنها وضعتها على سكة الموت الموسع، و هذا ما بدى من حديث كيري أن "أي جهود أمريكية أخرى لتسليح المعارضة أو الانضمام للقتال قد تؤدي لنتائج عكسية.”، هذه النتائج دفعته للطلب من المعارضة الرضوخ و الدخول في حكومة انتقالية كما يرغب الأسد كـ”حل”.
بين جاهزية التطبيع الروسية و جهاز الانعاش الأمريكي يترنح مئات آلاف السوريين في حلب و الغوطة الشرقية ، التي دخلت في المقتلة اعتباراً من الأمس مع استشهاد قرابة ٢٠ مدنياً في مشهد مشابه لبدايات ماحدث في حلب، ليكون الجرح الغائر في مكانيين و يؤلمان أكثر و يلزمان الجميع بأحد الخيارين إما الموت قصفاً أو الموت تحت حكم الأسد حصاراً أو اعتقالاً.
لم تعد القضية السورية منحصرة بثورة عارمة ضد الاستبداد، فلابد من تحولها إلى حركة مقاومة شعبية للتدخل الروسي والإيراني والمتعدد الجنسيات، ومع نهاية شهر سبتمبر 2016 يكون قد مضى عام على التدخل الروسي المباشر، فضلاً عن الاحتلال الإيراني الذي أرسل قواته الطائفية (اللبنانية) تمهيداً للاحتلال، ثم أضاف إليها عدة مليشيات من العراق ومن مرتزقة جاؤوا من مختلف الجنسيات، كما وقعت سوريا تحت احتلال آخر من قبل تنظيم «داعش» الذي أعلن «خلافة» مزعومة على مناطق واسعة في الشرق السوري فضلاً عن مناطق عراقية! ولم تكن التنظيمات المتطرفة أقل خطراً، فقد أسهمت في تشويه صورة الثورة السورية التي تحولت في كثير من ملامحها إلى صراع دموي غابت عنه شعارات الحرية والكرامة، وبات الشعب كله يعرف أن النظام دفع إلى حضور هذه التنظيمات المتطرفة ومكنتها بعض الدول بالتمويل والتسليح لتساعد النظام في رسم المشهد على أنه صراع بين السلطة العلمانية وبين الإرهاب الديني! وربما كان السماح لـ«حزب الله» بدخول سوريا براياته الطائفية نوعاً من التحريض لظهور تنظيمات مشابهة ترفع شعارات دينية مواجهة. وكادت المطالب الشعبية تضيع بين صراع الرايات المذهبية، وهذا ما دعانا في الهيئة العليا للمفاوضات إلى تحديد واضح لرؤية الشعب في بيان الرياض، وفيما قدمناه حول الإطار التنفيذي للمرحلة الانتقالية.
واليوم بعد مرور عام على التدخل الروسي في سوريا يقف العالم عاجزاً أمام إصرار الروس على سحق المعارضة السورية، تحت ذريعة مكافحة الإرهاب، وهو يرى أن القصف يطال المدنيين بخاصة، والصور التي يتناقلها الإعلام العالمي تكشف كون الأطفال هم الضحايا الأكثر تعرضاً للقتل، وأن ادعاء روسيا أنها تقصف إرهابيين هو مجرد تغطية على مشروعها في سحق المعارضة وتهجير السكان، وكل من عارض النظام.
وما حدث في داريا والمعضمية والوعر والغوطة وما يحدث في العديد من المناطق المحاصرة وأهمها اليوم حلب التي يتعرض فيها أكثر من 600 ألف شخص لخطر الموت الجماعي، عبر تصعيد القصف واستخدام أحدث أنواع أسلحة التدمير، كله يتم على مرأى العالم، ويخفق مجلس الأمن في إيقافه، بل يخفق حتى في إدخال المساعدات التي قصفت قوافلها الأممية في تحد للإنسانية كلها.
وما تزال روسيا تدعي أنها راعية للحل السياسي، وهي التي عطلت هذا الحل، ومنعت مجلس الأمن من تنفيذ قراراته، وبات الأميركان يتراشقون معها التصريحات حول خفايا الاتفاق بين كيري ولافروف، بينما الطائرات ترشق المدنيين بالقنابل ويموت المئات تحت الأنقاض، وتهدم المشافي كي لا يجد الجرحى فرصة للعلاج.
ومع إصرار روسيا على تحويل تدخلها في سوريا إلى انخراط طويل الأمد، عبر إنشاء المزيد من القواعد العسكرية والمطارات، وعبر نيابتها عن السلطة الحاكمة على رغم ادعائها أنها تراها شرعية، أجد من الضروري أن تتحول الثورة السورية إلى حركة تحرير وطني، وينبغي أن ينخرط فيها السوريون جميعاً.
لقد أجرت وفود عديدة من المعارضة الوطنية حوارات مع قادة روسيا، ولم يرفض أحد وجود مصالح متبادلة بين البلدين، وكانت المعارضة حريصة على ألا تكون في مواجهة عدائية مع روسيا، وأن يبقى هدفها تحقيق الحرية والكرامة والانتقال من الديكتاتورية إلى الديموقراطية وإقامة علاقات متوازنة مع كل دول العالم، ولكن روسيا أصرت على مواجهة الشعب السوري.
ومع انسداد الأفق السياسي ودخول الولايات المتحدة في سبات ما قبل الانتخابات الرئاسية فيها، وعجز الاتحاد الأوروبي عن فعل شيء خارج إرادة روسيا وأميركا، ومنع الولايات المتحدة حصول المعارضة المسلحة على مضادات للطيران الروسي، فإن المدنيين في الشمال السوري سيتعرضون لاستهداف ممنهج، والذريعة أن الإرهابيين يعيشون بينهم، وملايين الأطفال والنساء والجرحى والمعوقين والعجزة سيواجهون ما هو أخطر من الجحيم، ولن يجدوا ملجأً يأوون إليه، والروس يطلبون منهم أن يخرجوا من حلب ومن إدلب، وهم لا يعرفون إلى أين يذهبون، والطائرات تلاحقهم بحممها.
إننا نطالب العالم كله باتخاذ مواقف حاسمة وسريعة لمنع إيران والنظام وداعميه ومليشياته من ارتكاب المزيد من الجرائم الكبرى التي يندى لها جبين الإنسانية.
لم يعد هناك من صديق أو من حليف للولايات المتحدة الأميركية. في مجلس الأمن استمرت «المهزلة» التي لم يعد يصدقها أحد. سامنثا باور السفيرة الأميركية لدى الأمم المتحدة كادت تبكي، بعد ظهر الأحد الماضي، وهي تعدد أخطاء روسيا. ثم انسحبت هي وسفيرا فرنسا وبريطانيا عندما بدأ المندوب السوري بشار الجعفري يلقي كلمته.
في كلمتها، اتهمت الروس بالكذب. كان هذا توجيهًا من وزارة الخارجية الأميركية، فحسب مسؤول فيها فإن صبر جون كيري وزير الخارجية الأميركي قد نفد، بعد تعرُّض قافلة المساعدات الدولية لـ«القصف الروسي». يوم الاثنين الماضي، قال البيت الأبيض إن الرئيس باراك أوباما قلق بشأن الوضع في سوريا، ربما ليسمح لكيري المتفائل بأن يستمر في محاولاته تحقيق بعض النتائج الإيجابية من المحادثات مع الروس. لكن مشكلة كيري أنه ينطلق من موقع ضعف، إذ إن الرئيس أوباما كان حاسمًا في رفضه أن يلتزم بإرسال قوات برية أميركية أو أسلحة متطورة إلى المعارضة السورية، بحيث تستطيع التصدي للهجمات العسكرية الروسية في سوريا، أو مواجهة قوات نظام الأسد. يعرف كيري أن نظام الأسد ولأكثر من 5 سنوات يقوم بهجوم منهجي ضد كل المعارضين السوريين، سواء كانوا متشددين، أو معتدلين يسعون إلى إزاحة حكمه الاستبدادي.
وفي حديث إلى «سي إن إن»، أصرّت بثينة شعبان مستشارة الأسد على وصف كل المعارضة بالإرهابيين. نعود إلى مسألة اتهام السفيرة سامنثا باور الروس بالكذب، يقول مصدر في الإدارة إن كيري يعرف أن الروس «حفنة من الكذابين» حتى قبل الهجوم على قافلة المساعدات المتوجهة إلى حلب، حيث اتهمت موسكو كل الأطراف الأخرى، باستثناء طيرانها، فقد شعر المسؤولون الأميركيون بالذعر من الكذب الروسي الصارخ. قبل أسابيع قال مسؤول في وزارة الخارجية الأميركية: «عندما نقول للروس إن لدينا أدلة على أن طائراتهم العسكرية تستهدف تجمعات المدنيين، يكون جوابهم: كلا، إن الغارات يقوم بها الطيران الأميركي». ثم أضاف: «كيف يمكن أن نتعامل مع هذا النوع من الناس؟!».
بالنسبة إلى الروس، فإنهم يستغلون عدم قدرة الولايات المتحدة على فصل حلفائها في المعارضة عن المتشددين. ونُقل عن مسؤول روسي: «إن الأميركيين لا يعرفون مَن يدعمون، وليس لديهم السيطرة على المقاتلين». لكن المؤكد أن روسيا تشعر بالضغط بعد الهجوم على قافلة المساعدات، إلى درجة أنها اتهمت أصحاب «الخوذات البيضاء» بأنهم وراء الهجوم. وهؤلاء مجموعة من المتطوعين لإنقاذ الضحايا في حلب، وتم ترشيحهم لجائزة نوبل. كما أن الروس اتهموا الطائرات الأميركية من دون طيار، وهاجموا مصداقية المصادر الأميركية، وقالوا أحيانًا كتبرير، إن الإسلاميين الراديكاليين كانوا جزءًا من قافلة المساعدات، وإنه جرى تفريغ الحمولات في حلب قبل تعرض القافلة للهجوم. يقول المصدر الأميركي: «هذا التخبط الروسي في الاتهامات العشوائية يجعل حتى المتحدثين سابقًا باسم الاتحاد السوفياتي يخجلون».
