مقالات مقالات رأي بحوث ودراسات كتاب الثورة
٩ مارس ٢٠١٧
الانسحاب الأميركي يعيد روسيا إلى أفغانستان

عودة روسيا في الأشهر الأخيرة إلى لعب دور في أفغانستان، عبر الانفتاح على حركة «طالبان» سببه اعتقادها بأن الوجود العسكري الغربي بقيادة الولايات المتحدة في تلك البلاد لم تعد لديه فعالية مما يعرض المنطقة هناك إلى مواجهة تداعيات الانسحاب الأميركي المحتمل.

في منتصف الثمانينات كانت أفغانستان تعتبر «الجرح النازف» للاتحاد السوفياتي، وفي نهاية ذلك العقد شبهها الكثيرون بفيتنام روسيا التي انسحبت منها مهزومة.

الشهر الماضي استضافت موسكو مؤتمراً حول أفغانستان - الأول انعقد في شهر ديسمبر (كانون الأول) الماضي - شاركت فيه إلى جانب روسيا إيران، الصين، الهند وأفغانستان. إنما لم تتم دعوة أميركا.

عودة النفوذ الروسي إلى أفغانستان يتماشى مع النمط الأوسع للسياسة الخارجية الروسية، حيث تسعى موسكو إلى التوسط باتفاقيات تسمح لها بالتوسع الجيوسياسي على حساب واشنطن. ومحاولاتها ترتيب اتفاق سلام أفغاني، تأمل من ورائه أن تحل محل الولايات المتحدة كقوة حامية لأفغانستان، وتطرح نفسها كوسيط أساسي في جنوب آسيا. هي تريد أن تستخدم هذا النفوذ لوقف امتداد الإرهاب إلى أراضيها ومنع وصول المخدرات إلى شعبها.

تطالب روسيا بأن تنسحب الولايات المتحدة من آسيا الوسطى، إنما تتخوف من أن يؤدي أي انسحاب متسرع إلى حالة من الفوضى في أفغانستان يمكن أن تشكل خطراً عليها وعلى الدول المجاورة.

يقلق موسكو أمران؛ أن تصبح أفغانستان غير المستقرة أرضاً خصبة للإرهاب العابر للحدود، ويعود الأفيون يتدفق منها إلى روسيا وآسيا الوسطى، وحسب تقارير الأمم المتحدة فإن في روسيا أعلى المعدلات في العالم من مستخدمي مادة الأفيون التي تؤدي إلى وفيات بالجرعات الزائدة وانتشار مرض نقص المناعة (الإيدز).

عام 2013 كانت موسكو تعتبر «طالبان» سبب هاتين المشكلتين، وعبرت عن تحفظها تجاه الجهود الأميركية لإجراء مفاوضات مع ممثلي «طالبان» في قطر. لكن منذ ذلك العام بدأ ممثلون عنها وعن «طالبان» يلتقون في طاجيكستان إلى جانب مبعوثين من عدة دول في آسيا الوسطى.

يقول دبلوماسي غربي: «يجب أن ننظر إلى عودة روسيا إلى أفغانستان ضمن سياق تدخلها المستمر في سوريا وطموحاتها الجيوسياسية في الشرق الأوسط الكبير. ثم إن دورها في سوريا جعلها هدفاً للمتطرفين الإسلاميين الذين أنشأوا خلايا في أفغانستان». يضيف: «ويبدو أن روسيا تهدف إلى استخدام التنافس بين (طالبان) وتنظيم داعش، كي تضمن ألا تتحول أفغانستان إلى ملاذ آخر لـ(داعش) يهدد موسكو».

خلال فترة الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما، أظهرت الولايات المتحدة رغبة في الانسحاب من الشرق الأوسط، وكان الأمر واضحاً برفض أوباما التدخل في سوريا، عندها سعت روسيا إلى ملء الفراغ، فعززت علاقاتها مع مصر، والعراق، وإيران وإسرائيل وإلى حد ما مع بعض الدول الخليجية، أما في جنوب آسيا، فقد عمقت علاقاتها مع باكستان مع احتفاظها بعلاقات جيدة مع الهند.

يقول محدثي إن «روسيا لن تصبح الراعي الخارجي الرئيسي لتلك الدول، وتحل محل الولايات المتحدة، لكن وجوداً أكبر لها في أفغانستان يسمح لموسكو بالتأثير على أي تطور في الدول التي كانت تشكل سابقاً الاتحاد السوفياتي».

في الشهر الأخير من العام الماضي قال السفير الروسي لدى أفغانستان زامير كابولوف إن ما يثير قلقنا هو أن «داعش» يهدد أفغانستان وكل دول آسيا الوسطى: باكستان، الصين، إيران، الهند وحتى روسيا. لدينا علاقات مع «طالبان» لضمان أمن مكاتبنا السياسية والقنصليات وأمن آسيا الوسطى.

وعلى عكسه تماماً، وفي شهر فبراير (شباط) الماضي قال أحمد مريد بارتاو، ممثل أفغانستان السابق، في القيادة المركزية الأميركية في مقال كتبه في مجلة «فورين بوليسي» تحت عنوان: «وهم الدولة الإسلامية في أفغانستان» إن «روسيا والصين وإيران تبالغ كثيراً، عند الحديث عن (داعش) في أفغانستان، وذلك للتدخل في شؤوننا الداخلية، وأيضاً لمواجهة تزايد النفوذ الأميركي في المنطقة».

تدرك موسكو وبكل تأكيد أن التدخل الدولي بقيادة أميركا لم ينجح في وضع أفغانستان على مسار الاستقرار والتقدم، وكان السفير الروسي كابولوف وصف مبلغ تريليون دولار الذي أنفقته أميركا خلال السنوات الـ15 الماضية، بأنه راح سدى. ووصف استمرار الوجود الأميركي (آلاف الجنود واتفاقية أمنية ثنائية وقعت أخيراً مع كابل) بأنه يعكس رغبة أميركية طويلة المدى، للحفاظ على موطئ قدم في وسط أوراسيا، بعدما فقدت عام 1979 نظاماً إيرانياً كان موالياً لها، وبعدما تم طرد القوات الأميركية من آسيا الوسطى.

ترى موسكو أن «طالبان» أقل تهديداً لمصالحها على المدى الطويل، وأفضل من أفغانستان ملأى بالفوضى، خصوصاً مع حكومة في كابل موالية للأميركيين وقوات أميركية متمركزة في كل البلاد. وتقول موسكو، إن حركة «طالبان»، حيث غالبيتها من البشتون، أثبتت مرونة ملحوظة خلال العقدين الماضيين، تختلف عن تلك الجماعات المتطرفة العابرة للحدود مثل «داعش»، و«القاعدة»، التي تستهدف روسيا والغرب، وتتهمهم بأنهم أعداء الإسلام. لا تغفل موسكو الفروع المتفرعة من «طالبان» مثل شبكة حقاني، لكنها ترى أنه حان الوقت لاستيعاب «طالبان» في إطار سياسي أفغاني جديد! طالبان تتجاوب مع موسكو التي تريد وضع حد للوجود العسكري الأميركي في أفغانستان، وبدأت تكشف عن رغباتها، إذ صرح سيد محمد أكبر آغا، قائد سابق في «طالبان» ويعيش في كابل ويتبنى الحكم الإسلامي في أفغانستان، بأن «طالبان» تريد علاقات أوثق مع موسكو لتخليص أفغانستان من آفة الولايات المتحدة. وأضاف في مقابلة مع جريدة «موسكو تايمز» في 13 من الشهر الماضي: «نحن مستعدون لمصافحة روسيا من أجل تخليص أنفسنا من ويلات أميركا، وقد أثبت التاريخ أننا أقرب إلى روسيا وجمهوريات الاتحاد السوفياتي السابق، منا إلى الغرب».

لا حكومة أفغانستان الشرعية، ولا واشنطن استطاعتنا اقتلاع «طالبان» أو تحقيق الاستقرار، لذلك جاءت حسابات موسكو بأن أفضل طريقة لحماية حدودها وحدود حلفائها في آسيا الوسطى من مخاطر تسرب الإرهابيين، هو تعزيز طروحات «طالبان» في السعي إلى إطار سياسي جديد، وتعتقد أن مساعدة مالية وعسكرية قد تحفز «طالبان» على مواجهة التهديد الحقيقي، أي المتطرفين العابرين للحدود، وبرأيها أنه إذا عززت «طالبان» نفوذها على حساب الحكومة الأفغانية، وأدى ذلك إلى انسحاب القوات الأميركية، فسيكون ذلك أفضل لروسيا.

من الواضح أن لروسيا و«طالبان» اهتمامات مشتركة في مواجهة «داعش» في أفغانستان والوجود العسكري الأميركي. تشاركهما هذا التفكير إيران والصين في وقت تستمر القوات النظامية الأفغانية في مواجهة إرهاب «طالبان» التي زادت هجماتها الإرهابية في مختلف المناطق وكان من بينها الهجوم الذي أدى إلى مقتل سفير دولة الإمارات العربية المتحدة إلى أفغانستان وحاكم إقليم قندهار.

اللافت الآن على الساحة الأفغانية المتحركة باستمرار، بروز أدلة متزايدة على أن قوات برية صينية تعمل داخل أفغانستان وتقوم بدوريات مشتركة مع القوات الأفغانية على امتداد 50 ميلاً من الحدود المشتركة بين البلدين بهدف اصطياد مقاتلي «الإيغور» العائدين من معارك الموصل والرقة، كما تغذي التكهنات بأن بكين تستعد للعب دور أكبر في تثبيت الأمن في أفغانستان «عندما تغادر الولايات المتحدة والحلف الأطلسي تلك البلاد». الحجم الكامل والبعيد لمشاركة الصين في دور أفغاني، غير واضح حتى الآن، ثم إن وزارة الدفاع الأميركية ترفض مناقشة هذا التطور، إذ قال متحدث باسمها يوم الاثنين الماضي: «نعرف أن القوات الصينية موجودة هناك»!

أما «طالبان»، فحسب محلل سياسي، فإنها ليست مهتمة بالسلام والأمن، هي تريد أن تربح الحرب في أفغانستان، وتستغل المفاوضات مع القوى الإقليمية والدولية لتحسين وضعها، لذلك من المستبعد جداً أن تتخلى عن أنشطتها الإرهابية، وهذا يعني أن موسكو لن تكون قادرة على تحقيق مصالحة بين كابل و«طالبان». وعلاوة على ذلك، فإن ذكرى الغزو السوفياتي لا تزال حية في ذهن كل أفغاني، ومن المستبعد أن تتاح فرصة كبيرة أمام روسيا للنجاح، طالما احتفظت الولايات المتحدة بقوات عسكرية في أفغانستان.

اقرأ المزيد
٩ مارس ٢٠١٧
بوتين في المربّع الأول

لم يتوقع الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، حجم المقاومة التي ستبديها "المؤسسة الحاكمة" في واشنطن لتوجهات إدارة الرئيس دونالد ترامب، في تحقيق تقاربٍ مع روسيا، فقد استنفرت "المؤسسة" كل قدراتها، وحشدت كل إمكاناتها في الكونغرس ووسائل الإعلام والمؤسسة العسكرية وأجهزة الاستخبارات ودوائر البيروقراطية والحزب الجمهوري، لمنع ترامب من المضي في هذه السياسة، وبدأت زرع الألغام في طريقه، حتى قبل استلامه السلطة. إذ طرد الرئيس باراك أوباما، عشية مغادرته السلطة، عشرات الدبلوماسيين الروس، وفرض حزمة جديدة من العقوبات، رداً على تدخّل روسيا في الانتخابات التي أدت إلى فوز ترامب، وخسارة مرشحة حزبه التي كان يأمل من خلالها الحفاظ على إرثه الرئاسي الهزيل، لكن ترامب لم يَبدُ كمن فهم الرسالة. على العكس، قام الرجل بهجوم معاكس، اتهم فيه الاستخبارات بالكذب، ليأتيه الرد بنشر تفاصيل مكالمات مستشاره لشؤون الأمن القومي، مايكل فلين، يعد فيها السفير الروسي في واشنطن برفع العقوبات التي فرضها أوباما، قبل تسلمه منصبه. لم يرتدع ترامب بسقوط مستشاره، فانفتحت ملفاتٌ أخرى تتناول علاقات روسيا بوزير عدله، ثم صهره، وأخيراً ابنه الذي تبين أنه تقاضى 50 ألف دولار لقاء كلمةٍ ألقاها في باريس خلال حفل أقامته شخصيات قريبة من روسيا في أكتوبر/تشرين الثاني الماضي. ويبدو أن القلق استبد بموسكو إلى درجة أن وزير الخارجية، سيرغي لافروف، وصف ما يجري في واشنطن بصيد ساحرات (Witch Hunt)، بعد أن تم وضع معظم أصدقاء روسيا في إدارة ترامب في دائرة الضوء.

