بسبب الضعف الكبير الذي لحق بالقوات السورية، وأثره على سلطة النظام، تنادت عدد من القوى الإقليمية والدولية تحذر من عقد سلام في سوريا تستفيد منه القوى الداعمة، وخاصة إيران. هذا ما عبرت عنه إسرائيل، التي اعتبرت أي مشروع لإنهاء الحرب يجب ألا يسمح لإيران أن تبقى في سوريا كقوة عسكرية، وإلا اعتبرته تهديداً لأمنها. وهذه الرسالة تحدث عنها رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو وأنه سيبلغها إلى الرئيس الروسي باعتبار فلاديمير بوتين هو عراب الحل السوري. يقول نتنياهو «إننا لا نعترض على ترتيبات الحل في سوريا لكننا نعترض بشدة على إمكانية وجود عسكري لإيران ووكلائها في سوريا».
والحقيقة يمثل الوجود العسكري الإيراني ووكلاؤه تهديداً خطيراً للدول الأخرى أيضاً. فالسماح لإيران، وميليشياتها من لبنانية وعراقية وغيرهما، بالبقاء في سوريا سيهدد التوازن الإقليمي، ويؤثر على أمن تركيا والعراق والأردن وكذلك الخليج. ولا يستبعد أن تقتنع إيران أخيراً بالتوصل إلى تفاهمات مع إسرائيل تنهي طبيعة دور وكلائها الذين يهددون إسرائيل مثل «حزب الله» في لبنان وحماس في غزة، لكن الخطر على البقية يظل ماثلاً لسنوات.
ووفق تصريحات مسؤوليها، من المستبعد أن تكتفي إسرائيل بأي تطمينات من جانب إيران، أو من يعبر عنها مثل الحكومة السورية، إذا جاءت مقرونة بإبقاء آلاف المقاتلين والخبراء لفترة زمنية طويلة ومن دون حل إقليمي تشارك فيه إيران وإسرائيل.
أما لماذا بدأت إسرائيل تطرح رأيها حيال مفاوضات جنيف، وهي التي سكتت طوال سنوات الحرب الست الماضية، فربما لأن معالم الحل السياسي باتت أكثر وضوحاً. وإسرائيل منذ البداية ضد أي تغيير في دمشق لأنها تعايشت مع النظام على مدى نصف قرن تقريباً، ورغم الخلاف والقطيعة، تعتبر إسرائيل جارتها سوريا أكثر أمناً وانضباطاً حتى من مصر والأردن اللذين ارتبطت معهما باتفاقيات سلام.
لكن ضعف قدرات النظام السوري العسكرية التي يريد الإيرانيون تعويضها بقوات وميليشيات من عندهم مسألة تغير المعادلة الأمنية والسياسية في المنطقة لا سوريا وحدها.
هل يمكن وقف القتال وتثبيت السلام بقوات النظام السوري مع ما يتلقاه حالياً من دعم روسي متزايد، ليس فقط في القوات القتالية بل أيضاً تمد موسكو يد العون لحليفها السوري بقوات شرطة تقوم بتنظيم السير في شوارع بعض المدن السورية؟ الأرجح أن دول المنطقة، تحديداً إسرائيل والأردن والخليج، لن تعارض تولي الروس مهمة سد الفراغ الأمني والعسكري بقواتها وقوات دولية أخرى عند الحاجة، طالما أنها لا تشمل الحرس الثوري الإيراني ولا ميليشياتها الأجنبية الأخرى. لكن هل لدى روسيا الاستعداد للقيام بهذه المهمة الضخمة، وهل ستقبل الحكومة السورية التخلي عن حليفها الإيراني؟ وهل سيرضى الإيرانيون الخروج من مولد سوريا بلا حُمُص، كما يقول المثل؟ علينا ألا ننسى أن إيران من خلال سوريا جعلت حياة الأميركيين في العراق جحيماً باستخدامها التنظيمات الإرهابية، وتفعل الشيء نفسه ضد السعوديين في اليمن، وحتى إسرائيل من خلال «حزب الله».
في نظري أن نجاح معادلة الاتفاق المحتمل في سوريا تقوم على تفسير الدور الإيراني وميليشياته والإدارة الأميركية الجديدة تتفق مع معظم دول المنطقة على ضرورة تحجيم انتشار إيران في تراب وبحار المنطقة وليس السماح لها بأن تتمدد في حزام طويل يشكل العراق وسوريا ولبنان. هذه المسألة ترتبط بشكل كبير جداً باتفاق سوريا لإنهاء الحرب هناك.
عندما انطلق الحديث عن مشروع المنطقة الآمنة شمال سوريا، قبل نحو عامين، كان الهدف الذي يتمركز حوله حينها واضحا، وهو إقامة منطقة حظر طيران على نظام الأسد، في بقعة جغرافية شمال حلب، بهدف واضح محدد، وهو حماية أرواح السكان المدنيين في تلك القرى، وفسح المجال لاستقبال مئات الآلاف من النازحين الهاربين من قصف النظام السوري، مع أهداف تركية اخرى تتلخص في محاربة التمدد الكردي جنوب حدودها.
ومنذ ذلك اليوم، ظلت عبارة المناطق الآمنة تتكرر، ولكن بمعنى مختلف، فلقد اخذت تنحرف شيئا فشيئا عن هدفها المبدئي، بل وصلت لمعنى مناقض تماما للهدف من إقامتها، فمن منطقة آمنة من نظام الاسد إلى منطقة آمنة من تنظيم «الدولة»، ومن منطقة خارجة عن سيطرة النظام جويا، إلى مناطق خاضعة جزئيا لسيطرة النظام وقواته الحليفة الكردية، ومن منطقة آمنة من القصف إلى منطقة مدمرة القرى، ومن منطقة لحماية المدنيين الى منطقة طاردة للسكان، ليس فقط أنها لم تستقبل نازحين، بل أدت العمليات العسكرية فيها (التي لم تستهدف النظام) إلى تهجير عشرات الآلاف من سكان القرى ومقتل المئات من المدنيين، في سبيل توفير الأمن لهم.
منذ بدء العمل العسكري لهذه الخطة قبل نحو عام، كان من الواضح والمعلن ان هدفها لم يعد يتعلق بالحرب على النظام، الحرب التي انطلق لأجلها الثوار، بل كان الهدف هو الحرب على الإرهاب التي تقودها الولايات المتحدة وروسيا بمشاركة النظام السوري، الطرف الابرز المستفيد من إخراج الجهاديين من مناطق سيطرتهم، وإبدالهم بقوى مسلحة خاضعة للتفاهم مع النظام، من خلال الوسيط الروسي التركي، ولم تشرع تركيا بدعم فصائل المعارضة لاستعادة تلك المناطق إلا بعد موافقة صريحة ومعلنة من الولايات المتحدة وروسيا، وفي سبيل محاربة الكيان الكردي المتمدد جنوبا، سواء في مرحلة الدخول لجرابلس أو ما قبلها، الأمر الذي أدى ليس فقط إلى حرف هدف قوات المعارضة عن قتال النظام، بل إلى خلخلة كل جبهات المعارضة مع النظام بسحب أعداد كبيرة من عناصرها وتحويل اهتمامها واولوياتها بعيدا عن قتال قوات الاسد، دون ان يتحقق هدف تركيا بضرب إقليم روجافا الكردي، بل إنه تمدد أكثر واتصل بنهاية الأمر، ولم يجد النظام وحلفاؤه افضل من ظروف كهذه لاستعادة أبرز العقد الاستراتيجية المحيطة بشمال حلب، بدءا من فك الحصار عن قريتي نبل والزهراء الشيعيتين، ثم إكمال الإطباق على مدينة حلب شمالا بالسيطرة على طريق الكاستيلو، وصولا إلى عزل مدينة حلب عن الريف الشمالي، من خلال القوات الكردية، فبينما كانت الفصائل المعارضة المدعومة تركيا شمال حلب تقاتل لاستعادة قرى شرق بلدة اعزاز الحدودية من تنظيم الدولة، قبل مرحلة الدخول إلى جرابلس بأشهر، كانت قوات الانفصاليين الأكراد تحتل مزيدا من مدن المعارضة شمال حلب كمنغ وتل رفعت، دون أي مقاومة من الفصائل المشغولة بالحرب على الإرهاب، وحدث أن فصائل الثوار شمال حلب المدعومة تركيا خسرت كل تلك المواقع لصالح النظام ولصالح الأكراد، ولم تكن تحقق أي تقدم ملموس ضد تنظيم «الدولة»، وسيطر الأكراد على الطريق والبلدات الرئيسية بين حلب وتركيا، ليضموا مساحات جديدة، كل هذا في خطة كان من بين أهدافها إبعاد الأكراد عن جنوب تركيا. وبعد مرحلة جرابلس والتدخل المباشر التركي، احتاجت تلك القوات لاكثر من نصف عام للسيطرة على تلك المساحة المليئة بالقرى الصغيرة التي يمكن عبورها بالسيارة بأقل من نصف ساعة، ولا يوجد بها أي مدينة سوى بلدة الباب، ليقوم النظام بتحركه جنوبا ليصل مناطق الأكراد ببعضها، بل وينتقل غرب منبج ليسيطر على مناطق جديدة ويرفع علمه فوقها.
وهكذا كانت حصيلة هذه العملية المسماة بالمنطقة الآمنة، خسارة تركيا لمزيد من الاراضي جنوب حدودها لصالح تمدد جيب عفرين الكردي نحو تل رفعت ومنغ وقرى غرب اعزاز، وتمدد جيب منبج الكردي ومنع المساس به بعد عبور القوى الكردية لنهر الفرات، التي وصفها النظام يومها بالقوات الرديفة، وبالنهاية سيطرة النظام على المزيد من الأراضي غرب منبج باتجاه تلك المنطقة الآمنة من كل شيء إلا من حلفاء الأسد.
أما عن الاهداف الخاصة بحماية المدنيين، فقد تشرد عشرات الآلاف نحو مخيمات جديدة، وتدمر المزيد من القرى في ريف حلب، وقتل في الباب وحدها، وخلال ثلاثة اشهر من المعارك، سبعمئة مدني، ورفع النظام السوري علمه فوق منبج وتل رفعت، ليرحب وزير الخارجية التركي بذلك قائلا، إنه لا يمانع بسيطرة جيش النظام على منبج، إحدى اهم مدن المنطقة الآمنة التي كانت يوما هدفا لحظر جوي من طيران الاسد. ولن يكون غريبا أن نرى قوات درع الفرات تنسحب من جرابلس والباب والقرى الصغيرة بينهما وتسلمها للنظام، ليكتمل حينها مشروع المنطقة الآمنة تماما .
