على رغم تواتر الاجتماعات والمفاوضات، في موسكو وآستانة وجنيف، بين أهم الأطراف المعنية بالصراع السوري، فليس من لحظة يبدو فيها الحل السياسي بعيد المنال أكثر من اللحظة الراهنة، بما هو حل يفكك آليات السيطرة الأمنية ويزيل مناخ العنف والقهر الذي خنق لأمد طويل حقوق الإنسان وبذور الحياة الديموقراطية في البلاد.
فيما مضى، وإذا كان بعض التوافق بين السياستين الأميركية والروسية قد أسس لخيار الحل السياسي عبر بيان جنيف 1 وقرار مجلس الأمن 2254، فالجديد هو تعزز السلبية الأميركية ووضوح المسافات الخلافية بين الأطراف الثلاثة الراعية اليوم للعملية التفاوضية، مصالح موسكو، والمطامع الإيرانية، وبينهما الحسابات التركية ومراميها، الأمر الذي يكشف ضيق فرصة الإقلاع الجدي بالمعالجة السياسية.
وفي ما مضى، إذا كان ثمة شك حول جدية واشنطن وموسكو في دعم مسار التفاوض وإرغام الفرقاء السوريين على طي صفحة الصراع الدموي، فالشك يبدو اليوم أكبر تجاه امتلاك موسكو وأنقرة وطهران دوافع حافزة وإرادة مشتركة لإخراج الحل السياسي من ركوده، بخاصة أن التباينات بينهم تتنامى مع كل خطوة تخطوها المفاوضات، ويعمق تلك التباينات لجوء دول غربية لتغذيتها في سياق التنازع والمحاصصة على المستقبل السوري، ربطاً بوصول الحرب ضد تنظيم داعش إلى مراحلها النهائية، فأنى لطهران أن تتنازل وتدعم خطة سلام لا تكرس مطامعها في سورية والمشرق العربي، بخاصة أنها تزداد توجساً من عودة صراعها المفتوح مع واشنطن بعد أن جاهر دونالد ترامب بعدائه لها وسماها بالإرهابي الأول وهدد بنقض الاتفاق النووي معها، والأسوأ ما رشح عن تقدم دور الحرس الثوري ومراكز سلطوية إيرانية دأبت على تصدير الثورة الاسلامية واستثمار البعد المذهبي لمد نفوذها في المنطقة؟ وأنى لتركيا أن تفرط بما حققته من تقدم ونفوذ في سورية، بخاصة أنها تمتلك ورقتي المعارضة المسلحة والغطاء الإسلامي السنّي، ودونهما لا يمكن لمشروع التسوية أن يحقق النجاح والاستقرار؟
والنتيجة أن سورية التي أصبحت مسرحاً للتدخلات الخارجية وميداناً لتضارب المصالح الدولية ولإدارة معارك النفوذ، أصبحت رهينة لتوافق إرادات عالمية وإقليمية باتت تقرر كل شيء، إدامة القتال أو وقفه وإنهائه، ثم حظوظ معالجته سياسياً.
«يتوهم من يعتقد بقيام مرحلة انتقالية أو تغيير للنظام»... عبارة كررها غير مسؤول سوري تعقيباً على الورقة التي قدمها ستيفان دي ميستورا متوسلاً في بعض بنودها جدولاً زمنياً للتغيير يغازل قرار مجلس الأمن 2254 ما يشير إلى حجم الهوة التي تفصل موقف أهل الحكم والخطة الأممية، وإلى حقيقة، أن النظام الذي لم يقدم أي تنازل سياسي في سنوات فشل خياره الحربي، لن يتنازل اليوم بعد نجاحه في استرداد مناطق مهمة، كمدينة حلب شمالاً، ليغدو بداهة، أكثر تصلباً لرفض الحوار وأقل استعداداً للتفاوض، فكيف الحال وهو خير من يدرك أن إطلاق العملية السياسية سيفضي إلى إعادة بناء المواقف والاصطفافات بصورة لا ترضيه وتمنعه من التوغل أكثر في خياره الحربي، وتفضح عجزه عن إعادة إنتاج بعض الشرعية والاستقرار بعد هذا الفتك والدمار وبعد الشروخ العميقة التي أحدثها في المجتمع! وكيف الحال مع تبلور مراكز أمنية وعسكرية أفرزتها الحرب المديدة، ليس لها مصلحة في أية تهدئة أو استقرار، تستمد سطوتها وامتيازاتها من استمرار الفوضى، وقادرة بما تمتلكه من إمكانات على إفشال أية عملية سياسية بالتناغم مع جماعات من الطينة ذاتها تحسب على المعارضة المسلحة!
وكيف الحال مع تنامي خشية المرتكبين السلطويين من أن يرافق الحل السياسي جردة حساب وعقاب على ما اقترفته أياديهم، ربطاً بما كشفته المعلومات والوثائق مؤخراً عن فظاعة ممارساتهم! ولا يغير هذه الحقائق بل يؤكدها استجابة النظام الخبير بتمييع المفاوضات وإغراقها بالتفاصيل، لإملاءات موسكو وقبوله شكلاً مناقشة الانتقال السياسي، ما دام يستثمر ذلك لتسعير سخريته من المعارضة والإمعان في تشويهها، ولتغطية الضربات الكثيفة في مناطق الهدن القريبة من العاصمة لإرغام أهلها على الاستسلام التام، كما يحصل اليوم في حي القابون الدمشقي.
صحيح أن أهم أطراف المعارضة السورية تنادي بالحل السياسي، وصحيح أنها غير قادرة على القبول بتسوية لا تلبي مطالب الناس في الحرية والكرامة، لكن ذلك لن يثمر ما لم ترتق بمسؤوليتها الوطنية تجاه محنة السوريين ومعاناتهم الإنسانية، وتتمثل دروس الثورة، وأوضحها نشر ثقافة تدين العنف والإكراه وتنبذ التباهي بعقلية المكاسرة والغلبة، وأهمها إطلاق المبادرات لتثقيل الوجه السياسي والمدني لقوى التغيير، ما يبدد مخاوف المجتمع الدولي ويشجعه على دعمها كبديل للنظام ويمنحها الثقة لقيادة المرحلة الانتقالية.
وبينما يتحدث الجميع عن أخطار استمرار الصراع ويروجون للخيار السياسي، فإن فرصة الحل تبقى ضعيفة ما دامت الأرضية المشتركة التي يمكن البناء عليها ضعيفة، وما دام بعض أطرافها لا يدرك طبيعة الخيارات المتوفرة أمامه ويرفض تقديم أي تنازل، وما دام رعاتها يستهترون بالمخاوف الحقيقية للسوريين، ويفتقدون تصوراً واضحاً حول جذور الصراع والأدوات الناجعة للضغط على المتحاربين وإجبارهم على ترك ميدان العنف ومنطق القهر والتدمير والإفناء.
والحال هذه، يبدو أن الصراع السوري لن يشهد في وقت قريب حلاً سياسياً جراء صعوبة التوفيق بين مصالح متعارضة تمثلها قوى إقليمية ودولية وفئات من النظام والمعارضة، زادها تعارضاً ما كرسه طول أمد الصراع والعنف المفرط من شروخ وانقسامات، وإذا لم يحض الخراب المعمم وأنين الضحايا والمعذبين، تبلور قوى ورؤى سياسية تتطلع، بعيداً من أوهام الانتصارات والحسم، نحو التشارك في بناء مستقبل جديد تحدوه دولة ديموقراطية ومجتمع مواطنة لا مكان فيه للتمييز أو لحقد وانتقام، فإن البديل هو استمرار الحرب الإقليمية والدولية على أرضنا، وربما حتى آخر قطرة دم سورية.
حتى تسيطر ألمانيا النازية على فرنسا المحتلة في الحرب العالمية الثانية جاءت بفرنسيين وصنعت منهم حكومة من دمية، سُميت بحكومة فيشي، وذلك حتى تقنع العالم بشرعية وجودها. هذا ما يفعله نظام دمشق. فهو عندما تبين له أن للمعارضة شرعية تتجاوز شرعيته لجأ إلى حيلة اختراع جماعات تدعي المعارضة، وفتح لها باب العمل في دمشق، وأرسلها للعواصم الموالية له، مثل طهران وموسكو، تفاوض بالنيابة عن المعارضة. ولأكثر من ثلاث سنوات لم يصدق أحد هذه المسرحية، التي تسمى بمنصة موسكو ومنصة القاهرة، مجرد ملحق بالنظام السوري.
نظام دمشق، من خلال روسيا، أصرّ على فرض هذه الجماعات المزورة في مفاوضات جنيف، وبعد أن وافق المبعوث الدولي على إشراكها، الآن تصر موسكو على أن تدمجها ضمن وفد المعارضة الحقيقي! وعندما رفضت المعارضة الحقيقية ضم المزورة إليها اتهمتها بتخريب المفاوضات!
ولم يعجب الناطقة باسم وزارة الخارجية الروسية ماريا زاخاروفا رفض المعارضة، وقالت إن «الهيئة العليا للمفاوضات ترفض التعاون على مستوى متساوٍ مع منصة موسكو ومنصة القاهرة وتقوض بحكم الأمر الواقع الحوار».
بعد إشراك منصتي موسكو والقاهرة أصبحت مفاوضات جنيف مهزلة سياسية هي الأسوأ في التاريخ، ولا نعرف لها مثيلا، حتى حكومة فيشي المزورة كانت أكثر نزاهة منها. في رأيي لم يعد هناك معنى لاستمرار المعارضة، أي الهيئة العليا للمفاوضات، في المشاركة، بعد أن سلبوا منها كل شيء، حتى حق تمثيل أنفسهم كمعارضة.
أصبح كل شيء يمثل النظام مزوراً، فلا الجيش جيشه، ولا معارضوه الذين يصر على التفاوض معهم هم حقاً معارضوه. وقد اشتهر نظام الأسد بتلفيق الشعارات من قومية وعروبة وديمقراطية، وتزوير الانتخابات، واختراع تنظيمات مفبركة مثل «فتح الشام» نيابة عن المقاومة الفلسطينية في لبنان، و«الجهاد الإسلامي» في غزة. وعندما قرر اغتيال رفيق الحريري، رئيس وزراء لبنان الأسبق، في عام 2005، صنع تنظيماً سماه «جند الشام»، وأنتج شريط فيديو يزعم فيه شخص اسمه أبو عدس أنه الانتحاري، وتبين للعالم لاحقاً أنها رواية مكذوبة، حيث أظهرت التحقيقات الدولية أسماء الفاعلين الحقيقيين المرتبطين بالنظام في دمشق. وفعل أكثر من ذلك في حرب العراق بعد الغزو الأميركي حيث أسس، بالتعاون مع إيران، تنظيمات ادعى أنها مقاومة إسلامية وبعثية.
