مقالات مقالات رأي بحوث ودراسات كتاب الثورة
١٥ سبتمبر ٢٠١٧
على أبواب المنشية.. نجاة من القصف وقدر جديد

لكل قصة بداية، وبداية قصتي مع البجعة الروسية القاتلة كانت في السابع عشر من فبراير عام 2017. يومها شنت المقاتلات الحربية الروسية نحو ثلاثين غارة جوية على أحياء درعا البلد، بعد ساعات معدودة من إعلان الروس بداية مؤتمر الأستانة 2 وقف غاراتهم المساندة للنظام السوري في مواجهة معركة أطلقت عليها المعارضة السورية اسم "الموت ولا المذلة" كانت ابتدأتها في الثاني عشر من فبراير لاستعادة حي المنشية أخر معاقل النظام في درعا البلد، بعد أن طرد النظام والمليشيات الأجنبية الموالية له جميع أهله منه محولا إياه لثكنة عسكرية.

شارك الإعلاميون في هذه المعركة الضروس بكاميراتهم رصدا للحقيقة وتوثيقا لفصولها الدموية. ظهيرة ذلك اليوم دخلت درعا لرصد وتوثيق المعارك هناك في ظل جحيم نيران الطائرات الروسية التي أصبحت فيما بعد أحد ضحاياها. كانت ساعات مليئة بالدم والآلام، كنت فيها أشبه بمن يعيش في عالم آخر.. بل كنت كذلك، كل ما أتذكره في تلك اللحظة كيف اخترق الغراب الروسي جدار الصوت، مطلقا أحد صواريخه الفتاكة ..عندها ارتميت على الأرض بجانب السيارة ظنا مني أنني الهدف، إلا أن الصاروخ الروسي كان قد أصاب هدفا على بعد عشرات أمتار مني، (قيل لي فيما بعد أنها سيارة كانت تقل اثنين من مقاتلي المعارضة فقتلهما).

لملمت نفسي ونكت غبار الخوف الذي استملكني.. ومسرعا بسيارتي البيضاء التي تدلل على أني مدني حاولت الوصول إلى مكاني المنشود على أطراف حي المنشية.. ثلاث دقائق أو تزيد قليلا كانت كفيلة باستدارة الطائرة الروسية وملاحقتها لي.. موجهة حممها نحوي. لا زلت أذكر كيف تزامن وقوفي بسيارتي أمام أحد البيوت مع هزة عنيفة حولت كل ما حولي إلى غبار أسود وشرر تتطاير من حولي.. لحظة كأنها عقد من الزمن أدركت فيها بأنني أصبت.. سمعت أصواتا من حولي تركض نحوي قبل أن أغيب عن الوعي. كانت أخر كلمة قلتها ولعلي لم أعي حقيقتها "تصوبت" لأغيب بعدها بعقلي عن واقع ما يجري.


قيل لي بعد ذلك أن ما منع الصاروخ من الوصول إلي مباشرة هو حافة البيت الذي وقفت بجانبه.. قدر الله ان يرتطم الصاروخ به ليتناثر علي ومن حولي، فحال دون تمزيقي وحرقي. شظايا من ذلك الصاروخ اخترقت السيارة فبترت يدي اليمنى بالكامل وهشمت كتفي ووصلت حد الرئة اليمنى فكشطت اللحم عنها حتى بانت، وبعضها اخترق مقعدي من الخلف، فمنعها - رحمة من الله - الدرع الذي كنت أرتديه من الوصول إلى ظهري.

ساعات ما قبل نقلي للأردن للعلاج كانت مخيفة بحسب الأطباء، فضعف إمكانات العلاج والعجز عن إيقاف نزيف الدم، والمشقة في تأمين زمرة دمي، ووعورة الطريق إلى الحد الأردني وطوله، كانت كفيلة بإنهاء حياتي بعيدا عن أهلي، لولا قدر الله الذي كتب لي فصلا جديدا من حياة، سأظل فيها أحد الذين يجمعون تاريخ الثورة السورية ويوثقون منعطفاتها الدموية، بدأ من صرخة الحرية التي قلعت من أجلها أظافر أطفال صغار في درعا، مرورا باحتلال الروس والإيرانيين لسوريا محاولين إرجاعها لحظيرة العبودية، ومقاومة أهلها لهم.


في الأردن وفي غرفة العناية المشددة حيث الأطباء على مدار الساعة من حولي.. وكذا أهلي وطاقم قناة الجزيرة في عمان. يتناوبون على استفاقتي من الغيبوبة بابتسامات عريضة.. سرت في أعماقي أملا لامس ضعف قلبي فقواه، فكان وقوفهم بجنبي كفيلا بطرد شيطان اليأس عني بعد أن كاد يتلبسني. لا أعلم لم تذكرت وقتها الزميل محمود حسين متألما، فكل أحبتي من حولي.. وهو في غيابات الظلم بعيدا عن أهله وأحبته..

 

في محنتي هذه لهج الكثيرون بألسنتهم وأقلامهم تعاطفا معي ضد غاصب ومحتل، فكانت دعواتهم سياجا إلهيا رد عني قدر الموت المحتم لأقف من جديد في مواجهتهم. خرجت من المشفى ولم يتغير علي شيء سوى أنني بدأت أكتب بيساري بدلا من يميني التي سبقتني لرب رحيم كريم. فجل ما فعلته الطائرة الروسية بي هو ما كتبه الله علي.