في وقتٍ ما تزال العمليات العسكرية مستمرة على أكثر من جبهة في سورية ضد المدن والقرى والأحياء التي تسيطر عليها المعارضة، ويسقط كل يوم عشرات الضحايا من المدنيين، في خرقٍ فاضح لاتفاقيات الهدنة العديدة التي وقعت برعاية روسية، تم جرّ المعارضة السورية العسكرية والسياسية، تحت ضغوطٍ دبلوماسية مكثفة دولية، إلى مفاوضاتٍ سياسيةٍ تفتقر لأدنى شروط النجاح. وكان من الطبيعي، في غياب أي التزاماتٍ بالتعهدات السابقة، وأي ضماناتٍ دولية واضحة، والتخبط في المرجعية القانونية والسياسية، والإملاءات الروسية، أن تتحوّل المفاوضات في أستانا وجنيف 4 إلى مناوراتٍ غرضها الرئيسي إضعاف موقف المعارضة وتثبيت مواقف النظام وحلفائه. ولذلك، بدل أن تعيد الأمل للسوريين بإمكانية التوصل إلى حلّ سياسي يلبي الحد الأدنى من تطلعاتهم، زادت هذه الجولة من المفاوضات العقيمة من إحباطهم، وعمّقت الشكوك في إمكانية أن تسفر أي مفاوضاتٍ مقبلةٍ في أستانا أو جنيف عن النتائج التي ينتظرها السوريون لوضع حد للحرب العدوانية والإعداد لسورية جديدة، يسودها السلام والإخاء والعدالة والديمقراطية، عبر عملية انتقال سياسي حقيقية. أبرزت هذه المفاوضات جملةً من الحقائق التي تهدّد بتقويض العملية السياسية برمتها، إن لم تكن قد فعلت بعد، أهمها:
أن الغاية من هذه المفاوضات لم تكن تلبية تطلعات السوريين، وضمان سيادتهم على أرضهم، واستعادة وحدتهم الوطنية، وضمان حقوقهم الأساسية، في الكرامة والحريّة وحكم العدالة والمساواة أمام القانون، وإنما تكريس المكاسب الإقليمية والعسكرية والسياسية التي حققتها أطراف التحالف المضاد للثورة ووكلاؤه الداخليون والخارجيون، ومن وراء ذلك تفاقم الصراع على تقاسم مناطق النفوذ في البلاد.
وأن نظام الأسد وحلفاءه لايزالون يصرّون على التنكر لقرارات الأمم المتحدة ومجلس الأمن، والتهرب من تطبيقها في الوقت الذي يسعون فيه إلى كسب الوقت، والاستمرار في تطبيق الحسم العسكري على الأرض.
ويشير جدول أعمال المفاوضات الذي تجاهل إجراءات الثقة التي لحظتها قرارات مجلس الأمن إلى حجم الاستهتار بحياة السوريين ومأساتهم، سواء ما تعلق منها بوقف القصف العشوائي أو إطلاق سراح المعتقلين أو كسر حصار التجويع أو وقف التهجير القسري وعمليات التطهير الديمغرافي لأهداف استراتيجية في أكثر من موقع ومنطقة.
ومن اللافت للنظر الدور غير النزيه الذي تلعبه الأمم المتحدة، ممثلة بمبعوثها السيد ستيفان دي ميستورا الذي تحول من وسيط إلى مفاوض رديف عن الطرف الروسي وزبائنه في طهران ودمشق، فبدل أن يتمسك بجدول الأعمال الذي صاغه هو نفسه وكان في أساس الدعوة التي وجهت إلى الأطراف، خضع لضغوط، وقبل بنقل موضوع الاٍرهاب من جدول أعمال أستانا إلى جدول المفاوضات السياسية، في وقتٍ لا يكاد يكون هناك أي خلاف، لا سوري ولا دولي، حول معالجة ملف الإرهاب. والهدف من ذلك هو السعي إلى طمس مسألة الانتقال السياسي التي هي جوهر المفاوضات، كما كان قد أعلن هو نفسه عن ذلك من قبل، وتحويلها إلى مسألة من مسائل متعدّدة، وذلك لتحرير النظام والمحتمع الدولي من المسؤولية، ورمي الفشل المحتوم لها على جميع الأطراف بالتساوي. ويصب في السياق ذاته، وللهدف نفسه، وضع جميع نقاط جدول الأعمال على سويةٍ واحدةٍ من الأهمية، وإلغاء التسلسل الزمني لمناقشتها، وطرحها بالتوازي. وأخيرا، فرض منصتي موسكو والقاهرة على المعارضة كأطراف مستقلة من أجل تعزيز الضغوط على وفد الهيئة العليا، وإجبارها على تقديم مزيد من التنازلات، لصالح إعادة تأهيل النظام وحرمان السوريين من انتقال سياسي حقيقي.
لم يأت ضعف إنجازات جنيف 4 عن ضعف المعارضة أو التلاعب بأطرافها والضغط على الهيئة العليا لقبول ممثلين أقرب لموسكو وغيرها منهم لمطالب الشعب فحسب، وإنما لعوامل كثيرة، من أهمها تخبط الإدارة الأميركية الجديدة وعجزها، حتى الآن، عن بلورة رؤية واضحة في تناول ملف الشرق الأوسط عموما، والملف السوري خصوصا، وهو ما يترك جميع الأطراف الأخرى في حالة ترقبٍ وانتظار. ومنها استمرار رهان طهران والأسد على حرب استنزاف الفصائل المقاتلة المعارضة، بعد أن فقدت المبادرة في أكثر من موقع، وفي ما وراء ذلك التنافس بين روسيا وإيران على أسلوب إدارة الصراع وأجندته.
تقع مسؤولية كبيرة أيضا على أطراف المعارضة المختلفة، وبشكل خاص على ممثلي منصتي موسكو والقاهرة، في تجاوز الضغوط المختلفة التي تُمارس عليهما من داعميهما، والتوصل إلى صيغةٍ للعمل مع الهيئة العليا للمفاوضات فريقاً واحداً.
ففي غياب أي إمكانية للحسم العسكري، أو حتى السياسي، لصالح أي من الأطراف المتنازعة، السورية والدولية معا، واعتراف الجميع بضرورة العمل على تسويةٍ تضع حدا لسفك الدماء وتخرج البلاد من الكارثة، لم يعد هناك سوى خيارين متاحين. الأول هو تسويةٌ تقوم على فرضية إمكانية إضعاف المعارضة، حتى من خلال المفاوضات، إلى درجةٍ تجبرها على القبول بالالتحاق بالنظام، ما يعني بقاء النظام الديكتاتوري القائم وإعادة دمج المعارضة أو جزء منها به، مع بعض التجميل لواجهته الدستورية والسياسية هنا وهناك. والثاني إعادة دمج العناصر الخارجة من نظام العنف والطغيان الراهن في نظام ديمقراطي تعدّدي جديد، يتيح لسورية والسوريين بدء مرحلة جديدة، في قطيعةٍ كاملةٍ مع ممارسات السلطة القديمة وعقيدتها وأخلاقياتها الدموية. وليس للضغط على منصتي القاهرة وموسكو للبقاء خارج إطار الوفد الموحد للمعارضة، تحت مظلة الهيئة العليا في نظري سوى هدف واحد، هو تعظيم فرص الخيار الأول على حساب الخيار الثاني. ولا أعتقد أن أي معارض، مهما كانت درجة اعتداله ومرونته، سيكون سعيدا بمثل هذا الخيار، اللهم إلا إذا كان هو نفسه اختراقا داخل المعارضة في الأصل، بهدف تقويض أي فرصة لتغيير نظام الفساد والاستبداد.
ويشكل عدم التزام نظام الأسد وحلفائه الإقليميين والدوليين بقرارات الأمم المتحدة وباتفاقيات وقف إطلاق النار واستمرارهم في ارتكاب انتهاكاتٍ خطيرة بحق المدنيين، سواء من خلال متابعة القصف بالبراميل المتفجرة وضرب الحصار على المدن والأحياء من أجل تجويعها ورفض إطلاق سراح المعتقلين، يشكل تحديا مباشرا للأمين العام للأمم المتحدة، أنطونيو غوتيريس، الذي يجد نفسه في بداية ولايته في حالة عجز كامل عن إطلاق أي مفاوضات جدية، وهو مضطر إذا لم يرد أن يفقد صدقيته منذ بداية ولايته أن يتدخل لحماية المفاوضات، وضمان استقلالها عن الأطراف المتنازعة وحيادية. وقد تحول المبعوث الأممي إلى مفاوض إضافي، أو وكيل للمفاوض الروسي ومنفذ أجندته السياسية، بل إنني أعتقد أن الوقت قد حان لكي يضع الأمين العام للأمم المتحدة حدا لهذه المهزلة التفاوضية المستمرة منذ ست سنوات من دون نتيجة ولا فائدة، ويطلق مبادرةً جديدةً تضع جميع الأطراف أمام مسؤولياتها. هذا واجبه، وتلك هي مسؤوليته، ولديه الشرعية كاملة أمام تقاعس الدول، ورفضها التفاهم، واستمرارها بحثا عن مصالح لا مشروعة ولا قانونية، في تدمير شعبٍ بأكمله، والقبول بأبشع جرائم القتل الجماعي والتهجير القسري والإبادة الجماعية.
يستشيط الإيرانيون غضباً مما تتجه إليه التطورات المتسارعة في سوريا، تكاد كزكزة أسنانهم ان تطغى على دوي قذائف حليفهم بشار الأسد، الذي فاجأهم بأنه يلحس تواقيعه والتزاماته معهم كما مع غيرهم، والسؤال الذي يبرز الآن: هل بدأت إيران تواجه أياماً واستحقاقات عصيبة في سوريا لم تكن تتوقعها؟
قبل أن يحط بنيامين نتنياهو أمس في موسكو ويعقد القمة السادسة مع فلاديمير بوتين في خلال عشرين شهراً، والتي ركزت على خطط اسرائيل المتفق عليها مع روسيا، لمواجهة التهديد الإيراني الذي يحاول بناء "جبهة شمالية" تمتد من الناقورة الى الجولان، كانت سفيرة أميركا في الأمم المتحدة نيكي هالي تتحدث بما يوحي بإتجاه الى حل لا يريح طهران إطلاقاً:
"ان الأمر يتعلّق على الأرجح بحلٍ سياسي الآن، وهذا يعني في الأساس ان سوريا يمكن ألا تظل ملاذاً آمناً للإرهابيين... ومن المهم ان نعمل على إخراج ايران ووكلائها من سوريا، ويجب ان نتأكد من أننا كلما أحرزنا تقدماً نؤمن الحدود لحلفائنا ايضاً".
