مع الإدارة الأميركية الجديدة بدأت فكرة جديدة تتبلور في الحرب على «داعش»، لا تقتصر على نشر المروحيات والمدفعية في الرقة والموصل وتعزيز وجود القوات الخاصة، بل تشكل جبهة أميركية خليجية تساهم في الحرب على «داعش»، شريطة أن المناطق التي تتحرر من «داعش» يجب ألا تحتلها إيران أو ميليشيات تابعة لها، هذا هو العنوان الرئيسي الذي خرجت به وثيقة موسكو وزيارة وزير الدفاع الأميركي جيمس ماتيس للخليج والعراق.
أي أن هناك اتفاقاً أميركياً روسياً تركياً خليجياً على إنهاء التمدد الإيراني في العواصم العربية، ويجب أن نكون واضحين جداً في هذه الرسالة إن أراد العالم تعاوننا للقضاء على تنظيم داعش.
مقابل أي مساهمة خليجية أو عربية في الحرب على «داعش»، سواء في العراق أو في سوريا، يجب أن تكون إيران خارج تلك المناطق، وأن تكون هذه الرسالة واضحة أكثر للحكومة العراقية، التي قال ماتيس إن أميركا ستبقى داعمة للعراق حتى بعد تحريره من «داعش»، فإذا ربطت هذا الموقف مع موقف ماتيس من إيران كالدولة الأولى الراعية للإرهاب، فأنت أمام جبهة موحدة مصرة على خروج، لا القوات الإيرانية فحسب من العراق وسوريا، بل «النفوذ» الإيراني كذلك منها، هذه رسالة ليست من دول الخليج، بل من الولايات المتحدة كذلك.
تشكيل جبهة أميركية خليجية، هو عنوان المرحلة المقبلة، تحمل شعار عروبة الأراضي المحررة من «داعش»، أصبح وشيكاً حتى يتبين للعالم حقيقة الجهة الداعمة للإرهاب ولبقاء «داعش» ومن يريد فعلاً التخلص منها، أو من يريدها ذريعة لتمدده.
خروج القوات الأجنبية والميليشيات المدعومة إيرانياً من سوريا ومن العراق هدف أساسي للمساعدة، ومرحلة ما بعد «داعش» أصبحت تناقش قبل التخلص من «داعش».
هذا ما ذكره عادل الجبير وزير الخارجية السعودي حين أعلن عن استعداد بلاده لإرسال قوات إلى سوريا لمكافحة تنظيم داعش بالتعاون مع أميركا؛ إذ نقلت صحيفة «زود دويتشه تسايتونغ» الألمانية عن الجبير قوله إن «السعودية ودولاً أخرى بالخليج أعلنوا عن الاستعداد للمشاركة بقوات خاصة بجانب الولايات المتحدة، وهناك بعض الدول من التحالف الإسلامي ضد الإرهاب والتطرف مستعدة أيضًا لإرسال قوات».
وأضاف: «سننسق مع الولايات المتحدة من أجل معرفة ما الخطة وما الضروري لتنفيذها».
يذكر أن الرئيس الأميركي دونالد ترمب، أمر وزير الدفاع جيمس ماتيس، بعرض خطة جديدة في غضون 30 يوماً، لمكافحة تنظيم داعش.
وقال الجبير للصحيفة الألمانية إنه «يتوقع عرض هذه الخطط قريباً، موضحاً بشكل غير مباشر أنه يمكن تسليم مناطق محررة في سوريا إلى المعارضة».
وأكد أن «الفكرة الأساسية هي تحرير مناطق من تنظيم داعش، ولكن أيضاً ضمان ألا تقع هذه المناطق في قبضة (حزب الله) أو إيران أو النظام».
وفي الرابع من يناير (كانون الثاني) قال مولود جاويش أوغلو وزير الخارجية التركي: «على النظام (السوري) أن يعود إلى طاولة الحوار لإجراء مفاوضات مباشرة مع المعارضة، وذلك لتحقيق الانتقال السياسي السلمي في سوريا». وأضاف: «أيها المجتمعون يجب أن نرسل رسالة قوية نطالب فيها بأن تغادر جميع الميليشيات الأجنبية الأراضي السورية فوراً»، وكان وزير الخارجية التركي، قد شدّد على ضرورة انسحاب جميع الميليشيات من سوريا، في تصريح له نهاية العام الماضي، عقب الإعلان عما عرف بوثيقة موسكو الروسية والإيرانية والتركية، التي نتجت عنها دعوة مؤتمر «آستانة» في كازاخستان، أي أن الموقف الروسي غير معارض أبداً خروج إيران من سوريا والعراق، بل العكس، فإن ذلك يصب في مصلحته إذا أخذنا في الاعتبار أن الوجود الإيراني سيبقي على الجبهة السورية مشتعلة حتى وإن أجبرت المقاومة على تسليم سلاحها.
أما في العراق فإن الحديث عن مرحلة «ما بعد (داعش)» قد بدأ فعلاً، وحول الوضع الإيراني بالتحديد كما هو الحال في سوريا؛ لهذا سارع رئيس الوزراء العراقي السابق المالكي، لزيارة إيران في بداية شهر يناير حين استشعر بالغيوم تتجمع فوق السماء الإيرانية، سارع بالالتقاء بعلي أكبر ولايتي المستشار الدولي لخامنئي ليطمئن على مستقبله، وقال إنه جاء إلى إيران للقاء خامنئي ولبحث ما سمّاه «الأخطار المحتملة بعد (داعش)»، حسب ما نقلت وكالة «مهر» الإيرانية، في تعبير سياسي جديد على السياسة الدولية والإقليمية، وبخاصة أن الحرب على «داعش» لم تنته بعد، في العراق أو في سوريا. ولم يعرف مغزى قوله بأنه ذهب إلى إيران للبحث في الأخطار المحتملة بعد «داعش»، مع المسؤولين الإيرانيين الذين لا ينتشر التنظيم المتطرف بين ظهرانيهم، وليست لديه أي عمليات عسكرية معلنة على أرضهم، («العربية» 4 يناير).
فإن أراد العراق أن تدعم دول الخليج أمنه واستقراره بالتعاون مع الولايات المتحدة الأميركية، فإن عليه أن يتصرف حيال الانفلات الأمني الذي تتسبب فيه الميليشيات الإيرانية داخله.
حاولت الحكومة الأميركية حل أزمة سوريا، واخترعت مفاوضات ثلاث مرات في جنيف تقوم على طرح سياسي متوازن، لكن محور «نظام دمشق - إيران - روسيا» أفسد المؤتمرات الثلاثة. الآن الروس مع حليفيهم ابتدعوا مؤتمرين؛ واحداً في آستانة، والثاني، ينعقد الآن، في جنيف، والبدايات تؤكد النهايات؛ فشل مكرر.
ومع أن الجميع، تقريباً، تعاون مع المشروع الروسي، بمن في ذلك تركيا ودول الخليج، وحكومة ترمب الجديدة في واشنطن، إلا أن ذلك لم يكن كافياً. إرضاءً للروس وتعاوناً مع الأمم المتحدة، تم إيقاف تمويل المعارضة بالسلاح، ومورست الضغوط على الفصائل المعتدلة منها لتقبل بحلول أقل من توقعاتها، ومنع بعض الفصائل من المشاركة، وأيدته واشنطن، وصار المبعوث الأممي دي ميستورا محامياً عن الموقف الروسي. لم ينته «جنيف 4» بعد، لكن الفشل أبرز ملامحه حتى الآن.
هذا الوضع يبين، أولاً، أنه لا يوجد على الأرض فريق منتصر، أو قوي، حتى يمكن فرضه على الجميع بدعم دولي، وهو ما حاولت إيران وروسيا فعله بفرض النظام السوري المتهالك. وثانياً، الفشل؛ لأن الحل المقترح لا يلبي الحد الأدنى من توقعات ملايين السوريين المشردين والخائفين. المشروع ركيزته الإبقاء على النظام حاكماً، يعني ذلك فرض معادلته على الأرض من تهجير وإلغاء للغالبية الباقية من السكان في داخل سوريا. الفكرة في حد ذاتها غير قابلة للصمود حتى لو وقّعت كل الفصائل عليها. إنها معادلة تريد تمكين النظام من حكم معظم سوريا بالقوة، مثل الضفة الغربية تحت الاحتلال الإسرائيلي، باستثناء أن إسرائيل تملك نظاماً وقوة ضخمة مكنتها من المحافظة على هذا الوضع الشاذ. ومع أن الروس حاولوا إقناع عدد من فصائل المعارضة بالالتحاق بالنظام، ومكافأتهم بمقاعد في الحكومة، إلا أن الأمر يبدو لهم، وللجميع، مثل تشريع عملية اغتصاب، ولن يلتحق بالحل أحد ذو قيمة.
وما سبق طرحه من حل سياسي، وكان مرفوضاً من الطرفين آنذاك؛ النظام والمعارضة، لا يزال هو الحل العملي والبديل المعقول... نظام مشترك وليس مجرد تبعية له. ويمكن تطويره الآن، فتبقي على الرئيس، لكن تذهب سلطات الأمن والمال للمعارضة، أو يذهب الرئيس وتبقى الكراسي السيادية في يد النظام، ضمن إطار مشاركة تحميه القوى الإقليمية والدولية. المقاسمة تبنى على معادلة توازن معقولة لكلا الطرفين مصلحة في المحافظة عليها؛ إما الرئاسة، وإما صلاحيات الرئاسة، وليس كلتيهما. لدينا نموذج صامد هو «اتفاق الطائف» الذي أنهى النزاع اللبناني، وهو أكثر تعقيداً من السوري، والذي قام على خلق حلٍ تنازل فيه كل طرف. فدعوات الحرب طالبت بإلغاء حق المسيحيين في الرئاسة وسلطاتها، وتوزيعها بشكل متساو، لكنها انتهت بإعادة توزيع الصلاحيات، بقي الرئيس وراح جزء من صلاحياته للفرقاء الآخرين. من دون «الطائف» ربما استمرت الحرب، وخسر المسيحيون حصصهم هذه. ولو رفض السنة والشيعة أيضاً لجلبت الحرب مزيداً من تدخلات خارجية تديم الحرب، وكانت الساحة اللبنانية قد بدأت تشهد مزيداً من الانقسامات داخل كل طائفة. الوضع السياسي في لبنان اليوم ليس كاملاً أو رائعاً، لكن البلاد على الأقل استقرت. نزاع سوريا أقل تعقيداً، والمعارضة المدنية تقبل بالتشارك وبدستور يحمي كل الأقليات، ولديها في منظومتها تجربة جيدة، سمحت بمشاركة وترؤس السوريين من دون فوارق دينية أو عرقية. أما المعارضة الإسلامية المسلحة، فإن معظمها مرفوض من الجميع، لأنها تحمل مشروعاً دينياً وأممياً ليس في صلب مطالب الشعب السوري.
