يرى مبعوث الأمم المتحدة إلى سورية، ستيفان دي ميستورا، بحسب كلمته في مجلس الأمن الدولي (21/9)، أن الحل للمسألة السورية يتمثّل "بتفويض رأس النظام بعض سلطاته لحكومة انتقالية بشكلٍ يتم الاتفاق عليه، في التفاوض بين المعارضة والنظام، على نحو تكفله ضماناتٌ دوليةٌ وإقليمية ومحلية، وأنه سيكون هناك وقف لإطلاق النار، ودخول مساعدات وإغاثة إنسانية، ويسود جو يسمح بالنشاط السياسي السلمي الذي يفضي إلى اعتماد دستورٍ جديد، وتنظيم انتخابات حرّة نزيهة في ظلّ وجود مراقبة دولية"، لكنه يعتبر ذلك أشبه بحلم، على الرغم من أنه يؤكد أن الأمم المتحدة قادرة على تحقيق هذا الحلم.
لا يطيح ما يعتقده دي ميستورا حلماً فقط بالرؤية التي صاغتها المعارضة السورية أخيراً، بل يطيح حتى بالمبادئ الأممية التي تم التعبير عنها في بيان جنيف1 (2012)، وقرارات مجلس الأمن الدولي ذات الصلة، وخصوصاً القرار 2254 (2015)، ولا سيما ما يتعلق بتشكيل هيئة حكم انتقالية ذات صلاحيات تنفيذية كاملة، بغض النظر عن بقاء الأسد أو عدمه في المرحلة الانتقالية. جاء دي ميستورا، في كلمته المذكورة، بتوضيحاتٍ جديدة للمرحلة الانتقالية على مقاس النظام، أو تتناسب مع أهوائه، تماماً، فقد أغفل مصطلح نقل السلطات أو أزاحه، ليضع بدلاً عنه مصطلح تفويض السلطات، أي أن المرحلة الانتقالية بأكملها لم تعد عنده تعني تسليم السلطات من النظام إلى الحكومة الانتقالية التي ستنشأ بالتوافق بين النظام والمعارضة. الأهم أن دي ميستورا ربط ذلك كله بالتوافق، أي برضى الطرفين، والمعنى الأصح برضى النظام، محاولاً تصوير طروحاته بأنها حلم يستحيل تحقيقه، إلا إذا تضافرت الجهود الدولية لتحقيق ما يعتبره حلماً، علماً أن كل ماجاء به كان ورد فعليا في الأطروحات التي تقدم بها النظام، ومنها ما طرحه رئيس النظام، بشار الأسد، في السادس من يناير/ كانون الثاني 2013. وهذا ما يجعل حلمه فعلياً بمثابة كابوسٍ لكل ضحايا الصراع السوريين، منذ ذلك الوقت وحتى لحظة وصولنا إلى الإمساك بحلم دي ميستورا.
لا مجال هنا، مع كل هذه الكارثة التي أحدقت بالسوريين، للمزايدة، واستعراض الذكاء السياسي، والدخول في مفاوضاتٍ قبل الوصول إلى طاولتها، وتسويق مشروعه على أنه بمثابة "انتزاع لقمة من فم الأسد"، إذ غيّبت الملاحظات المذكورة تماماً رؤية المعارضة للحل السياسي، على الرغم من أنها، أي الأخيرة، لم تطرح شيئا صعباً أو خارقاً، حيث وافقت على بيان جنيف1 وقرارات مجلس الأمن، وتنازلت من هدف إسقاط النظام إلى هدف رحيله، مع القبول بمبدأ تشكيل هيئة حكم انتقالي، بالشراكة مع أطراف من النظام الذين لم تتلوّث أيديهم بالدماء.
المضحك المبكي في هذا الأمر أن المجتمع الدولي الذي يتحدّث أنه لا حلول عسكرية للصراع لم يستطع، حتى اللحظة، إلا الإمعان في عسكرة الواقع السوري، وتحويل سورية إلى ساحة صراع دولية، وصندوق بريد بينهم، إذ لا يغيب عنا أبداً أن الخلاف الأميركي التركي، والذي يحضر اليوم بقوة في معركة حلب الدموية. كما أنه لا يمكن تجاهل أن الصمت الأميركي على خرق الهدنة، من الطرف الذي أعلنت معه اتفاقاً في 9 سبتمبر/ أيلول الجاري، وهو روسيا، في حقيقته، شبه موافقة على تغيير خريطة تموضع القوى المتصارعة، وفي آن معاً رسالة إلى شريك روسيا الجديد، وهو تركيا، ومجاملة لحليف محتمل في المنطقة، هو إيران التي صرح رئيس حكومتها علناً، ومن نيويورك، رفضه الحظر الجوي للطيران الروسي والسوري، رداً على مجرد تصريح لوزير الخارجية الأميركي؛ جون كيري، كأنه الوصي على سورية، والناطق باسم روسيا.
على ذلك، لا يمكن تحقيق الحل السياسي المنشود على بحر من الدم، ولم نر حتى اليوم أن المجتمع الدولي سعى إلى فرض رؤيته، لا بالوسائل الناعمة، ولا بوسائل الضغط التي تكفل فرض هذا الحل السياسي.
ويذكّر شبه حلم دي ميستورا السوريين بحلم لمحافظ حمص السابق، إياد غزال، وهو أحد أعمدة النظام، حيث استفاق أهل حمص على مصادرة أملاكهم وتشريدهم من بيوتهم، ومنذ ذلك الوقت والسوريون يعيشون بكوابيس القهر والاستبداد الذي نخشى أن تأتي خطة دي ميستورا لاستدامتها وشرعنتها دولياً. والقصد من ذلك كله أن كلام الأخير ينم عن فضيحة أخلاقية وسياسية، هي نفسها التي كشفت المجتمع الدولي، ولا سيما ما يسمى دول "أصدقاء الشعب السوري"، وفي مقدمتهم الولايات المتحدة الأميركية. كل المطلوب من المجتمع الدولي فرض الحل السياسي على النظام وفق بيان جنيف1 ووقف القصف والتشريد القسري، وفتح المجال أمام المساعدات الإنسانية للمناطق المحاصرة وإطلاق سراح المعتقلين.
ليس هذا حلماً يا دي ميستورا، ولا أظن أن ما قرّره المجتمع الدولي حلم، بل إنها بمثابة حلول واقعية، كما أن وثيقة المعارضة السورية، على الرغم مما عليها من ملاحظات، تتجاوب مع الحل الدولي، وتتماهى به، وهي أقل ما يمكن تقديمه
لإخراج السوريين من هذه المِحنة، لكن هذا يستلزم حسماً واستقامةً ونزاهةً منك ومن المجتمع الدولي، إذ إن التهاون بحق السوريين هو ما جعل الطيران الروسي يتجرأ على الأمم المتحدة، ويقصف قافلة المساعدات الإنسانية.
نعم، لا حل عسكري للصراع الجاري، لكن الحل السياسي يحتاج من يفرضه، لكن ليس بالأحلام، وإنما بوسائل الضغط المناسبة.
لم يعد يخفى على أحدٍ أن الحرب التي تدور رحاها في سورية منذ ست سنوات تحوّلت، من صراع داخل سورية على تغيير قواعد الحكم ونظام السيطرة السياسية إلى حربٍ على سورية لتقرير مصير الهيمنة الإقليمية، وأن السمة الأبرز لهذه الحرب هو الغياب الكبير للعالم العربي، وأن المستهدف الأول في هذا الصراع المتعدّد الأطراف والأبعاد هو المكانة الاستراتيجية والسياسية والثقافية والدينية التي احتلها العرب، في ما يمكن أن نسميه، تجاوزاً، شبه النظام الإقليمي الذي ولد منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، ومن وراء ذلك استقرار المنطقة العربية وأمنها ومواقعها الدولية وتحالفاتها العالمية. ومنذ الآن، لا يكاد المرء يرى على هذه الأرض السورية التي كانت قلب العروبة النابض، عن حق أكثر من قرن، سوى آثار الاحتلالات الأجنبية والمليشيات الدولية والإقليمية، تزرع الموت والدمار، بينما لا يكف دور العرب فيها على التراجع، على الرغم من أن الدول العربية التي انخرطت فيها مستمرة في تقديم الدعم والتضحيات الكبيرة منذ سنوات.
كيف يمكن أن نفهم هذا المآل الحزين للدور العربي؟ وهل هناك بصيص أمل في أن يستنهض العرب للمشاركة في تقرير مصائرهم الوطنية والجماعية؟ هذا ما يسعى هذا المقال إلى إثارته، وتقديم بعض عناصر الإجابة عنه.
إفلاس العالم العربي
ارتكز الموقع المتميز والمهيمن الذي احتله العالم العربي في العقود السابقة الطويلة، والمستهدف اليوم من الدول الإقليمية، وربما العالمية، بعد أكثر من 70عاماً على ولادة جامعة الدول العربية، على عدة عناصر قوة: الأول نهاية الإمبرطورية العثمانية التي كانت القوة الرئيسية المسيطرة في المنطقة خمسة قرون متتالية، وانسحاب تركيا الكمالية من المنطقة، وتوجهها نحو الغرب، وبالتالي، نشوء فراغ جيواستراتيجي لم يكن أحد يستطيع ملأه في المنطقة سوى العرب، وهذا ما دفع الغرب إلى التعاون لإنشاء جامعة الدول العربية التي ضمت 22 دولة، وهي المنظمة الإقليمية الوحيدة فيها. والثاني الوزن الديمغرافي الطاغي للناطقين بالعربية في الإقليم، والثالث مركزية الثقافة العربية في تاريخ شعوب المنطقة، لما لها من وشائج وقرابة مع الإسلام ونصوصه وتاريخه، والرابع الدور الطليعي الذي لعبته الشعوب العربية في الصراع ضد الهيمنة الاستعمارية خلال القرن العشرين بأكمله، والذي استمر، في ما بعد، في شكل مواجهة الاحتلال الإسرائيلي، ومقاومة سياساته العدوانية والاستيطانية، والخامس الثروة النفطية التي حولت بلدان الخليج إلى أكبر مورّد لتصدير الطاقة في العالم، ودفع إلى شمولها بنوعٍ من الحماية الغربية، والأميركية بشكل خاص، ما جعلها في منأى عن المطامع الإقليمية الأخرى.
