بسيطرته على أراض واسعة في العراق والشام، شكل تنظيم «الدولة» شبه دولة أمرا واقعا. وقد امتلكت عناصر الدولة حسب (معاهدة ويستفاليا) لكن من دون وجود اعتراف.
فالارض التي سيطر عليها كانت بحدود 144 ألف كم، وشعب مجموعه أكثر من 6 ملايين فرد، وقوة عسكرية ذات خبرة، واقتصاد، وسيطرة على مصادر المياه والسدود، وكذلك قيادة مركزية وشبه مؤسسات. يضاف إلى كل هذا أن العناصر الصلبة لديها قوة ناعمة أيضا وهي الدين، على الرغم من أن استخدام هذا النوع من القوة كان على المستوى الأدنى من الأخلاق والقيم المتعارف عليها. وقد أجمعت وسائل الإعلام الأمريكية والبريطانية على أنها دولة صبورة ومنظمة جدا، وقادرة على التعامل السياسي بحرفية عالية لتحقيق أهدافها.
هذه المواصفات جعلت منها ملاذا آمنا لكل من يريد مقاتلة الامريكان وحلفائهم، ليس من الافراد وحسب، بل حتى دول في المنطقة استثمرت في وجود هذا الكيان لتحقيق مصالحها. بعضهم دعم تنظيم «الدولة» بصورة غير مباشرة أو بالخفاء، كي يستدر الدعم المادي والمعنوي من الولايات المتحدة والغرب. وآخرون شاركوا في محاربته بحماسة شديدة، على الرغم من أن قلبهم كان معه، لكن دافعه في ذلك كان الحصول على الرضى والدعم الامريكي تحديدا. وثالث تغاضى عن تجارة التنظيم والمهاجرين إلى دولته من بقاع العالم، الذين كانوا يمرون عبر أراضيه. على سبيل المثال، إيران استثمرت كثيرا في الحرب على التنظيم، وعوائد هذا الاستثمار كانت شرعنة دخولها إلى سوريا والعراق، وبالتالي فرضت نفسها حتى على الامريكان، كلاعب مهم في هذا المشهد، ظهر ذلك من خلال قيام الطيران الامريكي بتوفير غطاء جوي فاعل للحشد الشعبي العراقي، الذي يدين بالولاء لها ولديه مستشارون إيرانيون يقودون معاركه. كما حصلت الحكومتان العراقية والسورية من تنظيم «الدولة» على شرعية دولية، غطت على الكثير من الانتهاكات التي جرت من قبلهما بحق مواطنيهم، إلى الحد الذي تنازلت فيه دول كثيرة عن مناداتها السابقة بالاطاحة بالنظام السوري، وجرت التضحية بالمعارضة السورية إكراما له. كما تنادت أصوات دولية كثيرة بضرورة توفير الدعم للنظامين، على اعتبار أن ساحتيهما هما مسرح القتال الدولي ضد التنظيم، فحصلت الحكومة العراقية على الدعم المادي الكبير وتسليح وتدريب قواتها لهذا السبب، لكن لا يمكن بأي حال من الاحوال النظر إلى النظام السوري على أنه رابح، لان كل المشاركين في الحرب على أرضه يصطفون اليوم لقبض الثمن، لان كل قوة في سوريا لديها مشروعها الخاص.
يقينا أن هزيمة التنظيم وزوال دولته سيعني شرق أوسط جديدا، وظهور محاور قوة لم تكن موجودة على الخريطة السياسية للمنطقة، حيث سيكون الفاعل الروسي موجودا وبقوة، وستكون إيران موجودة أيضا أكثر من قبل، وبيدها أوراق ضغط جديدة. لكن من أبرز المواقف المتخوفة من هذا التغيير هو الموقف الاسرائيلي، حيث تعتبر إسرائيل أن زوال دولة التنظيم وتدمير قواه خطأ استراتيجي كبير يهدد مصالحها. وينطلق هذا الموقف من اعتبارات عدة منها، أن ذلك يعتبر خدمة كبيرة لايران وأذرعها الممتدة في المنطقة، وستتخلص من المستنقع السوري، ويسلم حزب الله والميليشيات الشيعية العراقية من حرب الاستنزاف التي يخوضونها في سوريا، والتي كلفتهم الاف القتلى والجرحى. كما أن المنطقة لن تبقى منطقة قتل لكل أعدائها، ومحور استنزاف كبير لكل الدول المحيطة بها. فإسرائيل تفضل أن لا يكون التنظيم قويا إلى درجة بحيث يشكل وجوده خطرا عليها، وليس ضعيفا إلى درجة تجعل أعداءها ومنافسيها في المنطقة يشعرون بالراحة والاطمئنان. كما أنها تنظر بارتياب شديد إلى شكل النظام الاقليمي الذي سيعقب نهاية التنظيم. فهي تعتقد أن نهايته تعني تسليم العراق إلى إيران بصورة أكبر من السابق، لان الاخيرة أرسلت متطوعيها وأسلحتها وميليشياتها إليه عندما استولى التنظيم على أراضيه، وستبحث عن الثمن. كما ستكون سوريا من حصة روسيا التي هبت للدفاع عن نظامها، حين احتل التنظيم أراضيها وبات يهدد وجود النظام السياسي فيها، وهي كذلك ستبحث عن الثمن. أيضا هي تنظر بارتياب شديد إلى طريق الحرير الايراني عبر العراق إلى سوريا، فالبحر الابيض المتوسط، والى الفضاء الجيوسياسي الذي مرت به صواريخ كروز الروسية من بحر قزوين ثم إيران والعراق فسوريا. وهي تعتقد أن هنالك توزيع حصص سيجري في المنطقة بعد زوال تنظيم «الدولة» وانحسار وجوده قد يؤثر على ميزان قوتها في المنطقة.
أما تركيا فقد حاولت الاستثمار في هذا الوضع، خاصة أنها موجودة في شمال دولة التنظيم، ونجحت بعض الشيء في تثبيت وجودها ضمن معادلة اللاعبين الاساسيين في مقاتلة تنظيم «الدولة»، لكن عائداتها من هذا الاستثمار كانت أقل من الطموح. صحيح أنها حصلت على دعم مادي ومعنوي من الغرب وروسيا أيضا، لكنها كانت تأمل أن تكون جائزتها في المشاركة في قتال التنظيم، هي إطلاق يدها في القضاء على الحلم الكردي الذي يقض مضاجعها. لكن ظنها خاب كثيرا بعد الاصرار الامريكي على دعم الاكراد في سوريا، واعتبارهم رأس الحربة في قتال التنظيم، وتقديم الدعم المادي والعسكري لهم. لذا يمكن اعتبارها أحد الخاسرين من هزيمة التنظيم، حالها حال المملكة الاردنية التي هي موجودة ضمن الاستراتيجية الامريكية في الجنوب السوري، لكنها على الصعيد الذاتي لم تكن من المستفيدين، على الرغم من مشاركتها في مجال الحرب الجوية والاستخباراتية في الحرب. يجدر الانتباه هنا إلى أن الاردن هو دائما ضمن اللعبة الدولية، لكن وفق الدور المرسوم له، أي ليس باجتهاده الخاص وفق مصالحه الوطنية والقومية. والدول المرسوم دورها مسبقا بالطريقة هذه، غالبا ما ينظر إلى ما تقدمه من أدوار على أنها واجب ليس بالضرورة أن يعود عليها بالفائدة.
أما المملكة العربية السعودية فهي ليست من الرابحين أو الخاسرين بسبب موقعها البعيد جغرافيا عن ساحة الحدث، وكذلك الطبيعة الطبوغرافية الصحراوية، لكنها كانت موجودة بصورة غير مباشرة على المسرح ضمن لعبة التحالفات الدولية. مع ذلك يمكن اعتبارها أحد الخاسرين من ظهور التنظيم وإعلان دولته، إن أخذنا بنظر الاعتبار الحملات الإعلامية التي كانت تشن في الغرب عليها، والتي تتهمها بأنها المصدر الفكري الرئيسي لتنظيم «الدولة».
في النهاية يمكن القول بأن هنالك الكثير من دول المنطقة حرصت على المشاركة، أما في الاستراتيجية الامريكية أو الاستراتيجية الروسية في الحرب على تنظيم «الدولة»، كلا لها مصالحها الخاصة التي تروم تحقيقها من هذه الحرب. لكن السيئ في ذلك هو أن غالبيتها لم تكن لديها عوامل تحقيق ما تريد. فالنجاح الاستراتيجي يحتم السيطرة على كل مكونات تحقيقه، أي أن عوامل النجاح يجب أن تكون بيدك وليست بيد الاخرين، وتتمنى أن يتصرف الاخرون كما تريد. فلا يمكن تمني النجاح، بل يجب فرضه في العلاقات الدولية، لان ليس فيها من يقدم مكرمة لهذا الطرف وذاك، بل هي تدافع بشراسة لنيل المصالح.
بعيداً عن السياسة، أريد اليوم أن أكشف أو أعرّي النظام الإيراني من الداخل بكل هدوء ودون أي فلسفة أو تجريح:
تؤكد المصادر المطلعة أنه في أحياء طهران التي يعيش فيها أكثر من 14 مليون نسمة، تبلغ نسبة البطالة في أوساط النساء 70 في المائة، وعندما لا يجدن عملاً فقد يضطررن إلى التسول أو يقعن في براثن تجار المخدرات.
وتظهر الإحصائيات الرسمية أن هناك ما يقارب المليوني طفل يعملون في البلاد، ولكن إحصائيات غير رسمية تؤكد في الوقت نفسه وجود سبعة ملايين طفل عامل في إيران تتراوح أعمارهم بين 10 و15 عاماً.
وتشهد شوارع العاصمة الإيرانية طهران تنامياً كبيراً وملحوظاً في عمليات الاتجار بالبشر، خاصة بيع الأطفال وبأسعار متدنية، من قبل أمهات أصابهن اليأس والفقر والإحباط، وإدمان المخدرات، وسط مجهودات حكومية شبه معدومة.
وكشف مدير عام إدارة الشؤون الاجتماعية والثقافية في طهران، سياوش شهريور، أن بيع المواليد يتم بشكل منظم، منتقداً بعض المسؤولين الذين ينفون تلك الظاهرة في إيران معمقين أزمة تجارة الإنسان.
وأردف قائلاً: «علينا الاعتراف بحقيقة أن بعض النساء المدمنات والمومسات ينجبن الأطفال للبيع، وأن الوسطاء في هذه التجارة يتفقون مع النسوة وأهلهن على السعر قبل الإنجاب، وأن 80 في المائة من هؤلاء النساء وأطفالهن مصابون بالإيدز»، معرباً عن أسفه البالغ لعدم الاهتمام بهم، وتخلي الحكومة عن دعمهم، على عكس باقي دول العالم.