واضحٌ أن بوتين، بحسب وسائل إعلام أميركية كبرى، كان يأمل في التوصل إلى صفقة شاملة مع إدارة ترامب، تتناول أوكرانيا ومسألة العقوبات الاقتصادية، والتنسيق الأمني والعسكري ضد تنظيم الدولة الإسلامية، والأزمة السورية، وموضوع النفوذ الإيراني، والنشاط الصيني في بحر الصين الجنوبي، وقضايا الحد من الأسلحة النووية، هكذا بالترتيب. ويبدو أن الاتصالات حول صفقةٍ محتملةٍ، تتناول كل هذه القضايا، بدأت مع الحملة الانتخابية للمرشح ترامب، حيث يعتقد أن روسيا عرضت المساعدة في كسب الانتخابات، من خلال كنز المعلومات التي كانت توصلت إليه، نتيجة اختراق البريد الإلكتروني لحملة كلينتون الانتخابية. وفي المقابل، يبدو أن حملة ترامب تعهدت برفع العقوبات عن روسيا، والاعتراف بضمها القرم، والمساعدة في إطاحة خصمها الرئيس الأوكراني، بيترو بورشينكو، في إطار مقترح سلام لحل الأزمة الأوكرانية.

تفاصيل خطة إطاحة الرئيس الأوكراني، بحجة تورّطه في قضايا فساد، كشفت عنها صحيفة نيويورك تايمز، أخيراً، وأدى فيها رجل أعمال أوكراني طامح إلى جانب محامي ترامب الشخصي، مايكل كوهين، دوراً رئيساً، ويخضع الأخير حالياً للتحقيق بشأن صلاته بروسيا من الأجهزة الأمنية الأميركية. ولا يبدو واضحاً فيما إذا كان بوتين تعهد، في المقابل، بالمساعدة في إخراج الأسد من السلطة، في إطار خطة سلام تعالج هموم واشنطن في سورية، وهي: القضاء على تنظيم الدولة الإسلامية ووقف تدفق اللاجئين، والحد من النفوذ الإيراني. لكن المؤكد أن بوتين بدا منفتحاً على أي مقترح للتعاون مع ترامب، يؤدي إلى حل مشكلته في أوكرانيا، ورفع العقوبات عن بلاده. ويأتي وقف إطلاق النار الذي تم التوصل إليه في أنقرة، والضغط على طهران للقبول به، والانفتاح على فصائل المعارضة المسلحة، بما فيها أحرار الشام وجيش الإسلام، التي سبق أن وصفتها موسكو إرهابية، تأتي جميعاً في سياق استعداد روسيا لإبداء مرونة في سورية، إذا أبدت واشنطن القدر نفسه من المرونة بشأن أوكرانيا.

ويبدو أن عودة روسيا إلى التصعيد مع المعارضة على الأرض، وفي جنيف، يمثل تعبيراً عن الاستياء من تعطّل صفقة سورية مقابل أوكرانيا، التي تناولها الرئيس بوتين علناً الشهر الماضي، في إطار تعليقه على الصعوبات التي تواجهها مفاوضات جنيف، واستخدام روسيا "الفيتو" في مجلس الأمن، لإسقاط مشروع قرار يدين النظام السوري بشأن استخدام أسلحة كيميائية، بعد أن كانت قد وافقت على إنشاء لجنة أممية للتحقيق فيها. وبتعطل هذه الصفقة، يبدو أن موسكو عادت بنا إلى المربع الأول في المسألة السورية، بعد أن أعطت بعض الآمال إثر التفاهم التركي-الروسي.

اقرأ المزيد
٩ مارس ٢٠١٧
ترامب و «المناطق الآمنة» في سورية

عاد الرئيس ترامب دونالد إلى التأكيد أمام تجمع مؤيد له في فلوريدا الشهر الماضي، أنه يرغب في إنشاء مناطق آمنة في سورية، تكون ملاذاً للاجئين الذين لا يرغب باستضافتهم في الولايات المتحدة، وقال في الوقت ذاته إن على دول الخليج تحمل تكاليف إنشاء هذه المناطق. هذه ربما المرة الثالثة التي يثير فيها الرئيس ترامب قضية المناطق الآمنة في سورية منذ انتخابه، لكن إلى الآن ليس هناك وضوح سياسي وقانوني وعسكري لما يعنيه بهذه المناطق الآمنة.

هل سيلجأ ترامب إلى مجلس الأمن لإصدار قرار دولي يسمح بإنشاء مثل هذه المناطق؟ وعليه ماذا سيكون موقف روسيا التي مارست حق النقض (الفيتو) ست مرات ضد قرارات أخف لهجة بكثير وأقل تأثيراً في مجرى تطورات الحرب السورية، إذ وقفت في البداية ضد إصدار أي قرار من مجلس الأمن يدين نظام الأسد على انتهاكات حقوق الإنسان وارتكابه جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية بحق المدنيين السوريين، كما رفضت إحالة التحقيق في مثل هذه الجرائم إلى محكمة الجنايات الدولية في لاهاي، فهل ستسمح روسيا الآن باستصدار قرار أممي يسمح بإنشاء مثل هذه المناطق داخل الأراضي السورية، لا سيما أنها عارضت هكذا فكرة على مدى السنوات الأربع الماضية خلال ولاية أوباما؟ ربما يتوقع الرئيس ترامب أن ينجح بإقناع الروس بالقيام بذلك في صورة صفقة كبرى تقوم على رفع العقوبات عن روسيا والتي أثرت على اقتصادها المتهالك، مقابل أن تقدم روسيا شيئاً بالمقابل في أوكرانيا وسورية.

هذا على المستوى القانوني، أما على المستوى العسكري فيبدو الأمر أكثر تعقيداً، فإنشاء مثل هذه المناطق الآمنة داخل الأراضي السورية يحتاج إلى فرض حظر طيران جزئي على الأقل فوق هذه المناطق من أجل حماية المدنيين واللاجئين الذين سيلجأون إليها، وهذا يفترض منع طيران الأسد والطيران الروسي من التحليق فوق هذه المناطق، وبالتالي تدمير أو على الأقل تحييد كل مضادات الدفاع الجوية والصاروخية لنظام الأسد التي يمكنها أن تهدد هذه المناطق، وهو ما يعني بالتأكيد تدخلاً عسكريا أميركياً أو دولياً محدوداً في الأراضي السورية. وكل القادة العسكريين الأميركيين يعون ذلك، لكن هذا الالتزام الأميركي وحدوده ليست واضحة من قبل الرئيس ترامب في تأكيده على إنشاء هذه المناطق من دون التزام عسكري كبير.

في الوقت ذاته، تبدو تركيا حليفة الولايات المتحدة في حلف الأطلسي المتحمس الأكبر لهذه الفكرة ، فقد زار الرئيس أردوغان دول الخليج من أجل البحث في تمويل هكذا مشروع، كما أن رئيس هيئة الأركان الأميركية بحث مع رئيس هيئة الأركان التركية ليس الحرب ضد «داعش» وإخراجه من الرقة فقط، وإنما أيضاً إمكان إنشاء مثل هذه المناطق عسكرياً في وقت قريب.

لقد كان إنشاء المناطق الآمنة مطلباً للمعارضة السورية منذ عام 2012 عندما ازداد القصف العشوائي ضد المدنيين السوريين من قبل نظام الأسد، وأثيرت قضية التدخل الإنساني في سورية على مدى السنوات الست الماضية بسبب ازدياد أعداد الضحايا المدنيين في شكل كبير وتضاعف أعداد اللاجئين، وترسخ مبدأ حماية المدنيين في ضوء مبادئ القانون الدولي المطبق في مسؤولية الحماية والتي يطلق عليها اختصاراً (R2P).

منذ بداية الثورة السورية في آذار (مارس) 2011 قتلت القوات النظامية السورية ما لا يقل عن 600 ألف شخص، ووفقاً لتقرير أصدرته الأمم المتحدة فإن هذه القوات هاجمت المدنيين باستمرار، وقصفت المناطق السكنية الكثيفة بالمدفعية، ونشرت القناصة والطائرات المروحية الحربية في المدن السكنية، واستخدمت الصواريخ الباليستية ضد المناطق السكنية، وقامت بتعذيب المحتجين الذين تم اعتقالهم، كما تم استخدام الأسلحة الكيماوية ضد المدنيين أكثر من مرة، كل هذه الأفعال تقع تحت مسمى جرائم ضد الإنسانية كما عرفها نظام روما الذي أقامته المحكمة الجنائية الدولية (ICC).

وبموجب مبدأ مسؤولية الحماية، فإن الدولة لا تملك السيادة المطلقة، وتعتبر متخلية عن سيادتها عندما تفشل في حماية مواطنها من الإبادات الجماعية، أو التطهير العرقي، أو جرائم الحرب، أو الجرائم ضد الإنسانية.

يبدو الرئيس ترامب بعيداً تماماً من استخدام هذه اللغة، فهو يريد إنشاء المناطق الآمنة من أجل حماية اللاجئين كما كرر ذلك أكثر من مرة ومنعهم من الذهاب إلى أوروبا أو القدوم إلى الولايات المتحدة، لا سيما مع قراره بوقف برنامج استقبال اللاجئين السوريين في شكل كامل في الولايات المتحدة.

لكن لا بد من التأكيد هنا أن ما حصل في سورية على مدى السنوات الست الماضية يحقق معايير التدخل الإنساني لحماية المدنيين سواء عبر المناطق الآمنة أو غيرها، فالحاجة الآن لتطبيق مبدأ حماية المدنيين تعد رئيسية من أجل وقف الحرب في سورية وضمان انتقال سياسي، وفي الوقت نفسه القضاء على «داعش»، فهذه الأمور الثلاثة مرتبطة في شكل كبير، إذ لا يمكن القضاء على المنظمات الإرهابية في سورية من دون وجود حكومة شرعية تمثل السوريين وتعكس مصالحهم في إنهاء الحرب وضمان الاستقرار السياسي والاقتصادي وهو ما فشلت حكومة الأسد في تحقيقه.

إن مسؤولية الحماية مبدأ من مبادئ القانون الدولي أقره مجلس الأمن، ويمثل تطوراً عميقاً في الوسائل التي يتخذها القانون الدولي لمعالجة الأزمات الإنسانية. وبموجب مبدأ مسؤولية الحماية فإن الدولة لا تملك السيادة المطلقة. وتعتبر متخلية عن سيادتها عندما تفشل في حماية مواطنيها، ففي تقرير للأمم المتحدة نشر عام 2009 قام الأمين العام السابق للأمم المتحدة بان كي مون بتوصيف الأركان الثلاثة التي يقوم عليها هذا المبدأ، أولاً: تقع على عاتق كل دولة مسؤولية دائمة لحماية السكان المقيمين على أرضها، بصرف النظر عما إذا كانوا يحملون جنسيتها أم لا، من الإبادات الجماعية، وجرائم الحرب، والتطهير العرقي، والجرائم ضد الإنسانية، وكل ما يحرض على تلك الجرائم السابقة. ثانياً: تقع على عاتق المجتمع الدولي مسؤولية تقديم المساعدة للدول على الامتثال لواجباتها الواردة في الركن الأول. ثالثاً: إذا ظهر في شكل واضح فشل دولة في حماية شعبها، على المجتمع الدولي أن يستجيب لذلك في شكل حاسم وفي الوقت المناسب، بالاستناد إلى الفصل السادس والسابع والثامن من ميثاق الأمم المتحدة، وباتخاذ التدابير المناسبة سلمية كانت أم غير ذلك. إضافة إلى ذلك، يمكن في حالات الطوارئ عقد تحالفات دولية مشروعة لوقف الانتهاكات الجسيمة للقانون الدولي، حتى من دون موافقة مسبقة من مجلس الأمن.

فهل سينجح الرئيس ترامب فيما فشل الرئيس أوباما في حماية المدنيين السوريين؟ يبدو ترامب أكثر حماسة للتحرك في الملف السوري من أوباما لكنه في الوقت ذاته يظهر كثيراً من الغموض الذي تحتاج السياسات القادمة لإدارته إلى توضيحه.

 

اقرأ المزيد
٩ مارس ٢٠١٧
لعب الأسد وإيران بورقة الإرهاب إذ يقترب من نهايته

في مداخلات كثيرة، كرّر رئيس النظام السوري ومسؤولون إيرانيون وقادة ميليشيات عراقية وميليشيات حوثية يمنية أنهم يحاربون الإرهاب، وكانوا في ذلك يطلقون إشارات ورسائل إلى الولايات المتحدة والمجتمع الدولي بأنهم في الخندق ذاته. واستخدم بشار الأسد مقابلات مع إعلاميين أجانب لمخاطبة الرئيس دونالد ترامب مباشرةً، والقول أن نظامه يمكن أن يتعاون مع إدارة ترامب إذا كان الأخير عازماً على محاربة الإرهاب، أي أن ترامب يحتاج إلى تأهيل كي يستحق تعاون الأسد معه. وفي الاتصالات بين الولايات المتحدة وروسيا كان رفض الأميركيين التنسيق مع النظام السوري معوّقاً للتعاون بين الدولتَين الكبريين، فالأميركيون جنّدوا الأكراد لمقاتلة تنظيم «الدولة الإسلامية» (داعش) لقاء دعم طموحاتهم القومية المتأرجحة بين التفدرل والانفصال، في حين أن الروس لا يملكون مقاتلين على الأرض ويطالبون بإشراك النظام لكنهم يعلمون أن عنوان «قوات الأسد» ينطوي حتماً على وجود قوات لإيران أو تابعة لها.