أي حدود وأي حلفاء؟
لا داعي الى التبصير، انها المسافة الممتدة من الجولان الى الناقورة، والتي كانت أمس ملفاتها والاتفاقات السابقة في شأنها، مداراً للبحث بين بوتين ونتنياهو. وفي السياق أفادت المعلومات الواردة من موسكو انه تمت دراسة "فرض رقابة على نشاط القوات التي تديرها ايران في سوريا"، لكن موسكو نفتها لاحقاً، وكانت صحيفة "أيزفستيا"، نشرت تقريراً فيه أن نتنياهو يسعى الى تعزيز الآليات المشتركة للرقابة والرصد في المناطق القريبة من الحدود الشمالية، والى بروتوكول جديد يوفّر لإسرائيل الحصول من روسيا على المعلومات الكاملة عن كل التحركات على تلك الحدود "ويطالب بفرض رقابة دقيقة على نشاط القوات الشيعية الحليفة للأسد"!
وليس خافياً ان الاتفاقات السابقة بعد التدخل الروسي في أيلول من عام ٢٠١٥، تضمنت عدم الاعتراض على النشاط الجوي الإسرائيلي فوق الأراضي السورية والموافقة على العمليات البرية لضمان أمن اسرائيل.
من خلال كل هذا يمكن فهم ما اعلنته "حركة النجباء العراقية" وهي الميليشيا التي يديرها "الحرس الثوري" في سوريا عن تشكيل "فيلق لتحرير الجولان السوري المحتلّ... ولن نخرج من سوريا حتى خروج آخر إرهابي".
لكن المفاجأة المتصاعدة وغير المتوقعة عند الإيرانيين، انهم اكتشفوا ان الأسد يتعمّد المماطلة وتأجيل تنفيذ خمسة اتفاقات إستراتيجية كان قد وقعها معهم، وذلك بسبب تلقيه تحفظات روسية صارمة واعتراضات من قوى عسكرية داخل النظام، واذا كانت طهران قد ردت على هذا حتى الآن بوقف تزويد سوريا المشتقات النفطية وتأخير إرسال سفير جديد الى دمشق، فمن الواضح الأسد يلعب على حبال الجميع وان الحسابات السورية لإيران ستواجه أياماً صعبة!
لا يبدو الرئيس الأميركي دونالد ترمب متجهاً لتكرار أخطاء سلفه باراك أوباما. تصرف الأخير على قاعدة أن الحركات المتطرفة السنية هي الداء. بين العلاجات التي اقترحها، كان التحالف الساذج مع الحركات الشيعية، ولا سميا في العراق. وكان أصل هذا التوجه يكمن في التبريد مع إيران بغية تمرير المفاوضات النووية، وهو ما استفادت منه طهران لتحقيق أهداف تتجاوز أجندة إدارة أوباما، كتعزيز اختراقاتها في الدول العربية. في ذروة الغزل الأميركي الإيراني ذكرت طهران أنها تهيمن على أربع عواصم عربية. المفارقة أن أوباما، في الجزء الأخطر من سياسته الخارجية هذا، بنى على إرث تركه له المحافظون الجدد الذين كانوا أول من نظَّر للتحالف مع الشيعة ضد السنة ما بعد جريمة 11 سبتمبر (أيلول) 2001. أضاف أوباما إلى نظريات المحافظين الجدد الرهان على الإخوان المسلمين في مواجهة الأنظمة. في خطابه الشهير في القاهرة عام 2009، وطوال 55 دقيقة، كرر أمام جمهور حضره ممثلون عن تنظيم الإخوان المسلمين بدعوة مباشرة من واشنطن، عبارات التراث الإسلامي، والعالم الإسلامي، والدول الإسلامية، والجذور الإسلامية، والأمة الإسلامية، وغيرها من العبارات التي أطّرت رؤيته للمنطقة باعتبارها مكوناً إسلامياً لا بد من التعاطي معه بصفته الإسلامية… وحين اندلعت موجات الربيع العربي وصف المرشد الإيراني علي خامنئي الأحداث بأنها بداية ربيع إسلامي، في تقاطع مريب بين رؤيتي إيران والولايات المتحدة…
البقية تاريخ معروف!
هذا زمن انتهى مع ترمب. يبدو الرجل مدركاً، أو هكذا يرجى، أن إرهاب التنظيمات السنية لا يكافح بإرهاب الجماعات الشيعية. فلا ينفي الإرهاب إرهاباً، بل يغذيه ويتغذى منه.
بالتوازي، تصعّد واشنطن الفعل والقول تجاه الاثنين. الدخول الأميركي الميداني إلى منبج السورية وتهيئة الأرضية لتحرير الرقة من «داعش»، عاصمة خلافة أبو بكر البغدادي المزعومة، والقضم المستمر لركن «الخلافة» الثاني في الموصل، يتزامن مع تصعيد في اللهجة ضد إيران وميليشياتها.
إيران ليست حليفة الإدارة الأميركية في معركة القضاء على «داعش»؛ فهي- بحسب توصيف جيمس ماتيس، وزير الدفاع الأميركي: «أكبر دولة راعية للإرهاب على مستوى العالم»، وهي بحسب مستشار الأمن القومي الأميركي السابق، مايكل فلين: «تهدد الاستقرار في المنطقة». وقبل أيام قالت المندوبة الأميركية لدى الأمم المتحدة، نكي هايلي: «علينا إخراج إيران وحلفائها من سوريا»، مؤكدة ضرورة «ألا تبقى سوريا ملاذاً للإرهابيين»، وهو موقف تدعمه المجموعة الخليجية بقيادة السعودية، بالإضافة إلى تركيا، في حين باتت موسكو تعلن بهدوء التقاءها مع هذا الهدف. ففي مقابلة مهمة مع جريدة «الحياة» قال نائب وزير الخارجية الروسي مبعوث الرئيس إلى منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، ميخائيل بوغدانوف، إن ثمة نقاشات جارية مع إيران حول مستقبل وجودها ووجود ميليشياتها في سوريا، وإن كان ربط تقرير مصير هذا الوجود بالحل السياسي، وانبثاق سلطة تطلب من الإيرانيين المغادرة بمثل ما طلبت منهم التدخل!
يمكن إدراج هذا الموقف الروسي في سياق المراوغة الصرفة لولا أنه، على الأرض، يتقاطع مع جهود سياسية وعسكرية معقدة وصعبة لخلق واقع جديد في سوريا يعيق استمرار وجود الميليشيات الإيرانية وغيرها.
ففي أنطاليا، جنوب تركيا، التقى قبل أيام رؤساء أركان الجيش التركي خلوصي آكار، والأميركي جوزيف دانفورد، والروسي فاليري غيراسيموف للمرة الأولى؛ للبحث في مستقبل الحرب على «داعش». الجهود منصبّة على توحيد يافطة الفصائل المقاتلة ضد «داعش» و«النصرة» بغية ترتيب الميدان؛ تمهيداً للحل السياسي، الذي ليس له من معبر سوى الانتقال السياسي.
بموازاة هذه المسارات البطيئة أخذت إيران علماً بمساعٍ إسرائيلية أميركية جدية للجم الوجود الإيراني في سوريا، وتحجيم توسعها التخريبي في المنطقة عبر ميليشيات وأعمال إرهابية. والمعلن، أن هذه الجهود مادة أساسية في الحوار مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، الذي نقل إلى مسؤولين إيرانيين وعرب جدية أميركا في تهديداتها لإيران. في هذا السياق، يُدرج الاستنفار الإيراني ورسائل التصعيد التي بعث بها الأمين العام لـ«حزب الله» حسن نصر الله من بيروت، مدركاً أن ميليشيا «حزب الله» هي أكثر الأهداف ترجيحاً، أكان في سوريا أم في لبنان.
فتوجيه ضربة إلى إيران في العراق ليس مسألة بسيطة، وقد تكون مكلفة جداً لواشنطن. بل ثمة إدراك وتسليم بدور ونفوذ سياسي لإيران في العراق. واليمن لا يشكل في الواقع هدفاً مؤلماً لإيران، ولا سميا أن واشنطن بعثت بما يكفي من رسائل في هذه الدولة للجم طهران، كان آخرها نشر المدمرة «كول» التابعة للبحرية الأميركية قرب مضيق باب المندب قبالة جنوب غربي اليمن لحماية الممر المائي بعدما هاجم الحوثيون فرقاطة سعودية قبالة الساحل الغربي لليمن.
تبقى سوريا ولبنان، وهما الاحتمالان الأكثر رجحاناً لتوجيه ضربات فيهما مؤلمة إلى إيران، ويدفع ثمنها «حزب الله». تتراوح الأمور بين توغل عسكري إسرائيلي عند سفح الجولان السوري، وإقامة حزام أمني ينهي محاولات «حزب الله» لتأسيس وجود له على حدود إسرائيل السورية، وبين شن عملية كبيرة في لبنان ستجعل من حرب تموز 2006، بالنسبة لإسرائيل و«حزب الله» مجرد مناورة.
ما أن اندلعت الثورة السورية قبل ست سنوات حتى راحت وسائل إعلام ما يسمى بمحور الممانعة والمقاومة وعلى رأسها طبعاً إعلام النظام السوري، راحت تتهم إسرائيل بأنها وراء الثورة السورية، وبأن كل من رفع صوته ضد النظام هو عميل للصهيونية. تهمة يكررها النظام منذ عشرات السنين في وجه كل من يوجه انتقاداً ولو حتى لأسعار الفجل والخس والبطاطا في سوريا الأسد. أسهل تهمة في سوريا تجعلك تختفي وراء الشمس هي تهمة العمالة لإسرائيل. وقد استغل النظام هذه الكذبة استغلالاً بارعاً على مدى عقود، بحيث لم يعد السوريون قادرين حتى على انتقاد رئيس البلدية في القرية لتقصيره في تزويد القرية بالمياه خشية أن يتهمهم النظام بالعمالة للصهيونية والامبريالية. وبالتالي، لم يجد النظام أفضل من الشماعة الإسرائيلية لتشويه الثورة ووصمها بالخيانة والعمالة لإسرائيل.
لا شك أن إسرائيل عدوة لسوريا ومن صالحها أن يكون أعداؤها في أسوأ حال على مبدأ نابليون الشهير: إذا رأيت عدوك يدمر نفسه، فلا تقاطعه. ولو كان النظام نفسه مكان إسرائيل لربما تعامل مع الأزمة في أي بلد مجاور معاد له بنفس الطريقة النابليونية الاستغلالية.