فشل مؤتمرات آستانة وجنيف سيعيد الوضع إلى الاقتتال، حتى بعد حرمان المعارضة المعتدلة من السلاح، التي اضطر بعضها للتحالف مع التنظيمات الإرهابية حماية لها بعد نفاد ذخيرتها. الفشل المكرر قد يعيد الأطراف المتصلبة للتفكير بطريقة عقلانية وواقعية، مثل إيران التي عليها أن تدرك أنه لن يسمح لها بالاستيلاء على العراق وسوريا ولبنان. لقد حدث توغلها مستفيدة من ضعف إدارة الرئيس الأميركي السابق. وهيمنتها على هذا الهلال الكبير تهدد بقية دول المنطقة وكذلك العالم، إما نتيجة لاستخدام إيران وكلاءها سلاحاً ضد خصومها في كل مكان، بمن في ذلك الأوروبيون والأميركيون، أو لأن الوضع سيستمر مضطرباً فيجذب المتطرفين إليه، وهو ما يهدد الجميع.
بات للصراع السوري، إضافة إلى مساره الحربي والكارثي والمأسوي، مساره التفاوضي الطويل والمضني والمعقد أيضاً، الذي امتد بين 2012 و2017، أي خمسة أعوام، من دون أي نتيجة ترتجى، من جنيف 1 إلى 4، بما في ذلك مسار آستانة، الذي تم تدشينه الشهر الماضي.
بيد أن المشكلة في ذلك المسار التفاوضي أنه لم يأت نتيجة قناعة الطرفين المتصارعين مباشرة (أي النظام والمعارضة)، بالحوار للتوصل إلى حلول سياسية أو تفاوضية، إذ إن ذلك ليس في قاموسهما، وليس على أجندتهما، وخاصة أن النظام رفض منذ البداية، أي منذ الثورة السلمية، أيَّ حل سياسي، مفضلاً استخدام القوة العاتية في مواجهة أغلبية السوريين، حتى أنه ذهب في مرحلة الصراع المسلح إلى حد استدعاء تدخّل عسكري من دولتين (إيران وروسيا)، مع ميليشيات لبنانية وعراقية وأفغانية، للقتال إلى جانبه، في حين أن المعارضة توخّت منذ البداية إسقاط النظام، بغض النظر عن إمكانات ذلك من الناحية العملية. هذا أولاً. ثانياً، تم رسم المسارات التفاوضية للصراع السوري، في محطاته المتوالية، من الخارج، كتعبير عن إرادة الأطراف الدوليين والإقليميين المنخرطين فيه، بشكل أو بآخر، في محاولة منها لتقطيع الوقت، أو لإضفاء مبررات سياسية على مواقفها المترددة، أو اللاأخلاقية، إزاء مأساة الشعب السوري. وفي غضون كل ذلك، ظل المسار التفاوضي محكوماً بالإرادات الخارجية، أكثر مما هو محكوم بإرادات الطرفين المتصارعين، أو بأولوياتهما، أو بموازين القوى المتحركة أو المتغيرة بينهما. ثالثاً، الأهم أن الأطراف الدولية والإقليمية، والتي تساند كل واحد من الطرفين المتصارعين (النظام والمعارضة)، لم تشتغل على حسم الصراع، أو وقفه، للتفرغ للمفاوضة، وإنما على تسعير الصراع المسلح والإبقاء عليه، لفرض إملاءاتها على الأطراف الأخرى، من دون مبالاة بمعاناة السوريين، ولا بالأثمان الباهظة المدفوعة في هذا الصراع بأشكال مختلفة.
اللافت أن المعارضة السورية، بكل أطيافها السياسية والعسكرية، لم تشتغل على أساس أنها تدرك المعطيات المذكورة أو التداعيات الناجمة عنها على الشعب والقضية والثورة، بل إنها اشتغلت وكأن هذه مجرد تفاصيل هامشية، إذ بدت في مجمل المحطات التفاوضية فاقدة الإرادة، أو ضعيفة القدرة، فضلاً عن افتقادها الرؤية الواضحة بخصوص القضايا التفاوضية، إذا استثنينا شعارها المتعلق بـ «إسقاط النظام»، أو مطالبتها المستمرة بالاستناد إلى مرجعية بيان جنيف1، وفق تفسيرها، والرؤية التي قدمتها «الهيئة العليا للمفاوضات»، إلى الأطراف الدوليين بخصوص مستقبل سورية.
وعدا ما ذكرناه، فإن المعارضة لم تتوحد حتى على صعيد وفودها، إذ تغيرت طواقمها التفاوضية بين جنيف2 و3 و4، ما أضعف صدقيتها، وبدّد خبراتها. هكذا كان يترأس وفد المعارضة إلى جنيف 2 السيد أحمد الجربا، رئيس «الائتلاف» في حينه، يعاونه هادي البحرة كبيراً للمفاوضين. وفي جنيف3 بات العميد أسعد الزعبي رئيساً للوفد، المتشكل من «الهيئة العليا للمفاوضات» التي تأسست لهذا الغرض، وبات فيها محمد علوش (المحسوب على «جيش الإسلام») كبيراً للمفاوضين، أما في جنيف4 فقد غدا نصر الحريري رئيساً للوفد ومحمد صبرا رئيساً للمفاوضين. وربما يجدر التذكير هنا أن وفد النظام بقي على حاله في مختلف المحطات برئاسة بشار الجعفري (وحتى في مسار آستانة).
بديهي أن هذا الكلام لا ينطوي على تحميل المعارضة أي مسؤولية عن إخفاق الخيار التفاوضي، أولاً بالنظر إلى ضعفها، وافتقادها السيطرة على أوضاعها. وثانياً، لأن النظام هو المسؤول عن إخفاق هذا الخيار، مع حلفائه (إيران وروسيا). وثالثاً، لأن الأطراف الدولية والإقليمية الأخرى، التي تبدو متعاطفة مع مطالب الشعب السوري بالتغيير السياسي، إما لم تحسم أمرها (كالولايات المتحدة)، أو أنها غير قادرة وحدها على فرض أجندتها (كتركيا وأوروبا والدول العربية)، لكن هذا الكلام يفيد فقط بنقد إدراكاتها وطرق عملها وخطاباتها، وعدم مراجعتها أحوالها.
والمعنى من ذلك أن المعارضة السورية ليس فقط لم تتواضع بطرح أهدافها، أو مرحلة أهدافها، من دون أن يعني ذلك تخليها عن مطلبها بإسقاط النظام وتحقيق التغيير السياسي، وإنما أيضاً لم تعمل على الموازنة بين ما ترغبه وبين إمكانياتها، فضلاً عن أنها لم تقدم البديل المقنع، في السياسة والبنية والإدارة، إن لشعبها أو للعالم، لا في المناطق «المحررة» ولا في غيرها من ميادين، بل إنها قدمت ما يثير المخاوف منها، ومن المستقبل الذي تعد به السوريين والعالم، والأنكى أنها كانت دائماً تقبل متأخرة ما كانت ترفضه من قبل.
هكذا لم تتقاطع المعارضة السورية، ممثلة بـ «المجلس الوطني» (والفصائل العسكرية) مع بيان جنيف1 (في حزيران/ يونيو 2012)، الصادر عن مجموعة العمل الدولية من أجل سورية، واعتبرت نفسها في حل من عملية التفاوض، من دون أن يعرف أحد كيف يمكنها تحقيق ما تريده، وبواسطة أي قوى أو إمكانات، سوى التعويل على التدخل الخارجي والعمل المسلح.
في مرحلة لاحقة، أي في جنيف2 (2014)، أضحت المعارضة السورية، الممثلة بكيانها الرئيس («الائتلاف الوطني»)، أكثر براغماتية في تعاطيها مع الجهود الدولية، وفي تجاوبها مع دعوات التفاوض التي أطلقها المبعوث الدولي الأخضر الإبراهيمي آنذاك، وانخرطت في تلك المفاوضات على قاعدة بيان جنيف1، على رغم تفسيراته المتباينة، سيما أن هذا البيان جرى تدعيمه بقرار من مجلس الأمن الدولي (2118). وطبعاً، فإن هذه المفاوضات لم تجدِ نفعاً، لأن النظام ظل يركز وقتها على رفض تفسير المعارضة لبيان جنيف1، وأولوية محاربة الإرهاب. وأيضاً فقد تمحور النقاش حول حضور إيران من عدم ذلك، والتباين في موقف روسيا والولايات المتحدة من تفسير بيان جنيف، ومن مصير الأسد، ومسألة الهيئة الانتقالية ذات الصلاحيات الكاملة. وطبعاً لم يتم التوافق لا على وقف إطلاق النار ولا الإفراج عن المعتقلين، ولا السماح للمساعدات الإنسانية بالوصول إلى المناطق المحتاجة والخاضعة للحصار.
