تعبّر أكثريّة السوريّين، ويعبّر محبّو سورية والعدل، وذوو المعايير الإنسانيّة والأخلاقيّة، عن ألم لا يصفه إلا الشعراء. وبينما تمعن الأنظمة السوريّة والروسيّة والإيرانيّة في تدمير حلب، تساعدها التوابع والميليشيات، يرشّ الإحساسُ بالعجز مصحوباً بالقرف من التخلّي الدوليّ مِلحاً كثيراً على جرح يتقرّح.
وهذا اليأس المفهوم، بوصفه حالة شعوريّة، يُخشى تحوّله إلى حالة ذهنيّة، وإلى معتقد تقوى عدميّته الكارهة للعالم وتتأصّل.
ونحن في هذا الشطر من المعمورة لا ينقصنا البرم بالعالم، تضخّه أصلاً مشكلة فلسطين العالقة منذ عقود، كما يرفده اليوم إحساس بعضنا بأنّ أصدقاء قدامى في الغرب خانوا صداقتهم ومالوا إلى إيران. وقبل هؤلاء، أحسّ بعضنا بأنّ اضمحلال دولة الشرق السوفياتيّة ترك العرب بلا سند ولا ظهير. إنّه إذاً «الزمن العربيّ الرديء»، وفق قول سقيم ورائج.
وهذه، على تعدّدها، مصادر للغربة في عالم لسنا سعداء فيه، ولا يمكن أن تستوطنه السعادة. وكما في هذه الأيّام، مع توزيع جوائز نوبل، يُعاد تذكيرنا سنويّاً بأنّ مساهماتنا في إنجازات دنيانا تكاد لا تُذكر.
والحال أنّ العالم ليس سيّئاً ولا حسناً، بل هو يسوء ويحسن. وهو، في حقبتنا الزمنيّة، يسوء، ويتطلّب جهوداً ذاتيّة، بينها جهودنا، لكي يحسن. لكنْ لا بأس بأن نتذكّر أن بلداً كبولندا جزّئ واقتُسم ثلاث مرّات في تاريخه الحديث، وأنّ بلداً كتشيكوسلوفاكيا السابقة بيع لهتلر قبيل الحرب العالميّة الثانية التي سبقها وتلاها نقل شعوب بأكملها من مكان إلى مكان.
ولئن كان الفلسطينيّون أصحاب الظلامة الكبرى في العالم العربيّ، فقد حلّت على اللبنانيّين، أواخر الثمانينات، ظلامة صغرى نسبيّاً. فهم بدورهم، بيعوا لحافظ الأسد مقابل اشتراكه في حرب الكويت، وارتفعت أصوات الكثيرين منهم تستهجن ذاك الاهتمام العالميّ بالإمارة الغنيّة مقابل إشاحة البصر عن جمهوريّة فقيرة. لكنْ في 2005، عاد لبنان إلى صدارة الاهتمام العالميّ وأحرز استقلاله الثاني.
والأمور تسير، خطوات إلى الوراء وأخرى إلى الأمام، وعلينا أن نواكبها حتّى حين نعاندها، نغيّرها ونتغيّر في الوقت عينه. أمّا النوم على وسادة الصرخة العرفاتيّة الشهيرة، عام 1982، «يا وحدنا»، فأقصر الطرق إلى أن نبقى وحدنا، وأن نصبح أشدّ وحدة، لا نجد ما نتلذّذ به إلاّ ألمنا الذي نصير، والحال هذه، لا نتميّز إلاّ به بوصفنا الضحيّة الفريدة. ولأنّه ليس من عالم سوى هذا العالم، يترك يأسنا وانكفاؤنا للوعي القاتل والسينيكيّ أن يمضي في عدوانه على الحياة، كما يتركان للوعي الأصوليّ أن يكمّل هذه المهمّة واعداً بحياة وعالم آخرين ننساق تدريجاً إلى «تفهّم» طوباهما.
وكم كنّا وحيدين، قبل أيّام، في جنازة شمعون بيريز التي تقاطر إليها ممثّلو العالم، بينما نحن نسكر بتعبير «جزّار قانا». والتعبير، على صحّته، لا يختصر الرجل وتحوّله الذي كاد يعادل تحوّل دي كليرك في أفريقيا الجنوبيّة، حين نقلته ظروف بلاده والعالم من أحد أركان النظام العنصريّ إلى شريك لنيلسون مانديلاّ في تفكيكه. والأهمّ، أنّ الاحتفال ببيريز إن دلّ إلى خطأ كبير في هذا الكون، فالاحتجاب عن خطأ، غدا إجماعاً، يصعب أن يكون صواباً، ويستحيل أن يمهّد لبناء الصداقات والتأثير في العالم. إنّه سبب للحزن الشالّ والمشلول.
وقد سبق للإسرائيليّين أن قدّموا درساً كان حريّاً بعِبَره أن تستوقفنا. ففي 1956، دعم الأميركيّون عبدالناصر في مواجهة بن غوريون، فتقدّم الأوّل لمواجهة النفوذ الغربيّ ومواقعه في المنطقة، معزَّزاً بانتصار حقّقه سواه، فيما تقدّم الثاني لمراضاة الولايات المتّحدة التي اكتشف أنّها حلّت محلّ فرنسا وبريطانيا. وإذ مضى آيزنهاور يُفهم الإسرائيليّين أنّ العراق والخليج أثمن منهم لمصالح أميركا الاستراتيجيّة في الحرب الباردة، مضى بن غوريون، بسلوك يخالطه التذلّل، محاولاً أن يبرهن العكس لواشنطن. وبالفعل تبيّن في 1967، أنّ ما راهن عليه بن غوريون تحقّق، إذ تأكّدت لواشنطن فاعليّة التحالف الجديد، فيما أفضت رهانات المكابرة الناصريّة إلى هزيمة مطنطنة.
والآن، أكثر من أيّ وقت، نحن مضطرّون إلى كسب الأصدقاء، مدركين أنّهم ليسوا نحن وليسوا مثلنا، وإلى إظهار أنّنا نملك ما نقايض به العالم الذي لا تقتصر سلّة عملاته، للأسف، على سلعة الأخلاق والقيم. وشئنا أو أبينا، نحن مدعوّون إلى الرهان على تغيّرات العالم، وإلى الإسهام فيها، وهذا من أجل أن نوقف الكارثة عند حدّ فلا تلد مزيداً من الكوارث.
تنطوي المواقف الرنانة والتصعيدية التي تصدر عن كل من موسكو وواشنطن نتيجة تفاقم الخلاف على سورية وتعليق التعاون بينهما حول الهدنة التي اتفقا عليها مطلع الشهر الماضي، على قدر كبير من المناورة والرياء الخادع. فتارة يلوح الجانبان باستعدادهما للمواجهة العسكرية، عبر خطوات رمزية من نوع نشر موسكو صواريخ إس- 300 وإرسال المزيد من الفرقاطات إلى المتوسط، أو تحليق طائرات استطلاع أميركية فوق السفن الروسية وقاعدة طرطوس الروسية والتلويح بتزويد المعارضة صواريخ أرض- جو وقصف مدرجات المطارات السورية، وأخرى يعيدان فتح باب التواصل الديبلوماسي ويعاود جون كيري وسيرغي لافروف التواصل الهاتفي بينهما.
ترتفع النبرة في الرسائل الميدانية والعسكرية من دون وضع اليد على الزناد، في استعراض قوة لا طائل منه وبات الجميع يدرك أنه مجرد مناورات ليس إلا، أمام أعين العالم، بينما يواصل الروس وقوات بشار الأسد والإيرانيون محاولة قضم مدينة حلب فوق أشلاء السوريين التي مزقتها القنابل الروسية الارتجاجية والعنقودية، وعلى أشلاء أحياء المدينة التي سيسجل التاريخ أنها تحولت «غروزني» ثانية بعد 16 سنة على تدمير عاصمة شيشينيا. وبلغ التصعيد الكلامي حد وقف فلاديمير بوتين التعاون مع الأميركيين على خفض الأسلحة النووية، والعودة عن التخلص من أطنان من البلوتونيوم «رداً على التصرفات الأميركية غير الودية».
لا يملك أي من الدولتين كلفة المواجهة المباشرة، فلا روسيا يمكنها التصرف مثل كوريا الشمالية في جموحها النووي العسكري (والذي حولها دولة مارقة)، في وقت طموحها الفعلي هو رفع العقوبات الأميركية والأوروبية المؤذية التي أنهكت اقتصادها نتيجة الأزمة الأوكرانية، ولا أميركا ستتورط في صدام في وقت تستند فلسفة باراك أوباما إلى الانسحاب من الحروب في الخارج للتعافي من تداعيات حربي العراق وأفغانستان، فكيف بحرب مع الدب الروسي، على رغم قيام البيت الأبيض «بمراجعة الموقف في سورية حول خيارات استخدام القوة». وبات واضحاً أن ما يجري من تحريك قوات أو أسلحة يتم من أجل حرب لن تحصل.
ومع أن التهديد الأميركي أنتج إعلان قوات الأسد تقليص الضربات الجوية في حلب، فإن هذا لم يكن إلا ثمرة إبقاء الجانبين على الخيار الديبلوماسي تحت سقف الكباش الحاصل بينهما. موسكو تعطي الإشارة بالتراجع أمام «المراجعة» الأميركية، عبر الأسد، حتى لا تفقد صورة من يستخدم فائض القوة الذي تمارسه في حلب وغيرها، لتبرهن أنها دولة قوية. وواشنطن تشتري هذا التنازل الصوري حتى لا تزداد هيبتها اهتزازاً نتيجة إحجامها عن أي خطة لوقف الحرب السورية عبر إحداث التوازن الميداني.
ولا يغير كل ما يحصل بين الدولتين العظميين من الواقع الذي يفرض استمرار هذه الحرب: إدارة أوباما تترقب انتهاء ولايته بلا تورط عسكري في أي مكان في العالم، مع اتخاذ الخطوات المناسبة للحؤول دون فرض تغييرات دراماتيكية في سورية على الإدارة التي ستخلفه، فإذا أرادت التشدد لديها الإمكانات العسكرية عبر القواعد المنتشرة في سائر دول المنطقة والبحار، والقيصر مطمئن إلى أن سورية ملعبه المسلم بأرجحيته فيه، غير آبه بمخاطر جره إلى المستنقع الذي يشكله، على رغم كلفة تحريكه قواته الجوية والبحرية قياساً إلى الكلفة المتدنية عند الأميركيين.
بدل البحث بالمرحلة الانتقالية في سورية، باتت المرحلة الانتقالية في السلطة في أميركا هي معيار الحسابات. وفي انتظار مرور الأشهر، يتحفنا كيري بتصريحات تنتقد «قرار الروس الطائش دعم الأسد وتغاضيهم عن استخدامه غاز الكلور والبراميل المتفجرة»، ويعدنا لافروف بأنه يريد «إعادة سورية إلى وضعها الطبيعي». فالأول يكتشف فظاعات النظام بعد تجاهلها لسنوات، والثاني يضمر استعمال القوة المفرطة ويتلمس الطريق إلى تقسيم النفوذ في سورية بينه وبين إيران والأكراد.
أفسحت واشنطن وموسكو الطريق للفرنسيين كي يملأوا فراغ فشل مبادرتهما الديبلوماسية حول الهدنة، وفتحوا الطريق أيضا لتحرك الاتحاد الأوروبي في السعي لتفادي مزيد من التدهور في العلاقة بينهما، والذي قد يكون أحد مظاهره تزويد المعارضة بأسلحة نوعية.
انتظار الإدارة الأميركية الجديدة قد يكون فسحة زمنية كي تأخذ القوى الإقليمية التي لطالما تأرجحت إدارة أوباما بين دعوتها إلى أخذ دورها وكبحها عن أي مبادرة جوهرية، دورها في إدارة مرحلة الانتظار هذه. وقد تكون التفاهمات السعودية التركية الأخيرة محطة رئيسة على طريق ممارسة هذا الدور. فهل يتقدم خيار إقامة منطقة آمنة في شمال سورية يتم نقل عشرات الآلاف من النازحين إليها، مع حماية لأجوائها لأسباب إنسانية؟
ظهرت إرهاصات العملية التفاوضية المحلية الأولى مع بداية 2012، لتتطور لاحقاً إلى مسار موازٍ للمسار السياسي الأممي ومتفاعل مع السياق العسكري الميداني، ليشهد هذا المسار تحولات من حيث طبيعة المخرجات والأدوار والنتائج. نعرض في هذا الملف أهم التطورات السياسية والعسكرية التي أسهمت في تشكّل هذا المسار، كما نسعى لتسليط الضوء عليه عبر تناول العملية التفاوضية المحلية من حيث المخرجات الناجمة عنها والأطراف المشاركين فيها وغاياتهم ومآلاتها المستقبلية.
مدخل تاريخي لتطور المفاوضات بين النظام والمقاومة الوطنية
هيمنت المعادلة الصفرية على حسابات كل من النظام والقوى الوطنية في بداية الحراك الثوري، وهو ما تجسد بسيطرة منطق الحسم على خطابهما. وقد أسهمت التوقعات العالية والحسابات غير الدقيقة لطرفي الصراع في تعزيز هذه المقاربة، حيث راهن النظام على قدرة مؤسستيه العسكرية والأمنية ودعم حلفائه في احتواء المظاهرات والفعاليات الثورية، في حين سيطر الاندفاع الثوري والاعتبارات الأخلاقية على أداء القوى الوطنية وفي تسويق مشروعها السياسي. ويمكن اختصار قراءة كل منهما للصراع كالتالي:
قراءة النظام لحل أزمته السيادية:
1 الثورة تمرد على شرعية الحكومة، ونيل من سيادة الدولة.