خلال عهد إدارة بارك أوباما كان هناك نهج مسايرٌ إلى حد التواطؤ مع إيران، وأمكن طهران أن تدفع بالتقارب الضمني مع واشنطن إلى قبول أميركي غير معلن بدور لأتباع إيران في «تحرير» المحافظات العراقية، وصولاً إلى مشاركة ميليشيات «الحشد الشعبي» في معركة الموصل. في الفترة ذاتها كان هناك تغاضٍ أميركي - روسي مشترك عن التقارير الاستخبارية التي تحدّد أدوار الدول والأجهزة في تفعيل «داعش»، ومنها خصوصاً النظامين السوري والإيراني. وعلى رغم الاشتباه بأدوار لدول أخرى إقليمية إلا أن الوقائع على الأرض لم تسجّل أي تناغم بينها وبين «داعش»، إذ كرّس التنظيم كل تحرّكاته وانتشاراته لاختراق مناطق سيطرة المعارضة السورية وإضعاف فصائلها المقاتلة، ومنها تحديداً «الجيش السوري الحرّ». وفيما خاض «داعش» معارك قاسية مع «قوات الأسد»، خلال سعيه إلى توسيع انتشاره بحثاً عن موارد لـ «دولته» المزعومة، لم يمنعه ذلك من التنسيق مع النظام في مناطق عدة قريبة من دمشق أو أخيراً في محيطَي الباب ودرعا. غير أن التنظيم لم يتعرّض إطلاقاً لميليشيات إيران، فلا هو استهدفها ولا هي قاتلته على رغم ما تلهج به أبواق إعلامها.

كل الدول مهمومة بمواجهة الإرهاب، وتنفرد الولايات المتحدة بجعلها من الأهداف الرئيسية لاستراتيجيتها الدولية ومطاردتها المستمرّة لتنظيم «القاعدة»، من دون نسيان مسؤوليتها في نشوء الإرهاب في أفغانستان خلال ثمانينات القرن الماضي. أما إيران فانفردت بهندسة الإرهاب وتوظيفه جزءاً محورياً من استراتيجيتها للهيمنة على العراق وسورية واليمن. ففيما تبنّى نظام الأسد باكراً رواية المواجهة بينه وبين «إرهابيين» قبل زمنٍ من ظهور الإرهابيين الحقيقيين في سورية، كان نظام نوري المالكي يُرجع الصدى لهذه الرواية في تعامله مع اعتصامات المحافظات السنّية في العراق، وبعدما نفّذ الحوثيون انقلابهم على الحكومة الشرعية راحت خطب زعيمهم عبدالملك تروّج لدورٍ لجماعته في محاربة الإرهاب، وفي غضون ذلك كان الأمين العام لـ «حزب الله» الناطق شبه الرسمي باسم المرشد الإيراني يركّز خطبه على خطر «التكفيريين» وعلى قتالهم كـ «واجب جهادي»، بل إن حسن نصرالله أنذر مراراً بأن الاستيلاء على مكة المكرمة هدف لـ «الدواعش». في الحالات الأربع كانت هناك مخاطبة لأميركا بأن مصالحها توجد في كنف أتباع إيران، حتى لو كانت مرفقة بهتافات «الموت لأميركا ولإسرائيل» ولغيرهما.

نظراً إلى السيطرة الإيرانية الكاملة على القرار في بغداد بدا طلب حكومة المالكي مساعدة واشنطن ضد «داعش» مستهجناً، على رغم الاتفاق بين الدولتين، لكن هذه الخطوة جاءت في السياق الإيراني تماماً، لأن «داعش» وُجد لهذا الغرض، اجتذاب أميركا. وبعدما قرّرت واشنطن الاستجابة حددت أمرين: الحاجة إلى حكومة جديدة بمواصفات «وحدة وطنية» فأطيح المالكي، والحاجة إلى قوات برية ما يتطلب إعادة تأهيل الجيش الذي أسسته أثناء احتلالها العراق ووجدته فاقداً الأهلية للقتال. كان المالكي سهر شخصياً على تهميش الجيش وتسهيل إنشاء الميليشيات بتدريب إيرانيين وتسليحهم، وهذه الميليشيات هي التي شكّلت فور سيطرة «داعش» الجسم الرئيسي لـ «الحشد» وصُوّرت كأنها استجابة شعبية عفوية لنداء المرجع السيد علي السيستاني، ليصبح اسم «الحشد» لاحقاً عنواناً لتفريخ مزيد من الميليشيات. وكان الهدف منها إيجاد رديف للجيش وفرضه كأمر واقع لسدّ الحاجة الأميركية إلى قوات برية. وعلى رغم اعتراض الجنرالات الأميركيين وانتقاداتهم سلوكيات «الحشد»، إلا أنهم لم يتمكنوا من استبعاده عن المعارك، إذ إنه يشارك اليوم في الموصل ولا يغيب عن بال أحد في التحالف الدولي كما في حكومة بغداد والجيش والبرلمان أن «الحشد» عقبة كأداء أمام أي تسوية سياسية أو «مصالحة وطنية» مطلوبة بإلحاح لمرحلة «ما بعد داعش».

هذا الإشكال العراقي يوجد في شكل أو في آخر حيثما تدخّلت إيران. إذ تستخدم «حزب الله» لتهميش الجيش في لبنان، ويقول «الحزب» أنه حمى البلد من إرهاب «داعش»، والواقع أنه اجتذبه، بل أدّى خطابه وشحنه المذهبي إلى استفزاز البيئة السنّية كأنه يخيّرها بينه وبين «داعش»، كما أن ممارسته الاغتيالات والترهيب بلغت حدّ تعطيل الدولة بعدما أفسدت الشأن السياسي وتسبّبت في الركود الاقتصادي والاستثماري. أما ميليشيات الحوثي فذهبت أبعد، ففي سعيها إلى السيطرة على السلطة في اليمن قضت على الدولة وفكّكت الجيش ودمّرت الاقتصاد ومزّقت المجتمع، بل دخلت على خط استخدام جماعات الإرهاب عبر مسارَين، أولهما تحالفها مع الرئيس السابق الذي حافظ على خطوط مفتوحة مع البيئة القبلية الحاضنة فرع تنظيم «القاعدة»، والآخر علاقتها مع إيران التي تؤوي فلول هذا التنظيم منذ طرده من أفغانستان وتشرف على روابطه مع فروعه. وإذ دان الحوثيون غارات شنّتها طائرات أميركية أخيراً على مواقع «قاعدية» في اليمن فقد حذّروا من أن هذه الهجمات «لن تؤتي ثمارها المرجوّة» في غياب التنسيق معهم.

وفي سورية، اتّبعت إيران أيضاً سيناريو الاعتماد على الميليشيات مستفيدة من تراجع قوات الأسد وضعفها، وعندما تدخّلت روسيا استنتجت سريعاً ضرورة إعادة تنظيم الجيش وتأهيله بمعزل عن الأسد وحليفه الإيراني. وقد اعتمد الروس أخيراً على الفيلق الخامس الذي أشرفوا على إنشائه في عملية طرد «داعش» من تدمر، بعدما أغضبتهم عودة التنظيم إليها أواخر العام الماضي. ولا يزال الإيرانيون مصرّين على إشراكهم في تحرير الرقّة، معتمدين من جهة على أن «قوات سورية الديموقراطية» (قسد) التي تعوّل عليها أميركا ليست كافية وعلى التجاذب الحاصل بين تركيا حول المشاركة الكردية، ومن جهة أخرى على حاجة الروس إلى أدوات على الأرض لتكون لهم كلمة في توزيع الأدوار ورسم الخطوط الحمر للأطراف كافة. وشكّل تسليم «قسد» مناطق أخلاها «داعش» إلى قوات النظام وحلفائه خطوة ذات دلالة بأن الأميركيين (والروس) يريدون إيقاف تركيا عند حدود الباب، لكن قوات النظام وإيران تعتبر أن سيطرتها على تلك المناطق تفتح أمامها الطريق نحو منبج فالرقّة، لكن القرار في هذا الشأن يتوقف أيضاً على الأميركيين (والروس).

في جولة «جنيف 4» للمفاوضات السورية بدّد وفد النظام الوقت بإصراره على أن تكون محاربة الإرهاب بنداً أولاً في أي جدول أعمال، مع علمه بأن المسألة باتت منذ عام 2014 شأناً دولياً، كما أن المبعوث الأممي ستيفان دي ميستورا ذكّره بأن «داعش» و «جبهة» هيئة فتح الشام (النصرة سابقاً) هما الجماعتان الوحيدتان المصنّفتان دولياً إرهابيّتَين. لكن نظام الأسد وحليفه الإيراني استخدما الإرهاب كورقة محورية حققت لهما مكاسب كثيرة ومكّنتهما من التلاعب بطبيعة الأزمة ومن خداع العالم، لذلك، يريدان الاستمرار في تفعيلها لمواصلة الحرب أو على الأقل لإعاقة الحل السياسي أو لإفساد أي حل. لكن التقدّم في الحرب على «داعش»، من اقتحام الموصل إلى محاصرة الرقّة، قد يقرّب انتهاء صلاحية ورقة الإرهاب وبالتالي اللعب بها.

اقرأ المزيد
٨ مارس ٢٠١٧
ترامب يخذل أردوغان ويساير «أكراد الأسد»

ربما يجب أن نأخذ من تصريح الرئيس التركي أردوغان الأخير حول سورية ثلاث كلمات فقط: «لن نهاجم منبج»، أما بقية كلامه عن التشاور المسبق مع أميركا وروسيا، فيدخل في باب التبرير بعدما قررت واشنطن أن حاجتها إلى الأكراد في الهجوم الذي يجري التحضير له على الرقة أهم، في الوقت الحاضر على الأقل، من معالجة مخاوف تركيا منهم، وبعدما شاركت موسكو في حماية الأكراد في منبج عبر التلويح بمواجهة بين الجيشين السوري والتركي، فيما يبدو أنها خطوات منسقة بين الولايات المتحدة وروسيا.

وكان إرسال قوة رمزية أميركية إلى المدينة لمنع الأتراك من مهاجمتها دليلاً على التزام إدارة ترامب أولوية «القضاء على داعش» التي اعتُمدت في عهد أوباما، خصوصا أن الرئيس الأميركي الجديد يحتاج كثيراً، وبسرعة، إنجازاً خارجياً يغطي تعثره في الداخل حيث يخوض معركة خاسرة حتى الآن مع الصحافة والقضاء وهيئات حماية البيئة، ويتعثر في مقارباته للسياسة الخارجية.

وعلى رغم أن الموقف الأميركي يخذل أردوغان وسعيه الحثيث إلى وأد احتمال قيام أي نوع من «الاستقلال» الكردي في مناطق شمال سورية، فإن واشنطن تعرف أنها لا تستطيع الاستغناء عن أنقرة في المدى البعيد، وأنها لا بد من أن تعيد تقويم سياستها إزاء الأكراد بعد انتهاء معركة الرقة، وهي مهمة قد تكون صعبة وتتوقف على ما سيقرره الأتراك.

ومع أن الأميركيين استثمروا في تدريب الأكراد وتزويدهم أسلحة خفيفة وقدموا لهم دعماً مالياً ولوجستياً، مع معرفتهم بأن «وحدات حماية الشعب» بزعامة صالح مسلم تربطها علاقات قوية بنظام بشار الأسد، فإن الأكراد عملياً يسددون سلفاً ثمن علاقتهم بالولايات المتحدة التي لم تعدهم يوماً بدعم حكم ذاتي لهم، لكنها لم تعلن أيضاً معارضتها لمثل هذا الاحتمال في أي تسوية مستقبلية للوضع في سورية.

وعلى أمل أن «يقبضوا» لاحقاً ولو بالتقسيط، يشارك الأكراد بفاعلية في القوة التي ترعاها أميركا وتحضرها للهجوم على الرقة إلى جانب قوات عشائرية عربية تحت مسمى «قوات سورية الديموقراطية»، ويلتزمون الخطط الأميركية، وكذلك أي اتفاقات يتم التوصل إليها بين الولايات المتحدة وروسيا حول دورهم ومناطق انتشارهم، لكنهم يستغلون في الوقت ذاته علاقتهم بدمشق وموسكو للدفع في اتجاه مواجهة بين الجيشين السوري والتركي تخفف عنهم ضغوط أنقرة. وتلافي مثل هذا الاحتمال كان السبب الرئيس في انعقاد الاجتماع العسكري الثلاثي بين روسيا وتركيا والولايات المتحدة في أنطاليا قبل أيام.