أما مفاوضات جنيف3 (2016)، فقد عقدت بإشراف المبعوث الدولي ستيفان دي ميستورا، الذي عين بعد استقالة الأخضر الإبراهيمي، الذي خلف كوفي عنان في هذا المنصب، وفي ظل صعود المعارضة المسلحة، وتضعضع النظام، وهو الوضع الذي استدرج تدخلاً عسكرياً روسياً، بواسطة الطيران الحربي (أيلول/ سبتمبر 2015). والحال أنه عقدت هذه المفاوضات تحت سقف سياسي مختلف عن السابق، ووفقاً للقرار 2254، الذي تم التوافق عليه بين أطراف دولية وإقليمية (أهمها الولايات المتحدة وروسيا وتركيا والسعودية) في فيينا (أواخر 2015)، والتي توصلت إلى خطة طريق لحل سياسي في سورية (خلال 18 شهراً) بقيام حكومة مشتركة، أو هيئة حكم ذات مصداقية، من النظام والمعارضة، تشمل الجميع وغير طائفية، واعتماد مسار لصياغة دستور جديد لسورية، مع تجاهل مصير الرئيس الأسد.
لم تنجح هذه الجولة التفاوضية أيضاً، إذ أصرت المعارضة على تنفيذ الشق الإنساني من القرار 2254، لجهة فك الحصار عن المناطق المحاصرة، وإطلاق سراح المعتقلين، وتسهيل دخول مساعدات إنسانية للمحاصرين، لكن النظام لم ينفذ ذلك متسلحا بالتدخل الروسي، الذي غير المعادلات على الأرض لمصلحته.
الآن تنعقد الجولة الرابعة من مفاوضات جنيف، مع حلول إدارة أميركية جديدة في البيت الأبيض، وبروز نوع من التباين الروسي- الإيراني، والخصومة الأميركية- الإيرانية، ومع الدخول التركي المباشر على خط الصراع السوري، عبر عملية «درع الفرات».
لكن المؤسف أن المعارضة السورية ما زالت على حالها من الضعف والترهل والارتهان، ولم تقم بما عليها، إن لتعزيز وحدة صفها، أو لجهة طرح رؤى سياسية واضحة، أو لجهة اعتماد استراتيجية تفاوضية جديدة تُحدث فرقاً، مثل طرح فكرة دولة مواطنين، مدنية (لا طائفية ولا دينية ولا عسكرية)، في نظام ديموقراطي برلماني، وفي إطار فيدرالية على أساس جغرافي (لا إثني ولا مذهبي) تكفل عدم وجود مناطق محرومة، أو وجود مركز وأطراف، لأن النظام البرلماني والفيدرالي، في دولة ديموقراطية تكفل الفصل بين السلطات، هو الذي يضع حداً للمخاوف بشأن قيام نظام استبدادي جديد مهما كان لونه أو نوعه.
لا يحب الرئيس الإيراني حسن روحاني «البكاء الحلال»، ويكره الضحك «المحرّم»، لا لشيء إلا لأن صقور المتشددين في بلاده - برعاية «الحرس الثوري» ومرشد الجمهورية علي خامنئي - يكرهون إهدار الوقت... بنفحات سعادة. ولأن طهران منهمكة بمنازلات إقليمية، من العراق وسورية إلى اليمن، مرتبكة مع «ألغاز» إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب و «صدماته» المباغتة، يسخر المتشدّدون من ترويج روحاني للسعادة!
يتقدّم الرئيس الإيراني لأن الانتخابات باتت على الأبواب، يتوارى قاسم سليماني عن المواجهات الطاحنة مع «داعش» في العراق، لتفادي استفزاز الأميركيين. يُقلق طهران اقتراب الحسم مع التنظيم الإرهابي الذي قدّم لها هدية كبرى لترسيخ نفوذها في العراق وسورية، وتشريع دورها في «الحرب على الإرهاب». ويزعجها أكثر أن الحسابات الإقليمية تتبدّل سريعاً، وقد تحوِّل قلقها إلى صدمات «آخر العلاج...».
في سورية، تعدّدت مفترقات طرق بين إيران وروسيا التي ما زالت مصرّة على ضمان تسوية سياسية، ولو بولادة قيصرية، تريحها من عبء نشر قوات في مناطق لا يمكن النظام السوري الإمساك بها منفرداً. وليس رسالة ودّية إلى خامنئي، ميل القيصر فلاديمير بوتين - بعد رفضٍ مديد - إلى «مناطق آمنة»، لن يقبل أن تكون بحماية النظام السوري.
في العراق، لم يكن نبأً سعيداً للمتشدّدين في إيران إعلان الأميركيين وجنرالاتهم حتمية بقائهم في بلاد الرافدين، بعد سحق «داعش». فالقراءة المرجّحة لما تفعله إدارة ترامب، هي تمزيق «الصفقة الصامتة» بين طهران وواشنطن، والتي أتاحت للولايات المتحدة في عهد باراك أوباما سحب جيشها، وللجمهورية الإسلامية السيطرة على قرار بغداد، بذريعة منع تشظّي العراق، ولو كان الثمن إضعافه وإنهاكه.
وليس خبراً مريحاً للمرشد، أن تبادر السعودية إلى شراكة مع العراق في الحرب على الإرهاب، عبر إيفاد وزير الخارجية عادل الجبير إلى بغداد، وإعلان حرصها على علاقات «متميّزة» مع الجار العربي الذي نامت طهران طويلاً على «حرير» عزلته وضعفه، ليسهل لها التحكّم بمفاصل قراره السياسي والعسكري.
لعل ذلك يفسّر غضب وزير الخارجية الإيراني محمد جواد ظريف الذي لم يكتم استياءً مريراً من تجاوب بغداد مع مد السعودية يدها إلى الجار العربي الذي اكتوى سنوات طويلة بعزلته عن محيطه، وبضربات الإرهاب المتوحّش. وإذ اختار ظريف حملة مزدوجة على المملكة وتركيا، القوّتين الإقليميتين اللتين حذّرتا من الدور الإيراني في العراق وسورية، وتكريسه مذهبية لا تغذّي سوى التطرُّف والتطرُّف المضاد، فالوزير إنما وضع إشارات واضحة إلى خيبة وإحباط لدى طهران. والأكيد أن الإحباط تقدّم مع مبادرة ترامب إلى تحذير الإيرانيين من عواقب اختبار إدارته، وعزمها على التشدُّد مع عصا المتشدّدين الذين اعتادوا التلويح باليد الطويلة لـ «الحرس الثوري»، من الخليج والبحر الأحمر إلى البحر المتوسط.
تكتمل الأخبار السيئة للمرشد في اليمن، فالانقلابيون الحوثيون عاجزون عن الانكفاء إلى «كيان» يتحدّى صيغة الشرعية الجامعة، الحامية للمشروع الاتحادي. وهم عاجزون بداهة عن حسم الحرب لمصلحتهم، مهما ارتكبوا في حق المدن المحاصرة، في مسعى لإحراج التحالف.
وإذا كان العراق المثخن بجروح الإرهاب و «داعش» ونظام المحاصصة، والشرخ العميق في وحدته، ساحة مثلى للطموحات الإيرانية منذ إطاحة صدّام حسين، فالصورة القاتمة التي يرسمها سياسي عراقي عاصر حقبة صدّام والغزو الأميركي والاحتلال، لا تترك حيزاً ضئيلاً للتفاؤل بإمكان تفكيك هيمنة طهران على قرار بغداد، من دون أثمان باهظة.
وإذ يقر السياسي المخضرم بأن «عودة العرب إلى العراق تتيح نوعاً من التوازن»، يذكّر بأن مصير هذا البلد محور صراع، و «ما بعد داعش» لن يكون مخاضاً بسيطاً. فهناك «التوترات على خطوط التماس شمالاً بين الأكراد والحشد الشعبي، والمواجهة بين الطرفين محتملة، فيما التوتُّر الإيراني- الأميركي قد يقود إلى صِدام في مياه الخليج».
صورة أخرى ليست أقل سوداوية تطغى حين تسأل عن مصير نظام المحاصصة في العراق، والذي كرّس الطائفية وشجّع تفشّي الفساد، وأتاح تبخّر ثروات هائلة من أموال العراقيين. «نوري المالكي يريد العودة حاكماً منفرداً باسم الأكثرية الشيعية، ولو ادعى حرصه على الديموقراطية». يضيف السياسي الذي لمع نجمه بعد الغزو الأميركي، وخبِر حسابات «الطموحات الإيرانية»، أن عين المالكي اليوم هي «على نظام رئاسي، يؤسس لديكتاتورية حزب واحد تحت واجهة إسلامية». وبين القوى العراقية، من يفكّر بدولة كونفيديرالية في مرحلة ما بعد «داعش»، محذّراً من «الثارات الكبرى»، ما بعد معركة الموصل.
ومن طهران إلى بغداد ودمشق وصنعاء، ومن واشنطن إلى موسكو، حسم المعركة يفتح الباب على تسويات «مريرة»... فمن يضحك أولاً؟
ترفع حكومات عربية عديدة سقف توقعاتها من التصريحات والتوجهات المعادية لإيران في أوساط الإدارة الأميركية الجديدة، بما يمكن أن يعيد صوغ موازين القوى الإقليمية، ويحجّم النفوذ الإيراني المتنامي في المنطقة.
مشكلة هذه التوقعات أنّها تتجاوز الوقائع على الأرض، وعامل الوقت الذي أصبح في خدمة السياسة الإيرانية، وتتجاهل تراجع الدور الأميركي الفعلي في المنطقة، في العراق وسورية بصورة خاصة، فضلاً عن صعود الدور الروسي الذي اقترن، منذ التدخل العسكري في سورية، بالتحالف مع إيران.
المعضلة التي لا تواجه العرب فقط، بل حتى أي نيات جدية للإدارة الأميركية للاشتباك مع إيران، تتمثل في أنّ أميركا نفسها تتحالف بصورةٍ غير مباشرة، لكنها واقعية مع الإيرانيين على الأرض، وتحديداً في العراق، ما يبدو جلياً في الحرب الحالية في الموصل، فعملياً يقصف الأميركيون من الجو، وإيران بنفوذها في العراق تجني المكاسب على الأرض، ما يجعل أي دور أميركي مناقض في العراق عسكرياً عبثياً، وسياسياً هو دور عاجز تماماً.