2 التمرد على الحكومة إرهاب إسلامي بدعم إقليمي وتواطؤ دولي.
3 طريقة التعامل الوحيدة مع الإرهاب هو القضاء عليه وعلى حواضنه الشعبية.
4 إصلاح الحكومة ممكن ولكن من خلال الحوار تحت "سقف الوطن".
قراءة القوى الوطنية لشكل ونوع التغيير السياسي:
1 لا بد من إسقاط النظام السوري لاسترداد الدولة السورية ومؤسساتها.
2 لا بد من محاكمة رؤوس النظام لاسترداد حقوق الشعب.
3 لا بد من حل الأجهزة الأمنية الاستخباراتية لاسترداد حقوق المعتقلين.
4 المشاركة والعدالة هي أساس النظام الجديد ويقتضي ذلك إصلاح مؤسسات الدولة كافة.
يكمن الاختلاف الرئيس بين قراءتي النظام والقوى الوطنية للحل النهائي للصراع في النطاق الزمني وتأثير أداء أدوات الحسم على النظام الإقليمي. فلقد طالب الثوار من جهة بتغيير سريع ذي أثر عميق على النظام الإقليمي، في حين دعا النظام إلى معالجة أزمته من خلال تبني عملية طويلة دون إحداث أي خلل في النظام الإقليمي القائم. ولقد أدّى هذا الاختلاف بالإضافة إلى ظهور تعقيدات على المشهد الميداني في سورية إلى تبني المجتمع الدولي مقاربة النظام في حل الأزمة السياسية والأمنية الناتجة عن استمرار الصراع، رغم إظهار دعمه للتغيير السياسي في سوريا
مظاهرات حماة
المرحلة الأولى: غياب الرؤية الدولية لحل الصراع
لم يتخلل هذه المرحلة، وهي سلمية بطابعها العام، أي جهود تفاوضية باستثناء بعض محاولات النظام المبكرة لإملاء شروط وشكل ومحتوى التسوية السياسية في سورية كان أهمها مؤتمر الحوار الوطني (سميراميس) في 27 حزيران 2011. ولقد دفعت عوامل موضوعية عدة إلى عدم تشكّل عملية سياسية تفاوضية في هذه المرحلة، كان أهمها عدم وجود مخاطب يمكنه ادّعاء تمثيل مجموع القوى الوطنية المعارضة للنظام، بالإضافة إلى غياب دور الوسيط الأممي أو الإقليمي الفعّال بسبب عدم تبلور رؤية المجتمع الدولي للحل النهائي للصراع بعد.
المرحلة الثانية: بداية تشكّل الوساطة الدولية وجنيف
شكّل ظهور التنظيمات العسكرية الشعبية في نهاية 2011 انعطافاً في مسيرة الثورة السورية، حيث انتقلت المقاومة الوطنية من بعدها السلمي إلى العسكري وتطورت بهذا الانتقال أدوات التغيير والحسم. وفي حين نجحت فصائل المقاومة الوطنية في توظيف شرعيتها الشعبية بتحرير أجزاء واسعة من البلاد، شرع النظام في تعزيز عملياته العسكرية بالطيران العسكري وباستخدام الأسلحة المحرمة دولياً وعلى رأسها الأسلحة الكيميائية والعشوائية.
ترافق مع ظهور هذه المتغيرات العسكرية تفعيل وساطة الأمم المتحدة في فرض رؤية القوى الدولية في الحل النهائي للصراع وذلك من خلال تنشيط المسار السياسي وإصدار بيان جنيف في الـ 30 من حزيران 2012. وتنطلق المقاربة الدولية للمسار التفاوضي وفق الثوابت التالية:
1 تعريف الصراع الدائر بين النظام السوري والحاضنة الشعبية للمقاومة الوطنية بالنزاع الأهلي، ويقتضي حله قبول طرفي الصراع بمبدأ التسوية.
2 ضرورة وقف الأعمال القتالية والعنف غير الشرعي.
3 تأسيس التسوية السياسية على مبدأ المشاركة في هيئات الحكم السورية.
4 احتكار تمثيل نظام الأسد للدولة السورية، مع استمرار الطعن في شرعية تمثيل الهيئات الائتلافية للمعارضة للشعب السوري.
شهدت هذه مرحلة أول اتفاق وقف إطلاق نار محلي وذلك في مدينة الزبداني عند إبرام أول اتفاق هدنة في كانون الثاني 2012 يفضي إلى خروج الجيش السوري من المدينة مقابل تعهد الجيش الحر بعدم استهداف أبراج الاتصالات والكهرباء التي تغذّي لبنان. وتشير بنود هذا الاتفاق إلى طبيعة العلاج الطارئة، وإلى عدم تشكّله إلى مسار تفاوضي مستقل بعد.
المرحلة الثالثة: ظهور التنظيمات العابرة للحدود وجنيف 2
سادت في هذه المرحلة من الثورة السورية ظاهرة المراوحة السياسية وتعزيز فرضية عدم إمكانية الحسم العسكري في سورية، بدأت بصفقة أجريت بين الخارجية الروسية والخارجية الأمريكية سلّم بموجبها النظام السوري سلاحه الكيماوي، مقابل وقف أي عمل عسكري أمريكي في حقه عقب هجوم 21 آب 2013. تلا الصفقة الكيماوية جهود دولية مكّثفة لدفع دمشق والمعارضة السورية إلى الجلوس على طاولة المفاوضات وأسفرت بنهاية المطاف عن انعقاد مؤتمر جنيف 2 للسلام في سويسرا، ولكن كتب له الفشل بعد جولتين في شهر كانون الثاني وشباط 2014. ترافق تعثر المسار السياسي في جنيف مع تكثيف جهود النظام في إبرام اتفاقات هدن محلية في محيط دمشق أبرزها اتفاقات قدسيا والهامة (2-11-2013)، ومعضمية الشام (25-12-2013)، وبرزة (5-1-2014)، والقابون (26-1-2014)، وحرستا/القسم الغربي (2014)، ويلدا وببيلا (17-2-2014)، والتل (25-4-2014).
شهدت هذه المرحلة فعالية أكبر لأذرع إيران العسكرية في سورية حيث كثّف حزب الله اللبناني وجوده وانضمت إليه 13 مليشيا عراقية شيعية، وتولت هذه القوات بغطاء جوي من النظام مهمة تعزيز سيطرته في الجبهة الوسطى، ومحاصرة قوى المقاومة الوطنية في حلب ودمشق. وأوجد التدخل الإيراني المباشر في البلاد، بالإضافة للتراخي الدولي في التعامل مع النظام، المناخ المناسب لنمو تنظيم الدولة. فانتهز التنظيم تراجع أداء قوى المقاومة الوطنية في فرض نفسه ميدانياً في المناطق المحررة.
برر توسع داعش في سورية استجابة المجتمع الدولي لمطلب النظام في أولوية محاربة الإرهاب فتم فصل مسار محاربة التنظيم عن المسار السياسي ونتائجه. أوجد هذا الفصل هوامش جديدة للنظام وحلفائه استطاعوا من خلالها اكتساب شرعية دولية في استهداف القوى الوطنية بذريعة محاربة التنظيمات الإرهابية.
المرحلة الرابعة: فيينا وإدارة الاستثناءات
مثّل التدخل الروسي إلى جانب الأسد أهم عامل في انهيار العملية السياسية (العقيمة أصلاً) في سورية، ونتج عنه بيان فيينا الشهير المؤسس لقرار مجلس الأمن 2254 القاضي باستئناف المفاوضات بين النظام والمقاومة الوطنية على نفس أسس بيان جنيف ولكن مع فصل وقف إطلاق النار عن نتائج المسار السياسي، وهو ما يسلب قوى المقاومة آخر أوراق ضغط على النظام أو المجتمع الدولي لإلزامهم بأي مخرجات منطقية وواقعية للعملية التفاوضية. ولقد أثمر التعاون الروسي الأمريكي عن رؤية مشتركة لوقف إطلاق نار غير مشروط يستثني تنظيم داعش وجبهة النصرة، وهو ما يبيح للنظام استهداف المقاومة الوطنية بذريعة التصدي لخطر الارهاب.
مباحثات فيينا للسلام بغياب الأطراف السورية 15 تشرين الثاني 2016
التوظيف المصلحي للعملية التفاوضية المحلية
لعبت العوامل العسكرية والسياسية الآنف ذكرها دوراً هاماً في تغيير مقاربة طرفي الصراع للتفاوض، حيث أصبح ممثلو الحراك الثوري أكثر جرأة لتقبل الطرح باعتباره الفعل السياسي المكمل لمعركة إسقاط النظام عبر الإقرار بشرعيتهم وتحقيق مطالبهم المرحلية وصولاً إلى إسقاط النظام، في حين كان لفصائل المقاومة الوطنية اعتباراتها الخاصة للقبول بالتفاوض ومنها:
1 شرعنة دورها والحفاظ على المكتسبات التي تحققت لها
2 ضمان استمراريتها كقوى فاعلة في أي ترتيبات سياسية أو عسكرية تفترضها المرحلة الانتقالية
3 احتواء الضغط الناجم عن صعود الجماعات العابرة للحدود
4 ترميم علاقاتها بالمجتمع المحلي من خلال تمثيل مطالبه.
بالمقابل وظف النظام التفاوض المحلي كتكتيك لتحقيق مكاسب سياسية وعسكرية على المدى القصير والبعيد عبر ربطه باستراتيجية أشمل تهدف إلى:
1 استعادة التوازن الميداني المفقود بحكم انتشار رقعة الاحتجاجات وعجز المؤسستين العسكرية والأمنية المترهلتين عن حسم الموقف
2 إحكام السيطرة على سورية المفيدة عبر تكتيكات دفاعية (تسكين الجبهات) وأخرى هجومية (عمليات عسكرية) تتكامل فيما بينها، وتسهم في تعزيز تموضع النظام في أي عملية تفاوضية
3 تعميق إشكالية تمثيل المقاومة الوطنية من خلال تقسيمها إلى محلية يمكن التفاوض معها وأخرى خارجية يتعذر التعامل معها على اعتبار أن لا وزن سياسياً لها على الأرض
4 ضرب وحدة المقاومة الوطنية محلياً من خلال تأجيج التناقضات داخلها بين تيار يقبل بالتفاوض وآخر رافض له، وهو ما يتيح للنظام احتواء التيار الأول وضرب الثاني عبر وسمه بالإرهاب.
ويكتمل المشهد المحلي ببروز طرف ثالث يقوم بدور الوساطة بين النظام والمقاومة لتكتمل العملية التفاوضية، وهو ما قامت به لجان الوساطة المحلية المكونة من شخصيات حزبية ورجال دين وتكنوقراط وتجار، مدفوعة برغبتها في استعادة دورها المتآكل أمام صعود قوى مجتمعية جديدة، إضافة إلى استعادة شرعيتها التي فُقدت بحكم موقفها تجاه الحراك الثوري، كما لعبت دول إقليمية (إيران) ودولية (روسيا) ومنظمات إقليمية (IHH, HD) وأممية (الأمم المتحدة) دور الوسيط والضامن للعملية التفاوضية المحلية.
اتفاقيات الهدن
يعرّف اتفاق الهدنة بأنه: عملية تفاوضية يتم بموجبها التوصل لوقف مؤقت للعمليات القتالية، مفتوح على احتمالات عدة كالتوصل إلى اتفاق سلام أو تمديد وقف إطلاق النار أو تجدد العمليات القتالية. تم التوصل إلى أول اتفاق معلن لوقف إطلاق النار في سورية في مدينة الزبداني (كانون الثاني 2012)، ليشهد عاما 2013-2014 العدد الأكبر من اتفاقيات الهدن التي تم التوصل إليها والمقدر عددها بين كانون الثاني 2012 إلى تموز 2016 بـــ 24 اتفاق بين معلن وغير معلن.
لعبت الجهات الثلاث الرئيسة، النظام، والمقاومة الوطنية، والوسطاء أدوراً متفاوتة في عملية التوصل لاتفاقيات وقف إطلاق النار كالتالي:
• النظام: لعب المركز المتمثل بالأسد والحكومة دوراً ضعيفاً في عقد اتفاقيات الهدن، في حين تصدرت قوى عسكرية وأمنية محلية لهذه المهمة، الفرقة الرابعة في هدن محيط العاصمة، الفرقة الثالثة في منطقة القلمون الشرقي، الأمن السياسي والحرس الجمهوري في مدينة التل.
• المقاومة الوطنية: لعبت الفصائل العسكرية المحلية والإسلامية دوراً رئيساً في عقد اتفاقيات الهدن، يضاف إليها ممثلي الفاعليات المدنية كالمجالس المحلية والحراك الثوري والوجهاء المحليين ورجال الدين.
• الوسطاء: لعبت لجان المصالحة المحلية المكونة من وجهاء محليين وشخصيات حزبية ورجال دين وتجار محسوبين على التيار الرمادي دوراً تمهيدياً في إجراء محادثات غير مباشرة بين الطرفين قبل أن يتولى مسؤولو النظام إدارة المراحل المتقدمة من التفاوض. كما تم تسجيل وساطة دول إيران روسيا بالإضافة إلى منظمات إقليمية وأممية في عدد من الاتفاقيات.
أما بخصوص ملفات التفاوض فتشمل:
1 الترتيبات الأمنية المتعلقة بوقف إطلاق النار وتحديد طبيعة القوى المسيطرة وتنظيم مهامها وعلاقاتها،
2 الملف الخدمي فيما يتصل بتوفير الخدمات وإدارتها،
3 الملف الحقوقي المتمثل بمعالجة قضية المعتقلين والأسرى،
4 الملف الإنساني/الاجتماعي المتصل برفع الحصار وتسهيل عودة السكان لمناطق الهدن.