هذه المنصات المعارضة، واجهات تقدم مطالب النظام وتدافع عنه، وما دامت موسكو وإيران تساندان هاتين المعارضتين فالأجدى أن توقع معهما الاتفاق في طهران وتنهي هذه المهزلة.
يتكرر سيناريوا المشهد في كل مرحة من الصراع الداخلي بين مكونات الثورة السورية العسكرية، تبدأ بين كل طرفين متخاصمين بتصرفات فردية سرعان ما تنتقل لزج الفصيلين في حرب باردة وتوعد وتدخل للعلماء والشرعيين في الحل، ومع تعنت الطرفين وعدم وجود ضوابط قضائية موحدة تلزم الطرف المعتدي بالرجوع عن عدوانه وتحاسب المسيىء على إساءته وترد المظالم والحقوق لأصحابها فإن الحل لابد له من أن يتعذر ويعود الصراع للواجهة من جديد، مع النزعة للسيطرة وتقوية النفوذ التي يمتلكها كل طرف لاسيما الفصائل الكبرى التي تتمتع بالقوة.
ومع عودة التوتر تبدأ الحرب الإعلامية التي تحاول اثبات أحقية الطرف الأول تقابلها حرب إعلامية مضادة من الطرف الآخر، فتبدأ على لسان بعض القادة والشرعيين على مواقع توتر والمناصرين عبر مواقع التواصل الاجتماعي، وسط تسيير الأرتال والتحشدات في المناطق الرئيسية والطرقات وتجييش الكتائب والمقاتلين ضد الطرف الآخر، تليها مرحلة البيانات الرسمية التي تدعوا لتحكيم الشريعة وأي شرعيه منها ..؟؟ ، ثم تنطلق الفتاوى الشرعية لشخصيات محسوبة على هذا الطرف أو ذاك فيبدأ الشحن وتبدأ المعركة بالظهور، وتسير الأرتال ويغفل الجميع عن جبهات النظام وتبدأ حلبة الصراع في المحرر، فتحرر البلدة ربما مرات ومرات، ليس من نظام أو شبيحة او شيعة بل ممن كانوا بالأمس رفقاء سلاح وخندق وأخوة في الدين والعقيدة والثورة، فتسيل الدماء المعصومة وتنزف الجراح.
دور "قوات الفصل" في كل مرة أمر ضروري يعلنا فصيل محايد فيدخل بين الطرفين المتصارعين محاولاً الحل، وأي حل يحل وسط تعنت الطرفين وإصرار كل منهم على انه الأحق وصاحب الحق، إلا من كان ضعيفاً لا يملك قوة يجابه فيه فصائل تكتلت وأجمعت على قتله وذبحه فما عليه إلا التسلم والاستسلام، وإصدار البيانات المطالبة بتحكيم الشرع، وانتقاد الطرف المعتدي بانه رفض الشرع والتحكيم، فيزول طرف وينتصر الآخر، نصر على الثورة لا لأجلها.
ففي كل صراع شهدته المناطق المحررة بين الفصائل يتكرر نفس المشهد ونفس السيناريوا مع اختلاف الأسماء والمسميات والحجج لإنهاء فصيل تتوحد ضده عدة فصائل أخرى، وهو يستجدي الدعم من فصائل تختلف مع تلك "الأخرى" في الرؤية والمصالح والمنهج والفكر فيدور الصراع على حلبة المحرر، لايراعي أي طرف حرمة الدماء المعصومة بينهم، ولا خجل او مراعاة لذوي الشهداء ممن يترقبون اقتتال الأخوة ممن ظنوهم سيحركون الجيوش للثأر لأبنائهم، ولا منظر المجازر التي ترتكبها طائرات الأسد وروسيا بحق المدنيين تاركة أرتالهم تتحرك للقتال.
وفي كل معركة وصراع يخسر الشعب الثائر المزيد من أبنائهم وقوداً لحرب المتصارعين، فهذا بالنسية للقادة السادة أمر طبيعي وفاتورة لابد من تقديمها لإعلاء كلمة الله، ونصرة شرع الله، ونصرة الدين، ليس بقتل الأسد والميليشيات بل بقتل من هم خطر على الثورة برأيه وبتصوره، فتنظيف البيت الداخلي أولى قبل الانتقال لتحرير سوريا، وعن أي بيت داخلي بقي للثوار وأي مناطق محررة بقيت بأيدينا ...؟؟؟؟
ويختلف الصراع بين مكونين يختلفان في الفكر وبين آخرين يتفقان، ففي مراحل الصدام بين "الإسلامي" و "الحر" فالإسلامي على حق بالفطرة، فهو الأقوى وصاحب الحجة الشرعية، والقبضة العسكرية، والتحالفات العسكرية، اما "الحر" فلا قوة تدافع عنه أو تناصره، وهو عميل للغرب والشرق والجنوب حتى، يحصل على دعم أمريكي ويقاتل بسلاح صليبي، لا بد من إنهاء وجوده ولا يتطلب الامر إلا حملة إعلامية وحشد أرتال عدة والسيطرة على كامل العتاد والمقرات، أما النداءات للتحاكم للشرع فلا تلبث ان تأخذ حدها وسط تراخي الأقوى في الرد على الوساطة، إلا ويكون فصيل "الحر" قد انتهى وبات السلاح الصليبي الحرام بيده حلالاً بيد الأقوى صاحب الحجة والدليل والسيطرة.
أما صراع الفصائل "الإسلامي - الإسلامي" فله منحى آخر مختلف تماماً ولو تشابه في بعض السيناريوهات مع غيره وبعض المراحل قبل الإغراق في الدم، فلا بد من مناظرات شرعية وإثبات أحقية ولقاءات واجتماعات، وتبرير للفصائل المشابهة في الفكر، وإدخالها كطرف راعي لأي اتفاق، ثم بعد انعدام الحلول لابد من بيانات وفتاوى، وتمهل خوفاً من سفك الدماء، ثم حرب باردة قد تطول يسعى فيها طرف لاستمالة بعض مكونات الطرف الآخر، وسط تململ وتراخي وخوف من سفك الدماء "للمجاهدين" ثم يصل الحد لأقصاه وتدور رحى المعركة، تطول وتطول ويسقط فيها العشرات من الضحايا دون منتصر، فيتدخل طرف ثالث ويفضي لحل ينسحب من كان من المفترض "باغياً" بسلاحه وعتاده لمنطقة أخرى ينهي بذلك الصراع.
أما نتائج الصراع فواحدة في كل مرة فمكونات جميع هذه الفصائل ليسوا من كوكب المريخ بل هم من أبناء هذا الشعب السوري الثائر ضد نظام الأسد، من أبناء من تكاتفت كل قوى الشر ضده واجمعت على قتله، من أبناء الشعب المكلوم الذي يترقب صراعات الفصائل واحدة تلو الأخرى تقتل بعضها البعض وتزهق أرواح أبنائه، وتضيق به المساحة ويهجر ويقتل وتجهز المخيمات وسط المعاناة المريرة التي لم يكترث لها أي فصيل، وضياع الأمن وانتشار الاغتيالات والتصفيات والاعتقالات، كل ذلك والأخوة يتصارعون على أرض تضيق بهم يوماً بعد يوم، وبعد كل صراع لابد للمنتصر من معركة أو عملية ضد النظام تسهم في إعادة رفع رصيده وشعبيته..
للمرة الأولى تندفع تركيا وإيران إلى صراع سياسي مفتوح. وتطغى الاتهامات المتبادلة بينهما على شبكة مصالحهما الاقتصادية والتجارية. من قرنين تقريباً، منذ الحرب بين الامبراطوريتين مطلع القرن التاسع عشر، لم يبلغ التنافس بينهما هذا المنحى التصعيدي.
يعصب أن ينزلق البلدان إلى مواجهة عسكرية مباشرة. ثمة وكلاء على الأرض يمكن دفعهما إلى القتال، خصوصاً في كل من العراق وسورية. وهو بدأ في سنجار للتضييق على آخر معاقل الحضور التركي مع اقتراب نهاية معركة تحرير الموصل من قبضة «داعش». وقد يمتد إلى الشمال السوري كلما اقترب موعد الحملة الحاسمة على الرقة.
هذا التدهور غير المسبوق في تاريخ العلاقة بين طهران وأنقرة كان نتيجة طبيعية لتطور الأحداث في المنطقة المجاورة لكليهما. ونتيجة للمشهد الاستراتيجي الجديد في الإقليم. ولن يستقر التوتر بينهما، أو تعرف وجهته قبل أن ينجلي مسار التسوية السياسية في سورية ومعرفة طبيعة النظام المقبل في دمشق وإجراء حسابات الربح والخسارة. وقبل معرفة التداعيات التي سترافق استعادة الموصل من أيدي «دولة البغدادي». وكلا الأمرين مرتبط إلى حد كبير بسياسة الإدارة الأميركية الجديدة حيال الشرق الأوسط والجمهورية الإسلامية، وعلاقتها مع روسيا.
التوتر بين طهران وأنقرة لم يأتِ من فراغ. سبقته مقدمات قديمة وجديدة. منذ اندلاع حرب الخليج الأولى غلبت العاصمتان مصالح بلديهما الاقتصادية والتجارية على ما عداها من خلافات وتناقضات. وشكلت تركيا بوابة ومتنفساً لإيران أثناء حرب الخليج الأولى، ثم أثناء فرض العقوبات الدولية عليها بسبب برنامجـــها الـــنووي. بل كثيراً ما كانت أنقرة تنافح في مواجهة شركائها الأطلسيين لمنع الحرب على الجمهورية الإسلامية عندما كانت واشنطن تلوح بالخيار العسكري لوقـــف هذا البرنامج. وحتى عندما سقط الاتحاد السوفياتي لم يصل الأمر بين الدولتين إلى حد التوتر الحالي، على رغم تسابقهما على تركته في القوقاز ووسط آسيا. وكذلك مع اندلاع ما سمي «الربيع العربي» تنافستا على احتضان الحراك في عدد من الدول. ولكن مع اندلاع الأزمة في سورية بدأ بينهما صراع صامت. واتخذتا موقفين متناقضين معروفين لم يوقفا عجلة اتفاقاتهما الاقتصادية والتجارية.