اقرأ المزيد
١٤ سبتمبر ٢٠١٧
بين قنبلة كيم النووية وقنابل إيران الطائفية

تنعكس الأزمة النووية مع كوريا الشمالية أكثر فأكثر على النقاش داخل الإدارة الأميركية في شأن الاتفاق النووي مع إيران. ومن الطبيعي أن تدفع الأزمة نحو مزيد من التشدّد الأميركي، باعتبار أن الصفعة التي تلقتها واشنطن من بيونج يانج ستجعلها أكثر تحفّزاً لتفادي المفاجآت من مصدر آخر. صحيح أن الوكالة الدولية للطاقة الذرّية تراقب تنفيذ الاتفاق وتؤكّد تقاريرها الدورية أن طهران تحترم الالتزامات التي ينصّ عليها، غير أن الوكالة لا تبدو معنية أو مختصّة بالتدقيق في تطوير الصواريخ الباليستية. وبالنظر إلى ما حققته كوريا الشمالية، وإلى علاقتها بإيران وتعاونها النووي معها (وكذلك مع النظام السوري لتجديد ترسانته الكيماوية)، فإن التداعيات الاستراتيجية الخطيرة لنجاح تجربة القنبلة الهيدروجينية، أطلقت نحو طهران إيحاءات مشجعة قد تكون المندوبة الأميركية لدى الأمم المتحدة نيكي هايلي عبّرت عنها بقولها إن الاتفاق النووي تنتهي مدته خلال عشر سنوات، وإذا بقي من دون تعديل، فقد يتيح لإيران بعدئذٍ أن تشكّل التهديد نفسه الذي باتت تشكّله كوريا الشمالية للمدن الأميركية.

لا يمكن تعديل الاتفاق من دون مشاركة روسيا والصين وموافقتهما، لكن الظروف تغّيرت، كما أن الأدوار انكشفت وكشفت بدورها تصوّرات أكثر وضوحاً للمصالح والدوافع على مستوى الدول الكبرى، فالرفض الصيني والروسي لبرنامج بيونج يانج كان لفظياً واستمر كذلك بعدما صار خطره قائماً. ذاك أن قنبلة كيم جونج أون قدّمت رادعاً جديداً للولايات المتحدة ونفوذها، ما يعني أنها تلعب لمصلحة الصين وروسيا ولا تشعران بأي خطر عليهما منها، وبالتالي فإن أي «ردع» إيراني إضافي مستقبلاً سيكون مرحّباً به طالما أنه يبنى على أساس علاقة شبه تحالفية مع هاتين الدولتين، لتصبح بذلك «كوريا الشمالية الجديدة» أو التالية. وإذا كان فلاديمير بوتين غير متحمّس حتى لعقوبات أممية جديدة بل يشارك نظيره الصيني شي جين بينج الدعوة إلى التهدئة لتبديد احتمالات حرب نووية في كوريا، ثم إلى التفاوض لوضع قواعد التأطير الدبلوماسي للمخاطر المستجدّة، فإن الرئيسين الروسي والصيني يستخدمان أيضاً رفض الدول الغربية أي عمل عسكري، ليضعا ترامب وإدارته أمام حرج الذهاب إلى حرب من دون تأييد دولي، حتى لو كان هناك ما يبرّرها.

وكشفت «نيويورك تايمز» أن الأزمة الطويلة زمنياً مع بيونج يانج لم تمكّن واشنطن من تحديد أهداف كيم، فالسؤال: ماذا يريد؟ مطروحٌ منذ عهد والده كيم جونج إيل وجدّه كيم إيل سونج، لكن المؤكّد الآن أنه أكثر عنفاً منهما. باحثون واستخباراتيون واختصاصيون جزموا بصعوبة التعرّف إلى «دوافع» كيم، لكن حصيلة آرائهم تضع لائحة بما هو ممكن أو محتمل منها: المحافظة على نظامه، والحصول على القوة النووية لحماية كوريته، والاعتراف بها دولة نووية وندّاً للدول الكبرى النووية، واستخدام قنبلته لرفع العقوبات الدولية وللشروع في تطوير اقتصاده، وتهديد الأراضي الأميركية لفرض انسحاب أميركي من المنطقة، والاستناد إلى النفوذ النووي لتوحيد شمال كوريا مع جنوبها. رغم بعض الفوارق المتعلقة بالموقع الجغرافي، هناك تشابه في طبيعة النظامين وكذلك بين أهداف كيم وأهداف الخميني وعلي خامنئي، من الحفاظ على النظام الحالي والسعي إلى «القنبلة» لحمايته وتثبيته، إلى تحصيل النفوذ والارتقاء إلى «دولة عظمى إقليمية»، إلى المطالبة بالانسحاب الأميركي. غير أن الطموحات الإيرانية أكثر جشعاً، وقد مكّنتها قنابلها الطائفية من التخريب المنظّم لأربع دول عربية والسعي الدؤوب إلى تخريب دول أخرى مجاورة.

في اليابان وكوريا الجنوبية يتساءلون حالياً عما ستفعله الولايات المتحدة، وهل أنها لا تزال على الاستعداد ذاته للدفاع عنهم بعدما أصبحت مدنها تحت التهديد، وهل هناك احتمال لأن تقلّص وجودها أو تنسحب من المنطقة في ضوء ما يتبدّى من تخبّط في استراتيجيات البيت الأبيض وسياساته؟ وكانت الأسئلة نفسها شغلت دول الشرق الأوسط والخليج العربي بعدما أعطت إدارة أوباما إشارات واضحة للانسحاب من المنطقة والتوجّه نحو شرق آسيا، تطبيقاً لاستراتيجية تبنتها إدارات سابقة، وكان واضحاً أن الطرف الأول المستفيد من هذا الانسحاب هو النظام الإيراني، مثلما أن أي انسحاب (ولو غير محتمل بعد) من شرق آسيا سيكون لمصلحة النظام الكوري الشمالي. لعل الأخطر في النظام/ أو اللانظام الدولي الراهن أن روسيا والصين تستسهلان في لعبة النفوذ صعود الدول المارقة واستقوائها، أما أميركا فلا تزال تدّعي مساعدة الدول المعتدلة والدفاع عنها لكنها تواصل تراجعها.

اقرأ المزيد
١٤ سبتمبر ٢٠١٧
تواطؤ متبادل في سورية وأفغانستان

حلّت قبل ايام ذكرى اعتداءات 11 ايلول (سبتمبر)، واعادت معها الجدل حول جدوى الحرب المستمرة في افغانستان التي حضنت تنظيم «القاعدة». لكن ما يعنينا، على رغم قرب هذا البلد من عالمنا العربي وتأثر أحدهما بالآخر، مقاربة اميركا وايران لأزمة عندنا تحمل بعض أوجه الشبه مع الازمة الافغانية، أي الوضع في سورية.