التخبط الروسي يماثله تخبط في الإدارة. والمستفيد الرئيسي من هذا التخبط كان ولا يزال إيران. عندما دعا كيري في مجلس الأمن إلى وقف الغارات الجوية في سوريا ليتسنى للمساعدات الإنسانية الوصول إلى حلب، كان أول المحتجين والرافضين الرئيس الإيراني حسن روحاني؛ ففي حديث مع شبكة «إن بي سي» الأميركية، عندما سُئل روحاني عن رأيه في هذا الطرح، استفاض في التذكير بأن قوات التحالف قصفت موقعًا للجيش السوري، بمعنى أنه «كان دفاعًا عن (داعش)». وأضاف: «لذلك إذا أوقفنا كل الغارات الجوية، فهذا يعني السماح لـ(داعش) بالاستمرار في القتل الهمجي. إذا أوقفنا الغارات فإن ذلك سيكون لمصلحة الإرهابيين»، عاد المذيع ليسأله: «لكن هل تدعم وقف الغارات الجوية على الأقل لأسبوع واحد أو أسبوعين؟»، رد روحاني: «هذا ليس بالحل لتجنب قصف مثل هذه القافلة (...)».
في مقال بصحيفة «نيويورك تايمز» كتب روجر كوهين: «إن سوريا كانت أسوأ أخطاء أوباما. إنها كارثة لا يمكن أن تستثير أي فخر، وتجاوز (الخط الأحمر) قوّض كلمة أميركا، وقوى الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، كما ثبَّت بشار الأسد في السلطة».
لكن، يبقى أن الجانبين «يكذبان». ولم تكن حقيقية «دموع» سامنثا باور يوم الأحد الماضي، عندما اتهمت الروس بالكذب والوحشية. الكل يتفق على أن إدارة الرئيس أوباما أعطت سوريا والشرق الأوسط لروسيا. وانسحاب السفراء الغربيين من الجلسة لا يعني عدم «موافقتهم» على بقاء الأسد في السلطة. وتجدر الإشارة إلى أنه في مؤتمر صحافي للرئيس أوباما في 18 من ديسمبر (كانون الأول) 2015، قال التالي عن روسيا: «لقد ناقشت تكرارًا منذ 5 سنوات اقتراح الرئيس بوتين، وأعتقد أن بعض الجمهوريين يتبنون الآن الاقتراح نفسه، بأن الأسد ليس سيئًا للغاية، ولنسمح له بأن يمارس الوحشية والقمع قدر ما يستطيع، لكنه على الأقل سوف يبقي على النظام». يضيف الرئيس أوباما: «قلت: انظروا. إن المشكلة في أن محاولة الحفاظ على النظام، عندما تصير الغالبية العظمى في البلاد ضدك، ليست بالأمر الجيد. وها أنا بعد 5 سنوات أثبت صحة رأيي».
هذا كان العام الماضي، لكن يتساءل محدثي: لماذا لم يفرض البيت الأبيض «الخط الأحمر» على النظام السوري في عام 2012؟ ولماذا لم يفعل شيئًا ليوقف الأسد؟ ولماذا لا يفعل شيئًا الآن؟ ويجيب: «بصرف النظر عن التبجح بقتال (داعش)، وتقليص مساحة الأرض التي يسيطر عليها في سوريا والعراق، فإن رفض أوباما التدخل ليس بسبب فشل التدخل الأميركي في العراق، هناك أمر آخر أساسي وحقيقي، هو الصفقة النووية مع إيران. وتفسير ذلك بسيط جدًا؛ لو تدخلت الولايات المتحدة عسكريا في سوريا لما تمت الصفقة مع إيران». يضيف: «في الواقع، إن الدعم الأميركي للتدخل الإيراني في سوريا كان الشرط المسبق للصفقة». ويستعرض محدثي ما قاله أوباما في مؤتمره الصحافي آنذاك (18 ديسمبر 2015) وعن احترامه لـ«الأسهم» الإيرانية في سوريا، قال الرئيس: «أعتقد أن الأسد سوف يضطر للمغادرة من أجل وقف إراقة الدماء (...) لكن الآن، هل هناك طريقة تسمح لنا ببناء جسر يؤدي إلى انتقال سياسي يتيح لحلفاء الأسد، أي الروس والإيرانيين، أن يضمنوا الحفاظ على مصالحهم في سوريا، وأن الأقليات، كالعلويين، لن يتعرضوا لانتقام أو سحق (...)؟ أعتقد أن هذا سيكون مهمًا جدًا».
هذه العبارات تعني ببساطة ترك الأسد حاكمًا من أجل إبقاء الإيرانيين مطمئنين.
في كتابه «حروب إيران» يقول جاي سولومون: «بعث أوباما برسالة إلى المرشد الأعلى علي خامنئي يبلغه فيها بأنه لن يستهدف الأسد»، ويقول في مكان آخر: «أبلغنا مسؤولون في وزارة الدفاع بأنهم قلقون من أن العمليات في سوريا يمكن أن تقوّض المفاوضات النووية مع إيران». يعود محدثي إلى القول: «باختصار فإن الصفقة النووية مع إيران لم تكن لتحديد كمية اليورانيوم المخصب، أو تفتيش المنشآت النووية فقط، بل كانت أيضًا حول الحرب في سوريا، حيث وافقت الولايات المتحدة على عدم التدخل، وسمحت لإيران بأن تحمي (أسهمها) في سوريا بأي وسيلة بشعة تراها مناسبة».
يؤكد أن سياسة أوباما لم تكن تقصيرًا في الرؤية السياسية، ذلك أن الأموال التي تلقتها إيران عبر الصفقة، إضافة إلى مبلغ 1.7 مليار دولار كفدية عن الرهائن الأميركيين، ساعدتها في حربها بسوريا ضد الشعب السوري.
وماذا الآن؟ يقول: «بشكل محدد، يعتبر الأسد ودائرته الخاصة الممر الوحيد لتثبيت نفوذ إيران في سوريا، أما روسيا فترى في الديكتاتور السوري ورقة مساومة في صراعها مع الولايات المتحدة، هي مستعدة للتخلي عنه، إذا وافقت واشنطن على إعادة النظر في موقفها من أوكرانيا والعقوبات الاقتصادية على روسيا».
ينهي: «لا حل قريبًا في الأفق، ولننتظر الرئيس الأميركي المقبل».
من يتحمّل مسؤولية جرائم الإبادة في حلب ومَن يُحاسب عليها؟ أثبتت الجلسات الأخيرة لمجلس الأمن، أن المجتمع الدولي مستعدٌّ لمواصلة التفرّج وإبداء الغضب والتأثّر من دون أن تكون لديه القدرة على لجم الوحشية الروسية، بعدما أمضى أعواماً في تمكين بشار الأسد ونظامه من الإفلات من العقاب. العالم يتعامل مع المحنة السورية على أنها مجرّد مشاهد «درامية»، كما لو أن الأطفال المنتشلين من تحت الأنقاض لا يموتون ولا يروّعون ولا يفقدون عائلاتهم، بل يلعبون أدواراً لاستدرار العطف وامتحان المشاعر، أو تُتخذ مآسيهم وسيلة للتراشق الدولي، بالأحرى الأميركي - الروسي، بالاتهامات لترجيح «أخلاقية» هذا وبربرية ذاك. كانت هناك أيام بنت فيها أميركا «عظمتها» على العنف المطلق، بالسلاح النووي في هيروشيما وبـ «النابالم» في فيتنام والقصف «السجّادي» في أفغانستان والقنابل الثقيلة في العراق، وجاءت أيام استعادة روسيا «عظمتها» السوفياتية بنقل إرث البراميل المتفجّرة من أفغانستان الى سورية كما بتكرار جرائم غروزني في حلب.
ليس في خطاب روسيا، ولا في قنابلها الفوسفورية والعنقودية والارتجاجية، سوى نموذج للإرهاب والتوحّش بأحدث أنواع الأسلحة، واحتضان متماهٍ مع إرهاب نظام الأسد وحليفه الإيراني ووحشيتهما. وبذلك تنتفي كذبة البحث عن «المعتدلين» في الجانب الآخر، وفرزهم عن «المتطرّفين» المطلوبة إبادتهم، لتصبح مهمة روسيا وحليفيها الحضّ على العنف والتطرّف، أقصى العنف والتطرّف، تبريراً لـ «محاربة الإرهابيين» وإبادتهم. سبق لنظام الأسد أن واجه سلميّة شعبه بالقتل، ومذّاك لم يعد شعبه ولا عاد هو رئيسه، ثم دفع عسكرييه دفعاً الى الانشقاق، فلم يعد الجيش العربي السوري موجوداً ليحلّ محلّه «جيش الأسد»، ثم دفع معارضيه دفعاً الى التعسكر ليُفلت كل ترسانته ضد الشعب وصولاً الى السلاح الكيماوي. وفي ذلك كله، كان فلاديمير بوتين حليفاً وراعياً وموجّهاً، فهو والأسد والملالي متضامنون على غرائز لا إنسانية مشتركة تغذّي عملياً من إرهاب «داعش» وتستعدي خصوصاً كل مَن يدافع عن وجوده وحقوقه ومستقبله داخل وطنه.
إما التهجير قسراً أو الاستسلام أو الإبادة، تلك هي الخيارات «الداعشية» التي تعرضها روسيا على المدافعين عن حلب. وإذا كان الوجه الوحشي لبوتين استفزّ العالم، فالأرجح أنه لم يرَ في حلب حتى الآن سوى عيّنة أوليّة منه. فلا هو باحث عن سلام ولا عن حلٍّ سياسي، وهو لم يتدخّل مباشرةً إلا لقيادة الحل العسكري. ويتبيّن الآن، أن حواراته مع واشنطن كانت تمثيليات تبدي تفاهمات ظاهرية، لكن تغلب عليها التجاذبات لفرض شروطه على الأميركيين، الذين قدّموا كل التنازلات السياسية والعسكرية الممكنة، من دون أي اعتبار لمصالح الشعب السوري وطموحاته، لكنها لم تكن كافية. فمنذ انهيار الهدنة الأولى في آذار (مارس) من هذه السنة، ومع اقتراب نهاية ولاية باراك أوباما، مسّت الحاجة الى ترتيب هدنة ممكنة الصمود، وبدأت المساومة التي استغرقت أكثر من ستة شهور ثم تمخّضت عن الاتفاق الأميركي – الروسي الأخير.