لكن السؤال الأهم الذي يسأله كثيرون الآن بعد كل ما حصل في سوريا: هل كان من مصلحة إسرائيل التآمر على نظام الأسد وإيصاله إلى هذا الوضع الكارثي؟ ما هو السبب الجوهري الذي يجعل إسرائيل تريد أن تنتقم من النظام السوري الذي يحمي حدودها منذ خمسين عاماً كما يحمي عينيه برموشه؟ هل إذا كان لديك كلب مخلص يحمي بيتك ستقوم بالقضاء عليه؟ مستحيل، فمن عادة الناس أن تعامل كلاب الحراسة معاملة طيبة جداً مكافأة لها على خدماتها الجليلة في توفير الأمن والسلام لها.
لو كان الجيش السوري على وشك الهجوم على إسرائيل وتحرير فلسطين أو على الأقل تحرير الجولان السوري المحتل، لربما صدقنا كذبة التآمر الإسرائيلي على نظام الأسد، لكن الإسرائيليين في الجولان تفرغوا على مدى عشرات السنين لكتابة الشعر والاستماع إلى الموسيقى لأن الجولان تحول إلى أجمل وأهدأ منطقة للاستجمام في إسرائيل بعد أن منع النظام حتى العصافير أن تخترق الحدود الإسرائيلية. إن من يسمع الإعلام السوري وهو يتهم إسرائيل بالوقوف وراء الثورة السورية على النظام يأخذ الانطباع فوراً بأن الجيش السوري كان على أبواب القدس عندما ندلعت الثورة، فقامت إسرائيل بتحريض السوريين على رئيسهم كي تبعد خطر الجيش الأسدي عن المسجد الأقصى.
أرجوكم أن يجيبوني على هذه الأسئلة التالية لربما أنا مخدوع أو غابت عني حقائق خطيرة. هل كانت سوريا منذ أن حكمها النظام الحالي تشكل خطراً على إسرائيل كي تخشى منها إسرائيل وأمريكا وتتآمرا عليها لتدميرها؟ كل شيء في سوريا كان لمصلحة إسرائيل قبل الثورة. شعب مقموع ذليل لا يمكن أن يرمي حجراً على إسرائيل. وكلنا شاهدنا ماذا حصل للجنود والضباط السوريين الذين صدقوا كذبة المقاومة فحاولوا مهاجمة الحدود الإسرائيلية، فكانت النتيجة أن النظام أخفاهم وراء الشمس عقاباً لهم على مجرد تعكير صفو إسرائيل. ولا ننسى أن الطيران الإسرائيلي يطير أسبوعياً فوق قصر الرئيس دون أن يتجرأ أحد على إطلاق رشة ماء على الإسرائيليين.
هل من مصلحة إسرائيل التآمر على بلد محكوم بالحديد والنار والبسطار العسكري والمخابراتي منذ عام 1970 كما تريد إسرائيل تماماً؟ ما مصلحتها في تحريك الشعب السوري الخائف المقموع المستكين الذي لا يستطيع أن يفتح فمه إلا عند طبيب الأسنان؟ هل كانت تخاف من النهضة الاقتصادية والصناعية والتكنولوجية السورية التي تنافس النهضة اليابانية كي تعرقلها وتقضي عليها؟ ألم يعمل النظام على تعطيل أي نهضة صناعية أو تكنولوجية أو حتى زراعية في سوريا تنفيذاً للمطالب الإسرائيلية؟ لو نظرت فقط إلى الشروط التعجيزية المطلوبة لفتح مدجنة دجاج في سوريا لعرفت فوراً أن مهمة النظام الأولى هي حماية إسرائيل من أي نهضة علمية يمكن أن تهدد إسرائيل لاحقاً. لقد تحولت سوريا في عهد القائد الخالد إلى أفسد دولة في العالم من أجل أن تبقى إسرائيل النموذج الأفضل في المنطقة؟
لقد هجرت معظم العقول السورية النابغة إلى الخارج لأن النظام كان يمنعها من تحقيق أحلامها وطموحاتها في البلد خدمة لإسرائيل.
هل كان لدى سوريا قبل الثورة اقتصاد عظيم يهدد الاقتصاد الإسرائيلي؟ أم كان اقتصاداً ذليلاً لا يمكن أن ينافس حتى بوركينا فاسو فما بالك أن ينافس اسرائيل هل يمكن أن تخشى إسرائيل من نظام سياسي قذر ومتسلط وطغياني وفاشي يجعل أحقر دول العالم تبدو ديمقراطية بالمقارنة معه؟ ألم يكن النظام السوري مثالياً بالنسبة لإسرائيل كي تبقى إسرائيل في نظر العالم الديمقراطية الأجمل في المنطقة؟
هل تآمرت إسرائيل على نظام الأسد فعلاً، أم انها سبب بقائه حتى الآن لأنها لم تجداً كلب حراسة أفضل منه؟
شكّل كلام السفيرة الأميركية لدى الأمم المتحدة، نيكي هايلي، حول الأولويات الأميركية في سورية، تلاقياً وتناقضاً مع الأولويات الروسية كما حددها نائب وزير الخارجية الروسي مبعوث الرئيس الى الشرق الأوسط وشمال أفريقيا ميخائيل بوغدانوف في حديثه الى «الحياة». كلاهما اتفق على هدف إخلاء سورية من الإرهابيين كي لا تكون ملاذاً آمناً لهم بعد الآن. إنما هايلي بادرت الى تأكيد ضرورة أن «نُخرج إيران ووكلاءها» من سورية، فيما أكد بوغدانوف أن هذا قرار سيادي يُتخَذ لاحقاً طبقاً لما ترتأيه الحكومة السورية حينذاك، وهذا ينسحب على «حزب الله». هايلي تحدثت عن ضرورة أن «نقوم بتأمين حدود حلفائنا بحيث تكون لديهم الثقة بحدود آمنة»، قاصدة بذلك إسرائيل بالدرجة الأولى الى جانب العراق وتركيا. بوغدانوف ربط الضمانات لإسرائيل بمسألة احتلالها الجولان وبموضوع مزارع شبعا في لبنان، داعياً «ممثلي حكومات الأطراف للجلوس وراء طاولة مستديرة لتطبيق مبادرة السلام العربية». في هذه الأثناء، كان لافتاً عقد اجتماع ثلاثي أميركي - روسي - تركي في انطاليا ضم رئيس أركان الجيش التركي، خلوص أكار، وقائدي الجيشين الروسي، فاليري غيراسيموف، والأميركي جوزيف دانفورد، مطلع الأسبوع لبحث الملفات الإقليمية وفي طليعتها الملفان السوري والعراقي. فيما برزت تطورات ميدانية ذات أبعاد كردية داخل سورية لدى تركيا، وكذلك عبر تواجد عسكري أميركي في غرب منبج. إضافة الى ذلك، بدأت إدارة دونالد ترامب في صياغة استراتيجيتها في معركة الرقة المرتقبة والتي تريدها حاسمة في مسيرة القضاء على تنظيم «داعش» كأولوية قاطعة. كل هذا وسط تضارب الكلام عن تقسيم في سورية والعراق واليمن وليبيا وحول إعادة توحيد هذه البلاد الممزقة. وتبرز إيران والأكراد في الحديث عن التقسيم، لأسباب مختلفة كلياً. والمؤشرات الآتية من الإدارة الأميركية الجديدة تفيد بالعزم على قطع الطريق أمام أية خطط تقسيمية تلبي المشروع الإيراني في سورية والعراق، فيما المؤشرات الآتية من الحكومة الروسية تفيد بأن التعايش مع التقسيم وارد إذا فشلت التسويات السياسية التي تأخذ في الاعتبار الناحية الإيرانية.
المشهد معقد في العلاقات الأميركية - الروسية - التركية - الإيرانية بالذات في سورية والعراق والذي تغيب عنه الدول العربية الخليجية بقرار الانتظار. المسألة الكردية حاضرة جداً في هذا المشهد المعقد. فهي من جهة حيوية في الاعتبارات الأميركية والروسية على السواء، وهي من جهة أخرى وجودية في موازين العلاقات مع تركيا وكذلك مع إيران.
إدارة ترامب، كسابقتها إدارة أوباما، تقدّر العزيمة لدى الأكراد كمقاتلين جديين أثبتوا أنهم في الصف الأول في الحرب على «داعش». ولذلك فهي متمسكة بدعمهم كأداة لا يُستغنى عنها لتحقيق هدف القضاء على «داعش». ثم إن الأكراد والعشائر السنية العربية هي، في رأي إدارة ترامب، المرشح الجدي الذي يستحق الاستيلاء على الجغرافيا التي يتم تنظيفها من «داعش»، وليست إيران صاحبة مشروع «الهلال الفارسي» الممتد في الأراضي التي استولى عليها «داعش» في العراق وسورية وصولاً الى لبنان حيث «حزب الله» الذي يعلن ولاءه لطهران.
روسيا توافق الولايات المتحدة على رفع راية الأكراد، وهي كانت حريصة على إعطائهم دوراً مركزياً في مسودة دستور لسورية تحمل بموجبه اسم «الجمهورية السورية» وليس «الجمهورية العربية السورية». وبحسب مراقب مطلع «إن من يضمن الأكراد في سورية هو روسيا». وكان لافتاً ما قاله بوغدانوف في حديثه الى «الحياة» الذي نشر يوم الإثنين الماضي متحدياً تركيا ومعارضتها قيام دولة كردية في سورية إذ قال: «لماذا توافق تركيا على كردستان العراق ولا توافق على كردستان سورية؟ أعتقد أن هذا ليس من شأنهم. هذا شأن عراقي وشأن سوري. الشعب السوري، وليس الروسي أو التركي، يقرر شكل الدولة والقيادة. وهذا هو موقفنا. تغيير النظام وترتيب الأمور شأن سيادي وداخلي».
كان لافتاً أيضاً ما قاله بوغدانوف عندما طُرِح عليه سؤال حول مخاوف من التقسيم في المنطقة العربية، في إشارة الى سيناريو الدولة الكردية في العراق و «احتمالات التقسيم في العراق وسورية». بوغدانوف قاطع ليضيف «وفي اليمن وليبيا»، مؤكداً «احترام سيادة الدول» مقابل «مبدأ حقوق الشعوب في تقرير مصيرها». قال إنه «توجد أحياناً دساتير تشمل مبادئ فيديرالية أو لا مركزية، وهذا مهم لإيجاد آليات لتسوية المشكلات»، شرط «أن يكون أي مخرج على أساس قانوني ودستوري والمهم عدم الخروج عن القوانين». أشار الى ما سمعه في أربيل بأن «هناك حكومة ورئيساً وعلماً وكل صفات الدولة ونحن نريد الشيء نفسه في سورية. قلنا لهم إن هذا السؤال يجب ألّا يوجه الى روسيا لأن هذا أمر توافقي ومنصوص في الدستور العراقي. وهم اتفقوا على هذه الفكرة ونفذوها في شكل قانوني».