من المسلّم به ان الاميركيين والاطلسيين واجهوا في افغانستان ولا يزالون معضلة لم يجدوا لها حلا: كيف يمكن هزم حركة «طالبان» المتشددة والحفاظ على النظام الموالي لهم في كابول على رغم زجهم نحو 150 الف جندي في 2001، قبل ان يتراجع هذا الرقم راهنا الى نحو 15 الفا فقط ؟

والواقع انه أمر مستحيل تقريبا، فقبائل البشتون التي تنتمي اليها «طالبان»، بل يمكن القول انها ممثلها السياسي والعسكري، تمثل الغالبية (62 في المئة)، ويصعب عزلها او اخضاعها لحكم اقلية قبلية او اتنية، مثلما حاول الاميركيون، وحاولت قبلهم قوى محتلة كان آخرها السوفيات.

ويحتاج الاميركيون الى نشر ما لا يقل عن مليون جندي اذا ارادوا فرض الاستقرار وضبط الامن في سائر انحاء افغانستان، وهو رقم يفوق كل قدرة وتصور. فالبلد عبارة عن مستوطنات بشرية متباعدة تفصل بينها مناطق خالية تصعب السيطرة عليها، والجيش الموالي لكابول لا يزال يحتاج سنوات طويلة من التدريب والتجهيز والتمويل، ولا يزال عرضة لاختراقات «طالبان» التي عاودت السيطرة على كل منطقة انسحب منها الاميركيون.

ولهذا رأت واشنطن الحل في ابقاء حامية اميركية للسلطة المركزية في كابول واقاليم قليلة، وابقاء الضغط على طالبان في المناطق الاخرى بواسطة سلاح الجو والطائرات المسيرة وعمليات الانزال المتفرقة. لكنه حل لن يصمد طويلا لأنه يبقي البلد مقسماً بين اطراف متعددين، ولا ينهي التقاتل بينهم.

وفي كل هذا، تتعاون ايران التي تعتبر نفسها حامية للشيعة الافغان (الهزارة)، مع الاميركيين منذ بداية الغزو في خططهم لابقاء «طالبان» ملاحقة ومشتتة، لكنها تغازل في الوقت نفسه الحركة البشتونية وتمدها ببعض وسائل الصمود، اتقاء لانتقامها لاحقا.

اما في سورية، فيمارس الاميركيون خدعة مزودجة: يجافون الحقيقة أولاً عبر اعلان ان المعركة ضد الارهاب أهم بكثير من محاولات الاصلاح السياسي وتغيير النظام الامني الجاثم على صدور السوريين منذ نصف قرن، ويجب ان تكون منفصلة عنها، ويروجون ثانياً ان استعادة مناطق انتشار «داعش» و «القاعدة» كفيلة بانهاء الارهاب ومنعه من تهديد مصالح اميركا وحلفائها.

يكمن «الخطأ» الاول في رفض اعتراف الاميركيين بأن نظام الاسد وارتكاباته هي السبب الرئيس في ظهور الارهاب في سورية، ليس فقط بسبب التواطؤ الاستخباراتي مثلما ظهر واضحاً في تمثيلية استعادة المناطق الحدودية بين سورية ولبنان، بل اساساً لأن النظام هو الذي مارس عنفاً بغير حدود ضد المتظاهرين السلميين وقصفهم بشتى انواع الاسلحة بما فيها الكيماوي، واعتبر ان مناطقهم ذات الغالبية السنية ليست ضمن دائرة اهتمامه وإفادته، وقرر تفكيك الهيكلية الادارية الحكومية فيها، وبالتالي افسح المجال امام تمدد «داعش» و«النصرة»، وعزز منطقهما في مواجهة قوى المعارضة الفعلية.

ويكمن «الخطأ» الثاني في ان انهاء «دولة الخلافة» جغرافيا لا ينهي نشاط خلاياها السرية في المناطق المستعادة وخارجها، وان تسليم جزء من هذه المناطق الى «وحدات حماية الشعب» الكردية التي تقود الحرب الاميركية على «داعش» والتغاضي عن انتشار الميليشيات الإيرانية في اجزاء اخرى، يعني الاقرار ببقاء سورية مقسمة بين دويلات متحاربة: مناطق سيطرة النظام، ومناطق سيطرة الاكراد، ومناطق سيطرة المعارضة.

وبما ان القوات الحكومية السورية لم تستطع، ولن تستطيع في مستقبل قريب، ان تحافظ على مناطقها من دون دعم الطيران الروسي والميليشيات الايرانية، وبما ان روسيا متمسكة بتجنب نشر قوات برية في سورية، تبدو إيران مهيأة اكثر من غيرها لانتهاز الفرصة وملء الفراغ. ولعل هذا ما تشير اليه اسرائيل عندما تتحدث عن اتفاق وشيك بين ايران والاسد لإقامة قواعد ايرانية دائمة على الاراضي السورية.

وهكذا، على رغم العداء المعلن واستراتيجيات المواجهة من الجانبين، تحمي قوات اميركية في افغانستان نظام كابول بتواطؤ ايراني، وتحمي ميليشيات ايرانية في سورية نظام دمشق بتواطؤ اميركي.

اقرأ المزيد
١٤ سبتمبر ٢٠١٧
وضوح ليس بعده وضوح في لبنان

بعد الإعلان في لبنان عن استشهاد العسكريين الذين خطفهم تنظيم “داعش” في العام 2014، ثمّة أمران لا يحتاجان إلى أي توضيح من أي نوع. يتعلق الأوّل بأن بلدة عرسال كانت مستهدفة دائما وذلك منذ بدء التفكير في مشروع “سوريا المفيدة”. أما الأمر الثاني، فهو مرتبط بمستقبل لبنان نفسه، أي بالتعايش بين الجيش والقوات الأمنية المختلفة من جهة، وميليشيا مذهبية مرتبطة بإيران تسعى إلى أن تكون صاحبة القرار في البلد من جهة أخرى.