وشدد على ضرورة وضع حد لمعضلة بيع الأطفال حديثي الولادة، موضحاً أن بعض نساء الأحياء الفقيرة في طهران ينجبن عدداً كبيراً من الأطفال بهدف بيعهم، وأنه في هذه السنة وحدها (2017) تم بيع أكثر من 600 طفل - أي أنه يباع يومياً ما يقارب الطفلين.
من جانب آخر، كشف رئيس محاكم محافظة أصفهان، غلام رضا أنصاري، أن بيع الأطفال يتم من قبل مجموعات لديها عاملون في «المنظمة الوطنية للتسجيل المدني»، ومن خلالها يتم إصدار شهادة الميلاد، وأيضاً لديها عاملون في المستشفيات يقومون باختيار الأطفال وتزوير شهادة المستشفى - انتهى.
وتختلف أسعار المواليد، غير أن هناك حالات مروعة ومؤلمة تقشعر لها الأبدان، حيث تراوح سعر الطفل ما بين 30 إلى 60 دولاراً فقط، وتشتريه عصابات المتسولين وتجار المخدرات، ثم تستثمرهم بدورها.
وقد أفاد التقرير السنوي للخارجية الأميركية، وكذلك منظمة الأمم المتحدة للطفولة (اليونيسف) لعام 2016، بأن سعر الطفل هناك قد يصل إلى 150 دولاراً.
هذه هي حقيقة إيران من الداخل، أهديها لكم يا من غسلت هي عقولكم وفتنتكم بتجربتها المثالية (المتخبّطة) التي سوف تؤكلكم بها المن والسلوى ملفوفاً بورق (السوليفان)!!
يتعين على الرئيس دونالد ترمب اتخاذ قراره بشأن ما يتعين فعله إزاء أميركي يقاتل في صفوف تنظيم داعش، ألقت قوات كردية القبض عليه في سوريا وسلمته للقوات الأميركية هذا الأسبوع. في الواقع، الحل الأبسط هو الأمثل هنا: اتهامه بتوفير دعم مادي للإرهاب، وإدانته وحبسه داخل سجن أميركي لسنوات كثيرة.
في الواقع، في أي عالم يسوده المنطق ولا تحكمه الأهواء الحزبية، كان هذا القرار ليبدو بديهياً، خاصة أن الخيارات الأخرى معيبة - عملياً أو قانونياً أو كليهما.
ومن المحتمل أن يجري سجن مقاتل «داعش» باعتباره أسير حرب، بناءً على فكرة أننا في حالة حرب مع «داعش». وربما يجري إقرار هذا المسار، لكن ينبغي التنويه هنا بأن الكونغرس أقر شن حرب ضد من خططوا لهجمات 11 سبتمبر (أيلول) وضد العراق في ظل قيادة صدام حسين، لكن ليس «داعش» على وجه التحديد.
وتكمن المشكلة في أن أسرى الحرب من غير المفترض معاقبتهم لحملهم السلاح. كما أنهم يتمتعون بحماية اتفاقيات جنيف، وأن ينالوا حريتهم عندما تضع الحرب أوزارها. ولا يمكن إساءة معاملتهم أو التحقيق معهم بأساليب عنيفة.
أما أسرى الحرب الوحيدون الذين لا يمكن إطلاق سراحهم لدى نهاية الحرب فهم مجرمو الحرب. ويكاد يكون في حكم المؤكد أن الأميركي الذي ألقي القبض عليه يصنف قانوناً كمقاتل غير شرعي في ظل التعريفات الأميركية لجرائم الحرب، لأنه لم يكن يرتدي زياً رسمياً. وفيما وراء مسألة الخرق الفني، لا ندري أي أفعال ربما كان ليقدم عليها في خضم قتاله لحساب «داعش». في كل الأحوال، يتعين توجيه اتهام إلى مجرم الحرب بارتكاب جريمة حرب من جانب محكمة عسكرية، وهي غير متوافرة حالياً.
ورغم أن ثمة محاكم عسكرية قائمة وعاملة بالفعل في خليج غوانتانامو في كوبا في محاكمة المتورطين في التخطيط لهجمات 11 سبتمبر، فإنه يكاد يكون في حكم المؤكد أنها لا تصلح لمحاكمة شخص أميركي.
من ناحية أخرى، إذا كان هناك درس يمكن استخلاصه من المحاكم العسكرية في غوانتانامو، فهو أنها تعمل ببطء مثير للصدمة.
في المقابل، من الممكن أن تجري إجراءات المحاكمة الجنائية بسرعة. وإذا ما أقر المتهم بجرمه، فإن الحكم النهائي ربما يصدر على الفور. وسيكون لدى المحتجز الأميركي سبب وجيه يدفعه للتفاوض حول صفقة قانونية بحيث يقلص فترة حبسه أو يحسن ظروف حبسه. على أي حال، من المؤكد أن هذا الأميركي سيدان بتقديم دعم مادي للإرهاب إذا كان قد ألقي القبض عليه داخل ميدان القتال يحارب إلى صف «داعش». وتستدعي هذه الجريمة فترة سجن طويلة، التي يمكن بسهولة أن يقضيها داخل سجن شديد الحراسة، وما يحمله ذلك من شقاء إضافي.
وينقلنا ذلك إلى قضية دفعت بعض أعضاء الحزب الجمهوري فيما مضى إلى انتقاد خيار توجيه اتهامات جنائية للإرهابيين: مسألة إملاء حقوقهم عليهم. حال توجيه اتهامات إليه، يجب أن يجري إخبار الأميركي بحقه في توكيل محام وكذلك حقه في التزام الصمت.
بيد أن هذه النصيحة من المحتمل ألا تقف عائقاً في طريق كشف الأميركي معلومات استخباراتية. ويتمثل الحافز هنا في التهديد بقضاء عقود داخل سجن شديد الحراسة.
ورغم أنه من المتعذر بالفعل تعذيبه أو إساءة معاملته، لكن هذا سيكون أمرا غير قانوني حتى لو لم يكن أميركياً، أو لم يكن متهماً.
فيما مضى، اتبعت الحكومة سياسة مثيرة للجدل حيال بعض المحتجزين تتألف من خطوتين. أولاهما: احتجازهم في حبس انفرادي باعتبارهم أسرى حرب على متن سفن أميركية لشهور، يخضع خلالها المحتجزون للاستجواب من قبل مسؤولين من وكالة الاستخبارات المركزية (سي آي إيه). بعد ذلك، عندما يدلون بما يعرفون من معلومات، تلقي الحكومة القبض عليهم وتقرأ عليهم حقوقهم.
وربما تحاول إدارة ترمب هذه العملية المؤلفة من خطوتين، لكنها تثير تساؤلات دستورية خطيرة بخصوص ما إذا كان أي شيء يتفوه به المحتجز من الممكن استخدامه في المحكمة.
علاوة على ذلك، فإن هذه العملية المؤلفة من خطوتين تنطوي على ازدراء تجاه استقلالية العملية القضائية.
وإذا كان ترمب يشعر بالقلق حيال التعرض لانتقادات فيما يخص الحق في إلقاء القبض على مقاتل يتبع «داعش»، فإن بمقدوره دوماً شرح (عبر «تويتر» إذا أراد) أن السجن المكان الوحيد المناسب لأي أميركي يحمل السلاح ضد الأبرياء وضد بلاده.
لقد تقبّل الرأي العام محاكمة الأميركي عضو جماعة «طالبان»، جون ووكر ليندا، الذي ما يزال سجيناً حتى اليوم. لتورطه في مقتل ضابط يعمل لدى «سي آي إيه».
في الواقع، في مختلف أرجاء العالم تناضل الدول للوصول إلى السبيل الأمثل للتعامل مع مقاتلي «داعش» العائدين إلى أوطانهم. داخل الولايات المتحدة، تبدو الأدوات والحلول الواضحة. لقد اقترف هذا المقاتل جريمة، واليوم عليه قضاء عقوبتها في السجن.
يتسارع العد العكسي لآخر المواجهات المسلحة في شرق سوريا وشمالها. معارك الشرق السوري ضد إرهابيي «داعش» تتسع، والسباق والتعاون، الروسي – الأميركي على أشدّه، لاقتسام السيطرة على محافظة دير الزور الغنية وذات الموقع الاستراتيجي، وكل المعطيات تؤكد أن الجانبين الكبيرين ينفذان توافقهما المعلن: جنوب الفرات من حصة الحكم السوري والميليشيات الطائفية التي تدعمه، ولهم السيطرة على الطريق الدولية بين دير الزور ودمشق... وشمال الفرات حصة «قوات سوريا الديمقراطية» والمجلس العسكري لعشائر دير الزور، وسيكون من حصة هذا التحالف المدعوم أميركياً مدينتا «البوكمال» الحدودية و«الميادين» الاستراتيجيتين، على الطريق البري الذي يربط دمشق مع بغداد.
هذه المرحلة من الحرب لاقتلاع «داعش» من دير الزور، التي تتزامن مع التقدم الكبير في المواجهات لاستعادة الرقة، تؤشر أن التنظيم الإرهابي الذي فقد صلاحيته، هو بالطريق لأن يخرج من كل الحواضر المدنية في سوريا، وهو خارج وجوده في مجرى وادي الفرات بين سوريا والعراق، لن يبقى له في سوريا إلا نقاط صحراوية معزولة ستكون قيد السقوط فور اكتشافها.
في الشمال قُضي الأمر، وتتمُّ بلورة خريطة «خفض التصعيد في إدلب»، وليس مسموحاً أن تستمر هذه المحافظة المكتظة بأبنائها ومن نزح إليها، ثقباً أسود في الجسد السوري، بمعنى أنه ليس الزمن الذي يُسمح فيه لتنظيم «القاعدة» إقامة إمارة تديرها «هيئة تحرير الشام» أو الفرع السوري لـ«القاعدة». الاجتماعات العسكرية لأطراف «آستانة» التي جرت في تركيا، حسمت المنحى، وهي تزامنت مع المبادرة التي أطلقتها فصائل سورية تعمل في إدلب والأرياف الشمالية، لإقامة «جيش وطني» يضم نحو أربعين فصيلاً مسلحاً، توافق الجميع على تسمية رئيس الحكومة المؤقتة جواد أبو حطب وزيراً للدفاع، ومعه جرى توزيع المهام القيادية، والأهم أن هذا التوجه الذي يطلق يد هذه الفصائل المدعومة من تركيا وروسيا، قوبِل بدعم لافت من السعودية ودول الخليج، فبموازاة إعلان الوزير الروسي لافروف أن «خطة إدلب ستخلق الظروف لتحريك العملية السياسية على أساس قرار مجلس الأمن الدولي 2254»، أكد الوزير الجبير «دعم خطة خفض التصعيد»، وأن المملكة تعمل مع «فصائل المعارضة في (آستانة) لتثبيت وقف إطلاق النار». وبالتوازي، تحدث الرئيس التركي إردوغان عن «مرحلة نهائية للمباحثات الرامية لحل الأزمة في سوريا»، مضيفاً أن نهاية الخطوات المتخذة «تساهم في تسهيل مباحثات جنيف».