إذاً، روسيا منفتحة على احتمال قيام دولة كردية في سورية وليس فقط دولة كردية في العراق، أو أقله كيان كردستان كجزء من كونفيديرالية أو فيديرالية في سورية. تركيا تعارض. إيران تتخوف لكنها تساوم. فهي تخشى من أن يصل نموذج كردستان الى أراضيها حيث كرد إيران أيضاً لديهم طموحات وطنية. لكنها أيضاً تدرك أن احتفاظها بما تريده في سورية والعراق يتطلب منها الموافقة على التقسيم في سورية والعراق كي تحتفظ بمشروع «الهلال الفارسي».
إدارة ترامب واعية للأمر ولذلك يتحدث المقربون منها بلغة إعادة توحيد سورية reunification من أجل قطع الطريق على المشروع الإيراني، وكذلك من أجل استعادة تركيا من روسيا في حال فشلت فكرة الصفقة الأميركية - الروسية. يقولون أيضاً إن إعادة توحيد سورية تعني، عملياً، مغادرة بشار الأسد لأنه غير قادر وليس مؤهلاً لقيادة سورية الموحدة. هذا ما يقولونه. ما في الخفايا أمر آخر، لا سيما أن أحاديث الصفقات في بدايتها وأن تقسيم الدول العربية مطلب إسرائيلي.
الواضح في هذه المرحلة هو أن روسيا ليست جاهزة، حالياً، لصفقة مع الولايات المتحدة تضحي بموجبها بحليفها الاستراتيجي الإيراني، وهي أيضاً غير جاهزة للتضحية ببشار الأسد في هذا المنعطف. واضح أن إدارة ترامب لن ترضى بأن تحل إيران في الأراضي التي يسيطر عليها «داعش» بعد تحريرها، فهذا ليس خياراً من خياراتها. الأكراد بمفردهم غير قادرين على استلام تلك الأراضي. وتركيا خيار مستبعد تماماً. ما يدور في الكلام عن البدائل هو مزيج من الأكراد والعشائر السنية العربية وكذلك مقاتلين يتم إعدادهم ليكونوا هم «القوات على الأرض» boots on the ground. واشنطن لا توافق موسكو على تولي القوات النظامية السورية مهمة تسلّم الأراضي التي يتم إخلاؤها من «داعش». ولا بد أن هذا الموضوع كان جزءاً من الحديث الذي أجري بين كبار قادة الجيش التركي والروسي والأميركي في أنطاليا.
شرق وغرب الفرات دخلا أيضاً ضمن أحاديث القيادات العسكرية بعدما ضمنت تركيا «تنظيف» حدودها من الأكراد غرب الفرات وبعدها دخلت الولايات المتحدة ميدانياً لتردع الأتراك وتحمي الأكراد شرق الفرات. الغائب الحاضر عن اللقاء العسكري الثلاثي المهم كان إيران التي تتمسك بمناطق في سورية تضمن لها التواصل بين العراق ولبنان.
ماذا ستفعل إدارة ترامب؟ هوذا السؤال الأهم. ماذا تريد إسرائيل؟ هوذا السؤال الغامض، علماً بأنها في الماضي بنت علاقات تهادنية مع إيران اعتبرها البعض «تواطئية» مع مشروع «الهلال الفارسي»، علماً بأن اليهود والفرس لم يسبق أن دخلوا حرباً مباشرة في ما بينهم عبر التاريخ. البعض يقول إن ما تريده إسرائيل الآن هو تجريد «حزب الله» من صواريخه الى جانب تطويق القدرات الإيرانية الصاروخية التي هي خارج الاتفاق النووي مع إيران، بحسب ما تؤكد طهران.
هل ستكون هذه المسائل المهمة موضع الصفقات أو أنها ستكون فتيل الحروب؟ وإذا كانت فتيل الحروب، هل سيتم اتخاذ قرارات الحرب عبر الخاصرة الضعيفة، وهي «حزب الله» في لبنان، أو أنها ستكون نتيجة «حاجة» إدارة ترامب الى حرب لاحقة أكبر، تحوّل الأنظار عن الاضطراب الداخلي الذي يطوقها؟
الصفقة الكبرى بين الولايات المتحدة وروسيا ما زالت بعيدة جداً، بالذات في ضوء اللاثقة الأميركية بروسيا وكذلك شكوك جزء من القاعدة الشعبية الأميركية بالرئيس دونالد ترامب. إيران تبقى واجهة الاختلاف بين إدارة ترامب والحكومة الروسية حالياً، وهي قلقة لأن المؤشرات حتى الآن تفيد بأن الإدارة الأميركية الجديدة غير جاهزة أبداً لتتقبل الطموحات الإيرانية الإقليمية. ما يريحها هو أن روسيا غير جاهزة، من جهتها، لتتقبل الانفصال عن إيران، مهما تكاثر الكلام عن هذه الحتمية.
تبقى تركيا في طليعة التجاذبات الأميركية - الروسية، أقله مرحلياً، وهي بدورها قلقة من ارتكاب أخطاء تورطها. تركيا مصرة على بناء الجسور مع روسيا لكنها غير مستعدة للتخلي عن الأولوية القاطعة لها وهي انتماؤها لحلف شمال الأطلسي (ناتو). إنها تحاول الإبحار في مياه عاصفة، لذلك تتخبط، لكن سفينة النجاة لها حالياً هي شراكتها الميدانية في سورية في العزم الأميركي - الروسي المشترك على الأولوية «الداعشية». أما مشكلتها الكردية، فهي مجمّدة في مكافآت دولية للأكراد لا ترتقي الى طموحاتهم التاريخية باستثناء الإقليم الكردي في العراق.
من الصفر، ومن دون أية شروط مسبقة، شاركت الهيئة العليا للمفاوضات في "جنيف 4"، كي لا تُتهم، كما حدث في "جنيف 3" أنها تعرقل العملية السياسية. وهكذا انطلقت المفاوضات في ظل رجحان التأثير الروسي الذي طاول التدخل، حتى في إعادة تشكيل وفد المعارضة، والأهم تمرير منطق الفصل بين المسارين السياسي والإنساني، وهو ما لم يعارضه المبعوث الأممي، ستيفان دي ميستورا، بقدر ما سعى بوضوح إلى تجاهل عملية التوازي بين المسارين، الإنساني والسياسي، بدلالة انطلاق مفاوضات "جنيف 4"، في ظل استمرار انتهاك النظام وحلفائه اتفاق وقف إطلاق النار، الذي أبرم في 30 ديسمبر/ كانون الأول 2016، ومواصلة نكث روسيا الوعود التي أطلقتها في مفاوضات "أستانة 1و2" بهذا الشأن. لم يشذ عن الإفشال المتعمد للمسار الإنساني ما يتعلق أيضاً بإجراءات بناء الثقة التي بقيت حبراً على ورق منذ "جنيف 1"، وما جاء في كل القرارات الدولية التي نصت عليها، لكن بدلاً من إعادة الاعتبار لضرورة إيجاد مناخ يشجع على نجاح العملية السياسية، يُحيل دي ميستورا في، وثيقته المقدمة لطرفي التفاوض، البحث في القضايا الإنسانية، إلى مرجعية منفصلة عن "جنيف 4" هي "مرجعية أستانة". بمعنى أشد خطورة، إبقاء رأس الثورة والمعارضة تحت ضغط الواقع الميداني، بكل تداعياته المأساوية المفتوحة، وإغراقها في ملفات العملية السياسية، تحت عنوان يتداخل فيه الفشل التام مع النجاح الكامل، حين تقول وثيقة دي ميستورا: "لن يتم الاتفاق على شيء قبل الاتفاق على كل شيء"، وهي عبارة تحمل الشيء ونقيضه، لأنها تعتبر فشل أي مسار كافياً لقطع الطريق على أي تقدم في المسارات الأخرى، وهي سابقةٌ تخرج عن فلسفة التفاوض التي تقوم على نزع العوائق، وتجاوز الكمائن أمام إمكانات تقدم العملية التفاوضية.
ما يُفهم منه، استخلاصاً، إما الانصياع لما تفرضه موازين القوى على الأرض، وتأطيرها في تفسيراتٍ تخرج عن محدّدات القرار 2254، أو التلويح بالوصول إلى حائط مسدود، في حال إصرار وفد المعارضة على التمسك بمسائل موضوعية أساسية، من أهمها التزامن بين المسارين، الإنساني والسياسي، ووحدة المرجعية التفاوضية، وجدول زمني مؤكّد نحو تحقيق عملية الانتقال السياسي، كما ورد في الفقرة ب المادة 7 من القرار 2118، إذ تحمل وثيقة دي ميستورا بدلاً من تحديد وتوضيح تلك المسائل بما يتسق مع "بيان جنيف1" تحملُ، في بنودها المقترحة، رؤية تتسم بكثير من المراوغة والتضليل، لأنها، من جهة أولى، تتحدّث عن فصل المسارين، الإنساني والسياسي، وإحالة كل منهما إلى مرجعيةٍ تفاوضيةٍ، لا وضوح في آليات (وإجراءات) الربط بينهما. ومن جهة ثانية، تمييع تمثيل وفد المعارضة بهدف تشتيت التمثيل، وصولاً إلى وفد موحد غير متجانس، وقابل للانقسام والتفكك من داخله في كل لحظةٍ يكون ذلك غُبّ الطلب. ومن جهة ثالثة، القفز عن الفترة التي حددها القرار 2254، لجهة "إقامة حكم ذي مصداقية، يشمل الجميع، ولا يقوم على الطائفية في غضون فترة مستهدفة مدتها ستة أشهر"، وفق ما جاء في القرار المشار إليه. حيث تتحدث الوثيقة عن أسابيع للتفاوض، وربما أشهر.. وتضعنا أمام سلّات ثلاث: الحكم والدستور والانتخابات، ثم أضيفت سلة رابعة، تتعلق بمكافحة الإرهاب. ليس من السهل التنبؤ بما تضمره من تباين حاد، بين رؤية وفد النظام لأولويتها وانتقائية تطبيقها، ورؤية وفد المعارضة ضرورة تطبيقها بصورة متزامنةٍ مع المسارات الأخرى، وشمولها كل مليشيات إيران المنتشرة بكثافة في سورية. يُضاعف من حدة التباين حولها أيضاً، جموح المقاربة الدولية الراهنة للإرهاب، لا سيما مع الادارة الأميركية الجديدة، لفرض معايير استنسابية حول الإرهاب، تقطع مع مصادره وأسبابه الحقيقية، ولا ترى ضيراً أن يكون النظام الذي بذرت جرائمه المروّعة، التربة الخصبة أمام انتشار قوى التطرّف، هو الشريك المقترح لمحاربة القوى الإرهابية. جرياً على هذا التوليف البعيد عن متطلبات الإنصاف، يتم زج السلل الثلاث الأخرى في لعبةٍ تتيح التناظر فيما بينها، حين يستعصي التوافق على جدولة كلٍ منها حسب الأولوية، إذ يُخشى أن يؤدي الفشل في التوافق على صيغة الحكم الانتقالي، إلى الضغط على المعارضة، لإصدار إعلان ما فوق دستوري، علماً أنه لا يستوي، في المنطق القانوني، البحث في صياغة دستور وإجراء انتخابات، من دون الاتفاق أولاً على الهيئة الحاكمة الانتقالية التي من جوهر مهامها الدعوة إلى عقد مؤتمر وطني، أو جمعية تأسيسية تضع الدستور، والذي يحدّد النظام الانتخابي الجديد. كان هناك من يريد بخصوص الدستور، أن يضع العربة أمام الحصان منذ "أستانة1"، وكان مشروع الدستور الذي اقترحه الروس على وفد الفصائل العسكرية، وقتذاك، من ضمن تلك المحاولة التي تضمر تدخلاً سافراً في شأنٍ وطنيٍّ سيادي، لا يحق لأي دولةٍ أن تتدخل فيه. ولذلك كان التصريح الصادر عن وفد المعارضة في جنيف بقبولها اعتماد دستور 1950 رسالةً خاطئةً، لأنها تعطي انطباعا باستعداد المعارضة تجاوز التسلسل المنطقي في مراحل العملية السياسية، من الناحيتين، الموضوعية والزمنية.