لماذا كانت عرسال ولا تزال مستهدفة؟ الجواب بكلّ بساطة أنّها تمتلك موقعا استراتيجيا مهمّا فضلا عن أن لدى خراج البلدة حدودا طويلة مع سوريا. الأهمّ من ذلك كلّه أن أهل عرسال من السنّة في منطقة يعتبر “حزب الله” أنه يجب أن تكون تحت سيطرته الكاملة. يأتي مفهومه للسيطرة من منطلق تكريس وجود حدود مفتوحة بين المناطق التي يعتبرها “مربعات أمنية” في لبنان من جهة، وكل المنطقة المحيطة بدمشق، بما في ذلك الطريق الذي يربط دمشق بحمص وحماة وصولا إلى الساحل السوري من جهة أخرى.

لا يمكن لإيران، التي تسعى إلى تكريس وجودها في منطقة سورية قريبة من لبنان تؤمّن لها السيطرة بطريقة أو بأخرى على دمشق، أنْ تقبل بأقل من وجود ممر آمن لها بين سوريا ولبنان. هذا كلّ ما في الأمر. هذا ما يوضّح ما لم يعد في حاجة إلى أي توضيح من أي نوع، خصوصا في مرحلة ما بعد استقبال عرسال وجرودها الآلاف من السوريين الذين فروا بسبب ممارسات النظام أولا، ثم بعد سيطرة “حزب الله” على قرى وبلدات عدّة، بما في ذلك القصير، لتأمين الطريق بين دمشق وحمص تحديدا.

ما فعلته الحكومة اللبنانية منذ العام 2014، عندما اشتدّت الضغوط على عرسال، يتلخص في أنها حمت البلدة وأهلها الذين لا يمكن الشكّ بأن أكثريتهم الساحقة تدعم الجيش وقوى الأمن. الأكيد أن ليس أهل عرسال الذين جاؤوا بـ“داعش” و“النصرة” إلى مناطق في جوار بلدتهم، وإلى داخل البلدة أحيانا. الأكيد أيضا أن لا علاقة لأهل عرسال بخطف العسكريين اللبنانيين الذين خطفهم “داعش”. هؤلاء خُطفوا في العام 2014 خارج عرسال واقتيدوا إلى الأراضي السورية. ليس الجيش الذي قصّر في استعادة العسكريين. من قصّر كان المزايدون الذين حذروا بالصوت والصورة، بعيد حصول الخطف، من أي تفاوض مع “داعش” من أجل تأمين إطلاق الرهائن.

لا يمكن للمقصّرين الذين فعلوا كلّ ما يستطيعون لسدّ الطريق على أيّ مفاوضات مع “داعش” ادعاء حرصهم على أرواح العسكريين. الجميع يعرف أن “داعش” تنظيم إرهابي يتبيّن كلّ يوم أن علاقته الأساسية هي بالنظام السوري وهي علاقة تقترب من أن تكون عضوية. لا يمكن للذين وضعوا كلّ العراقيل الممكنة لمنع استعادة العسكريين التهرّب من المسؤولية. كلّ شيء واضح وكلّ المواقف التي صدرت في تلك المرحلة مسجّلة. كل التواريخ معروفة. معروف متى بدأ التحرّك لمنع حكومة تمام سلام من تحقيق ما كانت تصبو إليه… أي إطلاق العسكريين اللبنانيين المحتجزين لدى “داعش” بعيدا عن عرسال.

لا شكّ أن “حزب الله” يمتلك آلة إعلامية متخصصة في قلب الحقائق، بما في ذلك الترويج لروايات من النوع الخيالي للتغطية على المجرمين الذين كانوا وراء تفجير موكب رفيق الحريري. لا يمكن إلا الاعتراف بأنّه بارع في ذلك. الدليل أنّه استطاع تمرير ما يريد تمريره على عدد كبير من اللبنانيين، خصوصا على مجموعة من المسيحيين السذّج الذين يعميهم حقدهم على كلّ ما هو سنّي أو درزي في البلد. هؤلاء أشخاص لا تحرّكهم سوى الغريزة والأفق الضيّق الذي منعهم من استيعاب مدى خطورة أن يكون في لبنان سلاح غير شرعي لدى ميليشيا قررت، بناء على طلب إيراني مباشر، المشاركة في الحرب على الشعب السوري.

في وقت، يسعى رئيس الوزراء سعد الحريري إلى تجنيب لبنان المزيد من الكوارث والمآسي عبر زيارات لبلدان مثل روسيا يمكن أن يفيد المسؤولون فيها في معرفة النتائج التي ستترتب على إعادة تشكيل سوريا، هناك محاولة واضحة لتكريس أمر واقع في لبنان. ليس الضجيج الذي يستهدف توجيه اللوم إلى حكومة تمام سلام وسعد الحريري نفسه ووزير الداخلية نهاد المشنوق سوى حلقة في حملة تصبّ في منع لبنان من أن تقوم له قيامة. أكثر من ذلك، ممنوع على لبنان حماية مصالحه، وممنوع على جيشه تحقيق انتصار من أيّ نوع. كلّ ما هو مطلوب وضع لبنان في خدمة المشروع التوسّعي الإيراني الذي يعني أنّه ورقة إيرانية لا أكثر.

في النهاية وفي مناسبة الذكرى الخامسة والثلاثين لاغتيال الرئيس بشير الجميل، يكتشف اللبنانيون أن بلدهم لا يزال مهددا. بغض النظر عن اعتراضات كثيرة على طريقة انتخاب بشير رئيسا، أو عن الأخطاء التي ارتكبت في مرحلة حمل فيها قسم من المسيحيين السلاح وأساؤوا إلى شخصيات تمتلك فكرا مستنيرا وبعد نظر مثل ريمون اده، يبقى أن بشير اغتيل لأنّه كان قادرا في العام 1982 على لعب دور توحيدي في لبنان. كان هذا الدور يقضي في البداية بإعادة الحياة إلى الجيش كمؤسسة وطنية تسيطر على كل الأراضي اللبنانية.