لكن ظهور «داعش» ثم بدء الحرب الدولية للقضاء على «دولة الخلافة» رفعا وتيرة التنافس بين إيران وتركيا. لكن طهران التي نشرت ميليشياتها ووقفت إلى جانب النظام في دمشق، ثم أنشأت قوات «الحشد الشعبي» في العراق، لم تشعر بأن أنقرة ستكون قادرة على الفوز بقصب السبق. أو أنها ستكون قادرة على تغيير مجرى الأحداث في البلدين... إلى أن كان التدخل العسكري الروسي الذي شكل تهديداً لمشروع الجمهورية الإسلامية في بلاد الشام. وحد من نفوذها وقدرتها على المناورة. ثم جاء التفاهم بين الرئيس فلاديمير بوتين ورجب طيب أردوغان ليثير حفيظتها ويفاقم هذا التهديد لدورها. وزاد الأمر تعقيداً أن إدارة الرئيس دونالد ترامب أعلنت صراحة أن من أولويات مهماتها القضاء على الإرهاب، ثم محاصرة الدور الإيراني في الإقليم. ليس في بلاد الشام فحسب بل في المنطقة كلها. أي أن العاملين الأميركي والروسي خلقا تحدياً مريراً لتمدد الجمهورية الإسلامية إلى شرق المتوسط، وسيطرتها على «العواصم العربية الأربع».
وبالتأكيد يسعى أردوغان إلى ملاقاة استراتيجية نظيره الأميركي. إنها فرصته للحد من نفوذ غريمه الإيراني. كما أن الصراع الصامت بين موسكو وطهران على سورية يدفعه إلى استغلال تفاهمه مع بوتين من أجل تمكين حضوره في الشمال السوري والتوسع جنوباً نحو الرقة.
إلى هذه المعطيات المستجدة، يواجه الرئيس أردوغان استحقاقاً كبيراً على مستوى الداخل. أفاد من المحاولة الإنقلابية الفاشلة ليرسخ أقدام حزبه في إدارة البلاد، وتبديل هوية الدولة العلمانية كلياً. وهو يستعد للاستفتاء على دستور جديد يحول النظام رئاسياً، مما يتيح له جمع معظم السلطات التنفيذية بيده والتفرد بالقرارات من دون سائر السلطات والقوى والأحزاب الأخرى. واتجه سريعاً نحو دول الخليج ليعزز قاعدة سياسته الخارجية، إلى جانب رهانه على التفاهم مع نظيريه الروسي والأميركي. إنها رسالة إلى الداخل التركي ليرفع رصيده حارساً لمصالح أهل السنة في الإقليم كله. لكنه يدرك في قرارة نفسه أنه يستخدم السلاح ذاته الذي يتهم إيران باستخدامه في بسط سيطرتها على الإقليم. وطهران في المقابل ترى أن للصبر حدوداً حيال الحملة التركية. فالقوى السياسية في الداخل تستعد هي الأخرى لمعركة الانتخابات الرئاسية وسط تجاذب كبير بين التيارين الإصلاحي والمحافظ. وكلاهما يحتاج إلى خطاب شعبي عالي اللهجة يؤكد حرصهما على المصالح العليا للبلاد وحلفائها من مكونات شيعية في المنطقة. كما أن النخبة الحاكمة في الجمهورية الإسلامية تتوجس من احتمال التفاهم بين واشنطن وموسكو. وهي تدرك أن المقايضة لن تكون على شبه جزيرة القرم. من السهل أن يوافق الكرملين على وقف مزيد من تفتيت خريطة أوكرانيا. وفي مقابل رفض المساومة على حضور روسيا في سورية وقواعدها في هذا البلد، يمكن أن يضحي برأس النظام في دمشق وتعديل دستور البلاد على نحو يشرك المزيد من القوى والمكونات في إدارة الدولة ومؤسساتها. وهذا ما يخشاه النظام الإيراني الذي استثمر الكثير وقدم تضحيات بشرية ومادية طوال سنوات للحفاظ على الحكم في دمشق. لذلك استعجلت إيران الحصول على امتيازات اقتصادية في مجال الاتصالات، وفي مناجم الفوسفات والتنقيب عن النفط والسعي إلى مرفأ على الساحل يكون شرفتها على المتوسط. مثلما استعجلت بغداد للتفاهم معاً على ربط نفط كركوك بخط من الأنابيب نحو ساحلها على الخليج، في حين لا يحتاج العراق عملياً إلى بديل من خطه التركي. وهي تعمل على إيجاد بوابة اقتصادية نحو أوروبا بديلاً من البوابة التركية. أي فتح ممر من الخليج العربي إلى البحر الأسود، يتجه صعوداً نحو أرمينيا وأذربيجان وجورجيا ثم بلغاريا واليونان.
لكن هناك سقفاً للصراع بين تركيا وإيران وحدوداً تحول دون تمكينهما من تحقيق طموحاتهما، أو الذهاب بعيداً نحو مواجهة عسكرية مباشرة، خصوصاً في بلاد الشام. صحيح أن طهران بدأت بتحريك بيدقها الكردي، فضلاً عن اعتمادها على جيش كبير من الميليشيات في كل من سورية والعراق. لكنها لا يمكنها المجازفة بتعميق الخلاف مع أنقرة بما يمكن هذه من قيادة تحالف إسلامي واسع ضدها في حين تحتاج إلى تضامن إسلامي يساهم في حمايتها من «الهجمة» الأميركية المتوقعة عليـــــها. كما لا يمكنها تغيير قواعد التفاهم الاستراتيجي مع تركيا على خنق تطلعات الكرد في الإقليم، إذا كان الأمر خرج من أيديهما أو يكاد في كردستان العراق. إضافة إلى ذلك إن تفاهماً بين الرئيسين ترامب وبوتين قد يعوق مشاريعهما في مد النفوذ على المنطقة العربيــــة. لذلك جل ما تراهن عليه الجمهورية الإسلامية هو اندلاع حرب باردة جديدة بين القوتين الدوليتين لا تجد موسكو مفراً عندها من تمـــتين تحالفها معها بمواجهة جبهة واسعة من أنقرة إلى الرياض. وكــــذلك الأمــــر بالنسبة إلى الرئيس أردوغان الذي لا يمكنه الوقوف بمواجهة تفاهم محتمل بين نظيريه الأميركي والروسي، وكلاهما يضع له اليوم حدوداً لطموحاته في المشرق العربي، وهما سيغلبان مصالحهما الاستراتيجية على أية مصالح أخرى. كما لا يمكنه، في حال لم يتوصلا إلى الصفقة المحتملة، أن يقيم داخل تحالفين متصارعين، أو على خيط رفيع من توازن هش في العلاقة بينهما. وهو يدرك حجم القضايا العالقة بينه وبين الكرملين في القوقاز وآسيا الوسطى، إضافة إلى الصراع على خطوط الغاز. ويعي أيضاً حدود قدرته على مواجهة حضور روسيا في سورية، والنفوذ العميق لإيران في العراق. فضلاً عن أن موسكو التي تكافح الإسلام السياسي تتوق إلى دور للجيش المصري في سورية يعزز قبضتها على المؤسسة العسكرية السورية التي ترتبط بعلاقات تاريخية مع نظيرتها المصرية. وإذا تحققت لها هذه الرغبة التي تشاركها فيها القاهرة أيضاً، تنتفي حاجتها إلى إيران وميليشياتها، وإلى تركيا والفصائل التي ترعاها.
الصراع المفتوح بين تركيا وإيران سيظل محكوماً بمسار التسوية السياسية في سورية، ومآل المواجهة القادمة بين واشنطن وطهران، ومستقبل العلاقات بين إدارة الرئيس ترامب والكرملين. وسيظل محكوماً بالقدرة المحدودة للطرفين على تغيير المعادلات ورسم خريطة جديدة للمصالح المتشابكة في الإقليم. ولا يمكن في النهاية تجاهل الكتلة السكانية الكبرى في المشرق العربي ومواصلة الرهان على الغياب العربي، حكومات وأنظمة وشعوباً. لذلك سيكون ذهابهما بعيداً في المواجهة إلى حافة الهاوية أو الصدام المباشر كمثل من يشعل النار في حديقة داره، أو يجازف بخسارة مكاسب يمكنه الحفاظ عليها عندما يحين زمن الصفقة الكبرى وبناء النظام الإقليمي الجديد.
لم تكن مهمَّة تركيا العسكرية في سورية خفية المرامي والغايات، فقد أعلنت أنقرة، منذ بدء عملية درع الفرات، أنَّ وجودها مقتصر على محاربة تنظيم داعش من جهة، والحيلولة دون تمدّد حزب الاتحاد الديمقراطي الطامح إلى السيطرة على كامل الشريط الحدودي مع تركيا، فإذا كانت مسألة التدخل تلك خطباً لود الرأي العام الدولي المعادي لداعش، فإن التدخل لضرب "الاتحاد الديمقراطي" وإبعاد شبحه تسعد المؤسسة العسكرية التركية والرأي العام التركي المعادي لأي مشروعٍ كرديٍّ في سورية. وفي مقابل ذلك، اعتذرت تركيا للروس فيما خص أقوال بعض مسؤوليها الذين هموا بالقول إن إحدى غايات التدخل التركي محاربة النظام، الأمر الذي يجعل من مسألة التدخل ثنائية الغايات، ولا تقبل غاياتٍ إضافية.
نجحت تركيا نسبيّاً في إفشال خطة التمدّد الكردية الرامية إلى وصل "الكانتونات" الكردية الثلاث، عبر قطعها الطريق على التقدم الذي خاضته القوات الكردية وقوات سورية الديمقراطية (قسد) باتجاه عفرين، ثالثة الأثافي في مشروع الإدارة الذاتية ثم مشروع فيدرالية شمال سورية، ذلك أن وصل الجزيرة بمدينة عين العرب (كوباني) حرّك مشعر الخطر التركي حول مصير الربط القادم بين كوباني وعفرين، ودفعها إلى اتباع سياساتٍ أكثر جذريّةً وتسارعاً.