ما تقدم يؤكد أن حل المأساة السورية لن يكون إلا سياسياً، وما بعد إدلب سيكون لحظة مفصلية في مسار المسألة السورية، وأن كل منحى «مناطق خفض التصعيد» سيشرع الأبواب أمام بدء معالجة القضايا الإنسانية، وهي عميقة ومتنوعة من كشف مصير المعتقلين إلى التهجير والاقتلاع، وسيطوي أحلام اليقظة للحكم الديكتاتوري وحاضنته طهران بتحقيق حسم عسكري، لا بل فإن التسوية السياسية وحدها ستكون متاحة.
وبقدر ما هو مفضوح أن الظهور المدروس للتنظيمين الإرهابيين «داعش» و«النصرة»، قد نجح في خدمة الديكتاتورية وأنصارها من الميليشيات الطائفية بتشويه الثورة السورية والإساءة إلى كل السوريين، عندما طُوِيت الشعارات – الأهداف الأصلية، وأبرزها أن الديمقراطية هي البديل للديكتاتورية، وأديا في إجرامهما إلى إحداث انقلاب في موقف الكثير من الدول حتى مجموعة أصدقاء سوريا، التي لم تعد بأكثريتها تشترط رحيل الأسد، فإن ما بعدهما (داعش والنصرة) سيسرع من العودة الجادة إلى جنيف، وربما كانت الأشهر القليلة المقبلة حاسمة في بلورة مسار سياسي جديد لسوريا؛ ما يعني أن استمرار المعارضة التي هي حالة شعبية أشبه بالمعجزة، ما كان إلا لأنها تعبير حقيقي عن أصالة إرادة التحرر لدى السوريين، الذين لم تنكسر عزيمتهم وتصميمهم على إنقاذ بلادهم، من ديكتاتورية انحنت أمام كل طامح وتحولت أداة ترويع وقتل بوهم تطويع كل السوريين.
سوريا اليوم عشية مرحلة جديدة رغم كل الوهن الشعبي والتعب والاقتلاع والتفتت، ورغم تفكك القيادات وتشرذمها بوجه تحالف إجرامي غير مسبوق في احتضان الديكتاتورية ودعمها. وثابت وحقيقي أن المعارضة التي أُنزلت عليها العسكرة عُنوة لم تنتصر، لكن الأكيد أيضاً أن التقدم العسكري للنظام وفريقه، ما كان ليتم من دون التدخل الروسي الحاسم، الذي حقق انتصارات متتالية، وأمّن للنظام السوري استعادة نظرية لأراضٍ واسعة؛ فهو لا يملك حتى الحد الأدنى من القرار بعدما تحول إلى تابع وأداة للخارج منذ سنوات، وسوريا خراب ودمار وموت...
ستشهد سوريا ما بعد «داعش» و«النصرة»، فتح ملفات الميليشيات الطائفية؛ لأنها الوجه الآخر للإجرام الذي أُنزل بالسوريين، وهذا الأمر سيكون وثيق الصلة باستعادة كل الرهانات التي رفعتها ثورة السوريين، رهانات تحقيق الحرية والديمقراطية ورغيف الخبز، والسبيل معروف ومحدد وهو استعادة الحراك السلمي وتجاوز عيوب المرحلة الماضية التي تعيق استعادة الوحدة ونبذ التطييف. من درعا التي انتخبت إدارة محلية لها، إلى الغوطة التي تشهد عودة لجان محلية شبابية، إلى كل مناطق «خفض التصعيد» المؤشرات كبيرة عن عودة لن تتأخر للتنسيقيات التي ستبلور جيلاً جديداً. كل ذلك يكتمل عندما تتمكن القيادات السورية من تجميع قواها وتوحيد الرؤية وتقديم المشترك، وذلك لن يكون إلا على قاعدة قراءة حقيقية للسابق، خصوصاً تبعات ربط القرارات بأطراف خارجية، إلى الانحناء أمام العسكرة التي تمّ فرضها، والبداية تكون بالكف عن تخوين وعزل بعض الأطياف السورية التي لا تخدم إلا النظام السوري وحماته.
تسمَّر العربي أمام الشاشة. المشاهد راعبة وغير مسبوقة. والدولة الأقوى في العالم تقف مذعورة وتحاول إنقاذ ما يمكن إنقاذه. غضب الطبيعة وحش يتعذّر اعتقاله. سرعة الإعصار تجاوزت مئتي كيلومتر في الساعة. اقتلع كل شيء. السقوف. والمنازل. وأعمدة الكهرباء. ولوحات الإعلان. مطر لئيم لا يرحم. وسيول تجرف الشاحنات والسيارات. تحولت الساحات مستنقعات يطفو عليها ما تسرب من دواخل المنازل المهشمة. أعلنت السلطات حال الطوارئ. استنفرت كل الأجهزة. وتحدثت عن إجلاء الملايين.
على الشاشات عائلات تفرّ عارية إلا من دموعها. هاربون يبحثون عن سقف يحمي. ورجال يشهرون أحزانهم على بيوت تعبوا في تشييدها. كأن أنياباً هائلة انقضّت على منطقة واسعة وانغرزت في أحشائها. تدفق الدم والوحل والرعب. إنه الإعصار «إيرما». حجز سريعاً موقعه في كتب الأرقام القياسية. قدرت الخسائر بـ150 مليار دولار. ستعاني منازل كثيرة من الظلام بانتظار انطلاق ورشة الإصلاح.
في اليوم التالي يقرأ العربي عدداً من «الشرق الأوسط». عدد الخميس 14 سبتمبر (أيلول) الحالي. مصدر القصة «برنامج الأجندة الوطنية لمستقبل سوريا» الذي يشرف عليه خبراء سوريون ودوليون تحت مظلة «لجنة الأمم المتحدة الاقتصادية والاجتماعية لغرب آسيا» (اسكوا). يقول التقرير إن تكلفة الحرب السورية بلغت 327 مليار دولار، بينها 227 ملياراً بسبب الفرص الضائعة، و100 مليار قيمة الدمار.
يخوض العربي في تفاصيل التقرير. كان قطاع السكن الأكثر عرضة للدمار بنسبة 30 في المائة، أي بنحو 30 مليار دولار. واقتربت إلى 18 في المائة نسبة الدمار في القطاع الصناعي، و9 في المائة حصة قطاع الكهرباء والمياه، و7 في المائة لقطاع الزراعة. ولا تشمل الإحصاءات الدمار الحاصل في مدينتي الرقة ودير الزور.
قرأ العربي الأرقام السورية كمن يحك جروحه الملتهبة. راودته رغبة في التنقيب في أزقة الإنترنت عن أثمان الأعاصير العراقية. إعصار غزو الكويت وذيوله. وإعصار غزو العراق وتداعياته. وإعصار الفتنة السنية - الشيعية وويلاته. وإعصار سقوط الموصل في قبضة «داعش». وإعصار الفساد الذي لا يقل قتلاً عن أعاصير الدم. يكفي سماع سياسي عراقي يقول: «أنفقنا أكثر من مائة مليار دولار لمعالجة مشكلة الكهرباء ولا تزال المشكلة قائمة».
صرف العربي النظر عن الغوص في الأرقام. تذكر أن الأعاصير العراقية والسورية أنجبت أكثر من مليون قتيل وعدداً أكبر من الجرحى والمعوقين. خسارة الأرواح أوجع من خسارة الجدران.
شعر بالفارق الهائل بين الأعاصير. فور انحسار «إيرما» ستبدأ ورشة إزالة آثاره. ثمة دولة هناك. ومؤسسات. ورأي عام يتابع ويحاسب ويحاكم. نحن أعاصيرنا مختلفة. في بداية الإعصار الذي ضرب فلوريدا بدأ الحديث الطبيعي. هل كانت أجهزة الإنقاذ والدفاع المدني مهيأة للقيام بواجبها؟ ما الدروس التي يمكن استخلاصها كي تكون الخسائر أقل حين تعاود الطبيعة غضبها بعد سنوات أو عقود؟
نحن أعاصيرنا مختلفة. أشد وطأة وهولاً. تلتقي رياح الخارج مع ثغرات الداخل. تتحلل الدولة وتتفكك الخريطة. تفترق المكونات. يتمزق النسيج الوطني. يتفكك الجيش ويسود زمن الميليشيات. يشعر العلم الوطني بالعزلة وتطل على امتداد البلاد غابة أعلام عجيبة وغريبة. أعلام وافدين من مناطق بعيدة وقريبة. بحسابات متناقضة وأحقاد متباينة. هذا شيشاني جاء ليقتل سورياً مؤيداً للنظام. وهذا أفغاني جاء ليقتل سورياً مؤيداً للمعارضة.
يفضحنا الإعصار. البلاد التي كانت تباهي بتماسكها تتفكك وتتفتت. البلاد التي كانت رقماً صعباً صار قتلاها مجرد أرقام لا تثير أحداً. البلاد التي كانت لاعباً على خريطة المنطقة صارت ملعباً لجيوش صغيرة ترسم بدم السوريين خرائط صغيرة تتغطى بحمايات دولية أو إقليمية. مناطق نفوذ ووصايات. وقرار تائه بين عواصم قريبة وبعيدة.
تفضحنا الأعاصير. تكشف أننا بلدان مهدورة. وشعوب مهدورة. ومؤسسات مهدورة. لا الجيش ينقذ البلاد من خطر الخارج. ولا الأمن ينقذ المواطن من السفاحين. ولا الدستور يحمي حقوق الناس. ولا المحاكم تتجرأ على التحرش بالمرتكبين. يهزنا الإعصار فنرجع ساحة لكل أنواع الوافدين. كأننا حقل تجارب للقنابل والسكاكين. للباحثين عن حروب بديلة. وللحاملين أفكاراً أكثر غدراً من الخناجر. لمروجي السياسات المهجوسة بالثأر وتغيير موازين القوى بالدم المحلي. لمروجي الظلم والظلام والكهوف. للقساة من كل اتجاه.
يستطيع غضب الطبيعة اقتلاع سقف وجرف سيارات وكسر أعمدة، لكنه لا يستطيع تفكيك دولة وشرذمة خريطة. غياب الدولة الحقيقية هو ما يطلق يد الأعاصير. لا تستطيع عواصف الخارج اقتلاع دولة مبنية على المواطنة والعدالة. دولة يضمن دستورها حقوق مواطنيها ويحدد آليات تداول السلطة والتصحيح. ثغرات الداخل هي الحليف الأول للرياح المسمومة الوافدة من الخارج. مشاعر التهميش هي التي تغري بالقفز من القطار وزرع العبوات لتفجيره أو حرف مساره.