تندرج الحملة على الرئيسين سعد الحريري وتمام سلام والوزير المشنوق، وهي حملة تقوم على تزوير الحقيقة والواقع في سياق الترويج لشعار “الشعب والجيش والمقاومة” لتبرير بقاء لبنان “ساحة”. من يدرك خطورة هذه المعادلة التي تعني وضع الجيش في مصاف ميليشيا مذهبية، معروف لمن هو ولاؤها، لا تعود له حاجة إلى أي بحث عن الوضوح. كلّ شيء واضح. الجريمة واضحة وأبطالها معروفون.

في 2017، يعود لبنان إلى جدل عمره نصف قرن تقريبا. بدأ هذا الجدل قبل توقيع اتفاق القاهرة في العام 1969. كان عنوان الجدل وقتذاك، عندما بدأ السلاح الفلسطيني يتسلل إلى كل منطقة لبنانية، “الدولة والثورة”. هل من تعايش ممكن بين الدولة اللبنانية والثورة الفلسطينية؟ تبيّن أن هذا التعايش مستحيل. جلب السلاح الفلسطيني الذي كان استثمارا للنظام السوري في عملية القضاء على الدولة اللبنانية الاجتياح الإسرائيلي الذي أدى إلى تدمير كبير وإلى ما هو أخطر من ذلك. أدّى أيضا إلى حرب الجبل التي خلفت جروحا عميقة طالت نسيج المجتمع اللبناني.

إلى أين سيأخذ الإصرار على “المعادلة الذهبية” المسماة “الشعب والجيش والمقاومة” لبنان، خصوصا في مرحلة إعادة تشكيل سوريا والإصرار الإيراني على وجود فيها مع ربط هذا الوجود بالأراضي اللبنانية؟

هل هذا السؤال واضح لدى اللبنانيين، جميع اللبنانيين…أم ثمة حاجة إلى توضيح أكثر بعدما تبيّن، بالملموس، أن هناك وضوحا ليس بعده وضوح في لبنان.

اقرأ المزيد
١٤ سبتمبر ٢٠١٧
هل انتهت (داعش )؟

في أوائل عام 2016 كتبت مقالة تحت عنوان (بيد من سقطت الموصل؟) وذكرت فيها أن الموصل لم تسقط وإنما سلمت تسليماً (لداعش)، وأن السبب في ذلك يعود إلى خدمة المشروع الطائفي الذي يتولى التخطيط له الحرس الثوري الإيراني. وقلت وقتها أن الموصل سلمت (لداعش) بهدف كسر الروح العسكرية وسمعة الجيش العراقي، والذي كان قد انسحب انسحاباً فوضوياً من المراكز الدفاعية عن الموصل، وذلك بأوامر من (نور المالكي) الرئيس العراقي وقتها. لقد كان الانسحاب مستغرباً من الجميع؛ وجميع هذه الأحداث صنعت صناعة لإيجاد قوة عسكرية راديكالية طائفية شبيهة للحرس الثوري الإيراني.

إن الاتفاقية التي تمت بين (حسن نصرالله) و (داعش) من أجل إخراجهم من لبنان والذهاب بهم إلى العراق بمباركة الولي الفقيه لهو أكبر دليل على أن (داعش) كان وجودها في العراق والشام من أجل تكريس النفوذ الإيراني والطائفية..

وقد تحقق ما أشرنا إليه بإيجاد قوة الحشد الشعبي؛ والتي بدأت معالمها الطائفية الصفوية بالظهور والاستبانة. فمن أماني أغلب المجموعات الراديكالية الطائفية الموجودة في العراق حالياً أن يكون لها جيشاً شبيهاً بالحرس الثوري ينفذ المشروع الصفوي الطائفي المشين. وقد بدأت علامات تكّون هذه القوة بالظهور هذه الأيام، ومما يؤكد هذا الكلام أن هنالك فصائل أصبحت تطلق على نفسها مسمى «حزب الله العراق»، وغير ذلك.

إن الاتفاقية التي تمت بين (حسن نصرالله) و (داعش) من أجل إخراجهم من لبنان والذهاب بهم إلى العراق بمباركة الولي الفقيه لهو أكبر دليل على أن (داعش) كان وجودها في العراق والشام من أجل تكريس النفوذ الإيراني والطائفية.

وبما أن داعش قد سقطت عسكرياً قبل أوانها المقرر، فلا بد أن يعاد شيء من القوة لها أي (داعش). (فداعش) والحرب على (داعش) هو ما صنع الحشد الشعبي وكرّس النفوذ الصفوي، ودمر القوة السنية في الرمادي والموصل، فهذه المناطق هي التكتل السني الذي يقع حاجزاً جغرافياً بين النفوذ الصفوي في العراق، والحراك الصفوي في الشام. ولكي تكون الطريق سالكة بانسياب فلا بد أن يزال كل عائق بين العراق والشام. نحن جميعاً نعلم أن (داعش) كانت تستفيد من موارد تهريب البترول والآثار وكان ذلك يتم بمباركة (بشار الأسد) وتنسيقه، وجميعنا يعلم أن الموصل كان من الممكن استعادتها بأقل الضرر. إن ما لحق بالموصل من ضرر وتدمير لجميع البنى لا يدل أبداً على أن القوات التي كانت تحارب (داعش) كما قيل هدفها تدمير (داعش) فقط! وإنما كان الهدف من وراء ذلك هو تدمير بنية حضارية وإنسانية، وتغيير لطبيعة المنطقة، وهذا ما حدث في الرمادي، فالناس هناك يختطفون ويختفون من غير أن يكون هنالك سبب غير السبب الطائفي. لقد ضخم الإعلام ونفخ في حقيقة هذه الفئات المتطرفة وأعني هنا (داعش)، حتى أن بعض التقارير العالمية ادعت أن (داعش) أصبحت تملك القدرة على التصنيع العسكري المضاهي للصناعة العسكرية التركية، وجميع هذه الأشياء الخاصة (بداعش )، وتضخيمها كانت لأسباب تتفاوت بين الطائفية ونوايا انتهاك حقوق الإنسان.