على رغم أن التنازلات العسكرية ليست علنية، إلا أنها تبيح لروسيا واقعياً ضرب فصائل المعارضة بذريعة القضاء على تنظيم «القاعدة» (جبهة النصرة/ فتح الشام)، وهذا يسمح لواشنطن بالضغط لاحقاً على المعارضة وداعميها لتمرير التنازلات المتعلّقة بالحلّ السياسي. كان الاتفاق ينطوي على معادلة رابحة وغير مكلفة بل مجانية بالنسبة الى موسكو، لكنها طالبت واشنطن بـ «شراكة» بين جيشَي البلدين طالما أن تصفية «القاعدة» من ثوابت الأهداف الأميركية، وعندما جاءت الموافقة من باراك أوباما اعتبر الروس أن واشنطن قدّمت لتوّها «تنازلاً استراتيجياً» في سورية، وبدل أن يثبّتوا إنجازهم هذا بإنجاح الهدنة والالتزامات المرتبطة بها إحراجاً لمعارضي الاتفاق في البنتاغون والـ «سي آي إيه»، فإنهم على العكس واصلوا حماية انتهاكات النظام، وعلى وقع انتكاس متدرّج للهدنة بدأوا حملة ابتزاز ديبلوماسي لنشر مضمون الاتفاق والدعوة الى تكريسه بقرار من مجلس الأمن.
وسط هذه الحملة، قصفت الطائرات الأميركية بـ«الخطأ» موقعاً لقوات الأسد، وشكّل ذلك رسالة دموية ردّت عليها روسيا برسالة دموية أيضاً حين قصفت قافلة المساعدات الإنسانية. في تلك اللحظة، تزعزعت الهدنة لكن طرفيها الخارجيين واصلا شكلياً اعتبارها قائمة في انتظار مساعي إنقاذها، إلا أن لقاءات في نيويورك كشفت خلافهما وعمّقته، الى حدّ أن الجانب الروسي انتهز مشاركته في اجتماع «المجموعة الدولية لدعم سورية» ليُصدر من دمشق بياناً باسم «الجيش السوري» يعلن فيه انتهاء الهدنة وبدء «عملية كاملة» للسيطرة على حلب «خلال أسبوعين» وفقاً لمصادر النظام، أو «خلال أسبوع» وفقاً لميليشيا «النجباء» العراقية، وهي أحدث فوج استقدمته إيران الى سورية، أو «بتدمير كامل للمدينة وقتال من شارع الى شارع خلال شهور» وفقاً لتقدير أورده المبعوث الأممي ستيفان دي ميستورا الذي خسر الدعم الروسي على ما يبدو.
اصطدم الجبّاران فدفعت حلب وأهلها الثمن من دمائهم. ومن الواضح أن معارضة البنتاغون والاستخبارات أسقطت اتفاق كيري - لافروف وأطارت صواب موسكو، خصوصاً أن تلك المعارضة انتقلت الى العلن، ثم أصبحت رسمية مع إعلان رئيس الأركان الأميركي جوزف دانفورد في جلسة استماع، «أننا لن نتشارك معلومات استخبارية مع روسيا». وبالتالي لم يعد الروس معنيين بالهدنة، ولا بتقديم أفكار لإنقاذها، بل بنتائج المعركة التي تُخاض خصوصاً بالتدمير وليس بمواجهات قتالية سبق لقوات الأسد والإيرانيين أن جرّبوها وخسروا فيها جميعاً، ولن تتقدّم هذه القوات الى أي موقع إلا بعد التأكّد من تدميره وإخلائه كلياً. قد يكون هذا التصعيد في حلب وارداً مسبقاً في حسابات واشنطن، إلا أن وحشيته المفرطة وضعتها أمام تحدٍّ روسي بالغ الفظاظة، وحتى إذا كانت لديها خيارات للردّ عليه فمن الصعب تصوّر إدارة أوباما في أواخر أيامها منخرطةً في مواجهة يريدها بوتين بل يبحث عنها. بديهي أن الانفلات الروسي الذي أسقط الهدنة، أسقط معها الحل السياسي بالشروط التي تم التوافق عليها مع واشنطن.
كانت معارك مطلع آب (أغسطس) الماضي، لفك الحصار عن حلب، وما رشح عن المحادثات الأميركية - الروسية للفصل بين «جبهة فتح الشام» و «المعارضة المعتدلة»، وما يحصل راهناً، ضاعفت جهود فصائل حلب لتوحيد صفوفها. غير أن هذه الخطوة المتأخّرة جداً لن يكون لها معنى إلا اذا توافر شرطان: الأول، التزام واضح من الفصائل كافةً، بما فيها «فتح الشام» و «أحرار الشام»، بما يسميه رياض حجاب «المشروع الوطني السوري» الذي يُفترض أن يجمع المعارضة بكل أطيافها. والثاني، اتفاق موازٍ بين الدول الداعمة لمواكبة هذا المشروع بشقّيه السياسي والعسكري، مع إزالة/ أو تجاوز التحفّظات الأميركية عن تسليح مناسب يمكّن الفصائل من الدفاع عن نفسها وعن مواقعها.
هذا ما يُشار إليه بمصطلح «الخطة باء»، وإذا لم يكن أوانها قد فات فإنها تفرض نفسها بكل إلحاح، بعدما كانت الولايات المتحدة تلجمها لتحرث في الأوهام البوتينية، وإذا بها تحصد هزيمة شنيعة لديبلوماسيتها وتتسبب بكارثة فادحة للشعب السوري، وإنْ لم تعترف بهما. خلال بضعة أيام، تغيّرت معطيات الأزمة وفتح فصلٌ جديدٌ فيها، فنظام الأسد وجد روسيا تحسم أمرها بالعودة الى الاعتماد على خططه العسكرية والسياسية، وفي المقابل ظهرت بوادر التصلّب عند المعارضة السياسية برفض روسيا «كراعٍ لأي مبادرة» ما دامت شريكة للنظام في جرائمه، فيما صارت الفصائل المقاتلة تعتبر الروس أهدافاً لها. وهذا مؤشر أول الى سورية - المستنقع الذي كانت روسيا ولا تزال تخشى الوقوع فيه، ولا شك في أن أميركا ستحرص على إغراقها فيه.
تتصاعد وتيرة التسربيات و الأحاديث “في الفضاء الالكتروني” حول السلاح النوعي تعتزم بعض الدول امداد الفصائل الثورية في سوريا به ، وصحيح أن هذه التسربيات ليست الأولى ، لكن الوضع الحالي يُحاط به مجموعة من المتغيرات قد تحمل في طياته ما يمنح الأقاويل نوعاً من الجدية للوصول إلى الأفعال ، و لكن في الوقت ذاته لايمكن الوثوق بها عندما يتم الحديث عن دفعات من صواريخ الغراد، في الوقت الذي تشير التسربيات عن مضاد طيران ، و الفرق بين السلاحين كبير و شاهق لحد جعل السلاح النوعي عبارة عن “وهم” جديد تريد الدول ادخال الثوار بدوامته من جديد، أو “فرج” للخروج من عنق الزجاجة.
شكّل انهيار الهدنة ، المتفق عليها بين الولايات المتحدة الأمريكية و روسيا في التاسع من شهر أيلول الحالي، بوابة جهنم التي فتحت على مدينة حلب التي تدفع ثمن التناحر الدولي ، و أظهر بشكل فج ضعف الادارة الأمريكية و فشلها الذريع في ادارة الملف السوري ، باعتمادها السياسة الناعمة في مواجهة سياسة كسر العظم التي انتهجتها روسيا منذ عام .
وظهر اليوم الرئيس الأمريكي باراك أوباما بمظهر الأكثر ضعفاً طوال السنوات الثمان الماضية (مدة رئاسته لأمريكا) ، عندما طلب من ضباط في قاعد عسكرية تقديم مقترحات لانهاء الحرب في سوريا ، وفي الوقت ذاته دافع بشكل استباقي عن سياسته، بأن لا استراتيجية ناجعة إلا ارسال مزيد من القوات الأمريكية البرية، و حتى هذا الرأي الذي دفع به عاد و عارضه ، بأن الامكانيات لاتسمح مع انشغال جيوشه في افغانستان و العراق .
عجز أوباما الذي طفى على السطح تماماً ، جاء نتيجة خلافات عميقة و عدم تناغم بين السلطات الثلاث (البيت الأبيض - المخابرات - الجيش) التي تحكم الولايات الخمسين التي تشكل الجسم الفيدرالي الأمريكي، و الذي بدا واضحاً ابتداء في عملية درع الفرات و ما سبقها من برامج تدريب و تسليح المعارضة السورية ، وصولاً للنقطة الفاصلة في الاتفاق الأمريكي الروسي - الأخير حول سوريا ، الذي تحول إلى رماد على اثر غارات تحالفية مكثفة و مركزة على قوات الأسد في دير الزور ، والتي أريد منها كسر آخر “أظافر” البيت الأبيض الذي يشهد احتضار ساكنيه.
اليوم مع التصاعد المتواتر بالتصريحات الأمريكية التي تراوحت بين التهديد بوقف التعاون مع روسيا كما نقل عن وزير الخارجية جون كيري ، و بين التحذيرالذي نقله المتحدث باسم الخارجية الأمريكية، جون كيربي، من تبعات استمرار الحرب في سوريا حيث ” تستثمر الجماعات المتطرفة الفراغ وتواصل توسيع نطاق هجماتها، التي دون شك، ستستهدف مصالح روسيا. وروسيا ستستمر في إرسال قواتها وفقدان الموارد وحتى الطائرات”، ومع الوقوف على الكلمة الأخيرة (الطائرات) ، يبدو أن الاقتراب من وجود “أفغانستان أخرى” يتم تولديها ، كتطبيق فعلي لتهديدات أوباما في بداية العدوان الروسي على الشعب السوري عندما قال “ على روسيا تذكر تاريخها في أفغانستان”.