واضح لأي مراقب أن هذه العناصر لم تعد موجودة اليوم، أو أن أثرها ضعُف إلى حد كبير، بل أصبح بعضها عبئاً على العرب، بدل أن يكون رصيداً لهم في صراعهم للاحتفاظ بمكانتهم ودورهم الإقليمي ومصالح شعوبهم، فقد أدى فشلهم في تطوير جامعة الدول العربية، لتكون إطارا حقيقيا للتعاون الاقتصادي والعلمي والتقني، ومن ثم قوة قائدة في السياسات الإقليمية، إلى إحداث فراغٍ جيوستراتيجي كبير دفع إلى صعود قوى إقليمية جديدة، عازمة على لعب دور رئيسي، بل على فرض أجندتها على العرب أنفسهم، وإلحاقهم بمشروعها، سواء كان مشروعاً امبرطورياً عسكرياً شبه استعماري في طهران، أو مشروعاً رأسماليا توسعياً واقتصادياً في أنقرة. بل إن التنازع بين هاتين القوتين على إلحاق العالم العربي بمشروعهما هو أحد أهم دوافع الحرب المستمرة منذ سنوات. ومن أجله تستخدم طهران كل أسلحتها العسكرية والسياسية والمذهبية، كما تستخدم تركيا كل مغريات التنمية الاقتصادية والاجتماعية، وتفتح صدرها للعرب الذين تحولوا اليوم إلى أكبر سوقٍ مفتوحةٍ لأي قوة إقليمية اقتصادية صاعدة. أما الكتلة البشرية الكبرى التي يمثلها العرب، فقد تحوّلت، بسبب فشل التنمية الاقتصادية والاجتماعية، إلى عبء ثقيل تنوء بحمله الدول، بدل أن تمثل بالنسبة لها أكبر موردٍ لتعزيز مكانتها الإقليمية، وتمكينها من فرض الاحترام لحقوق شعوبها وإرادتها ومصالحها العليا. وكما نجحت أنقرة - اسطنبول في استقطاب آمال ملايين العرب من أبناء الطبقة الوسطى ورجال الأعمال الذين يتطلعون إلى التعاون مع تركيا، للخروج من الركود الاقتصادي وتحقيق مزيدٍ من التنمية والأرباح لمشاريعهم واستثماراتهم، نجحت طهران في استقطاب قطاعاتٍ واسعةٍ من الرأي العام العربي التي لاتزال تستبطن مشاعر العداء للسياسات الاستعمارية الغربية، وترفض التسليم بسياسة فرض الأمر الواقع الإسرائيلي، وذلك بمقدار ما يبدي المسؤولون العرب قبولاً بالأمر الواقع، وتراجعاً ملحوظاً في الاستثمار في قضية فلسطين. وبانتزاعها إيران من محور التحالف الغربي الإسرائيلي الاستعماري، أدخلت الثورة الإيرانية الإسلامية لعام 1979 طهران في صميم الفضاء الجيوستراتيجي المشرقي، وفتحت لها على مصراعيها أبواب النفوذ والتدخل في شؤون العالم العربي، إن لم تمكّنها من مصادرة ورقة تمثيل الإسلام، وانتزاعها من يد العرب حماته التاريخيين، ومن استقطاب تعاطف مسلمين كثيرين في مواجهة نزعة العداء المتنامية في العالم ضد الإسلام والمسلمين، بما في ذلك داخل البلاد العربية نفسها. أما المركز المتفوق الذي كان يتمتع به العرب في سوق صادرات النفط، فلم يعد مصدراً لمزيدٍ من الحرص على الأمن والاستقرار والسلام في المنطقة العربية، وإنما أصبح، بالعكس، سبباً في إسالة لعاب عدد متزايد من الدول الصناعية، بعد أن زال اهتمام الولايات المتحدة به، والاعتماد الكبير عليه.
هل يمكن إنقاذ الرهان العربي في سورية؟
هكذا، فقد العالم العربي، في أقل من نصف قرن، الجزء الأكبر من رصيده الحضاري والتاريخي. فبدل أن يعمل على تثمير موارده البشرية والاقتصادية والثقافية الهائلة الموروثة، ليكون فاعلاً قوياً في إقليمه والعالم، كما يليق بكتلةٍ تضم بضع مئات ملايين إنسان، قدم موارده ومصادر قوته جميعا هدية مجانية للآخرين: الجيوسياسية والديمغرافية والاقتصادية والثقافية والدينية. حتى أصبحت الدول الإقليمية تدّعي ملكيتها وتستخدمها لصالحها، تماماً كما تستخدم شباب العرب مرتزقةً تنظمهم في مليشيات وحشود شعبية وقبلية ومذهبية، لتحقيق أهدافها على حسابه. واكتفت نخبه الحاكمة والسائدة بهدر ما وقع في يدها منها، والاشتغال بمراكمة الثروات الشخصية، أو بالبحث عن آليات تعظيمها، حتى كادت السياسة تتحوّل إلى علم التفنن في تنمية الفساد ونهب المال العام، ومع انحسار معدلات التنمية في أقطار عديدة، في مقاسمة الشعوب لقمتها وحرمانها من الحد الأدنى من شروط البقاء.
وبمقدار ما خسر العالم العربي معركة التعاون الإقليمي من داخل جامعة الدول العربية وخارجها، وفي إثرها معركة التنمية الاقتصادية والاجتماعية، وأخفق في إيجاد حل للمسألة الاستعمارية - الإسرائيلية، وتخلى أو أجبر على التخلي عن القضية الفلسطينية، وظهر خواؤه من أي مشروع اقتصادي أو سياسي أو ثقافي محفز لأجياله الشابة ومعبئ لها، ظهر ضعفه وهشاشة بنياته، وفقد وزنه في موازين القوة الإقليمية والدولية. وبموازاة تنامي حجم المشكلات والإحباطات والحسابات المعلقة في بلدانه، لم يلبث العالم العربي أن تحول بؤرة ملتهبة من التوترات والنزاعات والصراعات المتقاطعة، وفي مقدمها الصراع على السلطة. وانشغلت نخبه، ولا تزال، بجمع ثرواتها وتحرير نفسها من أي مسؤولياتٍ أو التزاماتٍ، ضاربة عرض الحائط كل ما يجري من حولها. وها هو يكتشف اليوم تهافت بنيانه في مواجهة قوى إقليميةٍ صاعدة، عرفت كيف تستفيد من العقود الماضية، لتفرض نفسها على النظام الدولي، وتتعامل معه بندية، وتطمح إلى إلحاق العالم العربي، أو أجزاء أساسية منه، بمشروعاتها والتلاعب بتناقضاته، وربما تحطيمه وحدة ثقافية.
حاولت ثورات الربيع العربي أن ترد على هذا الوضع، لوقف التدهور واستئناف دورة التقدم التاريخي، لكن موجاتها الأولى تحطمت على جدار تحالف القوى المضادة الداخلية والعربية والإقليمية والدولية. وأدى تكسّرها هذا إلى تهاوي الأوضاع العربية، وتفاقم سقوط وزن العرب في موازين القوة الإقليمية والدولية. وهكذا، يجد العالم العربي نفسه اليوم محيداً وغائباً عن نفسه ومصالحه، في أكبر معركةٍ يتقرّر فيها مصيره. بل يبدو لي أن العالم العربي صار، اليوم، بعد انفجاره الأخير، أقلّ من أي فترةٍ سابقة، حقيقة واقعة. فلم يعد يمثل كياناً متماسكاً ومتضامناً يتمتع بالحد الأدنى من التفاعل والتعاون والتنسيق الضروري للقيام بأي عمل هادف ومتسق. وربما كان وضع جامعة الدول العربية التي تحولت إلى علبة بريدٍ، لتوجيه رسائل إلى لا مكان هو أفضل تعبير أو تجسيد لحقيقة هذا الوجود الهلامي الهش. هناك نخب عربية، لكل منها قيادتها وتوجهاتها وخياراتها. لكن، بالتأكيد ليس هناك اليوم للأسف عالم عربي.
لا يعني هذا بالتاكيد أنه لن يكون هناك عالم عربي في القريب أو المستقبل، أو أن حقيقة الوجود العربي، كهوية وثقافة وديناميكية سياسية وحضارية، سوف تغيب عن الوجود، لكنه يعني أن هذه الحقيقة وتلك الهوية والثقافة والديناميكية لن تظهر قبل أن يشفى من مرضه، ويتجاوز الأزمة الوجودية التي تعصف به، والتي تجعل من حكوماته ودوله جداراً يحول دون تحقيق مطامح شعوبه وتطلعاتها وهويتها ووجودها. وعندما نفكّر بالدول العربية، كل على حدة، نكاد لا نعثر على نقطة مضيئة واحدة، نرتكز عليها أو يمكن ان نراهن عليها، من أجل تفعيل آليات التضامن والتعاون بينها، ودفعها إلى الخروج من حالة الفريسة المستسلمة لمصيرها، بانتظار ما يقرّره لها الآخرون. وباستثناء الأقطار الخليجية القليلة المنخرطة في الحرب السورية والإقليمية عامة، لا يكاد يصدر عن معظم بلدان هذا العالم العربي أي حركةٍ تشير إلى إدراكها أهمية العمل المشترك، وتنسيق الجهود والسياسات، بل إلى اهتمامها الجدّي بما يجري. وحتى جامعة الدول العربية التي حاولت أن تلعب دوراً نشطا في بداية الثورة السورية تبدو الآن وقد قبلت تهميشها وسلمت، كما فعلت معظم الدول الأعضاء فيها، قرارها للدول الأجنبية.
هكذا يبدو العالم العربي الذي يشكل أكبر كتلة بشرية في ما اعترف على تسميته الشرق الأوسط، فاقداً أي دور في المعركة الدولية الكبرى التي تجري على أراضيه، من أجل إعادة ترتيب التوازنات وتوزيع المصالح، وربما تغيير الخرائط الجيوسياسية، وصوغ الأجندة السياسية للمنطقة المشرقية لأجيال عديدة قادمة. ويجد العرب أنفسهم أكثر فأكثر اليوم مجبرين على القبول بالمشاركة في معارك مفروضة عليهم في إقليمهم، والانصياع لقراراتٍ لا تخدم مصالح دولهم وشعوبهم، والتنازل عن دورهم والكثير من حقوقهم.
ومع ذلك، لم تنته معركة تحرير العالم العربي وإعاده بنائه، بل هي، بالكاد، قد بدأت. لكن، إذا كان لا يزال هناك أمل في كسبها، فهو معقودٌ على الشعوب والرأي العام، وبشكل خاص على جيل الشباب الذي حرم من ماضيه، وهو مهدّد بالحرمان من مستقبله أيضا. أما الدول والنخب الحاكمة فأغلبيتها تتخبط اليوم، ولزمن طويل، في أزماتها الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والأمنية المتفاقمة، بينما هي مضطرّة للزج بنفسها، من دون حمايةٍ ولا شراكةٍ ولا حليف، في جحيم المواجهات الضارية، للدفاع عن وجودها، وحيدةً، من دون حمايةٍ ولا صداقة ولا حلفاء.
قُبيل الإعلان عن شهادة الوفاة للهدنة في سورية الناتجة عن اتفاق الوزيرين، الأميركي جون كيري والروسي سيرغي لافروف، عقد مجلس الأمن جلسة طارئة وخاصة للملف السوري في 21 من سبتمبر/ أيلول الحالي، لإحياء الهدنة، ووضعها على المسار الصحيح، لتشكّل نواة صلبة تمهّد الطريق إلى تفعيل محادثات السلام لعلّها تنقذ ما تبقّى من السوريين.
امتلأت قاعة مجلس الأمن بمن يدّعون السلام والحفاظ على الأمن والسلم العالمي، وأبرز الحاضرين الدول الخمس دائمة العضوية، وهم نفسهم ورثة الحرب العالمية الثانية التي كانت سبباً رئيساً في تجمّعهم، والمهم الآن الجلسة الطارئة تحوّلت إلى مناورة وتبادل للاتهامات بين الوزيرن كيري ولافروف، بشأن مسبّب ومرتكب الجريمة البشعة التي استهدفت قافلة الإغاثة التابعة للأمم المتحدة قبل الجلسة بيومين، حيث تسببّت بحرق 18شاحنة، بما فيها من مواد إغاثية، إضافةً إلى مقتل 12 شخصاً من طاقم الهلال الأحمر، أحدهم المدير العام للهلال الأحمر.