فمن الأسئلة التي يجب طرحها هي كيف استطاعت جماعة حسن نصر الله التفاوض مع (داعش)؟، وهي التي لم تتفاوض أبداً لا على باب الأسرى، ولا على فك مساجين، ولا على إنقاذ أناس من الإعدام، فكيف حدث أن تتفاوض هذه المجموعة مع جماعة نصرالله، وكيف رضيت جماعة نصرالله بهذه الصفقة التي لم تعد عليهم إلا باستعادة رفات قتلى بمقابل خروج (داعش) بأسلحتها وعوائلها من لبنان؟ علماً أن عناصر حزب الله كانت تهدم البيوت في الشام على رؤوس أصحابها العزل بذريعة اغتيال عنصر واحد من حزب الله. ولا يخف على أحد أن جميع التفجيرات التي استهدفت التجمعات البشرية هي من فعل (داعش) فقط. لقد ثبت أن (داعش) لم يكن هو الوحيد الذي مارس التفجير والقتل داخل حشود مواكب العزاء، بل إن هنالك ما يدل على تورط الحرس الثوري الإيراني وأتباعه في هذه التفجيرات، وكما قيل: إن الغاية تبرر الوسيلة، وقد بدأت معالم انكشاف هذه الممارسات المشينة لتحقيق المشروع الطائفي تظهر وتستبين للعيان والمراقب. وبما أن هذا المشروع الطائفي لم ينضج بعد ولم يقف على رجليه بعد فإنهاء( داعش ) في هذا الوقت ليس من مصلحته، وفوائد وجود( داعش) مازال قائماً حتى هذه الساعة. فوجود داعش في فترات سابقة وآنية كان له فوائد للمشروع الطائفي والذي أدى إلى وجود مليشيات الحشد الشعبي أو حزب الله العراق، وهو ما تأمله وتخطط له الجماعات الصفوية في إيران والعراق. ولنذكر كيف أن قيام الحشد الشعبي قد تم بسبب ما قيل من أن الحشد الشعبي سوف يهجم على النجف والكوفة وكربلاء، وأنه سوف يهجم على بغداد، وبسبب هذه الدعاية تكثف قيام ونشوء الحشد الشعبي إلا أن هذا الحشد لم يقف على رجليه بعد فهو يحتاج إلى عدو ضاغط مثل جماعة داعش تعجل في قيام وازدهار الحشد الشعبي وقوته، ولا ننسى أن طريقة قيام ونشوء الحشد الشعبي شبيهة إلى حد بعيد بقيام وازدهار وتمكن الحرس الثوري. فالحرس الثوري كان في أول نشوئه مليشيات تحرس الخميني، ثم تحولت إلى قوة موازية للجيش الإيراني في الحرب العراقية الإيرانية، وبعد ذلك تحول إلى قوة مهيمنة على مفاصل الدولة في إيران، وهذا ما يخطط له في العراق. فجماعات المشروع الطائفي تخطط لأن يكون الحشد الشعبي هو النواة لقوة موازية للجيش العراقي، وكان خير ذريعة لقيام هذا الحشد الطائفي هو محاربة (داعش)، إلا أن (داعش) بدأت بعد حرب الموصل تلفظ أنفاسها الأخيرة مبكراً، وقبل أن يتم المشروع الطائفي خصوصاً وأن هنالك الاستفتاء على انفصال منطقة كردستان عن العراق وما سوف يتم في الأيام القادمة أن (داعش )من الممكن أن نسمع عن سيطرتها على بعض المناطق الكردية، ولهذا الوجود فوائد لأربع دول معترضة على الاستفتاء وهم (العراق، وإيران، وتركيا، وسورية). فاستمرار الحرب على (داعش) مطلوب لأهداف متباينة عند جميع الأطراف.

اقرأ المزيد
١٣ سبتمبر ٢٠١٧
تأهيل النظام و «ترحيل» الحل السياسي

التوجه الدولي الذي أفضى إلى اعتماد مسار آستانة كان يقول بالفم الملآن أن لا قدرة على إيجاد حل سياسي راهناً في سورية، وبالتالي البحث عن هدنة تُرحّل الحل إلى أجل بعيد هو البديل عن ضراوة الحرب. استبعاد إمكان الحل السياسي أساسه موضوع الأسد ذاته، وذلك ليس بسبب غياب بديل عنه يؤدي الدور والوظيفة ذاتَيهما، بل لأن إزاحة الأسد تمثل رمزية هزيمة لمشروع، وبقاءه يمثل رمزية انتصار للمشروع ذاته.

في تلك المعمعة يتلازم الإجماع الدولي الذي تقوده روسيا مع التوجه الإقليمي الذي تقوده مصر باعتبار أن هيكل النظام لا يمكن التفريط به، والمؤسسات بما فيها الجيش هي الضامن للحفاظ على مقومات الدولة السورية في المستقبل. الولايات المتحدة التي اشترطت عدم قتال فصائل المعارضة لجيش الأسد منذ البداية سارت بهذه النظرية، وإسرائيل، على غير عادتها في التعامل مع جيوش المنطقة، قبلت بها أيضاً، وبالتالي كان واضحاً أن مشروع الحل الموقت، الذي لا يشترط حرفية مسار جنيف، يفترض انخراط المعارضة بالنظام في شكل من الأشكال، الخلاف هو على النسبة وعلى الضمانات بأن لا تعود سورية دولة استبداد وتُهدَر كل تضحيات الشعب السوري في إطار تسوية كبيرة على حسابه، لكن كيف يمكن أن يظل الأسد وفق هذا التصور؟ وما الحاجة إلى مرحلة انتقالية لو بقي الأسد؟

