عملت روسيا منذ أول يوم انطلق فيه التمرد الشعبي الواسع ضد النظام الأسدي على مواجهته بجميع ما لديها من خبراتٍ تنظيمية وقدرات سياسية وعسكرية، وأسلحة. بداية حدث هذا عبر التعاون مع الأسدية، ثم حين تبين أن نظام الأخيرة آيل إلى السقوط، انتقلت روسيا إلى التدخل العسكري المباشر، ولم تترك أي مجال للشك في أن الرئيس بوتين يشرف، شخصياً ويومياً، على حرب إنقاذ الأسد التي تصاعدت إلى أن صارت روسيا الطرف الرئيس، وأحياناً الوحيد، الذي يواجه الشعب السوري سياسياً وعسكرياً، والذي حكم على ثورته بالفشل، بجعله شخص الأسد خطاً أحمر، ورئاسته جزءاً من أمن موسكو الوطني.
في سياق هذا التطور، برز دور وزير الخارجية، سيرغي لافروف، في ترجمة التحول العسكري الذي أحدثته قوة الغزاة المفرطة إلى مواقف سياسية أُريد لها أن تبطل عملياً وثيقة جنيف، وقرار مجلس الأمن 2118، وما اعتمدتاه من بدائل للأسد ونظامه، وتحقق نتائج تتطابق وسياسات روسيا السورية، وفي مقدمتها إبقاء الأسد في السلطة، وتحويل الانتقال السياسي إلى النظام الديمقراطي البديل للأسدية إلى انتقالٍ داخل النظام، ينجز من خلال احتواء المعارضة داخل صفوفه ومؤسساته. وقد عمل لافروف على محورين:
أولاً، استبدال القرارات الدولية بقراءتها الروسية التي جسدها قرار دولي حمل الرقم 2254، أطاح وثيقة جنيف والهيئة الحاكمة الانتقالية، ومرجعيتها القرار الدولي 2118، واستبدلها بـ "جسم حكم" مرجعيته بشار الأسد، هو"حكومة وحدة وطنية" برئاسته، مهمتها احتواء الثورة ودمج المعارضة في النظام.
ثانياً، ترجمة هذا الانقلاب الدولي والعسكري إلى خطواتٍ تجعله مقبولاً وقابلاً للتطبيق، بقوة تدمير قدرات الثورة العسكرية، ومصفوفة من الأفعال مكّنتها من ممارسة تحكّمٍ متزايد بأطراف الصراع، منها "الهدن" التي عقدتها بالقوة مع مناطق خرجت عن سيطرة الأسدية، أنهكها الحصار والتجويع والقتل العشوائي والأمراض، وأعادتها إلى النظام في محيط دمشق بصورة خاصة، واستخدام علاقاتها بالدول العربية والإقليمية وبواشنطن، من أجل تفتيت المعارضة وابتداع منصات بديلة لها، ترفض مثلها وثيقة جنيف والقرار 2118، تحمل إحداها، بكل وقاحة، اسم قاعدة جيشها الغازي في الساحل السوري، وممارسة ضغوط عسكرية لا قبل للفصائل بصدها أو ردعها، وعزل الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة، وشق الفصائل ودعوتها إلى مفاوضاتٍ مرجعيتها فيها خلافاتها، تتجاهل "الائتلاف" وهيئة التفاوض العليا. وأخيراً، بلورة معادلة دولية/ إقليمية/ عربية يتم بها تطويق الثورة، ودفع الشعب إلى الاستسلام لخطة الكرملين التي تنفذ بموافقةٍ أميركية وتفويض عربي/ إقليمي، وتحول الغزاة المعتدين من عدو يقاتل إلى طرفٍ يعد العدة للحل.
واليوم، وقد أنجز معظم العمل في المستويين، العسكري والسياسي، تنتقل روسيا إلى موقف يضع المعارضة أمام أحد خيارين: الرضوخ للاحتواء أو الاستبدال. بعد نجاحها في جعل عدد مهم من الفصائل "يستقل" عن الائتلاف، ويسحب منه اعترافه اللفظي بمرجعيته، بدأت روسيا ضغوطاً مكثفة من أجل تشكيل وفد مفاوض "موحّد"، سيقضي تشكيله على مشروع "الهيئة الحاكمة"، وإزالة الأسد، والانتقال إلى نظام ديمقراطي، وسينقل الخلاف مع الروس إلى خلافٍ بين السوريين، تمهيداً لمرحلة تالية يعاد فيها تشكيل وفد مفاوض يقبل الإبقاء على الأسد، ويطبق مرحلة انتقالية من حكومة أسدية إلى أخرى، ويعترف بحقه في رئاسة جديدة، بينما سيعود تحالف المعارضة الأسدية والروسية إلى أماكنهم السابقة من حكومة النظام، أو سيُمنحون مواقع جديدة فيها.
يكاد يكون مؤكداً أن مؤتمر الرياض 2 سيواجه مهمتين: الاعتراف بالقرار 2254 مرجعية وحيدة لمفاوضات جنيف، والقبول بسقوفه العالية جداً بالنسبة للنظام، والملتصقة بالأرض بالنسبة للمعارضة. والقبول بدور روسيا مرجعية دولية مطلقة الصلاحية ومعتمدة في أي حل. أما من لا يقبل هاتين المرجعيتين، فستكون منصّة موسكو وحميميم وبعض منصّة القاهرة بانتظاره سياسياً، وطيران بوتين وأسطوله الحربي بانتظاره عسكرياً. بقول أوضح: لن يسمح لأحد بإفشال طبخة يبدو أنه حان وقت التهامها.
كنت، في الماضي، أحاول تحميس المعارضة، فاختم مقالاتي دوماً بسؤال عما سنفعله نحن، وأحدد نقاطاً يمكننا القيام بها. هذه المرة، لا حاجة لأن أتعب نفسي بطرح هذا السؤال السخيف. من يتابع ألاعيب المعارضة يدرك أنها لا ولن تفعل شيئاً غير الاستمتاع بخلافاتها اليوم، والنقّ غداً.
تثير السياسة الأميركية فضول المراقبين لجهة محاولة تفسير أدوارها الفعليّة داخل سورية، تحديداً شرق الفرات، ذلك أنه بالكاد يمكن رؤية رأس جبل الجليد في ما خصّ سياسة الولايات المتحدة واستراتيجيتها الحالية، والمتمثّلة بدورها الطليعي في محاربة تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) اتكاءً على حليفتها قوات سورية الديمقراطية (قسد)، ليبقى السؤال العالق: هل هناك إشارات على رغبة أميركا البقاء في المنطقة شرق الفرات والمتاخمة للحدود السورية - التركية، والسورية - العراقية في المرحلة التالية للإجهاز على تنظيم داعش؟ أي هل يمكن الحديث عن النقلة الثانية للاستراتيجية الأميركية، وما هي الأكلاف التي تنطوي عليها مسألة بقاء أميركا، وتلك المتعلقة بانسحابها؟
يغلب على الظن أن الولايات المتحدة نجحت في تحقيق الجزء الرئيسي من استراتيجيتها العلنيّة المتمثّلة بدحر "داعش" بأقل الخسائر البشرية في صفوف عديد قواتها، والتي تكاد تلامس الصفر قتيلاً أميركياً، وبكلفةٍ ماليةٍ زهيدة قياساً بخسائرها الباهظة في العراق وأفغانستان. إلى ذلك، نجحت في امتصاص الغضب التركي على تحالف الولايات المتحدة مع غريمها الكردي (وحدات حماية الشعب)، عبر إشراك مقاتلين عرب محليين في عديد القوات التي تأسست عليها (قسد)، وكان للأميركان دورٌ بالغ الأهمية في تغيير بنيتها التنظيمية من وحدات حماية الشعب، ذات الطابع الكردي، لتصبح أشبه بقوات وطنية متعدّدة العناصر والقوميات.
تخشى قوات سورية الديمقراطية، ضمناً، القيادات العسكرية الكردية، انفضاض الدور الأميركي في المنطقة، وجلاء قواتها ومستشاريها وغرف عملياتها ونقل مرابض طيرانها بُعيد هزيمة "داعش"، فالخشية تنطوي على مخاوف واقعية تتمثّل بإمكانية صدامٍ عسكري في اتجاهين: صدام عسكري بين "قسد" وقوات النظام السوري والمليشيات التابعة لها، وهذا مكلف لـ "قسد" نتيجة اضطلاع الروس بالدور الرئيسي القائم على تمكين النظام من بسط سيطرته على كل سورية، وبالتالي لا طاقة للقوات المذكورة من مجابهة الروس بشكلٍ مباشر أو غير مباشر، بينما يُخشى من صدام ثانٍ متوقّع قد يحصل مع تركيا التي سبق أن لوّحت بإمكانية شنّ هجمات عبر سلاحي الطيران والمدفعية على مواقع تابعة لوحدات حماية الشعب. وفي حال تم الرد على مصادر النيران التركية، وفي غياب الأميركان، قد يؤدي الأمر إلى اندلاع مواجهاتٍ لا تحمد عقباها، تكون فيها الغلبة للجانب التركي، ما يجعل تمسّك "قسد" بتلابيب تحالفها والولايات المتحدة أمراً مفهوماً، وواقعياً.
في حين، وفي المقابل، يكاد يُفهم من الخطوط العريضة لسياستها في سورية أن الولايات المتحدة تبحث عن توسيع حزام تحالفاتها، والاحتفاظ في الوقت نفسه بما يضمن لها ولحلفائها المحليين مقاعد متقدّمة في جولات المفاوضات بين النظام وخصومه، وبالتالي قد تسعى أميركا إلى أن لا تمنح معظم مقاعد التفاوض للروس والإيرانيين، وفرض شروطهما التي قد تودي بسورية كلياً في أحضان إحدى هاتين القوتين النافذتين أو إحداهما، وفي هذا ضرر بالغ على الوجود الأميركي في المنطقة برمتها.
بيد أن نقطة ضعف الموقف الأميركي شرق الفرات متصلةٌ بعدم توفر دور للمعارضة المسلحة التي سبق أن اجتثتها "داعش" شرق الفرات، وإن كانت المعارضة قد أبدت استعدادها المشاركة في معركة الرقة، من دون جدية، لتبرز أصوات تعلن عن رغبة المعارضة الاشتراك في حملة تحرير دير الزور عبر قوات موازية لـ "قسد"، غير أنه، وفي معزل عن جدية هذه الأصوات، يمكن القول إنها تأخرت في طرح هذا الاقتراح، جرّاء تسارع التسابق بين الروس والأميركان لأجل السيطرة على المحافظة شاسعة المساحة، علاوةً على عدم امتلاك أميركا ترف تضييع الوقت أمام تقدّم النظام والروس على الأرض. وعليه، قد تتمكّن أميركا من تلافي نقطة الضعف هذه، عبر إشراك المعارضة في إدارة المناطق العربية شرق الفرات، ما يقلّل من مخاوف تركيا، ويخفّض من مخاوف المعارضة التي تخشى التهميش.
نظرياً، قد تبقى الولايات المتحدة في المنطقة الواقعة شرق الفرات، فالغاية من البقاء قد تتحوّل من ملاحقة "داعش" إلى غاية استراتيجية متمثلة بضمان حفظ الحدود الشرقية لسورية من التمدّد المذهبي الذي تسعى إليه إيران، الطامحة إلى التوغّل داخل العمق السوري، كما قد يكون لبقاء الأميركان دورٌ في منع إعادة إنتاج الجماعات الإسلامية الراديكالية نفسها مجدداً في منطقةٍ بات نسيجها الاجتماعي هشّاً وقابلاً لعمليات إعادة التدوير، يضاف إلى ذلك الخشية من اندلاع مواجهاتٍ بين الإثنيات أو بين المسلحين الذين رعتهم أميركا نفسها، ما يعني أن غيابها عن المشهد سيسهّل على النظام والروس وإيران قضم هذه المناطق بسهولة.