المصالحات المحلية
يمكن تعريف المصالحة المحلية القائمة في سورية بأنها: عملية تفاوضية محلية تتم بين ممثلي كل من النظام والمجتمعات المحلية، يتم بموجبها استعادة النظام السيطرة على المناطق التي خسرها في وقت سابق مع إدارتها بشكل حصري عبر مؤسساته، بالتزامن مع تسوية وضع مناصري المقاومة الوطنية وممثليه عبر عمليات تسوية فردية، ومنح سكان تلك المناطق الإذن بالعودة لمنازلهم. بلغ عدد اتفاقيات المصالحة التي تم التوصل إليها منذ تاريخ تشكيل وزارة الدولة "لشؤون المصالحة الوطنية" في حزيران 2012 ولغاية نيسان 2016 ما عدده 50 اتفاق وذلك بحسب تصريحات وزير المصالحة علي حيدر. ومن أبرز تلك الاتفاقيات: قارة وحوش عرب وعرسال والجبة وحفير الفوقا ومعضمية القلمون والبويضة والذيابية في محافظة ريف دمشق، قرى في الريف الشرقي لمحافظة حمص منها: سكرة، الريان، أحمر، شلوح، المضابع، قرى ومزارع في ريف ناحية الحمراء الشرقي والغربي ومنطقة صوران إضافة إلى قريتي السمرة وكوكب في محافظة حماة، قرى ومزارع في ريف محافظة اللاذقية منها: البلاطة وبلوطة واوبيم ووطى الخان وتلا وبيت الشكوحي وكفرية وحكوم والمريج ومرج خوخة وعين الجوزة وترتياح وسلمى والقرامة والسفكون وسولاس وخربة سولاس والروضة والدرة والعالية والوادي وعطيرة والقصب. قرى ومزارع في ريف محافظة القنيطرة منها: جباتا الخشب وطرنجة وأوفانيا ومزارع عين البيضا وجورة الشيخ وأم باطنة وممتة والصمدانية الشرقية..
بدأت اتفاقيات المصالحة بالظهور منتصف 2014، ليتصاعد زخمها في عامي 2015-2016 كترجمة للتحول في الموقف العسكري والسياسي الذي بدأ يميل لصالح النظام السوري، ويمكن إيجاز أبرز عناصر المشهد العام المحفز لعقد اتفاقيات المصالحة بــ:
1 غلبة الاعتبارات الأمنية ومتطلبات مكافحة الإرهاب على الإدارة الدولية للملف السوري،
2 تآكل مسار جنيف للحل السياسي، تحسن تموضع النظام العسكري والانتقال من حالة الدفاع إلى الهجوم مدعوماً بقدرات إيرانية وروسية،
3 تآكل مناطق سيطرة المقاومة الوطنية ومحاصرتها من قبل تحالف أعداء يضم كلاً من النظام السوري وتنظيم "الدولة الإسلامية" ووحدات الحماية الشعبية،
4 انكفاء المعسكر الإقليمي والدولي الداعم للمعارضة في ظل حضور مكثف ومباشر لحلفاء النظام في المشهد السوري لاسيما روسيا التي انخرطت بشكل مكثف في تفاصيل المشهد الداخلي عقب تأسيسها لمركز التنسيق الروسي في حميميم.
وتغيرت طبيعة أدوار الجهات الثلاث الرئيسة كالتالي:
• النظام: استمرت الفرق العسكرية والفروع الأمنية في لعب دور المحرك الرئيس والمقيم الأساس لترتيب أولويات المصالحات، ولكن أضيف إليها كل من وزارة الدولة لشؤون المصالحة الوطنية، لجنة المصالحة الوطنية في مجلس الشعب، حزب البعث العربي الاشتراكي. أفرزت هذه التعددية تضارباً في الأدوار وتنافساً سلبياً، وهو ما عبّر عنه رئيس لجنة المصالحة في مجلس الشعب خير الدين السيد حينما اشتكى من غياب التعاون بين وزارة المصالحة واللجنة التي يرأسها. وكذلك أكد جابر عيسى رئيس لجان المصالحة الشعبية هذه الإشكالية حينما قال: "يوجد العديد من الجهات العاملة في مجال المصالحة، وتعود هذه الأعمال إلى جهات مختلفة في الدولة لجنة هنا وأخرى هناك ولجان الوزارة ولجنة مجلس الشعب ولجان المحافظين ولجان أمناء الفروع ولجان العشائر ولجان شيوخ الدين ولجان المكاتب الخاصة، الأمر الذي أدى إلى تفتيت الجهود ولتصبح المصالحة محط خلاف ونزاع وتخوين.
• المقاومة الوطنية: انحصر دور المقاومة الوطنية في الفصائل العسكرية المحلية، والفاعليات المدنية المحلية المكونة من وجهاء ورجال دين، فيما لوحظ تراجع تأثير القوى ذات الانتماء الأوسع.
• الوسطاء: تعددت لجان المصالحة المحلية ليبلغ عددها 30 مبادرة أهلية بحسب تصريح علي حيدر، ومن أهمها: اللجنة المركزية للمصالحة الشعبية "المبادرة الأهلية للمصالحة الوطنية" ويترأسها جابر العيسى وعدد أعضائها 1000 فرد. ويضاف إلى لجان المصالحة المحلية، روسيا التي تلعب دوراً مباشر في عمليات المصالحة كوسيط وضامن من خلال التواصل مع ممثلي المقاومة المحلية عبر ممثل مركز التنسيق الروسي المتواجد في كل محافظة، وبالتنسيق مع القوى المعنية بالأمر من جانب النظام.
مراحل عقد اتفاق المصالحة المحلية
شهدت اتفاقات المصالحات المحلية تدخل طرف رابع بالإضافة للجهات الثلاث الرئيسة تُمثله دول تعمل على توفير الدعم السياسي لعملية المصالحة ومنها: مصر، اليمن، العراق، اندونيسيا، الصين، جنوب أفريقيا، جمهورية التشيك، السودان.
أما بخصوص ملفات التفاوض فتشمل:
1 الملف الأمني الذي يشتمل على ترتيبات تسليم السلاح وتسوية وضع مقاتلي الفصائل المحلية إما بتركهم أو ترحيلهم أو دمجهم في قوات الأسد والميليشيات المتحالفة معه،
2 الملف الخدمي من حيث مسؤولية النظام عن توفير الخدمات الأساسية وتأهيل البنية التحتية وإعادة تشغيل مؤسسات الدولة،
3 الملف الإنساني: فك الحصار وتسهيل عودة المهجرين إلى مناطقهم.
اتفاقيات الإخلاء
يمكن تعريف اتفاقيات الإخلاء التي تم التوصل إليها في سورية بأنها: عملية تفاوضية ذات بعد ديمغرافي تجري بين ممثلي النظام والمقاومة المحلية بوساطة أممية، يتمخض عنها استعادة النظام المناطق التي تسيطر عليها فصائل المقاومة علاوة على تهجير من فيها من مدنيين ومقاتلين. بدأت أولى اتفاقيات الإخلاء في عام 2012، ليشهد عاما 2015-2016 العدد الأكبر من اتفاقيات الإخلاء التي تم التوصل إليها والتي يقدر عددها بين (حزيران 2012-آب 2016) بـــ 7 اتفاقيات، 4 منها تمت في حين ما تزال 3 معلقة بانتظار التنفيذ، ويمكن تزمين اتفاقيات الإخلاء وفق الشكل التالي: تلكلخ (حزيران 2012)، حمص القديمة (7-5-2014)، الحجر الأسود (6-7-2015)، الزبداني (19-9-2015)، حي القدم (23-12-2015)، قريتي قزحل وأم القصب (21-7-2016)، داريا (25-8-2016). ومما يلحظ أن محافظتي حمص وريف دمشق كانتا الأكثر استهدافاً باتفاقيات الإخلاء بــ 6 من أصل 7، وهو ما يعتبر مؤشراً على توجه مقصود من قبل النظام وحلفائه خاصة إيران لتعزيز سيطرتهم على العقد الاستراتيجية فيما يعرف بسورية المفيدة من خلال تصفية مناطق سيطرة المقاومة فيها، وإجراء تغيير ديمغرافي يعزز من أمن النظام وتموضع حلفائه في أي ترتيبات مستقبلية لسورية. بالنظر إلى السياق الزمني الذي عقدت فيه اتفاقيات الإخلاء، يلاحظ أنها جرت بالتزامن مع اتفاقيات المصالحات حينما كان للنظام اليد الطولى سياسياً وعسكرياً على حساب المقاومة الوطنية.
يشير تحديد أطراف اتفاقيات الإخلاء إلى حجم الدور الخارجي اللازم لإنضاج هكذا اتفاقيات نظراً إلى تعقيدات الملف وحساسيته، حيث كان لإيران دور رئيس في التوصل لاتفاقي حمص القديمة والزبداني، كما تمت معظم الاتفاقيات برعاية أممية وهو ما يطرح تساؤلات جدية حول حيادية ونزاهة الأمم المتحدة في الملف السوري، ومدى نجاح النظام وحلفائه في تطويعها خدمةً لأهدافهم. أما من جانب النظام فيغلب على ممثليه الصفة الأمنية والعسكرية (اللجنة الأمنية، المخابرات، الحرس الجمهوري) باعتبارهم القوى المعنية بتنفيذ الاتفاق. بالمقابل لجأت أغلب الفصائل المحلية إلى تحالف أوسع مع الفاعليات المدنية عبر تشكيل لجان تفاوض تتولى إدارة المفاوضات، ويمكن تفسير هذا التوجه بحساسية موضوع التفاوض وعدم رغبة الفصائل في تحمل تبعات هذا القرار لوحدها، إضافة لرغبتها في الحصول على أكبر تأييد ممكن للاتفاق، وفي جانب آخر تفويت الفرصة على النظام لاستغلال أي حالة انقسام داخلية لإضعاف الموقف التفاوضي للفصائل.
توسع دائرة المصالحات في سوريا
تقارير إعلامية للنظام وحلفائه حول المصالحات واتفاقاقات الاخلاء
تقييم مخرجات العملية التفاوضية المحلية ومآلاتها المستقبلية
أحدثت العملية التفاوضية المحلية أثراً لا يمكن تجاهله في المشهد السوري، وفي حين يدعي النظام مع حلفائه بأنها عملية تراكمية تؤسس لسلام مستدام عبر حوار داخلي، فإن تقييم المخرجات الناجمة عنها يشير إلى أثرها المحدود في معالجة الملفات الرئيسة المهيئة للاستقرار والسلام في سورية وهي: العملية السياسية الانتقالية، الإدارة المحلية، الأمن المجتمعي، الملف الإنساني، الملف الأمني، الملف الاقتصادي والخدمي. كما أنها كعملية تفاوضية مسيسة وغير مكتملة في ظل غياب آليات للتحقق والمراقبة وافتقارها إلى ضمانات جدية نتيجة رعايتها من قبل أطراف يشك في حيادهم، إضافة إلى وجود تضارب في أدوار القوى المنخرطة فيها وتباين مصالحهم وتوقعاتهم وهو ما يهدد الاتفاقيات التي يتم التوصل إليها أو يؤخر عملية تنفيذها أو يشوهها، وفيما يلي تقييم لمخرجات العملية التفاوضية مع توقع مآلات كل منها.
اتفاقيات الهدن: مسار متآكل لاتفاقيات هشة
لا يزال 20 اتفاق هدنة قائم من أصل 24 رغم تعرضها لخروقات مستمرة من قبل النظام، مع وجود مساعٍ حثيثة لتطويرها إلى اتفاقيات مصالحة أو إخلاء. أما عن تأثير الهدن على معاش وأحوال السكان فلا توجد وقائع كافية تؤيد القول بتحسن الوضع المعيشي والخدمي والحقوقي للسكان في تلك المناطق وهو ما لاحظته عدة دراسات تناولت هذا الجانب.
المصالحات المحلية: مسار متنامٍ برعاية روسية
يلحظ من خلال المعطيات المتوفرة حول اتفاقيات المصالحات وجود علاقة طردية بين زيادة حدة التدخل الروسي وعدد المصالحات التي تم التوصل إليها، إضافة إلى توزع معظم المصالحات في أرياف المحافظات، ومن المتوقع في هذا السياق ارتفاع عدد المناطق التي ستنضم إلى اتفاق المصالحات خاصة مع استمرار الضغط العسكري من قبل النظام وحلفائه وتعطيل مسار الحل السياسي، وغياب أي جهد فعال ومؤثر لإعادة التوازن العسكري بين النظام والمقاومة الوطنية.
أما المناطق المرشحة بالدرجة الأولى لعقد اتفاقيات مصالحة محلية فتشمل: قدسيا/الهامة، التل، وادي بردى، مدن وبلدات ريف حمص الشمالي، بلدات ريف القنيطرة، الغارية الشرقية والغربية، أم ولد، مزيريب، تل شهاب، داعل، نصيب، الطيبة، بصر الحرير، النعيمة، اليادودة، نمر، الحارة، جاسم، داعل، ابطع، انخل، وهو ما يفسر التصعيد العسكري وسياسة الحصار الممارس بحق المدن السابقة.
وفيما يتعلق بتأثير اتفاقيات المصالحة المحلية على أحوال ومعاش السكان المحليين فهي كالتالي:
1 عدم عودة المهجرين إلى مدنهم الأصلية رغم انقضاء مدة طويلة على عقد اتفاق المصالحة.
2 عدم وفاء النظام بوعوده في توفير الخدمات للمهجرين.