تصاعدت الاتهامات بين الجانبين، لتصل إلى حدّ التخوين، وتحميل كلّ طرف المسؤولية بانهيار اتفاقية وقف الأعمال العدائية، وانتقلت عدوى التوّترات إلى كلّ الأطراف الحاضرة، على مستوى وزراء الخارجية، لتتحوّل القاعة إلى مسرح كبير، استغلّ به كلّ طرف عرض عضلاته وإسهاماته في خدمة السوريين، كنوع من التبرير والتنصل من المسؤولية الأخلاقية، واللغة السائدة للجميع ازدواجية في المعايير.
اللافت أنّه، في الوقت الذي يتبادل فيه الوزراء أطراف الحديث تحت قبّة مجلس الأمن، على الطرف المقابل، وفي التوقيت نفسه، كان البيت الأبيض مشغولاً في عرقلة مشروع قانون لمعاقبة الأسد، وكان ينص على معاقبته لارتكابه جرائم حرب ضد المدنيين السوريين خمس سنوات.
ولم يكن الجانب الروسي أيضاً أكثر غرابة من الأميركي، فحضور لافروف في مجلس الأمن لم يمنع الطائرات الروسية من الاستفراد في حلب، حيث استهدفت أحياء حلب الشرقية المحاصرة بأربعة عشر غارة روسية بقنابل وقذائف حارقة فوسفورية جعلت ليل حلب صباحاً لن ينساه الحلبيون على مرّ العصور.
كان نظام الأسد على علم بكلّ ما يجري، وكيف لا يعلم وهو المستفيد الأكبر من كلّ ما يجري، فبينما كان مندوبه بشار الجعفري يدلي بدلوه في مجلس الأمن، ويستخدم وينتقي الألفاظ المنمّقة التي استخلصها من الفكر البعثي، تقدّمت قوات الأسد ومليشياته المرتزقة في حلب، لتزيد الخناق على المدنيين، من إحكام الحصار والتقدّم من عدّة محاور من الجهة الغربية عند مشروع 1070، إضافة إلى وضع اللمسات الأخيرة لاتفاق حي الوعر في ريف حمص، للاستمرار في مسلسل التهجير القسري، لتأمين طوق العاصمة، لتصبح مستقبلاً بما أسماها سورية المفيدة.
وبالعودة إلى القاعة المفرغة، أنهى الجميع ما كان مدوّناً في أوراقه، وأقرّوا بأن لا حلّ عسكرياً في سورية، ولا بدّ من إحياء الميت، مشيرين إلى الهدنة وتثبيتها على قدمين لتهيئة الظروف السياسية لاستئناف المحادثات. وليست هذه النتيجة جديدة، حتى على أطفال سورية الذين باتوا يقولون إنّ السلام أصبح يكتب على جدران المقابر، فكم من اجتماعاتٍ سابقةٍ، لم تفرز إلا التقاط صور لشخصيات سياسية، تتصدّر وسائل الإعلام، وتتعاون بالخفاء لتتبادل الصفقات من تحت الطاولة.
لا يزال الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، يفرض نفسه طرفاً لإحياء السلام بقوة السلاح، ويزداد يوماً بعد يوم تمسّكاً بالحسم العسكري في سورية، وتثبيت الأسد في دمشق، وهمّه استغلال الوقت المتبقي للإدارة الأميركية، والحصول على قرار من مجلس الأمن، يشرعن به الوجود العسكري، لا سيما فيما يتعلّق بالجزء الخفي من اتفاق كيري لافروف بتحقيق شراكة مع واشنطن للقتال ضد جبهة فتح الشام وتنظيم الدولة الإسلامية، فالضغط هنا على الأميركان أتقنه بوتين بكلّ أساليب التعنّت والاستفزاز، وزاد من تعنته بإرساله أخيراً ثلاثة آلاف مقاتل إلى سورية، إضافة إلى حاملة طائرات أميرال كوزينتسوف للانضمام إلى السفن الحربية في المنطقة، استعداداً لإجراء اختبارات لتلك الأسلحة على المسرح السوري.
أما الرئيس الأميركي، باراك أوباما، فكعادته غير مستعجل على أيّ حسم في سورية، لأنه منشغل في لملمة أوراقه المبعثرة للخروج من مقرّ الرئاسة مع الإرث الشخصي له، والذي قد يتوّجه، في آخر إنجاز له، في تحرير الرقة السورية من قبضة تنظيم الدولة الإسلامية.
في خطابه أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة، رحّب رئيس الوزراء الكندي جستن ترودو، مجدداً بالتعددية في بلاده واعتبرها مصدر إثراء للثقافة الكندية. ويحاول السوريون الذين يفرون إلى أميركا ويطلبون حق اللجوء السياسي هناك، متابعة طريق الرحلة إلى كندا. صديق قديم لي جاء إلى الحدود الكندية في بوفالو، وهناك تقدم بطلب اللجوء السياسي، فأدخلوه وأكرموه، ويبدو أن من عنده قرابة أو كفالة في كندا يلج إليها ويحظى بالإقامة، ليبدأ رحلة الاندماج الكبيرة في هذا البلد البعيد والبارد، لكن الآمن المستقر.
حالياً، مَن يسير في شوارع مونتريال، يسمع اللغة العربية أينما اتجه. دخلت المركز الطبي لابن سينا في شارع بوراسا في مونتريال وقابلت الطبيب «بشار الصلح» في استشارة طبية. الرجل مستقر في كندا منذ فترة طويلة. وهناك في القسم الصيدلي اجتمعت بمصري وجزائرية وعراقية وسورية.. وكلهم يرطنون بلغة الضاد التي فرقتهم في أرجاء المعمورة!
ما يجري في الوعر بحمص من تفريغ للسكان، كما في داريا بغوطة دمشق.. كله يؤشر على تحول عميق في البنية السكانية لسوريا، ولعله خير من جانب. في القرآن الكريم سورة كاملة عن سبأ اليمنية، وإشارة إلى «بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ»، لكن أمراً لا نعرفه تسبب في انهيار الحضارة التي كانت تعتمد على السد والري، فأبدلهم عن الجنتين ببقايا من أثل وخمط وشيء من سدر قليل. شخصياً مررت على المنطقة ورأيتها وقرأت سورة «سبأ»، وعندها فهمت ما جاء في القرآن الكريم حول قصة أهلها.
وحالياً، فإن ما يحدث للسوريين يذكرني بصورتين من التاريخ، الأولى قديمة من سبأ، والثانية حديثة من البلاشفة البيض.. ولعل ما يجمعهما هو ذلك التدفق الهارب من الجحيم. يتحدث القرآن عن قوم لا نعرف من هم، ولا أين عاشوا، وما الذي دفعهم للفرار، أكانت مصيبة طبيعية أم حرب أهلية؟ قال: «أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِن دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ». فلا نعرف صورة الموت ولا الحياة بعد ذلك.
أما الصورة الثانية للتمزق الاجتماعي فهي مصير البلاشفة البيض الذين ودعوا روسيا بغير رجعة، وبلغوا 25 مليوناً، وهو في الغالب ما سيحصل للسوريين المتناثرين في صفحة الأرض حالياً، من تركيا إلى لبنان واليونان والمجر وألمانيا والسويد وكندا، فالحرب الأهلية المدمرة في روسيا مزقت الشعب الروسي وحصل اقتتال شديد، ودفعت أوروبا كل شيء كي لا تقع روسيا في قبضة البلاشفة الحمر، وحوصر تروتسكي ولينين في مربع صغير، لكن سرعان ما هُزم البلاشفة البيض فتناثروا في أوروبا وأميركا، كما يتناثر السوريون اليوم في أقطار المعمورة.
لكن من معين المحنة تولد الأمم، كما في القرآن عن الموت ثم الانبعاث من جديد. وحالياً، وفي مونتريال ترى المحجبات من النساء المسلمات في كل ركن، بل إن ضابطة هجرة استقبلتني في مطار ترودو وهي بحجابها، والتحدي المهم أمام السوريين حالياً هو استيعاب التحول الهائل في العالم، فعليهم أن يتعلموا أساليب الحياة العصرية والنظام الصارم والدقة في العمل والدأب بدون تذمر.
في المحنة السورية صور إيجابية كثيرة رأيناها، فمقابل جثة الطفل إيلان على الساحل، رأينا السبّاحة السورية التي دخلت سباقاً دولياً في ألمانيا، وذلك السوري الذي فتح مطعم شاورما وفلافل وتحدث عنه الإعلام. السوريون مبدعون، وهذا الفزع الأكبر الذي نالهم سيكون مصدر يقظة لهم وولادة جديدة من رحم عقيم لعالم سديم.
لا نعرف إذا كان حكام العالم وزعماؤه يصدّقون أنفسهم ومقتنعين بأن خطاباتهم الصاخبة أمام القمة السنوية للأمم المتحدة يمكنها أن تحدث فارقاً أو تغييراً، أم أنهم يدركون صورية ما يقومون به وأنه لا يُنتظر من هذه القمم الروتينية أي منفعة أو مردود! في حين يدرك السوريون جيداً، ماهية هذه المنظمة الأممية المثقلة بالعجز عن مساعدتهم في محنتهم وعن تنفيذ كثير من القرارات التي اتخذت لمعالجة مأساتهم، وهم خير مَن خَبِرَ شدةَ وحجم «القلق» الذي أبداه مراراً أمينها العام تجاه ما يكابدونه من عنف وتشريد وحصار واضطهاد!
ربما هو حظ السوريين التعيس، وشعوب الربيع العربي عموماً، أن تقترن ثوراتهم ورغباتهم في التغيير بظروف عالمية غير مناسبة، ولنقلْ معيقة ومؤذية، ما أشعر السوريين بوجود ما يشبه حالة تواطؤ دولي على إطالة زمن صراعهم الدموي ومنعهم من بناء مجتمع ديموقراطي واعد، تبادلت فيها، إلى جانب قوى الاستبداد والتطرف، دول الغرب والشرق، أدواراً متنوعة ومخزية، لكنهم اتفقوا جميعهم على استرخاص دماء السوريين ومستقبل أجيالهم والاستهانة بما يحل بهم من فتك وخراب. ولا يغير هذه الحقيقة المُرة تكرار الدعوات الصاخبة لوقف العنف المفرط ومشاريع هدن لا تتعدى استراحة المحاربين، ولا زيادة بعض المعونات المخصصة للاجئين والمتضررين، ولا الجهود المبذولة لإحياء مفاوضات سياسية لا تزال إلى اليوم مسقوفة بالفشل!