وتعرف واشنطن أن الهجوم على الرقة يتطلب حشداً واسعاً للمقاتلين المحليين على الأرض لأنها غير قادرة على الزج بأعداد كبيرة من الجنود الأميركيين، ومضطرة إلى الاكتفاء ببعض وحدات من القوات الخاصة لقيادة العمليات وتوفير الدعم. لكنها في الوقت ذاته لا ترى في الأكراد قوة رئيسية يمكن الاعتماد عليها في السيطرة على المناطق المستعادة من «داعش»، بسبب ضآلة عدد المقاتلين نسبياً (30 ألفاً في أفضل تقدير) وضعف تسليحهم، وهو رقم بالكاد يكفي لتوفير الأمن في المناطق التي يقيم فيها الأكراد حالياً «إدارة ذاتية».

بل يدرك الأميركيون أنهم ربما يحتاجون إلى نشر قوات تركية في الرقة بعد تحريرها، وأنهم لا يستطيعون الاستغناء عن التسهيلات العسكرية التركية لاستمرار انتشارهم ونفوذهم في المنطقة وموازنة القواعد الروسية في سورية.

وإذا كان الأميركيون حريصين على طمأنة أنقرة إلى أن سياسة تفضيل الأكراد ليست سوى إجراء موقت، وأن العلاقة معها استراتيجية وتتجاوز الحرب على «داعش»، فإن تركيا في المقابل ربما وجدت في الموقف الأميركي الذريعة التي تفتش عنها للامتناع عن المشاركة بقواتها في المعركة، التي يتوقع أن تكون حامية جداً وخسائرها كبيرة على الأطراف جميعاً، على أمل اضطرار الأميركيين إلى طلب مساعدتها في حال تعثرت حملتهم.

اقرأ المزيد
٨ مارس ٢٠١٧
هل تستجيب موسكو؟

ألقى جنرال أميركي متقاعد، اسمه بول فاليلي، مقرّب من إدارة الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، ويزوّدها بدراسات استراتيجية واستشارية، كلمة في مؤتمر عُقد في موسكو، تناول فيها قضايا الشرق الأوسط، وسورية خصوصا، استهلها بحديثٍ عن محاولات الرئيس السابق، باراك أوباما، لضرب مشروع إدارة ترامب تحسين العلاقات الأميركية/ الروسية، بعد ما أسماه "الفوز الساحق وغير المتوقع" للرئيس الجديد في انتخابات الرئاسة، مثل طرد دبلوماسيين روس، وفرض عقوبات على روسيا، وصولا إلى إقالة مستشار الأمن القومي المعين، مايكل فلين، بعد أقل من ثلاثة أسابيع على توليه منصبه.

يبدو أن الجنرال يتبنى أطروحة مادلين أولبرايت وستيفن هادلي حول افتقار النظم القائمة في منطقتنا إلى الشرعية، باعتباره السبب الذي ينجب الإرهاب، ويرى أن هذه النظم دمرت، بالتعاون مع الإرهاب، المؤسسات الوطنية لبلدان المنطقة ولبلدان أجنبية عديدة، وإن تدخّل بعضنا (روسيا!) المنحاز أدى إلى فوضى عارمة في بلاد الشام بشكل خاص، وفي الشرق الأوسط وأفريقيا الشمالية بشكل عام، ما أنتج لنا، والحديث للجنرال، عشرات آلاف المتطرفين الشيعة العرب الذين يدعمهم الحرس الثوري الإيراني في العراق وسورية ولبنان، فضلا عن عشرات آلاف المتطرفين الذين جنّدتهم إيران من شيعة باكستان وأفغانستان، الأمر الذي حتّم ظهور المتطرفين والمتشددين من أهل السنة، لمواجهة هذا التدخل الإيراني غير المسؤول، الذي يسعى إلى إعادة رسم الخرائط من جديد عبر التلاعب بدول المنطقة وشعوبها، وإعادة رسم خريطة سايكس/ بيكو. وليس ما يجري اليوم من حرب ودمار في سورية غير شاهد على ذلك".

بعد هذه المقدمة التي ترى أن الثورات شرعية، لأنها ضد نظم فاقدة للشرعية، يقول الجنرال إن ظهور المتطرفين الشيعة الذين يريدون إعادة رسم خرائط المنطقة بدعم إيراني، هو الذي أدى إلى ظهور التطرّف السني، وخصوصا في سورية، حيث "وصلت الجرائم التي يرتكبها نظام الأسد إلى الحد الذي لا يقبله أي إنسان يمتلك شيئا من الرحمة والإنسانية، وصار لدينا اليوم أكثر من مليون قتيل سوري، سقطوا فداء حقوقهم المشروعة التي سلبها منهم النظام، على مدى خمسين عاما، وأكثر من خمسمائة ألف معتقل سياسي، لا يعرف أحد مصير غالبيتهم، وتسعة ملايين لاجئ، تم تشريدهم قسرا. لذا، من الضروري الإسراع في إنشاء مناطق آمنة، تسمح للاجئين بالعودة إلى بلادهم... ونتمنى على روسيا أن تساعد في حل الصراع السوري، عبر تسويةٍ سياسيةٍ موضوعية، والإقلاع عن دعم طرفٍ صغير، على حساب طرف أكبر، والوقوف على مسافةٍ واحدة من مكونات الشعب السوري... وفي رأينا أن محادثات أستانة راعت مصالح تركيا وإيران، أكثر مما راعت مصالح السوريين الذين من الخطأ الاعتقاد أن تهميشهم وتجاهل مصالحهم سينهي الحرب... سورية وجوارها لن تنعم بالسلام، طالما أن نظام الأسد وحلفاءه الإيرانيين ومليشياتهم الطائفية يمارسون الوحشية والإجرام الممنهج ضد الشعب السوري". لذلك نقول لكم: "الأسد يجب أن يحال إلى التقاعد، لفتح طريق المصالحة والاستقرار في سورية... ومنع تحوّلها إلى حقل تجارب واختبار للمشروع الإيراني، ولسحب قوات إيران ومليشياتها التي استقدمت للقتال هناك، كي نتمكّن من القضاء على تنظيم داعش، وطرده خارج المنطقة برمتها، بينما سيزيد نقيض هذا فاعلية التنظيم في الإقليم وعموم الشرق الأوسط ... لا سيما وأن الحرس الثوري الإيراني وتنظيم داعش يشكلان تهديدا مباشرا لمؤسسات الدولة السورية، ويجب التحرّك الفوري ضدهما كليهما، وهناك خطة موضوعية متكاملة لاستعادة الدولة السورية، كفيلة ببقاء الأقليات وجميع المكونات السورية بعيدة عن الاقتتال والحروب والعنف فيما بينها... أتمنى علي روسيا والولايات المتحدة التحرّك والتنسيق معا في هذا الاتجاه، لضمان السلم والاستقرار في العالم، وتجنب المواجهة بينهما، والمحافظة على ديمومة تعاوننا الاستراتيجي".

هذه الأولويات التي يتحدث عنها الجنرال كانت دوما مطلب السوريين، ويأتي تفهمه أسباب الثورة وحجم الإجرام الأسدي/ الإيراني في الوقت المناسب، ويتفق مع رغبة الشعب السوري في العيش بسلام وتعاون بين جميع مكوناته، كما أن المنطقة الآمنة كانت دوما مطلبا سوريا وضرورة لحماية الشعب من التشرد والحصار، ولضمان حقه في العودة إلى وطنه آمنا مطمئنا، كما يقول الجنرال، خصوصا إذا "أقال" الروس الأسد سلميا، وفتحوا الباب أمام حل يفضي إلى انسحاب إيران وحرسها ومرتزقتها، وإلى القضاء، في الوقت نفسه، على "داعش" ومخاطرها. إذا كان هذا هو الخطة التي طالب الروس بالتعاون لتنفيذها، وهو يحذرهم من نتائج المواجهة، فإن ما يشير إليه من تبدل في الموقف الأميركي تجاه الصراع في سورية، بأبعاده الداخلية والإقليمية والدولية، يصحح سياسات واشنطن، ويضعها على سكة حل، جوهره تحقيق المصالح الروسية والأميركية، وإنهاء الحرب السورية بـ"إقالة" الأسد وإخراج إيران و"داعش" من سورية.

يطرح كلام الجنرال تساؤلاتٍ، منها: ما عساه يكون موقف روسيا؟ هل ستقبل الانفكاك عن إيران والأسد وستستجيب للتحذير من مخاطر عدم التعاون، والتذكير بالحرب العالمية الثانية، وإنجازاتها المشتركة، وبما أعقبها من صراعٍ أطاح الإمبراطورية السوفييتية؟ وهل تعني أقواله أن التعاون الروسي مع إيران وتركيا سيحقق مصالحها وحدها، كما حدث في أستانة، بينما المطلوب تحقيق مصالح موسكو وأميركا والسوريين؟ وهل يقبل الروس صفقة الجنرال التي تعدهم أول مرة بعد غزو سورية بالتعاون في المجال الدولي الذي كان أحد أهم أهداف الغزو، في مقابل الاستجابة لخطته والتعاون في تنفيذها؟ أخيرا: هل ما قاله الجنرال في محفل دولي يعكس رأيه الشخصي، أم هو إشارة مقصودة إلى النهج الذي ستعتمده إدارة ترامب تجاه سورية والمنطقة، وتريد لموسكو أن تلتقي معه في منتصف الطريق، وهل يكون فشل جنيف بداية التعاون بين الجبّارين؟

اقرأ المزيد
٨ مارس ٢٠١٧
ما هكذا تورد الإبل في التفاوض

انبرى معارضون سوريون من الصف الأول إلى مقارنة تكتيك النظام السوري التفاوضي بالتكتيك التفاوضي الإسرائيلي مع الفلسطينيين، ما أثار أسئلة حول المغزى والجدوى.

يبدو أن وراء المقارنة مسعى لتأليب الرأي العام السوري والعربي والإسلامي على النظام بتوظيف المأساة الفلسطينية، التي تتمتع بتعاطف شعبي واسع، بتجاهل تام للتحول الذي حصل في الأوساط الشعبية إزاء القضية الفلسطينية في ضوء استخدام السلطات والأنظمة العربية للمظلمة الفلسطينية، طوال عقود، غطاءً للسيطرة والهيمنة على شعوبها وسلبها حقوقها وحرياتها بذريعة مواجهة الخطر الصهيوني، و «لا صوت يعلو فوق صوت المعركة»، والبطش والوحشية التي واجهت بها شعوبها عندما تحركت للتعبير عن تطلعاتها وطموحاتها في حياة حرة كريمة و «تجاوزها ما فعلته إسرائيل بالشعب الفلسطيني، وهي عدو قومي، مئات المرات»، وفق تقدير لرئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس في حديث له مع معارض سوري.

وهذا ما جعل محاولة التوظيف نافلة وفي غير محلها أولاً، لأن استخدام ورقة إسرائيل، وإن بهدف معاكس لاستخدامات السلطات والأنظمة العربية، بات غير مجدٍ، فالورقة محروقة وعديمة الفائدة، وقد سبق وحاول النظام العزف على العلاقة بين المعارضة وإسرائيل ولم تثمر المحاولة، وثانياً لأن معرفة أولية بأساليب التفاوض وخططها وتكتيكاتها كانت كافية لاكتشاف أن تكتيك النظام التفاوضي مأخوذ منها وله وصف وتسمية: تكتيك «الأسطوانة المشروخة» والذي يبقى متبعه يعيد المواقف ذاتها، حتى يدفع الخصم للتسليم بها أو ينسحب فيحقق لصاحب التكتيك هدفاً مرحلياً هو تحميل الخصم مسؤولية انهيار المفاوضات، الذي قد يكون هدفه الحقيقي من وراء استخدام هذا التكتيك، وتعريضه لضغوط داخلية وخارجية تضطره للعودة إلى المفاوضات بظروف غير مواتية قد تدفعه إلى التنازل.

والمفاوض اللماح، صاحب الخيال الواسع والخصب، قادر على إدراك طبيعة التكتيك وأهدافه والعمل على إفشال خطة الخصم بتلافي الوقوع في كمائنه.

أما المستوى الثاني من المقارنة والذي ركز على استنكار تجزئة الملفات وتمديد الزمن واستخدام القوة لإضعاف الخصم، فينم عن جهل بمجمل آليات التفاوض التي تربط بين الميدان وطاولة المفاوضات والتصرف على الطاولة، وفق مقتضيات الميدان وعلى الميدان خدمة لمتطلبات الطاولة.

لا تكمن مشكلة المعارضة السورية، بمستوييها السياسي والعسكري، في التأخر في توظيف المعطيات والوقائع، بل في التأخر في التقاط التغيرات، الإستراتيجية والتكتيكية، في معادلة الصراع كذلك، وهذا زاد صعوبة تحركها في المواجهة لأنه حد من قدرتها على الفعل في الزمان والمكان المناسبين.