البروفة الفعلية الأولى لهذا السيناريو لم تكن مُوفقة، فلقد فشلت جهود توحيد أجنحة المعارضة السورية مؤخراً في الرياض. افتراض أن توحيد رؤية المعارضة يستلزم جذب منصتي الرياض والقاهرة إلى المنطق الذي تتحدث به منصة موسكو فيه كثير من التجني على قوى الائتلاف، فالذهاب إلى هدنة تحت ضغط الأمر الواقع لا يشترط التخلي عن التصور الأساسي للحل. وقد بدا أن التوافق مع منصة موسكو يكاد يشبه عملية التوافق مع الأسد ذاته! فالمعروض لم يكن إلا استسلاماً لمقولة أن الإبقاء على مؤسسات ومعالم الدولة في سورية يرتبط حكماً ببقاء شخص الأسد. هذه مكافأه للدور الذي تلعبه روسيا باعتبارها الشرطي الذي يرعى الهدنة لا أكثر، والشبهة تصبح أكثر اتضاحاً عندما يتعلق الأمر بالاتفاقات الاقتصادية وتلك التي توهب أو تُؤجّر المرافق السورية والمقدرات والثروات لروسيا وإيران لعقود من الزمن وكلها ترتبط سياسياً بشخص الأسد وببقاء النظام ذاته أيضاً.

بالأساس لم يكن بقاء النظام وفقاً لهذا التصور مشكلة، المشكلة تكمن في أن يبقى كما هو بخصائصه وطبائعه ورموزه، هذا هو الموضوع، وليس خافياً أن التحول الثوري الذي أعطى الكلمة الفصل للشعوب عام 2011، عاد اليوم ليعطي الإمرة للأنظمة والجيوش. هذه خلاصة مسار تراكمي أفضى، منذ استشهاد الطفل حمزة الخطيب، إلى يقين بأن الأنظمة والجيوش في منطقتنا لا تُحاسَب على فِعلة ولا تُساءل على خطأ، وهي مستعدة لكي تُهزَم أمام العدو على أن لا تفقد هيبتها أمام الشعب. هذا الشعب الذي يُفترض أنه مصدر السلطات! التسويات تجرى في هذا السياق، لا تغيير جذرياً أو إعادة هيكلة للمؤسسات تحدد وظيفة جديدة لدور وطني جديد، ولا هي استنباط لقيادات عسكرية وسطية تُبقي على المؤسّسة وتضمن ديمومة النظام لحين إجراء انتخابات يقول فيها الشعب كلمته النهائية. هذا هو النموذج الذي يلوح في سورية وتعمل القاهرة وموسكو على هذه الرؤية من دون التطرق إلى مصير الأسد، لكن العقبات تكمن في كثير من حيثيات هذا المسار. كيف تدخل سورية إلى سلام أهلي من دون محاسبة أركان النظام والمسؤولين عن إطلاق دورة العنف وعلى رأسهم الأسد، أو من دون مصالحة ترتكز على معايير واضحة، وكيف تجرى انتخابات ويعود اللاجئون الذين قد يعكرون نقاوة وصفاء مجتمعه الذي أصبح، بعد خطابه الأخير، «أكثر صحة وأكثر تجانساً»؟

طبعاً هذا المنطق المقلوب ناجم عن توازن تفرضه الوقائع الميدانية، لكنْ في المقابل لا يوجد مسار قانوني - دولي يدعم عدالة ومشروعية المطالبة بتنحي الأسد، الأمر الذي تبرّره وتشرّعه الأكلاف التي دفعها السوريون جراء تمسكه بالسلطة.

تسليط الضوء على ضرورة توصّل أطياف المعارضة إلى ورقة واحدة قبل الشروع بالحل السياسي، وإن كان من الأفضل أن يتم، إلا أنه بمثابة شرط مسبق بحد ذاته وهو من قبيل التعجيز، وذلك حتى لو احتوت القرارات الدولية على مضامين نجحت روسيا في دسّها بهدف السيطرة على مفاصل الحل. فما الذي يمنع قيام مباحثات متعددة الأطراف، أساسها استعداد النظام لتقديم إصلاحات والتنازل عن امتيازات يملكها، وليس قدرة الشعب أو أطياف المعارضة على هضم تلك التنازلات؟

اقرأ المزيد
١٣ سبتمبر ٢٠١٧
لكن، هل نجحت المعارضة السورية؟

غطّى غضب بعض أوساط المعارضة السورية على تصريحات ستيفان ديميستورا، المبعوث الدولي إلى سورية، على السؤال الأساس الذي يطرحه أغلبية السوريين والذي يفترض أن تطرحه تلك الأوساط على نفسها منذ زمن، وهو: هل نجحت المعارضة حقاً، بكياناتها السياسية والعسكرية والمدنية، في إدارة صراعها مع النظام، وفي إدارة أحوالها، بأقوم وأسرع ما يمكن؟ وإذا كانت نجحت فأين وكيف؟ فهل استطاعت مثلاً تشكيل كيان وطني جامع يمثل أو يعبر عن السوريين أو معظمهم؟ وهل دافعت عن المقاصد الأساسية للثورة المتمثلة بالحرية والكرامة والمواطنة والديموقراطية في وجه الخطابات الطائفية والمذهبية والأيديولوجية والفئوية أم اشتغلت على محاباتها؟ ثم هل حدث ذلك في محاولاتها تفكيك جبهة النظام وتالياً توسيع جبهتها؟ أو في نجاحها في صراعها العسكري ضده؟ أو تمثل ذلك، مثلاً، في نمط إدارتها «المناطق المحررة»؟ وأخيراً هل شهدنا ذلك في تعزيزها صورتها أمام شعبها وأمام العالم؟ أو في تخفيفها مآسي السوريين اللاجئين في بلدان اللجوء؟