صحيح أن الحاجة الرئيسة لإنشاء الأمم المتحدة كانت إزالة آثار الحرب العالمية الثانية ومحاصرة فرص نشوب حرب جديدة، ما مكّن الدول المنتصرة من احتلال موقع متميز في مؤسساتها، وجعل مجلس الأمن كسلطة مهيمنة، أشبه بأداة توافق بينها لتسوية الصراعات والنزاعات، وغالباً على حساب الشعوب الضعيفة، وصحيح أن مياهاً كثيرة جرت وخلقت مهمات أممية ذات طابع إنساني تحتاج إلى تضافر جهود الجميع للتوصل إلى حلول لها، منها الكوارث الطبيعية كالزلازل والفيضانات وظواهر الانحباس الحراري والتصحر، ومنها مخاطر اضطراب العدالة الاجتماعية وتفاقم الفقر والبطالة والهجرة وانتشار الآفات والأوبئة وتفشي الاندفاعات العدوانية والنزاعات المختلفة، لكن ما هو صحيح، وللأسف، أن العالم الذي يفترض، في ضوء ما سبق، أن يتجه صوب الحاجة للتكاتف والتعاضد وتطوير الأمم المتحدة ومجلس أمنها وبلورة أداة أممية صالحة للتنسيق العادل بين مختلف المكونات العالمية ولإدارة الخلافات بينها على أسس سلمية، سار على النقيض تماماً، نحو أمراض الاستئثار والظلم وتغليب المصلحة الذاتية، دافعاً العديد من المجتمعات إلى التطرف والانكفاء والاحتماء بملاذاتها الإثنية والدينية والطائفية.
ألا يصح النظر من هذه القناة إلى انفصال بريطانيا عن الاتحاد الأوروبي؟ إلى تصاعد الدعوات الإسرائيلية لإقامة دولة يهودية تبعد العرب المسلمين والمسيحيين منها؟ إلى ضيق صدر الشعوب من التعايش مع الآخر المختلف، واستِعار الصراعات الدينية والمذهبية لأتفه الأسباب؟ إلى تنامي التفرقة العنصرية في أكثر بلدان الغرب إعلاءً لقيم المواطَنة والمساواة ربطاً بتقدم وزن اليمين المتطرف في مشهدها السياسي؟ إلى تفشي روح التسلط والاستئثار على حساب المشاركة والمساواة وحقوق الإنسان، وعودة النهج القديم بتفضيل الأمن والاستقرار على التغيير الديموقراطي واحترام الكرامة الإنسانية، ما مكن أنظمة الاستبداد من استعادة زمام المبادرة لتسويغ القمع والقهر والتفرد في الحكم وفرض ما تراه من نمط حياة على شعوبها.
وإذ تعني العودة لسياسة الاستئثار والأنانية وتقدم المصالح الخاصة للدول، فشل الانفتاح على الآخر وتراجع القدرة التوافقية العالمية على إدارة هذا الكوكب بصورة مفيدة للجميع، فإنها لم تأت من فراغ، بل صنعتها أسباب متضافرة، منها تردي الحياة المعيشية للكثير من الشعوب جراء إخفاق الخطط التنموية وانفلات ظواهر الاستغلال والجشع والفساد، ومنها تنامي أزمة اقتصادية عالمية أضعفت القدرات الذاتية في تقديم المزيد لمصلحة العام الإنساني، ومنها العجز عن نشر ثقافة أممية ترسي قيم المواطَنة وحقوق الإنسان. وزاد الطين بلة انحسار المعيار الديموقراطي في تقويم الأنظمة السياسية، ما مكّن جماعات فئوية من السيطرة على مقاليد الحكم، لا يعنيها العمل الجماعي والبعد المؤسساتي العالمي بقدر مصالحها الضيقة ودوام هيمنتها على شعوبها وامتصاص ثرواتها، ومنها أخيراً، التأثير اللافت لسياسة الإحجام والانكفاء لدى الولايات المتحدة، بصفتها القوة الأعظم والقاطرة التي تقود العالم، وميلها للاهتمام بقضاياها الداخلية بعد وصول أوباما إلى الحكم، كرد فعل على النتائج المخيبة للآمال التي نجمت عن السياسة التدخلية النشطة إبان حكم الرئيس بوش.
والسؤال: هل كانت ستلقى ثورة السوريين المصير ذاته في حال كانت الأوضاع الدولية والإقليمية على غير ما هي اليوم؟! وهل كانت البلاد لتُستباح لو كان للإرادة الأممية كلمتها النافذة في محاصرة العنف وتمكين الناس من تقرير مصيرهم؟!
ثمة من يجيب بنعم، محمّلاً أطراف الصراع الداخلية المسؤولية الرئيسة عما آلت إليه الأمور، بدءاً بسلطة تنكرت للأسباب والحلول السياسية ولجأت إلى الفتك والتنكيل على أمل إعادة عقارب الساعة إلى الوراء، وانتهاء بجماعات إسلاموية متطرفة يفتنها العنف وتزدري السياسة. وزاد الأمر تعقيداً احتدام صراع الطامعين على موقع هذا البلد ومقدراته. وفي المقابل، ثمة من يرجح مساراً سورياً مختلفاً لو اقترن بإرادة دولية حازمة ومسلحة بإجراءات عقابية تحاصر قوى الصراع الداخلية وتجبرها على ترك ميدان العنف.
وبين هذا وذاك يعتقد آخرون أن المحنة السورية، شكلت محكاً تاريخياً، فضح بَلادة المنظمة الأممية، ومهد لنقد بنيتها التنظيمية والجذور القانونية التي مكّنت الدول الكبرى من تسخيرها في خدمة أغراضها الخاصة من دون أن تعبأ بمصالح الآخرين وحقوقهم، والأهم أنها شكلت حافزاً قوياً لخلق رأي عام يتطلع لبنية ودور أمميين جديدين يقومان على دعم عالم لا ظلم فيه ولا عنف، وعلى إدارة حالة من التوافق بين مختلف مكوناته على أسس عادلة.
وأخيراً، ثار غضب وزير الخارجية الأميركي جون كيري واحتدّ في مجلس الأمن الدولي، وهو يشكّك في صدقية زميله العزيز الغالي على قلبه، نظيره الروسي سيرغي لافروف، في المسألة السورية. وصلت لحظة الحقيقة، قال كيري. والمسألة ليست نكتة، أضاف الوزير الأميركي الذي وجد نفسه عرضة للسخرية في بعض الأوساط الأميركية وغير الأميركية وهي تصفه بالساذج أمام المحنك في المكر، سيرغي لافروف. فالنكتة باتت على كيري ووزارة الخارجية الأميركية عندما تجيب عن كل سؤال جدي بأن كيري سيجتمع بلافروف وكأن الثنائي هو مؤشر المستقبل السوري بـ "رواق" بعيداً من المأساة اليومية التي بالكاد تؤرقهما قليلاً. المفاجأة في مجلس الأمن هذا الأسبوع لم تأتِ من فراغ لأن صبر إدارة أوباما وصل الحدود نتيجة الاستفزازات والمراوغات الروسية المتتالية، وبسبب تفاقم الكلفة الإنسانية الباهظة في سورية. إنما ماذا يعني أن ينفعل كيري وأن يعبس باراك أوباما في وجه نظيره الروسي فلاديمير بوتين احتجاجاً على السياسات والممارسات الروسية في سورية؟
الكرملين لن يخاف كثيراً لأن بوتين واثق من أن أوباما عاجز عن الوقوف في وجهه عملياً لما يتطلب ذلك من مواجهة أميركية - روسية في أجواء سورية. الكلمة الرئيسة هنا هي "العجز" لأن روسيا بنت كل سياستها نحو سورية على أساس أن الولايات المتحدة في عهد أوباما أصبحت الدولة "العجوز"، وأن واشنطن كبّلت أياديها بنفسها في سورية وباتت عاجزة عن التصرف كدولة عظمى، ليس فقط لأن أميركا لا تريد أن تحارب وإنما لأنها أيضاً أرادت إرضاء إيران كيفما كان حفاظاً على إنجاز الاتفاق النووي معها - فكان عليها طأطأة الرأس أمام الأولوية الإيرانية في سورية وهي التمسك ببقاء بشار الأسد في السلطة. هذا لا يعني أن سيد الكرملين ليس قلقاً بالمطلق، بل إنه ازداد قلقاً بعدما "أخطأت" الطائرات الأميركية - وفق ما تقول واشنطن معتذرة - عندما شنّت غارة ذهبت ضحيتها قوى نظامية سورية وغير نظامية إيرانية وميليشياوية تابعة لها. هذا الأمر أيقظ فلاديمير بوتين إلى القليل من التواضع وأثار فيه الكثير من السخط، فهو لا يشتري أبداً مقولة "الخطأ"، ويفهم ما حدث بأنه رسالة متعمدة عنوانها موسكو بقدر ما هو دمشق.
بوتين يدرك أن وضعه أكثر هشاشة من وضع أوباما لأن لا قوات أميركية في سورية، فيما روسيا دخلت طرفاً في الحرب الأهلية السورية، ولأن معركة حلب مازالت مصيرية، ولأن الضغوط على بوتين تتزايد في عقر داره بعدما نصب روسيا في الخط الأمامي للحرب مع "داعش" وأمثاله، ولأن روسيا ترتكب ما يرقى إلى جرائم حرب في سورية كما تؤكد منظمات غير حكومية، ولأن سورية تزداد شبهاً بمستنقع يتربص بروسيا فيما الولايات المتحدة تستعد - ولو متأخراً - لسلك الطريق الأخلاقي الأعلى فيما الورطة الروسية الأخلاقية في سورية تتفاقم.
كان هذا أسبوع سورية على هامش الدورة الـ71 للجمعية العامة للأمم المتحدة التي شارك فيها أوباما وغاب عنها بوتين. الرئيس التركي رجب طيب أردوغان بسط نفسه أينما كان وكيفما كان ليطرح أولوياته، ومن ضمنها، إنشاء منطقة حظر جوي في شمال سورية على طول الحدود التركية. اتهم "حزب العمال الكردستاني" بأنه يسعى وراء تقسيم سورية، وتعهَّد الحرص على وحدة سورية الجغرافية والسياسية. اعتبر أن عملية "درع الفرات" أمّنت الحماية وأنه حوّل جرابلس من حزام كان يمكن أن يكون إرهابياً إلى منطقة آمنة. ودعا أردوغان مجلس الأمن إلى محاسبة النظام السوري على جرائمه التي من ضمنها "استهدافه قافلة المساعدات" الإنسانية في حلب الاثنين الماضي.
فرنسا قالت على لسان رئيسها فرنسوا هولاند إن المأساة السورية ستبقى "وصمة عار على جبين المجتمع الدولي ما لم نضع حداً لها فوراً"، وأن "حلب مدينة شهيدة حيث تُستهدف القوافل الإنسانية، ويجوع السكان، وتُستخدم الأسلحة الكيماوية". طالب هولاند "داعمي النظام"، روسيا وإيران، بأن "يرغماه" على إحلال السلام "وإلا سيتحملان مسؤولية الفوضى في سورية". طالب بمعاقبة مَن استخدم الأسلحة الكيماوية في سورية، بعدما أكد تقرير دولي أن النظام و "داعش" استخدما تلك الأسلحة المحظورة.
وزير خارجية فرنسا جان ماري إرولت طرح مبادرة من 3 نقاط تتضمن إصدار مجلس الأمن قراراً بموجب الفصل السابع من الميثاق يدين ويعاقب مَن استخدم الأسلحة الكيماوية. وقال: "لا يمكن القبول بمساومة، كأن نتقيد بالهدنة مقابل التخلي عن الملاحقات بحق مستخدمي السلاح الكيماوي".
اقترح إرولت "إنشاء آلية مراقبة لوقف إطلاق النار" وإقامة نظام مراقبة مشترك للهدنة، تشمل فرنسا ولا تقتصر حصراً على الولايات المتحدة وروسيا. وضمن ما اقترحه الوزير الفرنسي كان فرض تجميد قوى النظام السوري في مكانها وفرض حظر على تحليق الطيران الحربي.