لعلّ معرفة دي ميستورا الذي يفضّل تسميته بميسّر أو مسّهل، بأوجه الالتباس بين صيغة هيئة الحكم الانتقالية في (بيان جنيف وقرار مجلس الأمن 2118) وصيغتها في القرار 2254 التي تتحدث عن حكم غير طائفي، من دون تعيين هوية الجسم الذي ستتشكل منه ووظيفته، فيما إذا كان كامل الصلاحيات التنفيذية، أو حكومة وحدة وطنية تكرس مشاركة النظام، وليس إطاحته. ما يمنح الدول المتمسكة ببقاء الأسد وتلك التي تضع أولوية مواجهة الإرهاب على إسقاط نظامه، هامشاً واسعاً للمناورة، وشراء الوقت الكافي لجدولة عملية الانتقال السياسي، وفق التسويات النهائية للاعبين الأساسيين في الساحة السورية، وليس وفق موجبات المرجعية القانونية الدولية التي قامت عليها محطات العملية التفاوضية. لذا لم يعد خافياً أن دور دي ميستورا "منسقا" بين مواقف تلك الدول ومصالحها، أدق من أي تسمية أخرى له.
لا يغير من هذا المشهد كثيراً، اعتقاد بعضهم، حتى في أوساط المعارضة، أن قبول وفد النظام مناقشة بند الانتقال السياسي قرينةً على تقدم في العملية السياسية، طالما أن مفهوم النظام لهذا الانتقال لا يندرج ضمنه تغيير القيادة بأي حال، كما صرح فيصل المقداد علناً في بداية الجولة التفاوضية، وختم بشار الجعفري في نهايتها، حين أكد أن لسلة الإرهاب الأولوية عند النظام.
تفرض تلك الحقائق على وفد الهيئة العليا للمفاوضات، باعتباره الأكثر تمسكاً بتطبيق "بيان جنيف 1"، وتحقيق الانتقال السياسي المنشود، العمل وفق الآتي:
أولاً: رفض أية محاولة يتم فيها استدخال قضايا الدستور والانتخابات، قبل البت بتشكيل هيئة حكم انتقالية كاملة الصلاحيات التنفيذية، مع تثبيت جدول زمني للمفاوضات حولها. وضبط توجهات ممثلي المنصات المحتمل خرق بعضهم هذا الموقف الجذري، بوضع آلية لاتخاذ قرارات وفد المعارضة، تنص صراحةً على التزام الجميع بذلك الموقف، في كل الظروف، وعلى امتداد العملية التفاوضية المتعلقة بهيئة الحكم الانتقالي.
ثانياً: بما أن ممثلي الفصائل العسكرية ضمن وفد الهيئة العليا للمفاوضات، التشاور والتوافق معهم على رفض الفصل بين مساري أستانة وجنيف 4، من خلال مطالبة ممثليهم عدم المشاركة في مفاوضات أستانة 3، المزمع عقدها في 14 مارس/ آذار الجاري، بدعوى أن النظام وحلفاءه لم يتقيدوا باتفاقية 30 ديسمبر/ كانون الأول 2016 من جوانبها كافة. وكي لا تتحول مشاركة وفد الفصائل العسكرية إلى غطاء لاستمرار انتهاك وقف إطلاق النار، والانتهاكات المشهودة التي تطاول المدنيين. والمطالبة تالياً بإحالة كل المسائل الإنسانية إلى مفاوضات "جنيف 4" لاستعادة عملية التزامن بين المسارين، السياسي والإنساني، وفق رؤية تفاوضية وعملياتية شاملة وموحدة.
ثالثاً: التمييز بين دور روسيا المؤثر في سورية، وكيفية التعامل مع حقائقه، وبين حدود التعويل على مصداقيتها، لا سيما أن حق النقض (الفيتو) الذي استخدمته، أخيرا، لمنع صدور قرار يعاقب مؤسسات النظام وأفراده، يشير مجدداً إلى تمسكها بالسياسة ذاتها الداعمة لبقاء النظام وعدم إضعافه، ما يوجب على وفد المعارضة الحذر في التعامل مع وعودها ورسائلها، سواء المعروضة من فوق الطاولة أو تحتها. يحتم ذلك الكف عن التصريحات التي أطلقها بعضهم "عن دور روسيا في الضغط على النظام أثمر قبوله مناقشة الحكم الانتقالي"، لأن مثل تلك التصريحات المجانية تُشيع تفاؤلاً ليس في مكانه، وتُجمّل الموقف الروسي الذي لم يتراجع عن دعم النظام، في ميادين القتال وضد المدنيين، وفي التغطية على جرائمه في مجلس الأمن.
أخيراً، في قضية عادلةٍ، بحجم ثورة الشعب السوري، ليست موازين القوى العسكرية على الأرض هي الورقة التفاوضية الحاسمة في ميزان التفاوض، فلدى وفد المعارضة أوراق قوة كثيرة، من أهمها إرادة شعب عظيم رفض الاستسلام طوال السنوات الماضية، وتحمل ما لا طاقة للجبال على احتماله، لكي يؤكد للعالم أجمع أنه جدير بالحياة والحرية، وأن على من يفاوضون باسمه أن يتمسكوا بهذه الورقة، مهما واجهوا من الضغوط والصعوبات والتحديات.
دفع ثوار الربيع العربي ثمناً غالياً لابتعادهم عن السياسة، فلم ينظموا أنفسهم وارتهنوا للدولة العميقة والنخبة السياسية القديمة التي نجحت في إعادة إنتاج نفسها مرة أخرى. في الحالة السورية تبدو الحال أشد مأسوية مع الحرب الأهلية التي يخوضها السوريون ضد واحد من أكثر الأنظمة وحشية وإجراماً. فلم تظهر القوى السياسية السورية في هذا الصراع أية قدرة وذكاء سياسيين، بل أبدت عجزاً عاماً في كل شيء تقريباً من المفاوضات إلى إدارة المناطق المحررة إلى توحيد القوى العسكرية وتقديم برنامج سياسي لإدارة المعركة مع النظام.
إهمال مركزية «السياسي» هو ما ميز الثورات العربية وفشلها. ليس المقصود بالحديث عن السياسي التطرق إلى التكتيكات والتحالفات التي يقوم بها السياسيون أو تقديم مقارنة بين برامج الأحزاب السياسية المختلفة، بل يدور حول السياسي نفسه، بوصفه مجالاً مستقلاً بذاته ولا يمكن رده إلى مجالات أخرى باعتبارها أكثر أساسية أو أهمية منه. ما افتقدناه في اللحظة الثورية ليس السياسيين، أولئك الذين يسعون لتصدر المنابر والوقوف أمام الكاميرات، بل السياسي القادر على تحديد طبيعة الصراع والتناقضات الأساسية التي يتم على أساسها تحديد الأعداء والأصدقاء والقادر على اتخاذ القرارات التي يراها مناسبة في ما يخص الصراع السياسي، مهما كانت قسوة هذه القرارات أو صعوبتها، ومن دون أن يخضع لابتزاز غير السياسيين من أخلاقيين أو غيرهم.
لنصوغ القضية في شكل أكثر تحديداً ووضوحاً، وفي شكل خاص في مواجهة خصوم السياسي الذين ينازعونه استقلاله. في الحالة العربية، وفي شكل خاص السورية، يوجد طرفان ينازعان السياسي، وهما المؤرخ والأخلاقي.
ليس المقصود بالمؤرخ أن يكون مؤرخاً فعلاً ولكنه يستخدم تبريرات تجد أصولها في العمل التأريخي وليس السياسي. «الإنسان الفرد قادر على تغيير مصيره ومصير مجتمعه وفق القرارات التي يتخذها» ليست سوى فرضية بالنسبة للمؤرخ، ومثل أية فرضية قد تكون صحيحة أو لا وفق المادة التاريخية التي يعالجها أو المدرسة التاريخية التي ينتمي إليها، فهناك مدارس تاريخية لا تعتقد بدور الفرد في التاريخ وأخرى تعتقد به. لكن بالنسبة للسياسي فإن دور الفرد في التاريخ وقدرته على تقرير مصيره ليسا مجرد فرضية، بل هما مسلمة إلزامية ومن دونها لا يكون سياسياً. من يمارس السياسة، يعتقد جازماً بأن ما يقوم به يؤثر في مجرى الأمور والحوادث، وإلا فلا معنى لما يقوم به. في اللحظة التي يشكك فيها السياسي فيقدرته على التأثير في مجرى الحوادث، علينا أن نسأله مباشرة: إذاً ما الذي تفعله هنا؟ ولماذا تدّعي أنك سياسي؟
القدرة على الفعل هي اعتقاد ضروري ولازم للسياسي، ومن دونه لا يكون سياسياً، مهما كان أثر هذا الفعل. في أسوأ الأحوال، قد يتوجب على السياسي أن يوازن بين السيئ والأسوأ، وهذه الموازنة نفسها قرار عليه أن يتخذه ويتحمل مسؤوليته. ما يحصل هو نتاج عمله وعليه أن يتحمل مسؤوليته التامة بصدده.