في هذه الغضون، وفي خطوةٍ استباقية، أعلن مجلس منبج العسكري عن تسليم القرى التابعة إدارياً لمدينة منبج (إحدى أكبر مدن الشمال السوري الحدودية) إلى قوات النظام السوري، وبرعاية روسيّة، لتضمن روسيا بذلك عدم تقدّم قوات درع الفرات المشفوعة بزخم عسكري ولوجستي تركي إلى مشارف مدينة منبج، وفي البيان الذي سطَّره مجلس منبج العسكري المنضوي في قوات سورية الديمقراطية، وردت عبارة كاشفة حول غايات تسليم المناطق المحاذية مدينة الباب، والواقعة غربي منبج بأنه عمل يهدف إلى "حماية الخط الفاصل بين قوات مجلس منبج العسكري ومناطق سيطرة الجيش التركي ودرع الفرات"، ليرسم هذا القرار مجدّداً دوائر شكوك إضافية حول علاقة قوات سورية الديمقراطية بالنظام، ومن ورائها روسيا، لكن الشكوك سرعان ما تتلاشى حال الوقوف على سياسات ومواقف براغماتية عديدة لحزب الاتحاد الديمقراطي وقوات قسد التي تتغير بسرعة، حين تشعر بالخطر التركي الجارف، والذي تعتبره خطراً وجودياً؛ وما تسليم المناطق الواقعة تحت سيطرتها إلى النظام برعاية روسية إلّا تجرعاً لسم أخف وطأة من سم التقدّم التركي.
تبدو هذه الخطوة مثيرةً، ومربكة لجهة أنها تزج العلاقة الروسية - التركية إلى اختبار جديد، فالدخول التركي كان مشروطاً بألّا تعمد تركيا والقوات السورية المعارضة الموالية لتركيا إلى أي صدام مباشر مع قوات النظام، ولعل روسيا لا تدخر كبير صبرٍ حول الرد على أي اختراق عسكري يعزّز موقع قوات درع الفرات على حساب وجود النظام السوري. وعليه، أفسحت خطوة الاتحاد الديمقراطي ومجلس منبج العسكري المجال للنظام والروس في الحلول مكانها في أكثر المناطق اضطراباً كان ضرباً من البراغماتية الصرفة، على الرغم مما سينجم عن هذه الخطوة من انتقاداتٍ حادة للاتحاد الديمقراطي وقوات سورية الديمقراطية، على اعتبار أن كل كيلومتر سيطرت عليه تلك القوات كلّف مقداراً غير قليل من التضحيات البشرية والمادية، ناهيك عن فكرة تراجع المشروع القائل بتوصيل الشمال السوري. لكن، في مقابل ذلك، يسيطر السؤال العملي على خطوة "قسد" أخيرا، إذ يكون السؤال، ما البديل عن الانسحاب وتسليم تلك المناطق لقوات النظام؟ ولن تكون إجابة مفيدة إمكانية الدخول في صراع مفتوح مع الجيش التركي وقوات درع الفرات!
في إزاء ألعاب الشطرنج التي تخوضها تركيا في مواجهة خصمها، حزب الاتحاد الديمقراطي، ما الذي يمكن توقعه من تركيا للرد على هذه الخطوة الاستباقية، وهل ستتوقف تركيا عن مهمة فصل الكانتونات الكردية الثلاث، كما فعلت في تجميد التمدّد الكردي في حالة قطع الطريق على وصل كوباني بعفرين؟ الغالب أن تركيا ستسعى إلى توطيد دورها بخصوص محاربة "داعش"، وستستخدم هذه الورقة غطاءً لتقدم قواتها في المنطقة الواقعة بين الجزيرة وكوباني، لجهة فصل هذين "الكانتونين" المتصلين حالياً، فالتماس تركيا الإذن من الأميركان بإعطائها مسافة 18 كم عرضاً بالقرب من تل أبيض سيشكّل الخطة التركية البديلة عن تقدم قواتها المتعثر باتجاه منبج، ودائماً تحت شعار محاربة داعش والاشتراك في معركة الرقة.
صفوة القول، نجحت تركيا بفتح "الباب" الذي يدخل ريحاً عاتيةً، فهل سيكون بمستطاع قوات سورية الديمقراطية إغلاقه؟ يحدث ذلك في لحظة لا يعرف فيها كل طرف من أطراف الصراع في الشمال السوري نية أميركا وإستراتيجيتها، ما يفتح نافذةً للتساؤلات وأبواباً للحيرة.
في خطابه الأول أمام الكونغرس بوصفه رئيساً للولايات المتحدة، قبل أيام، طمأن دونالد ترامب حلفاء بلاده حول العالم، قائلاً: «سيجد حلفاؤنا أن أميركا، من جديد، جاهزة لتقود».
هل أميركا جاهزة فعلاً لاستعادة هذا الدور؟
في الواقع، يُظهر اختبار مرت به إدارة ترامب في شمال سورية، قبل أيام، أنها ما زالت غير جاهزة كلياً لامتحان طمأنة الحلفاء. لكن سقوطها في هذا الامتحان السوري لم ينجم بالضرورة عن عدم القدرة، بل عن العجز في تحديد من هم «الحلفاء»، أو على الأقل المفاضلة بينهم كونهم أعداء بعضهم بعضاً بمقدار ما هم حلفاء للأميركيين.
فقبل أيام كرر الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، وهو «حليف» مهم للولايات المتحدة، تهديده بإرسال قوات «درع الفرات» لطرد «وحدات حماية الشعب» الكردية، وهي أيضاً «حليفة» للأميركيين، من مدينة منبج، بريف حلب. لم يكن هذا تهديده الأول، فقد أطلقه مراراً العام الماضي. في نهاية كانون الأول (ديسمبر)، سألت الكولونيل جون دوريان، الناطق باسم التحالف الدولي ضد «داعش»، عن موقف هذا التحالف من تهديد أنقرة بالزحف على منبج، فرد مشيداً بالحلفاء الأتراك وأهمية دورهم في الحرب ضد الإرهاب، لكنه لفت نظرهم إلى أن «داعش» لم يعد موجوداً في هذه المدينة بعدما طرده منها تحالف «قوات سورية الديموقراطية» الذي يضم الوحدات الكردية، في آب (أغسطس) الماضي. طالب دوريان جميع «الحلفاء» بالتركيز على عدوهم المشترك: «داعش». عندما جدد أردوغان تهديده بطرد الأكراد من منبج، قبل أيام، سألت الجنرال البريطاني روبرت جونز، وهو نائب قائد «قوة المهام المشتركة - عملية العزم الصلب»، عن موقف التحالف، فكرر العبارات نفسها التي رددها دوريان قبل شهرين ونيّف: تركيا حليفتنا ضد «داعش»، لكن هذا التنظيم ليس موجوداً في منبج، وعلى الجميع، بالتالي، توحيد جهودهم ضد «داعش» فقط.
لكن موقف التحالف لا يبدو أنه وجد آذاناً صاغية لدى الأتراك، إذ باشرت فصائل «درع الفرات» المدعومة منهم هجوماً كبيراً في ريف منبج. استهدفت تحديداً قرى يسيطر عليها فصيل «مجلس منبج العسكري» المتحالف مع الأميركيين في إطار «قوات سورية الديموقراطية»، لكن الأميركيين لم ينبسوا ببنت شفة ولم يُسجّل لهم أي تدخل للدفاع عن مناطق حلفائهم المفترضين، على رغم أن لديهم جنوداً ينتشرون إلى جانب «سورية الديموقراطية» في ريف منبج.
وعلى هذا الأساس، ليس هناك سبب يدفع إلى الاستغراب من الخطوة التي لجأ إليها «مجلس منبج» وحلفاؤه الأكراد، بعدما رأوا أن الأميركيين لم يهبّوا لوقف الهجوم التركي. فقد أعلن المجلس اتفاقاً مع روسيا يقضي بتسليم قوات الحكومة السورية القرى الواقعة على خط تماس مع الأتراك وحلفائهم في «درع الفرات»، وهو أمر أكدته وزارة الدفاع الروسية التي قالت إن الجيش السوري سيدخل مناطق الإدارة الذاتية الكردية في منبج. وإذا ما نجح الروس حقاً في وقف هجوم الأتراك على مناطق «سورية الديموقراطية»، فمن المشروع بالتالي التساؤل عما إذا كان الأميركيون فعلاً حلفاء للأكراد في سورية، أم أن روسيا هي حليفتهم الحقيقية؟
ويعيد هذا التساؤل القضية إلى نقطة البداية، أي محاولة ترامب طمأنة حلفاء أميركا. فإدارته، كما دلّت تجربة منبج، ما زالت، كما يبدو، حائرة. هل تختار الحليف التركي، وهو قوة عسكرية ضخمة ودولة مؤسسات مركزية، وصاحبة ثقل سنيّ، أم تواصل رهانها على الأكراد الذين أثبتوا، حتى الآن، أنهم قوة لا يُستهان بها في الحرب على «داعش»، لكن مشكلتهم أنهم ليسوا أكثر من «إدارة ذاتية» تتوسط محيطاً معادياً، من تركيا شمالاً، إلى إقليم كردستان العراق شرقاً، إلى «داعش» جنوباً، وفصائل «درع الفرات» غرباً، بالإضافة إلى «نصف تعايش - نصف طلاق» مع الحكومة السورية.
وهكذا، يبدو جلياً أن على إدارة ترامب أن تجترع صيغة تسمح لها بالتحالف مع عدوين لدودين، أو أن تفاضل بينهما. خطوة «مجلس منبج العسكري» بعقد الصفقة مع الروس تدل على أن ترامب لا بد أن يحسم قراره السوري قريباً. فربح الحليف التركي قد يعني في نهاية المطاف خسارة الكردي، وهو ما قد يؤثر في المعركة ضد «العدو المشترك» لجميع الحلفاء - الخصوم: «داعش».
ليس هناك من آصرة بين شعبين تعادل، في قوتها وحضورها، الآصرة التي تشد الشعبين الفلسطيني والسوري، أحدهما إلى الآخر. وليس هناك أي تاريخ آخر يجمع مواطني دولتين أشد تشابكاً وتداخلا من التاريخ الفلسطيني/ السوري، القديم منه والحديث.