قصارى القول، لم تحدّد أميركا أمد بقاء قواتها شرق الفرات، ما يجعل مسألتي بقائها أو رحيلها مفتوحتين على الاحتمالات المتراوحة بين البقاء والاستثمار استراتيجياً وامتصاص المنغّصات التي قد تظهر لاحقاً كضريبة للوجود في منطقة مليئة بالتناقضات، وبين الرحيل وترك المشكلات التي قد تنجم عن الفراغ الذي قد يملأه خصومها على كثرتهم، وإذا كان لا بد من تدبّر وتفكير مليّ في ما سيحصل في الحالتين، تبقى مسألة بقاء الأميركان شرق الفرات في المدة التي تلي الإجهاز على "داعش" أقرب إلى المنطق والتصديق.
للوهلة الأولى، بدت الغارات الجوية الإسرائيلية التي دمرت المنشأة العسكرية السورية في مصياف قرب حماة، أواخر الأسبوع الماضي، حدثاً استثنائياً؛ حيث أن المرة الوحيدة التي نفذت فيها إسرائيل هجوماً مماثلاً في سورية كانت في عام 2007، وأسفر في حينه عن تدمير منشأة الأبحاث النووية في دير الزور. علاوة على أن الهجوم الجديد شذّ عن طابع الجهد الحربي الذي تنفذه إسرائيل في سورية خلال الأعوام الثلاثة الأخيرة، والذي انحصر في استهداف قوافل، تدّعي تل أبيب، أنها تنقل السلاح من سورية إلى حزب الله أو مواقع يتم تخزين السلاح فيها تمهيداً لنقله إلى لبنان. لكن نظرة متأنية تدلل على أن هذا الهجوم يرتبط بقرار إسرائيل توسيع خريطة مصالحها الإستراتيجية في سورية، وهو القرار الذي أملته التحولات التي طرأت على الصراع الدائر حالياً في سورية؛ سيما مع تواتر مؤشراتٍ على قرب حسم هذا الصراع لصالح نظام الأسد، بفعل الدعم الذي قدمته له روسيا وإيران والقوى الشيعية. فقد شنت إسرائيل، خلال الشهر الماضي، حملاتٍ دعائيةً ودبلوماسية مكثّفة، هدفت إلى محاولة حشد دعم دولي لطلبها عدم السماح لإيران بتوظيف نتائج الصراع لصالح توسيع دائرة نفوذها في سورية؛ حيث تنافس القادة الإسرائيليون في إطلاق التهديدات باستخدام القوة العسكرية لضمان عدم تمكين إيران من تأمين تواصل جغرافي لنفوذها، يربط طهران بدمشق مروراً ببغداد وانتهاء ببيروت.
ومما يدل على أن الهجوم يرتبط بتحولٍ طرأ على طابع خريطة المصالح الإسرائيلية حقيقة، أن محافل التقدير الإستراتيجي في تل أبيب عكفت، بشكل خاص، على التحذير من أن إيران قد مهّدت لتوسيع نفوذها في سورية من خلال تدشين منشآتٍ لتصنيع السلاح النوعي، أو تفعيل منشآتٍ يملكها جيش الأسد في مناطق متفرقة من سورية. وتدّعي تل أبيب أن المنشأة العسكرية التي قصفت في مصياف تستخدم لتصنيع صواريخ ومنظومات دفاعية بالغة الدقة، تعتمد بشكل خاص على تقنيات إيرانية. وحسب المنطق الإسرائيلي، فإنه في حال تمكّنت إيران من توسيع دائرة نفوذها في سورية بعد حسم الصراع لصالح نظام الأسد، فإن السماح بإنتاج السلاح النوعي هناك ينطوي على خطورةٍ لا تقل عن خطورة السلاح الذي ينقل إلى حزب الله في لبنان. وتنطلق تل أبيب من افتراضٍ مفاده بأن اتساع دائرة نفوذ طهران في سورية يعني أن إسرائيل ستواجه، في أية حرب مستقبلية مع حزب الله، خطر انطلاق عملياتٍ ضدها من سورية أيضاً، وليس من لبنان فقط؛ الأمر الذي يوجب الحرص على إحباط أية محاولة إيرانية لإنشاء بنى صناعية عسكرية، ترفد الجهد العسكري ضدها، انطلاقاً من سورية. وتحاجج تل أبيب بأن ما يضفي مصداقيةً على مخاوفها من تبعات تعاظم النفوذ الإيراني في سورية حقيقة أن هذا التحول سيجعل أبواب سورية مشرعةً أمام عناصر المليشيات الشيعية من جميع أرجاء العالم، ما يحوّل سورية عملياً إلى قاعدة متقدمة لإيران، كما يزعم رئيس الموساد، يوسي كوهين.
لكن إسرائيل تقدم على مخاطرة كبيرة، وغير محسوبة العواقب، في حال اعتمدت نمط التعاطي العسكري في مواجهة مظاهر تعاظم النفوذ الإيراني في سورية، كما عكس ذلك الهجوم على مصياف، فالإستراتيجية العسكرية الجديدة ستقلص هامش المناورة أمام روسيا، بحيث قد يستحيل التقاء المصالح النسبي الذي كان سائداً بين موسكو وتل أبيب في سورية إلى مواجهة خطيرة. لقد غضّت روسيا الطرف عن هجوم الأسبوع الماضي، وبدت غير معنيةٍ باندلاع مواجهة بين إسرائيل وكل من إيران وحزب الله، لأنها تخشى أن تؤثر هذه المواجهة على مآلات الصراع في سورية الذي بات في مراحله الأخيرة. لكن في حال طبقت إسرائيل المعيار الجديد في استهداف المنشآت التي تشكّ بأن إيران تدشّنها بهدف إنتاج السلاح "النوعي"، فإن فرص تفجر صراع مفتوح في سورية بين إسرائيل من جهة وكل من روسيا وإيران والقوى الشيعية ستتعاظم. فعلى سبيل المثال، تدّعي إسرائيل أن أخطر منشآت التصنيع العسكري التي دشّنها الإيرانيون، أخيراً، تقع في محيط مدينة طرطوس، وقريبة من قاعدة حميميم الروسية، الأمر الذي يعني أن استهداف هذه المنشأة ستفسّره موسكو مسّاً متعمداً بمكانتها في سورية.
إلى جانب ذلك، تبين لإسرائيل أن الروس يرون في الوجود الإيراني والشيعي، بعد حسم المواجهة في سورية، مصلحة استراتيجية لموسكو. وقد تأكد رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، خلال لقائه الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، في منتجع سوتشي قبل ثلاثة أسابيع، أنه عند المفاضلة بين تل أبيب وطهران، فإن روسيا اختارت الأخيرة بدون تردد. وكما روى شمعون شيفر، المعلق السياسي في "يديعوت أحرنوت"، فقد "أربكت" صراحة بوتين نتنياهو عندما أوضح له أن روسيا ترى في إيران حليفاً إستراتيجياً لا بديل عنه، وأن من حق موسكو توثيق تحالفها مع إيران "تماماً كما تدشّن إسرائيل تحالفاً مع الملكيات العربية السنية". ومن نافلة القول إن التدهور الكبير الذي طرأ على العلاقات بين موسكو وواشنطن يزيد من القيمة الإستراتيجية للعلاقات مع طهران في نظر الروس.
إسرائيل، على الرغم من أنها تعي طابع الاعتبارات التي تحكم السلوك الروسي، إلا أن إحباطها المعلن من السياسات التي تتبناها إدارة الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، في سورية قد يجعلها تمضي في تبنّي الإستراتيجية الجديدة بهذه الوتيرة أو تلك، وهو ما قد يفضي إلى اندلاع مواجهة مع إيران والقوى الشيعية في سورية، ويمكن أن تنتقل لاحقاً إلى لبنان. وعلى الأقل، في وسع الروس توظيف منظومات الإنذار المبكر ومنظومات الدفاع الجوية التي يحتفظون بها في سورية في تقليص عوائد الجهد الحربي الإسرائيلي في سورية، واستنزاف تل أبيب. إلى جانب ذلك، فإن مواجهة جديدة بين إسرائيل وحزب الله تحديداً تنطوي على خطورة أكبر، بسبب تواتر التقديرات في تل أبيب التي تؤكد أنه على الرغم من مرور 11 عاماً على حرب لبنان الثانية، فإن إسرائيل لم تتمكّن بعد من اتخاذ الاحتياطات التي تكفل تأمين عمقها المدني في مواجهة الصواريخ التي يملكها حزب الله، والتي تمتاز بمداها الطويل ورؤوسها الثقيلة ودقة إصابتها.
تتابع أوساط المعارضة السياسية معاركها «الدونكيشوتية»، مرّة ضد منصّات المعارضة الأخرى، وتارة ضد المبعوث الأممي ستيفان دي ميستورا، وفي أحيان تلقي باللائمة على بعض الدول «الصديقة» عن تراجع دعمها لها، ولكنها في معظم الأوقات تصمت عن تغير مواقف بعض الدول من الثورة ووقف دعم الفصائل العسكرية والقبول ببقاء الأسد، بسبب ارتهانها لها.
يجري كل ذلك في وقت تتزاحم فيه الاستحقاقات الجدية في قضية الصراع السوري، وفي وقت تفلت فيه كل خيوط الصراع من بين أيدي السوريين نظاماً ومعارضة، على رغم علم قيادات المعارضة أن المعارك التي تخوضها إعلامياً لا تدخل ضمن نطاق العمل السياسي أو الديبلوماسي، الذي يحولها إلى أداة ضغط تستفيد منها لاحقاً، بل على عكس ذلك حيث تتحول تلك «المعارك» إلى مقدمات لتنازلات لاحقة، إذ ما يجري رفضه في مرحلة، يُقبل به بعدها.
في هذه المرحلة، مثلاً، تواجه المعارضة ثلاثة استحقاقات كبرى، من المفترض انها تضع أساسات الحل للصراع السوري خلال الشهرين القادمين، كما أعلن دي ميستورا. طبعاً هذا الحل لن يكون وفق إرادة السوريين من المعارضة والنظام، وهو لن يحقق للنظام طموحه بالعودة إلى الهيمنة على سورية أمنياً واقتصادياً، كما كان حاله قبل 2011، إلا أنه يرضي بعض مطالبه في البقاء الشكلي كنظام حاكم، في حين تتبدد أحلام السوريين الذين ثاروا ضد النظام لإنهاء الاستبداد، وإقامة دولتهم الديموقراطية المؤسسة على حقوق متساوية للمواطنين. ووفق المعطيات فإن الحلول المقترحة هي مجرد تقاسم نفوذ بين الدول المتصارعة على سورية (روسيا- الولايات المتحدة الأميركية- إيران- تركيا)، ما يتطلب عملاً واقعياً وجاداً من المعارضة تنزع فيها قياداتها مصالحها الشخصية، وتقطع مع ارتهاناتها لهذه الدولة أو تلك. وتتمثل الاستحقاقات المذكورة في اجتماع آستانة (المنعقد حالياً)، ومؤتمر الرياض 2 المقرر خلال الشهر المقبل، ولاحقاً الجولة الثامنة من مفاوضات جنيف. وأهمية هذه الاستحقاقات تنبع من الواقع الجديد المتمثل:
أولاً- في إعادة تموضع الأطراف المتصارعة على سورية (وأدواتها المحلية) على خريطة الصراع، بخاصة مع تغير التحالفات الإقليمية للقوى المنخرطة في الصراع السوري، الأمر الذي تجلى خلال جولات آستانة والتوافقات الروسية -التركية -الإيرانية.
ثانياً- مصير اتفاقات «خفض التصعيد» التي مررتها روسيا خلال الأشهر الماضية، وأنهت من خلالها الصراع المسلح بين الفصائل المسلحة المعارضة والنظام السوري، وحولت الجميع الى معركة ضد «داعش».
ثالثاً- تحويل جولات التفاوض في جنيف إلى جلسات تقنية استفادت منها روسيا، لتمرير تفسيرها لبيان جنيف 1 والقرارات الأممية لا سيما 2118 و 2254، وتالياً تحويل المفاوضات إلى نقاش حول توحيد وفد المعارضة، أو مكافحة الإرهاب، بهدف تعويم النظام.