الكثيرون من سياسيينا يتصرفون وكأنهم مؤرخون. فما أن يفشلوا، حتى يبادروا بالتذرع بالعجز، وأن القوى الأخرى، التي قد تكون القوة العظمى أو الامبريالية أو الظروف التاريخية، كانت أقوى بكثير منهم وأنهم ما كانوا قادرين على فعل شيء حيالها. هذا نفي للمسؤولية ونكران للسياسي، فلو كانت هذه القوى أعظم منه، لتوجب عليه أن يأخذ قراره بعدم المواجهة والانسحاب. دوماً هناك إمكان لقرار السياسي، أياً يكن هذا القرار. اللحظة التي ينكر فيها السياسي مسؤوليته عما آلت إليه الأوضاع لأنها أقوى منه ولا يملك تجاهها شيئاً، ينكر فيها نفسه أيضاً كسياسي.
هذا النمط من السياسيين، الذين تنكروا لأنفسهم كسياسيين وادعوا أن الحوادث كانت أقوى منهم، متفادين تقديم محاسبة جدية عما قاموا به، عرفته الثورة السورية من المجلس الوطني إلى قيادات الائتلاف المتلاحقة وحتى لجنة المفاوضات. سياسيون دأبوا على إنكار أنفسهم كسياسيين عندما حانت لحظة المحاسبة.
خصم آخر للسياسي هو الأخلاقي، الذي يسعى إلى رد كل سؤال سياسي إلى سؤال أخلاقي، أرفع قيمة من السياسي ويشكل مرجعية عليا تقيد السياسي وتلزمه بالعودة إليها.
يعتبر الأخلاقي أن الخير والشر القيمتان الأساسيتان، وعليهما يجب أن يتأسس كل فعل سياسي. يعترض الأخلاقيون انطلاقاً من الحاجة إلى «تمثيل عادل وحقيقي» للسوريين والثوار في المفاوضات أو يشتكون من أن العالم غير أخلاقي تجاههم ويطالبونه الالتزام بقيم العدل الأخلاقي في سلوكه. بل ربما يرفض الأخلاقي السياسة كليةً بوصفها انحداراً بالأخلاقي، لأنها تلوثه بالمساومات السياسية الرخيصة التي تفترض تنازلات عما يعتبره عدلاً وحقاً.
«الدولة الإسلامية» أو «جبهة النصرة» هي أكثر تمثيلات الأخلاقي في علاقته بالسياسة تطرفاً، ولا تختلف في هذا المقام عمن يستدعي الأخلاقي باسم القيم الكونية. «الدولة الإسلامية» ليست تشوهاً للأخلاقي في علاقته بالسياسي، بل هي الحالة القصوى لإخضاع السياسي للأخلاقي وبغض النظر عن محتوى هذه الأخلاق. كلاهما، مقاتل الدولة الإسلامية أو المطالب بالعدل الكوني، يجعل من الأخلاق، وفق ما يفهمه منها، أساساً للسلوك السياسي وشارطاً له. هكذا تصبح الممارسة السياسية فرعاً من الممارسة الأخلاقية، إما أن تكون ممارسة أخلاقية أو غير أخلاقية، كما يصبح العدو غير أخلاقي وشريراً وليس مجرد عدو سياسي لا يفترض أن نكرهه، بل ربما علينا أن نجلس معه في مرحلة ما ونصافحه.
السياسي لا يواجه تناقضات أخلاقية، فليس عليه أن يختار بين الخير والشر، بل في أغلب الأحيان يكون خياره بين ما هو سيئ وما هو أسوأ، وعليه أن يحاور الشيطان ويتفق معه في كثير من الأحيان، وهذا ما يرقى إلى الجريمة أو التهاون في نظر الأخلاقي. ما على السياسي أن يقرره هو كيف يخوض الصراع وينتصر، أو كيف يتجنب الهزيمة إن لم يمكنه الانتصار.
يتوجب على السياسي أن يستفيد من الأخلاق ومن التاريخ، لكن إشكالية السياسي، القائمة على تحديد الصراع واتخاذ القرارات الحاسمة في شأنه، تبقى مستقلة بذاتها. استقلال لا يسمح بردّها إلى مجال الأخلاق أو التاريخ. في غياب استقلال السياسي لن نحظى بسياسيين، ومن يدعون أنهم سياسيون سرعان ما يتذرعون بالأخلاق أو بالتاريخ لتبرير فشلهم وعدم قدرتهم على تحمل مسؤولية أفعالهم.
استقلال السياسي هو الشرط الأول لتقديم نقد متسق للسياسي، نقد ومحاسبة ينتميان كذلك إلى مجال السياسي. الاعتراف باستقلال السياسي يعني أن السياسي لا يحتاج إلى شرعية خارجية من مجال آخر، كما أنه يبعدنا عن التعفف عن السياسة باسم ما هو أسمى وأهم منها. تعفف أظهره ثوار الربيع العربي ودفعوا ثمنه غالياً جداً بفشل ثوراتهم وضياع دماء رفاقهم.
أعادت جائزة أوسكار التي فاز بها، أخيراً، الفيلم الوثائقي القصير "الخوذ البيضاء" الضوء لفريق الدفاع المدني الذي يعمل في سورية بهذا الاسم، تحت شعار قرآني موجز؛ "ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا".
لا أظن أن واحدًا من أعضاء هذا الفريق الذي تكوّن منذ خمس سنوات، بعيد اندلاع الثورة السورية، بهدف إسعاف جرحاها ومصابيها، قد فكّر بجائزة أوسكار، أو غيرها من الجوائز التي حصل عليها الفريق لاحقاً من جهات عالمية مختلفة، فمن يعمل ليساهم في إحياء الناس جميعاً عبر إنقاذ ما يمكن إنقاذه من ضحايا الحرب، وبأقل الإمكانات، متجاهلا حجم المخاطرة التي يتعرّض لها في كل مرةٍ يخرج من بيته على دوي الانفجارات، ليبحث بين أنقاض البيوت المهدمة فوق رؤوس أصحابها عن حياة تكاد تتلاشى ليساهم في إنقاذها. وفي كل مرة، ينجح هذا الفريق بعملية إنقاذ مصوّرة عبر الكاميرات المساندة، يشهد العالم كله جانبا من جوانب الحياة المدنية، وسط الحرب على حقيقتها الكاملة تقريبا، بلا تشويه ولا تزيين من خلال تحرّكات ثلاثة من ذوي الخوذ البيضاء الذين وصل عددهم، في آخر تقدير، إلى ثلاثة آلاف تقريباً.
تولى إخراج الفيلم المخرج أورلاندو فون إينسيديل من بعد، إذ لم تمكّنه طبيعة الحرب بين قوات النظام السوري وقوات الثورة بأجنحتها المختلفة، من حضور عملية التصوير التي كانت تتم بشكل عشوائي خاضع لعشوائية الحرب. وينفتح الفيلم على صيحات تقليدية معتادة من حضور كل عملية إنقاذ؛ "الله أكبر.. الله أكبر"، ولعلها واحدةٌ من المرات القليلة التي أتيح للغرب فيها أن يسمع هذا النداء الإسلامي رديفا لعمليات إنقاذ، بعد أن تحول سنوات إلى إشارة للموت نحرا على يد الجماعات المتطرّفة.
وفي هذه الإشارة الصغيرة، تتبدى للمشاهد صورة مختلفة عن الواقع الإسلامي المعاش من أفراد قرّروا أن يتطوّعوا في خدمة الإنسانية من منظور إسلامي بحت، من دون أن ينضووا تحت أي جماعةٍ أو حزبٍ أو فريق من فرق الحرب المختلفة.
ومع أن الفيلم قد أعاد إلى الواجهة الإنسانية والإعلامية ما بدأ كثيرون ينسونه تحت وطأة الاعتياد، بعد مرور كل هذه السنوات الحافلة بعمليات قصفٍ وتهديمٍ وتفجير وإلقاء للبراميل الحارقة على بيوت الأبرياء، إلا أن نجاحه الأكبر، كما أرى، يكمن في تعريف جمهور أوسكار حول العالم على البعد الحقيقي للحياة، في الإطار الإسلامي، ففي كل مشاهد الإنقاذ الحقيقية التي صوّرها الفيلم بواسطة الفريق نفسه كانت عبارة الله أكبر تبدو كأنها المعادل القولي والموضوعي للحياة، كما أرادها الله لنا على هذه الأرض؛ عدالة وعمل وعبادة وسلام وجمال وحب وخير وتعاون.
وفي ختام الفيلم القصير، تتردد أصداء الآية القرآنية العظيمة "ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعاً"، لتلخص الغاية بشكلٍ مباشر، قد يبدو عادياً لمن تربّى في وسط ثقافي يؤمن بقدسية القرآن الكريم، باعتباره كلام الله تعالى، لكنه ليس كذلك لجمهور غربي دأب على تلقي الآيات القرآنية إشارات موت معلن، وهمجية استعراضية، وتطرف قاتل وحسب.
شاهدت الفيلم مرتين، أُخذت في الأولى بالرسالة الإنسانية الجميلة التي نجح الفيلم بإيصالها عبر هذا الفريق ذي الخوذ البيضاء بأن البياض، في النهاية، هو البطل المنتصر، على الرغم من كل المشاهد المروعة للموت المجاني الذي كان يلاحق الجميع تقريبا. وفي المرة الثانية، انسقت وراء الحرفية الإبداعية التي صمم المخرج من خلالها مشاهد صورت على عجل، وبلا تحضير مسبق، بإطارات أنيقة وموسيقى ذكية، عبرت عن الأمل الطالع من الأعماق القاتمة، برقة وقوة، في اللحظة نفسها. وفي الرسالة التى قرأها مخرج الفيلم في حفل توزيع حوائز أوسكار، نيابة عن الفريق، ما يفيد بأن الفريق فضل أن يتابع مزاولة عمله في الإنقاذ، بدلا من الذهاب لاستلام جوائز التفوق في أداء هذا العمل. وهنا المعنى الحقيقي للفيلم خارج إطار الصورة.
أثار نجاح دونالد ترامب في انتخابات الرئاسة الأميركية تكهناتٍ عن تطور العلاقات الأميركية الروسية، خصوصاً وأن ترامب كان يصرّح، في أثناء حملته الانتخابية، عن ضرورة التقارب مع روسيا، ومن ثم أثيرت أحاديث كثيرة عن "تدخل" روسيا في الانتخابات الأميركية لمصلحة ترامب. وبالتالي، كان يبدو أن الخلافات القديمة خلال فترة حكم سلفه، باراك أوباما، في طريقها إلى أن تطوى.