بدأت مشكلة المعارضة في اللحظة التي عجزت عن إدراك طبيعة التدخل الخارجي في الصراع وحجمه، وحقيقة مواقف الدول التي تقدمت لدعمها في مواجهة النظام وهدفها من هذا الدعم: أهو لنصرة الثورة أم للإمساك بها وتسييرها نحو نهايات لا تلتقي، بل لا تتقاطع، مع هدف السوريين في الحرية والكرامة. لم تنظر في خلفيات الدول ومصالحها وأهدافها بل استسلمت لتصورات تبسيطية ومخلة وانساقت خلف هذه الدول من دون تفكير أو تقدير أو تساؤل.

وزاد الطين بلة استمراء قسم كبير من المعارضة، أفراداً وجماعات، لحالة التبعية والاستزلام على خلفية تحقيق منافع شخصية أو فئوية.

كرست هذه الممارسة معادلة سلبية: وحدة شكلية في مواجهة النظام وصراعات داخلية على خلفية التنافس غير الصحي، إما لتحقيق منافع شخصية وفئوية، أو لتنفيذ توجيهات الجهات الخارجية الداعمة، وهذا رتب أولاً انفصالاً بين المستويين السياسي والعسكري، ما أفقد المستوى السياسي فرصة الربط بين الميدان وطاولة المفاوضات خلال مفاوضات جنيف 1 و2 و3، وألغى، ثانياً، فرص توافق داخلي صلب في كلا المستويين، ما جعل المحصلة العملية لجهودهما وتضحياتهما تفاضلية أفقدت المستوى السياسي القدرة على قيادة قوى الثورة وتمثيلها في الخارج، وأفقدت المستوى العسكري القدرة على المحافظة على المكاسب الميدانية التي حققها في مراحل الصراع وتثميرها سياسياً بوضعها تحت تصرف المستوى السياسي، من أجل استثمارها في تحقيق أهداف الثورة في الحرية والكرامة. وهذا، بالإضافة إلى استسلامها لعفوية ساذجة، ما حرم المستوى السياسي من وحدة الموقف والتحرك وفق خطة مدروسة، وحرم المعارضة، بمستوييها السياسي والعسكري، من فرصة خوض التفاوض باعتماد التكتيك الفيتنامي: التفاوض تحت النار، بعد أن نجح الطرف الروسي، حليف خصمها، في استثمار الانفصال بين المستويين السياسي والعسكري وجذب المستوى العسكري إلى مفاوضات من دون مشاركة المستوى السياسي، بل من دون التنسيق معه، وحقق وقفاً لإطلاق النار، وقيّد الفصائل بالتزامات حدّت من قدرة المستوى السياسي على المناورة، وأفقدته فرصة الرفض، خوفاً من فتح المجال أمام مفاوضات منفردة بين النظام والمستوى العسكري، وهذا وضعه في موقف المضطر والمجبر على التفاوض في شروط غير مواتية، وتشجيعه (الطرف الروسي) المستوى العسكري على الانخراط في المفاوضات السياسية، تحت سقف اتفاقاته العسكرية في الآستانة، فوضع المستوى السياسي في موقف حرج، لأنه لم يتم تنفيذ حقيقي لاتفاق وقف إطلاق النار، فأصبح يتفاوض تحت نار الخصم. ولأنه غير قادر على توجيه نقد إلى المستوى العسكري، كي لا يشكك بوحدة وفده شكلاً ومضموناً.

لقد تراكمت أخطاء المستويين السياسي والعسكري ما أدخلهما في مأزق الخروج منه ليس سهلاً حتى لا نقول مستحيلاً.

اقرأ المزيد
٨ مارس ٢٠١٧
لا مفاوضات في جولة جنيف 4

على الرغم من أن الجولة الرابعة من مفاوضات جنيف 4 استمرت تسعة أيام متتالية، إلا أنها لم تكن، في واقع الأمر، جولة تفاوض بين الأطراف السورية، بل كانت لقاءات ومشاورات أجراها المبعوث الأممي الخاص إلى سورية، ستيفان دي ميستورا، بشكل منفصل، مع وفد الهيئة العليا للتفاوض، وما يُعرف بمنصتي القاهرة وموسكو، ومع وفد النظام السوري، وانتهت إلى وضعه أجندة تضمنت أربع سلال، تتعلق بمسائل الحكم والانتخابات والدستور واستراتيجية مكافحة الإرهاب، ويأمل أن يجري التفاوض عليها بالتزامن والتوازي في جولة تفاوضية خامسة، يرجح أن تعقد مع نهاية شهر مارس/ آذار الجاري.

ويمكن القول إن الجولة الرابعة من مفاوضات جنيف لم تسفر عن تقدمٍ ملموس في مسار الحل السياسي الذي يمكنه أن ينهي مأساة السوريين، وأنها، مثل سابقاتها، لم يتم فيها ملامسة جوهر القضية السورية، المتمثل في الانتقال السياسي من نظام الاستبداد إلى نظامٍ يلبي طموحات السوريين في الحرية والخلاص. ولا نستطيع القول إنها رسمت ملامح الجولة المقبلة من المفاوضات وحدودها، إذ لا أحد يضمن أنها ستركز على القضايا الجوهرية الخاصة بالانتقال السياسي، بما يعني إمكانية ظهور الملامح الأولية للحل السياسي، استناداً إلى بيان جنيف في حزيران/ يونيو 2012 وقرار مجلس الأمن 2254 الصادر في ديسمبر/ كانون الأول 2015، والسبب هو عدم وجود ضمانات بأن ينخرط وفد نظام الأسد في العملية التفاوضية بشكل جاد، من دون تسويف أو مماطلة، وأن لا يعود إلى رهاناته السابقة في الحسم العسكري، استناداً إلى الدعم غير المحدود من روسيا ونظام الملالي الإيراني ومليشياته المذهبية، إضافة إلى أن هذا النظام لم يعترف، إلى يومنا هذا، بوجود طرف آخر يتمثل بالمعارضة السورية، حيث جدّد رئيس وفده إلى مفاوضات جنيف الحديث عن وجود إرهابيين بين أعضاء وفد المعارضة، وتمكّن من إدراج بند مكافحة الإرهاب بضغط روسي، لكي يعود، من خلاله، إلى محاولاته السابقة في حرف قطار التفاوض عن سكته، ويخوض فيما خاضه من تفاهاتٍ في جولات التفاوض السابقة. يضاف إلى ذلك كله أن وزير الخارجية الروسي، سيرغي لافروف، تحدث عن المفاوضات، وكأن عملية التفاوض في جنيف محصورة في مجرد مشاركة أعضاء من المعارضة السورية في "حكومة وحدة وطنية"، تحت رئاسة مجرم حرب ورعايته، تسبب في تدمير مدن وبلدات سورية عديدة، وخصوصا مدينة حلب، وتهجير أكثر من نصف سكان سورية، فضلاَ عن قتل أكثر من 600 ألف سوري وجرح وتشويه مئات الآخرين.

وإن كانت الجولة الرابعة من مفاوضات جنيف قد عقدت على وقع الخروق الكثيرة لاتفاق وقف إطلاق النار الذي وقع في أنقرة في 30 ديسمبر/ كانون الأول 2016، ورعاه نظرياً كل من الروس والأتراك والإيرانيين، إلا أنه لم يتم تثبيته ولو يوما واحدا خلال جميع أيام جولة التفاوض، على الرغم من أن المبعوث الأممي قال، في اليوم الأول لانطلاق الجولة، إن الروس طلبوا من النظام السوري وقف إطلاق النار في أثناء فترة التفاوض، لكنه أضاف "في المناطق المتفق عليها"، وعنى ذلك إطلاق يد النظام، لكي يحدّد المناطق التي سيقصفها طيرانه وقتما يشاء، ولم يصدر أي شيء عن وفد الهيئة العليا، أو سواها من الأطراف، سوى مطالبات لفظية من بعض أعضائه بضرورة تثبيت وقف إطلاق النار.

واللافت أن ما يسجل، في هذه الجولة، غياب الطرف الأميركي الذي تحول من فاعل في القضية السورية إلى مراقب، إضافة إلى غياب الطرف العربي، في مقابل حضور قوي للطرف الروسي، جسده حضور وفد ترأسه نائب وزير الخارجية الروسي، غينادي غاتيلوف، الذي التقى جميع الوفود، ومارس ضغطاً قوياً على دي ميستورا لكي يدرج مسألة مكافحة الإرهاب، وما كان من الأخير إلا أن ينصاع للغضط الروسي، ويدرج الإرهاب في سلته التفاوضية الرابعة.

وليس ذلك وحسب، بل إن حديث وفد الهيئة العليا للتفاوض عن إيجابية اللقاء مع غاتيلوف، قابلته الناطقة باسم الخارجية الروسية بالحديث عن الدور السلبي الذي تقوم به الهيئة في عرقلة مسيرة التفاوض، في حين أن الجولة الرابعة برمتها لم تكن تفاوضية على الإطلاق، من حيث إنها تناولت الأمور الإجرائية التي من المفترض أن يقوم بها المبعوث الأممي قبل البدء في الجولة نفسها.

بدا واضحاً في هذه الجولة سيولة (وضعف) مواقف المعارضة السورية التي راح بعض أعضائها يتحدث عن "تنوع"، وليس خلافات بين أطرافها، ولعل وجود المنصّات بحدّ ذاته إضعاف لها، لأنه لا ينم عن التنوع بقدر ما يعبر عن اختلاف الرؤى والتصورات، وفقاً لأجندة الدولة الراعية للمنصة أو الداعمة لمجموعة هؤلاء المعارضين أو لغيرهم، حيث إن ممثل منصة موسكو تحدث علناً، ومن دون مواربة، بعد لقائه دي ميستورا، عن مسارين، أولهما "مكافحة الإرهاب والتنظيمات الإرهابية، وخصوصا تنظيمي داعش والنصرة"، وثانيهما الحل السياسي، مردّداً مواقف موسكو المعروفة حيال القضية السورية، وبالتالي لم يأت مع منصته إلى جنيف للتفاوض من أجل خلاص السوريين الذين أرهقتهم المجازر والجرائم، وباتوا ينامون ويصحون على وقع قصف الطائرات والصورايخ ومختلف أنواع المدافع والراجمات، بل جاء تلبية لرغبة دولة المنصة التي نصبته معارضاً شرساً للمطالب الشعب السوري وليس للنظام الأسدي.

ومع انتهاء الجولة الرابعة من مفاوضات جنيف، بقي وفد المعارضة بانتظار الحصول على تأكيدات أن وفد النظام لن يستخدم سلة مكافحة الإرهاب ذريعةً لإخراج المحادثات عن مسارها، وجاء محصول هذه الجولة شحيحاً، ومتوافقاً مع أنها لم تعد منذ انطلاقها بتحقيق انفراجة أو اختراق ما، وهي بالفعل لم تحقق ذلك. لكن مع انتهائها، راح كل طرف يزعم تحقيق مكاسب محدودة، فيما لم يتمكن دي ميستورا من جمع الطرفين إلى طاولة واحدة، واكتفى بلقاء كل طرف على حدة، وأبعد ما توصل إليه محاولة للاتفاق على شكل جولة التفاوض المقبلة، و"إبقاء الزخم" على الأزمة، كي لا تنسى، والحصيلة التي خرج بها هي "لا ورقة"، حدّد فيها دي ميستورا نقاطاً عامة عن سورية والسوريين، متمنياً "تحقيق تفاهم مشترك أعمق، لكيفية مضينا في الجولات المستقبلية في مناقشة كل قضية".
وقبيل انتهاء جولة التفاوض الرابعة، أعلنت موسكو عن موعد جديد لعقد اجتماع جديد في أستانة في الرابع عشر من شهر مارس/ آذار الجاري، استكمالاً لما باتت تشهده القضية السورية من جولات وتجاذبات ومشادات ما في بين جنيف وأستانة وسواهما، الأمر الذي يدعو إلى الاستشراف بأن مخاضات جديدة ستعصف بالقضية السورية، في سياق محاولات إيجاد حل سياسي لها بين القوى الراعية لمساري أستانة وجنيف... والحبل على الجرّار.

اقرأ المزيد
٧ مارس ٢٠١٧
"الباب"... فرحة تركية لم تكتمل

ذكّرتنا وسائل إعلام تركية، أخيرا، بعادة عثمانية قديمة، هي تركيب مطرقتين على الباب الخارجي للمنزل، واحدة كبيرة لاستخدام الرجال وأخرى صغيرة للنساء. وعلى أساس ذلك، يتم التعامل مع قارع الباب واستقباله. قرع الجنود الأتراك "الباب" في سورية، ليدخلوا بطريقة مختلفة، كلفتهم عشرات من القتلى والجرحى، وبعد ستة أشهر من استماتة تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) في منع الدخول التركي إلى إحدى أهم قلاعه وخط الدفاع الأخير عن الرقة.