على ذلك فإذا استطاعت روسيا أن تنهي اجتماعات آستانة وفق مخططها بانتزاع تركيا، «الصديقة» للمعارضة السورية، ووضعها على خريطة أصدقاء دمشق، في عملية مقايضة مع إيران، وسط صمت المعارضة السياسية، ولاحقاً ترحيبها، «المجبرة عليه»، بإقامة منطقة «خفض تصعيد» في إدلب، ستكون عبارة عن تجمع لكل المعارضين تمارس تركيا فيها دور الضامن لإنهاء الصراع مع النظام، وتحديد نشاط هذه المعارضة داخل هذه المنطقة، وتحويل الفصائل العسكرية إلى مجرد أجهزة شرطية تحت الإشراف التر كي. وطبعاً فإن المقابل لذلك استقرار نفوذ إيران في العاصمة ومحيطها، وصولاً إلى حدودها مع لبنان حيث «حزب الله». ويستنتج من ذلك أن هذه الجولة من آستانة ستكون، على الأرجح، بمثابة إغلاق الملف العسكري للمعارضة المدعومة تركياً، ووضعه ضمن ملفات روسيا للتفاوض عليه مع الإدارة الأميركية وأوروبا لاحقاً.
لن يقف الأمر عند ذلك، إذ من المرجح أن تنتقل روسيا من الملف العسكري في آستانة إلى تنفيذ مخططها في إعادة هيكلة المعارضة السياسية، وذلك من خلال مؤتمر الرياض 2 لتوسعة الهيئة العليا للمفاوضات، ومشاركة كل من منصتي القاهرة وموسكو وبعض الشخصيات المستقلة، لإنجاز كيان جديد من شأنه أن يلغي كل الكيانات السابقة التي اعترضت عليها موسكو، وامتنعت عن الاعتراف بها كممثلة عن المعارضة السورية، ومن المأمول لروسيا أن ينتج هذا المؤتمر وفداً تفاوضياً واحداً، يجلس مقابل النظام، وترعاهما روسيا- بحكم التفاهمات التي عقدتها مع كل الأطراف المتدخلة في الشأن السوري عربياً وإقليمياً ودولياً- بنفس القدر والهيمنة، وتكون أساس التوافقات فيه: الوثائق التقنية الثلاث التي تم التوصل إليها في جولة التفاوض التقنية، والتي عبرت الهيئة العليا عن رفضها لها، سابقاً، على رغم وجود وفدها خلال استخلاصها في لوزان (6-7 تموز/يوليو 2017، وهو ما أكده الوسيط الدولي في إحاطته أمام مجلس الأمن في (30 آب/أغسطس 2011).
مما تقدم، نحن أمام خيارين: إما أن نفهم أن قيادات المعارضة تعرف تماماً ما هو دورها في المرحلة المقبلة الذي رسمته لها القوى الدولية التي أوجدتها، ولذلك فهي تخفي عن السوريين مجريات الأحداث، وتشغلنا بمعارك وهمية تارة مع منصة موسكو، وتارة مع دي ميستورا «الموظف»، أو أنها تتخبط في عملها وهذا أقصى ما تستطيعه، بالتالي يكون السؤال: لماذا على السوريين أن يبقوا على قيادات فشلت في إدارة صراعهم مع النظام علماً أن أطرافاً خارجية اختارتهم؟ وفي الوقت ذاته من أجل ماذا على السوريين أن يقدموا مئات آلاف الشهداء، ومثلهم جرحى وملايين المهجرين إذا كانت هي هذه المآلات؟
ولعل طموحات «الهيئة العليا للمفاوضات» واضحة فيما نشر عن اجتماعها في 6 أيلول (سبتمبر) الجاري، والذي يؤكد أن كل مساعيها تقتصر على الحفاظ على أعضائها الـ 28، على رغم كل ما أحاط عملهم خلال الفترة الماضية من إخفاقات، ليكون اجتماع الرياض2 عملية «لصق» وترقيع، إذ يضاف إلى «الهيئة العليا» 23 عضواً فقط يتم اختيارهم وفق مواصفات تضعها الهيئة نفسها! ما يعني أن ما سنذهب إليه ليس مؤتمراً وطنياً، يعاد فيه الاعتبار إلى المسار الديموقراطي الذي تنادي به الأطياف السورية المعارضة، وتطالب بتنفيذه من جانب النظام، في حين يجري تغييبه في عمل المعارضة وتشكيلاتها.
وفي الوقت الذي يسابقنا فيه الزمن يتوجّب علينا الإلتفات إلى ما بعد الرياض2 لوضع البنى اللازمة لصيانة رؤيتنا حول «سورية كل السوريين»، من خلال الجولة الثامنة لجنيف، بعد أن سقطت «سورية الأسد» بفعل الحراك الشعبي، و «سورية المعارضة» بفعل ارتهان قياداتها وأخطائها المتتالية، وبفعل مسار آستانة الذي حول سورية إلى مناطق نفوذ، حيث تأتي أخبار اجتماعات لجنة الهيئة العليا للإعداد لمؤتمر التوسعة، لتعيد من جديد فكرة التفكير بالمناصب الدائمة، وهذه المرة من داخل صندوق النظام الفكري، وليس من خارجه.
حلّت ساعة تقاسم مناطق النفوذ والمصالح في سورية وبرز وزير خارجية روسيا سيرغي لافروف مهندساً بارعاً يملك مفاتيح الدار وخريطة سورية الجديدة. خريطة لافروف ليست خريطة رسم الحدود على نسق سايكس– بيكو. إنها ترتكز على قاعدة الوصاية الروسية على سورية بمباركة وشراكة أميركية. مع تطمينات عملية وفعلية لإسرائيل عنوانها الجولان، ونفوذٍ مضمون لإيران وتركيا في صفقة التوازنات العسكرية والمقايضات، وضمان مواقع حكم ذاتي للأكراد، وتحويل سورية إلى دولة شبه منزوعة السلاح ومنزوعة القرار السيادي. تقسيم سمي هذا أو تقاسم نفوذ، إن سورية الأمس ولّت والكلام عن انتصار بشار الأسد يتوقف عند استخدامه واستخدام نفسه في حرب على إرهاب أتى باستدعاء النظام السوري له وباستثمار خارجي لا أحد بريء منه على الإطلاق. وللتأكيد، إن تقويض حزب البعث الحاكم واضمحلاله التدريجي سينعكس على النظام وعلى الرئيس لأن منطق حزب البعث هو الاستفراد بالسلطة والحكم، وهذا دخل خانة «كان في الزمان».
كل هذا يُسعد الشريك الصامت الموافق تماماً على تحويل سورية إلى وصاية روسية توزّع الأراضي والممرات والطرقات الاقليمية، فأميركا تريد سورية «منزوعة الأسنان». فوداعاً للدولة المركزية في سورية لأن استمرار تلك المركزية سيجعل سورية الغد غير مستقرة، وهذا ما لا تتمناه الشراكة الروسية– الأميركية– الأوروبية– التركية– الإيرانية– الإسرائيلية. ذلك أن خريطة لافروف أعادت تعريف الاستقرار على أساس توزيع الحصص كما ارتآها لافروف. وكل ذلك الكلام المسرَّب عن استكمال واشنطن استراتيجية لاحتواء النفوذ في سورية والعراق واليمن لكبح «أذى إيران»، إنما هو كلام معسول للاستهلاك العربي لا غير.
الديبلوماسية الأميركية، المدنية والعسكرية، تتشاور مع الديبلوماسية الروسية دوماً وراء الكواليس في كل الملفات الإقليمية – وهذا ليس مستغرباً سوى أن الكثير من تلك المشاورات يبقى هذه الأيام سراً مطبقاً على حلفاء الاثنين في منطقة الشرق الأوسط وأكثرهم حلفاء للولايات المتحدة. فلا شيء تغيّر جذرياً في التفاهمات الأميركية– الروسية في شأن النزاعات في المنطقة العربية مع استلام الرئيس دونالد ترامب الرئاسة الأميركية. فهو سار على خطى سلفه باراك أوباما فعلياً وعملياً، إنما صعَّد لفظياً وبوعود فارغة ما لبث أن تراجع عنها لأسباب «براغماتية»– أي من أجل المصالح الأميركية كما تراها واشنطن. والذين يعتقدون أن الكونغرس الأميركي ســـيحتج ويعترض ويعرقل سياسات ترامب التهادنية فعلياً مع إيران، إنما يعتمد سياسة التمنيات لا غير. فأولوية الكونغرس الأميركي هي إسرائيل، وإسرائيل راضية.
إسرائيل راضية لأن الصفقات والتفاهمات ضمنت لها هضبة الجولان كحزام أمني وكأراضٍ لها كأمر واقع، بدلاً من بقائها أرضاً سورية محتلة. قد يقال إن الأمم المتحدة وقراراتها وقوة فك الاشتباك (اندوف) هي الفاصل الشرعي الذي يرفض ضم إسرائيل للجولان منذ احتلالها له قبل 32 سنة. لكن خريطة لافروف ضمنت لإسرائيل جبهة محيَّدة بضمانات روسية وأميركية ودولية كما طمأنتها بأنه لن تكون هناك مطالبة سورية جدية لاستعادة الجولان، لأن سورية القديمة زالت وسورية الجديدة باتت مربعات نفوذ روسي– أميركي– تركي– إيراني بلا قيادة مركزية تُذكر. انها سورية المُكبّلة التي تم حذفها من المعادلة الاستراتيجية مع إسرائيل بعد حذف مصر تفاوضياً عبر «كامب ديفيد» والعراق عسكرياً عبر حرب الرئيس جورج دبليو بوش في العراق. إنها سورية شبه المنزوعة السلاح والأسنان.
تركيا وجدت في العلاقة مع روسيا سلَّم الانقاذ. لذلك قايضت حلب باكراً وهي تدرك تماماً أن حلب كان المفصل الحاسم في مستقبل سورية والمعارضة فيها. الرئيس الروسي فلاديمير بوتين روّض نظيره التركي رجب طيب أردوغان، وتمكّن من إخضاعه للتخلي الجزئي عن رعايته لمشروع «الإخوان المسلمين»، وأردوغان رضخ أقلّه تكتيكياً ومرحلياً. فهو وجد في علاقته مع روسيا أهم سلاح له مع أوروبا الرافضة لانتمائه إليها والتي تكاد تكون نادمة على القبول بعضوية تركيا في حلف شمال الأطلسي (الناتو) لولا كونها براغماتية تنظر إلى موازين الفوائد والخسارة.
تلاقى الرجلان في موسكو وأنقرة على الكراهية لـ «الناتو»– أحدهما معتبراً هذا الحلف عدوّاً لدوداً له والآخر يراه شرّاً لا بد منه. المستشارة الألمانية أنغيلا مركل احتجّت على قيام تركيا العضو في حلف شمال الأطلسي بعقد صفقة سلاح هذا الأسبوع مع روسيا على أساس أن التناقض هذا ليس أبداً نظرياً. لم تحتج مركل على الرعاية الروسية لصفقة المقايضة التركية– الإيرانية في الأراضي السورية، والتي انطوت على سيطرة تركية عسكرية في الشمال السوري وعلى ضمان جغرافيا الممر الإيراني في الأراضي السورية الأساسي لاستراتيجية النفوذ الإيراني في الهلال الممتد من طهران إلى بيروت عبر أراضي العراق وسورية. فهي راعية على طريقتها لإيران ومشاريعها الإقليمية باسم صيانة الاتفاق النووي مع إيران من أي اهتزاز مهما تجاوزت طهران في أي نطاق آخر.
والآن، حصلت تركيا على تواجدها عسكرياً شمال سورية الى أجلٍ غير مسمّى بموافقة روسية– أميركية. أما ماذا ستفعل تركيا بـ «الدواعش» الذين يُصدَّرون إليها، فهذا موضوع آخر. وماذا سيفعل أردوغان بمشروع «الإخوان المسلمين» علماً بأن روسيا تصنع علاقة أساسية لها مع مصر، فهذا يستحق التدقيق والقراءة المعمقة لاحقاً. في الوقت الحاضر، تحرص موسكو على الدور المصري في سورية لكنها تتحدث بلغة الميدان– وفي هذه اللغة أولويتها تركية وإيرانية.