هذا يعيه أعداء شعبينا من الصهاينة في فلسطين المحتلة إلى واشنطن إلى صهاينة دمشق/ طهران، الذين يتابعون لحظياً علاقة الشعبين التكاملية والجدلية، ويستميتون لإفشال نضالهما في سبيل هدفهما المشترك: الحرية. عندما ظهرت حركة فتح والمقاومة الفلسطينية واجهها عسكر طائفي، سوري وصهيوني إسرائيلي، ركّز الأول جهوده على تشويه سمعتها وتخويف السوريين من التفاعل الإيجابي معها، وعملوا للوقيعة بينهم وبين الفلسطينيين السوريين، فأصدرت وزارة داخلية الأسد تعميماتٍ متكرّرةً، طالبت فيها الأمن السياسي والشرطة بعزو كل جريمةٍ تقع في سورية إلى الفلسطينيين، وشنت مخابراته حملات قمع متعاقبة ضدهم، قوّضت مقاومتهم ضد الاحتلال من الأراضي السورية، واخترقتهم بواسطة تنظيماتٍ تجسّست عليهم أكثر مما قاتلت عدوهم، واعتقلت أو صفّت، في أحيان كثيرة، من حاولوا من مقاتلي التنظيمات الأخرى الدخول إلى الجولان. أما التبرير الذي سوّغت الأسدية سياساتها به، فاستند إلى ذريعتين مسمومتين، تقول أولاهما إن الفلسطينيين يوجّهون ضرباتٍ إلى العدو تشبه الوخز بالدبابيس، يردّ عليها بحملاتٍ موجعة، تضعف سورية واستعداداتها ليوم التحرير، فهي ضرباتٌ مشبوهة، إن لم تكن خيانية ومتفقاً عليها مع إسرائيل. وتقول ثانيتهما إن سورية قلعة المواجهة الوحيدة، فلا يحق لأي فلسطيني القيام بأي نشاط ضد اسرائيل، من دون موافقة قيادتها وإشرافها.
بالذريعتين، عمل الأسد لاحتواء ثورة فلسطين، وطالب أحد قادة "فتح" بالتحول إلى كتيبةٍ في قسم الاستطلاع التابع لجيشه، وحين تم تذكيره بطابع المقاومة الوطني، ردّ بجلافةٍ: نحن أرباب الوطنية، ونحن من سيحرّر فلسطين، بينما تعوق مقاومتكم العبثية انطلاقة التحرير وتخدم العدو.
رأى النظام الأسدي في نضال فلسطين الوطني تحديا له، قصده كشف تخاذله أمام العدو، فاعتبره موجها ضده في الداخل السوري، وإن لم يقم بعملياتٍ عسكرية فيه، ووضع له سقفا منخفضا يكتم أنفاسه، ويمنع تصاعده، ورأى في خفضه المتواصل نجاحا يريحه، فأربكه وأنهكه، وألب بقادته بعضهم ضد بعضٍ، وزايد على قوته الرئيسة "فتح ومنظمة التحرير"، وسعى إلى عزلها عربيا ودوليا، وللتشكيك بقدرتها على مواجهة العدو، بحجة أنها "حركة يمينية". وقد بلغت حماسته لإحراق " فتح" حدا جعله يكلف "يساريين" لبنانيين وعربا بتحريض البلدان الاشتراكية عليها، واتهامها بالعمالة، إنها ضد التدخل السوري في لبنان، مع أن هدفه إسرائيل (دخل الأسد باتفاق مع وزير خارجية أميركا، هنري كيسنجر، الذي وعده بحل في الجولان، إذا ضرب منظمة التحرير وأخرجها من لبنان)!.
واليوم، تبدو العلاقة التكاملية/ الجدلية بين نضال الشعب الفلسطيني ضد الاحتلال الصهيوني وثورة الشعب السوري ضد احتلاله أسديا واضحة كعين الشمس. صحيح أن السلطة الوطنية و"حماس" ليستا طرفا مباشرا في الصراع السوري، إلا أن إسرائيل واثقة من أن انتصار سورية سيقيم بيئة استراتيجية لن تترك لها أي خيار غير وقف الاستيطان والانصياع لحل الدولتين، وستواجهها بتحديات يصعب تجاوزها بالوسائل والسياسات التي هزمت، بمعونتها، نظم العرب عامة، والأسدي منها خصوصا. لذلك، واستباقا للأخطار، عليها تسهيل عمل الحشد الإيراني/ الارتزاقي/ الروسي الذي يساعد النظام على ضرب الثورة من جهة، وتسريع الاستيطان من جهة أخرى، والدفاع عن الأسد شخصيا في أميركا وبلدان الغرب، باعتباره حليفاً ضد عدو مشترك، لا يتردد في فعل أي شيء من شأنه تدمير وجود المجتمع الفلسطيني/ السوري وبعثرته في أصقاع العالم، اعترافا بجميل إسرائيل.
يعلم الصهاينة أن انتصار السوريين سيزيل نظاماً طائفياً خدمهم كما لن يخدم أحدا غيرهم، حكم أقلية طوائفية بأغلبية وطنية/ شعبية، اعتماداً على مؤسسة عسكرية/ أمنية، لا عمل لها غير إذلال السوريين، ومعاملتهم مخلوقاتٍ من درجة دنيا، لا يجوز أن يحكموا إلا بالعنف. هذا التداخل الوظيفي بين صهاينة دمشق وتل أبيب يغدو انتصار الثورة خطا أسديا/ إسرائيليا أحمر، لن يسمحا لها بتجاوزه، بما أنهما محكومان بآليةٍ تجعل انتصار فلسطين انتصارا لسورية، وانتصار سورية إنجازا حاسما لفلسطين، بينما رجحان كفة الأسدية انتصار للصهاينة، وخسارة جسيمة لفلسطين وشعبها.
بعد انتهاء لقائه مع دي ميستورا مساء الأربعاء الماضي، ظهر رئيس وفد سلطة الأسد في جنيف4، أبو شهرزاد الجعفري كالديك الرومي، وأعلن في مؤتمره الصحفي، خبره السعيد بتحرير كامل مدينة تدمر من " تنظيم داعش الإرهابي ". وقد زفّ أبو شهرزاد هذه البشرى السارة للعالم المتحضر كله في القارات الخمس. وهل هناك بشرى أعظم وأجلّ عند العالم المنافق من تخليص تدمر من العصابات الإرهابية.!؟. وهل هناك جهة أصدق وأقدر من سلطة الأسد على محاربة الإرهاب والقضاء عليه.!؟.
ولكن السؤال الذي يطرح نفسه: كيف حدث وتم " تحرير " تدمر وإعادتها إلى حضن الأسد.!؟.
بالعودة إلى أحداث الصراع بين الطرفين، لاسيما في منطقة تدمر، يدرك حتى أصحاب العقول البسيطة أن سلطة الأسد وتنظيم الدولة، ليسا إلا وجهين لعملة واحدة، فالطرفان يهدفان إلى تدمير الوطن والشعب معاً، ونظرة سريعة لمجرى الأحداث منذ ظهور تنظيم الدولة، وحتى الآن تؤكد ذلك.
ولو حصرنا حديثنا في الصراع على تدمر، لأدركنا أن ما جرى ويجري هناك منذ أكثر من سنتين، لم يكن إلا مسرحية فاضحة ومفضوحة، القصد منها تدمير هذه المدينة التاريخية الأثرية العريقة، وتقتيل سكانها أو تشريدهم في أصقاع الأرض.
في البداية كان الصراع بين الطرفين على حقول النفط والغاز المجاورة لمدينة تدمر، وحين ينجح تنظيم الدولة في السيطرة على أحد الحقول، تسارع سلطة الأسد إلى القيام بـ " عملية التبادل الاقتصادي "، تأخذ النفط أو الغاز من تنظيم الدولة، وتعطيه ما هو بحاجة إليه من العملة الصعبة، وفي الوقت نفسه تظل البواريد والمدافع شغّالة بين الطرفين.!!.
وفيما بعد اشتهى تنظيم الدولة، وبالتوافق الضمني مع سلطة الأسد، أن يسيطر على تدمر المدينة، فكان ذلك في أيار 2015، وترافق بتدمير فظيع لمعالم المدينة وأحيائها، ولا بأس في ذلك، ما دامت المنافع متبادلة بين الطرفين، فالتنظيم يحاول أن ينبش ما تبقى من الآثار ويبيعها في السوق السوداء، بعد أن شبع أعوان الأسد نبشاً وبيعاً من تلك الأثار. أما الصروح الأثرية الكبيرة التي لا يمكن نقلها وبيعها، كمعبد "بل" و"قوس النصر" وواجهة المسرح الروماني وغيرها، فقد قام التنظيم بتمدير الكثير منها، إرضاء لشهوات أنصاره، فتلك أصنام الكافرين، ولابد من تدميرها، وإعلاء كلمة الله العليا.!!.
أما منفعة الأسد من وراء تسليم تدمر للتنظيم فهو المتاجرة بهذه القضية والتأكيد على أن خطر الإرهاب الإسلامي سوف يمتد وينتشر، وربما سيصل إلى مخادع الدول الكبرى ما لم تقم بمساعدة الأسد والأخذ بيده وإبقائه جالساً إلى الأبد على عرش سورية الأسد.!!.
وحين جاء الدب الأبيض ليحارب الإرهاب الإسلامي، وبمباركة الكنيسة الموسكوفية، لم يتوجه إلى تنظيم الدولة مباشرة، بل هدفه المدن التي تغص بالعمران والإنسان، وراح يمعن قتلاً وتدميراً، فكانت جميع ضحاياه من المدنيين، نساء وأطفالاً وشيوخاً، ومن العمران، بيوتاً ومستشفيات ومخابز ومرافق عامة وسيارات إسعاف وشاحنات إغاثة. ولكنه لم يستطع أن يجني من وراء ذلك أي نصر عسكري مأمول. وأخيراً توجه إلى تدمر في آذار 2016، وجرت هناك ملحمة كاذبة أدت إلى طرد تنظيم الدولة من تدمر.
واحتفالاً بهذا النصر المؤزر، وبأوامر من الدب الأبرص، جاءت الفرقة الموسيقية التي تمثل " عظمة " القياصرة الروس، وبدأت تعزف نشيد النصر، وهي تجلس على أنقاض ما شيدته زنوبيا ملكة تدمر من عمران يصعب وصفه، وتعجز حضارة القرن العشرين عن الإتيان بمثله أو حتى تقليده. وليت الجاهلين يعلمون أن من شيّد تلك الصروح العمرانية، هم عقول هندسية عربية عاشت في زمن كان فيه الروس مجرد مخلوقات همجية، هي والبهائم سواء.
وربما تخيل المتخيلون أن تدمر صارت ولاية روسية، ولن يقترب تنظيم الدولة منها، ولو حتى في الأحلام، لكن الذي حدث أن العلاقة بين التنظيم وسلطة الأسد ومعها روسيا وإيران، ظلت كعلاقة القط والفأر، أو كعلاقة " توم وجيري "، حسب تعبير نصر الحريري رئيس وفد المعارضة إلى مؤتمر جنيف4. والطرفان يتبادلان الأدوار، فتنظيم الدولة حين يتقمص شخصية " توم "، يقوم الأسد وشركاه بتقمص شخصية جيري، وهكذا دواليك بالتناوب.