جون كيري طالب روسيا بمنع تحليق الطيران الحربي السوري في المناطق الرئيسة المتفق عليها في شمال سورية وإجبار النظام على التنفيذ، وذلك أثناء جلسة مجلس الأمن الصاخبة التي شهدت سجالاً بين كيري ولافروف. الوزير الروسي احتج على "شروط مسبقة" من الجانب الأميركي، فرد كيري بأن "عدم قصف المستشفيات والمدنيين وقوافل المساعدات ليس شرطاً مسبقاً، بل هو اتفاق دولي يتم انتهاكه في شكل متكرّر". قال: "كيف يمكن البعض الجلوس إلى الطاولة والتحدث فيما النظام السوري يقصف شعبه بالكيماوي؟".
روسيا، كما قال لافروف، مازالت متمسكة بضرورة العودة إلى مراجعة لائحة التنظيمات الإرهابية لإضافة تنظيمات جديدة إليها. وأضاف أن روسيا تحتاج ضمانات جديدة بأن للولايات المتحدة "نفوذاً على الأرض وعلى المجموعات التي تقول أنها ستتقيد بالاتفاق".
ماذا عن العملية السياسية والتي تبدو كأنها في المقعد الخلفي للاعتبارات الروسية والأميركية؟ الأمين العام للأمم المتحدة بان كي مون دعا إلى استئناف المفاوضات موضحاً أن على الجلسة الأولى التركيز على "الانتقال السياسي، خصوصاً كيفية ممارسة السلطات من جانب هيئة الحكم الانتقالية، بما يشمل الرئاسة والسلطات التنفيذية الأخرى". تحدث عن مفاوضات تؤدي إلى تشكيل الهيئة ذات الصلاحيات التنفيذية الكاملة، وزاد أن مبعوثه ستيفان دي ميستورا سيقدم إطار عمل جديداً للمفاوضات. دي ميستورا قال أنه سيقدم اقتراح إطار عمل يستند إلى مبادئ "معالجة ممارسة السلطة من جانب هيئة الحكم الانتقالية، بما يشمل الرئاسة، والمشاركة في السلطة، وإيجاد هيئات انتقالية للإشراف على وقف النار والمساعدات الإنسانية، وإيجاد البيئة المؤاتية لممارسة النشاطات السياسية سلمياً، ومواصلة الدعم الدولي للعملية".
صارح دي ميستورا المعارضة السورية بمخاطبتها بأن "عليها أن تفهم أن أي انتقال لن يكون محصوراً في شأن شخص واحد ونقل السلطة من جانب سياسي إلى آخر". وتوجه إلى الحكومة السورية قائلاً ان "عليها أن تعي أن الانتقال يتضمن نقلاً حقيقياً للسلطة، وليس مجرد ضم المعارضة إلى الحكومة التي يحكمها شخص واحد". لافروف قال لدي ميستورا أنه مازال يتمتع بالدعم الروسي له، إنما نصحه بألا يخضع "للابتزاز".
أسبوع سورية في الأمم المتحدة لم يكن في مصلحة الديبلوماسية الروسية التي وجدت نفسها منعزلة فيما أنظار العالم انصبت على الخروقات الرهيبة للقوافل الإنسانية وعلى التجويع والتشريد والقصف، سياسة يعتمدها النظام في دمشق بدعم من حلفائه، روسيا وإيران والميليشيات التابعة لها.
ازدادت الضغوط الإعلامية والسياسية هذا الأسبوع بسبب حضور حلب إلى نيويورك أثناء الجمعية العامة ونتيجة العملية العسكرية الأميركية في سورية الجديدة نوعياً - خطأ كانت أو عمداً. إنما ما انتهى إليه الأسبوع هو الاستنتاج بأن التصادم الأميركي - الروسي السياسي ليس مؤشراً إلى نهاية النزاع، بل قد يكون المؤشر إلى إطالته. والأمر يعتمد على ما في ذهن بوتين في الكرملين، لا على أقوال أوباما وهولاند في نيويورك. يعتمد أيضاً على ما سينفذه أردوغان.
أما الرئيس الإيراني حسن روحاني، فكانت زيارته تحت الرادار، عكس زياراته السابقة. لعله قرر أن الأفضل له الآن الاختباء عن الأضواء كي لا يوضع في خانة الاتهام والمساءلة عمّا تقوم به إيران في سورية. الواضح أنه لم يتعرّض لضغوط جدية نافذة من نظيره الأميركي، أو من القادة الغربيين.
سرعان ما ستحاول الديبلوماسيتان الأميركية والروسية استدراك التوتر في العلاقة الثنائية لأن الملفات الإقليمية بينهما لا تقتصر على سورية. سيتم ترميم العلاقة ظاهرياً بعدما أصابها الصدع علناً لأن الدولتين حريصتان على الشراكة الضرورية بينهما بالذات في سورية.
الخطر يكمن في الترميم. فطالما تضع الدولتان علاقاتهما الثنائية فوق كل اعتبار، ستبقى ساحة التضحية سورية. فلقد كانت معالم المواجهة منذ البداية ذات حدود ولم يتوقع عاقل أن تتطور إلى مواجهة ميدانية. ترجمة هذه المعادلة أن لملمة الخلافات ستعني التورية على المأساة السورية كي لا تفضح ذلك النقص الفظيع في المواقف المبدئية.
أسبوع الصخب في نيويورك ليس حدثاً عابراً لكنه لن يصبح ذا معنى ما لم تهتز العلاقة الأميركية - الروسية بجدية، لا بمجرد خطابات رفع العتب التي لها نكهة التفاهمات المسبقة على أولوية استمرار الشراكة تحت أي ظرف كان بما فيه اللاأخلاقية السياسية نحو سورية.
أُشير في مقالٍ للكاتب والباحث والمترجم السوري، بدر الدين عرودكي، في الموقع الإلكتروني "جيرون" (23/9/2016)، بشأن البيان الذي ذاع الأسيوع الماضي، موقعاً من 150 مثقفاً سورياً، عن عدم أخلاقية السياستين الروسية والأميركية، يردّ على ما رآها مقال للزميل ساطع نور الدين في "المدن" (16/9/2016) عيوباً في البيان، أشير إلى أنه تمت ترجمة البيان إلى الفرنسية والإسبانية والانجليزية، لينشر في الصحف الناطقة بها، في الوقت الذي نشر فيه بالعربية، لكن عرودكي لا يفيد بأن هذا الأمر قد جرى، وأن البيان وجد سبيله إلى النشر في منابر وازنة باللغات الثلاث. ولم تأت الأخبار، في حدود ما يعلم صاحب هذه الكلمات، على ذلك، وإن صودف أن موقعاً إلكترونيا بالانجليزية نشر البيان، الموجه إلى غير السوريين، والذي يُفترض أن الروس والأميركيين هم أول من يلزم أن يقرأوه، صناع السياسات منهم خصوصا، والمثقفون وأهل الإعلام، وكذا أوساط العاملين في الميديا الأميركية والأوروبية، من دون انشغال بالسؤال عن العوائد من نشره وتعميمه، ذلك أن من أهم وظائف المثقف أن ينشط في سبيل إشاعة موقفه ورؤاه. ولمّا كانت المحنة الإنسانية الكبرى في سورية تحتم على كل النخبة السورية المنحازة إلى شعبها، وكذا العربية المناوئة لكل استبداد، أن تعملا بدأبٍ لا يتوقف على الاحتكاك مع الرأي العام العالمي، وفي مختلف وسائل التأثير عليه، وعلى الحوار مع التشكيلات الأهلية والحزبية والنقابية والأكاديمية الفاعلة في مجتمعات الغرب، ومثيلاتها في روسيا (لم لا؟) وفي عموم الأرض، في آسيا وإفريقيا وأستراليا والأميركيتين.
ليست هذه مهمةً سهلةً، ولا ميسورة، غير أننا لا نلحظ أي محاولة محدودة تنشط فيها، وليس هناك من مسعىً واحدٍ في خصوصه، على الرغم من الإلحاح الشديد الوجوب لوجود لوبيات مبادرة وحيوية من أجل القضية السورية، لا سيما وأن القناعات التي تتبنى اعتبار الحالة السورية حرباً ضد الإرهاب صارت تتعزّز في ساحات إعلامية وثقافية عريضة في العالم. ويكفي أن يشار، هنا، إلى أنه على الرغم من تعدّد الكيانات التي جمعت تمثيلاتٍ من الثورة السورية، والمعبرين عنها، منذ المجلس الوطني مروراً بالإئتلاف، وصولا إلى الهيئة العليا للمفاوضات، عبورا إلى تشكيلاتٍ جزئية أخرى وفيرة، إلا أن لا أحد منها أوْلى الأمر المتحدّث عنه هنا اكتراثاً أو التفاتاً، وكأن من البديهي أن ينتصر العالم من أجل قضيتك، وأنت تتحدّث مع نفسك ومع أنصارك.
جاء بيان ال 150 مثقفاً سورياً موفقاً وشاملاً في إحاطته أكثر من مسألةٍ تتصل بموضوعة انعدام الأخلاق في السياستين الروسية والأميركية بصدد محدلة التمويت والاضطهاد والاعتقال والعسف والتهجير والتشريد التي يتعرّض لها الشعب السوري. والمعوّل أن يحظى من موقّعيه، ومن الناشطين منهم، ومن غيرهم، في ساحات الفعل الثقافي والإعلامي والأكاديمي في غير بلد، في أوروبا وأميركا وغيرهما، بحركةٍ متواصلة، من أجل أن يصل إلى أكبر عدد من المثقفين والسياسيين في العالم، وأن يُتبع بمبادراتٍ مثيلة، وبياناتٍ وتظاهراتٍ وأنشطةٍ متنوعة، يُدعى إليها سياسيون ومثقفون وأكاديميون أميركان وروس وأوروبيون، ومحاورتهم ومساجلتهم، في خطابٍ متكامل الزوايا، يتأسّس على تفكيك منظومة الاستبداد القائمة في سورية، والتأكيد على أن تحرير الشعب هناك منها وحده الكفيل بإنهاء ظاهرة الإرهاب المتوحش، ونقض المقولة التي نجح أنصار النظام في إشاعتها، وهي أن بدائله هي تشكيلات الإرهاب الأسود وعصاباته.
يعرف المثقفون السوريون، قبل غيرهم، أن بياناً منهم لن يوقف صاروخاً روسياً يبعثه أهل القرار في موسكو إلى حلب وإدلب للتدمير والتهجير، غير أن ما يحسُن أن يعرفوه أيضا أن إصدار بيانٍ، وإن بدا في صيغةٍ راقية ومتقدمة، كما بيان الأسبوع الماضي، هو عتبةٌ إلى خطواتٍ أخرى، أهمها أن يكون هذا البيان موصولاً بنشاط مثابر وصعب وذي نفس طويل، وكفاحي وصبور، تتأهل له شبكةٌ متكاملة من ذوي الخبرة في الاتصال والتواصل، وفي المحاورة والمساجلة. .. هل تُرجم البيان إلى الانجليزية والفرنسية والإسبانية، ثم نشر بهذه اللغات؟
في الحديث الشهير الذي أدلى الرئيس باراك أوباما به قبل قرابة شهرين إلى الصحافي الأميركي جولدبرغ، وعبّر من خلاله عن الرؤية الفكرية التي حددت خياراته وأملت عليه قراراته ومواقفه، وردت جملة تقول بصيغة تساؤلية: ما هي أهمية سوريا بالنسبة لأميركا، تلاها رد أوبامي واضح وصادم، يقول حرفياً: سوريا ليست مهمة لنا.