أنا عربي ولا أريد من العراق غير أن يكون بلداً مستقراً ومزدهراً وطبيعياً يلعب دوره في محيطه ويأخذ مواطنيه إلى المستقبل. قصة من يحكم العراق مسألة يجب أن تترك للعراقيين وعلى قاعدة المواطنية والديمقراطية التي تضمن حقوق الأقليات قبل الأكثرية. أنا عربي ولا أريد لسوريا غير أن تكون دولة مستقرة ومزدهرة تلعب دورها الطبيعي في محيطها. دولة لا تعيش في ظل غابة أعلام تسللت إليها من مواقع متناقضة لتعمق الجروح بين مكوناتها. دولة لا تشكل خطراً على نفسها ولا على جيرانها. قصة من يحكم سوريا يجب أن تكون مسؤولية السوريين وفي ظل دستور يقوم على المواطنة والعدالة.
غياب الدولة العصرية الحقيقية العادلة يحوّل الهويات الصغيرة ألغاماً كامنة. غياب الدولة الفعلية يرشح الأرض لاستضافة الأعاصير. الدرس الأول من الإعصار هو الهجرة مجدداً إلى فكرة الدولة التي تتسع بدستورها وممارساتها لكل المواطنين بوصفهم أبناء الوطن لا مجرد بنادق تتكئ عليها المكونات بانتظار لحظة الانهيار.
بلغت العلاقة بين إيران وتركيا أدنى مستوياتها بين العامين 2014 و2016. وقد سبقت بينهما اختلافات بسبب الموقف من بشار الأسد. فمنذ بداية الثورة في سوريا، توجَّه الحليفان: قطر وتركيا (وكانا صديقين للأسد منذ 2004) إلى الرئيس السوري بضرورة الإصلاح. بينما وقفت إيران مع الأسد منذ البداية، وكذلك روسيا، بعد تجربتها السلبية مع الغربيين في ليبيا. وبين العامين 2012 و2013 تدخل الإيرانيون في سوريا عسكرياً بواسطة «حزب الله»، وما عاد الأمر مقتصراً على الخبراء، والمساعدة في غرفة العمليات، بينما ذهب الأتراك والقطريون باتجاه دعم «الإخوان» في مصر وسوريا، وبدأوا بتسليح التجمعات بجوار دمشق وشمال البلاد.
إنّ هذا الاختلاف في تقدير المصالح وصل ذروته عندما ظهر كلٌّ من «داعش» و«النصرة»، بينما أقبل الإيرانيون على دعم الأكراد في سوريا، والذين أقبلت وشنطن على دعمهم أيضاً. وما حرَّكت الولايات المتحدة ساكناً عندما استقر «حزب العمال» الكردستاني في منطقة سنجار، ودخلت قواتٌ تركيةٌ إلى جوار الموصل، وتحججت بالكردستاني، وأنها لا تسمح بدخول ميليشيات «الحشد الشعبي» إلى تلعفر، لوجود أقلية تركمانية فيها.
صحيح أنّ العلاقات التجارية لم تتأثر. لكن الزيارات المتبادلة بين المسؤولين من الدولتين إلى كلٍ من أنقرة وطهران، خلال 2014 و2015 كانت حافلةً بالغضب وسوء الظن. ثم تغير المشهد كلياً بتطورات التدخل الروسي في سوريا (2014) أيضاً، إذ اضطرت تركيا، بعد إسقاط الطائرة الروسية، إلى مهادنة الروس، مدفوعةً ليس فقط بالغضب الروسي، بل وبتردي العلاقات مع الولايات المتحدة. والتقارب مع الروس في شمال سوريا، والسماح للأتراك بتحدي الأكراد و«داعش» على الحدود التركية السورية، خفّف من الصدام الإيراني التركي. فقد تدخلت موسكو وسيطاً بين الطرفين، ودفعت كلاً منهما للاعتراف بمصالح الطرف الآخر في سوريا والعراق. ثم أخذتهما معها إلى مفاوضات أستانا من جهة، كما أجريا محادثات ثُنائية بشأن التعاوُن ضد الإرهاب، وبشأن مخاوفهما من الدعم الأميركي للأكراد في سوريا والعراق.
أما بدء التعاوُن العملي فقد ظهر في الحرب على حلب. فالأتراك الذين اعتبروا حلب منطقة نفوذ لهم، ما لبثوا أن اضطروا لمفاوضة الروس على سحب المسلحين من المدينة وجوارها بعد أن تخرب معظم القسم القديم منها. وصار الإيرانيون إلى جانب الروس موجودين في الشمال السوري على حدود المناطق الكردية والتركية. وعندما كانوا يتفاوضون على حدود النفوذ في الشمال والشرق السوري، تبين للأتراك أن الإيرانيين صارت لهم علاقات بـ«داعش» و«النصرة» معاً، تفوق أحياناً علاقات تركيا بالتنظيمين. تدعم تركيا عدة تنظيمات مسلحة في الشمال السوري، وهي مهتمة بالأوضاع على حدودها هناك، أما الإيرانيون فمهتمون بالمناطق السورية الحدودية مع العراق. وقد خشي الروس والإيرانيون معاً أن تكون عملية الاستيلاء على إدلب وقراها (و«النصرة» هي المسيطر فيها) في هَول حرب حلب. لذلك، وبعد ظهور فكرة مناطق خفض التصعيد، استحثّ الروس والإيرانيون تركيا على دفع «النصرة» للخروج منها بدلاً من الحرب. وعندما لم يفلح ذلك، سلّم الروس والإيرانيون الزمام للأتراك الذين أعلنوا مؤخراً أنهم مع عشرين ألف مسلَّح عربي سوري سيقتحمون إدلب إن اضطرهم الأمر لذلك. بينما ذهب الإيرانيون لدعم قوات النظام لاقتحام دير الزور القريبة من حدود العراق، بمساعدة الطيران الروسي، مع استمرار قصف الأميركيين لدير الزور إلى جانب الرقة. ولأن قصة إدلب ودخول الأتراك إليها، قد جرت من دون تشاوُرٍ مع التحالف الدولي، فإن الأميركيين قاموا بخطوتين لإزعاج الحلفاء الثلاثة، شركاء «أستانا».
معنى هذا أنّ كلاً من إيران وتركيا استخدمت الإرهاب أو أعادت توجيه فصائله. وكما أخرج الإيرانيون «داعش» و«النصرة» طوعاً من جرود لبنان، فإنّ الأتراك قد يُخرجون «النصرة» طوعاً كذلك من إدلب. وقد عادت الشراكة بين الطرفين لمنْع الأكراد من الاستقلال في العراق وسوريا، وفي أن تكون لكلٍ منهما منطقة نفوذ، ولإيران على حدود العراق، ولتركيا على حدودها!
عملت روسيا منذ أول يوم انطلق فيه التمرد الشعبي الواسع ضد النظام الأسدي على مواجهته بجميع ما لديها من خبراتٍ تنظيمية وقدرات سياسية وعسكرية، وأسلحة. بداية حدث هذا عبر التعاون مع الأسدية، ثم حين تبين أن نظام الأخيرة آيل إلى السقوط، انتقلت روسيا إلى التدخل العسكري المباشر، ولم تترك أي مجال للشك في أن الرئيس بوتين يشرف، شخصياً ويومياً، على حرب إنقاذ الأسد التي تصاعدت إلى أن صارت روسيا الطرف الرئيس، وأحياناً الوحيد، الذي يواجه الشعب السوري سياسياً وعسكرياً، والذي حكم على ثورته بالفشل، بجعله شخص الأسد خطاً أحمر، ورئاسته جزءاً من أمن موسكو الوطني.
في سياق هذا التطور، برز دور وزير الخارجية، سيرغي لافروف، في ترجمة التحول العسكري الذي أحدثته قوة الغزاة المفرطة إلى مواقف سياسية أُريد لها أن تبطل عملياً وثيقة جنيف، وقرار مجلس الأمن 2118، وما اعتمدتاه من بدائل للأسد ونظامه، وتحقق نتائج تتطابق وسياسات روسيا السورية، وفي مقدمتها إبقاء الأسد في السلطة، وتحويل الانتقال السياسي إلى النظام الديمقراطي البديل للأسدية إلى انتقالٍ داخل النظام، ينجز من خلال احتواء المعارضة داخل صفوفه ومؤسساته. وقد عمل لافروف على محورين:
أولاً، استبدال القرارات الدولية بقراءتها الروسية التي جسدها قرار دولي حمل الرقم 2254، أطاح وثيقة جنيف والهيئة الحاكمة الانتقالية، ومرجعيتها القرار الدولي 2118، واستبدلها بـ "جسم حكم" مرجعيته بشار الأسد، هو"حكومة وحدة وطنية" برئاسته، مهمتها احتواء الثورة ودمج المعارضة في النظام.
ثانياً، ترجمة هذا الانقلاب الدولي والعسكري إلى خطواتٍ تجعله مقبولاً وقابلاً للتطبيق، بقوة تدمير قدرات الثورة العسكرية، ومصفوفة من الأفعال مكّنتها من ممارسة تحكّمٍ متزايد بأطراف الصراع، منها "الهدن" التي عقدتها بالقوة مع مناطق خرجت عن سيطرة الأسدية، أنهكها الحصار والتجويع والقتل العشوائي والأمراض، وأعادتها إلى النظام في محيط دمشق بصورة خاصة، واستخدام علاقاتها بالدول العربية والإقليمية وبواشنطن، من أجل تفتيت المعارضة وابتداع منصات بديلة لها، ترفض مثلها وثيقة جنيف والقرار 2118، تحمل إحداها، بكل وقاحة، اسم قاعدة جيشها الغازي في الساحل السوري، وممارسة ضغوط عسكرية لا قبل للفصائل بصدها أو ردعها، وعزل الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة، وشق الفصائل ودعوتها إلى مفاوضاتٍ مرجعيتها فيها خلافاتها، تتجاهل "الائتلاف" وهيئة التفاوض العليا. وأخيراً، بلورة معادلة دولية/ إقليمية/ عربية يتم بها تطويق الثورة، ودفع الشعب إلى الاستسلام لخطة الكرملين التي تنفذ بموافقةٍ أميركية وتفويض عربي/ إقليمي، وتحول الغزاة المعتدين من عدو يقاتل إلى طرفٍ يعد العدة للحل.