وبعد أن تم تدمير حلب الشرقية وإخراج أهلها، أرادت روسيا أن تخفف من " وقع الصدمة " على الشعب السوري، فلعبت على الحبلين، وأعطت تنظيم الدولة بطاقة مرور لاستعادة تدمر إلى حضنها الدافئ.!!. وهكذا حصل، ففي كانون الأول من العام نفسه 2016 استعاد التنظيم السيطرة على تدمر، واغتنم الكثير من الأسلحة الروسية الخفيفة والثقيلة التي خلفتها قوات القيصر العظيم بعد هروبها السريع المذهل. وهكذا ارتفع شأن " أبطال التنظيم " في عيون المعجبين والمريدين.!!.
وفي هذه الأيام العصيبة، وفي خضم الصراع الكلامي في جنيف4، بشّر أبو شهرزاد، كما أسلفنا، بعودة تدمر إلى حضن الأسد. وقد جاءت هذه العودة بفرمان روسي، بدليل أن وزير الدفاع سيرغي شويغو، أبلغ بوتين باستعادة السيطرة على تدمر، دون أن يبدي مقاتلو التنظيم أية مقاومة أو شراسة، بل كان الأمر أشبه بالانسحاب الأنيق. فكيف حدث ذلك.!؟. هذا علمه عند من ترك تدمر، وعند من عاد إليها.
ولو تركنا علم الكلام الهزلي، واعتمدنا علم التحليل السياسي المبسط. لقلنا إن هناك أيضاً لعبة شبيهة بلعبة " توم وجيري " في منطقة منبج في الشمال السوري، فتنظيم الدولة سلمت العديد من القرى لقوات الأسد، وكذلك فعلت قوات سورية الديمقراطية، حيث سلمت هي الأخرى بعض القرى القريبة من منبج بهدف قطع الطريق على قوات درع الفرات ومنعها من تحرير المدينة. وهذا هو الهدف العسكري الذي تلعبه روسيا، ربما بتناغم مبطن مع إدارة ترامب الجديدة.
أما هدف روسيا السياسي، فهو امتلاك المزيد من أوراق الضغط على المعارضة التي ليس بيدها أية ورقة تلعبها سوى القبول بما يُملَى عليها، وهكذا نجدها تتنازل عن مبدأ بعد آخر، وتتدهور درجة بعد أخرى، وإن استمرت في هذا النهج، ستضطر في النهاية إلى رفع الراية البيضاء، وإعلان استسلامها أمام دستور وزير خارجية بوتين، والقبول بانتخابات " نزيهة " تشرف عليها روسيا الحيادية.!!. بذات نفسها، ومن يرفض فلسان حال لافروف يقول: روحوا بلّطوا البحر، فهناك بديل عنكم في منصات القاهرة وموسكو وبيروت، وهي مستعدة أن تنفذ أكثر مما هو مطلوب منها، وتستطيع حتى أن تدبك على أنغام: بشار الأسد قائدنا إلى الأبد.
أليس هذا هو الواقع المرير، في الوقت الراهن.!؟.
الافتراض العام في سوريا يقول إن موسكو لا تتمسك ببقاء بشار الأسد كهدف استراتيجي لها على رأس النظام، وإن إيران تقارب المسألة وفق معادلة صفرية: تنتصر طهران ببقاء الأسد وتهزم برحيله.
هل انقلبت الآية بعض الشيء؟ هل باتت موسكو أقرب إلى حماية بقاء الأسد في مرحلة انتقالية في حين قد يكون من مصلحة إيران التخلص منه إن بات ورقة روسية؟ السؤال لا يزال إلى حد بعيد في دائرة العالم الافتراضي السياسي أو هكذا يبدو للوهلة الأولى. وقد لا يتجاوز كونه رياضة ذهنية في مراجعة النظر إلى سوريا وأزمتها. لكنه رياضة ضرورية.
منذ سقوط شرق حلب وانهيار مسار الحل السياسي الأميركي الروسي قبل شهر من نهاية ولاية الرئيس الأميركي باراك أوباما، ولدت معادلة جديدة للحل قوامها المسار التركي الروسي أساساً، مضافاً إليه دور إيران بحكم الأمر الواقع، وكانت آستانة هي نقطة الانطلاق.
مذاك، تتراكم الأدلة على تباعد موسكو وطهران، رغم قدرة الدولتين على ابتلاعها والتحايل عليها حتى الآن. ابتلعت إيران الحضور التركي. ابتلعت مشاركة المعارضة المسلحة والاعتراف الاضطراري بها، خلافاً لكل الرواية الإيرانية التي تدرج المسلحين في سياق الإرهاب ولا شيء غير الإرهاب. وابتلعت مشاركة واشنطن، وهي ترقب بعين شكاكة، الغزل بين الكرملين والبيت الأبيض. كل ذلك لم ينجح في تغييب ملمح ناشئ في ثنايا العلاقات الروسية الإيرانية، وهو الصراع على بشار الأسد نفسه ووظيفته في الأزمة.
كان أسلوب وزير الخارجية الروسي، سيرغي لافروف، فجاً قبل أسابيع في مؤتمره الصحافي السنوي المخصص للحديث عن نتائج عمل الدبلوماسية الروسية، حين قال إن «دمشق كانت ستسقط خلال أسبوعين أو ثلاثة في يد الإرهابيين عندما تدخلت روسيا في سوريا». وصلت الرسالة إلى إيران على أبواب انطلاق مؤتمر آستانة، ورد باسمها اللواء يحيى رحيم صفوي، المستشار الخاص للمرشد الإيراني علي خامنئي، معتبراً أن «الاستشارات العسكرية الإيرانية منعت سقوط بغداد ودمشق». وقبل أيام قال حسن نصر الله: «الكل بات يعرف أن الحرب الجوية وحدها لا تصنع نصراً، واليوم في سوريا لو لم يقاتل الجيش السوري ومختلف الحلفاء على الأرض فأكبر سلاح جو لن يستطيع أن يحسم المعركة وهذا من الثوابت العسكرية» في ردٍ آخر على روسيا.
لعبة «حصر الإرث» هذه، والصراع على تحديد حصص كل فريق في رصيد إنقاذ الأسد هي صراع على الأسد نفسه، لاستمالته إما لمنطق موسكو السياسي وإما لمنطق إيران العسكري الراغب في الدفع إلى حلول عسكرية إضافية في إدلب ودرعا وغيرهما.
ليس بعيداً عن هذا التناتش وما يستلزمه من رسائل سياسية، أزمة المحروقات في سوريا والتي تضعها مصادر سورية في سياق الضغط الإيراني على الأسد لتذكيره أن جزءاً رئيسياً من شرايين حياة النظام تمسك بها طهران التي ترسل بواخر المحروقات وغيرها إلى بانياس! الولاء مقابل الغذاء.
وثمة من يطرح علامات استفهام جدية حول هوية من يقف خلف تفجيري حمص الأخيرين اللذين استهدفا فرعي الأمن العسكري وأمن الدولة في حيي الغوطة والمحطة بمدينة حمص وأديا إلى مقتل عدد من الضباط والجنود، بينهم رئيس فرع الأمن العسكري العميد حسن دعبول. في الأمن يصعب الحسم باستنتاجات سياسية، لكن الأسئلة نفسها مؤشرات إلى مناخات اللحظة السياسية. فهل ثمة من يقول للأسد: روسيا تملك السماء ونحن نملك الأرض؟ هل على الأسد أن يستنتج أن من يفجر في عقر داره في حمص قادر على اللعب بالنار في عقر داره بدمشق؟
منذ آستانة تلمس إيران، أن الأسد بات أقرب إلى منطق موسكو. تدرج من القبول بالجلوس مع المعارضة المسلحة في آستانة إلى القبول قبل أيام بالبحث في الانتقال السياسي في جنيف.
ومخابرات طهران تعلم أن شريحة كبيرة من سوريا العميقة المحيطة بالأسد باتت، منذ تدخل موسكو، تعبر بحدة عن ضيقها بالدور الإيراني. وهذه شريحة تضم أركاناً من «نخبة النظام الصامتة» وكبار رجال الأعمال والصناعيين والتجار ممن ترتبط بهم عشرات آلاف العائلات، في كل المدن السورية وفي المهاجر القسرية لا سيما في دول الجوار.
إن اقتنعت إيران أن الأسد راحل وفق المنظور الروسي، فقد تعمل على إزاحته بتوقيت يناسبها. وهي ستنحاز لخيار الفوضى على خيار دولة جديدة في سوريا، تعلم أنه أياً تكن تركيبتها فلن تكون المعبر الرحب ذاته لدور إيران الاستراتيجي في المشرق.
فهل باتت حماية الأسد في المرحلة الانتقالية خطوة في مواجهة إيران وليس العكس؟ ربما.
في مثل هذا الشهر قبل ست سنوات قال الشعب السوري كلمته. انتفض على نظام أقلوي أراد استعباده إلى ما لا نهاية. كان انتقام النظام من الشعب السوري، ولا يزال، فظيعا. لم يعد سرا أن ما تشهده سوريا هو المأساة العالمية الأكبر منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية.
قرّر النظام، بدعم إيراني وروسي، كشفه موقف موسكو الأخير في مجلس الأمن، أن المطلوب الانتهاء من الشعب السوري، ومن سوريا نفسها. هل تتمكّن الأطراف الثلاثة من ذلك؟ الثابت أنّها ستفشل في الانتهاء من الشعب السوري. لا يستطيع نظام القضاء على شعب، أيّا تكن الوسائل التي يلجأ إليها، بما في ذلك السلاح الكيميائي، وأيّا تكن القوى الخارجية التي يستعين بها. لن تتمكن الأطراف الثلاثة من القضاء على الشعب السوري، حتّى لو كان “الفيتو” الروسي الأخير في مجلس الأمن، وهو السابع منذ العام 2011، يعني تشريع استخدام السلاح الكيميائي في الحرب التي يتعرّض لها الشعب السوري.