فات القطار، أيضاً في سورية، فالإدارة الأميركية تقدم مقاربةً غير واقعية في حربها على إيران من جهة، ونسجها التحالفات مع الروس، من جهة أخرى، في مواجهة تنظيم داعش، فالحرس الثوري الإيراني وحزب الله والمليشيات المرتبطة بها هي، أيضاً، من يجني المكاسب على الأرض، في المناطق التي يسيطر عليها النظام السوري، ولن يتخلى الروس من دون مقابل عن إيران، وغير مستعدّين لفك تحالفهم مع إيران، طالما أنّ الأخيرة هي الموجودة على الأرض.
عملياً ومنطقياً، كلام الإدارة الأميركية المعادي لإيران غير متسق ومتناقض، وأحسب أنّ الإيرانيين لا يأخذونه على محمل الجدّ. بالنتيجة الانعكاس المباشر والأكبر له هو على التحضير للانتخابات الرئاسية الإيرانية (المرتقبة في العام المقبل) في إضعاف التيار الإصلاحي، وتعزيز وتقوية فرص مرشحي التيار المحافظ.
يمكن أن يتمحور التدخل الأميركي في التسابق مع الروس والإيرانيين في معركة الرقة، ضد تنظيم داعش، مع وجود تعقيدات التعامل مع الأتراك والأكراد في تلك المنطقة، والمنظمات الإسلامية الأخرى، بصورة خاصة ذات الطابع الإسلامي، أو في الجنوب عبر تعزيز الدعم للقوى القريبة من غرفة الموك، لكنّها تغييراتٌ ليست جوهرية، ولا نوعية على المدى القريب على الأقل، وتواجه تعقيدات متعددة.
الدولة الوحيدة التي يمكن أن يكون تأثير الأميركيين فيها هي اليمن، والصراع العسكري الحالي مع الحوثيين، وهي قد تمثل أولوية لدول الخليج، لكنها ليست بالمستوى نفسه لدى الإيرانيين، هذا من زاوية. ومن زاوية ثانية، الدعم الأميركي - إن كان - للتحالف العربي هو موضع تساؤل، في مدى قدرة الإدارة الأميركية بالفعل على إحداث تحولٍ نوعي في موازين القوى هناك، سواء في السؤال عن المصلحة الأميركية في التورّط أكثر في صراع معقد داخلي، وثانياً في طبيعة التدخل وحجمه ومستواه، ما يطرح شكوكاً جديةً حول أي نياتٍ حقيقية للتدخل في هذا الصراع.
بالنتيجة؛ لم يبن الإيرانيون نفوذهم في المنطقة من لا شيء، إذ زجّوا الحرس الثوري الإيراني وحزب الله، وبنوا شبكة مليشيات فاعلة، ويخلطون بين الجانبين، الطائفي والسياسي، ولديهم قاعدة متينة من التحالفات الدولية والإقليمية، ودفعوا كلفة كبيرة، حتى خسروا جنرالات من الحرس الثوري الإيراني، وآلافاً من أنصارهم في تلك الحروب، وتعاملوا مع الملفات العراقية والسورية كأنها ملفات داخلية مشتبكة مع المصالح الحيوية الإيرانية، وما يحصدونه اليوم لن يتنازلوا عنه بسهولة، ووقائع على الأرض، وليست مجرد تصريحات صادرة عن البيت الأبيض.
من السذاجة الرهان، إذاً، على دور أميركي مفصلي، يغير هذا الواقع الجديد، إذا لم يكن هنالك تغيير جوهري في المقاربة العربية عموماً لمسائل المنطقة، أو محاولة استعادة النظام الإقليمي القديم، بديناميكياته وقواه الفاعلة، فهنالك مياه كثيرة جرت تحت الأقدام، لن تتغير بمجرد نوايا أو توجهات جديدة لدى "العم سام".
لم يعد من الممكن متابعة المشهد السوري، والتطورات السياسية والعسكرية هناك، من زاوية التفاهمات أو التحالفات التي كانت قائمة قبل شهر، والتي وضعت تركيا وروسيا وإيران في سلة واحدة أفرزت أستانة الأول والثاني، وأوصلت إلى جنيف الرابع المعقود حالياً.
فمن الواضح أن هذه التحالفات أو التفاهمات في طريقها إلى التفكك، مع بروز دور أميركي جديد كان غائباً طوال السنوات الماضية. حتى ما يحدث في جنيف اليوم، وما حدث قبل أيام في أستانة، لا يعدو عن كونه تمريراً للوقت بانتظار اتضاح النوايا الأميركية في ما يخص الملف السوري، ومن خلفه أيضاً تعاطيها مع الملف الإيراني، وهما ملفان مرتبطان عضوياً بالنسبة إلى الإدارة الأميركية، ويمكن سحبهما أيضاً على الوضعين العراقي واليمني.
قبل أيام، كانت العاصمة الكازاخستانية حاضنة لاجتماع موسع لمتابعة اتفاق أستانة السابق، القاضي بتأمين وقف إطلاق النار في الأراضي السورية. ما بين الاجتماعين فاصل زمني ليس كبيراً نسبياً، لكنه كان كافياً لإعادة خلط الأوراق، وحتى القول نسف ما كان متفقاً عليه سابقاً. مراقبة اللقاء الأخير وتطوراته توحي بهذه الأجواء، ولا سيما لجهة رفض وجود إيراني ضمن هيئة مراقبة وقف إطلاق النار، وهو رفض ضمني تركي مستجد، خصوصاً أن طهران كانت ضمن هذه الهيئة التي انبثقت بعد الاجتماع الأول، غير أن ما كان صالحاً في الفترة الماضية لا يبدو أنه ينفع اليوم، وخصوصاً مع الدخول الأميركي المفاجئ وفتحه ملفاتٍ كان الجميع قد ظن أنها أغلقت، ولا سيما في ما يخص المناطق الآمنة في سورية، وإعادة الحديث عن الاتفاق النووي مع إيران.
ل
يس سراً القول إن المناطق الآمنة في الأساس كانت حلماً تركياً، مدعوماً من كل الدول العربية التي كانت واقفةً في صف الثورة السورية، غير أنه لم يلق آذاناً صاغية من الإدارة الأميركية السابقة في عهد باراك أوباما، ما جعل تركيا تصرف النظر عنها، وتتجه إلى التحالف مع روسيا وإيران مرغمة. إلا أن الوضع يبدو متغيراً الآن، والحديث عن هذه المنطقة عاد ليطرح بقوة على الساحة الدولية، مع بدء واشنطن خطوات عملياً لتأمين تمويل إقامة هذه المنطقة والبحث عن جنسيات القوات التي ستوجد فيها. لم يعد الأمر مجرّد تكهنات أو تحليلات، بل دخل في الطور الجدّي، وهو ما دفع أنقرة، ومعها دول عربية عديدة، إلى التراجع خطوة عن موسكو وطهران، بعدما كان التقرّب إليهما الوحيد المتاح قبل شهر، في ظل إغلاق باقي الأبواب في ما يخص الملف السوري.
ي
مكن لمس هذا التراجع بوضوح من التصريحات التركية، والتي عادت لتنتقد بشدة موسكو وطهران، وهما اللتان كانتا الحليفين المفترضين لأنقرة قبل أسابيع قليلة، خصوصاً بعد التفاهم الغامض الذي عقدته الإدارة التركية مع روسيا. ومن الواضح أن أنقرة اليوم لا تبدو متمسكة بهذا التفاهم، غير أنها لم تنسحب منه نهائياً بعد، فالحذر سيد الموقف في المشهد الدولي عموماً، وفي الوضع السوري خصوصاً، بانتظار تبيان حقيقة التوجهات الأميركية. لم تعطل تركيا اجتماعات أستانة وجنيف، لكن من الجلي إن هذين الاجتماعين كانا وسيكونان فارغين من المضمون، خصوصاً في ظل عدم وجود أي دور أميركي فيهما، وهو دور لم يعد بالإمكان تجاهله في ظل الإدارة الجديدة التي تسير بخطط مخالفة تماماً كل ما يتم الحديث عنه في كازاخستان وسويسرا.
سيدخل المشهد السوري اليوم، سياسياً وعسكرياً، مرحلة من المراوحة. لا اختراقات مرتقبة، سواء في الميدان أو خلف طاولات المفاوضات، مجرد حراك فارغ من المضمون لتقطيع الوقت إلى حين ظهور الخطط الأميركية بشكلها النهائي، وعندها لكل حادث حديث.
قصف الطيران الأردني أوائل فبراير/ شباط الحالي، ولأول مرّة منذ سنة تقريباً، مواقع لتنظيم داعش في جنوب سورية، بالتزامن مع شيوع أنباء عن تفكير عمّان بعملية درع فرات أردنية، في المنطقة نفسها، وقد حصل هذا بعد أيام قليلة من زيارة العاهل الأردني، الملك عبد الله الثاني، لموسكو وواشنطن. وقد سمع كلاماً مهماً من القيادة الروسية عن توجهات سياساتها وخلافاتها مع طهران وحشدها بل حشودها الشعبية في سورية.
لماذا تغير، أو بالأحرى تطور، الموقف الأردني؟ وما علاقة ذلك، ليس فقط بجولة الملك الخارجية، وإنما بالمتغيرات والتطورات في سورية، كما في واشنطن بعد تسلّم الرئيس المنتخب مقاليد السلطة منذ أربعة أسابيع تقريباً؟
لا شك في أن الأردن فكّر، منذ فترة طويلة، في تنفيذ عملية عسكرية على غرار "درع الفرات" في مناطق الجنوب، بالتعاون أو بالاعتماد على الجيش الحرّ لمواجهة تنظيم داعش، ومنعه من تهديد الأمن الأردني، كما لإقامة منطقة آمنة لاستيعاب اللاجئين، ولتكريس دور الأردن في القضية السورية وتسريع فرصة التوصل إلى حلّ سياسي عادل للقضية السورية، وفق إعلان جنيف نصّاً وروحاً. غير أن الأردن لا يملك مقدرات تركيا وقوتها، لكي يقوم منفرداً بتنفيذ عملية عسكرية ودعمها، وإقامة منطقة آمنة أو عازلة، وتكريس دوره سورياً رغماً عن واشنطن أو وضعها تحت الأمر الواقع، وهو بالمناسبة ما فعلته السعودية في عملية "عاصفة الحزم" في اليمن، عندما دافعت عن أمنها ومصالحها، رغماً عن إدارة أوباما ومواقفها المتناغمة مع طهران وحشودها الشعبية في طول المنطقة وعرضها.