من أفضل التحليلات التي قيلت حول التغير الجديد بالسياسة الأمريكية ، هو أن “ هناك تطور بسيط في الموقف الأمريكي تجاه القضية السورية يشبه حالة العاهرة التي تحاول أن تتوب عن ذنوبها، فهل تعود أمريكا إلى عهرها أم تتوب توبة نصوح ... !!؟؟”، و هذا الحديث يجعل الوثوق بالتصريحات الأمريكية ضرب من ضروب المقامرة التي تميل للخسارة أكثر من الربح.
وفي خضم هذا ، تتصاعد الأخبار التي تتحدث عن وصول دفعات من صواريخ الغراد إلى الفصائل، وكما هو معروف أن صورايخ الغراد نوع من السلاح التقليدي الذي يمتاز “بغباء عالي” ، اضافة لعدم نقص الميدان البديل عنه اطلاقاً ، اذا شهدت سنوات الثورة عمليات تصنيع لسلاح مشابه له و بأحجام أضخم ، دقة أكبر ، واذا ما كانت الأخبار صحيحة فإن قصة السلاح النوعي هي “الوهم” الجديد الذي يراد منه تسكين الوجع أمام السكين التي تجز رقاب الشعب السوري.
شكّل احتساب أميركا في صف السوريين الثائرين من أجل الحرية والعدالة والمساواة، عاملاً إضافياً في زيادة نكبتتهم، وسبباً مهماً في تأخر وصولهم إلى هدفهم الحصول على دولة مدنية ديموقراطية، فقد برّر ذلك الاحتساب لنظام بشار الأسد القتل بلا رحمة مدعماً سردية المؤامرة التي اتكأ عليها في مواجهة ثورة شعبية تطالب بإزاحته. كما منح التيار الذي يدّعي المقاومة والممانعة فرصة استغلال هذا الاحتساب للزج بكل طاقاته لمواجهة ثورة الشعب السوري بذريعة أن مواجهة وكلاء أميركا هي مواجهة لأميركا وتعطيل لمشاريعها في المنطقة. كما منح هذا الأمر خصمي أميركا الدوليين، روسيا والصين، محفزاً للانخراط في الأزمة السورية بكثافة باعتباره مواجهة للمشاريع الجيوسياسية الأميركية.
لكن كيف تقارب أميركا علاقاتها بهذا الصراع وما هو موقعها منه وإلى أي درجة تقف بالفعل مع حق الشعب السوري؟ يستدعي الفهم الصحيح للموقف الأميركي توضيح حقيقة مفتاحية في هذا الإطار، وهي أن معظم الجهد الأميركي موجه صوب اللاعب الروسي بدرجة أساسية انطلاقاً من حسابات أميركية خاصة بترتيب مصادر الخطر وتبويب التهديدات المحتملة في المدى المنظور. أما بقية اللاعبين، خصوصاً إيران، فهم مجرد لاعبين هامشيين بالحسابات الأميركية تتشكل أهميتهم من اندراجهم في إطار ملفات العلاقات الثنائية لأميركا مع إسرائيل ودول الخليج العربي بدرجة أقل، أو بتوصيف أدق، احتساب أثر التحركات الإيرانية في الجغرافيا الخليجية بوصفها حقول نفط وممرات بحرية.
تدمج الولايات المتحدة سياستها السورية ضمن سياسات أوسع، تتعلق بإدارتها للسياسة العالمية. وانطلاقاً من ذلك تسهل رؤية منظومة سياسية أميركية أكثر منها سياسات أميركية لسورية، أي أن سياسة واشنطن السورية ليست أكثر من جزئية تتفاعل ضمن إطار عام لنظام متكامل لهندسة سياساتها العالمية، ويجري التعامل في إطاره مع القضية السورية عبر موازنة الفرص والخسائر واستخدام التكتيكات المناسبة لإدارة الملف بما يتوافق مع مقتضيات تنفيذ الاستراتيجية الأميركية عالمياً.
ما يؤكد هذه الحقيقة افتقار واشنطن إلى ثوابت واضحة في إدارتها للملف السوري واستنادها إلى معطيات جارية ومتحركة، إذ تعمل على تطوير سياساتها بما يتفق مع مصالحها أساساً. والشاهد على ذلك تبديل موقفها من نظام الأسد، أو تحديثه في شكل دائم، بدءاً من تأكيدها أنه فقد شرعيته وعليه الرحيل، ثم تحديدها لاحقاً خطوطاً حمراً لسلوكه ضد الثورة السورية، وصولاً إلى تراجعها عن ذلك كله. والدليل الآخر امتلاك أميركا حزمة خيارات وبدائل من شأنها تغيير دينامية صراعها مع اللاعبين الدوليين في الساحة السورية، لاعتقادها بأن تلك البدائل قد ترفع تكاليف انخراطهم في سورية أو تجنبها هي نفسها الخسائر المحتملة. ومن تلك البدائل الحديث عن احتمال تقسيم سورية الذي طرحه أكثر من مسؤول أميركي.
وبالعودة إلى روسيا في سياق الاستراتيجية الأميركية، فقد ظهر جلياً أن واشنطن تعتبر روسيا تهديداً جدياً لها في المدى المنظور، خصوصاً لمصالحها في الاتحاد الأوروبي وحلف «الناتو»، لدرجة أن الجزء الأكبر من أصولها الاستراتيجية ومواردها مخصص للتعامل مع التهديد الروسي، إذ إن روسيا أعادت في السنوات الماضية هيكلة قواتها وإصلاح أنظمتها العسكرية وتطوير أساليبها القتالية، وصرفت مبالغ ضخمة في هذا الإطار. ولا شك في أن أميركا ترغب في كشف تلك التغيرات وإخراجها من نطاق السرية، إن على مستوى الأنماط التكتيكية في التخطيط العسكري الروسي، أو على مستوى أنواع الأسلحة الحديثة والمعدّلة في قائمة الصناعات العسكرية الروسية، وذلك تحوطاً لأي مفاجأة في هذا المجال كي تتمكن واشنطن من إيجاد المعادل الاستراتيجي لتلك الأسلحة، وليس أفضل من الساحة السورية منصة يمكن من خلالها تفكيك السر الروسي ومعرفة خباياه.
وفي سياق هذه الاستراتيجية أيضاً، تمارس أميركا تكتيكات الاستنزاف مع روسيا، تلك التي خبرتها جيداً في حربها العراقية، بعدما وصلت إلى قناعة استراتيجية راسخة فحواها أن حروب الشرق الأوسط، خصوصاً بالنسبة إلى الطرف الذي يتولاها، لا تمنح فوزاً استراتيجياً ولا تنطوي على فرص ثمينة، بقدر ما هي ساحات استنزاف مفتوحة لا تكل عن طلب المزيد. والاستنزاف في هذه الحال له أهداف محدّدة تتمثل باستنفاد طاقة روسيا وحماستها ومواردها، وبدل تخصيصها لتعزيز مكانتها في سلم القوة الدولي يتم توجيهها لتسيير يوميات حرب لا تنتهي في الشرق الأوسط الذي يمكن وصفه، ومن خلال تجربة أميركا نفسها، بالثقب الأسود الذي يبتلع كل الإمكانات والموارد من دون إحداث فوارق مهمة في وضع الطرف المنخرط فيه.
يعني ذلك أن السياسة الأميركية في سورية ستبقى بين حدين: أولهما عدم التصادم مع روسيا تحت أي ظرف، وبالتالي استحالة وقوفها في صف ثورة سورية حتى لا تتحول علاقاتها مع روسيا إلى تصادم حتمي ومكشوف، والثاني استحالة التوصل إلى توافقات كاملة مع روسيا في سورية لأن ذلك سيؤدي إلى تعطيل ديناميات استنزاف روسيا وإشغالها، ومن ثم التورط والانخراط إلى جانبها في الحرب السورية. وفي الغالب ستبقى السياسة الأميركية منهمكة في إنتاج البيئة المناسبة لاستغراق روسيا وإيران في الأتون السوري إلى مدى بعيد، ربما إلى حين استنفاد قدرة الساحة السورية كأداة تشغيلية في عملية الاستنزاف الكبرى.
تنفس سكان حلب المحاصرون الصعداء واستعادوا الأمل بانتهاء محنتهم، عندما خرج سفراء الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا من قاعة مجلس الأمن غاضبين من استدعاء سفير دمشق للتحدث في جلسة مخصصة للبحث في مأساتهم. الآن فقط تأكدوا أن الدول الغربية لم تتخل عنهم، وصار بإمكانهم أن يموتوا مطمئنين. لم يعد مهماً سقوط آلاف القنابل الفراغية والارتجاجية والعنقودية والبراميل المحشوة بالفوسفور الحارق، لأن القوى الغربية الكبرى، وفق ما تبيّن، لا تزال تساندهم بقوة وتشعر بالغضب لمرأى سفير النظام المسؤول عن تكديس جثثهم وجثث أبنائهم في الشوارع والمشارح.
لم يعد مبرراً بكاء الأطفال ونحيب الأمهات وجزع الآباء. بات بإمكان سكان حلب تلقي الموت بفرح وصمت، فالضجيج الذي يحدثونه قد يعكر مهابة القرار بمغادرة القاعة الفخمة، وينغص على السفراء الثلاثة متعة الانتصار المكرس أمام العدسات والأضواء. وصار لزاماً على المصورين ووسائل الإعلام أن يمحوا اللونين الأحمر والأسود لدماء الحلبيين وحروقهم من الصور التي ينشرونها لقتلاهم وجرحاهم، لأنها قد تعطي انطباعاً خاطئاً بأنهم تُركوا لمصيرهم في وجه آلة بطش جبارة يحركها القاتلان في قصري الكرملين والمهاجرين، وقد توحي عن غير حق بأنهم ليسوا سوى تفاصيل هامشية في المفاوضات على خرائط النفوذ وحدوده بين شرق وغرب.