في فهمه للصراع السوري ولآلياته، يقول أوباما مهنئاً نفسه على قراراته الحكيمة: إن خلف هذا الصراع، الذي له مظهر سياسي، حسابات وصراعات قبلية ومذهبية يصعب على أي أجنبي التدخل فيها، بسبب ما يشوبها من غموض ويكمن فيها من اعتبارات مغرقة في المحلية وذات أبعاد تاريخية يصعب على من يتدخل فيها الخروج منها بسلام، كما حدث بعد تدخلنا في العراق.
هكذا إذاً، لا حرية ولا شعوب ولا ظلم ولا استبداد، بل صراعات وحروب ظاهرها سياسي وحديث وجوهرها ما قبل مجتمعي / ما قبل تاريخي، فما الذي يمكن أن يغري أميركا: بلد الحداثة والتقدم، المنتمي إلى الزمن ما بعد الحداثي، بحشر أنفه فيها وخوض معاركها، التي لا تعنيه أصلاً ولا يمكنه التأثير في مجرياتها؟
سأتجاوز اللغة التحقيرية والأفكار الخاطئة، التي يرى أوباما من خلالها وقائع منطقة لطالما ادعى هو وفريقه أنها دخلت بفضل الربيع العربي المرحلة الرابعة من الثورة الديمقراطية الكونية، التي بدأت في الغرب، ثم اجتاحت البلدان الاشتراكية، قبل انتقالها إلى أميركا اللاتينية ووصولها أخيراً إلى العالم العربي.
صحيح أن أوباما ناقض نفسه، بعد الثورات الديمقراطية، عندما راهن على جماعة الإخوان المسلمين ورأى فيهم ممثلين طبيعيين لهذه الثورات يمثلون النزوع الديمقراطي للشعوب العربية، متجاهلاً ما يستندون إليه من أسس أيديولوجية مغايرة في جوانب عدة للنظام الديمقراطي.
حين فشلت تجربة الإخوان في مصر، وقبلت بالمشاركة السياسية في تونس، اعتقد أوباما أن ما حدث كان تعبيراً عن إخفاق المجتمع العربي في بلوغ الديمقراطية، ولم يرجع أسباب الإخفاق إلى سياسات خاطئة تبنوها في مصر.
بل أعادها إلى بنية عربية غير مجتمعية، نافية للحداثة والديمقراطية، من غير الجائز أن تساندها أميركا، لأن نتيجتها الوحيدة، التي يمكن أن تترتب عليها، ستكون نزاعات قبلية ومذهبية عصية على الضبط والتحكم، كان من نباهته أن تغافل عنها، وحال دون احتراق مواطنيه بنيرانها!
أين تتجسد هذه الهوية ما قبل المجتمعية، المفعمة بالعنف والغموض والمذهبية؟
يبدو أنها تتجسد في الثورة السورية، التي أيدها أوباما بقوة أول الأمر، ثم اكتشف أنها لا تستحق التأييد، لأن سوريا غير مهمة لأميركا، وحقق اكتشافه بعد أن استغل دماء السوريين كي يصفي حساباته مع إيران والنظام، وينتزع البرنامج النووي من الأولى والسلاح الكيميائي من الثاني.
عندئذ فقدت الثورة السورية هويتها كثورة مجتمعية وشعبية مطالبة بالحرية والقيم التي يقوم عليها العالم الحديث، وتحولت إلى شأن لا يعني أميركا، لا ضير عليها إن تخلت عنه وتركته لإيران ومرتزقتها، ولروسيا وشبيحة الأسد، وتفرجت بدم بارد على هؤلاء وهم يفتكون بأطفال السوريين ونسائهم وشيوخهم، وتجاهلت ما يستخدم ضدهم من أسلحة وذخائر تجرب لأول مرة على الآدميين، ولكن بصفتهم «حيوانات تجارب» لا يجوز أن ينفعل لموتها أحد، أو يذكر بها.
ليست سوريا مهمة لأميركا... يبدو أن أوباما نسي تصريحاته اليومية الداعمة لرحيل الأسد، وكان قصده الحقيقي والمضمر منها تسعير الصراع وتصعيده وإيصال السوريين إلى ما بلغوه اليوم من ترحيل وتهجير وتقتيل وتعذيب وإفقار وحصار وتجويع وإبادة.
لنفترض أن هذا لم يكن هدف الرئيس الأميركي، ألم يكن من الإنسانية أن يتحدث بشيء من التعاطف مع ضحايا العنف الأعمى، وأن يعتبرهم بشراً ماتوا من أجل حريتهم، من التجني اعتبار معركتهم قبلية ومذهبية، مساندتهم خطأ وموتهم فعل من أفعال البر والتقوى، أنجزه نظام لم يدنه ولو بكلمة واحدة منه خلال حديثه الطويل.
أيهما أكثر ذكاء وربما خبثاً، هل هو توم أم جيري؟.
لا جواب واضح على السؤال، فذلك يتوقف على الزاوية التي يراقب من خلالها المشاهد، ذلك أن الحكم لا يتعلق بنتيجة اللعبة بينهما "لا غالب ولا مغلوب"، وإنما بالشد والرخي، واللف والدوران، وتبادل الأدوار، وفي النهاية يظهر الاثنان فائزان ذكيان.
بالطبع.. لا نحاول هنا تحليل أفلام الكرتون الأشهر "توم وجيري"، ولكننا استعرنا تشبيه الكاتب اللبناني سمير عطا الله لكيري بـ"جيري"، في مقال "قبيلة اللو" قبل يومين بجريدة الشرق الأوسط.
بعيداً عن الشخصيات الكرتونية وقريباً من الواقع، أيهما أكثر ذكاء وربما خبثاً، هل هو جون كيري أم سيرغي لافروف؟
كيري-لافروف، علاقة بين خصمين تارة وبين صديقين تارة أخرى، ويقول بعض المحللين إن الرجلين يلعبان سياسة، علاقة وصفها بعض المحليين بأنها "علاقة الأضداد" ما بين السيد "لا" والسيد "نعم"، كيف تطورت العلاقة بين الثنائي الديبلوماسي الغريب والمتناقض "كيري (السيد نعم)-لافروف (السيد لا)"، واللذين أصبح اسميهما مقترناً ببعضهما إلى حد كبير، فهما الثنائي السياسي الذي اجتمع على مدى سنوات من أجل الموضوع السوري، اجتمعا مع بعضهما أكثر مما اجتمعا مع رؤساء دولتيهما، وبالطبع تفاوضا وتجولا وتحدثا، وشربا الفودكا الروسية وأكلا البيتزا الأميركية معاً بحضور الصحافيين "11 سبتمبر 2016، عندما دخل وزير الخارجية الروسية بملامح صارمة ولهجة جدية وبعد انتظار طويل، إلى القاعة المخصصة للصحفيين في ختام جولة مباحثاته مع كيري حول هدنة العيد في سوريا، دخل يومها لافروف حاملا زجاجتي فودكا مخاطبا الصحافيين بالقول: "البيتزا من الوفد الأميركي، نحن نأتي بالفودكا".
تشاؤم.. تفاؤل.. وهكذا دواليك
خلال مسيرة سنوات من العمل على الملف السوري الذي أرّق العالم كله، تناوب التفاؤل والتشاؤم على اجتماعات كيري- لافروف، وتعلم الجميع من صحافيين ومراقبين ومحللين أن التفاؤل والتشاؤم الأميركي الروسي لن يكون أكثر من جولة قصيرة، وسيتبادلان الأدوار بالاجتماع المقبل.
فخرج اليوم السبت 24 سبتمبر الوزيران من اجتماعهما في نيويورك بانطباع تشاؤمي، وإشارات متناقضة بين الطرفين حول النتيجة "المحدودة جداً"، كما وصفها كيري لهذا الاجتماع، وإن لم يتحدث كيري صراحة عن فشل، فإن لافروف في المقابل، لم يشر إلى أي تقدم محتمل بعد المحادثات.
ليس ببعيد عن اليوم وقبل 3 أيام فقط شهدت جلسة مجلس الأمن الدولي الخاصة في سوريا خلافا بين واشنطن وموسكو بشأن المعارضة السورية المسلحة، فهاجم كيري روسيا "النظام السوري وروسيا ليسا بحاجة إلى اتفاقات ومفاوضات كي يوقفا قصف المنشآت الطبية في البلاد"، وذهب كيري أبعد من ذلك –يومها- وانتقد التضارب في التصريحات الروسية بشأن الهجوم على قافلة الإغاثة الأممية في حلب، فما كان من لافروف إلا أن رد على زميله الأميركي باتهام فصائل المعارضة السورية بانتهاك الهدنة أكثر من 300 مرة.
ولكن ورغم كل تلك التناقضات فإنه يبدو واضحاً لمن يراقب الصحافة الروسية أن الروس يتعاطفون مع هذا الثنائي السياسي "كيري- لافروف" فالصحافة الروسية لا تنتقد كيري كثيراً مثلما تفعل مع الرئيس باراك أوباما.
ونقل تقرير صحيفة الديلي بيست الأميركية قبل عدة أشهر عن المحلل السياسي الروسي دميتري أوريشكن، قوله "لن يتطلب الأمر الكثير من آلة الدعاية الخاصة بنا لتحويل كيري إلى شخص متوحش أو سادي، ولكن لافروف لا يسمح بذلك، فهو يقدر علاقتهما الجيدة".
العلاقة في أسوأ أحوالها
كتب عرّاب السياسة الخارجية الأميركية هنري كيسنجر قبل أشهر قليلة "فبراير شباط 2016" أن العلاقات بين موسكو وواشنطن في الوقت الراهن "تكاد تكون في أسوأ أحوالها منذ انتهاء الحرب الباردة".
يبدو رأي كيسنجر متوافقاً مع الأحداث الدموية التي تسيطر على العالم فيما يتعلق بالملف السوري الذي يديره الرجلان الممثلان للدولتين الأكبر، إذ تشير التقارير إلى التلاعب الروسي بأميركا، وتظهر الأحداث والتطور على الأرض أن لافروف روسيا تجاهل كيري أميركا، وأظهر الضعف الأميركي بوضوح في أكثر من مناسبة.
وازدادت الانتقادات في الداخل الأميركي لسياسة الرئيس أوباما ورجله الأول جون كيري، وحمّله الكثيرون من السياسيين والصحافيين مسؤولية الكارثة الإنسانية التي اجتاحت سوريا وتسربت للعالم كله.
يتناقض توصيف كيسنجر عن العلاقة الروسية الأميركية مع آراء سياسيين أميركيين، إذ نقلت الصحافة الأميركية بعض الآراء حول دور كيري ولافروف بتقدم العلاقة بين البلدين الأكبر في العالم، وعلى الرغم من أنهما اختلفا حول الكثير من القضايا الرئيسية في الموضوعين الأساسيين "أوكرانيا، سوريا"، إلا أن الخلاف لم يقطع العلاقات والمحادثات الديبلوماسية، إذ إنهما مازالا يجلسان ويتحدثان لساعات وخصوصاً فيما يخص الموضوع السوري.