قال أحد المسؤولين الأكراد في حزب الاتحاد الديمقراطي السوري، المحسوب على صالح مسلم، والذي تصفه تركيا بالتنظيم الإرهابي، قبل أسبوعين، إن الجنود الأتراك سيجدون أنفسهم يغادرون منطقة الباب بسيارات نقل خضراء، تماما كما حدث في شرق حلب، عندما نقل آلاف المدنيين والمقاتلين إلى مناطق آمنة، في إطار تسوية سياسية تركية روسية إيرانية. وهذه رسالة تعني أن تركيا وحليفها الجيش السوري الحر سيهزمان في المدينة، وأن الوحدات الكردية، أو قوات النظام السوري المدعومة من المجموعات الإيرانية، هي التي ستدخل المكان، وتطرد تنظيم داعش منه، وتحاصر الأتراك وقوات المعارضة السورية، وهذا ما لم يتم، لكننا لا نعرف إذا ما كانت قناعة هؤلاء صالحة المفعول، أو أن ما يقولونه يتجاوز معركة الباب باتجاه مفاجأة أخرى.

حراك النظام السوري وإيران والوحدات الكردية الماركسية لم ينجح في قطع الطريق على خطة درع الفرات، بالوصول إلى الباب، وتحريرها من قبضة "داعش"، لكن هذا الثلاثي يتابع عن قرب تفاصيل قرار تركيا إرسال مزيدٍ من التعزيزات العسكرية إلى شمال سورية، وهي خطوة أبعد من أن تكون تهدف إلى دعم الوحدات العسكرية الموجودة هناك، بل التجهيز للمرحلة التالية، وهي التقدم نحو مدينة منبج لتسلمها وضمانة انسحاب الوحدات الكردية منها إلى شرق الفرات، كما سبق وتعهدت واشنطن لأنقرة. هل سيكون هناك ردّا على التحرّك التركي أم إن أنقرة حصلت على الضوء الأخضر الأميركي والروسي في منبج أيضا، وهذه كانت النقطة الغامضة حتى الأمس القريب؟

استطاعت القوات التركية، وبالتنسيق مع الجيش السوري الحر، في عملية "درع الفرات" التي أطلقتها في 24 أغسطس/ آب الماضي، وبعد 185 يوما تطهير "الباب" من "داعش". ربما أغضب إنجاز العملية واشنطن التي ردّدت دائما أن قوات حماية الشعب الكردية هي الوحيدة التي تقاتل تنظيم الدولة الإسلامية، وأنها وحدها القادرة على دحره. وتعرف واشنطن جيدا أن أنقرة التي دخلت المدينة مضحيةً بعشرات القتلى والجرحى والخسائر المادية لن تساوم، بعد الآن، على تغيير في الخطط والاتفاقيات المتفاهم عليها، وأن الأتراك لن يتأثروا كثيرا برسالة واشنطن عبر إرسال كبار ضباطها إلى عين العرب (كوباني)، عشية الإعلان عن تحرير الباب، وفشل اقتراب بشار الأسد وصالح مسلم منها لالتقاط الصور التذكارية حتى.

تعرف واشنطن أيضاً أن تركيا لن ترضخ لأية عملية ابتزاز أو ضغوط وهمية، مثل القول إن سماح الأميركيين للأتراك بدخول منبج سيتسبب بانهيار العلاقة بين الإدارة الأميركية والأكراد، وسينعكس ربما على مستقبل عملية "غضب الفرات" الكردية في الرقة. الخطة التي تطرحها تركيا وتتمسك بها تقوم على مواجهة كل من يحاول عرقلة أي تنسيق أميركي تركي أو تركي روسي أو تفاهم ثلاثي بين هذه الدول، يشمل خطة محاربة "داعش" في الرقة ورفضها الذهاب وراء حساباتٍ أو عروض سياسية ضيقة، حتى ولو وجدت نفسها وجها لوجه أمام خط تماس مباشر مع طهران، والمحسوبين عليها في سورية.

هل تريد تركيا مثلا إقناع إدارة ترامب قبل الإعلان عن خطة وزارة الدفاع (البنتاغون) في محاربة "داعش" المرتقبة بفوائد التنسيق التركي الروسي الأميركي في الرقة، وبأنه قد يفتح الأبواب أمام تنسيق إقليمي أوسع في التعامل مع ملفات أخرى؟

هناك في تركيا من يقول إنه لو لم تذهب أنقرة، حتى النهاية، في معركة الباب، لكانت اليوم تعض أصابع الندم، وتدفع ثمن تردّدها في منع التمدّد الكردي نحو كانتون عفرين، والسقوط في مصيدة علاقتها بداعش الذي استهدف المدن التركية بعشرات العمليات الإرهابية. هناك في تركيا من يقول أيضا إن ابتعاد أنقرة عن إدارة أوباما في سياستها السورية هو الذي أوصلها إلى ما هي عليه اليوم في شمال سورية. تتحدث القيادات السياسية التركية عن استعدادها للذهاب إلى الرقة، لكنها تصر على أن الطريق إلى هناك، لا بد أن تكون عبر منبج، وهذا ما ناقشته، قبل أيام، مع نائب الرئيس الأميركي ورئيس الأركان ورئيس جهاز الاستخبارات، وهي تراهن على مصداقية أميركية وتفهم روسي، فماذا حدث؟

سيناريوهات كثيرة تتطاير في الأجواء حول ما بعد الباب. تصر تركيا على سيطرة الجيش السوري الحر على منبج، وتضييقَ الخناق على قوات صالح مسلم، ومحاصرته في شمال شرق سورية أكثر فأكثر، فهل تساوم الإدارة الاميركية على طرح التخلي عن حليفها المحلي الوحيد في سورية، في مقابل صفقات جديدة عقدتها مع تركيا؟

لم تتأخر الإجابة كثيرا.
كشفت وسائل الإعلام الدولية، أخيرا، عن الاهتمام الأميركي المتزايد بتسليح "قوات سورية الديمقراطية" وتجهيزها لمعركةٍ ما. في العلن هي معركة الرقة ضد تنظيم داعش، في الخفاء قد تكون معركة التصدي للقوات التركية في منبج، وبالتالي إبقاء مشروع ربط عفرين بالقامشلي في غرفة الإنعاش، بانتظار التحولات العسكرية والسياسية في سورية. لن يتراجع الحلم الكردي في إقامة الاقليم المستقل في شمال سورية، ما دام هناك دعم أميركي وروسي لوحدات القوى الديمقراطية، إلا إذا كان الأكراد سيقبلون بنصيحةٍ، تهبط عليهم من السماء، تدعوهم إلى إعلان كيان سياسي موحد، على الرغم من العائق الجغرافي، كما هي الحال في الضفة الغربية وقطاع غزة مثلا، أو ربط الكانتونات ببعضها، جنوب الباب، عبر خدمات مباشرة يقدمها النظام السوري لها، بهذا الخصوص، بطلب روسي أميركي.

وكانت الحسابات، في تركيا، تبني على الشكل التالي: وصول الجيش السوري الحر إلى الباب لا يعني، بعد الآن، مجرد إعادة الاعتبار إلى وحداته التي عانت من انقساماتٍ وشرذماتٍ واستهداف، بل ضرورة إشراكه في المعارك العسكرية المحتملة ضد "داعش"، لإفشال مشروع صالح مسلم الذي كان يساوم على قدراته في الجمع بين المتناقضات الكردية في سورية والعراق، ووضعها على طبق من فضة أمام اللاعبين الكبار. من هنا، تبرز مسألة تذكير تركيا بعضهم بخطتها التي تضع اللمسات الأخيرة عليها، وتهدف إلى تحريك آلاف المقاتلين العرب والأكراد الذين تدربوا في مخيماتٍ أعدت في أربيل ومناطق الحدود التركية السورية بين أورفة وغازي عنتاب وقلب الأناضول لإرسالهم إلى شرق الفرات، أي عين العرب والقامشلي، وهي المناطق التي أجبروا على مغادرتها، بسبب تهديدات حزب الاتحاد الديمقراطي وقمعه لهم. ومن أسباب زيارة مسعود البرزاني رئيس إقليم كردستان العراق، مسعود البرزاني، تركيا، أخيرا، مناقشة التفاصيل الأخيرة لهذا التحرك.

لكن التفاهمات الأميركية الروسية، أخيرا، أمام التعنت التركي في منبج جاءت سريعة وموجعة حقا. لا غبار على الحرب التركية على "داعش" في الباب، لكن موضوع تسليم منبج إلى تركيا مسألة أخرى، لا يمكن التساهل حولها. سنلتزم بوعودنا المقطوعة للأتراك بسحب الوحدات الكردية من منبج، لكننا سنسلمها لقوات النظام السوري، لأننا نحتاج إليهما معا ورقة ضغط محلي وإقليمي. منطقة آمنة تريدها تركيا في شمال غرب سورية لا بد أن تقابلها منطقة آمنة أخرى في شمال شرقها، تكون مقدمة للكيان الكردي المستقل، وعلى تركيا أن تقبل بهذا القرار الصادر عن موسكو وواشنطن، وتلتزم به.

كادت فرحة تركيا في الباب أن تكون كبيرة، لولا مفاجأة منبج التي ستدفع أنقرة إلى الرد، وخياراتها ستكون أصعب، هذه المرة، بين قبول ما يجري أو تحريك أحجار جديدة على رقعة الشطرنج السورية.
ساعة الصفر في معركة الرقة، وما تقوله أنقرة حول التفاهمات التركية الأميركية الروسية، قد تنقلب كلها رأسا على عقب، ليس بسبب قدرات "داعش" العسكرية القتالية، بل بسبب ما يحاول بعضهم فرضه على تركيا في منبج، والورقة الكردية السورية، وهي قد تتحول إلى مفاجاة أخرى للأتراك عندما نرى أن موسكو وواشنطن قرّرتا الاستفادة من الوحدات الكردية وقوات النظام السوري، بدلا من المساهمة التركية.

اقرأ المزيد
٧ مارس ٢٠١٧
الحل القريب والسلام البعيد!

يتشاءم كثيرون في شأن مسار المساعي الرامية إلى إحلال السلام في سورية والتباطؤ الشديد والمشبوه في جهود الأمم المتحدة، وعلى رغم الغموض غير البنّاء في مواقف الدول والتأخر في حسم الأمور بعد الجولة الرابعة من مفاوضات جنيف، فإن كل الدلائل تشير إلى أن الأمور وصلت إلى مرحلة القرار والبحث عن مخارج لإيجاد حلول قريبة تكرس الأمر الواقع وتوقف الحرب، ولكنها بعيدة من السلام الكامل.

ويعلم الجميع أن أي حل لن يبصر النور من دون حصول اتفاق بين الولايات المتحدة وروسيا يضمن المصالح ويحد من أخطار استمرار هذه الحرب التي ستدخل عامها السابع خلال أيام، ومعها، في شكل أو في آخر، الحروب الدائرة في العراق وليبيا واليمن.

من هنا الترقُّب والحذر بانتظار ما ستؤول إليه القمة المنتظرة بين الرئيس الأميركي الجديد دونالد ترامب والقيصر الروسي فلاديمير بوتين لمعرفة ما سيتم الاتفاق عليه من صفقات وتبادل مصالح، والتمهيد لقيام نظام عالمي جديد يحل محل نظام بائد أثبت فشله بعدما نجح في إسدال ستار من الأوهام على مختلف حروب العالم وأزماته، وفي مقدمها الشرق الأوسط، ما أضعف الأمم المتحدة وأوصلها إلى درجة الجمود التام.

هذا الاتفاق المنشود قد يهمّش أدوار بعض القوى العالمية والإقليمية، أو يحد من جموحها وتدخلاتها، لكنه لن يتمكن من إلغاء دورها في السلام والحرب. كما سيكون من الصعب إنكار وجودها في ساحات الميادين ومراكز القرار، ما يمنحها القدرة على زرع ألغام أمام طرق الحل لعرقلة مسيرته، وفي بعض الأحيان تخريبه وافتعال أحداث وإشعال نيران قد تؤدي إلى قلب المائدة على القوتين العظميين.

لهذا، من المنتظر العمل بأسلوب التدرُّج في المسيرة بدءاً من وضع آلية لوقف إطلاق النار برعاية أميركية- روسية ثم السماح بانضمام القوى الدولية المؤثرة إليها، مثل الصين ودول أوروبية، لتصل أخيراً إلى الدول العربية الرئيسية والدول الإقليمية، مثل إيران وتركيا وإسرائيل.

إلا أن هذا السيناريو أمامه عوائق عدة ومشكلات جمة ناجمة عن وجود منظمات إرهابية ومتطرفة في الميادين، يقابله ما أعلن من سياسة ترامب المتعلقة بهذه القوى، وطموحات بوتين الواضحة ومطالبته بمقايضة في أوروبا، وتحديداً في أوكرانيا والقرم.