واليوم، وقد أنجز معظم العمل في المستويين، العسكري والسياسي، تنتقل روسيا إلى موقف يضع المعارضة أمام أحد خيارين: الرضوخ للاحتواء أو الاستبدال. بعد نجاحها في جعل عدد مهم من الفصائل "يستقل" عن الائتلاف، ويسحب منه اعترافه اللفظي بمرجعيته، بدأت روسيا ضغوطاً مكثفة من أجل تشكيل وفد مفاوض "موحّد"، سيقضي تشكيله على مشروع "الهيئة الحاكمة"، وإزالة الأسد، والانتقال إلى نظام ديمقراطي، وسينقل الخلاف مع الروس إلى خلافٍ بين السوريين، تمهيداً لمرحلة تالية يعاد فيها تشكيل وفد مفاوض يقبل الإبقاء على الأسد، ويطبق مرحلة انتقالية من حكومة أسدية إلى أخرى، ويعترف بحقه في رئاسة جديدة، بينما سيعود تحالف المعارضة الأسدية والروسية إلى أماكنهم السابقة من حكومة النظام، أو سيُمنحون مواقع جديدة فيها.
يكاد يكون مؤكداً أن مؤتمر الرياض 2 سيواجه مهمتين: الاعتراف بالقرار 2254 مرجعية وحيدة لمفاوضات جنيف، والقبول بسقوفه العالية جداً بالنسبة للنظام، والملتصقة بالأرض بالنسبة للمعارضة. والقبول بدور روسيا مرجعية دولية مطلقة الصلاحية ومعتمدة في أي حل. أما من لا يقبل هاتين المرجعيتين، فستكون منصّة موسكو وحميميم وبعض منصّة القاهرة بانتظاره سياسياً، وطيران بوتين وأسطوله الحربي بانتظاره عسكرياً. بقول أوضح: لن يسمح لأحد بإفشال طبخة يبدو أنه حان وقت التهامها.
كنت، في الماضي، أحاول تحميس المعارضة، فاختم مقالاتي دوماً بسؤال عما سنفعله نحن، وأحدد نقاطاً يمكننا القيام بها. هذه المرة، لا حاجة لأن أتعب نفسي بطرح هذا السؤال السخيف. من يتابع ألاعيب المعارضة يدرك أنها لا ولن تفعل شيئاً غير الاستمتاع بخلافاتها اليوم، والنقّ غداً.
تثير السياسة الأميركية فضول المراقبين لجهة محاولة تفسير أدوارها الفعليّة داخل سورية، تحديداً شرق الفرات، ذلك أنه بالكاد يمكن رؤية رأس جبل الجليد في ما خصّ سياسة الولايات المتحدة واستراتيجيتها الحالية، والمتمثّلة بدورها الطليعي في محاربة تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) اتكاءً على حليفتها قوات سورية الديمقراطية (قسد)، ليبقى السؤال العالق: هل هناك إشارات على رغبة أميركا البقاء في المنطقة شرق الفرات والمتاخمة للحدود السورية - التركية، والسورية - العراقية في المرحلة التالية للإجهاز على تنظيم داعش؟ أي هل يمكن الحديث عن النقلة الثانية للاستراتيجية الأميركية، وما هي الأكلاف التي تنطوي عليها مسألة بقاء أميركا، وتلك المتعلقة بانسحابها؟
يغلب على الظن أن الولايات المتحدة نجحت في تحقيق الجزء الرئيسي من استراتيجيتها العلنيّة المتمثّلة بدحر "داعش" بأقل الخسائر البشرية في صفوف عديد قواتها، والتي تكاد تلامس الصفر قتيلاً أميركياً، وبكلفةٍ ماليةٍ زهيدة قياساً بخسائرها الباهظة في العراق وأفغانستان. إلى ذلك، نجحت في امتصاص الغضب التركي على تحالف الولايات المتحدة مع غريمها الكردي (وحدات حماية الشعب)، عبر إشراك مقاتلين عرب محليين في عديد القوات التي تأسست عليها (قسد)، وكان للأميركان دورٌ بالغ الأهمية في تغيير بنيتها التنظيمية من وحدات حماية الشعب، ذات الطابع الكردي، لتصبح أشبه بقوات وطنية متعدّدة العناصر والقوميات.
تخشى قوات سورية الديمقراطية، ضمناً، القيادات العسكرية الكردية، انفضاض الدور الأميركي في المنطقة، وجلاء قواتها ومستشاريها وغرف عملياتها ونقل مرابض طيرانها بُعيد هزيمة "داعش"، فالخشية تنطوي على مخاوف واقعية تتمثّل بإمكانية صدامٍ عسكري في اتجاهين: صدام عسكري بين "قسد" وقوات النظام السوري والمليشيات التابعة لها، وهذا مكلف لـ "قسد" نتيجة اضطلاع الروس بالدور الرئيسي القائم على تمكين النظام من بسط سيطرته على كل سورية، وبالتالي لا طاقة للقوات المذكورة من مجابهة الروس بشكلٍ مباشر أو غير مباشر، بينما يُخشى من صدام ثانٍ متوقّع قد يحصل مع تركيا التي سبق أن لوّحت بإمكانية شنّ هجمات عبر سلاحي الطيران والمدفعية على مواقع تابعة لوحدات حماية الشعب. وفي حال تم الرد على مصادر النيران التركية، وفي غياب الأميركان، قد يؤدي الأمر إلى اندلاع مواجهاتٍ لا تحمد عقباها، تكون فيها الغلبة للجانب التركي، ما يجعل تمسّك "قسد" بتلابيب تحالفها والولايات المتحدة أمراً مفهوماً، وواقعياً.
في حين، وفي المقابل، يكاد يُفهم من الخطوط العريضة لسياستها في سورية أن الولايات المتحدة تبحث عن توسيع حزام تحالفاتها، والاحتفاظ في الوقت نفسه بما يضمن لها ولحلفائها المحليين مقاعد متقدّمة في جولات المفاوضات بين النظام وخصومه، وبالتالي قد تسعى أميركا إلى أن لا تمنح معظم مقاعد التفاوض للروس والإيرانيين، وفرض شروطهما التي قد تودي بسورية كلياً في أحضان إحدى هاتين القوتين النافذتين أو إحداهما، وفي هذا ضرر بالغ على الوجود الأميركي في المنطقة برمتها.
بيد أن نقطة ضعف الموقف الأميركي شرق الفرات متصلةٌ بعدم توفر دور للمعارضة المسلحة التي سبق أن اجتثتها "داعش" شرق الفرات، وإن كانت المعارضة قد أبدت استعدادها المشاركة في معركة الرقة، من دون جدية، لتبرز أصوات تعلن عن رغبة المعارضة الاشتراك في حملة تحرير دير الزور عبر قوات موازية لـ "قسد"، غير أنه، وفي معزل عن جدية هذه الأصوات، يمكن القول إنها تأخرت في طرح هذا الاقتراح، جرّاء تسارع التسابق بين الروس والأميركان لأجل السيطرة على المحافظة شاسعة المساحة، علاوةً على عدم امتلاك أميركا ترف تضييع الوقت أمام تقدّم النظام والروس على الأرض. وعليه، قد تتمكّن أميركا من تلافي نقطة الضعف هذه، عبر إشراك المعارضة في إدارة المناطق العربية شرق الفرات، ما يقلّل من مخاوف تركيا، ويخفّض من مخاوف المعارضة التي تخشى التهميش.
نظرياً، قد تبقى الولايات المتحدة في المنطقة الواقعة شرق الفرات، فالغاية من البقاء قد تتحوّل من ملاحقة "داعش" إلى غاية استراتيجية متمثلة بضمان حفظ الحدود الشرقية لسورية من التمدّد المذهبي الذي تسعى إليه إيران، الطامحة إلى التوغّل داخل العمق السوري، كما قد يكون لبقاء الأميركان دورٌ في منع إعادة إنتاج الجماعات الإسلامية الراديكالية نفسها مجدداً في منطقةٍ بات نسيجها الاجتماعي هشّاً وقابلاً لعمليات إعادة التدوير، يضاف إلى ذلك الخشية من اندلاع مواجهاتٍ بين الإثنيات أو بين المسلحين الذين رعتهم أميركا نفسها، ما يعني أن غيابها عن المشهد سيسهّل على النظام والروس وإيران قضم هذه المناطق بسهولة.
قصارى القول، لم تحدّد أميركا أمد بقاء قواتها شرق الفرات، ما يجعل مسألتي بقائها أو رحيلها مفتوحتين على الاحتمالات المتراوحة بين البقاء والاستثمار استراتيجياً وامتصاص المنغّصات التي قد تظهر لاحقاً كضريبة للوجود في منطقة مليئة بالتناقضات، وبين الرحيل وترك المشكلات التي قد تنجم عن الفراغ الذي قد يملأه خصومها على كثرتهم، وإذا كان لا بد من تدبّر وتفكير مليّ في ما سيحصل في الحالتين، تبقى مسألة بقاء الأميركان شرق الفرات في المدة التي تلي الإجهاز على "داعش" أقرب إلى المنطق والتصديق.
للوهلة الأولى، بدت الغارات الجوية الإسرائيلية التي دمرت المنشأة العسكرية السورية في مصياف قرب حماة، أواخر الأسبوع الماضي، حدثاً استثنائياً؛ حيث أن المرة الوحيدة التي نفذت فيها إسرائيل هجوماً مماثلاً في سورية كانت في عام 2007، وأسفر في حينه عن تدمير منشأة الأبحاث النووية في دير الزور. علاوة على أن الهجوم الجديد شذّ عن طابع الجهد الحربي الذي تنفذه إسرائيل في سورية خلال الأعوام الثلاثة الأخيرة، والذي انحصر في استهداف قوافل، تدّعي تل أبيب، أنها تنقل السلاح من سورية إلى حزب الله أو مواقع يتم تخزين السلاح فيها تمهيداً لنقله إلى لبنان. لكن نظرة متأنية تدلل على أن هذا الهجوم يرتبط بقرار إسرائيل توسيع خريطة مصالحها الإستراتيجية في سورية، وهو القرار الذي أملته التحولات التي طرأت على الصراع الدائر حالياً في سورية؛ سيما مع تواتر مؤشراتٍ على قرب حسم هذا الصراع لصالح نظام الأسد، بفعل الدعم الذي قدمته له روسيا وإيران والقوى الشيعية. فقد شنت إسرائيل، خلال الشهر الماضي، حملاتٍ دعائيةً ودبلوماسية مكثّفة، هدفت إلى محاولة حشد دعم دولي لطلبها عدم السماح لإيران بتوظيف نتائج الصراع لصالح توسيع دائرة نفوذها في سورية؛ حيث تنافس القادة الإسرائيليون في إطلاق التهديدات باستخدام القوة العسكرية لضمان عدم تمكين إيران من تأمين تواصل جغرافي لنفوذها، يربط طهران بدمشق مروراً ببغداد وانتهاء ببيروت.