إلى ذلك، فإن القيام بعملية على غرار "درع الفرات" لا يقتضي قوة سياسية وعسكرية فقط، وإنما اقتصادية أيضاً لجهة الإشراف على مناحي الحياة المختلفة في المناطق التي يتم طرد "داعش" منها، وتأسيس بنى تحتية جدية ومحترمة في السياق الاقتصادي الاجتماعي التعليمي الصحي الأمني تماماً، كما فعلت وتفعل تركيا في مناطق "درع الفرات"، وهو ما يعرف بنموذج جرابلس، حيث لا يتم تدمير المدن والقرى، بل تعميرها، ولا يتم تهجير أهلها والمواطنين، بل إعادتهم إليها.
تبدو الأمور والمعطيات، الآن، مختلفة في واشنطن وموسكو على حد سواء، علماً بأنه على عكس ما يبدو ظاهراً وشكلاً فقط، كانت واشنطن، وما زالت، اللاعب الرئيسي في القضية السورية، بفعلها أو سكونها، وتغاضيها عن أفعال الآخرين وممارساتهم، بضوء أخضر أو برتقالي منها، تماماً كما حصل مع موسكو وطهران.
رفضت واشنطن القديمة فكرة المنطقة الآمنة، أو أي انخراط أردني جدّي في القضية السورية، بسبب سياسة أوباما المنكفئة عن المنطقة، واتباع واشنطن سياسة مهادنة لإيران، ومتغاضية عن نشاطها وسلوكها في المنطقة عموماً، وسورية والعراق تحديداً، طالما أنه لا يتعدّى الخطوط الحمر المرسومة أميركياً، ويندرج ضمن الصفقة الشاملة التي أبرمها أوباما مع طهران عبر الاتفاق النووي، والتي تخلت طهران بموجبها عن مشروعها النووي في مقابل امبراطوريتها الشوفينية، امبراطورية الدم والوهم، كما قال يونس خالصي، مستشار الرئيس الإيراني مرة عن المنطقة. ومع ذلك، جرى دعم الأردن وتحصينه سياسياً عسكرياً اقتصادياً وأمنياً، وبذلت جهود أميركية جدية لحمايته وتقليص الآثار السلبية لمعادلة "الأسد أو نحرق سورية" التى تم تحديثها من حلفاء النظام، لتصبح "الأسد أو نحرق المنطقة".
التدخل أو الاحتلال الروسي لسورية في سبتمبر/ أيلول العام قبل الماضي تضمن تفاهماً غير معلن مع الأردن، لحظ عدم اتباع موسكو الخيار الشيشاني في المنطقة الجنوبية، بما يراكم مزيداً من الأعباء على الأردن، أمنياً واقتصادياً واجتماعياً، مع موجات كثيفة أخرى من النزوح واللاجئين، في مقابل تهدئة الجبهة، والحفاظ على خطوط القتال، كما كانت قبل التدخل الروسي.
تغيرت الأمور، الآن، بشكل جذري تقريباً من واشنطن وموسكو على حد سواء، فواشنطن تريد الانخراط أكثر في سورية، للتأثير على التسوية السياسية فيها، كما لمواجهة المدّ الإيراني، وتخفيف أضرار الكارثية لاتفاق أوباما معها، و لزيادة إمكاناتها وقدراتها في مواجهة "داعش". يعتقد المتنفذون في إدارة ترامب أنه لا إمكانية لهزيمة "داعش"، من دون انخراط أكثر فاعلية في القضية السورية، ومن دون تحجيم إيران، وأدواتها وحشودها الشعبية في طول المنطقة وعرضها.
أما موسكو فتريد أيضاً تسوية سياسية على أساس مصالحها، وما فرضته من وقائع بعد تدخلها الاحتلالي، وهي فهمت طبعاً أن من المستحيل تعميم الخيار الشيشاني على كامل الأراضي السورية، وبعد ما اعتقدت أنها حصلت على علامة انتصارٍ إثر تدمير حلب، تريد العمل الآن باتجاه تسويةٍ مناسبة، وتعتقد أن وجود الأردن ضروري لعوامل جيوسياسية، ولاستغلال نفوذه وعلاقاته في المنطقة الجنوبية من سورية، وربما هي تعتقد أيضاً أن الأردن لن يطرح مطالب كثيرة أو معقدة أو يفاوض، ويناقش موسكو على الخطة نفسها، وليس فقط تنفيذ دوره فيها، وفق السيناريو المرسوم روسياً.
في كل الأحوال، سيسعى الأردن إلى أن يكون لاعباً مهماً في القضية السورية، سيتساوق مع السياسة الأميركية الجديدة. ومع تنامي خطر "داعش" على الأمن الوطني، وتزايد عملياته في العمق الأردني في الفترة الأخيرة، ستكون عمّان متحمسة لفكرة نقل المعركة إلى عمق مناطق سيطرة التنظيم في الأراضى السورية، وهذا لن يحدث في الفراغ، وإنما ضمن بيئة سياسية أمنية، تتعلق بالاعتماد على الجيش الحر، وربما وجود على الأرض للقوات الخاصة الأردنية، مع دعم سياسي وأمني وجوي من التحالف الدولي الذي تقوده واشنطن.
لن تمانع روسيا، هي الأخرى، أي دور نشط للأردن، طالما أنه سيركز على مقاتلة "داعش"، ولن يهدّد النظام بشكل مباشر، أو يعرقل الخطوط العامة للتسوية السياسية التي تحاول موسكو رسمها، وفرضها على الفرقاء الآخرين، غير أن انخراطاً جديا لواشنطن في القضية السورية، وتمتين تحالفها وتعاونها مع أنقرة والرياض والدوحة في مواجهة "داعش"، والضغط باتجاه تسوية سياسية عادلة، وفق إعلان جنيف وقررات الأمم المتحدة ذات الصلة، فستكون عمان حتماً عندئذ أقرب إلى هذا الفريق، وستمتلك القدرة على مناقشة موسكو في المحدّدات والقواعد التي سعت وتسعى إلى فرضها في سورية، كما أن موسكو ستكون هي نفسها مضطرة لمراجعة سياساتها وحمايتها النظام ومهادنتها المليشيات الأجنبية المدعومة من طهران، وممارساتها المؤذية والضارة في سورية والمنطقة بشكل عام، علماً بأن الملك عبدالله الثاني سمع في موسكو كلاماً من هذا القبيل.
المفاوضات السورية في جنيف التي يقودها ستيفان دي ميستورا الديبلوماسي الأممي المحنك تظهر في شكل مسرحية بطلها مبعوث النظام السوري بشار الجعفري الذي يراهن على مستقبله. ليست مصادفة أن بداية هذه الجولة من الوقت الضائع ترافقت مع تفجيرين انتحاريين استهدفا مقرين في المربع الأمني في حمص، وقد أتاح ذلك الفرصة للمبعوث السوري ليطالب بأن يكون موضوع مكافحة الإرهاب الأول في المفاوضات التي وضع دي ميستورا خطة لها.
والمعلومات الآتية من حمص أن المربع الأمني محصن في شكل يبدو مستحيلاً دخوله إلا في حال وجود متواطئين داخله، وهذا المربع هو مركز اعتقال وتعذيب ومساءلات من قياديين في النظام لمعارضين قد يكونون أيضاً بين الضحايا. وليس مستبعداً أن تكون الأجهزة النظامية وراء مقتل رئيس جهاز الاستخبارات في حمص حسن دعبول، فمعروف أن هناك توتراً شديداً بين فروع الأجهزة التي تتحارب على تقاسم المغانم المتبقية من بلد خرّبه رأس النظام.
مفاوضات جنيف فرصة الجعفري ليقول إنه يريد الكلام على مكافحة الإرهاب، لأنه لا يريد التطرق الى المسائل السياسية التي وضعها دي ميستورا كخطة لهذه المحاولة في مسار ولد ميتاً طالما أن بشار الأسد يرفض الرحيل، وهو مصر على البقاء حتى على رقعة من بلد منقسم. والجعفري يراهن على مواقفه المتشددة للبقاء ممثلاً للنظام في نيويورك وربما يفكر في أكثر من ذلك. هل إنه يطمح الى الجلوس على كرسي الأسد يوماً ما اذا اعتبر الروس أن الأسد أصبح عبئاً عليهم. فالديبلوماسي السوري المعروف في الأوساط الروسية يسهّل على بوتين الجواب حين يسأل دائماً: أين بديل الأسد؟ ربما يراهن الجعفري على ذلك في عمق نفسه ويظهر براعته في التشدد واستمرارية النهج الأسدي في اللامفاوضة. وخطة دي ميستورا في المفاوضات مبنية على 3 موضوعات: الانتقال السياسي والدستور والانتخابات، على أن تطرح كلها معاً. وجاءت محاولة الجعفري لتأخير التطرق للموضوعات السياسية بالدعوة الى التحدث عن مكافحة الإرهاب. فلتتحدث المعارضة عن ذلك. لم لا؟ فالإرهاب أساسه النظام والجعفري هو المدافع الأقوى عنه. ولدى أركان المعارضة في جنيف الكثير من الدلائل عمن يرتكب الإرهاب في سورية ويشجع عليه. فبين الموجودين بعض الذين اعتقلوا وتم تعذيبهم في المربع الأمني في حمص تحديداً، وهم يعرفون جيداً صعوبة الوصول إليه على رغم أن المعارضين يسيطرون على حمص، ولكن وحده هذا المربع الأمني هو المحصن من النظام الذي منذ نشأته يعتمد الإجهزة لإرهاب الناس، إن في سورية أو في لبنان.