حالياً، ترعى روسيا مقايضة تركية– إيرانية إذ تتمتع تركيا بسيطرتها في الشمال السوري وتسيطر إيران على جنوب العاصمة السورية بما يضمن لها أمرين: المشاركة في تقويض استقلالية القرار في أية حكومة سورية في دمشق أولاً. الممر الضروري في الاستراتيجية الإيرانية ثانياً. لعل موسكو تنفذ وعود اخلاء سورية من الميليشيات انما بعد زوال «داعش» وبعد تكبيل المعارضة السورية بكل أطيافها وتحييدها. فإزالة الميليشيات التابعة لطهران شيء، وضمان نتائج الاستثمارات الإيرانية في سورية شيء آخر.
وواشنطن لا تمانع. كل التوعّد والتهديد الأميركي الإيراني إنما هو من قبيل فولكلور كبح الغايات الإيرانية والتوسع الإيراني في الجغرافيا العربية. فهذا «آخر هم» للأميركيين، في نهاية المطاف. كل تلك المهاترات والتهديدات اللفظية محسوبة. فلن تمزّق إدارة ترامب الاتفاق النووي مع إيران مهما صعّدت السفيرة الأميركية لدى الأمم المتحدة نيكي هايلي، ولن يوقف «التحالف الدولي» الذي تقوده واشنطن استيلاء إيران على الجغرافيا التي يتم تحريرها من «داعش»، لا في سورية ولا في العراق. لن تكون هناك خطوات أميركية لاحتواء نفوذ إيران في سورية والعراق، بعد استكمال العمليات العسكرية ضد «داعش»، فعندئذٍ يكون قد فات الأوان. فلقد وعدت إدارة ترامب وأخلّت بالوعود. أما استراتيجيتها الموعودة فإنما هي لرفع العتب والاستغلال.
الغياب الأميركي، بل التغيب المتعمد، ترك الساحة مفتوحة لروسيا لرسم خريطة جديدة لسورية، وأبعد. لقد أغلقت واشنطن صفحة التنافس الاستراتيجي والاقتصادي والأمني مع موسكو وقررت أن الزمن الراهن يسمح بصفقات التفاهم والاقتسام في كافة أنحاء المنطقة العربية.
في العراق، حيث التقسيم بات حتمياً، كلاهما يعارض لفظياً التسرع الكردي إلى الاستفتاء، وثم تقسم العراق كأمر واقع. فعلياً، كلاهما يدرك تماماً أن تقسيم العراق ليس فقط لصالح الكرد الذين يطالبون بدولة مستقلة، وإنما هو أيضاً لمصلحة إيران التي تجتاح الأراضي العراقية حتماً لتنفيذ مشروع الهلال الفارسي الذي يسمى أيضاً– الهلال الشيعي- كلاهما يعرف تماماً أن ما سيتبقى في العراق للسُنَّة هو عبارة عن خسارة كبرى لهم، لأن بالأمس كانوا أصحاب القرار والسيادة، وهم سيصبحون دويلة خالية من النفوذ والقدرات والموارد. كلاهما يقرأ جيداً الوهن العربي والأولويات الخليجية، وهما يعدان بجديد ما في الأولوية الخليجية، وهي اليمن.
في اليمن تلتقي الرغبة الأميركية والروسية لمساعدة السعودية على الانتهاء من أزمة اليمن، لكنهما تعرفان تماماً خريطة الطريق الى الحل، ولا تسلكانها. فالعنوان الرئيسي لحل أزمة اليمن هو طهران، لكن واشنطن وموسكو لا يقصدانه عمداً مع أنهما تدركان أن إيران لن تتخلى عن بوابة مهمة لها إلى الحدود السعودية عبر الحوثيين. هنا أيضاً، تتكاثر الوعود اللفظية وتقل الإجراءات الفعلية.
جولة سيرغي لافروف على العواصم الأميركية، والمشاورات الإيرانية والتركية في عواصم الضامنين الثلاثة في سورية – روسيا وتركيا وإيران – تؤكد أن ساعة تقاسم النفوذ حلّت. الغياب العربي عنها مؤلم ومؤسف وشهادة على الوضع العربي المتشتت بامتياز. نعم، لقد توجه سيرغي لافروف الى العواصم العربية في جولة ما قبل الإعلان عن خريطته. ونعم لقد أفادنا علماً بأن عواصم عربية مهمة وافقت ودخلت طرفاً في المعادلات الجديدة. إنما، في نهاية المطاف، إن سورية والعراق على وشك استبدال خريطة الأمس بخريطة جديدة– اسم الأولى سايكس بيكو واسم الثانية خريطة سيرغي لافروف.
يواجه «الستاتيكو» الذي تسعى روسيا إلى تثبيته في سورية في مرحلة ما بعد «داعش»، وإضعاف المعارضة السورية المعتدلة لنظام بشار الأسد، الكثير من العقبات والمطبات.
فما يسميه النظام وإيران وقادة ميليشياتها والقيادة الروسية، انتصارات في الحرب على الإرهاب، بإخراج «داعش» من مناطق واسعة في سورية (والعراق) ليس إلا مرحلة من مراحل الأزمة في سورية، طالما أن هذا «المحور» يعتبر أن لا وجود لمعارضة سياسية في البلد. وإذا اعترف بعض هذا «المحور» بوجودها، وجَبَ تذويبها في وفد موحد مع مؤيدي النظام، كما تسعى إليه موسكو، لتجويف مطالبها بالتغيير، أو عبر وصفها بـ «الحثالة» و «العملاء والخونة»، كما فعل الأسد.
ما يؤول إليه منحى الإنكار المتعدد الأشكال لدور للمعارضة، هو استبعاد البحث بالانتقال السياسي الذي ينص عليه القرار الدولي الرقم 2254 لمصلحة اجتماعات آستانة التي تعنى بتثبيت مناطق خفض التوتر من جهة، ولإسباغ صفة الاستسلام على محادثات جنيف التي بشر بها ستيفان دي ميستورا مستنداً إلى قناعته بأن على المعارضة أن تقتنع بأنها لم تربح الحرب، من جهة ثانية.
ومع وجود قناعة لدى كثر من السوريين بتوجه لدفن القرار الدولي، لأن الدول التي أيدته اكتشفت أنه «سابقة خطيرة» عندما يوكل إلى الأمم المتحدة مهمة قيام نظام ديموقراطي في سورية، ما يقلق هذه الدول إذا انسحب توجه كهذا على بعضها، فإن هذه حجة إضافية لترجيح قيام «ستاتيكو» تسعى روسيا إلى تكريسه تحت مسميات مختلفة منها مناطق خفض التوتر، بديلاً من الحل السياسي.
إصرار «المحور» على احتكار «الانتصار» على «داعش»، بإنكار مشاركة دول وقوى أخرى (مثل إنكار دور المعارضة)، وتصويره على أنه انتصار للمحور على المعارضة والدول التي دعمتها، يقود حكماً إلى تثبيت الأسد في السلطة لسنوات، يواجه أسئلة كبرى وسط الضجيج الإعلامي. أسئلة تضاف إلى سؤال كبير حول ما إذا كانت الدول التي كانت لها حصص في «داعش» قد حجزت لعناصره دوراً مستقبلياً عبر استردادها ما يمكن تسميته «ودائعها الاستخبارية» فيه، خلال المعارك الأخيرة، عبر الانسحابات المنظمة لمقاتليه من مناطق عدة، من تلعفر إلى البادية السورية، إلى الجرود اللبنانية والسورية التي شهدت عمليات استسلام هؤلاء، فضلاً عن المبادلات...
إذا كانت إدارة دونالد ترامب، كما سلفه، سلمت لروسيا بالنفوذ في سورية، وبات على الأخيرة إدارة هذا النفوذ مع الدول الراعية لآستانة، فإن خريطة حدود تأثير كل من الدول المعنية رُسمت برضى الدول الكبرى، جنوباً وشمالاً وشرقاً، باستثناء موقع إيران، التي اقتطع تدخلها حتى الآن المناطق الغربية، على أن تحتفظ بوجودها في محيط دمشق. كيف ستدير موسكو الوجود الإيراني هذا في مرحلة الستاتيكو، في ظل اتفاقها مع واشنطن على حفظ مصالح إسرائيل، وفي ظل المطالبة الأميركية لها بإبعاد إيران عن سورية؟ وكيف ستضبط إيقاع دور طهران في وقت بعثت إسرائيل برسالة واضحة على لسان وزيرة العدل فيها بأن «للأسد مصلحة بإبقاء إيران في الخارج، إذا أراد البقاء»، في وقت تعزز الأخيرة جاهزيتها وترسانتها في سورية ولبنان ما يطلق بين الفينة والأخرى العنان لسيناريوات الحرب، كلما قصفت إسرائيل قافلة أسلحة لـ «حزب الله»؟ وإذا كانت حجة حصول القصف الإسرائيلي الأخير من الأجواء اللبنانية التي يقول خبثاء إنها مفتعلة لتجنب أي رد، دليلاً على انضباط الجانب الإيراني، فإن السؤال حول حصة طهران يبقى قائماً في شأن حضورها الاقتصادي والعسكري والأمني. فالامتيازات التي حصلت عليها من النظام لإقامة مستودعات للنفط في الساحل، ولتأسيس شركة اتصالات خلوية ثالثة، وللتنقيب عن الفوسفات في البادية التدمرية، وحق استثمار 5 آلاف هكتار من الأراضي الزراعية في الساحل، وهي تغطية لإقامة قاعدة على البحر المتوسط نجح الجيش الروسي في «عرقلتها». أما الاتفاقات الأخرى فاعتمد الروس على التسويف السوري الرسمي لتأخيرها، حتى إشعار آخر. إنه صراع الحلفاء.
مع ترويج «المحور» لـ «الانتصار»، يجري الترويج لمرحلة إعادة الإعمار، في وقت يسود الاعتقاد الضمني عند بعض القوى الدولية التي ترى أن سورية ذاهبة إلى ستاتيكو، بأن لا إمكانية لإعادة الإعمار في ظل بقاء الأسد. فالمانحون، دولاً ومنظمات ومستثمرين سوريين يعول عليهم، يرون أن النظام سيوجه الإعمار للانتقام من الشرائح الاجتماعية التي وقفت ضده ولن يكون وفق خطة لإعادة النازحين، بل من أجل إثراء من وقفوا معه وتعزيز الفساد. وهو قال أن لا مكان للدول التي دعمت خصومه في العملية. فكيف تتكرس شرعيته في هذه الحال؟
لم تُعجب إسرائيل باتفاق خفض التوتر الذي أبرمته القوى المعنية بسورية في جنوب غرب سورية في السابع من يوليو/ تموز الماضي، والذي ضمنت تنفيذه الشرطة العسكرية الروسية. فهو برأيها لا يبعد كفاية مليشيات إيران عن حدودها، ويحدّ من "مجالها الحيوي"، ومن حق تقريرها في شؤون سورية. حاولت مع الولايات المتحدة إنتزاع شيء ما، لكنها لم تفلح، ففهمت، واتجهت نحو موسكو، فكانت الزيارة السادسة لنتنياهو إلى روسيا قبل أيام، ولقائه بالرئيس فلاديمير بوتين، حيث ظفرت بالسماح لها، وهي في خضمّ مناوراتها العسكرية، بالقيام بضربة جوية، تتجنّب الصدام المباشر مع الروس، المسيطرين على هذا الجو. فكانت الضربة، في 7 سبتمبر/ أيلول الجاري، على موقع حكومي سوري بالقرب من مصياف في محافظة حماه، وهو مركز بحوث علمية لصناعة السلاح الكيميائي. لذلك ربما، لم ينبسْ الروس ببنت شفة. صمتوا وكأنهم يردّدون لأنفسهم، مع بشار الأسد، بأنهم سوف يرّدون "في المكان والزمان المناسبَين". وذلك خلافاً للطيران التركي، مثلاً، الذي فرض عليه الروس، وعلناً، حظراً جوياً، تحت طائلة العقوبات، منذ انخراطهم رسمياً في الحرب السورية في خريف 2015. أو العكس، الضربة الأميركية على مطار الشعيرات السوري في إبريل/ نيسان الماضي، وكان بليغاً صمت أبو الهول الروسي عليها.