3 ضعف ثقة السكان بالمصالحة وتعرضهم لحالات ابتزاز من قبل لجان المصالحة وهو ما أكده علي حيدر.
4 تجاهل معالجة ملف المعتقلين وعدم الالتزام بأي بند يتعلق بإخراج أبناء المناطق من سجون النظام.
5 استمرار التمييز السلبي والطائفي بحق أهالي مناطق المصالحة من قبل مؤسسات الدولة.
اتفاقيات الإخلاء: التهجير المستمر
تميل المؤشرات الراهنة لدعم السيناريو القائل بازدياد عدد المناطق المشمولة باتفاقيات الإخلاء لاسيما مع استمرار سياسة التجويع والحصار والضغط العسكري التي يمارسها النظام مدعوماً من حلفائه بحق مناطق المقاومة المحلية. أما المناطق التي يتوقع أن تستهدفها اتفاقيات الإخلاء في المرحلة المقبلة فتشمل جيوب المقاومة المتبقية في محيط العاصمة وفي المنطقة الحدودية بين سورية ولبنان باعتبارها مناطق مشمولة بالاستراتيجية الإيرانية الساعية لإحكام السيطرة على مراكز التأثير في سورية المفيدة. أما فيما يتعلق بالتأثيرات الناجمة عن اتفاقيات الإخلاء فمتعددة ومنها:
• تآكل الموقف التفاوضي للمعارضة مع خسارتها لمواقعها في محيط العاصمة وعلى طول سورية المفيدة،
• إحداث تغير ديمغرافي مقصود من خلال استبدال مكون محلي أصيل بمكونات مجتمعية متشيعة من مناطق أخرى وبما يؤثر على المعادلات الأمنية والسياسية لسورية المستقبل،
• تعزيز تمثيل نظام الأسد للدولة السورية من خلال القضاء على نماذج متقدمة في الإدارة المحلية للمعارضة كما حصل في داريا.
ملاحظات
1. لا يمكن اعتبار العملية التفاوضية المحلية مرتكزاً لبناء سلام مستدام كما يسوق بذلك النظام وحلفائه، وذلك لأثرها المحدود في حلحلة الملفات الإشكالية المحركة للصراع في سورية، وأصدق توصيف يمكن أن يطلق عليها بكونها تكتيك مصلحي منفعل بمعطيات الواقع السياسي والعسكري؛
2. من المتوقع أن يشهد مسار العملية التفاوضية المحلية حراكاً متنامياً في الفترة المقبلة لاسيما لجهة اتفاقيات الإخلاء والمصالحات، مدفوعةً بتعهد روسيا المباشر لها من جهة وممارستها من جهة أخرى لضغوط عسكرية وسياسية على المعارضة المحلية التي تجد نفسها أمام خيارات محدودة في ظل الزهد الأمريكي وضيق هامش مناورة حلفائها الإقليميين؛
3. إن تتبع الأطراف المشاركة في صياغة الاتفاقيات المحلية من جانب النظام ليظهر مقدار تشظي القوة داخله وتوزعها على قوى أمنية وعسكرية مناطقية متنافسة ومستقطبة من قبل قوى إقليمية (إيران) ودولية (روسيا)، كما يظهر محاولة قوى مجتمعية محلية استثمار العملية التفاوضية لترميم دورها الذي تآكل في ظل الحراك الثوري؛
4. لم يلحظ دور لهيئات المعارضة السياسية المعترف بها في عمليات التفاوض المحلي، الأمر الذي يتطلب منها تبني مقاربة أشمل وتكاملية للتفاوض على المستويين المحلي والكلي وتفويت الفرصة على النظام لضرب مصداقيتها وشرعيتها؛
5. تتمثل خطورة اتفاقيات الإخلاء بالنوايا المحركة لها من حيث رغبة إيران إحداث تغييرات ديمغرافية برعاية أممية في مناطق مفتاحية في دمشق ومحطيها باتجاه حمص، أي إعادة تجربة الضاحية الجنوبية في سورية، علماً أن الوافدين الجدد لهذه المناطق سيكونون من شيعة سورية والمتشيعين الجدد خاصة من العلويين.
المفارقة المؤلمة، أن السوريين الذين نجحوا في كسر جدار الخوف والصمت المطبق على صدورهم لعقود، ورفعوا صوتهم عالياً ضد الواقع القائم مطالبين بعد ركود طويل بحريتهم وحقوقهم، باتوا اليوم تحت رحمة مخاوف جديدة، أنعشت وعززت ما اختزنته أرواحهم من خوف ورهبة دأبت قوى القهر والاستبداد على نشرهما وترسيخهما لإخماد نفوس البشر وشلّ دورهم في الحياة العامة.
الخوف الأعم والأعمق لدى غالبية السوريون، يثـيـره استمرار الصـراع الدمـوي في البلاد وتصاعد العنف المنفلت وما يخلفه من ضحايا وخراب ومعوقين ومشردين، مــهدداً مع كل يــوم يمر حيوات المزيد من المواطنين وبيوتهم وممتلكاتهم وشروط عيشهم، وإذا أضفنا فشل مشاريع التهدئة وتفاقم خلافات الراعيين الأميركي والروسي وعجزهما عن حقن الدماء وتفعيل خطة الحل السياسي، ثم المقارعة الإقليمية على النفوذ، وتقدم وزن مراكز قوى محلية من النظام والمعارضة على السواء، لا مصلحة لها بالسلام وإخماد الصراع بل يهمها استمرار مناخ الحرب للحفاظ على امتيازاتها ومصادر ثرواتها، وأضفنا أيضاً تنامي خشية السوريين على مصير وطن حملوا اسمه ويعتزون بالانتماء إليه، إن لجهة ما خلقه منطق السلاح من اصطفافات وتخندقات سهلت وضع فكرة التقسيم البغيضة موضع التنفيذ، وإن لجهة ما ولدته الاستفزازات الطائفية ولغة التجييش ضد الآخر من شروخ وتصدعات عميقة ومن شحن العصبيات والغرائز وروح التنابذ والنزاع في المجتمع، وإن لجهة تصاعد الاستباحة الخارجية للبلاد من أطراف لا يهمها دم السوريين واجتماعهم الوطني بقدر ما يهمها حماية مصالحها وجعل سورية ميداناً لتصفية حساباتها مع التطرف الجهادي ومع خصومها لتحسين فرص نفوذها وحصتها من الهيمنة على المشرق العربي، ثم أضفنا إصرار النظام وبعض الجماعات المسلحة على الخيار العسكري وتنامي شعور كل منهما مدعوماً من حلفائه بقدرته على تعديل التوازنات القائمة والتقدم نحو الحسم، نــقــف أمام أهم دوافع خوف السوريين من حاضر دموي مؤلم وخطير ومن مستقبـــل لا أفـــق سياسياً له ومكتــظ بمزيـــد مــن الضحايا والخراب، ولا يغير هذه الحقيـــقـــة بل يزيدها وضوحاً، احتمال انتصار طرف على آخر، وإن في صورة نسبية وموقتة، ما يفـــضي إلى إجهاض خطة الحل السياسي تماماً، ويستجر، كما درجت العادة في الصراعات الأهلية، ردود أفعال ثأرية وانتقامية، وعودة قوية للغة القهر والتمييز.
لا نأتي بجديد عند التذكير بخوف السوريين المزمن من سطوة أجهزة السلطة على حياتهم ومقدراتهم وتفاصيل عيشهم، أو بنهج مديد من الاعتقال التعسفي والتغييب غير محدّد الزمن، فكيف مع شروط حياة لا تطاق اليوم للسجناء وقد باتوا بلا قيمة تذكر ويخضعون لكل أصناف التعذيب والإذلال؟ وكيف الحال مع تعدد المراكز التي يحق لها أن تفعل ما تشاء بالمواطن من دون أن تخضع لأية مساءلة أو محاسبة؟ وكيف الحال مع رعب السوريين من احتمال أن تحكمهم فصائل إسلاموية جهادية، مصابة بالعمى الأيديولوجي وتواجه قتلاً وتكفيراً أي تفسير أو اجتهاد يخالف ما تعتقده، ساعية الى فرض نمط حياتها وما تحلله وتحرمه على الناس أجمعين من دون احترام لخيارتهم الإنسانية ولأبسط حاجاتهم وحقوقهم، ومستسهلة تحت الراية الدينية مصادرة كل شيء وتطبيق حدودها الجائرة من سبي وإعدام وجلد وبتر، من غير شأفة أو رحمة.
داهم السوريين خوف جديد ولده تراجع إمكاناتهم على العيش وقدراتهم على تأمين حاجاتهم الحيوية، وإذا وضعنا جانباً من خسر بيته وممتلكاته ومدخراته نتيجة القصف والتدمير وبات في حالة عوز شديد، وتجاوزنا من فقد عمله ولا يجد فرصة لتأمين دخل مادي يقي نفسه وأسرته من الجوع والحرمان، نقف عند تردي أحوال غالبية العاملين في الدولة وقد باتوا يلهثون بلا جدوى وراء لقمة العيش مع الارتفاع الجنوني في الأسعار والتراجع الكبير في سعر صرف الليرة السورية، زاد الطين بلة ما خلفه العنف المفرط من دمار في البنية التحتية وتهتك الكثير من المؤسسات الإنتاجية والخدمية والصحية والتعليمية.
وأخيراً، ثمة خوف يتفاقم لدى النازحين واللاجئين السوريين ليس فقط من عوامل الطبيعة ببردها وقيظها، أو من تراجع المعونات وتردي شروط حياتهم في المخيمات وضياع مستقبل الملايين من أطفالهم، وإنما أيضاً من تغير موقف مجتمعات الاغتراب منهم، نتيجة ضغط كثرتهم عليها وما حصل من تعديات داعشية فيها، وتالياً من صعوبة بحثهم عن حلول كريمة للاستمرار في العيش هناك، والتكيف مع ظواهر التمييز والإذلال، أحد وجوهها رفض التعاطي معهم أو مساعدتهم، وأحياناً معاملتهم كالمنبوذين والأعداء، وتجنب مشاركتهم وسائل النقل العامة والمطاعم وحتى الأرصفة والشوارع.
صحيح أن قيام ثورات الربيع العربي شكّل تحولاً في نفسية السوريين وحافزاً، وإن تأخر كثيراً، للنهوض وكسر جدار الصمت والخوف، وصحيح أن السلطة الحاكمة التي تنكرت لأسباب الصراع السياسية، ورفضت تقديم التنازلات، وتصرفت كأنها في معركة وجود أو لا وجود، لا تزال مصممة على فرض هيبتها على المجتمع بمنطق القوة والغلبة، في رهان على إعادة الأمور إلى ما كانت عليه وتثبيت مناخ الخوف والرعب مجدداً، لكن الصحيح أيضاً أن استمرار خوف الناس من غدهم ومما هم فيه وفقدانهم أي دور في محاصرة العنف والحض على حل سياسي يحفظ وحدة البلاد ومشروع التغيير الديموقراطي، لم يعد سببه انفلات عنف النظام فقط، ولا جماعات جهادية ديدنها التعصب والإرهاب، وإنما أيضاً غياب بديل سياسي يحوز ثقة المجتمع، يحدوه ضعف المعارضة السورية وارتهانها لضغوط الجماعات الإسلاموية المسلحة ولإملاءات الخارج، واستمرار عجزها بأطيافها كافة عن إدارة صراع دموي مكلف وعن إطلاق المبادرات التي تساعد على تخفيف معاناة البشر وما يكابدونه، وعن طمأنة الجميع، سياسياً وأخلاقياً، بأنها طرف يمكن الركون إليه لتجنيب المجتمع مزيداً من العنف والفوضى والخراب.
لم تشكّل الأزمة الأوكرانية، على رغم حساسيتها بالنسبة إلى روسيا وإلى الحلف الأطلسي، تجربة جديدة لموسكو خارج حدودها سياسياً وعسكرياً، فشبه جزيرة القرم كان جزءاً من روسيا وجرى ضمه إلى أوكرانيا في عهد نيكيتا خروتشوف ربما لأن ذلك القائد السوفياتي كان أوكرانياً، والخلاف مع الأطلسي في أوروبا الشرقية هو جزء من القلق الذي يصحب رسم حدود جديدة للنفوذ بعد انهيار الاتحاد السوفياتي.
الأزمة السورية هي التجربة الأولى في امتداد الاتحاد الروسي خارج حدوده، وعلى رغم العلاقات الحميمة بين موسكو ودمشق فإن الجيش الروسي لم يحط آلياته وعديده في الساحل السوري إلاّ بعد حوالى أربع سنوات من بدء ثورة سورية تحوّلت، مع التدخّلات، إلى حرب أهلية ثم إقليمية، لتخطو مع الحضورين العسكريين الروسي والأميركي نحو ما يشبه حرباً دولية.
ويلاحظ المخضرمون في مقر الأمم المتحدة في نيويورك أن الأميركيين والروس لم يصلوا إلى هذه الدرجة من التنافر والتوتر حتى في أزمات الحرب الباردة في العهد السوفياتي. وفي هذه الأجواء المشحونة ثمة من يوزّع إشاعات تفيد أن لقاء أصدقاء سورية في باريس ستنجم عنه قرارات سرّية بهجوم عسكري أطلسي لاحتلال سورية، وترافق ذلك مع إعلان موسكو نشر صواريخ «أس 300» في طرطوس، تضاف إلى صواريخ أخرى في قاعدة حميميم، ما يعني استعداداً لمواجهة أي هجوم على الجيش السوري واعتباره هجوماً على الجيش الروسي الحليف. وحملت الأخبار في هذا الإطار خبر وصول زورقي صواريخ روسيين إلى شرق المتوسط تتبعهما حاملة طائرات لتعزيز الاستعدادات لأي حرب محتملة.