ولا بد أيضاً من إعادة النظر في ما تروجه المنظمات الإنسانية عن جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية ترتكب في حلب وسائر سورية، لأنها قد تؤثر على الصداقة والزمالة القائمة بين كيري ولافروف، وقد تدفع أحدهما إلى الامتناع عن رفع كأسه تحية للآخر، أو معانقته بحرارة، كلما التقيا للنظر في أمر السوريين.
وبات لزاماً أن يتوقف المعارضون السوريون ومؤيدوهم عن توجيه تهم العجز والتخاذل واللامبالاة والتواطؤ إلى الأميركيين والأوروبيين، بعد تلك التعبئة الديبلوماسية الفذة التي أوصلت إلى القرار البطولي بالانسحاب من الجلسة وانعكاساته الكبيرة على موازين القوى على الأرض، والضغط الهائل الذي يمثله على روسيا ونظام الأسد لإشعارهما بالندم والخجل من النظر إلى صور السفراء الثلاثة وهم يخطون إلى الخارج والتأثر بادٍ على وجوههم.
لا بد من أن سكان حلب وسائر المقصوفين أيقنوا بأنه لم يكن أمراً سهلاً على الإطلاق أن تصل المندوبة الأميركية في الجلسة ذاتها إلى حد وصف الغارات الروسية على المدينة بالبربرية، وتفهموا تماماً الجهد المهول الذي بذلته في تخطي أعراف العلاقات بين الدول، حتى كادت تحوّل موقفها النظري المجرد إلى مشكلة شخصية مع زميلها الروسي، ما تستحق عليه الإطناب والتهنئة وراحة البال.
وعرف هؤلاء بالتأكيد أن السفيرة مضطرة إلى التزام الخلاصة العبقرية التي توصل إليها رئيسها أوباما قبل الجلسة بأيام، عندما أكد أنه لا يمكن تحقيق انتصار عسكري في سورية، وأن حكومته ستواصل، بغض النظر عن إمعان الطرف الآخر في القتل والتدمير، مسعاها الديبلوماسي لوقف الحرب، وأن من نوى أمراً كأنه أقدم عليه.
وحتماً، فإن ملايين السوريين من محاصرين وجرحى ومشردين، وأولئك المرشحين يومياً للانضمام إليهم، يتفهمون بلا أي لوم أو ضغينة، انشغال الأميركيين بالانتخابات الرئاسية وضيق الوقت الذي يمكن أن يخصصوه لبلاد بعيدة تدمر على رؤوس مدنييها. وقد سبق لهم أن خبروا كيف وجد سيد البيت الأبيض حلاً سحرياً للقصف الكيماوي على أشقاء لهم، بتحويل القاتل بين ليلة وضحاها إلى متعاون مع المجتمع الدولي.
كان الخروج الغاضب للسفراء أقصى ما تفتق عنه ذهن حماة العالم الحر المنهمكين بنشر الديموقراطية في غير الشرق الأوسط، لإراحة ضميرهم المثقل، فيما تكفي خمسة صواريخ مضادة للطائرات لتجنيب حلب وسكانها كل هذا القتل والدمار.
يأخذون على العرب أنهم لم يُبدعوا في روايات الخيال العلمي، وهذا صحيح. لكن، هل من إبداع أكبر من أدب السجون، الأدب الذي روّع كل من قرأوه. ومن الواجب الأخلاقي والإنساني والوجداني أن نعرف بعض ما يحصل في السجون السورية، بشهادة سجناء رأي، مهما كانت الطريقة التي يُوقف بها المُتهم بأخطر تهمة في العالم أن له رأياً مُخالفاً ورؤية مختلفة، سواء كان في محطة سفر أو ينتظر عند حاجز أو في مقهى رصيف، فإن عناصر الأمن تقوده بطريقةٍ فظةٍ إلى السجن، أي إلى غرفةٍ ضيقة نتنة الرائحة تضم عشرات المساجين، ومعظمهم عراة أو بلباسهم الداخلي فقط. أجساد الرجال السجناء العارية متلاصقة إلى حدٍّ يصعب تمرير خيط بين جسد وجسد، وقمة الرفاهية أن يجد بضعة سجناء مكاناً في غرفة السجن للقرفصاء أو التربع، وتتم المناوبة مع الواقفين. أحد السجناء استقبله السجان في مكتبه، ففرح في سرّه لأنه يُعامل معاملة إنسانية، فإذا بست شاشات تلفزيونية كبيرة تعرض كل منها صورة سجين عارياً.
لوحة مرعبة لم تخطر ببال سلفادور دالي، ومؤكّدٌ أن السجان يعتمد على رأي الأطباء النفسانيين في معرفة أكبر قدر من الوسائل وطرق التعامل التي تهين كرامة السجين وتُروّعه. وهذا ما ذكره المراسل الصحافي سامي الحاج، عن سجنه في غوانتانامو. يقدّمون في السجون السورية زجاجة مياه لعدة سجناء، وأخرى مماثلة فارغة، ليفرغوا فيها البول. أما البراز فثمة وعاء له في الغرفة نفسها. وجبة طعام صغيرة واحدة للسجين في اليوم. وهكذا، لا يخسر السجين السوري وزنه فقط بل يذوب. كل من عانى هذه التجربة حكى أنه خسر من وزنه بين عشرة إلى عشرين كيلو غراماً في أقل من شهر. الأهم أن أطفالاً مع هؤلاء المساجين السياسيين الراشدين يبكون من الجوع، وبعض الكبار يعطونهم حصصهم من الخبز، لأنهم لا يستطيعون تحمل أطفال يتضورون من الجوع. ويُخبئ بعضهم الخبز، إلى حين يبدأ الطفل بالبكاء جوعاً، وتهمة هؤلاء الأطفال التظاهر، أو أية تهمة أخرى (لا يهم)، كيف يمكن لهؤلاء الأطفال أن يتحمّلوا هذا الوضع. وضعهم مندسين وسط حشد من الرجال العراة المتلاصقين بشدة. أية صدمة مُروعة يتعرّض لها هؤلاء الأطفال.
المُضحك، لكيلا نبكي، أن عديدين من سجناء الرأي، كان السجان يسألهم: لماذا أنتم هنا! فيرد السجناء: أنتم من اعتقلتمونا، وأنتم من يجب أن تعرفوا. والواضح أن انعدام قيمة الإنسان السوري، والتسيب الفظيع في اعتقال الناس، وازدياد الفروع الأمنية والعمل المنفرد والمستقل لكل منها هو ما جعل السجان يسأل السجين: لماذا أنت هنا؟ سؤال لا يُصدّق، لولا أنه يحصل في السجون السورية. أحد السجناء، حين ألحّ عليه المحقّق، في السؤال عن سبب وجوده في السجن. أجاب: ربما لأنني سجين سابق. فردّ المحقق: وماذا أيضاً؟ فردّ السجين: لا أعرف، ألا يجب أن يكون ملفي عندكم، وتعرفون كل شيء عني.
ما عاد مُهماً أن تكون التهمة واضحة، حتى، وهي كذلك، لو كانت تهمةً لا إنسانية، مثل حرية الرأي والمطالبة بالحرية والكرامة، كما لو أن الغاية الأساسية والوحيدة هي إذلال كل سوري يطالب بالحرية والكرامة وإعطاء دروسٍ، لمن لم تتسع لهم السجون بأن يخرسوا تماماً. وربما لو كانت هناك أمكنة تتسع لحشد الأجساد العارية المتلاصقة للسجناء لما تردّد مدراء الفروع الأمنية في ممارسة هوايتهم تأمل السجناء عراةً، في شاشات في مكاتبهم مفرطة الأناقة.
يحصل هذا في السجون السورية. وأؤكد على الأطفال المساكين الذين لم يتعوّدوا بعد أن البكاء لا يثير شفقة وحنان الجلاد. التحقير والإهانات وترك السجين عارياً، وجعل الأجساد تتلاصق بتلك الطريقة الحقيرة المُذلة، والتجويع حتى الموت، كلها أساليب لا تقل أذىً عن العنف الجسدي، بل لعلها، كما يذكر الأطباء النفسانيون، تدمر الإنسان نفسياً، وتجعله يشعر أنه بمرتبة دون الحيوان. هل يمكن، بعد هذا الواقع، أن نعتب على الضمير العالمي، أو الدول العظمى، أو حتى دول الجوار، أنها لا تتعاطف كفايةً مع السوريين. أليس من البديهي أن يحبني وطني، ويصون لي كرامتي وحريتي. أم أن سورية استوطنتها الوحوش، واستوطنها الموت بكل أشكاله، فجعلت حوالي نصف الشعب يهجّ برّاً وبحراً وجواً ومُفضلاً أن يكون طعاماً لأسماك القرش، بدل أن يكون في وضع يسأله فيه المحقّق، وسط شاشاتٍ تعرض، باستمرار، صور سجناء رأي عراة: ما هي تهمتك؟ ولماذا أنت هنا برأيك؟ هذه هي الحالة الوحيدة التي يُسمع فيها رأي الإنسان السوري.