فبالنسبة إلى إسرائيل، اتخذ ترامب الموقف المعرقل للسلام وقدم الدعم اللامحدود لجنوح اليمين الصهيوني المتطرف، ووعد بنقل السفارة الأميركية من تل أبيب إلى القدس المحتلة لتثبيت شرعية الضم. أما بالنسبة إلى موقفه المستهجن من رفض حل الدولتين الفلسطينية والإسرائيلية، فقد تراجع عنه قليلاً بقوله إن التوصل إلى هذا الحل هو في أيدي الطرفين، بعدما تبلغ بأن مثل هذه المواقف ستؤدي إلى ارتفاع حدة التوتر في المنطقة وازدياد موجات التطرّف والعنف، وأن الحل الوحيد الآمن يجب أن يقوم على إيجاد سلام شامل وعادل في الشرق الأوسط لتحقيق الاستقرار وتأمين المصالح، علماً أن أي تأخير أو تصعيد سيفتح الباب أمام انفجار واسع ويمنح المتطرفين الذرائع لتبرير أفعالهم.

بالنسبة إلى إيران، تبدو العقبات أكبر لأن طريقها معبدة بحقول الألغام بسبب تصميم ترامب على التصدي لها وإعادة النظر في الاتفاق على الملف النووي، ما ستكون له انعكاسات على المنطقة، خصوصاً في سورية ولبنان واليمن والعراق، بحيث ستكون المواجهة في ساحاتها أكثر حدة.

في المقابل، تتمثل العقبات في مطامع إيران الامبراطورية، وسعيها إلى مد نفوذها على امتداد العالمين العربي والإسلامي، وفقاً لشعار «تصدير الثورة» وما سبّبه من مواجهات وما سيشعله من فتن طائفية ومذهبية بين المسلمين السنة والشيعة.

بالنسبة إلى تركيا، ما زال موقفها متأرجحاً بين واشنطن وموسكو. وبين طهران والدول الخليجية، فقد انتقدت إيران أخيراً لسعيها إلى مد نفوذها نحو الدول العربية وتهديد أمنها، على رغم الاتفاق معها على حلول، بينها اتفاق آستانة في شأن الحرب السورية، والتعاون الاقتصادي والسياسي ومنع قيام دولة كردية مستقلة في شمال سورية.

هذا التأرجح سيؤدي إلى زيادة حدة التنافس بين الدولتين ومحاولة حصد أكبر مقدار من المكاسب قبل أن تحين ساعة القرار. كما أن سيطرة تركيا على أجزاء واسعة من شمال سورية ستمنحها دوراً أكبر في الحل ورسم خرائط جديدة وتحديد مناطق النفوذ، لكنها لن تساعد على إحلال السلام واحترام سيادة سورية ووحدة أراضيها. فالمخاوف تزداد من مؤامرة التقسيم ومن تقاسم الحصص والغنائم بعدما أمنت روسيا نصيبها وحققت مطامعها في الوصول إلى المياه الدافئة بإقامة قاعدة جوية في اللاذقية وأخرى بحرية في طرطوس، إضافة إلى عقود النفط والغاز على الساحل السوري، كما حصلت الولايات المتحدة على حصص مماثلة في الهيمنة على الثروات النفطية في شمال العراق وسورية، فضلاً عن الهيمنة السياسية.

في المقابل، تكرست سيطرة الأكراد على مناطق في الحسكة والقامشلي لتشكل عائقاً أمام الحل المنشود، ما يتطلب دراسة مطالبهم بروية وحكمة بعيداً من التشنج والتعصب، لأن فتح الباب أمام الفيديراليات والكيانات المستقلة سيؤدي إلى انهيار الدولة واستمرار الحرب إلى ما لا نهاية، وتعميم كوارث التقسيم وتساقط الدول الواحدة تلو الأخرى وكأنها أحجار لعبة الدومينو.

إلا أن أخطر معرقل للسلام، ومعه الحلول المعدة، هو وجود التنظيمات المتطرفة والإرهابية وخلاياها النائمة وسيطرتها على مناطق واسعة، على رغم مضي سنوات على بدء ما سمي»الحرب على الإرهاب». فالقضاء عليها يحتاج إلى التصميم والإرادة والتخلي عن التباطؤ والغموض المشبوه، كما يحتاج إلى وقت طويل وقيام تحالف دولي حقيقي لإنهاء المعضلة واجتثاث أسباب هذه الآفة وجذورها.

في ظل هذه الأجواء الملبدة بالغيوم السوداء، تتسارع الجهود للتوصل إلى تسويات لا تشفي ولا توصل إلى أي نتيجة إن لم يتم الوصول إلى الأعماق وفرض حلول ناجعة لإقامة سلام دائم وثابت لا يهتز عند أول هبة ريح. فكل الأحاديث والتسريبات تحكي عن حلقة مفرغة تركز على تثبيت وقف إطلاق النار في سورية أولاً، ثم في اليمن وليبيا، وحسم معركة الموصل في العراق، على أن يترك الباقي في المجهول، على أمل ترك القضايا الأساسية والحيوية للمستقبل.

وهذا ما عانينا منه منذ ٦٩ سنة بالنسبة إلى القضية الفلسطينية حيث كانت المشاريع والمبادرات الأجنبية والاتفاقات، وآخرها اتفاقية أوسلو، تركز على قضايا هامشية وثانوية وتترك القضايا الأساسية والحيوية إلى مفاوضات الحل النهائي التي لا يعلم إلا الله عزّ وجل متى ستعقد ومن سيفرض الحل ويجبر إسرائيل على التخلي عن تعنتها ووقف مؤامرة التهويد والضم.

لهذا، أتفق مع مقولة أن الحلول الجزئية جاهزة للطرح بعد أن تطبخ على نار هادئة، ليس لإنهاء الحرب بل لإدارة مسيرتها المقبلة وتجميد الأوضاع القائمة كما هي على الأرض في الميادين وكواليس السياسة، في انتظار معرفة درجة حرارة لقاء ترامب - بوتين.

لكن هذا لا يمنع من الجزم بأنه إذا كانت الحلول جاهزة، فإن من الحكمة الجزم أيضاً بأن السلام بعيد المنال، دونه ألغام وعوائق وطموحات ومطامع وصراعات ومخططات خبيثة تسعى إلى استمرار الحروب وجني ثمارها على حساب الشعوب المغلوب على أمرها.

الإنسان العربي هو الذي يدفع الثمن وسيدفعه مضاعفاً إن لم يتم التوصل إلى سلام شامل ونهائي يمهد الطريق أمام الإعمار وإعادة بناء البشر والحجر ويحقق الأمن والاستقرار، فيما تتعالى في السماء نداءات الأبرياء: كفى استهتاراً بحياتنا ودمائنا وأطفالنا... وكفى حروبكم العبثية. فهل من صاحب ضمير يلبي النداء؟

اقرأ المزيد
٧ مارس ٢٠١٧
«الحرس الثوري» وجه إيران الحقيقي

احتل الجنرال محسن رضائي، القائد الأسبق للحرس الثوري الإيراني، الأمين الحالي لمجلس تشخيص مصلحة النظام، مكاناً في أخبار هذا الأسبوع بتصريحين يعكسان معاً صورة عن بعض ما يجري داخل أروقة الحكم في طهران، يتعلق أولهما بما وصفه بـ «انهيار إيران من الداخل»، وثانيهما بتهديده الولايات المتحدة بأن إيران ستجبرها على تنفيذ تعهداتها في الاتفاق النووي.

على رغم أن رضائي يشغل منصب أمين مجلس تشخيص مصلحة النظام منذ عام 1997، وهو أحد مؤسسات الحكم التي بُنيت بطريقة معقّدة لتضمن سيطرة نظام الولي الفقيه على مفاصل الحكم، فإن الوصف الأكثر التصاقاً به هو قائد الحرس الثوري سابقاً. ولا يأتي هذا من فراغ، فالحرس الثوري ليس مؤسسة يلتحق بها منتسبوها لتكون محطة في حياتهم المهنية، بل أيديولوجية متشددة تحكم الشخص وتبقى هوية له مهما تنقّل في وظائف الدولة، وغالباً ما يصبح «مندوباً» للحرس في أي مكان يحل به، حاملاً معه التطرف المغلف بقداسة دينية، والمزايدة على أي صوت للتعقل والرشد باستخدام الشعارات الثورية الزاعقة.

وفي تصريحه الأول، قال رضائي الإثنين الماضي في خطاب عام: «إن سوء الإدارة والفساد والانحرافات أشبه بقنابل موقوتة، وإذا لم نواجهها فإن إيران ستنهار من الداخل». والفساد والفشل والتردّي الإداري العام ليس بالأمر الغريب في إيران، ونادراً ما تخلو ساحات المحاكم من قضايا للتربّح وسوء استخدام السلطة وسرقة المال العام التي يتورط فيها كبار مسؤولي الدولة وقادتها. وتحتل إيران مرتبة متأخرة في تقرير يخص مستويات الفساد تصدره منظمة الشفافية الدولية، وهو تقرير يحظى بصدقية كبيرة، إذ حلت إيران في المرتبة 136 من مجموع 175 دولة شملها التقرير الأخير للمنظمة. وبصورة عامة فإن الحديث عن ضعف إيران من الداخل ليس بالجديد، فالمؤشرات السياسية والاقتصادية والاجتماعية داخل إيران مثيرة للرثاء، وسبق أن كتبتُ وكتب غيري عن هذا الأمر، لكن صدوره هذه المرة عن شخص مثل محسن رضائي يعني الكثير.

تحدث رضائي كذلك عن أن «المسؤولين يجب أن يهتموا بالداخل بقدر ما يهتمون بتوسيع نفوذ إيران الإقليمي»، وهو هنا يستخدم بصراحة ووضوح كلمة «النفوذ». وكما هو جليّ، فإن رضائي لم يدعُ إلى تقليل الاهتمام بتوسيع «النفوذ» أو نقل الاهتمام بالداخل على حساب الخارج، كما تبادر إلى أذهان بعض من تناولوا حديث رضائي. والحقيقة أن كلمة «النفوذ»، على رغم أنها ذاتها ليست بالكلمة المقبولة، هي تعبير مخفف عن كلمات أو معانٍ أدق مثل «الهيمنة» أو «التدخل» أو «السطوة».

يرتبط بحديث رضائي حوار تلفزيوني للجنرال سعيد قاسمي، انتشر قبل أيام في الإنترنت. وقاسمي قائد آخر من قادة الحرس الثوري، يتسم بأنه أكثر صراحة في إعلان الوجه الإيراني الحقيقي، وهو يعرب في اللقاء عن رغبته في أن يقاتل شخصياً في اليمن، موضحاً أن من الأمور الطيبة أن يكون الإيرانيون في سورية مدافعين عن «حرم السيدة زينب»، لكن الهيمنة على باب المندب، كما يرى قاسمي، جزء من «الدفاع عن حرم السيدة زينب»، بل إن قاسمي يدعو أيضاً إلى القتال في مضيق «جبل طارق». وهذا الحديث المهووس يعكس الرغبة الأصيلة لدى الحرس الثوري، وهو وجه إيران الحقيقي، في السيطرة على العالم العربي كاملاً كما يرسمه المثلث الجغرافي الواقع بين باب المندب ودمشق ومضيق جبل طارق.

واللافت في حديث قاسمي أنه يتحدث عن «سقوط باب المندب في يد الشيعة»، متجاوزاً فكرة المواطنة إلى الطائفة، ومؤكداً أن الشيعة في كل مكان جزء من إيران. ولم يتردد قاسمي في أن يقول ساخراً إنه من الجيد أن تقول الحكومة الإيرانية إنها لا شأن لها بالأمر، وإن يمنيين هم من قاموا بذلك، ولكن هل هناك من لا يعرف الحقيقة؟

المشترك بين حديث قاسمي وحديث رضائي هو الإشارة إلى الفساد في إيران، وإذا كان رضائي تناول الفساد السياسي والإداري فإن قاسمي تناول الفساد الأخلاقي، مشيراً إلى «المنحرفين من رجال حكومتنا الذين يسهرون مع النساء»، وأن هؤلاء هم المؤمنون بفكر التصالح الذي يُعدُّ ضعفاً. ومن هنا يمكن فهم حديث رضائي في إطار المزايدة وتسجيل المواقف، وحصار السياسيين في دائرة الاتهام، ومنع أي صوت غير صوت «الحرس الثوري» بتطرفه وهوسه من الظهور. ولذا أعتقد أنه يجب النظر إلى حديث رضائي من هذه الزاوية أكثر من سواها، وأنه وإن أوضح حقيقة الهشاشة الإيرانية وقابلية الدولة للانهيار والسقوط، يدخل في باب تغليب نبرة التطرف والتشدد، وتهديد كل من يفكر بغير طريقة «الحرس الثوري» داخل إيران.