ليست طبول الحرب التي تدقّ بل هو فشل المحادثات السياسية الطويلة والبطيئة لوزيري الخارجية سيرغي لافروف وجون كيري، خصوصاً بعد توصّلهما إلى اتفاق لوقف النار والمساعدات الإنسانية لم ينشر كاملاً، كما لم يستكمل الطرفان تشكيل اللجنة المشتركة لمراقبة وقف النار وفقاً للاتفاق.
لم تتحمّل واشنطن ضربات القتل والتدمير المتواصلة في حلب فأوقفت المحادثات مع موسكو، تاركة لصقور البنتاغون أن يتسيّدوا القرار، فهل من مواجهة؟ أم أن البنتاغون لن يضع على مكتب باراك أوباما قرار الحرب ليوقّعه، مكتفياً بوصول «الجبّارين» الأميركي والروسي إلى حافّة الحرب، ربما لمعاودة المحادثات على أسس أكثر وضوحاً، على رغم تعقيدات الوضع السوري، بطرفيه، النظام والمعارضة المسلّحة، ومن يعاونهما.
وإذ نقول «جبارَيْن» تبدو روسيا غير جديرة باللقب، فالرؤية شبه الفاشية لفلاديمير بوتين توصله إلى معارك لا يستطيع إغلاقها، وكل ما في الأمر أنه يرى النفوذ مجرّد سيطرة عسكرية وأمنية، وتلك صفة عالم ثالثية عرفناها في أنظمة استبداد، من بينها عربياً نظاما جمال عبدالناصر وصدّام حسين. أما النفوذ في الرؤية الديموقراطية فيتّخذ أشكالاً ثقافية وعلمية، وبالتحديد احترام الدساتير ودولة القانون الذي يطبّق بالتساوي على المواطنين.
يعيدنا بوتين إلى مراحل الاستبداد، لذلك نراه في أول خروج لروسيا لتأسيس مراكز نفوذ وتأكيد قطبيتها العالمية، يتصرف باستخفاف المستبدّ القوي، فنراه يعقد علاقات متشابكة مع إيران وسورية القريبتين إليه سياسياً، ومع دول أخرى لا تشاركه الموقف السياسي. يوصله سعيه إلى التشابك فلا يستطيع تمييز النهايات من البدايات، ولا إقرار ثوابت تحكم علاقات دولة بدولة سياسياً واقتصادياً وثقافياً، بل حتى عسكرياً لإنهاء الحرب.
سورية في محرقة مؤكدة حتى مطالع كانون الثاني (يناير) المقبل وإطلالة الرئيس الأميركي الجديد، أو الرئيسة. أما نحن العرب فنستمر في استنهاض مفردات ثقافية تليدة تدفعنا إلى الدم والخراب، وننتهز الأزمات السياسية لتصفية حسابات قديمة أو جديدة، تاركين للأجيال المقبلة عبء البناء، وسيأتي في أعقابهم من يهدمه... وهكذا.
اللواء يحيى رحيم صفوي، المستشار العسكري للمرشد الأعلى الإيراني علي خامنئي متوجس، فهو حذّر بصراحة مطلقة روسيا والولايات المتحدة من تجاهل «حصة إيران في سوريا» وقال إنه يتخوف من أن تؤدي الاتصالات السرية بين البلدين إلى «حصة أقل لإيران».
لكن ما نوع الحصة التي تريدها إيران، وهل روسيا معنية كثيرًا بأهداف إيران؟ الطرفان يختلفان حول مصير الأسد وكل لأسبابه الخاصة. فبسبب موقع سوريا الاستراتيجي، تنظر إيران إلى التسوية السلمية وسيلة للحفاظ على نفوذها، وفي جهدها لتحقيق هيمنة إقليمية فإنها ترى سوريا أفضل ممر لإمداداتها لـ«حزب الله» في لبنان. تدرك أن أي اتفاق سلام لإيقاف الحرب سيؤدي إلى تقاسم السلطة على أساس عرقي - مذهبي سيكون بالطبع عرضة لشلل سياسي، لذلك فإنها تفضل ألا تكون هناك سلطة مركزية، لأنها تريد المحافظة على الأرض السورية جسرا لجماعاتها في لبنان. وبالتحديد فإن الأسد ودائرته الضيقة هما الحلقة الرئيسية والأساسية لإبقاء النفوذ الإيراني.
على الرغم من أن الطائفة العلوية تشكل 13 في المائة من مجموع السوريين، فإن هناك كثيرا من العائلات العلوية القوية التي تخاصم الأسد وترفض إيران.
الاعتقاد السائد هو أن طهران تدعم النظام السوري لأن الطرفين من الطائفة الشيعية التي هي أقلية في عالم سني. لكن كما يقول الباحثون إن الاستراتيجية الإيرانية تعتمد على عوامل جيوسياسية، وليس على عوامل مذهبية، خصوصًا بين شيعة إيران والعلويين في سوريا. إيران تقولب كل الحقائق لتحمي مصالحها الإقليمية. عام 1960 عندما وصل ضباط علويون إلى الحكم، لم يقيموا علاقات وثيقة مع طهران، لكن الحرب العراقية - الإيرانية حققت نقطة التحول. كانت طهران مع ثورتها الخمينية مرفوضة من الغرب، ومتخوفة من الاتحاد السوفياتي، كانت تبحث عن حلفاء. من ناحيته كان حافظ الأسد الرئيس السوري آنذاك يعادي البعث العراقي، فالعالم العربي بنظره لم يكن يتسع لـ«بعثين»، فرأى في الحرب فرصته لإضعاف بغداد. اشترت إيران موقفه إلى جانبها بتوفير النفط المجاني لسوريا عام 1982، لكن العلاقات «الدينية» بين شيعة إيران وعلويي سوريا ظلت متوترة كالعادة. وفي عام 1985 كشفت برقية دبلوماسية أميركية عن أن شيعة إيران يرون العلويين «هراطقة»، ووصل الأمر عام 1996 إلى أن أرسلت إيران مرشدين إلى أوساط العلويين في سوريا فألقى النظام القبض عليهم.
أيضا عام 1987. عندما استمد «حزب الله» قوة من إيران لاعتقاده أنها تحقق مكاسب في الحرب ضد العراق، قاتلت القوات السورية في لبنان «حزب الله»، لأن مكاسبه على الأرض هددت التوازن الهش بين الطوائف فيه. ثم إن سوريا لم تشعر براحة عندما بدأ «حزب الله»، بناء على أوامر الحرس الثوري الإيراني، بخطف الغربيين في لبنان. وكانت دمشق هي من كشفت عن مبيعات الأسلحة الأميركية لإيران أثناء الحرب ضد العراق، فيما عرف بقضية «إيران كونترا».
بنت إيران وسوريا تحالفًا دفاعيًا يقوم على الخصوم والمخاوف المشتركة بينهما، من هنا، فإن العلويين في سوريا كلهم يتعاونون مع إيران إذا ما شعروا بتهديد وجودي، وفي حال تم التوصل إلى اتفاقية سلام تضمن أمن العلويين فالأغلب أن تنأى الطائفة العلوية بنفسها عن إيران.
أيضا، لا تستطيع إيران من أجل تثبيت نفوذها في سوريا الاعتماد على الشيعة السوريين، إذ إنهم يمثلون اثنين في المائة، وكون الحجم الديموغرافي يحدد الثقل السياسي فلن يكون للشيعة السوريين الوزارات أو الوظائف الإدارية الأهم في نظام تقاسم السلطة في سوريا ما بعد الحرب، وبالتالي لا يمكن لأي كتلة شيعية أن تمنع أي تشريع تتبناه الأغلبية السنية، وهذا يعني الحد من نفوذ إيران في سوريا. من هنا، فإن بقاء الأسد هو خيار إيران الأفضل للحفاظ على نفوذها بعد أي تسوية.
فوق كل هذا مع إطالة الحرب في سوريا، تحول بشار الأسد من حليف إلى ورقة بيد إيران نتيجة اعتماده عليها للإبقاء على نظامه. هذا الواقع لم يغب عن العائلات العلوية المتناحرة التي ترفض تبعية الأسد لطهران. لذلك، فإن الأسد المتخوف من أن يطاح به من قبل الدائرة العلوية، مستعد أن يقدم ضمانات للمصالح الإيرانية في سوريا طالما أنها من أجل هذه المصالح تحميه من أي انقلاب داخلي محتمل.
اليوم تتخوف إيران من أن يؤدي سقوط الحكم العلوي إلى حكومة سنية يمكن أن تتحالف مع المملكة العربية السعودية، التي تعتبرها إيران السد الواقف في وجه تحقيق سيطرتها المطلقة على المنطقة. وتتخوف كذلك من العزلة الإقليمية التي ستلي ذلك. يقلقها أيضا أن سوريا السنية ستمنعها من إيصال الأسلحة إلى «حزب الله» في لبنان.
وهكذا، من شأن سقوط نظام بشار الأسد أن يمحو كل المكاسب الإقليمية التي تعبت لتحقيقها، عبر الإرهاب ونشر عدم الاستقرار طوال 37 سنة من عمر الثورة الإيرانية.
إن طهران لا تستطيع تحمل فقدان العلويين السلطة في سوريا، ولهذا السبب فإنها سوف تتشبث بقوة للإبقاء على الوضع الراهن؛ إذ طالما بقي هناك حجر واقف، تفضل إيران استمرار الحرب.
إنه الخوف من وصول السنة إلى الحكم في سوريا الذي يجمع إيران والنظام السوري. إنه حلف دفاعي مبني على المصالح، وتأكيد الجذور الشيعية، هو خدعة لتأليب ضعيفي النفوس ودفعهم إلى أن يكونوا وقودًا لنيران حرب تشد إليها كل القتلة. واعتقاد بعض الدول بأن إيران جزء من الحل، ولا بد من دور لها، إنما يقوي أمثال «داعش» و«النصرة» ويطيل أمد الحرب.
لهذا تطرح إيران تسوية سلمية تبقي الأسد على رأس السلطة في مرحلة ما بعد الحرب. لكن أحلامها هذه قد تبددها روسيا التي لها جدول طموحات خاص بها. في سوريا لن تكتفي روسيا بقاعدة حميميم الجوية، إذ بدأ الحديث في موسكو عن الحاجة إلى قاعدة جوية ثانية «لأن الحملة الروسية على (داعش)، مستمرة، ولأن القوات الجوية الروسية تحتاج إلى قاعدة انطلاق من أجل تعزيز فعالية المهمات القتالية وتقليل الإنفاق من الموارد».
من المؤكد أن كل هذا يسحب البساط السوري من تحت أقدام الإيرانيين، ويجعلهم يصرون على إطالة الحرب.
المواجهة بين الولايات المتحدة الأميركية وروسيا لها أطرها وقواعدها، ولن تصل إلى صراع عسكري بين الطرفين. وكان واضحا أبعاد تسريب محادثة جون كيري وزير الخارجية الأميركي مع مجموعة من المعارضة السورية، إذ أبلغها بشكل غير مباشر بأن الولايات المتحدة لن تتخلص من الأسد تحت أي ظرف، قال للسوريين: «قاتلوا (داعش) و(النصرة) عنا»، كما أنها لن تصعد عسكريًا مع سوريا. قال كيري أيضا إن «(حزب الله)، لا يهدد أميركا مباشرة».
من هنا، ولأن روسيا صارت المحاور الرئيسي للنظام السوري، نظرًا لحجم نفوذها العسكري والدبلوماسي، فهي عضو في مجلس الأمن وليس إيران. تبقى إيران، رغم كل جهودها في سوريا واستثماراتها الشريك الأصغر، لذلك تشعر، كما عبر اللواء صفوي، بالقلق. هي لا ترتاح لأميركا، ثم إن عدم الثقة بينها وبين روسيا يتقلص ما دامت الحرب مستعرة في سوريا وستقاوم كل مبادرة للسلام من ناحيتها، ومع اشتداد التجاذبات مع واشنطن لا ترى موسكو جدوى من التخلص من الأسد، إذا لم تكن قادرة على استخدامه ورقة مساومة، وما لم تكن مبادرة للسلام في الأفق. من هنا، سيبقى الدور الإيراني إشعال الحرب أكثر في سوريا، لأن المواجهة بينها وبين روسيا ستشتعل إذا ما خمد القتال في سوريا وبُذلت جهود لوضع نهاية للحرب. صدق صفوي عندما أصر على «حصة إيران في سوريا»!
لم يكن غريبا أو مفاجئا أن تنهار الاتصالات الأميركية - الروسية بشأن الأزمة السورية، وأن يعود الطرفان إلى لغة التلاوم وتبادل الاتهامات. فالكلام عن الهدنة وعن تفاهم بين واشنطن وموسكو للتنسيق في جهود تثبيت وقف النار وتهيئة ظروف تحقيق التسوية، كان محكوما بالفشل منذ البداية، والشواهد كانت ماثلة أمام كل من كان يقرأ الصورة على حقيقتها البشعة والمؤلمة.