اعتراف إسرائيل بقيامها بالغارة، وتعليق قادتها وإعلامييها أنهم يستهدفون موقعاً "حكومياً"، وكونها رسالة مفادها بأن إسرائيل لن تتردّد في زعزعة "الهدنة السورية"، وأن الضربة منعطف يتميز عن الضربات المائة السابقة ضد شاحنات حزب الله... وغيرها من توضيحات القادة العسكريين الإسرائيليين، كلها تكشف عن مشيئة إسرائيلية معلنة: إسرائيل تعتبر نفسها ليست أقل من غيرها من القوى الخائضة للحروب والهدَن في سورية. لم تكن تتمنى سقوط بشار، لكنها أيضاً لم تكن ترغب باقتراب منافسيها، عناصر الحرس الثوري الإيراني، والمليشيات التابعة له، إلى حدودها الجنوبية. وهي تتصور أن مسافة العشرين كلم التي حدّدتها الهدنة لإبعاد هذه القوات ليست كافية. تريدها أكبر. وحصلت منذ يومين على ضعفها، أي أربعين كلم. أي أن إسرائيل مثل غيرها ممن يتهافتون على سورية، تريد لنفسها حصة في قرارها. لا تركيا، ولا إيران، ولا دول الخليج، ولا أميركا، يستحقون ما لا تستحقه إسرائيل. وهي لم تقصد بشار "المنتصر"، إنما اتجهت علناً إلى روسيا، سلّمت لها بسيطرتها على الميدان، مطمئنة إلى اعترافها بإسرائيل منذ تأسيسها، إلى المليون روسي إسرائيلي مقيم في إسرائيل، وإلى حسابات روسيا الحكيمة في كيفية الموازنة بين مختلف الأطراف التي يسيل لعابها على الدمار السوري.
نحن أيضاً، أبناء هذه المنطقة، مثلما نجافي إسرائيل، لا نريد مليشيات إيرانية تعبث دماراً وتمزيقاً في نسيجنا. هل يعني ذلك أننا نتعامل مع العدو؟ أو أننا مطبِّعون؟ أو خونة، ناكرو الانتصارات الساطعة لمحور الممانعة؟ هل يعني ذلك أن الضربة الإسرائيلية قبل أيام، وما سبقها من ضربات، دليل على صحة الموقف الممانع؟ على أساس المعادلة البسيطة القائلة إن الوقوف ضد الطموحات الإيرانية هو تآخٍ مع إسرائيل؟
مثل الروس، سكت "الممانعون" أيضاً عن الضربة، لكن إعلامهم أطلق العنان لثرثراته المعهودة. فعدنا معه إلى الأسطوانة المكسورة إيّاها: الضربة الإسرائيلية أثبتت بالملموس انتصار هذا المحور. والدليل، المعلوم أيضاً، أن العدو يستهدفه. والموازنة البسيطة الأخرى: إذا ضربتنا إسرائيل فهذا دليل على صحة وطنيتنا. ممانع هزلي أخذ على إسرائيل استخدامها "القوة" في محاولاتها تلبية تطلعاتها الاستراتيجية هذه.. وكأن أسلحة محوره كانت ترمي السوريين بالورود! من بشار إلى بوتين إلى إيران ومليشياتها، إلى "داعش" والتحالف الدولي الذي "يحاربه"... جميعهم شمّروا عن سواعدهم في المقْتلة السورية.
الإيرانيون بالذات، برعوا في توجيه مليشياتهم، بحيث أنهم تمكّنوا من إيجاد ممرّ برّي يصل طهران بالعراق وسورية ولبنان، فباتوا يتنقلون بين هذه البلدان من دون تأشيرة دخول. متسبّبين بمفارقة تكشف "نجاح" استعمالهم للقضية الفلسطينية التي لم يعودوا في حاجة إليها. فهذا الممرّ البرّي، وهو من وجوه "الانتصار" الإيراني، يسمح للإيراني بالتجول بحرية في كل هذه البلدان، لكنه يمنعه عن الفلسطيني، وعن عرب آخرين. أكثر من ذلك: في الوقت الذي يصرخ المحور الإيراني بانتصاراته التي بناها على أكتاف فلسطين، تتراجع قضيتها حثيثاً نحو الكوارث الفادحة: مزيد من الضم لأراضي الضفة الغربية والقدس (تقرير الصليب الأحمر الدولي الذي يبدو أكثر اهتماماً بالقضية ممن أهلكوها "انتصارات"). مزيد من الاستحالة لإنجاز أضعف الإيمان، أي حل الدولتين. مزيد من التراجع في أوضاع الفلسطينيين الحياتية، في إسرائيل وسورية ولبنان.. وربما في أنحاء أخرى من المعمورة.
تشي الضربة الإسرائيلية بأن الزمن الممانع صار مفوّتاً، وبأن عليه أن يغيّر خطابه المعلن، على الأقل، حفاظاً على رصانة مناصريه، خصوصاً الإعلاميين منهم. يمكنهم أن يكفّوا عن أنفسهم شرّ الشيخوخة الفكرية بأن ينظروا جيداً إلى المشهد السوري: الروس في سورية هم المسيطرون عسكرياً، ودبلوماسياً. الأميركيون، الأقوى عسكرياً من الروس، متذبذبون، لا يعوّل عليهم؛ ضعفهم أو تقهقرهم، أو إنشدادهم نحو مراكز اهتمام أخرى، أو ارتباك إدارتهم الجديدة، برئيس أهوج، أعصابه تسبق عقله.. ولكن مع ذلك يملكون، هم أيضاً، قوى في السماء وعلى الأرض، بالتنسيق مع الروس، أو تلزيمهم سورية... كل هذا ترك فراغاً "قيادياً" ملأه الروس على أفضل الوجوه. سلاح الإيرانيين أقل من سلاح الروس، لكنهم أكثر وجوداً على الأرض. اتفاقية حلب في الشتاء الماضي ثبّتت أقدامهم على الأرض. حاول الروس التفرّد بتنفيذها بإخراج المسلحين منها، فعطلته المليشيات الإيرانية؛ وفهم الروس الدرس. ولكن هناك أيضاً تركيا، في الشمال. ودول الخليج لدى بعض الفصائل المبعثرة. ولدى جميعهم أجندات غير سورية: الأكراد، ولقاء الروس وتركيا وإيران ضدهم، ثم لا... ضد أميركا، صديقة الأكراد غير المضمونة.. إلخ.
تعترف إسرائيل بالهيمنة الروسية، لا تريد مزاحمتها، لكنها تريد حصتها. وهي لا تستطيع أن تحصل عليها، حتى اللحظة، إلا بالقوة المضبوطة: القوة تحت السماء الروسية. هذا ما يمنح روسيا منزلة سياسية جديدة، سوف تمكّنها من "التوسط" بين الإسرائيليين والفلسطينيين؛ تماماً كما كان يفعل الأميركيون في الأيام الخوالي.
أما التعويل على "بوتين صديق الشعوب المقهورة"، فهو أيضاً من زمن آخر... بوتين يضبط سورية بحساباتٍ تبدو حتى الآن صائبة، هي حسابات الأباطرة المسيطرين على رقع شاسعة من أراضٍ يتزاحم عليها ذئاب، أقل منهم جبروتاً، متعطشين لفراغها. نقول "حتى الآن"... لأن "النصر" الذي أبقى بشار الأسد على عرشه لا يصنع استقراراً، أو سلاماً. ربما يصنع ملوكاً مؤقتين، مثل إيران ومليشياتها، مثل بشار، مثل سياسيي لبنان الزاحفين إلى موسكو.. وجميعهم "ينسّق" مع بوتين، إمبراطور سورية المؤقت.
لا تشكل غارة إسرائيلية بمفردها، مهما كان دوي وقعها وكانت شدّتها، دليلاً كافياً على أن الدولة العبرية قد غيّرت مقارباتها الملتبسة، منذ نحو ست سنوات، إزاء الأوضاع السورية القائمة في البلد الذي بات مرتعاً خصباً للتدخلات الخارجية، وتحول إلى مناطق نفوذ موزّعة بين القوى الإقليمية والدولية ذات المصالح المتضاربة، بل وصار ميدان رمايةٍ مثاليا لاختبار صنوف الأسلحة الحديثة، لا سيما وأن إسرائيل هي الدولة الأقل حضوراً، قياساً بسائر جيران سورية، في مجريات هذه الأزمة التي خالفت مآلاتها توقعات كبار القادة والمحللين الإسرائيليين.
غير أن سيلا من المراجعات التي حفلت بها الصحافة العبرية، أخيرا، قبل شن هذا العدوان الاستفزازي السافر، وما عكسته من مشاعر خيبة أمل حيال عدم أخذ الدولتين الكبريين (روسيا وأميركا) في حسابهما المصالح الأمنية الإسرائيلية، لدى عقد اتفاقية خفض التوتر في الجنوب السوري، وما عبّرت عنه تلك السجالات من ندمٍ على تفويت عدد من الفرص السانحة لحجز مقعد إسرائيلي كبير على مائدة التسوية المحتملة، نقول لعل ذلك كله يشير إلى أن هذه الغارة التي وقعت في مكان غير بعيد عن قاعدة حميميم الروسية قد تكون فاتحة لمقاربة إسرائيلية مختلفة.
بحسب تعليقاتٍ فوريةٍ من جنرالات إسرائيليين متقاعدين، لم تكن هذه الغارة المتزامنة مع الذكرى السنوية العاشرة لضرب مفاعل دير الزور روتينيةً على غرار عشرات الغارات السابقة، بل كانت غارة استثنائية من حيث الهدف والتوقيت والرسائل المبثوثة، تهدف إلى نقل إسرائيل من دور المراقب للأزمة السورية إلى دور الشريك الفاعل حول مائدة التسوية المرتقبة، أو كما قال وزير الحرب، أفيغدور ليبرمان؛ الذي أعلن عن تحمل تل أبيب المسؤولية، لأول مرة، إن هذه الغارة وضعت خطاً أحمر لن تسمح إسرائيل بتجاوزه، وهو ما يعني أن الدولة العبرية عمدت إلى تعميق تدخلها في الشؤون السورية.
ويمكن للمراقب أن يضيف إلى هذه الأقوال المتحدية قولين اثنين؛ أولهما أن إسرائيل، المطمئنة حيال سياسة أميركية مستقرة، تحفظ لحليفها المدلل في الشرق الأوسط كامل مصالحه بعيدة المدى، ينتابها الآن حسٌّ بالخذلان والترك، جرّاء ما تراه قصوراً شديداً في استراتيجية أميركا تجاه الأزمة السورية، وثانيهما أن حكومة بنيامين نتنياهو المعوّلة على تفاهماتها المستجدة مع الرئيس الروسي، خسرت رهانها الهشّ على حسن نيات فلاديمير بوتين الذي أوضح لها، خلال لقائهما أخيرا في منتجع سوتشي، أن بلاده لن تضحّي بحليفها الإيراني في هذه الآونة.
وعليه، تكون هذه الغارة، في مغزاها ومبناها، قد انطوت على احتجاجٍ إسرائيلي مزدوج، كُتب بالحديد والنار، تجاه تجاهل كل من أميركا وروسيا لمطالب تل أبيب المتعلقة أساساً بالوجود الإيراني والمليشيات الملحقة به، خصوصاً في المنطقة اللصيقة بهضبة الجولان ودرعا والسويداء، وفيما بدا هذا الاحتجاج مصوغاً بنبرةٍ سياسيةٍ عاتبة تجاه الحليف الأميركي القديم، بدا متحدّياً ومستفزاً بشدة للحليف الروسي الجديد الذي أحرجه، حتى لا نقول أهانه، اختراق أربع طائرات مقاتلة المنظومة الدفاعية التي تعد فخر التكنولوجيا الحربية الروسية المتطوّرة.