على المعارضة أن تظهر براعة أكبر في عرض مواقفها. أولاً أن تطالب بالتحدث في جميع الموضوعات معاً وليس موضوعاً بعد الآخر. وعليها أن تنظم نفسها أكثر مما هي الآن وأن تكون إطلالاتها الإعلامية أوسع وأفضل، وألا تترك المجال للجعفري ليبيع الرأي العام مواقف كاذبة، فواضح أن الأسد غير مستعد للتطرق لأي انتقال سياسي، وسبق له أن تخلص من كثيرين حوله و «رحّلهم»، خصوصاً الذين تصعد أسهمهم في الخارج، فآصف شوكت الذي قيل انه بديل قُتل، ثم تم وضع فاروق الشرع في إقامة جبرية. أما وليد المعلم فلم يعد له صوت منذ فترة والآن عهد الجعفري. الى متى؟ لا أحد يعرف. هل يكون البديل او انه سيرحل كزملائه الذين سبقوه؟ وفي أي حال، مأساة سورية لن تحل بمثل هذه المفاوضات التي لن تتقدم ولن تصل الى نتيجة إلا بقرار روسي- أميركي برحيل الأسد وإخراج إيران من سورية، وهذا ليس الواقع حالياً.
لا يكفي تحرير الموصل والرقة ليستقيم الاستقرار في العراق وسورية. وأن يقوم إجماع دولي - إقليمي على محاربة الإرهاب في العراق وسورية لا يعني أن القوى الكبرى أطلقت مسيرة تفاهم على نظام إقليمي يشكل لبنة أساسية في النظام الدولي. الصراعات الأهلية في الإقليم تغذيها نذر حرب باردة بين كبار كثر بعيدين وقريبين. والمشهد الاستراتيجي الدولي مقبل على تغييرات عميقة مع اندفاع الإدارة الأميركية الجديدة إلى تغيير قواعد اللعبة. أوإلى تصحيح ما تعتبره خللاً أصاب قدرة الولايات المتحدة وحضورها العالمي ومؤسستها العسكرية ومصالحها القومية. في مقابل هذا التوجه دعا وزير الخارجية الروسي أخيراً إلى نظام دولي جديد لا تهيمن عليه الدول الغربية. وأطلق عليه تسمية «نظام ما بعد الغرب». إنه تحد روسي كبير سيواجه الرئيس دونالد ترامب الذي يدعو إلى رفع بلاده إلى الموقع الأكثر تفوقاً في العالم. أي إلى ترسيخ موقعها في النظام الذي عقب سقوط جدار برلين ويتعرض منذ سنوات لاهتزازات جذرية... إلا إذا كانت هذه الخطابات العالية اللهجة من مقدمات أو شروط الاستعداد للجلوس على طاولة التفاهم لإبرام ما يمكن من تسويات وصفقات مقايضة.
راقب الأميركيون في السنوات الأخيرة الطموحات الكبيرة للصين وروسيا اللتين استعجلتا وتيرة هيمنتهما على ما تعدانه فضاءهما الأمني ومجال مصالحهما الاستراتيجية. وما رفع حمى هذا السباق لسيطرتهما على محيطهما الجغرافي، من شرق آسيا إلى شرق أوروبا والشرق الأوسط أيضاً، انكفاء الإدارة الأميركية السابقة أو عجزها أيضاً عن المواجهة. تجلى هذا العجز مع تسليم الرئيس السابق جورج بوش الإبن باجتياح الروس مناطق واسعة من جورجيا. وتفاقم الأمر مع عجز خلفه باراك أوباما عن مواجهة سياستهم في زعزعة استقرار أوكرانيا وضمهم شبه جزيرة القرم. ثم في اندفاعهم نحو سورية حيث أقاموا قواعد ثابتة منطلقاً إلى الإقليم كله. هذه التطورات نجمت عن سياسات الرئيس السابق وإحجامه عن الانخراط في الأزمات الإقليمية. وتعويله على وجوب مساهمة دول كبرى أخرى في تحمل المسؤولية عن معالجة أزمات العالم. لذا تسعى الإدارة الحالية إلى القطع مع استراتيجية مهادنة دامت أكثر من ثماني سنوات. تسعى إلى تعويض ما فات. الرئيس ترامب كرر في الأيام الأخيرة ما كان أعلن أثناء حملته الانتخابية. سيعيد بناء الجيش، واعداً بأنه «سيكون أضخم تطوير للجيش في تاريخ أميركا». كما وعد برفع الترسانة النووية وتجديدها لتكون الأكثر تفوقاً. هذه القوة هي التي ستفرض السلام كما قال. وهو قول موجه إلى الكبار، إلى بكين وموسكو التي سارعت إلى التعبير عن انزعاجها. وليست المرة الأولى تعبر فيها عن شكوكها في احتمال التفاهم المرضي مع الإدارة الجديدة. وموجه أيضاً إلى القوى الإقليمية الكبرى والحركات التي بدا في العقد الأخير أنها تمددت هي الأخرى لملء فراغ خلفه الإنكفاء الأميركي في مواقع كثيرة خصوصاً في الشرق الأوسط.
الانسحاب الأميركي من العراق نهاية العام 2011 كرس هيمنة إيران على هذا البلد. وعزز طموحها إلى ملء الفراغ في الإقليم بعد تحول استراتيجية أوباما نحو شرق آسيا والهادىء حيث أيضاً لم تفلح في صد الصين. والابتعاد عن أزمة سورية في السنوات الست الماضية دفع روسيا إلى التدخل الواسع في هذا البلد. وشجع قوى إقليمية على تدخلات مماثلة. ولا شك في أن تحرير الموصل والرقة، وهما أولوية في استراتيجية الرئيس ترامب، سيدفعه إلى أهدافه الأخرى وعلى رأسها الحد من نفوذ الجمهورية الإسلامية التي أطلق عليها أركان إدارته شتى النعوت: فهي أول دولة راعية للإرهاب، وأكبر دولة تزعزع استقرار الشرق الأوسط... أي أن القضاء على «داعش» سينذر ببدء الصراع على مواقع النفوذ، خصوصاً في العراق وسورية. لن يكون الأمر سهلاً. هناك قوى أخرى حاضرة في الميدان. لن يقتصر الصراع على واشنطن وموسكو. تحت هذه المظلة تدور حروب مفتوحة بين إيران وتركيا، وبين الأولى ودول عربية عدة.
واضح أن القوتين الأميركية والروسية تتنافسان على تقاسم المنطقة. يستدعي هذا بالضرورة إعادة رسم حدود لتدخل الآخرين. الولايات المتحدة تطمح بدور كبير في العراق كما كان الأمر قبل انسحاب قواتها من هذا البلد. ترغب في إعادة عقارب الساعة إلى الوراء. لن يكفيها الاعتماد على حليف ثابت هو الكرد أو الفريق الممسك بمقاليد السلطة في كردستان. صحيح أن إيران تجهد للإحتفاظ بقرار بغداد. لكن ثمة سبلاً لإضعاف حضورها في عاصمة الرشيد. يمكن واشنطن مواصلة الرهان على القوات النظامية التي أعادت تأهيلها أداة رئيسية للحد من تغول ميليشيات «الحشد الشعبي» وتقويض سيطرتها. سيكون على البنتاغون مواصلة برامج الدعم والتسليح والتدريب للمؤسسات العسكرية والأمنية. وسيكون على إدارة ترامب استغلال الانقسامات بين القوى الشيعية المتنافسة وما تلحقه من ضعف في الحضور الإيراني. وبين هذه القوى من لا تستسيغ الهيمنة الإيرانية وعلى رأسها المرجعية في النجف والتي تحرص على علاقات متوازنة وطيبة مع الولايات المتحدة تخفف من غلواء طهران المرتبكة الآن بين استحالة إعادة تعويم حليفها نوري المالكي، وضبط توجه سياسة خلفه حيدر العبادي الذي يخوض والآخرين معركة تحالفات مبكرة للانتخابات العامة السنة المقبلة.
وربما كان على واشنطن أيضاً الدفع نحو قيام فدرلة كاملة لبلاد الرافدين، كما نص الدستور. سيساهم ذلك في حلحلة المشكلة بين بغداد وكردستان، وبين القوى العربية المتصارعة مذهبياً أيضاً، وحتى بين القوى الشيعية نفسها. إذ تشي الصراعات القائمة حالياً بين هذه القوى بالبون الشاسع في تعدد الرؤى إلى مستقبل النظام المقبل. فالمرجعية نأت بنفسها عن صيغة التسوية السياسية التي صاغها التحالف الوطني للقوى الشيعية. ومثلها فعل السيد مقتدى الصدر الذي ذهب أبعد في طرح مبادرة لقيت ترحيباً في أوساط المكونات الأخرى للبلاد. ويمكن واشنطن أيضاً أن تساهم أوتشجع عودة العرب إلى بغداد، كمثل الزيارة التي قام بها أخيراً وزير الخارجية السعودي عادل الجبير للعاصمة العراقية. فلا يبقى تقاسم القرار مقصوراً عليها وعلى طهران، كما كانت الحال منذ الغزو إلى اليوم. إن انخراط أميركا وعودة العرب يمكنهما مساعدة أهل السنة لاستعادة دور لهم في إدارة البلاد في إطار صيغة سياسية جديدة على أنقاض «نظام المحاصصة» الحالي. فهل ينجح ترامب بعد تحرير الموصل في مواجهة النفوذ الإيراني في العراق وإخراج قاسم سليماني من بغداد وحل ميليشياته؟ هل سيحقق أهدافه من دون مزيد من الحروب والمواجهات؟
السؤال نفسه ينطبق على سورية. أي هل يمكن القوى الكبرى فرض إرادتها على القوى الإقليمية كما كان يحدث أيام الحرب الباردة قبل سقوط المعسكر السوفياتي؟ فهل ستنجح روسيا مثلاً في حل الميليشيات والحد من نفوذ القوى الإقليمية في بلاد الشام؟ القضاء على فكرة بناء الميليشيات في المشرق العربي وحده كفيل بإرساء اللبنات الأولى على طريق بناء نظام وطني جامع بديلاً من «دويلات» مذهبية وعرقية في كل من سورية والعراق. لن تكون مهمة الرئيس بوتين سهلة. هو يحجم الآن عن مواجهة معلنة مع إيران وحتى مع تركيا قبل اتضاح صورة العلاقة مع الإدارة الجديدة. لكن تحرير الرقة بعد الموصل سيدفعه عاجلاً أو آجلاً إلى مواجهة «الشركاء» المنافسين في الميدان السوري. ولا يمكنه أولاً تجاهل حضور اميركا في الشمال الشرقي للبلاد، وعلاقتها مع تركيا وحلفاء عرب تقليديين، وإن كان أراحه قرار الإدارة وقف توريد السلاح إلى الفصائل. وحتى إن كان هو قادراً بعلاقته مع الجمهورية الإسلامية على إعاقة التوجه الأميركي في أرض الرافدين. لا يبقى أمام القوتين العظميين سوى التسليم واحدتهما للأخرى بتبادل مصالح. أي أن يسلم الكرملين للبيت الأبيض في العراق فيسلم هذا له بسورية.