ليس هناك استراتيجية واضحة، ولا أرضية واحدة أو رؤية مشتركة حول الهدف النهائي. الحسابات متباينة، بل ومتعارضة، وسوريا تدفع ثمن الشدّ والجذب بين واشنطن وموسكو، في ظل عودة أجواء الحرب الباردة والواقع الدولي الراهن الذي تراجع فيه أميركا حساباتها، وتتحسس خطواتها، مع بروز أقطاب جدد ينافسونها ويتحدون هيمنتها عسكريا وسياسيا واقتصاديا. منذ اندلاع الأزمة قبل أكثر من خمس سنوات، كانت أميركا في حالة تراجع على الصعيد الخارجي بعد أن شعرت بضغط الكلفة الباهظة لحربي أفغانستان والعراق. باراك أوباما دخل أصلا إلى البيت الأبيض وفي مقدمة أولوياته إعادة القوات الأميركية من أفغانستان والعراق، وضمن استراتيجيته عدم قيام أميركا بدور شرطي العالم. لذلك لم يكن واردا في حساباته منذ البداية التدخل عسكريا في سوريا، رغم ضغوط الحلفاء والأصدقاء. روسيا فلاديمير بوتين كانت تعرف ذلك، وكانت في الوقت ذاته تبحث عن استعادة مكانتها بعد التقزيم الذي أصابها مع تفكك الاتحاد السوفياتي، وتريد فرد عضلاتها في مواجهة الغرب الذي تمدد إلى حدودها وضم تحت أجنحته دول فلكها الأوروبي القديم. لذلك شكلت سوريا ساحة مناسبة لبوتين للرد وإظهار قدرة موسكو على التحرك بعيدا عن حدودها لمشاكسة الغرب، أو لمنع سقوط نظام حليف، أو لفرض وجودها على الساحة الدولية.
في ظل هذه الأجواء لم يكن متوقعا أن يصمد «التفاهم» الأميركي - الروسي، ولا اتفاق الهدنة الأخيرة، ناهيك عن أن يصدق أحد التصريحات عن توفير أجواء مؤاتية لتسوية الأزمة. فروسيا تعرف، كما يعرف النظام السوري وحلفاؤه، أن أميركا تعيش حالة «بيات انتخابي»، وأن إدارة أوباما التي لم يتبق لها في البيت الأبيض سوى مائة وستة أيام، لن تقدم على أي تصعيد ولن تبدل فجأة في استراتيجية «الانكفاء» التي انتهجتها حتى الآن، كما أن أي إدارة جديدة سوف تستغرق وقتا قبل أن تلتفت جديا إلى الأزمة السورية. من هنا فإن روسيا ونظام الأسد ينظران إلى هذه الفترة كفرصة مواتية للتصعيد لا للتهدئة.
بعض الدوائر الأميركية ترى أن سياسة «القفاز الناعم» والنفس الطويل التي انتهجها وزير الخارجية جون كيري مع موسكو لم تحقق أي نتائج، بل وفرت غطاء لموسكو للمماطلة الدبلوماسية وكسب الوقت لتعزيز الدعم لنظام الأسد وحلفائه لانتزاع المزيد من المواقع من المعارضة. الواقع أن كيري لم يكن يملك غير الدبلوماسية المكوكية، في ظل موقف رئيسه الرافض «للدبلوماسية العسكرية».
وبعد فشل الجهد الأخير، تعالت بعض الأصوات التي تطالب إدارة أوباما بالنظر في خيارات أخرى وتوفير أسلحة متطورة للمعارضة، بينما يرى آخرون مثل الجنرال المتقاعد ديفيد بترايوس المدير السابق لوكالة الاستخبارات المركزية أن واشنطن يجب أن تكون مستعدة لتوجيه رسائل قوية لموسكو، وأن تتحرك في هذا الإطار لإنشاء منطقة حظر جوي في سوريا.
هذه الأصوات تبدو مجرد تعبير عن الإحباط إزاء سياسة العجز والتخبط التي ميزت تعامل إدارة أوباما مع أزمة خلفت واحدة من بين أكبر الماسي الإنسانية منذ الحرب العالمية الثانية. فليس هناك من يتوقع انقلابا في نهج واستراتيجية إدارة أوباما في هذا الوقت المتأخر من عمرها، أو اتخاذ خطوات مثل فرض الحظر الجوي من شأنها أن تؤدي إلى مواجهة غير مضمونة العواقب مع القوات الروسية في سوريا. فأوباما رفض هذه الخيارات مرارا قبل ذلك ومن الصعب رؤية تزحزحه في أواخر أيامه بالبيت الأبيض عن عقيدته التي تحدث عنها بإسهاب في مقابلته الشهيرة مع مجلة «أتلانتيك» الأميركية العام الماضي، وأكد فيها اعتزازه بأنه لم يستجب لأصوات التدخل العسكري في سوريا، معلنا أن الشرق الأوسط لا يمكن علاجه من مشاكله.
العودة إلى تفعيل دور «المجموعة الدولية لدعم سوريا» هي الخيار المطروح الآن من قبل واشنطن أو موسكو، لكن الأمر لن يعدو أن يكون مجرد شراء للوقت، ومحاولة إظهار أن العالم يفعل شيئا من أجل السوريين. فالظروف والملابسات التي أفشلت كل مساع للحل في السابق، ما تزال ماثلة، بل تزداد تعقيدا في ظل أجواء الحرب الباردة دوليا، والساخنة إقليميا. الانتخابات الأميركية لن تعني تغييرا سريعا، خصوصا إذا انتخبت هيلاري كلينتون. أما إذا حدث زلزال سياسي يدفع بالغوغائي دونالد ترامب إلى البيت الأبيض، فإن كل شيء يصبح واردا بما في ذلك إزاء الأزمة السورية.
وليد أبو مرشد – الشرق الأوسط
هل تكفي تسوية مدينة حلب بالأرض وتفريغها من سكانها، لإنهاء النزاع السوري وإعادة سوريا إلى خريطة دول الشرق الأوسط؟
الجواب لا يزال في ملعب أوباما، وملعبه يشهد اليوم تباينات بين رؤيته للحالة السورية ورؤية رئيس دبلوماسيته، جون كيري، قد تعكس، كما يبدو، اختلافًا في تقييم «الديمقراطيين» لموقع أميركا على الساحة الدولية بعد التحدي الروسي لها في سوريا.
بعد أكثر من خمس سنوات على الانتفاضة الشعبية في سوريا، تشعر واشنطن أن استمرار التزامها بدبلوماسية «لا في العير ولا في النفير» بدأ يمس بهيبتها كدولة عظمى، واستطرادًا مصداقيتها في أوساط الحلفاء والأصدقاء قبل الخصوم والأعداء.
أن تأتي تلاوة «فعل الندامة» على فرص الإدارة الأميركية المفَوَّتة في سوريا من رأس هرم الدبلوماسية الأميركية ومهندسها، أي وزير الخارجية جون كيري، حدث قلّ نظيره في سجلات الدبلوماسية الغربية، والأميركية تحديدا. ولكن العبرة السياسية لهذا الندم، التي يصعب تجاهلها، أنها جاءت في سياق «تحصيل الحاصل» هذه الأيام، أي تحميل الرئيس الأميركي، باراك أوباما، مسؤولية إحباط كل اقتراحات ومبادرات التدخل المباشر في سوريا.
ندم وزير الخارجية الأميركي، إن كَشف عن أمر ما، فهو صعوبة - وربما استحالة -التوصل إلى تسوية سياسية مقبولة في سوريا، بعد اعتماد آلة الحرب الروسية سياسة «الأرض المحروقة»، ومؤازرة سلاحها الجوي جيش النظام في مهمته الناجحة لتدمير مدينة حلب على رؤوس أبنائها.
إعراب وزير الخارجية الأميركي (أمام وفد من المعارضة السورية) عن «إحباطه» من موقف رئيسه، باراك أوباما، مؤشر كافٍ للاستنتاج بأن ما لم يقدم عليه الرئيس أوباما، أي التدخل العسكري، بات المدخل الوحيد للحل.
ولكن السؤال يبقى: أما زال هذا الحل في يد الولايات المتحدة؟ محوران إقليميان ما زالا يسمحان بأمل تعديل الوضع الميداني لصالح المعارضة:
المحور الأول - والأكثر منطقية - هو «الجيش السوري الحر»، والثاني هو تركيا.
بالنسبة لـ«الجيش السوري الحر» ما زالت الفرصة سانحة لتجميع صفوفه وتزويده بالعتاد المناسب لتعديل الوضع الميداني الراهن، إذا عادت إدارة أوباما إلى التعامل مع قضيته بجد ومصداقية.
لو تم هذا الأمر قبل خمس سنوات، أي يوم كان «الجيش السوري الحر» رأس حربة الانتفاضة السورية، لربما كان تزويده، آنذاك، بخمسين صاروخ «ستينغر» أرض -جو كافيًا لتحييد سلاح الجو السوري وقلب موازين المواجهة العسكرية لصالح المعارضة تمهيدًا للعودة إلى طاولة المفاوضات.
واليوم، وبعد أن زجت روسيا بسلاحها الجوي في النزاع السوري، قد يتسبب اتخاذ واشنطن لهذا القرار بتعريضها لمواجهة مباشرة مع موسكو، خصوصا أن القوات الروسية «ذاقت مُرّ» هذه الصواريخ في حرب أفغانستان (1979 – 1989). رغم قناعة العديد من المراقبين السياسيين بأن موسكو، كما واشنطن، لا ترغب في التسبب بحرب عالمية ثالثة بسبب سوريا، فإنه ما زال بإمكان واشنطن الالتفاف حول «العامل الروسي» باتخاذها قرارًا جريئًا يرفع «الفيتو» الذي تفرضه على تزويد حلفائها في المنطقة المعارضة السورية بهذه الصواريخ والأسلحة النوعية التي تفتقدها في مواجهاتها غير المتكافئة مع قوات التحالف الروسي - السوري - الإيراني.
على صعيد المحور التركي، قد تبدأ مسيرة تعديل الوضع الميداني بتخلي واشنطن عن معارضتها اقتراح أنقرة فرض منطقة آمنة على طول حدودها مع سوريا، وإعطاء «الضوء لأخضر» للجيش التركي لمواصلة عملياته العسكرية في سوريا، المباشرة وغير المباشرة.
رغم أن الجيش التركي فقد العديد من كوادره القيادية نتيجة حملة «التطهير»التي نفذها الرئيس رجب طيب إردوغان، عقب محاولة الانقلاب الفاشلة، فهو لا يزال ثاني أكبر جيوش دول حلف شمال الأطلسي. وبالنسبة لإردوغان قد تشكل عملياته في سوريا فرصة سانحة لتأكيد قدراته القتالية.
سجلّ الرئيس أوباما في البيت الأبيض لا يوحي باحتمال تغيير موقفه من سوريا في آخر أيام عهده. ولكن الأمل في التغيير يبقى قائمًا في حال احتفظ الديمقراطيون بالرئاسة الأميركية، وعادوا إلى مقاربة الدولة العظمى في دبلوماسيتهم الدولية.
كانت لديفيد سانغر، من «نيويورك تايمز» ملاحظة مثيرة للاهتمام جاءت في أحدث مقالاته عن السياسة الخارجية الغريبة لفلاديمير بوتين. وكتب سانغر، أن روسيا «اقتصاد ينهار مع إجمالي الناتج المحلي لإيطاليا». كيف لها إذن أن تتسلط على الولايات المتحدة الأميركية، الدولة ذات الاقتصاد الأكبر في العالم، و«أكبر جيش على وجه الأرض؟» وكما قال الرئيس أوباما خلال الأسبوع الماضي؛ ذلك لأن رئيس الولايات المتحدة حذر إلى درجة التردد، وهو حريص إلى درجة يبدو معها جبانًا.
الأزمة في الوقت الراهن هي سوريا وحصار حلب. لقد تم قصف مستشفيات المدينة بما يطلق عليه «القذائف المخترقة للتحصينات»، وتم استهداف مواقع مدنية أخرى. ووصف ستيفن أوبراين، وكيل الأمين العام للأمم المتحدة للشؤون الإنسانية: «القصف العشوائي» بأنه «مستوى من الوحشية لا ينبغي لأحد من البشر تحملها». قوات النظام السوري، بمساعدة «حزب الله» وإيران على الأرض، ومساعدة روسيا من الجو، مستعدة لإنهاء المسألة وإنجاز المهمة.
نهاية الشهر الماضي، قصف السوريون، والروس، أو السوريون بمساعدة روسيا قافلة مساعدات إنسانية نظمتها الأمم المتحدة. وردت الولايات المتحدة الأميركية على هذا الاعتداء الشنيع بالاحتجاج، وبتعليق المحادثات مع موسكو يوم الاثنين الماضي.
أربك رفض أوباما لدعم المطالبات بوقف إطلاق النار بالتهديد باستخدام القوة جون كيري، وزير الخارجية، الذي اعترف لبعض رفاقه من الدبلوماسيين بإصابته بالإحباط؛ وسرعان ما تم تسريب كلماته. ويتخذ كيري حاليًا موقفًا معارضا لسياسات الرئيس، وهو الأمر الذي كان مشكوكًا فيه من قبل. مع ذلك ما حدث لكيري كان أمرًا بسيط، مقارنة بما حدث لأوباما نفسه. فقد دفعه الوضع إلى تقديم تفسيرات لقراراته تصل إلى حد الهذيان. لقد دمّر الحقائق، وجعل الترتيب الزمني مشوشًا، وأظهر نفسه بلا ذنب أو مسؤولية عن مقتل نحو 500 ألف شخص في سوريا، ونزوح 8 ملايين شخص في الداخل، والموجة الكاسحة من المهاجرين التي عصفت باستقرار أوروبا.
وتساءل الرئيس الأسبوع الماضي خلال اللقاء العام في المجلس المحلي، الذي استضافته محطة الـ«سي إن إن»، في فورت لي: «هل هذا وضع يؤدي فيه استخدام قوات أميركية كبيرة العدد إلى نتيجة أفضل؟». إنه سؤال لا بأس به، إلا أن هناك سؤالا أفضل: من اقترح مثل هذا التصرف؟ لا أحد له مكانة وأهمية. لقد أوصى فريق الأمن القومي لأوباما ذات مرة بتمويل، وتدريب المتمردين، الذين نبذهم أوباما في السابق ناعتًا إياهم بـ«المزارعين أو المعلمين أو الصيادلة السابقين الذين يتخذون الآن موقفًا معارضا من نظام يتمتع بالخبرة في الحرب».