على الرغم من هذا “الفيتو”، الذي كان روسيا – صينيا، الأكيد أن الشعب السوري سينتصر. لو كان الشعب السوري سيتراجع، لما كانت ثورته مستمرّة منذ ست سنوات. لكنّ سوريا التي عرفناها لن تقوم لها قيامة للأسف الشديد بعدما خلقت الحرب المستمرّة منذ آذار ـ مارس 2011 وقائع جديدة على الأرض. لا بدّ من أن تكون لهذه الوقائع، التي هي أبعد من “الفيتو” الروسي – الصيني، انعكاسات في غاية الخطورة في المدى الطويل، خصوصا على بلد مثل لبنان، إضافة إلى دول الجوار الأخرى.
هناك ما هو أبعد بكثير من “الفيتو” الذي يعطي فكرة عن عجز روسيا عن لعب دور إيجابي في مجال البحث عن مخرج في سوريا. فإذا وضعنا جانبا المشكلة الضخمة الناجمة عن تدفق هذا العدد الكبير من اللاجئين السوريين على لبنان والأردن، تأتي على رأس هذه الوقائع تمكّن إيران من إزالة الحدود الدولية بين لبنان وسوريا. جعلت إيران، بفضل ميليشيا “حزب الله” التي ليست سوى لواء في “الحرس الثوري”، الرابط المذهبي فوق كلّ ما عداه، بما في ذلك الحدود المعترف بها بين دولة وأخرى.
إنّه الواقع الأخطر الذي تركته الحرب التي يتعرّض لها الشعب السوري. هذا الواقع سمح في وقت لاحق بظهور “داعش” وتوسّعه في العراق وسوريا متجاوزا الحدود بين الدولتين. هذا الواقع جعل من السهل قيام “الحشد الشعبي” الذي يضمّ مجموعة من الميليشيات المذهبية العراقية التابعة لإيران بالمشاركة بالحملة على “داعش”. ليس “داعش”، في نهاية المطاف، سوى تنظيم إرهابي يوفر كل المبررات التي يحتاجها “الحشد الشعبي” لتنفيذ ما تطمح إليه إيران في العراق، بدءا بتغيير طبيعة المدن في هذا البلد المهم الذي كان إلى ما قبل فترة قصيرة بلدا عربيا فيه قوميات عدّة، لكنه كان من بين الأعضاء المؤسسين لجامعة الدول العربية.
ليس معروفا إلى أي مدى ستتغير الخرائط نتيجة ما يمارس في سوريا، وما آل إليه الوضع فيها. لكن الثابت حتّى الآن أن طبيعة المجتمعات في كل دولة من الدول العربية التي تأثّرت بما يدور في سوريا ستشهد تطورات أساسية في ضوء وقوع أراضي تلك الدولة تحت أربع وصايات وسقوط الحدود اللبنانية ـ السورية لأسباب مرتبطة بالمشروع التوسّعي الإيراني.
بعد ست سنوات على الحرب التي يتعرّض لها الشعب السوري، تكونت في البلد أربع مناطق نفوذ. هناك منطقة نفوذ إيرانية، وأخرى روسية، وثالثة تركية، ورابعة إسرائيلية. المضحك المبكي في الموضوع أن النظام مازال يتحدث بين حين وآخر عن السيادة السورية بلسان بشّار الأسد أو أحد مساعديه.
من الصعب توقع كيف سينتهي الوضع السوري في المستقبل المنظور. لكن “الفيتو” الروسي الأخير لا يشجع على التفاؤل، خصوصا أنّه يعكس رغبة في دعم نظام مستعد لكلّ شيء من أجل القضاء على شعب بكامله.
هذا لا يعني أنّ في الإمكان تجاهل أن عنصرا جديدا طرأ على الوضع السوري. يتمثّل هذا العنصر الجديد في رغبة الإدارة الأميركية في إقامة “مناطق آمنة” داخل الأراضي السورية على حدود الأردن وتركيا… وربّما لبنان الذي زاره أخيرا السناتور بوب كوركر، رئيس لجنة الشؤون الخارجية في مجلس الشيوخ الأميركي. حرص كوركر، الذي كان مرشحا لأن يكون وزيرا للخارجية مكان ركس تيلرسون، على الذهاب إلى بلدة عرسال التي يفوق عدد اللاجئين السوريين فيها عدد المواطنين اللبنانيين.
فتح تجاوز “حزب الله”، أي إيران، للحدود اللبنانية – السورية، الباب أمام كل أنواع التغييرات وصولا إلى التدخل العسكري الروسي بهدف الحؤول دون الإعلان رسميا عن سقوط النظام. ما تشهده أرض سوريا حاليا من أحداث مصيرية مرتبط، إلى حد كبير، ببداية التدخل الإيراني عبر ميليشيات لبنانية وعراقية وأفغانية لإنقاذ النظام العلوي. أسّس إلغاء الحدود اللبنانية – السورية لكل أنواع التدخلات، وصولا إلى التواطؤ التركي مع روسيا كي يَسهل إخراج مقاتلي المعارضة من حلب.
الملفت إلى الآن، أن إسرائيل تتفرّج وتكتفي بتوجيه ضربات جوية بين حين وآخر تستهدف أسلحة وصواريخ مرسلة إلى “حزب الله” عبر الأراضي السورية. لم يصدر عن أي مسؤول إسرائيلي كلام يفهم منه ماذا تريد حكومة بنيامين نتانياهو التي تبدو راضية عن وجود منطقة نفوذ لها، كما أنهّا تنسّق بالعمق مع روسيا، باستثناء رغبتها في تفتيت سوريا، ملتقية بذلك مع ما يستهدفه النظام فيها.
لعل أقرب ما يكون للموقف الرسمي لإسرائيل ما صدر عن رئيس الأركان ووزير الدفاع السابق موشي يعلون الذي يحضر مؤتمرا في موسكو لمؤسسة أبحاث تابعة للكرملين اسمها “فالداي”. قال يعلون الذي استقال العام الماضي من وزارة الدفاع، لكنّه لا يزال قريبا جدا من المؤسسة الأمنية والعسكرية، “إن إسرائيل على استعداد لدعم التعاون الروسي ـ الأميركي من أجل تقسيم سوريا إلى علويستان وسنّستان وكردستان”، مضيفا “أن سوريا والعراق من الدول الاصطناعية التي لا داعي لمحاولة إعادة إحيائها”.
لم يصدر أي رد على يعلون من المشاركين في المؤتمر. فضل المشاركون الروس وغير الروس الصمت. إنه تأسيس لمرحلة جديدة في سوريا بدأت بتطور في غاية الخطورة لم يحسب كثيرون لمدى أهميته وأبعاده يتمثل في الاستهانة بالحدود اللبنانية – السورية، والاستهانة بلعب ورقة الرابط المذهبي وجعله فوق سيادة الدول ومبدأ الانتماء الوطني أولا.
ليس “الفيتو” الروسي سوى تعبير عن الرغبة في الذهاب بعيدا في المشاركة في التأسيس لهذه المرحلة الجديدة، التي صار فيها استخدام السلاح الكيميائي في الحرب على الشعب السوري وجهة نظر وغطاء لمزيد من الجرائم.
يعبّر موقف موسكو، الذي تشارك فيه الصين، والذي يشجّع على ارتكاب مزيد من الجرائم في حقّ الشعب السوري، أفضل تعبير عن الاستثمار في كلّ ما من شأنه إقامة كيانات طائفية ومذهبية في كلّ منطقة المشرق العربي وما هو أبعد منه.
تكمن السياسة الروسية في وهم استعادة دور الاتحاد السوفييتي العالمي، وأن تلعب دوراً مركزياً في العالم، والانطلاق من نتائج الحرب العالمية الثانية في دعم سيادة الدول، والتدخل عبر ممثلي هذه الدول، كما في سورية. وفي حال تعذر ذلك، هناك الغزو التقليدي، كما حصل في أبخازيا والقرم. روسيا لم تفهم السياسة الأميركية جيداً؛ فالانسحاب في مرحلة أوباما كان لأسبابٍ متعدّدةٍ، وكذلك لجذب روسيا إلى التحالف معها في استراتيجيتها ضد الصين، والتي لا تزال قائمة في زمن دونالد ترامب. روسيا رفضت ذلك، وتقدمت بسياسةٍ توازي السياسة الأميركية عالميّاً وفي منطقتنا، وهي إعطاء إيران دوراً في المنطقة، وكذلك تركيا وإسرائيل، وتهميش العرب واللعب على الأكراد، والضغط على هذه الدول، حينما تتضرّر المصالح الروسية. الخلاف هنا أن أميركا تسمح بتقدم إيران من موقع توريطها بحروبٍ مع العرب، وجذبها ما أمكن إلى صالح التحالف ضد الصين، وتغليب الاتجاه الإصلاحي على الاتجاه المحافظ فيها. الضعف الروسي عالمياً تُدركه إيران وتركيا وإسرائيل. ولهذا، نجد نديّة معينة في التعاطي معها، بخصوص السياسة في منطقتنا والعالم، فتركيا تختلف مع روسيا بمسائل معينة، ولا سيما بخصوص مجمل الوضع السوري، وكذلك نجد اختلافاتٍ تتصاعد بين روسيا وإيران، بخصوص الوضع في سورية. وأيضاً لإسرائيل حساباتها في كل المنطقة، والتي قد تتوافق أو تتباين مع روسيا، ولا سيما إزاء الموقف من إيران أو حزب الله وغيرهما.
ما لم تفهمه روسيا، وهي بصدد احتلال سورية، وبطلبٍ من نظامها ومن إيران، أنّ عليها أن تحسم العلاقة مع النظام وإيران ذاتهما. ربما سبب تأخُرُ ذلك عدم رغبة روسيا في التورط بالمعارك بريّاً، وهي التي خسرت في أفغانستان، ولا تنسى خسارة أميركا في فيتنام، لكن ذلك يشلّ يدها، ويُعطي لإيران الأحقية في دور أكبر للسيطرة على سورية مستقبلاً، وليس الآن فقط. تم التدخل الروسي بموافقة أميركية، وكان يمكن لروسيا أن تسيطر بشكل كامل على سورية، لو قرأت جيداً السياسة الأميركية تلك، لكن التردّد الروسي، بل والغباء، هو ما فعلته في السياسة بخصوص سورية، وهذا ما استفادت منه تركيا وإيران وإسرائيل، وعزّزت جميعها مواقعها في سورية. الخلافات بين روسيا وتركيا والتوافقات لاحقاً بينهما لا تعني بأي حالٍ أن هناك تحالفاً قويّاً بينهما، ويمكن ملاحظة ذلك من خلال التغيرات الجديدة التي رافقت وصول ترامب، وإعلانه عن مناطق آمنة في سورية أو تحرير الرقة؛ حيث استدارت تركيا فوراً نحو الخليج، وساهمت بدورٍ ما في فتح جبهة الجنوب السوري، وخفضت من التمثيل في أستانة 2. إذاً روسيا أخطأت في التردّد إزاء حسم تحالفاتها مع إيران، وضرورة تحجيمها بشكل كبير، وأخطأت بتبني خطاب النظام إزاء المعارضة والفصائل، وحتى حينما اتفقت مع تركيا والفصائل، وعقدت لقاءات أنقرة وأستانة، لم تفرض توافقاتها تلك على إيران، وبقيت الأخيرة تُعطّل التوافقات، وتضعف بنودها كذلك، وظلت روسيا تقلّل من شأن الانتقادات التركية أو المعارضة، بخصوص رفض أن تكون إيران ضامنةً لوقف إطلاق النار، وكذلك بخصوص إجلاء المليشيات الطائفية التابعة لها من سورية.