ولكن تبقى هنا وهناك مشكلة الأطراف الأخرى المعنية بما يجري في هذين البلدين وأولهما إيران وتركيا. لم تترك طهران وسيلة لإبعاد أنقرة عن الساحة العراقية. وها هي الأخيرة تطمح إلى اقتطاع منطقة واسعة في شمال شرق سورية. والسؤال كيف سيقلم الكبيران أظافر هاتين القوتين بعد القضاء على تنظيم «داعش» إذا كان عليهما فرض الاستقرار للحفاظ على مصالحهما؟ لا شك في أن الكرملين الذي يحاذر المواجهة المباشرة مع الجمهورية الإسلامية سيجد نفسه عاجلاً أم آجلاً أمام قرارات لا مفر منها. واضح أن مشروع كل منهما يختلف عن مشروع الآخر. لا يمكن روسيا بعد كل هذا الدور في سورية أن ترضى بتسوية تهدد بتقسيم بلاد الشام. سيكون ذلك إنجازاَ هزيلاً لم يكن ليستحق كل هذا التدخل وإقامة قواعد ثابتة. لن ترضى ببقاء ميليشيات تنافس المؤسسة العسكرية أو أن يبقى رأس النظام أقرب إلى طهران منه إليها. ولن تقبل بسيطرة تركياعلى مناطق واسعة شمال سورية أياً كانت الذريعة. ستكون هذه من المهمات الصعبة أمامها في المرحلة المقبلة، عندما يحين رفع يد الرئيس بشار الأسد عن الجيش وإبعاده عن السلطة. فلا يكفي أن تجهد لترسيخ وقف النار وتحث الخطى البطيئة لاعتماد صيغة سياسية متعثرة حتى الآن تحول دون العودة إلى الحرب. إنها مجرد هدنة لا غير. ستلجأ مجبرة بعيد حين إلى مواجهة الحضورين الإقليميين الطاغيين. ولن يمر الأمر بسلام بلا حروب ومواجهات... إلا إذا ارتفعت وتيرة الحرب الباردة وعندها لا مفر من تسعير حروب بالوكالة في الإقليم كله لن تنتهي بانتهاء دور «داعش».
قبل أيام، زارت بيروت مارين لوبن، زعيمة «الجبهة الوطنية» العنصرية والمرشحة للانتخابات الرئاسية التي ستجرى في بلدها فرنسا في مايو المقبل. سبق هذه الزيارة، على ما رأى مصدر في حزبها، تحديد هدفها: إنه «توجيه رسالة دعم إلى مسيحيّي الشرق».
لوبن إياها معروفة بموقفين من قضايا العرب والمسلمين: الأول هو العنصرية ورُهاب الإسلام اللذان يستهدفان بصورة أساسية المهاجرين من المغرب العربي، وكذلك الفرنسيين من أصول مغاربية. وفي هذه المسألة، كما في غيرها، تبقى لوبن ابنة أبيها جان ماري لوبن الذي أسس «الجبهة الوطنية» وبنى أساسات العمارة العنصرية في الخطاب المعادي للإسلام والمسلمين في فرنسا.
أما الموقف الآخر لزعيمة «الجبهة الوطنية» فيطال سوريا. فهي دافعت طويلاً عن بشار الأسد، داعيةً الفرنسيين والغربيين عموماً إلى «الحوار معه». لا بل رأت جازمةً، في مقابلة صحفية أجريت معها مطلع الشهر الماضي، أنّ «الأسد سيربح هذه الحرب ضدّ الأصوليّة الإسلاميّة» على ما سيتبين لمن «يستمع إلى السوريين».
في هذا المعنى فزيارتها لبنان لا تعدو كونها استثماراً عنصرياً في أزمات المنطقة وما تعانيه شعوبها وأقلياتها. وهو ما مهّد له الرئيس الأميركي الجديد دونالد ترامب بإعلانه موقفاً من الأقليات يغاير موقفه من الأكثريات المسلمة في سبع دول مُنع رعاياها من دخول بلاده.
ولأن لبنان ذو خصوصية ولون مسيحيين في منطقة الشرق الأوسط، اختارته لوبن لزيارتها. لكنْ لسبب آخر تماماً كان قد اختاره أيضاً المرشح الذي سينافسها في الانتخابات الرئاسية المقبلة، وزير الاقتصاد السابق إيمانويل ماكرون. ذاك أن الأخير الذي حضر إلى بيروت في 24 يناير الماضي، دعا إلى ما أسماه «سياسة متوازنة» حيال النزاع في سوريا، من دون أن يتلاعب بمسائل الأقليات والأكثريات في العالم العربي، ومن دون أن يُعرف بأية خلفية عنصرية أو مناهضة للإسلام وللمسلمين، أو محابية لبشّار الأسد ومجازره.
واقع الحال أن الفارق الأكبر بين المرشحين المتنافسين أن لوبن لا تزال تفكر وتتحرك بموجب المنطق الكولونيالي القديم، فيما يتصرف ماكرون محكوماً برؤية لمستقبل تتراجع فيه العداوة والتشنج بين الشعوب والأديان والثقافات لمصلحة أفق إنساني أكثر انسجاماً وتكاملاً.
ولهذا الغرض زار ماكرون أيضاً الجزائر وأدلى بحديث إلى تلفزيونها أثار ضجة واسعة في بلاده. فهو رأى أن الأفعال الفرنسية في ذاك البلد (الذي لم يستقل عن فرنسا إلا في 1962 وبعد حرب شديدة الدموية دامت ثماني سنوات) كانت «جريمة ضد الإنسانية»، كما كانت «بربرية في أساسها، وتشكل جزءاً من ماضينا الذي ينبغي علينا أن نواجهه بالاعتذار عنه». ولم يتردد ماكرون في زيارة «نُصب الشهداء» في الجزائر، على ما في ذلك من رمزية، مؤكداً رغبته في «عقد تسوية بين ذاكرتي البلدين».
وكان لزيارته هذه وما صدر عنها أن أطلقا موجة من الانتقادات الحادة له في فرنسا، تجاوزت منافسيه في الانتخابات المقبلة إلى أصوات لم تألف مواجهة التاريخ الاستعماري والاستيطاني في الجزائر، ناهيك عن الاعتذار عنه.
في الحالات كافة، وحتى لو كان المرشح الشاب يطمح إلى كسب أصوات الفرنسيين من أصول مسلمة، وهذا حق شرعي، فإن نبرته تختلف تمام الاختلاف عن نبرة الزعيمة العنصرية. وسيكون في وسع الجزائريين أن يعززوا هذه النبرة إذا ما أقدموا هم أيضاً على تبني رواية لتاريخهم أقل توتراً، وأكثر توكيداً على الشراكات التي نشأت، في الماضي والحاضر، بينهم وبين الفرنسيين.
ويجوز القول، من غير مبالغة، إن جانباً كبيراً من الانتخابات الفرنسية المقبلة بات يتم خوضه في العالم العربي. ومن هذه الزاوية تُفهم زيارات المرشحين إلى لبنان والجزائر، وربما إلى بلدان أخرى في الأسابيع التي تفصلنا عن موعد المجابهة الكبرى.
تبقى قولة الاستراتيجي الألماني كلاوزفيتس "الحرب امتداد للسياسة لكن بوسائل أخرى" التعبير المقتضب، والوحيد الذي يمكن اقتباسه لوصف الاستعصاء السوري المديد، والكلام الأوضح لفهم موقف القوى الدولية والإقليمية الساعية إلى حل سياسي، بالاتكاء على وسائل عسكرية.
بات واضحاً أن شكل التمثيل المعارض في جنيف 4 يعكس زاوية النظر الدولية الجديدة للأزمة السوريّة، والتي هي خليط سياسي وعسكري، فقد سبق أن حاول المجتمع الدولي إخفاء العسكري (المعارض) لصالح السياسي من دون جدوى، فبموجب قواعد الحرب الدائرة، رضخ المجتمع الدولي إيّاه لفكرة وجوب أن يجلس العسكريون إلى جوار السياسيين، متجاوزاً بذلك الحالات السابقة، ولعل مفاوضات أستانة التي أنتجها التقارب الروسي – التركي شكّل همزة الوصل بين جنيف الفائت وجنيف الجاري، من حيث رسم شكل الوفد المعارض، وبالتالي طبيعة النقاشات العمليّة المتوقعة فيما خص الهدنة والأعمال العسكرية. ولا يجانب واحدنا الصواب في القول إن تحوّل قبول حضور المعارضة المسلحة ومشاركتها يمثّل، في أحد أوجهه، إغراءً روسياً مكشوفاً للفصائل المسلحة التي وصفتها موسكو يوماً بأنها "إرهابية"، لحضور محادثات جنيف 4، حيث عبّرت روسيا، صراحةً، بوجوب إشراك العسكريين من المعارضة في محادثات جنيف، بتمثيل صحيح إلى جوار السياسيين، ما شكّل ملمحاً جديداً في محاولة تفكيك الانسداد السياسي وحلحلته في الجولات السابقة من المفاوضات.