لكن، بعد أسابيع من استلام دونالد ترامب الرئاسة، بات التشكك يحكم ذلك. فقد أتى بعدد من كبار مسؤولي إدارته من التيار المعارض لروسيا، كما أعلن أن هدف إدارته هو: أميركا أولاً. ولهذا، زاد من ميزانية الدفاع بشكل كبير، وأعاد التأكيد على أهمية الحلف الأطلسي، على الرغم من أنه كان يريد تجاوزه، ولم يخفف العقوبات المفروضة على روسيا إلى الآن. وهو الأمر الذي أزعج روسيا، وجعلها تتشكك فيما يمكن أن تؤول إليه العلاقات الأميركية الروسية.
لم ينضج الأمر بعد، وما زال هناك وقت لترقب مآل العلاقات، بالضبط لأن كلاً منهما يشعر بالحاجة إلى الآخر لأسباب مختلفة. لكن روسيا التي تعتقد أنها التي جاءت بترامب إلى البيت الأبيض تريد منه أن يقبل بمنظورها العالمي، والذي ينطلق من أحقية روسيا في قيادة العالم، وحاجتها الكبيرة لتوسيع سيطرتها العالمية، ومن ثم تسهيل الظروف العالمية التي تسمح بتطور اقتصادها المضعضع والمنهك. وهي تفترض أن على أميركا قبول سيطرتها على أوكرانيا، والإقرار بضمها شبه جزيرة القرم، وكذلك ربما تحكمها بأوروبا. وأيضاً الإقرار بدورها السوري، على الرغم من أن ذلك متحقق منذ عهد أوباما أصلاً، وبالطريقة التي تعمل عليها لإنهاء الصراع هناك، وهو ما يحظى ببعض الاختلاف، كما يبدو.
ربما كانت روسيا تنظر إلى ترامب أداة لها، بعد أن اعتبرت أنها من أوصله إلى البيت الأبيض، وأن عليه أن يقرّ بكل ما تريد، لكن ترامب ليس أميركا، وأيضاً ليس من رأسمالي أميركي يقبل أن تعطي أميركا القياد لغيرها. فأزمة أميركا الاقتصادية التي سببت ضعفها لا تدفعها إلى التنازل بهذا القدْر، على الرغم من أنها تراجعت عن منظورها الهيمني الشامل بعد الأزمة المالية، لكنها تريد دوراً محورياً بتعاضد دول أخرى، ربما كانت روسيا من الدول المفضلة هنا. فهي لا تريد أن تنتهي هيمنتها الاقتصادية العالمية، وهي ما زالت القوة الاقتصادية والعسكرية الأولى، بل تريد إشراك دولٍ أخرى وهي تتلمس "الخطر الصيني"، وتريد تحقيق تحالفٍ يحدّ من قدرة هذا البلد الذي بات يملك ثاني اقتصاد عالمي، ويخزّن تريليونات الدولارات، احتياطي وسندات خزينة أميركية. كما أنها تريد موضعة موقعها الاقتصادي العالمي، بما يسمح بإنعاش اقتصادها الذي يعاني من تراجع في الإنتاج الصناعي، واختلال في الميزان التجاري، وعجز مستدام في الموازنة، وأيضاً مديونية باتت أكبر من دخلها القومي. وهنا، لا تريد أن يحلّ محلها أحد، على الرغم من أن بإمكانها التخلي عن بعض المناطق، كما قرّرت بخصوص "الشرق الأوسط"، وربما مناطق أخرى، حيث يطغى على طابع استثمارات رأسمالييها النشاط في النفط والمضاربات والمديونية والتقنيات الحديثة وتصدير السلاح.
وأيضاً، لا تملك روسيا للتصدير سوى السلاح، وقد باتت الدولة الثانية في العالم بعد أميركا في ذلك، وتريد التحكم بالنفط والغاز، بعد أن بات اقتصادها يعتمد عليهما. ولدى رأسمالييها تراكم مالي تحقق بعد نهب "أملاك الدولة"، والاستثمار في النفط والغاز والمضاربات، سيكون معنياً بالبحث عن أسواق سبقته إليها أميركا. وبالتالي، مصالح الرأسماليات متناقضة بشكل شديد، لأن الرأسماليات الأميركية والروسية تنشط في الحقول الاقتصادية ذاتها. وإذا كان يبدو لكل من الإدارات الأميركية والروسية أن الصين هي "المنافس الجدّي"، أو "الخطر المحتمل"، فإن مصالح الرأسماليات سوف تبقي الوضع في حالة توتر. والمشكلة أن أميركا لا تقبل هيمنة روسيا، وروسيا لا تستطيع التطور والاستقرار بدون هذه الهيمنة.
لم يكن مفاجئاً خروج مفاوضات جنيف 4 بسلة فارغة على رغم الزمن الذي اتخذته قياساً الى جولات سابقة. كما أن تصريحات رئيس وفد النظام عن أن "الإيجابية" الوحيدة هي الاتفاق على اجتماعات مقبلة، كان معبّراً. واذا كان وفد المعارضة، المكون من معارضات وفق الارتباطات العربية والإقليمية، قد أتى وفي ذهنه تحقيق مكاسب سياسية، فإن ما شهده خلال المؤتمر يجب ان يكون كافياً ليدرك أن مفاتيح حل الأزمة ليست في يد النظام السوري ولا في يد المعارضة او المعارضات السورية، بل تقيم في أماكن أخرى مُقررة.
لم يعد سراً أن مفتاح التسوية في سورية تملكه روسيا في شكل قاطع، وهي تحدد ما هو مقبول وما هو مرفوض. على رغم الموقع الذي تحتله إيران وميليشياتها اللبنانية والعراقية، وكذلك تركيا وميليشياتها ايضاً، إلا أن هذه القوى عاجزة عن فرض جدول أعمال اي مؤتمر للتسوية والسير به منفرداً، هذا في حال كانت هذه القوى ترغب في الوصول الى تسوية في الوقت الراهن.
بالنسبة الى روسيا، الأزمة السورية تشكل ورقة قوية ورابحة في الصراع على النفوذ الإقليمي والدولي، تستخدمها في الصراع مع الولايات المتحدة الأميركية على تقاسم مناطق النفوذ وعلى تسويات في مناطق دولية ترى فيها روسيا مواقع تريد الحفاظ عليها. هنا المفتاح، وهنا القرار. لكن السؤال يظل مطروحاً، هل ترغب روسيا ومعها النظام حقاً في الوصول الى تسوية للأزمة؟ وهل ترغب القوى الإقليمية الإيرانية والتركية بإنهاء هذه الحرب؟ أسئلة تشكل الأجوبة عليها بعض المعرفة لمآل سورية مستقبلاً.
ولأن روسيا غير راغبة راهناً في السير بتسوية، فهي تسمح لسائر الأطراف "باللعب" في الوقت الضائع. لذا وجد النظام نفسه بلا قيود في مواصلة استخدام العنف في ضرب مناطق غير موالية له، وفي التقدم لقضم مناطق أخرى. كان النظام يطبق نظريات عسكرية تؤكد تواصل العمل العسكري مع المفاوضات الجارية، لأنها تشكل وسيلة ضغط على الطرف الآخر. كان من المستهجن عودة "داعش" الى مدينة تدمر بعد أن استعادها النظام. بدت مسرحية هزلية تسليم المدينة مجدداً الى التنظيم الإرهابي من قبل النظام، ثم رفع الصوت عالياً من أجل استعادتها. لا شك في أن النظام يريد بقاء مناطق ساخنة تبرر له نظرياته في محاربة التطرف والإرهاب. كما استكملت المسرحية بالدخول الروسي لاستعادة المدينة وطرد "داعش" منها، وتصريح الأركان الروسية في شكل صريح عن استعادتها المدينة بقواها الخاصة وبسلاح الجو الذي حسم المعركة.
في المقابل، لا تبدو إيران مستعجلة على السير بتسوية قبل أن تتوضح ملامح هذه التسوية التي تضمن فيها مصالحها واستثماراتها المادية منها والبشرية التي دفعت فيها غالياً. يكثر الكلام عن تباين بين إيران وروسيا في شأن مستقبل سورية. يذهب البعض الى القول بتناقضات واحتمالات صدام بين الطرفين. ترى إيران في انخراطها في الحرب السورية والمعاندة في بقاء الأسد في السلطة، دفاعاً عن أمنها القومي في الداخل الإيراني. بل ان التورط الإيراني بات ورقة في الصراعات الداخلية التي تشهدها إيران عشية انتخابات الرئاسة والبرلمان، فيما يرى مرشدها أن سورية مسألة حياة او موت لإيران، خصوصاً بقاء الأسد في موقعه.
أما تركيا التي باتت في قلب الحرب السورية، فإن أهدافها في منع الأكراد تحقيق مناطق نفوذ وحكم ذاتي، تجعلها في وضع تمزج فيه بين العمل العسكري لطرد القوى الكردية، وبين مساومة مع روسيا على مناطق آمنة وعلى بسط سيطرتها على شريط تضمن من خلاله منع الهجمات عليها. اذا كان الأكراد قد توهموا لفترة بأن الحلم في كيان ذاتي بات على مرمى حجر، فإن هذا الحلم يتبدد الآن في معمعة الصراع على سورية، بحيث يصبح الأكراد "فرق عملة" وسط المصالح الدولية والإقليمية المتصارعة.
تبقى كلمة أخيرة تطاول المعارضة او المعارضات التي شاركت في مؤتمر جنيف. لا شك في انها حاولت أن تفرض مطالبها في المؤتمر، وخصوصاً قضية الانتقال السياسي والإصرار على أن لا يكون لبشار الأسد دور في مستقبل سورية، وهي النقطة التي رد فيها وفد النظام بالطلب أن يكون بند محاربة الإرهاب في جدول الأعمال، ليتحول النقاش الى المعارضة وصلتها بالتنظيمات الإرهابية. هذه مسائل تحصل في كل مفاوضات. لكن معضلة المعارضة تكمن في انتماءتها والقوى العربية او الإقليمية التي تمسك عملياً بقرارها. ما يجب تسجيله ايجاباً هو بلورة مواقف شبه موحدة، فيما تكمن السلبية في عجزها في توحيد وفدها.
ستمر على سورية مؤتمرات متعددة قبل الوصول الى تسوية. الثابت سيظل شلال الدم الذي يدفع الشعب السوري ثمنه، نظراً الى انه اللغة الوحيدة التي يتقنها النظام ورعاته.