من المرجّح أن تتفهم واشنطن حالة الغضب الإسرائيلي هذه، وأن تعمل من خلف أبواب مغلقة على تهدئة روع ربيبتها في المنطقة، بتقديم مزيدٍ من الطائرات الحربية والخدمات الأمنية الحديثة، هذا إن لم تكن أميركا قد أومأت برأسها، وأعطت الضوء الأخضر لهذه الغارة. أما موسكو المهانة بانكشاف عجزها وقلة حيلتها، وهي صاحبة المنظومة التي قيل إنها قادرة على رصد المقاتلات منذ لحظة إقلاعها في أيٍّ من مطارات المنطقة، فإن من غير المحتمل أن تبدي أي تسامح مع مثل هذا الصلف الإسرائيلي الذي وضع دولة كبرى في موضع اختبارٍ لا تحسد عليه أبداً.
من المفارقة الفارقة هنا أن الدولة السورية المستهدفة في صميم سيادتها بهذه الغارة لم تكن، من قريب أو بعيد، ضمن الحسابات الإسرائيلية، المستخفّة تماماً برد الفعل السوري المعهود "الاحتفاظ بحق الرد في الزمان والمكان الملائمين". إذ إن أقصى ما قاله الإعلام الحربي السوري إن الغارة حدثت من داخل الأجواء اللبنانية، في محاولةٍ ساذجةٍ لتخفيف حدة وقع الغارة على نجاعة القدرات التكنولوجية الروسية التي أظهرت ضعفاً مخجلاً أمام تفوق الأسلحة الأميركية، وهو ما يمكن ملاحظته من خلال صمت الكرملين المطبق، إن لم نقل الذعر، إزاء الفارق النوعي بين الترسانتين المتبارزتين في الأجواء السورية المستباحة.
وبالعودة إلى العنوان أعلاه، "هل غيرت إسرائيل مقارباتها السورية؟"، يمكن القول إن تغيراً ما قد دخل على الحسابات المسكونة بالقلق العميق لدى هذه القوة الإقليمية ذات الخلفية الأمنية المتطيرة، كعادتها، حيال أيٍّ من المتغيرات السياسية والعسكرية المحيطة، فما بالك إذا كانت هذه المتغيرات تشي بإمكانية اشتعال جبهتين شماليتين، عوضاً عن جبهةٍ واحدةٍ مع حزب الله، في أي حربٍ محتملة في المدى المنظور، الأمر الذي أهّل هذه الغارة النوعية لتدشين فصلٍ جديد من أزمةٍ لا تزال بعيدةً عن نهايتها، وجعل منها فاتحة أولية لمقاربةٍ إسرائيلية قد تعيد خلط الأوراق مجدّداً، وتزيد من درجة تعقيدات الأزمة المديدة، بصورة تحبس الأنفاس لدى كل المنخرطين فيها.
ومع أن الوقت لا يزال مبكراً للحكم على مدى ما انطوت عليه هذه الغارة من متغيراتٍ تخصّ الرؤية الإسرائيلية الحاسمة، إذا ما جرى تفعيل أدواتها بصورةٍ متزايدةٍ في المستقبل القريب، فإن مجموع الرسائل المحمولة على جناحي هذه الغارة، المترافقة مع أكبر مناورة عسكرية في العقدين الماضيين، تفيد بأن العقل الإسرائيلي الهاجس بالأمن، والأمن أولاً وأخيراً، قد أخذ يميل إلى حمل مخاطر أكبر من ذي قبل إزاء احتمال تورّطه أكثر وأعمق في المسألة السورية، المفتوحة بعد على تطوراتٍ لا يمكن التنبؤ بها من الآن، خصوصاً إن تمخض الصمت الروسي على الإهانة التي لحقت به، وهو في عز إمساكه بمعظم مقاليد المشهد السوري، عن ردة فعلٍ ملموسةٍ ضد العربدة الإسرائيلية.
إزاء ذلك كله، يجدر بالمراقب الموضوعي أخذ قسط من التحفظ، وهو يقرأ كامل الصورة السورية المتحولة بين يوم وآخر، وأن يُمسك قليلاً عن التخمينات السياسية والعسكرية المتعلقة بوضعٍ قد يخرج عن السيطرة في أي وقت، لعل غارة إسرائيلية أخرى تواجه بردّ فعلٍ روسي غير مستبعد تماماً، تعزّز من هذا الافتراض الذي لا يمكن الاطمئنان إليه الآن بصورة كلية.
لم تختلف نتائج اجتماعات أستانة، بجولته السادسة، والتي انتهت جلسته الختامية يوم أمس الجمعة، عن سابقاتها من الإجتماعات والأروقة السياسية التي تبحث في الملف السوري، في مشهد يتسارع فيه كل طرف من أطراف الأستانة للزج بتصريحاته في عمق الإعلام، لينسج خيوط أفكاره بعقل القارئ، وفي النهاية كل يغني على ليلاه، والتصريحات المتضاربة هي النتيجة.
يبدو أن أروقة الأستانة تعيد المعارضة الى البدايات، فما اتفاق وقف مناطق خفض العنف، إلا مصطلح أكثر رقياً من مصطلح "وقف اطلاق النار"، ويعود وفد نظام الأسد وحلفائه الروس والإيرانيين إلى تأجيل موضوع المعتقلين، بعد وعود باهتة للمعارضة بالنظر في الموضوع، كنوع من المماطلة التي لا تزال المعارضة مصرة على تصديقها، ليخرج وفد المعارضة كعادته مفرغة الكفين، ويعتبر ان التوصل الى انشاء مناطق خفض العنف في ادلب "انتصاراً".
فكيف لمنطقة ادلب أن تشهد وقف اطلاق نار، بحسب ما صرح الوفد المعارض، وبحسب ما قال عضو اللجنة الاعلاميه لوفد المعارضة إلى الأستانة، لشبكة شام الإخبارية يوم أمس، بالتزامن مع تصريحات سفير نظام الأسد لدى الأمم المتحدة، "بشار الجعفري"، الذي أكد أن الاتفاق الذي توصلت إليه روسيا وإيران وتركيا في إدلب، "لا يشمل المجموعات المتطرفة التي رفضت وقف إطلاق النار، بما في ذلك الفصيل المرتبط بتنظيم القاعدة"، في اشارة منه الى "هيئة تحرير الشام"، التي تسيطر على معظم محافظة ادلب.
اتفاق أستانة بجملة مختصرة اتفاق مشبوه وحبر على ورق، والبنود الفضفاضة كانت واضحة على قرارات "أستانة 6"، فقرار انتشار قوى مراقبة تركية وروسية وإيرانية في محافظة ادلب، مخالف للمنطق، فكيف لحليفا نظام الأسد على الأرض أن ينشرا قواهتما في منطقة سيطرة المعارضة، وتوعد صريح من قبل النظام عقب الأستانة بخرق القرارات، وضرب تضمين ادلب ضمن خطة مناطق خفض العنف بعرض الحائط، تصريح بطريقة أو بأخرى برفض الإلتزام بالأستانة، فمحافظة إدلب تعني "هيئة تحرير الشام" أو ماتعرف ب"النصرة" سابقاً.
وبالنظر إلى دعوة الأستانة إلى كافة أطراف النزاع السوري لإطلاق سراح المعتقلين، كبند لبناء الثقة بين الاطراف، ما يجعل العمومية تشمل القرارات، دون ان تطالب بشكل صريح بالمعتقلين في سجون الاسد، وما هذا إلا تأكيد على أن النتيجة ستكون ببقاء المعتقلين في المعتقلات ولا موعد قريب لإطلاق سراحهم.
لم تكن تصريحات الدول الضامنة للأستانة وطرفا المفاوضات هي الأمر اللافت فحسب، فقد سارعت الولايات المتحدة لتؤكد عقب الأستانة، أنه لا مكان للأسد، وأكدت السفيرة الأمريكية لدى الأمم المتحدة، "نيكي هيلي"، مساء الجمعة، أن إيران لن تلعب دوراً رئيسياً في سوريا بعد الانتهاء من تنظيم الدولة.
التصريحات الأمريكية، تؤكد حجم الهوة بين واشنطن وموسكو في هذا الوقت، ويبدو أن هذه التصريحات تأكيد أمريكي لما كان تحت طاولة الأستانة، وان كانت روسيا راضية بنشر قواتها في ادلب معقل هيئة تحرير الشام، والذي تعتبره أمريكا معقلا للقاعدة، فيبدو أن البيت الأبيض لم ولن يرضى بهذا السيناريو.
أما نظام الأسد فقد شن هجومه على الولايات المتحدة، عقب الاستانة أيضا، إذ صرحت مستشارة بشار الأسد، "بثينة شعبان"، إن نظام الأسد سيقاتل أي قوة، بما في ذلك قوات تدعمها الولايات المتحدة، من أجل استعادة السيطرة على كامل البلاد، وهذا يعني أن نظام الأسد لن يطبق أي بند من بنود اتفاق الاستانة، ولن يرضى وحليفته إيران إلا أن يسيطر على كافة سوريا.
فإن حاولت المعارضة السورية أن تبدي تفاؤلها، فلا مكان للتفاؤل مع اتفاق ضمنه الطرفان الإيراني والروسي، لأن كلاهما معروف بتميزه بالبحث عن مصالحه، ولا مكان للقيم والاتفاقات في تاريخهما السياسي والعسكري، وما الخاسر الأكبر في هذا الاجتماع إلا شعب خرج وقال "بدنا حرية".
« نورداغان» إسم لأكبر مناورات قام بها الجيش الإسرائيلي خلال السنين العشرين الماضية. شاركت في المناورات عشرات الفرق والألوية من القوات البرية والبحرية والجوية والاستخبارات. حاكت عمليات إخلاء مدن، وصدّ عمليات تسلل من حزب الله، وشنّ هجوم على لبنان، وإبطال عمل خلايا تجسس. هذا ما سُمح لوسائل الإعلام بكشفه، وربما المخفي أخطر.
ضابط اسرائيلي رفيع قال لصحيفة «هآرتس» إن سيناريو المناورات يهدف الى هزيمة حزب الله. المقصود بمصطلح هزيمة توجيه ضربة قاصمة الى البنى التحتية للعدو، وتقليص اطلاق القذائف من المناطق التي يتمّ احتلالها، «لكن ليس مؤكداً ان هذا سيوقف الحرب».
مَن هو عدو «إسرائيل؟»
العدو متعدد الهوية والمنطلَق والقدرة، في هذا السياق، يأتي لبنان في المرتبة الأولى، لأنه المنطلَق الأساس لحزب الله. لكن لحزب الله منطلقات أخرى، فهو يقاتل في مختلف مناطق سوريا وكذلك في العراق. ولأنه يقاتل في سوريا فهو حليف لها، ومَن يكن حليفاً لحزب الله يصبح عدواً لـِ»اسرائيل». ثم، أليس لسوريا حلفاء آخرون؟ أليست ايران حليفة لسوريا وكذلك لحزب الله؟ أليست روسيا حليفة لسوريا؟ بل أليست روسيا، موضوعياً، حليفة لإيران؟ يتحصّل من هذه الواقعات أن أطراف محور المقاومة جميعاً أعداء لـ»إسرائيل»، وأن روسيا وإن لم تكن عدواً لها، إلاّ أنها حليف أو داعم لكل أطراف محور المقاومة، ما يجعلها خصماً غير مباشر للكيان الصهيوني.
لماذا أجرت «إسرائيل» مناورات «نورداغان» الآن؟
ليس في الأمر سر. «إسرائيل» خائفة ولا تخفي خوفها. خائفة من تداعيات اندحار «داعش» أمام الجيش السوري وحلفائه، ومن ترسيخ وجود إيران في سوريا واحتمال قيامها، مع حزب الله وأفواج مقاومةٍ سورية بازغة، بفتح جبهة ساخنة في جنوب سوريا بمحاذاة الجولان المحتل. أكثر من ذلك، أن تقوم إيران بتسليح سوريا وحزب الله بأفعل وأفضل ما لديها من أسلحة فتاكة وقدرات تكنولوجية، ما يؤدي إلى اختلالٍ موازين القوى لصالح أطراف محور المقاومة المتربصين بها. الوضع سيصبح أكثر خطورة إذا ما آلت تطورات المشهد العراقي إلى انخراط بغداد في محور المقاومة وفي إقامة جسر بري لوجيستي مفتوح بين طهران وبيروت عبر العراق وسوريا. لمواجهة هذه التحديات اعتمد قادة «إسرائيل» ثلاث مقاربات:
* الأولى سياسية وذلك باستغلال مخاوف دول الخليج من صعود إيران بغية توسيع علاقات «إسرائيل» الاقتصادية والأمنية مع بعضها، ولإقامة جبهة ردع فاعلة في وجه ايران وحلفائها. لرفع معنويات جمهوره، صرح نتنياهو بأن «إسرائيل» باتت تتمتع بمستوى تعاون غير مسبوق مع العالم العربي، واصفاً العلاقات بأنها افضل منها في أي وقت مضى، رغم انعدام الاتفاق مع الفلسطينيين. أكدّ ان «التعاون الحالي مع دولٍ في العالم العربي يُعدّ الأقوى مقارنةً بفترة توقيع معاهدتيّ السلام مع مصر والاردن». عزا هذا التحوّل إلى دمج قوة «اسرائيل» الاقتصادية- التكنولوجية وقوتها العسكرية – الاستخبارية، ما ادّى إلى تعزيز قوتها السياسية.