لقد أنصت أوباما إلى مدير الاستخبارات الأميركية، ووزير خارجيته، ووزير دفاعه، والقادة العسكريين، لكنه قال لا في النهاية، وانتهى النقاش؛ ولم يتم التوصية بإرسال قوات على الأرض.
في فورت لي، حفز الرئيس التدخل الروسي والإيراني في سوريا بقوله: «يقول المنتقدون لي إنه لو كنت قد منحت الدعم الكافي في وقت مبكر للمعارضة المعتدلة، لتمكنت المعارضة من الإطاحة بنظام الأسد المجرم القاتل. المشكلة في هذا الطرح هو أننا رأينا أن نظام الأسد يحظى بدعم روسيا وإيران».
صحيح أن النظام السوري كان يحظى دومًا بدعم كل من إيران وروسيا، لكن تطلب الأمر وقتًا ليشارك كل من «حزب الله»، وروسيا في القتال بالفعل.
عندما اندلعت الحرب الأهلية في سوريا عام 2011 كان أوباما قادرًا على القيام بفعل ما، وهو ما أشار ضمنًا إليه وقتها حين قال: «لقد آن الأوان لتنحي الرئيس الأسد». ولم يمتنع الأسد عن التنحي فحسب، بل لطخت قواته لاحقًا «الخط الأحمر» الشهير، الذي كان يتحدث عنه أوباما طوال الوقت، بإطلاق الغاز السام على مواقع مدنية.
رأى الأسد، وبوتين، والأشرار الآخرون على اختلافهم حينها، وتحديدًا عام 2013 أن أوباما رجل ضعيف.
أفهم جيدًا أن المرء لا يحب الاعتراف بفشله، خاصة إذا كان فشلا فقد الكثيرون أرواحهم بسببه. يقول بيل كلينتون إنه لن يسامح نفسه أبدا على عدم التدخل في إبادة رواندا. وبالمثل سوف يطارد هذا الأمر أوباما.
مع ذلك لا يزال في إمكان الرئيس اتخاذ موقف، حيث يمكنه دعم وزير خارجيته، وفرض ممر للمساعدات الإنسانية، أو على الأقل إلقاء المواد الطبية والطعام جوًا. لدى الولايات المتحدة بالفعل طائرات في المنطقة تستخدم في قتال تنظيم داعش. ولا يعد إلقاء المساعدات الإنسانية جوًا فعلا عدائيًا، ولا ينبغي لروسيا أن تراه كذلك. يمكن لأوباما القيام بذلك لأن أميركا تستطيع القيام بذلك، ولأنه لا ينبغي لها أن تقف وتشاهد ذبح الأبرياء دون أن تحرك ساكنًا، ولأنها تستطيع إخبار روسيا بأن عليهما التزاما أخلاقيا بإنقاذ الأرواح. ليس هذا خطا أحمر، بل هو الأمر الأهم.
يعتقد الموالون لنظام بشار الأسد، وأنصار «محور الممانعة» الإيراني في العراق ولبنان وغيرهما، ومعهم عواصم عربية كالقاهرة والجزائر، أن استمرار النظام واستعادته السيطرة على كل المناطق هما دعامة الحفاظ على سورية «موحّدة». وعلى رغم تفاوت حجج هذه الأطراف وتمايز منطلقاتها، إلا أن مواقفها استندت عن قصد أو غير قصد الى منطق واحد ووقعت عملياً في الاصطفاف نفسه. وبما أن النظام انعطب منذ العام الثاني للأزمة وصار معتمداً كلّياً على الدعم الإيراني، فإن مواصلة الرهان عليه صارت واقعياً رهاناً على إيران، يتساوى في ذلك أن يكون المراهنون معنيين بالأجندة والمشروع الإيرانيين أم لا. وبعد التدخّل الروسي، بطلب إيراني كما حرصت طهران على التأكيد مراراً، انقسمت تلك الأطراف بين مَن يستمدّون من موسكو «مشروعيةً» لمواقفهم ورهاناتهم، ومَن ظلّوا على الولاء لإيران ونفوذها في سورية، معتبرين أن طهران هي التي تدير موسكو.
وفيما دأب إعلام «الممانعة» على اعتبار أن الأزمة تفاقمت بسبب قوى أخرى تدخلت و «دعمت الإرهاب»، كما كرّر رئيس النظام مشيراً الى تركيا والسعودية وقطر تحديداً، فإن ذلك الإعلام كان يتّهم الأطراف المتدخّلة بأنها تسعى الى إسقاط نظام الأسد لإحلال «نظام إسلامي متطرّف» محله، أو الى فرض التقسيم. وفي تبريرهم الحرب الهمجية التي تُشنّ على حلب، راح «الممانعيون» يقولون أن الدافع الرئيسي لـ «تحرير حلب» هو «إحباط مخطط تقسيم سورية». وطوال أعوام الأزمة، وصولاً الى عقدتها الراهنة، لم يبدِ أي ناطق روسي أو إيراني أو أسدي أي موقف يؤكّد الحرص على وحدة سورية، بل إن «سورية المفيدة» بات مصطلحاً يحدّد الإطار الجغرافي للمخطط الأسدي - الإيراني، وقد غدا منذ عام 2013 في مثابة مقترح أول في أي مساومات تقسيمية مقبلة. أما في الجهة المقابلة، سواء في المعارضة أو الدول الداعمة لها، فلم يُعرف أي مخطط أو مقترح مضاد، بل شدّدت كل المؤتمرات برعاية الجامعة العربية وغيرها على وحدة سورية، وكانت الخشية الدائمة من نيات تقسيمية قديمة ومبيّتة لدى الجانب العائلي - الطائفي المهيمن على النظام.
وما حصل خلال آب (أغسطس) الماضي، كان ذا دلالة، أولاً بالرعاية الروسية لوقف إطلاق النار بين القوات النظامية والكردية لمصلحة سيطرة الأكراد في الحسكة، ثم في عدم الاعتراض الروسي أو الإيراني - مع اعتراض شكلي من النظام - على التدخل التركي في عملية «درع الفرات» لطرد تنظيم «داعش» من جرابلس ومطالبة الأميركيين بسحب القوات الكردية من منبج وإبقائها شرق الفرات. إذ تشير الواقعتان الى أن مشروع «استعادة السيطرة عل كل المناطق»، وفقاً للأسد، ينطوي على استثناءات، وأن «سورية المفيدة» هي أقصى طموحه، أما الحروب المستمرّة فتهدف الى تحصين هذا الطموح بإحاطته بمناطق مدمّرة وأراضٍ محروقة لإضعاف مصادر الخطر عليه أو إزالتها كليّاً. ولعل «العملية الكاملة» التي يخوضها التحالف الثلاثي (روسيا وإيران والنظام) بدت ممكنة أخيراً في حلب كمقابل للقبول الصامت بدور تركي حدّدته موسكو جغرافياً وقصرته على محاربة «داعش» واحتواء من التوسّع الكردي الطموح.
مع انهيار الهدنة الأخيرة وبدء الهجوم على حلب، كان وزير الخارجية الفرنسي المسؤول الغربي الوحيد الذي حذّر من أن «النظام يلعب في حلب ورقة التقسيم». وكان سبقه نظيره الأميركي في شباط (فبراير) الماضي، الى القول بأن الفشل في فرض هدنة يعني استدراج الوضع السوري نحو التقسيم، وتبعه قبل أسابيع مدير الـ «سي آي إيه» في ترجيح هذا المسار. وباستثناء إشارة من نائب وزير الخارجية الروسي الى «الفيديرالية» (التي تعني استمرار وجود دولة مركزية قوية)، فإن الروس لم يفصحوا عن أي موقف في شأن مشاريع التقسيم، لكن إدارتهم للأزمة والحرب بقيت في الخطة التي رسمها الثنائي الأسدي - الإيراني منذ 2011، لذا جاء تدخّلهم وسيطرتهم على القرار العسكري ليساهما في مزيد من القتل والتدمير خدمةً لتلك الخطة التي أفضت عملياً الى وضع كل معالم التقسيم على الأرض.
ولم تكن طهران أكثر شفافيةً من موسكو في توضيح نياتهم، لكن المفاهيم التي ضخّها العديد من مسؤوليها وعسكرييها عن أهداف متصلة ومتماثلة لحروبهم في سورية والعراق واليمن، لم تخف عداءهم للشعوب واستخفافهم بمسائل كوحدة الأرض والدولة فضلاً عن سعيهم المؤكّد الى تفكيك الجيوش والمؤسسات كافةً وتمكين الميليشيات التي يؤسسونها على قاعة المذهبية، أو تلك التي يستتبعونها وأبرز مثل لها ميليشيات فرّخت في مناطق سيطرة نظام الأسد، لا سيما في الساحل. وعلى رغم إحجام الإيرانيين عن الإشارة الى التقسيم (يفضّلون مبدئياً السيطرة الكاملة)، إلا أن أحد أتباعهم اللبنانيين لم يتردد في القول أن «تقسيم سورية والعراق أمر وارد» (نعيم قاسم، الرجل الثاني في «حزب الله»، 04/08/2016). وليس أدلّ على ذلك من سياسة التهجير القسري التي انتهجها النظام بإخلاء المدن والبلدات والقرى منذ الشهور الأخيرة لعام 2011، ثم تولّى الإيرانيون استثمارها في الأعوام التالية لإحداث تغيير ديموغرافي مبرمج، خصوصاً في محيط دمشق وفي حمص، وقد ظهرت معالمها أخيراً في حصارات التجويع والقصف الوحشي في الزبداني والقلمون وداريّا وحي الوعر. ولا ترمي هذه السياسة إلا الى جعل أي حل سياسي مستحيلاً لاستحالة عودة النازحين واستعادتهم بيوتهم وأملاكهم أو الذين أحرقت محالهم التجارية وأُزيلت عقاراتهم، أو حتى عودة «الغائبين» الذين صودرت أملاكهم باعتبارهم «إرهابيين» (تطبيقاً للسيناريو الإسرائيلي بالتصرف بأملاك الفلسطينيين).
لكن إعلام «الممانعة» الإيراني يغطّي دناءة هذه الممارسات بشعارات خوض المعركة «الأخيرة» في حلب باعتبارها «هدية محور المقاومة لوحدة سورية»، ويواصل الادعاء بأن كل ما تفعله إيران ونظام الأسد يهدف الى مواجهة مخططات إسرائيل والولايات المتحدة. وقد اتهم الأسد أميركا بالعمل على تقسيم سورية لضمان أمن إسرائيل وتطويق النفوذ الإيراني، وحجّته في ذلك أن أميركا تدعم الجماعات الإرهابية والتنظيمات الكردية الانفصالية وتعطّل مساعي الحل السياسي. لا يمكن تبرئة الأميركيين من هذه الاتهامات، لكنها تنطبق أيضاً وحرفياً على نظام الأسد، بما فيها خدمة إسرائيل التي لم يكفّ عن مغازلتها. غير أن الواقع الذي أفضت إليه الأزمة يفيد بأن جميع المتدخلين في سورية (الروس والأميركيين، الإيرانيين والإسرائيليين والأتراك) باتوا أطرافاً متنافسة تتحيّن الظروف وصولاً الى محاصصات تضمن مصالحها، ويصعب تحصيل هذه المصالح في سورية واحدة. ولا يُستثنى من ذلك سوى الجانب العربي الذي لم تكن له في أي مرحلة نيات أو مخططات تقسيمية خدمةً لنفوذٍ أو مصالح. أما النظام نفسه فقد جعل من نفسه أحد هؤلاء المتدخّلين، لأن ممارساته لم تعبّر يوماً عن حرص على سورية وشعبها. وما دام الأميركيون يعملون للتقسيم، كما يقول الأسد، فهل أن رفضهم الدائم إطاحته جزءٌ من المخطط؟
كل ما فعله الأسد ونظامه وإيرانيّوه من تخريب اجتماعي وعمراني واقتصادي في سورية، كان بهدف التهرّب من أي مشاركة أو «إصلاح» سياسيَّين ينهيان عملياً حكم العائلة - الطائفة المتخفّي وراء غلاف واهٍ وفّره حزب البعث «العلماني» (؟). كان الأهم في دمشق وطهران أن يبقى نظام الأسد لا أن تبقى سورية، لذلك اختُرعت «المؤامرة الكونية» لتسويغ القمع الوحشي واستدراج البلد الى حرب أهلية، ولما لم تُهزم «المؤامرة» لجأ الأسد والإيرانيون الى حيلة الإرهاب للتشهير دولياً بالمعارضة سعياً الى سيناريو «حرب كونية» ظهر بعض معالمها منذ التدخّل الروسي، لكن بقي هدفها البحث عن تسويات دولية - إقليمية سعياً الى تقاسم سورية.
يعرف الروس والإيرانيون أن بقاء الأسد لم يعد عنواناً لبقاء الدولة بل بات مجرّد وسيلة لـ «تشريع» أدوارهم واحتلالاتهم، واستطراداً لم يعد نظامه قادراً على الحكم أو جديراً به إلا بوجودهم الدائم في سورية والحفاظ على الأسد صورةً وواجهةً لما يقررونه. لكن تحصين احتلالاتهم يحتاج الى بلورة التقسيم في تسوية دولية - إقليمية، وهم يستخدمون معركة حلب كبداية ضغط على الإدارة الأميركية المقبلة للتعجيل بتلك التسوية. وفي الانتظار، قد يعملون على «عملية سياسية» ولو ملفّقة بمشاركة بعض «المعارضات» الصُورية التي ساهموا في تصنيعها لإعادة إنتاج النظام السابق مع بعض التعديلات.