أليس من الغباء أن يرفس الشعب السوري نعمة نظامه بقدميه، فيقرّر، ذات "غباء" مطبق، أن يتمرّد على وليّ نعمته، ضارباً عرض الحائط بكل أصناف النعم التي حظي بها عقوداً من حكم "الأسود"؟
يقول اليساريون العرب إن سورية، وحدها، من بين الدول العربية جميعاً التي نجحت في الإفلات من قبضة صندوق النقد الدولي، فلم تعد مدينةً له بفرنك واحد، وهو ما يترتب عليه، بالطبع، عدم الخضوع للإملاءات الخارجية، ذات الطابع الاقتصادي شكلياً، السياسي جوهرياً، ومن ثم لن تستطيع الدول العظمى فرض أجندتها ومصالحها على سورية، فلماذا، إذن، لم يحفظ الشعب السوري لنظامه هذه "الفضيلة" التي تكافح شعوب أخرى بالعرق والدم، للحصول على ربعها؟
ويستطرد اليساريون إياهم: سورية، وحدها، استطاعت تحقيق اكتفاءٍ ذاتي، بالقمح، وغيره من المنتجات الزراعية والنفطية، بل وأصبحت من الدول العربية الأكثر تصديراً للمنسوجات والملبوسات، وأصناف الخضر والفواكه ذات الجودة العالية، فلماذا يمزّق الشعب قمصانه، ويخرج عارياً لإسقاط نظامٍ حقق له ذلك كله، بصدور عارية بادئ الأمر، ثم بالسلاح حين واجهه النظام بآلته العسكرية التي كان يخزنها لـ"تحرير فلسطين"؟
ويؤكّد اليساريون، أيضاً، وهم على حق، أن النظام الأسدي تمكّن، من تحقيق نظام تعليمي متطور، في مدارسه وجامعاته، مع تحقيق مجانية التعليم لكل سوري، إلى الحد الذي أصبحت معه الجامعات السورية قبلة للدارسين من الخارج، خصوصاً وأنهم سيحظون لدى عودتهم إلى أوطانهم، بأولوية التعيين وملء الشواغر.
وينطبق الأمر نفسه على مجانية العلاج الصحي، إذ يزعم اليساريون أن النظام السوري نجح في تحقيق التأمين الصحي الشامل للشعب كله، من دون أي التزاماتٍ مالية، في المستشفيات والمراكز الصحية، على أن كل تلك الإنجازات لا تعدل، في رأي اليساريين، فضل النظام السوري، في قيادة حلف "المقاومة والممانعة"، في وجه المؤامرات الخارجية، الساعية إلى دمج إسرائيل في المنطقة العربية، وجعلها دولةً شقيقةً تحظى بالقبول والتطبيع التامين من الأنظمة والشعوب العربية، معاً، فما كان من النظام السوري "الممانع" إلا أن وقف حجر عثرة أمام هذه المخطط، مقاوماً فرض معاهدة صلح عليه، لا تتلاءم وشروطه، فيما كان يدعم صراحةً حزب الله اللبناني "المقاوم"، وتنظيمات فلسطينية منشقة، ترفض السلام مع إسرائيل.
على هذا الأساس، يبرّر اليساريون للنظام الأسدي ما يمارسه من عمليات "تأديب" بحق هذا الشعب الجاحد للنعمة، حتى وإن اتخذ هذا التأديب هيئة "المجزرة"، لأن الذنب الذي اقترفه الشعب، هذه المرة، لا يضاهيه غير "الشرك بالنظام"، ولا يعنيهم إن أصبح نصف الشعب مهجّراً، والنصف الآخر مذبوحاً ومحاصراً وجائعاً.
وهؤلاء أنفسهم هم اليساريون الذين استنكروا ثورة الشعب الروماني ضد زعيمه شاوسيسكو الذي حقّق لهم أكثر من ذلك بكثير، لكنهم، في آخر المطاف، أطاحوه وأعدموه، بل ينسحب الأمر على الاتحاد السوفييتي، ربيب اليساريين العرب الذي تهاوى في بضعة أيام، على الرغم من أن اشتراكيته طاولت شعوباً بأكملها، فلم تعد تجد فيه فقيراً أو جائعاً، أو غير قادر على دخول مدرسة أو جامعة أو مستشفى.
قد تكون مثل هذه الأسئلة مشروعةً لليساريين العرب حول النظام الأسدي، وجحود شعبه، لكنني لا ألوم كل من لا يقيم وزناً للحرية، حين يطرح مثل تلك الأسئلة الإشكالية، ولن تقنعهم أية إجابة عن ضرورة حقوق الإنسان، أو تلبي فضولهم "اليساري"، لأن من اعتاد الخضوع لن يفهم رغبة نزيل الزنزانة في الحرية، على الرغم من تأمينه بالغذاء والدواء والكساء داخل السجن، كما لن يفهم الدجاج رغبة النسور في التحليق، إلا بعد أن يغتسل بالغيوم، أو يشاهد العالم من على قمة جبل.
لن يدرك هؤلاء أن الحرية قبل الخبز والكرامة قبل الشهادة الجامعية، والقامة المنتصبة قبل حبة الدواء، واحترام الذات قبل الوطن، وأن الحظائر خلقت للنعاج وليس للبشر.
هذا ما أراده السوريون، وأراهن أنهم لن يعودوا إلى الحظيرة الأسدية، حتى لو وقف العالم كله نصيراً لنظامه.
ما إن أعلن كيري ولافروف عن التوصل إلى اتفاق وقف إطلاق نار في سوريا، حتى انهار بشكل كامل بعد تسعة أيّام فقط. وعلى الرغم من تعدد المؤشرات الواضحة على فشل الهدنة المبكر، فقد التزمت قوى المقاومة الوطنية بها، سعياً لتخفيف وطأة الأزمة الإنسانية الخانقة التي يعيشها المدنيين في المناطق المحاصرة. ولقد اتّسم هذا الاتفاق، كسابقه، بعدم ربطه بخارطة طريق تفضي إلى حل سياسي واقعي ومنطقي، بالإضافة إلى استمرار نهج موسكو وواشنطن باستثناء من تعتبراه إرهابياً من الهدنة. ونقف اليوم فيما تستعر الحملة العسكرية الروسية على حلب الشرقية؛ للتعرّف عن كثب على أسباب الفشل المكرر لكل اقتراح هدنة منذ أول محاولة لكوفي عنان في السادس عشر من آذار/ مارس 2012.
خط أخضر أمريكي
لا يُعد فشل الهدنة الأخيرة الإخفاق الأول للمجتمع الدولي في سوريا، إلّا أن نوع التنازلات التي قدمتها واشنطن لموسكو يستحق الوقوف عليه؛ لأجل التعرّف على محددات سياسة الخارجية الأمريكية في البلاد. وتقوم المقاربة الأمريكية للحل النهائي في سوريا على فرضية أنه ليس لأمريكا ما تخسره في الصراع، وهو ما يدعوها لمساومة خصومها الإقليميين والدوليين على موقفها من النظام مقابل الحصول على تنازلات منهم في ملفات أخرى.
إن زهد إدارة أوباما في التأثير الإيجابي في الحرب السورية تعبير صارخ عن الواقعية السياسية التي لا تتأثر إلا بلغة المصالح والمهددات. وتقتصر الأولويات الأمريكية في المنطقة على أمرين فقط: صيانة أمن إسرائيل أولاً، ومحاربة التوجهات الراديكالية الإسلامية بجميع أطيافها ثانياً، ولا تهديد حقيقيا يدفعها لتغيير سلوكها في التعامل مع خصومها في ظل تقاطع هذه الأوليات مع مصالحهم. ولذا فإن أي تنازل تقدمه الإدارة الأمريكية شكلي ما دام لا يمس تلك الأولويات، وهو رهان سياسي مضمون هدفه إطالة أمد الحرب لحسن استغلال أزمة حلفائها وخصومها على حد سواء.
شروط غير مستوفاة
يعتمد أي اتفاق وقف إطلاق نار على ثلاثة شروط لأجل نجاحها، أولاً، الثقة المتبادلة بين أطراف النزاع لأجل تحويله لتنازلات تفضي في المحصلة إلى اتفاق سلام مستقر. ثانياً، مناطق نفوذ واضحة لأجل تسهيل عمل آليات المحاسبة والمراقبة، وآخراً الدعم الخارجي للعملية التفاوضية وذلك لأجل ممارسة الضغط الإيجابي أو السلبي على أطراف النزاع للالتزام ببنود الاتفاق. وتبعاً لذلك كان من البديهي أن تنهار الهدنة في سوريا كما توضح المشاهدات التالية:
أولاً: الثقة: لا يخفى على أحد انعدام رصيد الثقة المتبادلة بين الشعب السوري والنظام، وذلك لطبيعة الصراع الصفري بينهما، والأسد أصدق تعبيراً في ذلك من المعارضة السياسية. ويتكرر ذات المشهد بين الفاعلين الدوليين والاقليميين الذين اتّخذوا من الحرب السورية مسرحاً لتصفية حساباتهم، فيما تشتد أزمة الثقة لدى الشعب السوري من الجميع، من داعمي قوى المقاومة الوطنية الذين أثبتوا عجزهم عن رفع معناتهم، ومن أمريكا التي لا يراها تأبه به أو بآلامه، ومن الأمم المتحدة التي ما فتأت اخفاقاتها تتراكم وتتكرر حتى قاطعتها معظم منظمات الإغاثة السورية.
ثانياً: مناطق نفوذ واضحة: على الرغم من وجود مناطق نفوذ صمّاء لكل من تنظيم الدولة وحزب الاتحاد الديموقراطي، فالأمر يختلف في المناطق الخاضعة لسيطرة الأسد التي تضم جيوبا تسيطر عليها على المقاومة الوطنية وتحاصرها قوات النظام. وهذا من شأنه استمرار قدرة النظام على الضغط على المناطق المحاصرة، مما يمنع من بناء أي زخم إيجابي لتنفيذ أي اتفاق هدنة، خصوصاً مع تبني النظام سياسة التهجير الجماعي للحواضن الثورية. أمّا على صعيد مناطق سيطرة قوى المقاومة الوطنية، تقتضي إدارة الاستثناءات التي فرضها المجتمع الدولي على الثوار الابتعاد عن جبهة فتح الشام، وهذا مطلب لن يلبيه الثوار باعتباره مدخلاً للاقتتال الداخلي، ولتشتيت جهودهم على الجبهات المشتعلة في الشمال.