ومما يدل على أن الهجوم يرتبط بتحولٍ طرأ على طابع خريطة المصالح الإسرائيلية حقيقة، أن محافل التقدير الإستراتيجي في تل أبيب عكفت، بشكل خاص، على التحذير من أن إيران قد مهّدت لتوسيع نفوذها في سورية من خلال تدشين منشآتٍ لتصنيع السلاح النوعي، أو تفعيل منشآتٍ يملكها جيش الأسد في مناطق متفرقة من سورية. وتدّعي تل أبيب أن المنشأة العسكرية التي قصفت في مصياف تستخدم لتصنيع صواريخ ومنظومات دفاعية بالغة الدقة، تعتمد بشكل خاص على تقنيات إيرانية. وحسب المنطق الإسرائيلي، فإنه في حال تمكّنت إيران من توسيع دائرة نفوذها في سورية بعد حسم الصراع لصالح نظام الأسد، فإن السماح بإنتاج السلاح النوعي هناك ينطوي على خطورةٍ لا تقل عن خطورة السلاح الذي ينقل إلى حزب الله في لبنان. وتنطلق تل أبيب من افتراضٍ مفاده بأن اتساع دائرة نفوذ طهران في سورية يعني أن إسرائيل ستواجه، في أية حرب مستقبلية مع حزب الله، خطر انطلاق عملياتٍ ضدها من سورية أيضاً، وليس من لبنان فقط؛ الأمر الذي يوجب الحرص على إحباط أية محاولة إيرانية لإنشاء بنى صناعية عسكرية، ترفد الجهد العسكري ضدها، انطلاقاً من سورية. وتحاجج تل أبيب بأن ما يضفي مصداقيةً على مخاوفها من تبعات تعاظم النفوذ الإيراني في سورية حقيقة أن هذا التحول سيجعل أبواب سورية مشرعةً أمام عناصر المليشيات الشيعية من جميع أرجاء العالم، ما يحوّل سورية عملياً إلى قاعدة متقدمة لإيران، كما يزعم رئيس الموساد، يوسي كوهين.
لكن إسرائيل تقدم على مخاطرة كبيرة، وغير محسوبة العواقب، في حال اعتمدت نمط التعاطي العسكري في مواجهة مظاهر تعاظم النفوذ الإيراني في سورية، كما عكس ذلك الهجوم على مصياف، فالإستراتيجية العسكرية الجديدة ستقلص هامش المناورة أمام روسيا، بحيث قد يستحيل التقاء المصالح النسبي الذي كان سائداً بين موسكو وتل أبيب في سورية إلى مواجهة خطيرة. لقد غضّت روسيا الطرف عن هجوم الأسبوع الماضي، وبدت غير معنيةٍ باندلاع مواجهة بين إسرائيل وكل من إيران وحزب الله، لأنها تخشى أن تؤثر هذه المواجهة على مآلات الصراع في سورية الذي بات في مراحله الأخيرة. لكن في حال طبقت إسرائيل المعيار الجديد في استهداف المنشآت التي تشكّ بأن إيران تدشّنها بهدف إنتاج السلاح "النوعي"، فإن فرص تفجر صراع مفتوح في سورية بين إسرائيل من جهة وكل من روسيا وإيران والقوى الشيعية ستتعاظم. فعلى سبيل المثال، تدّعي إسرائيل أن أخطر منشآت التصنيع العسكري التي دشّنها الإيرانيون، أخيراً، تقع في محيط مدينة طرطوس، وقريبة من قاعدة حميميم الروسية، الأمر الذي يعني أن استهداف هذه المنشأة ستفسّره موسكو مسّاً متعمداً بمكانتها في سورية.
إلى جانب ذلك، تبين لإسرائيل أن الروس يرون في الوجود الإيراني والشيعي، بعد حسم المواجهة في سورية، مصلحة استراتيجية لموسكو. وقد تأكد رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، خلال لقائه الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، في منتجع سوتشي قبل ثلاثة أسابيع، أنه عند المفاضلة بين تل أبيب وطهران، فإن روسيا اختارت الأخيرة بدون تردد. وكما روى شمعون شيفر، المعلق السياسي في "يديعوت أحرنوت"، فقد "أربكت" صراحة بوتين نتنياهو عندما أوضح له أن روسيا ترى في إيران حليفاً إستراتيجياً لا بديل عنه، وأن من حق موسكو توثيق تحالفها مع إيران "تماماً كما تدشّن إسرائيل تحالفاً مع الملكيات العربية السنية". ومن نافلة القول إن التدهور الكبير الذي طرأ على العلاقات بين موسكو وواشنطن يزيد من القيمة الإستراتيجية للعلاقات مع طهران في نظر الروس.
إسرائيل، على الرغم من أنها تعي طابع الاعتبارات التي تحكم السلوك الروسي، إلا أن إحباطها المعلن من السياسات التي تتبناها إدارة الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، في سورية قد يجعلها تمضي في تبنّي الإستراتيجية الجديدة بهذه الوتيرة أو تلك، وهو ما قد يفضي إلى اندلاع مواجهة مع إيران والقوى الشيعية في سورية، ويمكن أن تنتقل لاحقاً إلى لبنان. وعلى الأقل، في وسع الروس توظيف منظومات الإنذار المبكر ومنظومات الدفاع الجوية التي يحتفظون بها في سورية في تقليص عوائد الجهد الحربي الإسرائيلي في سورية، واستنزاف تل أبيب. إلى جانب ذلك، فإن مواجهة جديدة بين إسرائيل وحزب الله تحديداً تنطوي على خطورة أكبر، بسبب تواتر التقديرات في تل أبيب التي تؤكد أنه على الرغم من مرور 11 عاماً على حرب لبنان الثانية، فإن إسرائيل لم تتمكّن بعد من اتخاذ الاحتياطات التي تكفل تأمين عمقها المدني في مواجهة الصواريخ التي يملكها حزب الله، والتي تمتاز بمداها الطويل ورؤوسها الثقيلة ودقة إصابتها.
تتابع أوساط المعارضة السياسية معاركها «الدونكيشوتية»، مرّة ضد منصّات المعارضة الأخرى، وتارة ضد المبعوث الأممي ستيفان دي ميستورا، وفي أحيان تلقي باللائمة على بعض الدول «الصديقة» عن تراجع دعمها لها، ولكنها في معظم الأوقات تصمت عن تغير مواقف بعض الدول من الثورة ووقف دعم الفصائل العسكرية والقبول ببقاء الأسد، بسبب ارتهانها لها.
يجري كل ذلك في وقت تتزاحم فيه الاستحقاقات الجدية في قضية الصراع السوري، وفي وقت تفلت فيه كل خيوط الصراع من بين أيدي السوريين نظاماً ومعارضة، على رغم علم قيادات المعارضة أن المعارك التي تخوضها إعلامياً لا تدخل ضمن نطاق العمل السياسي أو الديبلوماسي، الذي يحولها إلى أداة ضغط تستفيد منها لاحقاً، بل على عكس ذلك حيث تتحول تلك «المعارك» إلى مقدمات لتنازلات لاحقة، إذ ما يجري رفضه في مرحلة، يُقبل به بعدها.
في هذه المرحلة، مثلاً، تواجه المعارضة ثلاثة استحقاقات كبرى، من المفترض انها تضع أساسات الحل للصراع السوري خلال الشهرين القادمين، كما أعلن دي ميستورا. طبعاً هذا الحل لن يكون وفق إرادة السوريين من المعارضة والنظام، وهو لن يحقق للنظام طموحه بالعودة إلى الهيمنة على سورية أمنياً واقتصادياً، كما كان حاله قبل 2011، إلا أنه يرضي بعض مطالبه في البقاء الشكلي كنظام حاكم، في حين تتبدد أحلام السوريين الذين ثاروا ضد النظام لإنهاء الاستبداد، وإقامة دولتهم الديموقراطية المؤسسة على حقوق متساوية للمواطنين. ووفق المعطيات فإن الحلول المقترحة هي مجرد تقاسم نفوذ بين الدول المتصارعة على سورية (روسيا- الولايات المتحدة الأميركية- إيران- تركيا)، ما يتطلب عملاً واقعياً وجاداً من المعارضة تنزع فيها قياداتها مصالحها الشخصية، وتقطع مع ارتهاناتها لهذه الدولة أو تلك. وتتمثل الاستحقاقات المذكورة في اجتماع آستانة (المنعقد حالياً)، ومؤتمر الرياض 2 المقرر خلال الشهر المقبل، ولاحقاً الجولة الثامنة من مفاوضات جنيف. وأهمية هذه الاستحقاقات تنبع من الواقع الجديد المتمثل:
أولاً- في إعادة تموضع الأطراف المتصارعة على سورية (وأدواتها المحلية) على خريطة الصراع، بخاصة مع تغير التحالفات الإقليمية للقوى المنخرطة في الصراع السوري، الأمر الذي تجلى خلال جولات آستانة والتوافقات الروسية -التركية -الإيرانية.
ثانياً- مصير اتفاقات «خفض التصعيد» التي مررتها روسيا خلال الأشهر الماضية، وأنهت من خلالها الصراع المسلح بين الفصائل المسلحة المعارضة والنظام السوري، وحولت الجميع الى معركة ضد «داعش».
ثالثاً- تحويل جولات التفاوض في جنيف إلى جلسات تقنية استفادت منها روسيا، لتمرير تفسيرها لبيان جنيف 1 والقرارات الأممية لا سيما 2118 و 2254، وتالياً تحويل المفاوضات إلى نقاش حول توحيد وفد المعارضة، أو مكافحة الإرهاب، بهدف تعويم النظام.
على ذلك فإذا استطاعت روسيا أن تنهي اجتماعات آستانة وفق مخططها بانتزاع تركيا، «الصديقة» للمعارضة السورية، ووضعها على خريطة أصدقاء دمشق، في عملية مقايضة مع إيران، وسط صمت المعارضة السياسية، ولاحقاً ترحيبها، «المجبرة عليه»، بإقامة منطقة «خفض تصعيد» في إدلب، ستكون عبارة عن تجمع لكل المعارضين تمارس تركيا فيها دور الضامن لإنهاء الصراع مع النظام، وتحديد نشاط هذه المعارضة داخل هذه المنطقة، وتحويل الفصائل العسكرية إلى مجرد أجهزة شرطية تحت الإشراف التر كي. وطبعاً فإن المقابل لذلك استقرار نفوذ إيران في العاصمة ومحيطها، وصولاً إلى حدودها مع لبنان حيث «حزب الله». ويستنتج من ذلك أن هذه الجولة من آستانة ستكون، على الأرجح، بمثابة إغلاق الملف العسكري للمعارضة المدعومة تركياً، ووضعه ضمن ملفات روسيا للتفاوض عليه مع الإدارة الأميركية وأوروبا لاحقاً.