السياسة الأميركية الجديدة، وعلى الرغم من إشارات ترامب إلى علاقة وثيقة مع بوتين، فإنها لن تختلف كثيراً عن سياسة أوباما، لكنها ستستعيد بعضاً من سياسات بوش وكلينتون، أي العودة إلى لعبِ دورٍ مركزيّ في المنطقة، وإن ظلت استراتيجيتها الأساسية تتمركز في مواجهة الصين؛ وبرز بشكل واضح رفضها الوجود الإيراني في العراق، والتنديد بوجودها في كامل المنطقة العربية، وفي التصريحات الرافضة حل الدولتين، ودعم إسرائيل في دولة واحدة وضد العرب. وأخيراً رفض التهميش الذي فرضته روسيا وإيران ضدها في اجتماعات أستانة بخصوص الوضع السوري.
فتحت أميركا عملياً جبهة الجنوب، وقطعت الطريق على تنسيقٍ أكبر بين الأردن والنظام، وكذلك لإحكام إغلاق المعابر بين الدولتين، بدلاً من فتحها، كما كان مأمولاً للنظام السوري، وقالت بمناطق آمنة، كان أوباما يرفضها من قبل، ولصالح تركيا وربما الأكراد، وكذلك في الجنوب، وأعادت العلاقات القوية مع السعودية تحديدا. وبالتالي، انتهى جنيف 4 قبل أن يبدأ؛ النظام لم يفعل شيئاً لنجاحه طبعاً، فهناك التنديد بتركيا، وتقديم شكوى لمجلس الأمن الدولي، باعتبارها محتلة لأراضي سورية، وعدم إيقاف إطلاق النار والاستهزاء بوفد هيئة التفاوض إلى جنيف 4، واشتراط أن يتضمن المنصات التابعة لروسيا.
كل ما تقدم، ولم تُعلن بعد أميركا سياسةً واضحةً ودقيقة إزاء تركيا وسورية والأكراد والوجود الروسي في سورية؛ إذاً أخطأت روسيا كثيراً في فهم السياسة الأميركية، والآن بدأت تُحاصر في سورية، وربما غداً في أوكرانيا، لا سيما أن المواقف الأميركية إزاء أوروبا وحلف شمال الأطلسي (الناتو) لم تستقر بعد، لكنها كذلك قد لا تبتعد كثيراً عمّا كان في زمن أوباما، مع تشدّدٍ أكبر بخصوص تمويل الحلف الأطلسي، فلا يمكن لأميركا دفع أوروبا نحو سياسات تقاربٍ مع الصين أو روسيا.
الآن، تُقدم الخطط لتحرير الرقة، وهناك خطة روسية أيضاً، وليس فقط خطط تركيا أو خطة قوات سورية الديموقراطية. وهذا يدلّ على أن روسيا بدأت تتراجع مواقعها في سورية؛ تحصين روسيا لنفسها بمعاهداتٍ عسكرية، ومحاولتها السيطرة على السلطة السورية والمطارات العسكرية، وإرساء قواعد عسكرية واتفاقيات اقتصادية وسوى ذلك، لا يحصّنها في حال اعتُمدت سياسة أميركية متمايزة عنها إزاء الوضع السوري؛ فروسيا وعلى الرغم من ثقلها العسكري في سورية، ظلّت بحاجة إلى إيران وتركيا، والآن تُراقب كما العالم التغيرات في السياسة الأميركية إزاء سورية والعالم.
قصدت أن روسيا لم تخطئ فقط بتأخرها حسم التناقض مع إيران وإرساء تحالف قوي مع تركيا. وبالتالي، فرض حل سياسي في الفترة الانتقالية لانتقال السلطة في أميركا، بل وتكمل الخطأ بقصفٍ همجيٍّ لكل المدن السورية، تجدّد مع فتح جبهة درعا، وكذلك تحاول التضييق على تركيا في مدينة الباب، وتقترح خطة لتحرير الرّقة، عبر قوات النظام.
روسيا احتلالٌ زائلٌ من سورية لما ذكرناه، وهي ككل احتلال تتوهم السحق الكامل للشعب الأصلي؛ روسيا جاءت لمواجهة ثورةٍ شعبيةٍ، وستزول بحربٍ وطنية قادمة.
هذا وقد انتهت جولة المفاوضات الرابعة في جنيف، من دون تحقيق أي تقدم باتجاه حل سياسي في سورية، هذا هو المدخل الذي كان متوقعاً عند الإعلان عن عقد جولة المفاوضات هذه، وهذا هو المدخل الذي تم استخدامه بعد انتهائها، فما من أحدٍ في العالم كان يتوقع أن تصل هذه المفاوضات إلى شيء، حتى المبعوث الأممي، ستيفان دي ميستورا، مهّد لهذه النتيجة منذ البداية، وقال قبل انطلاق المفاوضات: "لا نتوقع تحقيق معجزات"، وكلمة معجزات في اللغة الدبلوماسية تعني "شيئاً"، ولا نتوقع تعني "نحن متأكدون"، والعبارة ترجمها السوريون إلى معناها الحقيقي وتعاملوا مع هذه الجولة أنها "نحن متأكدون أنه لن يحصل شيء"، فلم ينتظروا منها شيئاً، فلا مهجرين استعدوا للعودة إلى بيوتهم، ولا مهاجرين حزموا حقائب العودة إلى بيوتهم، ولا مقاتلين بدأوا بفك بنادقهم، والجميع تعامل مع المفاوضات على أنها أمر يجري لمجرّد أن يجري، ولا علاقة له بالواقع.
بات التكرار في هذه الجولة مملاً، فالكلمات نفسها والمواقف نفسها، وطريقة رئيس وفد النظام، بشار الجعفري، في المماطلة والتسويف هي نفسها، فهو تابع إغراق المبعوث بالتفاصيل، وحرف النقاش عن مضمونه، ولم يفوّت مناسبة لإظهار عدم جديته، وعدم جدية النظام الذي يمثله في هذه المفاوضات، ومع أي مفاوضات أخرى. والجميع صار يعرف مفهوم النظام للمفاوضات ولعملية الانتقال السياسي، والتي تعني بالنسبة له "العودة إلى حضن الوطن"، أي الاستسلام والخضوع الكامل لإرادته والعودة إلى تحت حكمه.
وفد المعارضة الذي يتعرّض في كل جولة لبعض التغيير في الوجوه المشاركة يبدو أبهت في كل مرة، وأقل تأثيراً وفعالية وجدية، ووفد النظام يتكرّر بكل تفاصيله، والمبعوث الأممي يقوم بذلك كله، وكأنه موظف بيروقراطي في مؤسسة حكومية، ينفذ واجبه اليومي، من دون أدنى حماس أو تفكي ويطمحون لها فرصة لتغيير الظروف القاسية التي يعيشونها داخل البلاد وخارجها، وهذا التنبؤ المبكر، والذي يبدو ضرباً من الجنون، هو تعبير عن حقيقة الشعور التي أصابتنا، نحن السوريين، تجاه كل أنواع المفاوضات على اختلاف تسمياتها وأماكن إقامتها، ونوعية المشاركين فيها، فقد فقدنا أي أمل بتحقيق، ولو خطوة صغيرة، باتجاه السلام المنشود.
ليس لدى أحد من الأطراف المشاركة في هذه الجولة من المفاوضات (وسابقاتها) أدنى فكرة جدية للدخول في عملية تفاوض مثمرة، يمكن أن توقف شلال الدم المستمر منذ ست سنوات. ولعدم المبالغة في لغة التعميم، فإن من يملكون رغبةً حقيقيةً في الوصول إلى السلام هم من لا يملكون سلطة فعلية على الأرض قادرة على تحقيقه، بينما للقوى التي تملك هذه القدرة أجنداتها المتنوعة التي تجعل السلام عدواً لها، كما هي عدوٌّ له، وفي الحروب عادة ما تكون مفاتيح السلام بيد من يملك مفاتيح النار، ومن يملكون مفاتيح النار، اليوم، هم النظام والجماعات الإرهابية، ولا تفكير جدياً لدى كل من الطرفين في الوصول إلى نتائج، أما الثوار الحقيقيون الذين يسعون إلى بناء سورية جديدة، ويريدون وطناً جامعاً (سالماً منعماً وغانماً مكرماً) فهؤلاء يفقدون أوراق اللعبة شيئاً فشيئاً، ولم يبق في يدهم سوى النيات الطيبة التي لم تستطع يوماً أن توقف حرباً.
في الجولة التي انتهت من المفاوضات، أعطيت الفرصة لرئيس وفد النظام، بشار الجعفري، ليجدد اتهاماته للشعب السوري بالإرهاب، وهذه المرة من بوابة هجوم شنته جبهة النصرة على فرعين للأمن في حمص، فقد كان هذا الحدث فرصة له ليمارس تضليله، ويقول للعالم، إن الثورة السورية مجموعة من الإرهابيين، والمفارقة أن كلا الطرفين (من فجّر نفسه، ومن كان هدف التفجير) هما عدوان للشعب السوري، أذاق كل منهما السوريين مرّ العذاب، فجبهة النصرة، كما "داعش" تمارس في المناطق التي تسيطر عليها فنون الاضطهاد والتعذيب، لكل من لا يروقها، بينما تمثل فروع الأمن التي جرى استهدافها رموزاً للإرهاب والاضطهاد، حيث قتل فيها عشرات آلاف السوريين تحت التعذيب، وربما كانت هذه أهم نتائج هذه الجولة، بانتظار جولةٍ أخرى أكثر غرابة.