*المقاربة الثانية استراتيجية ميدانية، وذلك بإجراء مناورات «نورداغان» الضخمة، مصحوبةً بتغطيةٍ إعلامية هدفها إعطاء انطباعٍ محدد الى اعدائها: «وجود القدرة والاستعداد والإرادة السياسية لدى «إسرائيل» ليس لضرب حزب الله فقط، بل لإخضاعه ايضاً والانتصار عليه» (مقالة إيال زيسر، نائب رئيس جامعة تل أبيب، في «يسرائيل هَيوم» 2017/9/5).
*المقاربة الثالثة عملانية وذلك بتوجيه سلاح الجو الإسرائيلي من الأجواء اللبنانية ضربةً لمنشأة عسكرية سورية في مصياف بمحافظة حماة، التي لا تبعد كثيراً عن قاعدة روسيا البحرية في طرطوس وقاعدتها الجوية في مطار حميميم القريب من اللاذقية.
لا يهمّ ما قالته «اسرائيل» لتبرير الضربة. المهم الإحاطة بالواقعات الآتية: إن الضربة كانت في سوريا وليس في لبنان، وإن تنفيذها جرى من الأجواء اللبنانية، وإنها استهدفت منشأة عسكرية بعيدة جداً عن جبهة الجولان في جنوب سوريا التي تشكو تل أبيب من احتمال تحوّلها جبهة ناشطة بقوات لحزب الله مدعومة من ايران، وإن قرب المنشأة العسكرية من قاعدتين روسيتين، بحرية وجوية، في منطقة قريبة، أمر له دلالاته. ذلك كله حدث غداة حديث لنتنياهو في حفلٍ لوزارة خارجيته عن «تغيّر هائل» في العلاقات الاقتصادية والثقافية مع روسيا، في سياق ما سماه «الأهمية الاستراتيجية للتنسيق مع موسكو في شأن سوريا». توقيت المقاربات الثلاث يحمل على الظنّ بأن «إسرائيل» قصدت من وراء ضربة مصياف اختبار ردة فعل كلٍّ من حزب الله وسوريا وروسيا الأمر الذي يطرح اسئلةً ملّحة:
*هل تظنّ «اسرائيل» أن الضربة قد تحمل حزب الله على إعادة النظر بمستوى مشاركته في الحرب ضد «داعش» فيقلص من حجمها ونوعيتها، ما يؤدي إلى انتعاش «داعش» مجدداً وبالتالي إطالة امد الحرب واستنزاف سوريا؟
*هل تحمل الضربة سوريا على اعادة النظر بسياستها ازاء المنطقة المحاذية للجولان المحتل، فتوافق على اعطاء تعهدات بإبعاد ايران وحزب الله عن ايّ تواجدٍ فيها؟
*هل تمّت الضربة بعلم روسيا؟ وما حدود التنسيق بين «اسرائيل» وروسيا الذي اشار إليه نتنياهو؟ اذا لم تكن موسكو على علم بالضربة وغير موافقة عليها كونها استهدفت منشأة عسكرية سورية، وليس قافلة مزعومة تنقل سلاحاً لحزب الله، فهل تراها تحذر «اسرائيل» من الاسترسال في هذه السياسة تحت طائلة تزويد سوريا صواريخ دفاع جوي متقدمة قادرة على اسقاط القاذفات الإسرائيلية، حتى لو كانت تعمل عن بُعد او من الاجواء اللبنانية؟
*هل يمكن اعتبار ضربة مصياف اختبارا لمعرفة ردود فعل أطراف محور المقاومة وروسيا المتحالفة معها، وانها جرت بموافقة الولايات المتحدة او، في الاقل، بعلمها، ما يستوجب تالياً الرد عليها، بشكل او بآخر، من قبل الدول سالفة الذكر، أو اقلّه من أطراف محور المقاومة بدعمٍ قوي من روسيا؟
من الواضح أن أطراف محور المقاومة تعطي مواجهةَ الإرهاب في هذه الآونة اولوية مطلقة، سياسية وعسكرية. لكن، أليس مفيداً إفهام «اسرائيل» التي عادت الى اعتماد مذهبها العسكري القديم القاضي بنقل الحرب الى ارض العدو، أنه في مقدور العرب أيضاً نقل الحرب إلى أرضها وبالمقادير التي يرونها مناسبة؟
آن أوان الفعل.
على مدى الأسبوع الماضي أو نحوه كانت وسائل الإعلام والشبكات الاجتماعية الإيرانية تضج بالأقاصيص المنسوجة حول مباراة كرة القدم في طهران بين إيران وسوريا والأضواء التي قد تسلطها على العلاقات المتشابكة والمعقدة بين البلدين.
ووفقاً لأغلب الآراء فإن هناك مجموعة من السوريين نقلتهم إحدى الطائرات الخاصة لتشجيع منتخب بلادهم في محاولته الحصول على مكان في تصفيات كأس العالم التي ستقام في موسكو، وقد أثاروا مظاهرة مناهضة للنظام الإيراني في الاستاد. وكانت المجموعة السورية مكونة من سيدات شابات رفضن ارتداء حجاب الرأس على الطريقة الإيرانية. وعكس وجودهن في الاستاد الإيراني حقيقة مفادها أنه لا يسمح لأي امرأة إيرانية بحضور مباريات كرة القدم في البلاد إثر فتوى بهذا الخصوص صادرة عن المرشد الإيراني.
وعلى أي حال، استغلت مجموعة المشجعين السوريين الفرصة لإطلاق نفحة من السخط المكبوت ضد إيران والإيرانيين. وإن اعتبرنا مقاطع الفيديو المنشورة على الإنترنت دليلاً على شيء، فإن المشجعين السوريين قد استخدموا كلمات وعبارات لا تصلح للنشر في وسائل الإعلام المكتوبة. وهذا بدوره قد أثار سيلاً من الانتقادات المسيئة للغاية من جانب الإيرانيين عبر شبكات التواصل الاجتماعي لديهم.
كما أن تلك الحادثة قد أثارت حالة من الجدل حول الدور الإيراني في المأساة السورية.
وكان السؤال الذي طرح مراراً في الآونة الأخيرة: «ما الذي نفعله هناك»؟ وجاءت الإجابة الأولى من جانب السلطات الخمينية بأن إيران تقاتل في سوريا للحيلولة دون سقوط نظام حكم بشار الأسد الذي كان والده حليفاً وثيقاً لإيران خلال حربها السابقة مع صدام حسين في ثمانينات القرن الماضي، وصار الآن عضواً في جبهة المقاومة التي تديرها إيران.
وهذه الإجابة، برغم كل شيء، قد فشلت في إقناع الكثير من الناس، حتى داخل القاعدة الموالية للنظام نفسه.
ثم جاء ذكر سبب آخر، ألا وهو: أن إيران تقاتل في سوريا لمنع تدمير الأضرحة والمقامات الشيعية. وأذاعت وسائل الإعلام الرسمية قائمة بهذه الأضرحة والمقامات، وبعض منها مزود بالصور.
ولكن هذا السبب أيضاً قدح في جديته الكثير من مثيري المشاكل الذين يبحثون عن الثغرات في مزاعم النظام الإيراني الواهية، فلقد تبين أن 90 في المائة من الأضرحة والمقامات الشيعية في سوريا هي في الأساس مقابر الأنبياء اليهود القدامى أو علماء المذهب السني الراحلين.
وكان المبرر الأخير والراهن الذي أعلنه النظام الإيراني إزاء دوره في الأزمة السورية، بشأن مساعدة بشار الأسد في قتل المزيد من أبناء شعبه، يدور حول احتياجات الجمهورية الإسلامية إلى تأمين الوصول البري إلى الحدود اللبنانية، حيث يتسق الأمر تماماً مع الأجندة السياسية الإيرانية بفضل وجود «حزب الله» الشيعي الكبير هناك.
والجزء السوري الخاص بهذا الممر المنشود، والذي يجب أن يمر أيضاً عبر مساحات كبيرة من الأراضي العراقية، يجاور السهول الخصبة إلى الجنوب من دمشق. ومن هنا جاءت فكرة إبرام الصفقة مع تركيا بمباركة روسية واجبة. وبموجب هذه الصفقة، سوف تنشر إيران قواتها في منطقة نزع التصعيد في جنوب دمشق في حين تسيطر تركيا على قطاع من الأراضي السورية في محافظة إدلب. ومن المفترض أن تنشد تلك الصفقة واجهتها الرسمية خلال محادثات العاصمة الكازاخية آستانة تحت رعاية الأمم المتحدة.
وإذا دخلت تلك الصفقة حيز التنفيذ، فإن مشروع وقف التصعيد الروسي سوف يجمد تقسيم سوريا إلى خمس مناطق كبرى، مع سيطرة كل من روسيا وتركيا وإيران على ثلاث مناطق منها، وتشهد المنطقتان الباقيتان وجوداً من الولايات المتحدة وحلفائها من الأكراد والعرب هناك. ومن شأن المخطط الروسي أن يُوقف، أو يُجمد لفترة من الزمن على أدنى تقدير، القتال الدائر هناك ولكنه يجازف بالظروف التي تؤدي في خاتمة المطاف إلى دمار سوريا كدولة موحدة وقوية.
ومع ذلك، فإن النظرة القريبة إلى الحقائق السورية تعكس أن المخطط الروسي - الإيراني - التركي محكوم عليه بالفشل المحقق. ومن واقع معرفتي بسوريا، وهي الدولة التي راقبتها وداومت على زيارتها منذ سبعينات القرن الماضي، على الرغم من سبع سنوات من المأساة المريعة هناك، فإن مشاعر الانتماء الوطني لا تزال قوية ومؤثرة وبدرجة كافية لإحباط الشهوات الإمبراطورية المفترضة.
وفي هذا السياق، فإن فرص النجاح الإيراني هناك أقل بكثير من مثيلتها لدى تركيا وروسيا.
ففي إدلب، تتمتع تركيا بميزة التواصل الجغرافي المباشر مع سوريا، وهي الحقيقة التي تسهل مرور الخدمات اللوجيستية.
كذلك، تملك تركيا علاقات وثيقة مع بعض العناصر في كردستان العراق، وبإمكانها استغلال هذه العلاقات للتأثير على جزء من الأكراد السوريين لقبول منطقة نزع التصعيد باعتباره أقل الخيارات المطروحة سوءاً. ويشكل وجود مجموعات صغيرة من الأقليات التركمانية والشراكسة الأتراك في تلك المنطقة من المميزات الأخرى التي تتمتع بها أنقرة هناك.
كما أن روسيا أيضاً في وضع أفضل من إيران فيما يتعلق بتأمين قطعة من الكعكة السورية لنفسها.
بفضل احتكارها للقوة النيرانية الأكبر في الحرب السورية وسيطرتها على الأجواء السورية بالكامل، يمكن استخدام سلاح الجو الروسي في إسناد أي خطة على الأرض. وأغلب «قطعة الكعكة السورية» المقصودة روسيّاً هناك تقع على سواحل البحر الأبيض المتوسط، ويسهل الدفاع عنها بواسطة القوات البحرية الروسية. وعلاوة على ذلك، فإن غالبية السكان المحليين، الذين تبنوا موقفاً غامضاً ناحية نظام الأسد، قد يفضلون السيطرة الروسية على الهيمنة الإيرانية.