لن يقف الأمر عند ذلك، إذ من المرجح أن تنتقل روسيا من الملف العسكري في آستانة إلى تنفيذ مخططها في إعادة هيكلة المعارضة السياسية، وذلك من خلال مؤتمر الرياض 2 لتوسعة الهيئة العليا للمفاوضات، ومشاركة كل من منصتي القاهرة وموسكو وبعض الشخصيات المستقلة، لإنجاز كيان جديد من شأنه أن يلغي كل الكيانات السابقة التي اعترضت عليها موسكو، وامتنعت عن الاعتراف بها كممثلة عن المعارضة السورية، ومن المأمول لروسيا أن ينتج هذا المؤتمر وفداً تفاوضياً واحداً، يجلس مقابل النظام، وترعاهما روسيا- بحكم التفاهمات التي عقدتها مع كل الأطراف المتدخلة في الشأن السوري عربياً وإقليمياً ودولياً- بنفس القدر والهيمنة، وتكون أساس التوافقات فيه: الوثائق التقنية الثلاث التي تم التوصل إليها في جولة التفاوض التقنية، والتي عبرت الهيئة العليا عن رفضها لها، سابقاً، على رغم وجود وفدها خلال استخلاصها في لوزان (6-7 تموز/يوليو 2017، وهو ما أكده الوسيط الدولي في إحاطته أمام مجلس الأمن في (30 آب/أغسطس 2011).
مما تقدم، نحن أمام خيارين: إما أن نفهم أن قيادات المعارضة تعرف تماماً ما هو دورها في المرحلة المقبلة الذي رسمته لها القوى الدولية التي أوجدتها، ولذلك فهي تخفي عن السوريين مجريات الأحداث، وتشغلنا بمعارك وهمية تارة مع منصة موسكو، وتارة مع دي ميستورا «الموظف»، أو أنها تتخبط في عملها وهذا أقصى ما تستطيعه، بالتالي يكون السؤال: لماذا على السوريين أن يبقوا على قيادات فشلت في إدارة صراعهم مع النظام علماً أن أطرافاً خارجية اختارتهم؟ وفي الوقت ذاته من أجل ماذا على السوريين أن يقدموا مئات آلاف الشهداء، ومثلهم جرحى وملايين المهجرين إذا كانت هي هذه المآلات؟
ولعل طموحات «الهيئة العليا للمفاوضات» واضحة فيما نشر عن اجتماعها في 6 أيلول (سبتمبر) الجاري، والذي يؤكد أن كل مساعيها تقتصر على الحفاظ على أعضائها الـ 28، على رغم كل ما أحاط عملهم خلال الفترة الماضية من إخفاقات، ليكون اجتماع الرياض2 عملية «لصق» وترقيع، إذ يضاف إلى «الهيئة العليا» 23 عضواً فقط يتم اختيارهم وفق مواصفات تضعها الهيئة نفسها! ما يعني أن ما سنذهب إليه ليس مؤتمراً وطنياً، يعاد فيه الاعتبار إلى المسار الديموقراطي الذي تنادي به الأطياف السورية المعارضة، وتطالب بتنفيذه من جانب النظام، في حين يجري تغييبه في عمل المعارضة وتشكيلاتها.
وفي الوقت الذي يسابقنا فيه الزمن يتوجّب علينا الإلتفات إلى ما بعد الرياض2 لوضع البنى اللازمة لصيانة رؤيتنا حول «سورية كل السوريين»، من خلال الجولة الثامنة لجنيف، بعد أن سقطت «سورية الأسد» بفعل الحراك الشعبي، و «سورية المعارضة» بفعل ارتهان قياداتها وأخطائها المتتالية، وبفعل مسار آستانة الذي حول سورية إلى مناطق نفوذ، حيث تأتي أخبار اجتماعات لجنة الهيئة العليا للإعداد لمؤتمر التوسعة، لتعيد من جديد فكرة التفكير بالمناصب الدائمة، وهذه المرة من داخل صندوق النظام الفكري، وليس من خارجه.
حلّت ساعة تقاسم مناطق النفوذ والمصالح في سورية وبرز وزير خارجية روسيا سيرغي لافروف مهندساً بارعاً يملك مفاتيح الدار وخريطة سورية الجديدة. خريطة لافروف ليست خريطة رسم الحدود على نسق سايكس– بيكو. إنها ترتكز على قاعدة الوصاية الروسية على سورية بمباركة وشراكة أميركية. مع تطمينات عملية وفعلية لإسرائيل عنوانها الجولان، ونفوذٍ مضمون لإيران وتركيا في صفقة التوازنات العسكرية والمقايضات، وضمان مواقع حكم ذاتي للأكراد، وتحويل سورية إلى دولة شبه منزوعة السلاح ومنزوعة القرار السيادي. تقسيم سمي هذا أو تقاسم نفوذ، إن سورية الأمس ولّت والكلام عن انتصار بشار الأسد يتوقف عند استخدامه واستخدام نفسه في حرب على إرهاب أتى باستدعاء النظام السوري له وباستثمار خارجي لا أحد بريء منه على الإطلاق. وللتأكيد، إن تقويض حزب البعث الحاكم واضمحلاله التدريجي سينعكس على النظام وعلى الرئيس لأن منطق حزب البعث هو الاستفراد بالسلطة والحكم، وهذا دخل خانة «كان في الزمان».
كل هذا يُسعد الشريك الصامت الموافق تماماً على تحويل سورية إلى وصاية روسية توزّع الأراضي والممرات والطرقات الاقليمية، فأميركا تريد سورية «منزوعة الأسنان». فوداعاً للدولة المركزية في سورية لأن استمرار تلك المركزية سيجعل سورية الغد غير مستقرة، وهذا ما لا تتمناه الشراكة الروسية– الأميركية– الأوروبية– التركية– الإيرانية– الإسرائيلية. ذلك أن خريطة لافروف أعادت تعريف الاستقرار على أساس توزيع الحصص كما ارتآها لافروف. وكل ذلك الكلام المسرَّب عن استكمال واشنطن استراتيجية لاحتواء النفوذ في سورية والعراق واليمن لكبح «أذى إيران»، إنما هو كلام معسول للاستهلاك العربي لا غير.
الديبلوماسية الأميركية، المدنية والعسكرية، تتشاور مع الديبلوماسية الروسية دوماً وراء الكواليس في كل الملفات الإقليمية – وهذا ليس مستغرباً سوى أن الكثير من تلك المشاورات يبقى هذه الأيام سراً مطبقاً على حلفاء الاثنين في منطقة الشرق الأوسط وأكثرهم حلفاء للولايات المتحدة. فلا شيء تغيّر جذرياً في التفاهمات الأميركية– الروسية في شأن النزاعات في المنطقة العربية مع استلام الرئيس دونالد ترامب الرئاسة الأميركية. فهو سار على خطى سلفه باراك أوباما فعلياً وعملياً، إنما صعَّد لفظياً وبوعود فارغة ما لبث أن تراجع عنها لأسباب «براغماتية»– أي من أجل المصالح الأميركية كما تراها واشنطن. والذين يعتقدون أن الكونغرس الأميركي ســـيحتج ويعترض ويعرقل سياسات ترامب التهادنية فعلياً مع إيران، إنما يعتمد سياسة التمنيات لا غير. فأولوية الكونغرس الأميركي هي إسرائيل، وإسرائيل راضية.
إسرائيل راضية لأن الصفقات والتفاهمات ضمنت لها هضبة الجولان كحزام أمني وكأراضٍ لها كأمر واقع، بدلاً من بقائها أرضاً سورية محتلة. قد يقال إن الأمم المتحدة وقراراتها وقوة فك الاشتباك (اندوف) هي الفاصل الشرعي الذي يرفض ضم إسرائيل للجولان منذ احتلالها له قبل 32 سنة. لكن خريطة لافروف ضمنت لإسرائيل جبهة محيَّدة بضمانات روسية وأميركية ودولية كما طمأنتها بأنه لن تكون هناك مطالبة سورية جدية لاستعادة الجولان، لأن سورية القديمة زالت وسورية الجديدة باتت مربعات نفوذ روسي– أميركي– تركي– إيراني بلا قيادة مركزية تُذكر. انها سورية المُكبّلة التي تم حذفها من المعادلة الاستراتيجية مع إسرائيل بعد حذف مصر تفاوضياً عبر «كامب ديفيد» والعراق عسكرياً عبر حرب الرئيس جورج دبليو بوش في العراق. إنها سورية شبه المنزوعة السلاح والأسنان.
تركيا وجدت في العلاقة مع روسيا سلَّم الانقاذ. لذلك قايضت حلب باكراً وهي تدرك تماماً أن حلب كان المفصل الحاسم في مستقبل سورية والمعارضة فيها. الرئيس الروسي فلاديمير بوتين روّض نظيره التركي رجب طيب أردوغان، وتمكّن من إخضاعه للتخلي الجزئي عن رعايته لمشروع «الإخوان المسلمين»، وأردوغان رضخ أقلّه تكتيكياً ومرحلياً. فهو وجد في علاقته مع روسيا أهم سلاح له مع أوروبا الرافضة لانتمائه إليها والتي تكاد تكون نادمة على القبول بعضوية تركيا في حلف شمال الأطلسي (الناتو) لولا كونها براغماتية تنظر إلى موازين الفوائد والخسارة.
تلاقى الرجلان في موسكو وأنقرة على الكراهية لـ «الناتو»– أحدهما معتبراً هذا الحلف عدوّاً لدوداً له والآخر يراه شرّاً لا بد منه. المستشارة الألمانية أنغيلا مركل احتجّت على قيام تركيا العضو في حلف شمال الأطلسي بعقد صفقة سلاح هذا الأسبوع مع روسيا على أساس أن التناقض هذا ليس أبداً نظرياً. لم تحتج مركل على الرعاية الروسية لصفقة المقايضة التركية– الإيرانية في الأراضي السورية، والتي انطوت على سيطرة تركية عسكرية في الشمال السوري وعلى ضمان جغرافيا الممر الإيراني في الأراضي السورية الأساسي لاستراتيجية النفوذ الإيراني في الهلال الممتد من طهران إلى بيروت عبر أراضي العراق وسورية. فهي راعية على طريقتها لإيران ومشاريعها الإقليمية باسم صيانة الاتفاق النووي مع إيران من أي اهتزاز مهما تجاوزت طهران في أي نطاق آخر.
والآن، حصلت تركيا على تواجدها عسكرياً شمال سورية الى أجلٍ غير مسمّى بموافقة روسية– أميركية. أما ماذا ستفعل تركيا بـ «الدواعش» الذين يُصدَّرون إليها، فهذا موضوع آخر. وماذا سيفعل أردوغان بمشروع «الإخوان المسلمين» علماً بأن روسيا تصنع علاقة أساسية لها مع مصر، فهذا يستحق التدقيق والقراءة المعمقة لاحقاً. في الوقت الحاضر، تحرص موسكو على الدور المصري في سورية لكنها تتحدث بلغة الميدان– وفي هذه اللغة أولويتها تركية وإيرانية.