ولكن.. هل يمكن أن تبقى العلاقة قبل قصف قافلة المساعدات الأممية كما بعد قصف القافلة، وهل يمكن للديبلوماسية مهما كان لاعبوها "محترفين" أن تتجاهل الانتقادات والاتهامات التي تطايرت بين الطرفين، ففعل قصف القافلة جاء أكثر استفزازاً من تحليق قاذفاتها السوخوي فوق حاملة الطائرات الأميركية قبل أشهر قليلة، ووصف كيري حينها التحليق بأنه خطير واستفزازي، وبدا يومها أنه يهدد روسيا عندما نوّه لقدرة الجيش الأميركي على إسقاط الطائرات الروسية، ولكن روسيا ردت يومها بأن الطيارين الروس لم يخرقوا أي قواعد دولية وانتهى الأمر، وربما سينتهي موضوع قصف قافلة المساعدات بتمييع القضية وتجاهلها مع الوقت، ومحاولة إيجاد كبش فداء ليتحمل عبء القصف.
توم وجيري
في منتصف شهر مايو 2013، أعلن كيري للعالم بلغة حماسية أنه و"صديقه سيرجي" وافقا على المشاركة في استضافة مؤتمر السلام السوري في جنيف.، وبعدها مباشرها نقلت وكالات الاستخبارات الأميركية أن روسيا زودت نظام الأسد بصواريخ متطورة، وعلق في ذلك الوقت السيناتور جون باراسو "من يسأل روسيا لدعم مصالح الولايات المتحدة في سوريا هو كمن يسأل الثعلب لحراسة حظيرة الدجاج."
لمدة ثلاث سنوات، من جنيف الأولى إلى جنيف الثاني، إلى فيينا، إلى جنيف الثالثة، مروراً بكل قرارات مجلس الأمن الدولي المتعلقة بسوريا، وكل تلك الزيارات المكوكية والمحادثات الثنائية، لم تثمر إلا على زيادة نفوذ روسي، وضعف أميركي.
في سبتمبر 2015 حصل الأسوأ بالنسبة للسوريين وللسياسة الأميركية، فتدخلت روسيا مباشرة إلى جانب صديقها بشار الأسد، وأخذت زمام المبادرة واستهدفت المعارضة المسلحة بدون التفريق ما بين فصائل متشددة وأخرى معتدلة ما أغضب الأميركيين.
وفي بداية شهر شباط عام 2016، أصر كيري على وقف إطلاق النار فورا، فردت روسيا بحملات قصف رهيبة وشديدة وبضعة مجازر في حلب، وكان آخرها قصف وإحراق قافلة المساعدات الدولية.
وقبل يومين رفضت روسيا مقترحا لكيري بتعليق تحليق الطائرات الروسية والسورية فوق مناطق المعارك السورية ووصفه بأنه "غير عملي"، ما يمحي كالعادة كل تصريحات كيري- لافروف الماضية، ويصل الموضوع لحائط مسدود كما كل مرة.
لافروف.. كيري.. أيهما الأقوى
قال المحلل الروسي أوريشكن قبل أشهر بحسب صحيفة "الديلي بيست الأميركية" "إن وظيفة لافروف أصعب بكثير، لأنه لا يوجد لديه استقلال وإنما ينفذ قرارات بوتين فقط، وحتى لو اختلف مع بعض التحركات، فلم يكن لديه الخيار".
ومن يظن أن الرجلين على علاقة سيئة لكثرة التناقضات والخيبات بعد كل تصريح من أي منهما، فإنه مخطئ، إذ قال لافروف قبل أشهر قليلة إنهما "على علاقة جيدة جداً وأضاف، بحسب ما ذكر تقرير الـ"دايلي بيست"، "ولكن هذا لا يعني أننا يجب أن نبتسم من الأذن إلى الأذن، ونعبر عن الفرح خلال كل اجتماع لإرضاء الصحفيين الروس والأميركيين وغيرهم."
يتبادل الشرعيون المسيِّرون للفصائل في سوريا الفتاوى بين تحريم و تحليل ، واباحة و نهي ، حول قضايا الاندماج و المشاركة هنا و هناك ، في الوقت الذي تغص به السماء بأرواح الشهداء بشكل وصل لدرجة أن المعدل اليومي للشهداء يفوق الـ ١٠٠ ، من مدنيين ضعفاء و مقاتلين أشداء ، في حين أنهم يجلسون في مكامنهم يحللون القضايا و يصدرون الفتاوى التي لم تقد في يوم من الأيام لشيء ايجابي.
خرج شرعيو جبهة “فتح الشام” أمس الأول ببيان يقضي بـ”حرمانية” المشارك في معارك “درع الفرات” كونه تعامل مع عدو كافر صائل (الأمريكان) ، سبقهم شرعيو حركة أحرار الشام الاسلامية ببيان الإباحة ، في حين رد شرعيو المجلس الاسلامي السوري بالتحليل شرط عدم التوقف ضد الأسد و حلفاءه ، رد شرعي جيش الاسلام بأن تركيا دولة اسلامية فيجوز التعاون معها ، أنكر بعض أعضاء أهل العلم بيان الاباحة و أكدوا عدم مشاركتهم به ، و قال …. و رد … في حين اعتبر ….. ، أما …… فقد أشار إلى …. ، و يستمر الحديث و التكثيف البياناتي حول القضية ، و تجد الآيات ذاتها تطرح من جميع الأطراف و بتفسيرات متضاربة بشدة ، تجعل غالب الظن أن الخلاف بين دينين و ليس داخل مذهب واحد ، و حتى داخل ذات الشعبة.
السادة الشرعيون يعملون بكد و جد على مدار الساعة لتحليل المعطيات و اطلاق الفتاوى، و توجيه الجيوش لفتح هنا أو قصف هناك ، مراعين مبادئ الظروف و الحالة و الوضع السياسي و الحال المعاشي ، بالطبع على رأس أولوياتهم هو التقارب و التجاذب بين البقية من ذات التوصيف “الشرعي” ، الذي يشّرع كل شيء حتى من الممكن أن يصل الأمر به إلى إعلان الحرب و الإبادة على فصيل آخر ، فهو “الشرعي” الذي لا ينام على خطأ.
قد أصيب و أخطئ ، و أتحمل مسؤولية ما أفعل و أقول ، وذلك في حدود الأمور التي أملك ، و لكن أتساءل بشكل دائم لم لا يعترف “الشرعيون” بأخطائهم و يتوبوا إلى الله ، وكيف يختلفون حول ذات المصدر ، فيصر البعض على أنه صاف زلال و الآخرون رجس من عمل الشيطان ، و يقسموا المناطق و الدول لكفر و اسلام ، و الرايات لطاغوت و توحيد ، في حين يصمتون صمت الجبال حول مصدر الدخل و الدعم و تجدهم في عداد الأموت اتجاههم.
في كل يوم نودع عشرات الشهداء من خيرة المقاتلين و القادة العسكريين ، في مختلف الساحات ، و لكن عندما تبحث بين الأسماء لا تجد شرعي موجود بينهم ، و حين يقتل أحدهم فهو يقتل قصفاً بالخطأ أو استهداف تحت وسم “الاغتيال” بفتوى شرعي يقابله ، أليس أولى بهم إدارة الحرب و الافتاء بالمستجدات الدائرة على الأرض و الميدانية بشكل لصيق بالمقاتلين “المجاهدين” الذي يعمدون على مدهم بفتاوى الجهاد و ووجوبه ، و كيف يحكمون إذاً.
أذكر جيداً عندما كنت في أحد الأماكن أن فتوى من مجلس شرعي أفتى بعدم جواز مشاركة الشيخ “فلان” في المعارك خوفاً عليه من أن يقتل فتضيع المنطقة و قد تضيع الأمة من بعده ، و بالفعل قد تضيع الأمة إن قتل ، و لكن ان بقي بذات السوية فإن الأمة ستباد.
ليت الشرعيين المتناحرين بين سلفية بأنواعها و تلك المتصوفة بأشكالها ، أن يقولوا لا إله إلا الله فقط ، و ينطلقوا لساحات الوغى علّنا، نجدهم أسوة حسنة ، و ليكونوا بصدق “ورثة الأنبياء” أفضل من أن يكونوا ….. .
لم يكن للاتحاد السوفياتي في الماضي، ولروسيا الاتحادية الآن، من هم سوى أخذ سوريا والسوريين من كارثة إلى أخرى. ليس التفاهم الأميركي ـ الروسي الأخير في شأن الهدنة سوى امتداد للخط الذي سارت عليه موسكو دائما. هذا التفاهم الذي تبيّن كم هو هشّ تريد روسيا تفسيره بما يتناسب مع ما تعتبره حماية لمصلحتها. ومصلحة روسيا في هذه المرحلة وضع قسم من الأراضي السورية تحت وصايتها ورضوخ أميركا لشروطها.
باختصار شديد، هناك طلب روسي بسيط من الإدارة الأميركية. فحوى هذا الطلب أنّ سوريا أرض روسية وأنّ بشار الأسد ليس سوى دمية تحركها موسكو وأنّ المعارضة السورية كلّها مجموعة إرهابيين لا أكثر… وما على أميركا سوى القبول بهذا الواقع الذي يعني بين ما يعني قيام “سوريا المفيدة” التابعة لإيران.
هذا هو المفهوم الروسي للتفاهم في شأن الهدنة. لذلك، عندما قصفت الطائرات الأميركية، عن طريق الخطأ، أو غير الخطأ، قوات تابعة للنظام السوري في دير الزور، ردت موسكو بقصف لقافلة تنقل مساعدات إلى المواطنين في حلب. قتلت مدنيين ومنعت دخول المساعدات إلى المدينة المحاصرة.
من حقّ روسيا متابعة سياستها السورية التي تصبّ في تفتيت سوريا والانتهاء منها. هناك فرصة لا تعوّض اسمها إدارة باراك أوباما التي لم تعترض يوما بشكل جدّي على السياسة الروسية، خصوصا في سوريا. كانت نقطة التحوّل استخدام بشّار الأسد السلاح الكيميائي في سياق حربه على الشعب السوري صيف العام 2013.
بدل أن ينفّذ باراك أوباما وعيده بضرب القوات التابعة للنظام بغية معاقبتها على اللجوء إلى السلاح الكيميائي، قبل الرئيس الأميركي كلّ ما عرضه عليه الرئيس فلاديمير بوتين. قبل كل شيء، نسي أوباما أنّه كان رسم “خطا أحمر” لبشار الأسد وأنّه اعتبر أن على رئيس النظام السوري الرحيل.
ارتضى بضمانات بوتين الذي عرض التخلص من مخزون السلاح الكيميائي في سوريا بدل معاقبة الأسد الابن على اللجوء إلى هذا السلاح لقمع السوريين. أكثر من ذلك، اقتنع بالكلام الجميل الصادر عن بوتين في مقال كتبه في صحيفة “نيويورك تايمز” عن التعاون من أجل إقرار السلام والاستقرار في العالم. صدّق أن الرئيس الروسي الذي لا يؤمن سوى بنظرية محو المدن، على غرار ما فعل في غروزني، يمتلك خريطة طريق واضحة على استعداد للسير فيها إلى النهاية عندما لا يجد في واشنطن من هو على استعداد للوقوف في وجهه.