عندما يُبلغ وزير الخارجية الأميركي جون كيري بعض قادة المعارضة السورية، وهو يكاد يجهش بالبكاء، أنه «محبط» لأن دعواته لاستخدام القوة ضد هذا النظام السوري لم تلق آذانًا صاغية، ولأن ثلاثة فقط في الإدارة الأميركية يؤيدون هذا الخيار، فكأن هذه دعوة للرئيس الروسي فلاديمير بوتين لمواصلة تحدي الولايات المتحدة، واستكمال السيطرة على سوريا كلها بعد القضاء على المعارضين السوريين، الذين نصحهم هذا المشرف على الملف السوري من الجانب الأميركي، بأن يقبلوا بالمشاركة في انتخابات رئاسية وتشريعية بوجود بشار الأسد!
وعندما ينصح مسؤولون كبار في «الكونغرس» الأميركي، من الحزب الجمهوري المعارض، بعض كبار رموز المعارضة السورية بأن يتجنبوا إبرام أي اتفاق حلٍّ لأزمة سوريا في هذه الفترة التي تسبق الانتخابات الرئاسية الأميركية، لأنه سيكون بمثابة إملاءات روسية، نظرًا لأن موقف الرئيس باراك أوباما من هذه الأزمة سيزداد سوءًا، ولأن الروس قد كشفوا كل أوراقه، وأدركوا أنهم يستطيعون فعل ما يشاءون، ليس في هذا البلد وحده، وإنما في المنطقة كلها! وهنا، فإن المعروف أنه قد جرت العادة أن تصبح الإدارة الأميركية، مع اقتراب موعد الانتخابات الرئاسية، بمثابة «بطة عرجاء»، لكن تجربة الأربع سنوات الأخيرة من عهد هذه الإدارة أثبتت أنَّ باراك أوباما أصبح هذه «البطة العرجاء» مبكرًا، عندما تراجع عن تلك الضربة العسكرية ضد نظام بشار الأسد بعد مشكلة الأسلحة الكيماوية والغازات السامة.
ما كان من الممكن أن تصل الجرأة بالرئيس الروسي فلاديمير بوتين بالتدخل في سوريا، لو لم يتأكد من أن الإدارة الأميركية قد أصبحت «بطة عرجاء» بالفعل، وأن رئيسها ليس صاحب أي قرار «استراتيجي»، وأنه بالإمكان أن يفعل الروس ما يشاءون في هذه المنطقة الحيوية، بالاعتماد على ميوعة الأميركيين في عهد هذه الإدارة التي اعترف قبطان سفينة سياساتها الخارجية بأنه أصبح «محبطًا»، لأن رغبته في استخدام القوة ضد نظام بشار الأسد أو التلويح بها لم تلق آذانًا صاغية، ولأن ثلاثة فقط من بين رموز هذه الإدارة قد استجابوا لهذه الدعوة.
وهكذا فإن تعاطي إدارة أوباما «الانكفائي» مع الأزمة السورية قد أوجد فراغًا ملأته، على عجل ودون أي تأخير، روسيا الاتحادية، ثم إنه من المعروف أن «إسراع» هذا الرئيس الأميركي بسحب القوات الأميركية من العراق قد أوجد فراغًا مبكرًا بادر الإيرانيون إلى ملئه عسكريًا وسياسيًا وعلى كل المستويات، وذلك إلى حدِّ أنهم باتوا يحتلون هذه الدولة العربية الرئيسية احتلالاً كاملاً، وعلى ما هي الأمور عليه الآن، وحيث تواطأ «هؤلاء» مع رئيس الوزراء السابق نوري المالكي لتسليم مدينة الموصل ومنطقة الأنبار كلها لتنظيم داعش الإرهابي، الذي تجري الآن كل هذه الاستعدادات التي يقودها ويشرف عليها الأميركيون للقضاء عليه واقتلاعه من كل مناطق بلاد الرافدين، وربما من سوريا في فترة لاحقة.
إن هذا كله ومعه رداءة وميوعة السياسة التي تعاطى بها باراك أوباما مع هذه الأزمة السورية التي غدت مستفحلة، ومعه أيضًا تردد بعض الداعمين في تقديم إسناد فعال، خصوصًا بالأسلحة المتطورة للمعارضة السورية التي كانت قد نبتت في الصخر، كما يقال، نظرًا لخضوع سوريا لنظام من أسوأ الأنظمة الاستبدادية في العالم كله ولنحو أكثر من أربعين عامًا، قد شجع فلاديمير بوتين على المزيد من التمادي، وإلى حدِّ أن «الكرملين» قد هدّد بأنَّ استهداف الأميركيين لنظام بشار الأسد سيؤدي إلى زلازل مدمرة في هذه المنطقة «الشرق أوسطية» كلها.
وبالإضافة إلى أن سوريا قد أصبحت عمليًا ملحقة بروسيا الاتحادية، وأصبح قرارها في قاعدة «حميميم»، وليس في دمشق، فإنَّ ميوعة السياسة الأميركية قد شجعت «ستالين» الجديد، فلاديمير بوتين، على التمادي في استهداف تركيا وتنشيط إرهاب حزب العمال الكردستاني - التركي (p.k.k) ضدها، مما اضطر الرئيس رجب طيب إردوغان بعد ضربة مطار مصطفى كمال أتاتورك، وبعد محاولة الانقلاب الفاشلة التي يتهم فتح الله غولن بأنه هو الذي رتبها من مقره في بنسلفانيا في الولايات المتحدة، إلى الاعتذار لموسكو عن حادثة إسقاط الطائرة الروسية المقاتلة المعروفة وفتح صفحة جديدة مع موسكو، ولكن مع التأكيد مرارًا وتكرارًا وعلى لسان رئيس وزرائه بأن موقف بلاده من الأزمة السورية لا يزال على ما هو عليه ولم يتغير.
في كل الأحوال لقد اتضح أن فلاديمير بوتين، هذا «الستاليني» المغامر قد شجعه التردد الأميركي في سوريا، وشجعه تردد باراك أوباما بعد السيطرة على هذا البلد العربي المحوري والاستراتيجي، على التطلع بعيدًا، والسعي لاستعادة مكانة الاتحاد السوفياتي الإقليمية والدولية، عندما كان في ذروة قوته وتألقه بدءًا بتسوية الأوضاع في أوكرانيا وبالطبع في جزيرة القرم وبجمهوريات البلطيق، وكل هذا وبالطريقة السوفياتية المعروفة، حيث قد تم قمع الجيش الأحمر لانتفاضة المجر عام 1956، وكان ربيع براغ في عام 1968، وكان غزو أفغانستان غير الموفق في عهد حفيظ الله أمين في عام 1979.. وكان حضور موسكو المؤثر الدائم في كل الأزمات الدولية، ومن بينها أزمة الصواريخ السوفياتية في كوبا، التي كادت تؤدي إلى حرب عالمية جديدة لولا تراجع نيكيتا خروتشوف وإدوارد كينيدي في اللحظة الأخيرة.
وهكذا.. ويقينًا أنه إذا نجح فلاديمير بوتين في سوريا كما نجح في غروزني وباتباع الأسلوب الوحشي - التدميري الذي اتبعه في الشيشان، وفي هذه الدولة العربية، فإنه سينتقل إلى أوكرانيا.. وبعدها إلى بعض دول أوروبا الشرقية التي أصبحت «مضيفةً» لصواريخ حلف شمال الأطلسي الموجهة إلى كل المواقع والمناطق الاستراتيجية الحساسة في روسيا الاتحادية، وهنا فإن المعروف أن زعيم الصين التاريخي ماو تسي تونغ، كان قد قال عندما أطلق المسيرة التاريخية: «إن طريق الألف ميل يبدأ بخطوة واحدة».. وهذا يعني أن نجاح بوتين في هذا البلد العربي قد يكون هو الخطوة التي ستأخذه إلى استعادة ما خسره الروس بعد فشل التجربة الماركسية - اللينينية وانهيار أول تجربة سوفياتية. لقد شجَّعَت مراهنة الأميركيين على الروس، الذين من المفترض أنهم منافسوهم وبالتالي أعداؤهم، أكثر من مراهنتهم على أصدقائهم وفي مقدمتهم تركيا العضو المؤسس في حلف شمال الأطلسي، على سعي هؤلاء الأصدقاء إلى التقارب مع موسكو، وإلى غض النظر عن بعض نزوات فلاديمير بوتين العسكرية والسياسية، ولذلك فإنه غير مستبعد، إن لم تغير وتصحح الإدارة الأميركية الجديدة توجهات الولايات المتحدة الدولية، أن يأتي يوم قريب ليرى العالم الاتحاد السوفياتي في حلته الجديدة في صوفيا ووارسو وبلغراد وزغرب.. وأيضًا في بودابست.
في مطلع السبعينات، أعلن الرئيس الأميركي بوش انتهاء الحرب الباردة وزوال منطق القطبين العالميين، وبالتالي بداية النظام العالمي الجديد الأحادي القطب وبقيادة الولايات المتحدة الأميركية. هذا «النصر الأميركي» رافقته مرارة روسية ناجمة عن تفكك دول المعسكر الاشتراكي وذهاب كل دولة من دوله نحو استقلاليتها، وخروج مهين ومذل من أفغانستان بعد أن تمكن الأميركيون من دعم مقاومة للوجود الروسي تسببت له بخسائر جسيمة وشكلت أحد عناصر انهيار المنظومة. أمعنت السياسة الأميركية في إذلال الروس عالمياً، وإظهار هشاشة موقع روسيا العالمي. ذلك كله أتى في سياق فوضى سياسية وشبه انهيار اقتصادي داخل روسيا، زاد من ضعف موقعها العالمي. هكذا بدت روسيا في موقع المنهزم سياسياً وعسكرياً ودولياً، وهو شعور كان من الطبيعي أن يولد مرارة للنخب الروسية التي كانت منتشية عظمة على امتداد نصف قرن من الزمان، كأن روسيا قد استنسخت ألمانيا بعد هزيمتها في الحرب العالمية الأولى وتوقيعها صلح فرساي المذل آنذاك.
بعد استقرار نسبي داخلي وإعادة التماسك والحد من الفوضى، ومع بداية عهد فلاديمير بوتين المستمر منذ أكثر من عقدين، وقبل أن تتاح لروسيا فرصة اختبار قوتها في سورية، سعت القيادة الروسية الى استعادة الهيبة والنفوذ في العالم، من خلال الانخراط في تحالفات جديدة والانفتاح على قوى دولية خارج هيمنة الولايات المتحدة الأميركية. بدت القيادة الروسية كأنها محكومة بـ»عقدة نقص» تجاه موقع روسيا ودورها في العالم، كما اتسم سلوك القيادة بمنحى انتقامي مما أصاب الدولة العظمى، ومن هزيمة أفغانستان. افتعلت بعض المشاكل الدولية من قبيل إثبات الوجود والقول نحن هنا، وذلك في أوكرانيا عبر استعادة جزيرة القرم. يومها، لاح لكثيرين أن العالم على شفير حرب عالمية جديدة، لكن الخطوط الحمراء الأميركية وضعت حداً للاندفاعة الروسية. إلا أن بوتين ظل محكوماً بعقدة القيصر بطرس الأكبر، يريد استعادة الدور الروسي المؤثر بأي ثمن وفي أي مكان. وكان الشرق الأوسط فرصة مناسبة أدخلته مجدداً الى المنطقة ومنها الى العالم.
أدرك بوتين أن الولايات المتحدة تمارس سياسة انكفاء أو تردد في التدخل في شؤون الشرق الأوسط وفي الحروب الأهلية الدائرة فيه. كما كان متأكداً أن انغماس روسيا في هذه الحروب الأهلية، خصوصاً في سورية، لن يؤدي الى انزلاق نحو أخطار صدام روسي - أميركي كما لاح في أوكرانيا. ولأن روسيا لم تكن بعيدة من الشرق الأوسط تاريخياً، وفي سورية بخاصة، فإن الرئيس الروسي وجد التدخل في الحرب الأهلية السورية تحت عنوان القضاء على الإرهاب وعدم إسقاط الأسد، فرصة لإعادة إثبات الوجود والنفوذ السوريين. هكذا رأى بوتين أن الأوان قد حان لرسم معالم نظام دولي جديد تحتل فيه روسيا موقعاً موازياً لما تحتله الولايات المتحدة. وقد أظهرت الديبلوماسية الروسية كل الصلف والتعنت في مواجهة الرأي العام الدولي حماية للنظام السوري وإرهابه.
لكن هذا النظام الدولي الجديد الذي سهلته أميركا بتراجعها عن المنطقة، يرسمه بوتين بالدم والنار التي تلتهم جثث الشعب السوري. يريد نصراً سريعاً ومجانياً في سورية، ويدرك أن الوسيلة الوحيدة لتحقيقه تكون باستعادة أسلوب قمع انتفاضة الشيشان من خلال تدمير مدينة غروزني وتسويتها بالأرض. ولأنه لا يجد من يردعه، فهو ممعن في التدمير الممنهج لمدينة حلب وسائر المدن السورية، وقد يتحقق له ما يريد إذا لم تتدخل قوى، في شكل أو في آخر، تحد من اندفاعته الحالية. فهل يتحقق لبوتين حلمه في إيجاد هذا التوازن المرغوب مع الولايات المتحدة؟ سؤال تحوط به أكثر من علامة تشكيك، كلها برسم المستقبل.