حالياً، ترعى روسيا مقايضة تركية– إيرانية إذ تتمتع تركيا بسيطرتها في الشمال السوري وتسيطر إيران على جنوب العاصمة السورية بما يضمن لها أمرين: المشاركة في تقويض استقلالية القرار في أية حكومة سورية في دمشق أولاً. الممر الضروري في الاستراتيجية الإيرانية ثانياً. لعل موسكو تنفذ وعود اخلاء سورية من الميليشيات انما بعد زوال «داعش» وبعد تكبيل المعارضة السورية بكل أطيافها وتحييدها. فإزالة الميليشيات التابعة لطهران شيء، وضمان نتائج الاستثمارات الإيرانية في سورية شيء آخر.
وواشنطن لا تمانع. كل التوعّد والتهديد الأميركي الإيراني إنما هو من قبيل فولكلور كبح الغايات الإيرانية والتوسع الإيراني في الجغرافيا العربية. فهذا «آخر هم» للأميركيين، في نهاية المطاف. كل تلك المهاترات والتهديدات اللفظية محسوبة. فلن تمزّق إدارة ترامب الاتفاق النووي مع إيران مهما صعّدت السفيرة الأميركية لدى الأمم المتحدة نيكي هايلي، ولن يوقف «التحالف الدولي» الذي تقوده واشنطن استيلاء إيران على الجغرافيا التي يتم تحريرها من «داعش»، لا في سورية ولا في العراق. لن تكون هناك خطوات أميركية لاحتواء نفوذ إيران في سورية والعراق، بعد استكمال العمليات العسكرية ضد «داعش»، فعندئذٍ يكون قد فات الأوان. فلقد وعدت إدارة ترامب وأخلّت بالوعود. أما استراتيجيتها الموعودة فإنما هي لرفع العتب والاستغلال.
الغياب الأميركي، بل التغيب المتعمد، ترك الساحة مفتوحة لروسيا لرسم خريطة جديدة لسورية، وأبعد. لقد أغلقت واشنطن صفحة التنافس الاستراتيجي والاقتصادي والأمني مع موسكو وقررت أن الزمن الراهن يسمح بصفقات التفاهم والاقتسام في كافة أنحاء المنطقة العربية.
في العراق، حيث التقسيم بات حتمياً، كلاهما يعارض لفظياً التسرع الكردي إلى الاستفتاء، وثم تقسم العراق كأمر واقع. فعلياً، كلاهما يدرك تماماً أن تقسيم العراق ليس فقط لصالح الكرد الذين يطالبون بدولة مستقلة، وإنما هو أيضاً لمصلحة إيران التي تجتاح الأراضي العراقية حتماً لتنفيذ مشروع الهلال الفارسي الذي يسمى أيضاً– الهلال الشيعي- كلاهما يعرف تماماً أن ما سيتبقى في العراق للسُنَّة هو عبارة عن خسارة كبرى لهم، لأن بالأمس كانوا أصحاب القرار والسيادة، وهم سيصبحون دويلة خالية من النفوذ والقدرات والموارد. كلاهما يقرأ جيداً الوهن العربي والأولويات الخليجية، وهما يعدان بجديد ما في الأولوية الخليجية، وهي اليمن.
في اليمن تلتقي الرغبة الأميركية والروسية لمساعدة السعودية على الانتهاء من أزمة اليمن، لكنهما تعرفان تماماً خريطة الطريق الى الحل، ولا تسلكانها. فالعنوان الرئيسي لحل أزمة اليمن هو طهران، لكن واشنطن وموسكو لا يقصدانه عمداً مع أنهما تدركان أن إيران لن تتخلى عن بوابة مهمة لها إلى الحدود السعودية عبر الحوثيين. هنا أيضاً، تتكاثر الوعود اللفظية وتقل الإجراءات الفعلية.
جولة سيرغي لافروف على العواصم الأميركية، والمشاورات الإيرانية والتركية في عواصم الضامنين الثلاثة في سورية – روسيا وتركيا وإيران – تؤكد أن ساعة تقاسم النفوذ حلّت. الغياب العربي عنها مؤلم ومؤسف وشهادة على الوضع العربي المتشتت بامتياز. نعم، لقد توجه سيرغي لافروف الى العواصم العربية في جولة ما قبل الإعلان عن خريطته. ونعم لقد أفادنا علماً بأن عواصم عربية مهمة وافقت ودخلت طرفاً في المعادلات الجديدة. إنما، في نهاية المطاف، إن سورية والعراق على وشك استبدال خريطة الأمس بخريطة جديدة– اسم الأولى سايكس بيكو واسم الثانية خريطة سيرغي لافروف.
يواجه «الستاتيكو» الذي تسعى روسيا إلى تثبيته في سورية في مرحلة ما بعد «داعش»، وإضعاف المعارضة السورية المعتدلة لنظام بشار الأسد، الكثير من العقبات والمطبات.
فما يسميه النظام وإيران وقادة ميليشياتها والقيادة الروسية، انتصارات في الحرب على الإرهاب، بإخراج «داعش» من مناطق واسعة في سورية (والعراق) ليس إلا مرحلة من مراحل الأزمة في سورية، طالما أن هذا «المحور» يعتبر أن لا وجود لمعارضة سياسية في البلد. وإذا اعترف بعض هذا «المحور» بوجودها، وجَبَ تذويبها في وفد موحد مع مؤيدي النظام، كما تسعى إليه موسكو، لتجويف مطالبها بالتغيير، أو عبر وصفها بـ «الحثالة» و «العملاء والخونة»، كما فعل الأسد.
ما يؤول إليه منحى الإنكار المتعدد الأشكال لدور للمعارضة، هو استبعاد البحث بالانتقال السياسي الذي ينص عليه القرار الدولي الرقم 2254 لمصلحة اجتماعات آستانة التي تعنى بتثبيت مناطق خفض التوتر من جهة، ولإسباغ صفة الاستسلام على محادثات جنيف التي بشر بها ستيفان دي ميستورا مستنداً إلى قناعته بأن على المعارضة أن تقتنع بأنها لم تربح الحرب، من جهة ثانية.
ومع وجود قناعة لدى كثر من السوريين بتوجه لدفن القرار الدولي، لأن الدول التي أيدته اكتشفت أنه «سابقة خطيرة» عندما يوكل إلى الأمم المتحدة مهمة قيام نظام ديموقراطي في سورية، ما يقلق هذه الدول إذا انسحب توجه كهذا على بعضها، فإن هذه حجة إضافية لترجيح قيام «ستاتيكو» تسعى روسيا إلى تكريسه تحت مسميات مختلفة منها مناطق خفض التوتر، بديلاً من الحل السياسي.
إصرار «المحور» على احتكار «الانتصار» على «داعش»، بإنكار مشاركة دول وقوى أخرى (مثل إنكار دور المعارضة)، وتصويره على أنه انتصار للمحور على المعارضة والدول التي دعمتها، يقود حكماً إلى تثبيت الأسد في السلطة لسنوات، يواجه أسئلة كبرى وسط الضجيج الإعلامي. أسئلة تضاف إلى سؤال كبير حول ما إذا كانت الدول التي كانت لها حصص في «داعش» قد حجزت لعناصره دوراً مستقبلياً عبر استردادها ما يمكن تسميته «ودائعها الاستخبارية» فيه، خلال المعارك الأخيرة، عبر الانسحابات المنظمة لمقاتليه من مناطق عدة، من تلعفر إلى البادية السورية، إلى الجرود اللبنانية والسورية التي شهدت عمليات استسلام هؤلاء، فضلاً عن المبادلات...
إذا كانت إدارة دونالد ترامب، كما سلفه، سلمت لروسيا بالنفوذ في سورية، وبات على الأخيرة إدارة هذا النفوذ مع الدول الراعية لآستانة، فإن خريطة حدود تأثير كل من الدول المعنية رُسمت برضى الدول الكبرى، جنوباً وشمالاً وشرقاً، باستثناء موقع إيران، التي اقتطع تدخلها حتى الآن المناطق الغربية، على أن تحتفظ بوجودها في محيط دمشق. كيف ستدير موسكو الوجود الإيراني هذا في مرحلة الستاتيكو، في ظل اتفاقها مع واشنطن على حفظ مصالح إسرائيل، وفي ظل المطالبة الأميركية لها بإبعاد إيران عن سورية؟ وكيف ستضبط إيقاع دور طهران في وقت بعثت إسرائيل برسالة واضحة على لسان وزيرة العدل فيها بأن «للأسد مصلحة بإبقاء إيران في الخارج، إذا أراد البقاء»، في وقت تعزز الأخيرة جاهزيتها وترسانتها في سورية ولبنان ما يطلق بين الفينة والأخرى العنان لسيناريوات الحرب، كلما قصفت إسرائيل قافلة أسلحة لـ «حزب الله»؟ وإذا كانت حجة حصول القصف الإسرائيلي الأخير من الأجواء اللبنانية التي يقول خبثاء إنها مفتعلة لتجنب أي رد، دليلاً على انضباط الجانب الإيراني، فإن السؤال حول حصة طهران يبقى قائماً في شأن حضورها الاقتصادي والعسكري والأمني. فالامتيازات التي حصلت عليها من النظام لإقامة مستودعات للنفط في الساحل، ولتأسيس شركة اتصالات خلوية ثالثة، وللتنقيب عن الفوسفات في البادية التدمرية، وحق استثمار 5 آلاف هكتار من الأراضي الزراعية في الساحل، وهي تغطية لإقامة قاعدة على البحر المتوسط نجح الجيش الروسي في «عرقلتها». أما الاتفاقات الأخرى فاعتمد الروس على التسويف السوري الرسمي لتأخيرها، حتى إشعار آخر. إنه صراع الحلفاء.
مع ترويج «المحور» لـ «الانتصار»، يجري الترويج لمرحلة إعادة الإعمار، في وقت يسود الاعتقاد الضمني عند بعض القوى الدولية التي ترى أن سورية ذاهبة إلى ستاتيكو، بأن لا إمكانية لإعادة الإعمار في ظل بقاء الأسد. فالمانحون، دولاً ومنظمات ومستثمرين سوريين يعول عليهم، يرون أن النظام سيوجه الإعمار للانتقام من الشرائح الاجتماعية التي وقفت ضده ولن يكون وفق خطة لإعادة النازحين، بل من أجل إثراء من وقفوا معه وتعزيز الفساد. وهو قال أن لا مكان للدول التي دعمت خصومه في العملية. فكيف تتكرس شرعيته في هذه الحال؟