وفي ما يشبه قول نبوءة ما، عبّر المبعوث الأممي، ستيفان دي ميستورا، في مؤتمر ميونخ الأمني أواسط فبراير/ شباط الجاري، عن نظرته التشاؤمية بقوله إنه لا يستطيع القول إن محادثات جنيف ستنجح، وكذلك صراحته بشأن غموض الموقف الأميركي من الحل السلمي، وعدم إبداء رأي واضح إزاء الوضع الراهن، ما يعد من العقبات المنتظرة.
يبدو أن كثيرين أخطأوا في توصيف العلاقات الروسية - الأميركية بأنها تسير وفق إيقاع منضبط مع وجود إدارة ترامب، ويبدو أن كثيرين أفرطوا في تحليل مجريات مفاوضات أستانة ونتائجها بأنها محادثات روسية - تركية بقبول أميركي على مضض، فيما خص نتائجها، كان يحمل الاستعجال وإطلاق الأحكام المسبقة حول الدور الأميركي في سورية الذي لا يُفهم منه سوى العنوان الرئيسي، وهو محاربة تنظيم داعش، بينما تختفي باقي العناوين الأميركية، أو يصعب تقديرها.
يُفهم من الاستعجال الروسي رغبة موسكو الوصول إلى صيغ تضع حداً لدورها العسكري في سورية، وأنها تخشى عواقب استمرار الحرب التي دخلتها، فقد تحدث مفاجآت. لذا تتبدى الأولوية الروسية الآن في محاولة تفكيك القوى المعارضة المسلحة وفق ثنائية الثواب والعقاب، ووفق منطق تقسيم الفصائل المسلحة واحتوائها، يُضاف إلى ذلك عدم إصرار روسيا على إشراك المعارضة التي تتبع في هواها موسكو، كحال منصة موسكو، وغيرها من الأطراف المتكئة على الدعم الروسي، في مشهدٍ يؤكد أن أولوية موسكو في جنيف هو الحديث عن مسرح الأعمال العسكرية والهدنة وإعادة تحديد الفصائل التي يستوجب قتالها. في مقابل ذلك، يعكس التباطؤ الأميركي رغبة في عدم إخراج روسيا ظافرة على طاولة المحادثات، كما يرمي إلى تفكيك الروابط الروسية التركية الناشئة، لكن الهشة، إضافةً إلى حشر إيران في أضيق الزوايا الممكنة.
الغالب على الظن أنَّ "جنيف" لن يركّز على السير نحو تطبيق قرار مجلس الأمن 2254 بعناوينه العريضة (شكل الحكم الأمثل، الدستور، الانتخابات) بقدر ما سيركّز على تثبيت وقف إطلاق النار الهش، وتوسعته، ليكون جنيف تكراراً لأستانة. وتبقى العقبات القديمة حاضرةً، فبموجب موقف أهل النظام سيتم الإصرار على بقاء الأسد وتحريم النقاش عن رحيله، وكذلك تحويل كل قرار "أممي" بخصوص الأزمة السورية إلى قرار "وطني"، أي أن مسائل الدستور والانتخابات يجب أن يقرّها السوريون بالطريقة التي يريدها النظام، ما سيسمح للنظام الإمعان في مسلكه القائم على تفريغ قرار مجلس الأمن 2254 من مضمونه، الأمر الذي سترفضه المعارضة مجدداً، لتبقى ورقة الهدنة الوحيدة القابلة للنقاش. ومع ذلك، لن يفوّت النظام الحديث عن مسائل محاربة "الإرهاب"، في مقابل مطلب المعارضة انسحاب المليشيات الطائفية المؤازرة للنظام وغيرها من نقاط سيحاول الطرفان تسجيلها وعدم التراجع عنها، مهما كلف الأمر.
ستبقى قاعدة "الحرب امتدادٌ للسياسة..." سارية إلى أن تقرّر السياسة وضع حدٍ للحرب. وإلى ذلك الحين، سيبقى السوريون الفريق الوحيد الخاسر، مهما تعددت المباحثات التي باتت كحال أولمبيادٍ يفوز فيها كل المتنافسين، بينما يبقى السوريُّ الخاسر الوحيد.
ما فائدة الأشعار والخطب المنافقة التي تُلقى لتمجيد ما يسمونها الممانعة والمقاومة، إذا كان عائدها الداخلي، الوطني، وممكناتها العسكرية الخارجية في مواجهة ما يسمونه كذباً "العدو الصهيوني"، يتفقان بنسبة مائة بالمائة مع ما يريده هذا العدو لشعوب الممانعين المقاومين وبلدانهم؟ وما معنى ممانعة نظام قاتل إسرائيل أقل من عشرة أيام خلال ثلاث حروب، تلقى فيها جميعها صفعات وركلات مهينة، أدت أولاهما (حرب 1967) إلى احتلال محافظة سورية كاملة، بينما ستمر بعد أقل من شهر ستة أعوام كاملة على حرب النظام الممانع ضد شعبه؟ وكيف تسمّى السياسات المتعايشة مع الهزائم المتعاقبة أمام إسرائيل ممانعة ومقاومة، إذا كان الأسد الأب قد بنى جميع مواقفه بعد 1967 على تحاشي إسرائيل، واستخدم احتلالها الجولان عامل ابتزاز وضغط امتص بمعونته ردود أفعال شعبه على ما أوقعه فيه من كوارث داخلية، كالبطالة والانخفاض المستمر لسعر قوة عمله ولمستوى عيشه، والانهيار الحثيث للخدمات التي تقدم له، والتدهور اليومي لأوضاعه الإنسانية، والتعاظم الملموس لما تعرّض له من قمع طاول حتى الأطفال في أرحام أمهاتهم؟
وكيف يكون ممانعاً إذا كان يخوض حرباً داخلية ضد شعبه، لم يهتم لما يمكن أن يترتب عليها من أوضاع مأساوية بالنسبة لمجتمعه وجيشه، وما إذا كانا سيستطيعان، بعدها أو خلالها، الدفاع عن وطنهما ضد الاحتلال والعدوان، ولماذا، إذا كان ممانعاً بحق، لم يستغل العدو الفرصة لينقضّ عليه، ويتخلص من ممانعته ومقاومته؟
هل حسب حساباً لموقف شعبه منه في أية حرب قادمة، إذا كان قد تعايش سلمياً مع الاحتلال، وقتل ملايين السوريات والسوريين وشوههم وعذبهم وشردهم وجوعهم، لمجرد أنهم طالبوه باصلاح أحواله وأحوالهم؟ وإذا كان النظام ممانعاً بحق، مع من يكون تناقضه الرئيس الذي يملي عليه سياساته ويحدد خطاه، مع شعبه "الوفي" أم مع العدو الذي يحتل أرض وطنه، ويمثل خطراً داهماً على أمنه ووطنه، ولم يتوقف يوماً عن قصف مواقعه وتدمير ما أراد تدميره من قدراته؟ ألا تقول وقائع لا تدحض إن عداءه شعبه أكبر ألف مرة من عدائه إسرائيل التي لم يتوقف منذ خمسين عاماً عن نشر أكاذيبه حول استعداداته الحثيثة لطردها من الجولان، لكنه أبقى حدوده معها آمنةً، وعايشها سلمياً من دون أن يرمي عليها، ولو حصاةً صغيرة، في حين شنّ حرباً شعواء، ولا رحمة فيها ضد مواطنيه العزل، بمجرد أن طالبوه بحريةٍ، يعدهم بها في شعارات حزبه منذ خمسين عاماً؟
وما معنى أن يتذرع أعواماً بافتقاره إلى الذخائر الضرورية، لشن حرب التحرير المزعومة، ثم يشن ستة أعوام حرباً غطت كل شبر من أرض سورية، وجد لها الذخائر الكافية، بل وتباهى، في منشورات جيشه ألقاها على مواطني سورية، باستخدامه ثلاثين نوعاً من الذخائر، لم يسبق لأحد في المنطقة أن استخدم ما يماثلها؟ هل تجوز تسمية الخيانة والجريمة مقاومة وممانعة؟ وهل المجازر الجماعية المتكرّرة ممانعة وصمود؟ وهل من الممانعة أن لا يطلق محورها المزعوم رصاصة واحدة ضد إسرائيل نيفاً وعشرة أعوام في لبنان وقرابة أربعين عاماً في سورية، وأن يدخل حزب الله في الزمن الجولاني/ الأسدي لنظام التكامل الاستراتيجي الطائفي مع إسرائيل الذي يربض على صدر سورية، ويكتم أنفاس شعبها، بعد أن أخرجه من المجال العام، ودمر قواه، وكسر معنوياته، وفرض عليه حجراً قمعياً شاملاً قوّض وحدته، وفرزه إلى قلة موالية منعمة ومتحكّمة، وأغلبية معادية مطحونة يُمعن يومياً في سحقها، لتكون النتيجة بلاداً مدمرة، وجيشاً مهشّماً، ونظاماً متهالكاً، فقد القدرة والجرأة على تحدّي أي عدو غير شعبه. كلما تلقى صفعةً من إسرائيل، كرّر أسطوانته المشروخة حول الرد في زمان لا أحد يعلم متى يأتي، ومكان لم يعثر عليه بعد، ولن يعثر عليه إطلاقاً، فلا أقل من أن يخجل ملالي الكذب في طهران من إلصاق تهمة الممانعة والمقاومة به، لا ليصدّقها الناس، بل لفضحه وبهدلته، وتبيان كم هو بعيد عنهما وجبان.
وبعد هذا كله، كيف يكون ممانعاً من أوصل مجتمعه وشعبه وجيشه إلى دركٍ ما كان العدو الصهيوني ليوصله إلى غيره، لو أنه حكم سورية؟ وما هذه الممانعة التي لا تخدم أحداً غير الصهاينة؟