ولا تملك الجمهورية الإسلامية الإيرانية أياً من هذه المميزات.
وسوريا ليست مثل لبنان حيث الشيعة، الذين يشكلون ثلث تعداد السكان، دائماً ما يتطلعون إلى إيران كدولة حامية لهم. وفي أحيان مختلفة، ولا سيما في ذروة نعرات القومية العربية في عهد جمال عبد الناصر، كانت إيران تحت حكم الشاه تعتبر من جانب بعض المسيحيين اللبنانيين كقوة موازنة في المنطقة. والوجود والنفوذ الإيراني في لبنان يعود إلى المراحل المبكرة من الأسرة الصفوية منذ أكثر من خمسة قرون مع الروابط العائلية العميقة والوثيقة، ولا سيما بين رجال الدين وعائلات المال والأعمال التقليدية.
وفي المقابل، كانت سوريا دائماً ما تمثل الصورة السوداء السيئة في الثقافة الدينية الإيرانية باعتبارها مركز الدولة الأموية التي دمرت خلافتهم بواسطة الثورة الإيرانية بقيادة أبو مسلم الخراساني. والملالي في إيران يعتبرون سوريا «بوابة الجحيم».
ومحاولات طهران إضفاء «حكم الشيعة» على الطائفة العلوية السورية وبالتالي فهم يستحقون الحماية الإيرانية مثل الشيعة في لبنان قد فشلت تماماً. فلم يوافق رجل دين شيعي واحد على إلغاء الفتاوى التاريخية التي لا حصر لها والتي تحكم على العلويين بالزنادقة أو حتى بأنهم من الأتباع المتخفيين للديانة الزرادشتية. وهذا يعني أنه، على العكس من لبنان، حيث يتعاطف جزء على الأقل من المجتمع الشيعي مع إيران تحت أي نظام للحكم، فإن إيران اليوم تفتقر إلى أي قاعدة شعبية محلية مؤيدة في الداخل السوري.
اعترف الجنرال الإيراني حسين حمداني، الذي قتل في العمليات العسكرية في سوريا، بالكثير من ذلك في مقابلة شخصية صريحة أجريت معه قبل أسابيع من وفاته. وفي هذه المقابلة، كشف الجنرال حمداني أنه حتى المؤيدون لنظام الأسد داخل الجيش السوري وحزب البعث الحاكم كانوا معارضين وربما كانوا معادين للوجود الإيراني في سوريا. وقال الجنرال الراحل إن «الطريقة التي نفكر بها والأسلوب الذي نعيش به بغيض للغاية بالنسبة لهم».
وفي مقابلة تلفزيونية حديثة، أعرب الرئيس الأسد وبصورة غير مباشرة عن هذه المشاعر، إذ قال إن «أنظارنا موجهة شرقاً صوب روسيا»، ولم يأت على ذكر إيران أبداً.
إن بناء الإمبراطوريات ليس بالمهمة السهلة، ولا سيما عندما تفتقر إلى القوة العسكرية أو الكاريزما الدينية أو التأثير الثقافي المطلوبين لكسب الدعم والتأييد المحلي اللازم.
وإيران على وشك أن تدرك ذلك، ولكن بالأسلوب العسير بكل أسف.
لولا أنه لم يبق على «الاستفتاء» الذي تصر القيادة الكردية ممثلة بالرئيس مسعود بارزاني على إجرائه سوى عشرة أيام لكان بالإمكان القول للزعيم الكردي، ما دام أن العراق خلافاً لاتفاق البدايات في عام 2003 بدل أن يكون دولة ديمقراطية مدنية وعلمانية قد أصبح دولة دينية ومذهبية يُسيطر عليها الإيرانيون، أليس من الأفضل يا ترى أن يتم تأجيل هذا الاستفتاء إنْ ليس بالإمكان إلغاؤه وتوحيد جهود كل الذين يرفضون هذه السيطرة الإيرانية، التي تحولت مع الوقت إلى احتلال فعلي بكل معنى الاحتلال، لإخراج إيران من بلاد الرافدين ليصبح بإمكان الشعب العراقي بكل مكوناته تقرير مصيره بنفسه بعيداً عن وصاية الولي الفقيه وسطوة حراس الثورة الإيرانية وامتداداتهم في الأراضي العراقية.
والخوف كل الخوف أن يستغل الإيرانيون رفض غالبية العرب العراقيين ومعهم التركمان كلهم لاستفتاء يوم الخامس والعشرين من هذا الشهر وأن ينجحوا في دغدغة الحس القومي لدى هؤلاء وافتعال صدام عربي - كردي لن تستفيد منه سوى إيران التي تعتبر أن قيام أي كيان كردي مستقل «دولة» سيشكل مقتلاً فعلياً لتماسكها الذي بقي مهدداً بيقظة فسيفسائها القومي، الأكراد والعرب والبلوش والآذاريين.. وغيرهم، والمعروف أن الشاه السابق رضا بهلوي كان قدم تنازلات كبيرة للروس وللأميركيين من أجل إطاحة دولة «مهاباد» الكردستانية التي تم الإعلان عن إقامتها في عام 1946 وإعدام رئيسها القاضي محمد.
إنه على الأكراد أن يدركوا ومنذ الآن أن إيران التي بادر أتباعها، الحشد الشعبي وغيره، إلى التهديد والوعيد، ستلجأ إلى التصعيد ودفع الأمور في اتجاه المواجهة العسكرية ليس حُباً بالعراق وشعبه ولكن لضمان استمرار وجودها الذي اتخذ الطابع الاحتلالي في هذا البلد الذي بات يشهد صحوة قومية عربية موجهة ضد هذا الوجود وبخاصة بين أتباع المذهب الشيعي الذين أدركوا أن الإيرانيين (النظام) يستهدفونهم كعرب ومثلهم مثل أشقائهم «السنة».
ولهذا فإنه ضروري جداً ألا يواجه الأكراد، بعد «استفتاء» يوم الخامس والعشرين في هذا الشهر، بتصعيد مماثل، وذلك لأن هذا هو ما تريده إيران وهنا فإن الحوار الذي وعد به الرئيس مسعود بارزاني مباشرة وبمجرد الانتهاء من هذا الاستفتاء يجب أن يتم بالحرص لا بل بأقصى الحرص على أن يكون بهدوء وبعيداً عن التوتير وعن استحضار العنف وعلى أساس المصالح المشتركة بين شعبين يربط بينهما تاريخ واحد وعلى مدى حقب طويلة.
يجب ألا تستدرج إيران الأكراد إلى المواجهة العسكرية التي إن هي حصلت فإن أول ما تدمره هو الحلم الكردي وهو حركة البناء والإعمار والتقدم الذي تم في المجالات كافة في كل مدن كردستان العراقية ولذلك وبما أن المعروف أنَّ ما بات يواجه هذا الاستفتاء المشار إليه هو مشكلة كركوك فيجب الاستعداد ومنذ الآن لتنازلات مرضية للعرب والعراقيين الذين سيجدون صعوبة جدية بأن تتغير هوية هذه المنطقة الحساسة من عربية إلى كردية... إنه يجب التفكير في حلٍّ معقول ومقبول لهذه المشكلة التي إن هي تفجرت فإن دولة الولي الفقيه ستكون المستفيد الوحيد، وذلك إنْ على المدى القريب وإنْ على المدى البعيد.
والمفترض لتفادي هذا كله أنْ تعلن القيادة الكردية، ممثلة بالرئيس مسعود بارزاني المعروف باتزانه وحكمته وبصفات رجل الدولة المجرب من الطراز الرفيع، ومنذ الآن أن «الاستفتاء» لا يعني ترسيماً للحدود بين العراق وبين الإقليم الكردستاني ولا يعني إلحاقاً فورياً لمنطقة كركوك بعد هذا «الاستفتاء» مباشرة بكردستان العراقية فكل هذا يجب أن يتم بالتراضي وبالتفاهم وبالابتعاد عن استخدام العنف الذي تريده إيران وتسعى إليه لضمان بقاء وجودها الاحتلالي في بلاد الرافدين، والمعروف هنا أن قائد فيلق القدس قاسم سليماني كان قال إن حراس الثورة قد أصبحوا أقوى قوة عسكرية في شرق البحر الأبيض المتوسط، والمعروف أن كردستان العراقية جزء لا يتجزأ من شرق البحر المتوسط هذا الذي بعد سيطرتهم على العراق وسوريا أصبح الإيرانيون يشكلون فيه القوة الرئيسية.
من حيث المبدأ إنه حتى لو تراجع الرئيس مسعود البارزاني عن قرار إجراء «الاستفتاء» الذي تقرر إجراؤه في الخامس والعشرين من هذا الشهر، والمؤكد أنه لن يتراجع فقد سبق السيف العذل، فإنه من حق الأكراد في كل أماكن وجودهم الأساسية - التاريخية أن يقرروا مصيرهم بأنفسهم وأن يقيموا دولتهم أو «دولهم» المستقلة حيث يوجدون، ومثلهم مثل أمم وشعوب هذه المنطقة وبخاصة أن المعروف أن معطيات هذا القرن، الألفية الثالثة، تختلف عن معطيات القرن الماضي - القرن العشرين والمفترض أن «سايكس - بيكو» قد انتهت ولم تعد لها أي تأثيرات فعلية في هذه المنطقة الشرق أوسطية، وأنه من حق الشعوب التي كانت ظلمتها هذه الاتفاقيات التآمرية أنْ تحصل على ما حصل عليه غيرها.
إنه لا يجوز الاستمرار بالتعامل مع الأكراد في كل الدول التي يوجدون فيها بصورة أساسية ورئيسية كـ«مادة لاصقة» للحفاظ على الوحدة الداخلية لهذه الدول، وحقيقة أن هذا إنْ هو كان ممكناً في القرن الماضي وقبله فإنه لم يعد ممكناً الآن، ولذلك فإنه على الدول المعنية أن تدرك أنه لا بد مما ليس منه بُدّ وأن الأفضل أن يتم التعاطي مع هذه المسألة بالتفاهم وبعيداً عن المنطق الذي ساد في القرن الماضي والذي للأسف لا يزال سائداً حتى الآن، وحيث إنه لا تزال هناك نظرة «شوفينية» ضد هذا الشعب الكردي في بعض الدول التي أصبح جزءاً منها وفقاً لمعطيات القرن الماضي ووفقاً لاتفاقيات «سايكس - بيكو» التآمرية المعروفة.
إنه لا شك في أنَّ مع مسعود البارزاني الحق كله في أن يغضب كل هذا الغضب من عدم الالتزام باتفاق ما بعد الغزو الأميركي وإسقاط نظام صدام حسين، الذي نص على أن تكون الدولة الجديدة دولة ديمقراطية ومدنية، وحيث قد تم استبدال دولة مذهبية وطائفية «يسيطر عليها الإيرانيون» بها، فهذا لا يمكن الاستمرار به على الإطلاق والواضح أنه من غير الممكن تغييره ما دام أن إيران تحتل العراق احتلالاً عسكرياً فعلياً وتهيمن على كل مقاليد الأمور في هذه «التركيبة» السياسية العراقية.
ويبقى في النهاية أنه لا بد من التأكيد على أنه خطأ فادح بالفعل أن يوصف قيام الدولة الكردية المنشودة بأنه كقيام دولة إسرائيل، فالإسرائيليون جاءوا إلى فلسطين كجزءٍ من خطة استعمارية دولية عنوانها: «وعد بلفور» الشهير وهم قد أقاموا دولتهم هذه التي أصبحت خنجراً في قلب هذه المنطقة العربية والشرق أوسطية كلها وبالقوة وعلى أساس الأمر الواقع، أمّا بالنسبة للأكراد فهم جزء لا يتجزأ من هذه المنطقة وعلى مدى تاريخ طويل يتجاوز الألف عام بكثير وهم وفي كل الأحوال إنْ هم حققوا حلم تقرير مصيرهم بأنفسهم فإنهم لا يمكن أن يكونوا إلا شعباً شقيقاً إنْ بالنسبة للعرب والمفترض أيضاً إن بالنسبة للإيرانيين والأتراك.