ثالثاً: الدعم الخارجي لجهود التهدئة: يشكّل الضغط الخارجي عاملاً إيجابياً لضمان استقرار الهدن، وإذا ما أمعنا النظر في أهداف القوى الخارجية، لتملسنا مصالحها في استمرار الحرب، خصوصاً تلك التي تدعم الأسد بشكل مباشر. فمصالح إيران وروسيا تلتقي في القضاء على المقاومة الوطنية، انطلاقاً من إدراكهما لطبيعة الصراع الصفري بينها وبين النظام، وينعكس ذلك في تصنيف جميع قوى المقاومة الفاعلة تحت بند الإرهاب لضمان شرعية استهدافها وفق إدارة الاستثناءات. وكذلك الأمر مع الولايات المتحدة، فأولوياتها لا تتحقق بهدنة تستفيد منها كيانات راديكالية إسلامية سواءً أكانت جبهة فتح الشام أو حركة أحرار الشام أو ما دار في فلكهما، ولا فائدة لها تتحقق من هدنة لا تفضي إلى توحد جهود الفاعلين المحليين مع النظام في مواجهة تنظيم الدولة، وهو تعاون طالما رفضته قوى المقاومة. وفي المقابل نجد أن تركيا ودول الخليج أكثر استعداداً لقبول اتفاق وقف إطلاق نار بحكم انشغالها على جبهات أخرى، ولكن شريطة أن تحافظ المقاومة الوطنية على مكتسباتها، وأن تفضي في محصلتها إلى رحيل الأسد، وهذا ما ترفض طرحه كل من موسكو وواشنطن.
ما هو المخرج إذن؟
تشير معظم القراءات إلى عدم جدوى التعويل على إحراج الإدارة الأمريكية في تبني موقف أخلاقي دون امتلاك أدوات التأثير الفعّالة، بالإضافة إلى اقتراب موعد الانتخابات الرئاسية، مما يحجم الإدارة على القيام أي تغيير حقيقي في سياستها الخارجية حالياً. كما أن انتظار الإدارة الجديدة قد يتحول إلى رهان فاشل في حال فاز المرشح الجمهوري ترامب، أو إلى خيبة أمل كبيرة فيما لو انتصرت كلينتون وعملت على تحسين بعض الشروط الإنسانية دون أن تغير قواعد اللعبة (وهو المتوقع). وكذلك الأمر بما يتعلق بالتوجه إلى روسيا أو إيران لأجل إحداث خرق دبلوماسي قد تنتج عنه مرونة أكبر في الموقف من قضية الشعب السوري، فلكلتا القوتين شروط لا يمكن القبول بها دون إعادة تمكين الأسد من كامل البلاد. وأمّا فيما يتعلق بالاعتماد على تركيا ودول الخليج، فعلى قوى المعارضة أن تعي أن هامش تحرك حلفائها التقليديين قد تقلص كثيراً، وأنهم في الحقيقة يعتمدون على تطور المشهد السوري لأجل الخروج من مآزقهم المتتالية.
لا يسعنا في ضوء هذه القراءة إلّا السؤال عن خيارات المقاومة الوطنية: هل ترضخ لشروط المجتمع الدولي لتقبل بحل سياسي لا يضمن تغيير النظام، فيما تستمر طائراته وقوات حلفائه بمحاصرة مناطق نفوذها بحجة محاربة الإرهاب؟ أم هل تستمر بزج قواها في مواجهة النظام وتنظيم الدولة وحزب الاتحاد الديموقراطي والمليشيات الأجنبية تحت وطأة التهديد بقطع الدعم والعزلة الدولية؟ أم هناك سبيل آخر ما بين الاستسلام والانتحار؟
لا تملك المقاومة الوطنية خياراً سوى استغلال الهوامش القليلة المتبقية والمتمثلة في التوسع على حساب تنظيم الدولة؛ لأجل تحسين تموضعها العسكري، وبالتالي السياسي، فيما يبقى دعم صمود المناطق المحاصرة التحدي الأصعب. وإن إنقاذ حلب والمناطق المحاصرة الأخرى لا يمكن تحقيقه دون هدنة حقيقة تلجم النظام وروسيا، لن تتمكن المقاومة من التوصل إلى مثل هذا الاتفاق ما لم يتحسن أداء المعارضة السياسية، وهي مهمة حيوية لأجل ترجمة الانتصارات الميدانية إلى فعل سياسي؛ يرغم القوى الدولية على ربط أي اتفاق وقف نار مستقبلي بخارطة طريق واضحة المعالم لحل سياسي واقعي وعادل.
مع أن مأساة سوريا تستعصي على الظرف، تذكّرني محنة الشعب السوري مع موسكو وواشنطن بنكتة موجعة سمعتها عن حلاّق حريص على أن يرث ابنه مهنته، لكن الولد لا يهوى الحلاقة ولا يريدها مهنة. وذات يوم أجبر الحلاق ابنه على حلاقة ذقن زبون بينما كان منهمكا مع آخر. وفجأة صرخ الأول فسأله الحلاّق عما به وعلم أن الولد جرحه.. ولشدة غضبه من ابنه حاول لطمه لكن الأخير رجع إلى الخلف فأصابت اللطمة الموجعة الزبون المسكين. واستأنف الابن الحلاقة لكنه سرعان ما ألحق بالزبون جرحا ثانيا، ومجدّدا همّ الحلاق بلطم ابنه لكن الابن تفادى اللطمة وأصيب الزبون.
وتكرّرت عذابات الزبون بين جروح الابن ولطمات الأب إلى أن قطع الابن أذنه وبادر إلى الاعتذار منه، فرجاه الزبون همسا أن يرميها بسرعة في سلة المهملات قبل أن يراه أبوه.. تفاديا للطمة أشدّ إيلاما!
هذا الوضع يصدق اليوم على القصف الروسي الوحشي لحلب، مقابل الاستنكار اللفظي من واشنطن و«تلويحها بوقف التعاون مع موسكو»!! فبينما يموت السوريون.. يقصف الروس ويوفّرون التغطية السياسية لجرائم بشار الأسد و«يحرد» جون كيري ويلوّح بوقف التعاون..
إنها لوحة سيريالية مأساوية بشعة تدلّ ليس فقط على انهيار المعايير الأخلاقية في السياسة الدولية، بل تشير أيضا إلى أن المنطقة العربية مقبلة على كارثة، وإلى أن ما اصطُلِح على تسميتها «الحرب على الإرهاب» تُدار بطريقة مخالفة للمنطق وتتجاهل عمدا جذور المشكلة وتغيّب أعراضها.
إن السكوت «المتفاهَم» عليه إزاء تدمير ما تبقى من مدينة حلب وتهجير أكثر من نصف أهلها مقدمة لإعادة تسليمها لنظام الأسد برعاية روسية - أميركية فرضت الصمت حتى على تركيا، يتكامل مع التحضيرات لتحرير الموصل أمام خلفية مشهد عراقي خطير.
ومن ثَم، فتركيز الاهتمام على ظاهرة «داعش» و«جبهة النصرة» بمعزل عن التعقيدات المحيطة بالصورة العامة للمنطقة، بكل تشابكاتها الأمنية والسياسية والعرقية والدينية والمذهبية، لن يؤدي إلا إلى «حل» مؤقت يخدم إدارة أميركية أتقنت ترحيل تبعات تقصيرها ومصالحها القصيرة الأمد إلى الإدارات التي ستليها، وقيادة روسية تسلّطية لا تقيم وزنا لا لحقوق الإنسان ولا المجتمع المدني ولا مفاهيم الديمقراطية ولا التفاعل بين الشعوب.
وبالأمس اعتذر الرئيس الأميركي باراك أوباما من الأسد على قصف عسكرييه في دير الزور، واستقبل رئيس وزراء العراق حيدر العبادي ليدعم علنا خططه لـ«تحرير» الموصل. وكان واضحا، قبل اللقاء وبعده، تأييد أوباما الكامل لسياسة بغداد التي ما عاد سرّا أنها تُصاغ في طهران. بل إن العبادي نفسه هو الذي كان قد أعلن صراحة أن قاسم سليماني، قائد «فيلق القدس» في «الحرس الثوري الإيراني» وقائد عملياته في سوريا، يعمل «مستشارا» للحكومة العراقية.
ثم إن معظم الجهات المتصلة بالوضع الداخلي العراقي، وفي مقدمتها الهيئات المهتمة بحقوق الإنسان، تربط ميليشيات «الحشد الشعبي» وتجاوزاتها الطائفية بـ«الحرس الثوري الإيراني»، ومع ذلك تتصرف حكومة بغداد وكأنها آخر من يعلم ويكترث.
وأخيرا وليس آخرا، دافع الرئيس أوباما وفريقه طويلا عن سلبيتهم تجاه سوريا، بـ«فشل التدخل في العراق» الذي انتهى بتدمير الدولة وسقوطها مفتتة في أحضان إيران. ومع هذا، بعد الاتفاق النووي مع طهران، صارت العلاقة معها «ثابتا» في سياسة واشنطن الشرق أوسطية، فسكتت عن تدخل الميليشيات الإيرانية ميدانيا في سوريا وهيمنتها على العراق ولبنان، وبات «التدخل الفاشل» لجورج بوش الابن في العراق الأرضية التي بُنيت عليها سياسة إدارة أوباما على امتداد المنطقة.
في ضوء هذه المعطيات غدا ضروريا التساؤل: إلى أين ستتّجه المنطقة بعد الانتخابات الرئاسية الأميركية في الأسبوع الأول من نوفمبر (تشرين الثاني) المقبل؟ وهل سيواصل مَن يخلف أوباما (أو تخلفه) السير في خطه بصرف النظر عمن سيفوز في هذه الانتخابات على اعتبار أن التغيير الذي طرأ منذ سريان مفاعيل الاتفاق النووي كبير جدا، وأن عملية إعادة تأهيل إيران أميركيا قطعت شوطا بعيدا بالتوازي.. مع تغلغل مُناصري إيران في أروقة الكونغرس والإعلام ومراكز الأبحاث وشبكات المصالح المالية.