التصريح الثاني لمحسن رضائي هذا الأسبوع جاء تعقيباً على خطاب الرئيس الأميركي دونالد ترامب أمام الكونغرس الثلثاء الماضي، الذي قال فيه إنه فرض عقوبات على شخصيات وشركات إيرانية، وإنه سيواصل تحذير إيران. فكتب رضائي في موقع التواصل الاجتماعي «إنستغرام» قائلاً: «إن تحذيراتكم هي عبارة عن حيل سياسية بغية التنصل من تعهداتكم في الاتفاق النووي، كن على ثقة بأننا سنقوم بعمل يجعلك تنفذ جميع تعهداتك في الاتفاق النووي بدلاً من التحذير».

التهديدات العلنية المتبادلة بين إيران والولايات المتحدة ليست جديدة، واعتادت إيران التصعيد في حديثها المعلن إلى واشنطن، واتخذت منه وسيلة للإيحاء بالقوة والمنعة، على رغم أنها تقدِّم على الدوام إشارات ودّ تحرص على إخفائها، ومع ذلك يجب أن نتوقع جديداً، فدونالد ترامب، على رغم اللهجة الهادئة في خطابه الأخير، لا يبدو عازماً على ترك إيران تهنأ بما غنمته بفضل التراخي والحسابات الخاطئة لإدارة أوباما، وإيران لا تبدو مستعدة تماماً لمثل هذا التحول، وهي تخفي ذلك باللهجة العدائية وإظهار الاستعداد للمواجهة، وهنا مكمن خطر يجب أن تستعد له دول الخليج بعد حديث محسن رضائي في شكل خاص.

من المؤكد أننا في الخليج مستعدون لمواجهة سلوك إيران الذي لم يعد غريباً، وأن لدينا وسائل للردع وللرد، لكن تحذير رضائي من «عمل» يجبر ترامب على إنفاذ الاتفاق النووي قد يحمل في طياته نيات إيرانية بخلق بؤرة جديدة للتوتر والفوضى في المنطقة، من طريق الأذرع والميليشيات والواجهات السياسية التي تتخذ قراراتها بناء على ما يخدم مواقف طهران ويخفف من مآزقها في اللحظات التي يشتد فيها طوق الحصار. وقد يصل الأمر إلى إطلاق سلسلة غير مسبوقة من العمليات الإرهابية لمناطق ومنشآت حيوية، أو إذكاء صراعات طائفية تجر وراءها مواجهات وصدامات في أكثر من مكان، أو تهريب أسلحة نوعية إلى ميليشيات تابعة لها لتستخدمها ضد فصائل وجماعات أخرى بما يكسر توازنات قائمة، أو حتى العمل على إشعال حرب في واحدة من الدول التي تمتلك فيها نفوذاً.

إن الجوار العربي والخليجي هو الساحة التي قد تنفذ فيها «العمل» الذي هددت به، لتربك حسابات ترامب وتؤجل المواجهة المزمعة أو تُجبره على التعاون معها، وهو لا يحدث إلا في ظروف غير طبيعية، كما في حرب العراق عام 2003 على سبيل المثال. ومثل هذه الاحتمالات تحتاج من دول الخليج إلى مزيد من التحسب والتأهب، ووضع الخطط لمواجهة الشطط الإيراني الذي قد ينجم عن دقة الوضع الذي تجد طهران نفسها فيه الآن، بدءاً من القدرة على ردع إيران عن تنفيذ خطط معينة لإثارة مزيد من الفوضى، وانتهاء بتوجيه ردود حاسمة وفورية على أية خطوة إيرانية تتجاوز خطوطنا الحمراء.

اقرأ المزيد
٦ مارس ٢٠١٧
عن منزل زين الذي «عُفش» في حلب... وعن مُعفِّشين آخرين

«التعفيش» عبارة انفرد بها السوريون لوصف ما أصاب منازلهم وأحياءهم ومؤسساتهم في أعقاب سقوطها بيد النظام وشبيحته، من نهبٍ منظمٍ تتعدى أهدافه السرقة المباشرة إلى هز وخلخلة علاقة المنهوبة منازلهم ومدنهم بالمكان الذي نشأوا فيه. إنه نوع من الاغتصاب الرمزي يُقدم عليه منتصرون أشرار ويهدف للإتيان على ما تبقى من علاقة بين المهزومين وبين مطارحهم. فالمكان المُغتصب لم يعد هو نفسه الذي غادروه لتوهم. المنازل لم تعد تلك التي راكموا فيها وقائع أيامهم وذكرياتهم. لقد حل فيها آخرون. أثاثات المنزل، وحولوا غرفة النوم إلى غرفة جلوس ربما. الأسِرّة جرى استبدالها، ذاك أن من «عفش» هو غير من احتل المنزل، فالفعلان غالباً ما يفصل بينهما وقت، وغالباً ما يتولى هذا الوقت قتل ما تبقى من أثر حياة أهل المنزل.

غالباً ما يشيح المُغتصبة منازلهم وجوههم عن منازلهم التي جرى تحويلها منازل لآخرين. هذا نوع من رد الفعل يشبه إلى حد ما فعلته المرأة البوسنية التي أنجبت طفلاً من مغتصبها، فقتلته.

«التعفيش» ليس سرقة موصوفة، على ما تقول التصنيفات القانونية. «التعفيش» لحظة هستيرية، يفقد فيها المُعفِش توازناً كان تأسس فيه جراء عيشه تحت سلطة تقهر ميله الأصلي إلى السرقة. الأخلاق أيضاً قد تكون وراء امتناعنا عن السرقة، لكن أخلاق الأفراد تتهاوى في لحظة الهستيريا الجماعية، ومشهد «التعفيش» الجماعي يُحِل في الأفراد غريزة الاستحواذ محل القيم التي تعيق السرقة. وبهذا المعنى فإن سارقاً صغيراً موجود في كل واحد منا، سارقاً ينتظر أن ينبعث في أقرب غزوة تُقدم عليها العشيرة النائمة في لاوعينا.

للسوريين سبق التسمية، أي «التعفيش»، ذاك أنهم يفوقون غيرهم من «المُعفَشين» في القدرة على اجتراح العبارة من جذرها. ففي لبنان عَفشنا وعُفشنا كثيراً، لكننا ضللنا سبيل العبارة. في العراق وخلال سقوط المدن في 2003 جرى التعفيش على نحو طوفاني، فنُهبت مدن بأكملها، وسمي الفعل «سلباً» لا تعفيشاً. الأرجح أن العبارة تُشتق من خبرات أصحابها. عفش السوريين شعيرة اجتماعية دافئة، والفعل استهدف في السوريين ذاك الدفء الذي راكمه عفش منازلهم. في العراق سمي الفعل سلباً وأضفيت عليه عبارات من نوع «تسليب» وهذا امتداد لطقس الغزوات العشائرية وما يرافقها من «تسليب مشروع» تتحول فيه المسروقات إلى مغانم. أما في لبنان فلم يلتفت السارقون إلى عبارة بعينها ولم تسعف مخيلة المسلوبين أصحابها بعبارة خاصة. صديقتي الحلبية زين أخبرتني أن بعض ما تبقى من أغراض منزل أهلها في حلب بعد تعفيشه وصلهم إلى إسطنبول. صور العائلة وأوراق ووثائق ثبوتية، أعطتها زوجة مُحتل المنزل، والأرجح أنه غير مُعفشه، للجيران الذين أرسلوه إلى أهلها في إسطنبول. ولطالما ألح علي مشهد منزل أهل زين، الذي لا أعرفه، ولطالما استدرجني وهمه إلى منازل حقيقية عُفشت أمام ناظري في حروبنا اللبنانية المتعاقبة، ولعل أشدها قسوة يوم أحرق الإسرائيليون منازل حارة عائلتنا في بلدتنا في جنوب لبنان. لم أعد أذكر ما إذا كان قد سبق الحرق تعفيش، ففي حينه كان للإسرائيليين شبيحتهم المحليون أيضاً. وأذكر أنني وبعد أن انسحب الإسرائيليون وصلت إلى منزل عمتي المحروق وظننت أنه لم يعد منزلها. وهي حين عادت إليه صار منزلاً آخر غير ذاك الذي هربت منه، فاستأنفت فيه عيشاً مختلفاً.

لكن المعَفَش غير محصن من أن يكون مُعفِشاً، فها أنا انتقل من لحظة وقوفي أمام منزل عمتي شاهداً على انتزاعه منها إلى كوني شاهداً على حملة تعفيش كنت فيها مقاتلاً إلى جانب المُعفِشين. إنها حرب شرق صيدا في جنوب لبنان حيث زحفت «الأحزاب التقدمية» إلى القرى المسيحية في شرق المدينة فانتزعتها من «القوات الانعزالية» ونهبت منازلها. في حينه تحولت شوارع مدينة صيدا إلى معرض هائل لفرش المنازل. كانت الأغراض ما زالت تحمل أثراً من أصحابها، وكان أطفال المدينة يعبثون بأغراض ولوازم مرمية على الطرق وفي الفسحات غير المبنية. وامتلأت المنازل بأغراض لا تشبهها، فصرت تجد بيانو في متجرٍ لبيع لوازم البناء، وأدوات صناعة النبيذ في منزل مقاتل إسلامي يجهل طبيعة الأغراض التي عفشها.

و «التعفيش» أيضاً ليس فعلاً انتقامياً، فاللحظة التي تتيحه يذوي خلالها الوجدان الانتقامي إلى غريزة جماعية غير عاقلة، لعل أكثر ما يعبر عنها إقدام آلاف من أهل مدينة كركوك العراقية على نهب معدات مصفاة النفط في المدينة في لحظة سقوطها بيد الأميركيين، وهي معدات لا تصلح للاقتناء الفردي ولا تؤدي غير وظيفتها في نقل النفط وتكريره. والسيدة التي كانت تحمل بيدها أسطوانة انتزعتها من المصفاة في حفلة «التعفيش» الكبرى تلك قالت يومذاك إن زوجها قد يحتاج هذه الأسطوانة ذات يوم. في ذلك الوقت كانت كركوك تُعفِش نفسها، وكان انهيار كبير قد أصابها جراء سقوط النظام. وفي ذلك الوقت أتيح لنا، نحن الصحافيين، أن نعاين ماذا يعني أن ينهار نظام وسلطة وأن يفقد أناس شعورهم بأن ثمة من يقف في وجه نزواتهم. ولعل ذروة المشهد كانت حين قُذف كرسي محافظ المدينة الحديث والجلديّ إلى وسط الشارع، فصادفته امرأة عابرة، وما كان منها إلا أن جلست عليه في وسط الطريق وصرخت «أنا المحافظ».

نعم، المدن يمكنها أن تُعفش نفسها في لحظة انهيارها، فصيدا اللبنانية عقب سقوطها بأيدي الإسرائيليين في 1982، خرج أهلها من الملاجئ بعد أيام حالكة الظلام ليجدوا مدينتهم مدمرة، فغُزي ما تبقى من متاجر الأحياء واستحضرت سلعها إلى الملاجئ. في حينه كنا عدنا، نحن المقاتلين الأطفال، إلى أحضان أمهاتنا في ملاجئهن الهزيلة، وخرجت فور سقوط المدينة مع والدي من الملجأ لنشهد على حفلة نهب أحد المتاجر قام بها سكان يحاولون استدراك جوعهم المحتمل بسلع لا تؤكل. تبادلنا، والدي وأنا، نظرات لم أفهمها آنذاك، وأفكر اليوم أنها كانت جس نبض متبادلاً عما إذا كنا نستطيع مقاومة الانخراط في هذه الهستيريا الجماعية.

اقرأ المزيد

مقالات

عرض المزيد >
● مقالات رأي
٢٤ يناير ٢٠٢٥
دور الإعلام في محاربة الإفلات من العقاب في سوريا
فضل عبد الغني - مؤسس ومدير الشبكة السورية لحقوق الإنسان
● مقالات رأي
١٦ يناير ٢٠٢٥
من "الجـ ـولاني" إلى "الشرع" .. تحوّلاتٌ كثيرة وقائدٌ واحد
أحمد أبازيد كاتب سوري
● مقالات رأي
٩ يناير ٢٠٢٥
في معركة الكلمة والهوية ... فكرة "الناشط الإعلامي الثوري" في مواجهة "المــكوعيـن"
Ahmed Elreslan (أحمد نور)
● مقالات رأي
٨ يناير ٢٠٢٥
عن «الشرعية» في مرحلة التحول السوري إعادة تشكيل السلطة في مرحلة ما بعد الأسد
مقال بقلم: نور الخطيب
● مقالات رأي
٨ ديسمبر ٢٠٢٤
لم يكن حلماً بل هدفاً راسخاً .. ثورتنا مستمرة لصون مكتسباتها وبناء سوريا الحرة
Ahmed Elreslan  (أحمد نور)
● مقالات رأي
٦ ديسمبر ٢٠٢٤
حتى لاتضيع مكاسب ثورتنا ... رسالتي إلى أحرار سوريا عامة 
Ahmed Elreslan  (أحمد نور)
● مقالات رأي
١٣ سبتمبر ٢٠٢٤
"إدلب الخضراء"... "ثورة لكل السوريين" بكل أطيافهم لا مشاريع "أحمد زيدان" الإقصائية
ولاء زيدان