لماذا يأخذ بوتين باراك أوباما على محمل الجد هذه المرّة ولا يقنعه، عن طريق قصف قافلة الإغاثة بأن لا مجال أمامه سوى الاستسلام لروسيا في سوريا؟ صحيح أن هناك مراكز قوى أميركية، من بينها وزارة الدفاع والمؤسسة العسكرية والأمنية، لا تقبل بأن تكون الولايات المتحدة مجرد غطاء للسياسة الروسية في سوريا، لكنّ الصحيح أيضا أن إدارة أوباما لن تتهاون في كلّ ما من شأنه القبول بأن تكون روسيا صاحبة القرار في سوريا. فهذه الإدارة تضمّ مستشارين نافذين من الحلقة الضيقة المحيطة بالرئيس متعاطفين مع إيران مثل فاليري جاريت أو منحازين للنظام السوري مثل روبرت مالي. هذه الإدارة يهمّها قبل كلّ شيء حماية الاتفاق في شأن الملف النووي مع إيران، كما يصعب عليها إدراك أنّ النظام السوري و“داعش” وجهان لعملة واحدة وأن لا خلاص من “داعش” من دون القضاء على النظام السوري.
عندما يجد فلاديمير بوتين أمامه إدارة من هذا النوع أدارت ظهرها لكلّ ما له علاقة بحقوق الإنسان وحقّ تقرير المصير للشعوب، ليس ما يمنعه من متابعة سياسته السورية. إنّها سياسة قديمة جدا تقوم على ضرب القوى الحيّة في سوريا ومجتمعها الغنيّ بتنوعّه وعلى نشر البؤس والفقر في البلد وتشجيع كلّ نظام قمعي فيه.
لا حاجة إلى العودة بعيدا إلى خلف. يكفي كيف دعم الاتحاد السوفياتي نظام البعث الذي أخذ سوريا ومعها مصر إلى حرب 1967 للتأكد من أن موسكو كانت في كلّ وقت مع سوريا الضعيفة والمهزومة التي تستخدم الإرهاب والابتزاز لتأكيد وجودها في المنطقة.
نجح الإرهاب والابتزاز حتّى مع روسيا نفسها وقبل ذلك مع الاتحاد السوفياتي. ألم يدخل حافظ الأسد عسكريا إلى لبنان بضوء أخضر أميركي واسرائيلي عندما كان رئيس الوزراء الكسي كوسيغين في زيارة لدمشق؟ هل قبل الاتحاد السوفياتي بمثل هذه الخطوة لمجرّد أنّها ذات طابع تخريبي كانت بين أولى نتائجها اغتيال النظام السوري لكمال جنبلاط الزعيم الدرزي اللبناني “حامل وسام لينين”؟
لم تعترض موسكو يوما على الممارسات السورية في لبنان. لم تعترض قبل ذلك على ارتكابات المسلّحين الفلسطينيين في لبنان. لم تقم يوما بأي عمل ذي طابع إيجابي في مجال خدمة الشعب السوري وتخليصه من الظلم اللاحق به منذ تحول النظام في البلد إلى نظام تتحكم به الأجهزة الأمنية في العام 1958 ومنذ انتقاله إلى حكم البعث في 1963 تمهيدا لسيطرة الضباط العلويين على مقدرات البلد في الثالث والعشرين من فبراير 1966.
كان الكرملين مع الظالم ضد المظلوم في سوريا، أكان ذلك في عهد الاتحاد السوفياتي أو في عهد روسيا الاتحادية. لم يتغيّر شيء في موسكو على الرغم من مرور السنين. الجديد الآن أن هناك إدارة أميركية مستعدة للذهاب إلى أبعد حدود في مسايرة الكرملين الذي ينسق مع إسرائيل في شأن كل شاردة وواردة. هل تنبع قوّة فلاديمير بوتين من هذا التنسيق؟ الجواب نعم، بل ألف نعم. ففي الماضي القريب جرّب براك أوباما الدخول في مواجهة مع بنيامين نتانياهو. اكتشف أنّه عاجز عن ذلك. عليه الآن الدخول في مواجهة الحلف الروسي ـ الإسرائيلي في وقت تشارف ولايته الثانية والأخيرة على نهايتها.
من لم يستطع مواجهة نتانياهو لن يتمكن من دون شكّ من مواجهة رئيس الوزراء الإسرائيلي والرئيس الروسي معا. هذا لا يمنع من التساؤل مرّة أخرى لماذا هذا الإصرار الدائم في موسكو على الانحياز إلى كلّ من يريد الشرّ لسوريا وشعبها.
قد يكون الجواب الوحيد على ذلك أن ليس في استطاعة روسيا إلّا التدمير. من يريد مثلا حيّا على ذلك، يستطيع الاستعانة بتجربة الاتحاد السوفياتي في اليمن الجنوبي. ما الذي فعله الاتحاد السوفياتي في هذا البلد الذي استقل في العام 1967؟ هل بقي شيء من مدينة عدن التي كان يمكن أن تكون إحدى أهمّ المدن في شبه الجزيرة العربية قبل أن يقضي عليها الوجود السوفياتي في سبعينات القرن الماضي وثمانيناته تمهيدا للسقوط في مستنقع التطرف الديني في 1994، وهو تطرف لم تخرج منه حتّى الآن.
ماذا تريد موسكو تحقيقه في سوريا؟ هل من عاقل يستطيع أن يبني على نظام بشّار الأسد. يمكن الاستعانة بما بقي من النظام لاستكمال عملية تدمير سوريا لا أكثر. لا يبدو أن هناك هدفا آخر للكرملين في هذا البلد…
لم تكن أزمة «اللاجئين والمهاجرين وتحركاتهم الكبرى» لتتحول عنواناً للقمة الدولية التي عقدت في الأمم المتحدة، لولا امتداد أبشع حروب هذا القرن منذ الحرب العالمية الثانية، إلى أكثر من 5 سنوات، أي الحرب السورية التي شهدت تدفقاً للنازحين هو الأكبر نتيجة الجرائم التي يرتكبها النظام السوري ضد شعبه.
فعلى ظهر النزوح السوري الذي فاض عن قدرة دول الجوار على الاحتمال، ركب النازحون من أفريقيا ودول آسيوية، قوارب الموت أو سلكوا طرق الهجرة غير الشرعية إلى دول أوروبا، مع كل المآسي التي أنتجتها غرقاً وموتاً وإذلالاً. ولم يكن قادة العالم ليخصصوا هذه القمة لللاجئين لولا أن الدول الراعية للإرهاب، لا سيما النظام السوري وإيران، استفادت من «تحركاتهم الكبرى»، من أجل دس المجموعات المتوحشة في صفوفهم، لارتكاب الجرائم الفظيعة في دول الغرب، بهدف وصم الثورة السورية بالإرهاب.
وعلى رغم أن عدد اللاجئين في العالم يفوق عدد الذين غادروا سورية، ويبلغ وفق إحصاءات الأمم المتحدة 65 مليون نازح نتيجة النزاعات الدموية، فإن ما يجري في سورية هو المثل الفاقع عما دعا إليه بعض قادة الدول في نيويورك، وهو الحاجة إلى إيجاد الحلول للحروب، وللفقر، وعدم الاكتفاء بالإغاثة، لمعالجة الأزمة المتمادية.
ففي سورية يشكل تفريغ المناطق بعد تجويع سكانها الذين يبقون على قيد الحياة، إذا نجوا من البراميل المتفجرة وقصف الطيران السوري والروسي، سلاحاً حربياً وأسلوباً متعمداً في الصراع الدائر، أمام أنظار قادة الدول الفاعلة، الذين أطنبوا الآذان في خطبهم في المنظمة الدولية قبل أيام.
وفي سورية يقود استمرار الحرب إلى التمادي في «الضرب تحت الزنار» حتى لو كان تحت مظلة هدنة مزعومة، إلى المزيد من المآسي، مثل قصف قافلة مساعدات إنسانية تابعة للأمم المتحدة تنتظر دخول الأحياء المحاصرة في حلب، رداً على قصف أميركي لمواقع الجيش السوري في دير الزور. ويقال إن هذا الضرب يتم، إما انتقاماً لمقتل جنود أميركيين جراء غارات روسية على بعض المواقع، أو انتقاماً لمقتل جنود روس نتيجة غارات أميركية.
ويشمل «الضرب تحت الزنار» موضوع التهجير وإجبار الناس على النزوح في سورية، ضمن خطة مبرمجة على يد النظام وحلفائه الإيرانيين، لإحداث تغييرات ديموغرافية، بحيث يصبح البحث عن حل سياسي أكثر صعوبة مع تراكم الأحقاد وتعقيدات مخلفات الحرب، إذا وضعت أوزارها، ما يبقي على بذور تجددها. فتحت مظلة التهجير يجري تغيير معالم مناطق بأكملها في سورية.
فمن حي الخالدية وغيره في حمص، إلى القصير إلى رنكوس والزبداني ومضايا... ثم قبل أيام داريا وقريباً المعضمية وحي الوعر في حمص أيضاً حيث جرى إحراق متعمد لدوائر الأملاك العقارية وبعض الأحوال الشخصية... وفي أحياء كبرى في قلب دمشق وفي ريفها مثل مزة البساتين وكفرسوسة ويعفور... تعتمد أساليب شيطانية ومافيوية من أجل تملك الإيرانيين عقارات في عملية بدأت منذ 2012، وحلول عراقيين ولاؤهم للميليشيات المقاتلة إلى جانب النظام، ولبنانيين تابعين لـ «حزب الله»، مكان السكان الأصليين.
هناك يجري اختطاف فرد من عائلة من قبل أزلام النظام ليدخل سجون النظام، فيطلب من أهله مبلغ من المال للإفراج عنه، وإذا قصروا عن تأمينه «يشار» إليهم بأن يبيعوا قطعة الأرض التي يملكونها في محيط العاصمة، فيفعلون. لكن بيع الأرض مشروط بموافقة أجهزة المخابرات، لتتحكم بهوية الشاري. وهناك تشترط الاتفاقات التي ترعاها إيران تارة وروسيا أخرى، من أجل فك حصار قوات «الدفاع الوطني» الموالية و «حزب الله»، عن أحياء أعياها القصف والتجويع والتخلي، أن يستسلم المقاتلون ويرموا السلاح ليحصلوا على الأمان مع عائلاتهم مع وعد بـ «تنظيف سجلاتهم»، أو أن ينتقلوا إلى إدلب، إذا رفضوا ذلك. وطالما أن معظمهم يلجأ إلى الخيار الثاني، يصنفون بأنهم «إرهابيون». وينص «قانون» الإرهاب الذي أصدره النظام، على حق الأخير بمصادرة أملاك «الإرهابيين»، لتبيعها الدولة لمن تشاء. وبعضها تملكتها إيران باعتبارها من الأصول التي توازي بعض القروض التي منحت للدولة السورية. وهناك يشب حريق متعمد في أسواق البازورية في آب (أغسطس) من العام الماضي في دمشق القديمة بعدما رفض تجاره الأصليون بيع عقاراتهم لجهة تبغي التوسع في التملك في منطقة قريبة من مقام السيدة رقية. وهناك يطلب من سكان أبنية إخلاؤها بحجة مخالفات البناء كما يحصل في كفرسوسة... تمهيداً لإجبارهم على بيعها.
يدرك بشار الأسد لماذا ستمتد الحرب في بلاده أكثر من غيره، على رغم أنه قال بالأمس انها لن تتوقف ما دامت جزءاً من صراع عالمي.