متابعو حملة المرشحة الديمقراطية هيلاري كلينتون رصدوا منذ بعض الوقت تشكيلها فريق مستشاريها لشؤون السياسة الخارجية، وبين الأسماء التي يتوقع أن يكون لها صوت مسموع بالنسبة لقضايا الشرق الأوسط والعالم الإسلامي والإرهاب: جايك سوليفان وفيليب غوردون ولورا روزنبرغر، بالإضافة لشخصيات مخضرمة مثل مادلين أولبرايت وليون بانيتا. ويرى المتابعون أنها لن تتبنى بالكامل كل سياسات أوباما، بل ستوازن بين النظرة المصلحية العملية التي اعتمدتها الإدارة الديمقراطية في عهد بيل كلينتون والنظرة العقائدية الانكفائية – بل الاعتذارية – التي تبناها أوباما. ولكن وجود سوليفان وغوردون بالذات ضمن الفريق لا يشجع على التفاؤل. فالأول شكّل مع وليام بيرنز (نائب وزير الخارجية) وبونيت تالوار (مستشار الشؤون الإيرانية) «ثلاثي» فريق المفاوضات السرّية مع إيران في مسقط وكان أحد مخطّطي سياسة واشنطن في سوريا وليبيا وميانمار (بورما). والثاني من «ثوابت» سياسة أوباما الشرق أوسطية الكارثية ولا سيما تجاه سوريا، والاثنان - مع زميلهما بن رودز - مقرّبان من لوبي «ناياك» الإيراني في واشنطن.
وعلى الضفة الأخرى، هناك فريق المرشح الجمهوري دونالد ترامب الذي يضم مجموعة من الشخصيات اليمينية المتشدّدة، والبعض منها مناوئ لتمدد نفوذ إيران لكنه أيضا مناوئ للمسلمين عموما. وبين الأسماء الأبرز جورج بابادوبولوس والأكاديمي اللبناني الأصل وليد فارس. الرجلان مهتمان بقضايا الشرق المتوسط وينتقدان بشدة «انسحاب» أوباما من المنطقة، وفي حين سبق للأول أن نصح إسرائيل عام 2015 «بالتعاون مع روسيا من أجل أمنها، وكذلك مع سوريا ولبنان وربما مصر»، تتهم الجماعات الإسلامية الأميركية الثاني بـ«الإسلاموفوبيا».
وهكذا، فنحن العرب أمام «معلوم» ديمقراطي مؤسف و«مجهول» جمهوري مقلق. وحالنا كلنا أضحى كحال السوريين، وبالأخص حلب، مع «حلاٌق واشنطن» الذي يضرّ حتى عندما يريد أن ينفع!
لم يدرك الرئيسان هاري ترومان وجورج بوش الإبن أن التاريخ يُسجل فعلتيهما، حين قرر الأول استخدام السلاح النووي في هيروشيما وناغازاكي، والثاني غزو العراق من دون أن يحسب حساب اليوم التالي لإسقاط صدّام.
فقد وضعهما التاريخ جنباً إلى جنب مع حكام مجرمين تسببوا بإراقة دماء أبرياء، على رغم أن كلاً منهما كان في حالة حرب. فعل الأول فعلته في حرب عالمية ضارية لم يكن ضحايا هيروشيما وناغازاكي إلا جزءاً صغيراً ممن قُتلوا وأُصيبوا فيها. وكان الثاني في أجواء مشحونة بتوتر حاد عقب هجمات أيلول (سبتمبر) 2001.
ومع ذلك لم يجد التاريخ عذراً لأي منهما. القرارات والسياسات المؤدية إلى سفك دماء أبرياء تُشين الرؤساء الأميركيين أكثر من غيرهم بسبب منظومة القيم التي أرساها الآباء المؤسسون للولايات المتحدة. ولهذا وُصم رؤساؤها الذين تورطوا خلال مرحلة الحرب الباردة باعتداءات وانقلابات عسكرية بأنهم دمويون، على رغم أن ما اقترفوه كان أقل بكثير مما ارتكبه قادة بلدان أخرى لا تتبنى منظومات قيمية مماثلة لما أرساه مؤسسو أميركا.
لم يعرف أي من الرؤساء الأميركيين الذين دانهم التاريخ، وكُتبت أبحاث عن عدوانيتهم ودُبجت قصائد في هجائهم، ما كان ينتظره قبل مغادرته البيت الأبيض. فكل منهم كان منغمساً في أزمة محتدمة أو حرب أو معركة.
لم يتمتع أي منهم بالاسترخاء الذي نعم به أوباما، عندما تابع أنباء الصواريخ والقنابل والبراميل المتفجرة التي تقصف أرواح سوريين أبرياء بينهم أطفال في أعمار الزهور، وشاهد «فيديوات» تقطر منها دماؤهم، فلم تحرك هذه المذابح ضميراً في داخله، ولم تُذكّره بما تقادم من قيم أميركية. ولا يساوره اليوم أي شعور بالألم أو الندم لتركه تحالف الطغاة الأكثر شراسة يرتكب مذابحه في سورية، ثم ساعد الرئيس الروسي راعي هذا التحالف في محاولة غسل يديه من خلال «اتفاق» أتاح له أن يظهر في صورة «إنسانية»، من دون أن يقدم شيئاً للسوري في حلب أو غيرها.
ومن عجب ألاَّ يعرف أوباما أن هذا «الاتفاق» جعله شريكاً شبه رسمي، ومن موقع ذيلي، لبوتين الذي لا يعنيه حكم التاريخ. فهو يعتقد بأنه يصنع تاريخاً جديداً للأمة الروسية يعيد إليها أمجادها. وليس معقولاً أن يكون للتاريخ الذي يصنعه حكم عليه أو رأي فيه. لذلك فهو معني أكثر بالجغرافيا وساحاتها التي يتمدد فيها أو يصل نفوذه إليها.
وإذ يعتقد هذا النوع من الحكام أن كل ما يفعلونه مشروع لتحقيق ما يظنونه أمجاداً قومية يتغنى بها إعلامهم، تصبح جثث الأطفال السوريين بالنسبة إلى بوتين مجرد جسر يعبره في الطريق إلى هذه الأمجاد.
لكن الأمر يُفترض أن يكون مختلفاً بالنسبة إلى أوباما. لذلك من المدهش أن يختار مشاركة بوتين المغموس كله، لا يداه فقط، بدماء أطفال سوريين. لم يُضبط أوباما مرة واحدة معترضاً بوضوح، ومن دون مناورات لفظية، على فائض العنف الروسي في سورية بلغة تعبر عن موقف مبدئي ضد القتل والتجويع الممنهجين. لم يتهم أوباما بوتين أبداً بارتكاب جرائم في سورية. وحتى عندما استغل الأخير قصف «قوات التحالف» موقعاً لجيش الأسد في دير الزور يوم 17 الجاري، وجعل منه فضيحة دولية لواشنطن، اكتفى بردود متهافتة من بعض أركان إدارته، ثم جاءت ردود إدارته فاترة عندما شاركت طائرات روسية بقصف قافلة مساعدات تابعة للأمم المتحدة في حلب بعد يومين. كان أقصى ما ذهب إليه أوباما عندما تعثرت محاولة صوغ «الاتفاق» الأخير في البداية قوله: «إذا لم نحصل على اتفاق، تكون روسيا أظهرت أنها طرف غير مسؤول يُدعّم نظاماً مجرماً»، وكأنه قدم لتوه من كوكب آخر ولا يعرف أن صديقه الروسي صُنو هذا النظام.
ولم يكف أوباما عن إثارة دهشة من لا يستوعبون إصراره على المضي في مد يد العون لبوتين. ففيما أسرع، ووزير خارجيته الذي صار ظلاً لنظيره الروسي، لمنح بوتين «شهادة» دولية في حسن السير والسلوك، كانت فرق إغاثة تُخرج مزيداً من جثث الأطفال من تحت الأنفاق في حي السكرية شرق حلب، بعدما قصفته طائرات روسية. وحدث ذلك بينما توصل مُحَّققون دوليون إلى أدلة على مسؤولية وحدات تابعة للأسد عن شن هجمات بالكلور العام الماضي، فبدا أوباما كمن يساعده للإفلات من أية محاسبة.
وسواء اقتنع فعلاً بأنه ليس في الإمكان أفضل مما كان في سورية، أو أقنع نفسه بأنه قصَّر لأسباب خارجة عن إرادته، فأوباما يتحمل مقداراً غير يسير من المسؤولية عن دماء أطفال سورية. وبموجب ما قاله هو في خطابه الأخير أمام مؤتمر الحزب الديموقراطي في تموز (يوليو) الماضي، فـ «الخطأ ليس أن تخطىء، بل ألاَّ تتعلم من أخطائك وتحاول تصحيحها».
لذلك هو يتحمل المسؤولية عن شراكته الفعلية لبوتين ما دام مقتنعاً حتى اللحظة بأن لا خطأ في ذلك، وإلا كان قد بادر إلى تصحيحه. وهو يتحملها أيضاً إذا كان مدركاً الخطأ فيها، لكنه يجد نفسه أضعف من أن يصحِّحه. وقد يظن في هذه الحال أنه يستطيع أن يخدع التاريخ، عبر ادعاء أنه يحاول إنقاذ ما يمكن إنقاذه قبل أن يغادر البيت الأبيض. لكن هذا ظن من النوع الذي يوصف في سياق آخر بأنه إثم، مهما قال لتبرير مشاركته الضمنية في سفك دماء أبرياء بينهم غير قليل من الأطفال. فله أن يقول ما يشاء، ويترك بوتين يفعل ما يريد، وفق ملاحظة ثاقبة أبداها بطل العالم الروسي السابق في الشطرنج غازي كاسباروف في سياق تعليقه على «الاتفاق» الأخير الذي رآه إحدى نتائج «علاقة مريحة» نشأت بين الرئيسين.
وهذه علاقة مريحة لبوتين فعلاً، ولكن ليـــس لأوباما الذي سيدفع ثمنها غالياً إذا كُتب تاريخه في الرئاسة، وبخاصة في فترته الثانية، بقدر كاف من الموضوعية. وعندها سيكون واجباً على اللجنة التي تمنح جائزة نوبل للسلام أن تتحلى بالشجاعة وتعترف بأن حصوله عليها في بداية ولايته الأولى كان خطأ تاريخياً جسيماً يستوجب التصحيح.