في المقابل، أي إذا كانت المعارضة لم تنجح، بعد مرور حوالى سبعة أعوام، فما الذي تفعله إذاً لتدارك هذا الواقع والارتقاء بأوضاعها وأدائها؟ ولماذا تنكر ضعف تمثيلها أو ضعف قدراتها أو ضعف تواصلها مع شعبها؟ أو لماذا لا تعترف بقصورها وتنتقد أحوالها، وتراجع تجربتها في السياسة والعسكرة، وتوضّخ لشعبها ما حصل؟ أي لماذا لا تبحث المعارضة في أسئلة من نوع أين أخطأت وأين أصابت وماهي المعوّقات، أو ماهي العوامل المؤثرة التي حالت دون قيامها بالمهمات المنوطة بها؟ وأخيراً ما الذي يتوجب عليها فعله كي لا تعيد انتاج التجربة ذاتها وكي تضع السوريين على سكة الخلاص، أو أقله على سكة توقف التدهور الحاصل؟

واضح من ذلك أن المعارضة أخطأت بتسرعها في الرد على ديمستورا، ولاسيما بخلطها بين الثورة والمعارضة، إذ الأولى كفكرة وكرؤيا وكحاجة وكمشروع، تتوقف أو تستمر تتراجع أو تتقدم، تخبو أو تشتعل، في حين أن الثانية، أي المعارضة، قد تنجح وقد تفشل، قد تنتصر وقد تنهزم، كما قد تنحرف أو قد تدخل في مساومات اضطرارية أو وفق مصالح المهيمنين عليها، أي لا يوجد شيء يقيني أو حتمي لا في الثورات ولا في المعارضات. وربما تجدر المصارحة هنا بأنه لا يوجد رابحون في الصراع السوري الطويل والمضني والمعقد، لا النظام ولا المعارضة، وأن الشعب السوري هو الذي يخسر نتيجة استمرار هذا الصراع، سيما على النحو الذي يجري عليه، وفي ظل التنكر الدولي لتضحيات السوريين ومآسيهم، ما يفترض بأن تكون المعارضة الطرف الأكثر تحسساً لأهوال الكارثة السورية التي تسبب بها النظام أساساً، وتسببت بها القوى الإرهابية، التي أضرّت بالشعب السوري وبثورته، والأطراف الخارجية التي تلاعبت بثورة السوريين.

على ذلك فإن ما يفترض ان تدركه أوساط المعارضة، أولاً، أنه لا يمكن الحديث عن ثورة في المطلق، أو إلى الأبد، فالثورات هي حالة انفجارية عفوية وقصيرة الأجل، لذا لا يمكن الحديث عن ثورة لسنوات، لأن هذا الوضع هو دلالة على حالة صراعية بين أغلبية الشعب والنظام (في الحالة السورية)، من دون أن يقلل ذلك من شرعيتها ونبل أهدافها، ولكنه يعطي التوصيف الصحيح (وطبعاً فإن هذا المعيار ينطبق على ما يسمى «الثورة الفلسطينية»). ثانياً، لا يمكن الحديث عن ثورة، بمعنى الكلمة، وهي محصورة في صراع مسلح فقط، تخوضه جماعات عسكرية مختلفة ومتضاربة الأهواء، من دون حراكات شعبية، سيما في وضع باتت فيه أغلبية الشعب أما مشردة أو محاصرة أو مغلوبة على أمرها، فذلك كان يصحّ في العام الأول للثورة، مثلاً، أما في ما بعد فقد اختلف الأمر. ثالثاً، إن إدراك المعارضة واقعها، وحدود إمكانياتها، وقدرات شعبها على التحمل، والمعطيات الدولية والإقليمية المؤثرة، وخوضها الصراع على هذا الأساس، هو الذي يمكّنها من تجنيب شعبها دفع الأثمان الباهظة، والحفاظ على قواها، وتلافي مزيد من المعارك الخاسرة. ولعل كل ذلك قد يعزز صدقيتها، ويسمح لها بمراكمة النقاط في صراع قد يمكن كسبه بإيجاد تقاطعات مع المصالح الدولية والإقليمية، وفي شكل تدريجي، بخاصة في ظل عدم استطاعة الفوز في الصراع بواسطة القوى الذاتية. رابعاً، في الصراع السوري، وغياب أغلبية الشعب عن معادلات الصراع، ووجود واقع خارجي لا يساعد بل ولا يسمح للمعارضة بالحسم، سيما في وضعها الراهن، على ما بيّنت التجربة، لا شيء يعيب المعارضة، أو ينتقص من ثوريتها، مراجعة طريقها، ورسم إستراتيجية جديدة لمواجهة التعقيدات والمداخلات الجديدة، لأن الإنكار أو المعاندة والبقاء على الطريق ذاتها بمثابة وصفة لمزيد من التردّي والتدهور، فضلاً عن أن ذلك ينمّ عن ضعف في المسؤولية السياسية والأخلاقية، لأن مهمة القيادة هي جلب الإنجازات بأقوم وأسرع ما يمكن، وليس مجرد التمسك بالشعارات أو الادعاءات التي لا يمكن إسنادها في الواقع.

وبكلام أكثر تحديداً، فإن المعارضة السورية مطالبة اليوم بتقديم إجابات واضحة، أو وضع إستراتيجية جديدة مغايرة للماضي، هذا إذا كان ثمة إستراتيجية، وذلك للتعاطي مع المتغيرات الحاصلة في الصراع السوري، وفي تموضعات القوى الدولية والإقليمية في هذا الصراع، وضمنها: أولاً، نشوء نوع من التوافق الروسي الأميركي، أو الروسي الإيراني التركي. ثانياً، إخراج «داعش» ولاحقاً «جبهة النصرة»، أو انحسار نفوذهما في الصراع السوري. ثالثاً، صعود مكانة «قوات سورية الديموقراطية»، وأخذها حيزاً مهما في خريطة القوى والجغرافيا السوريين، وطرح المسألة الكردية كمسألة وطنية سورية، بدلاً من تركها للنظام أو للتوظيفات والتجاذبات الخارجية. رابعاً، إخفاق الطريق العسكري لحل الصراع السوري، من جهة النظام والمعارضة، بسبب عوامل خارجية وداخلية، ومعها تحكم القوى الدولية (سيما الولايات المتحدة وروسيا)، بقرار الحل والصراع في سورية.

والمعنى أن مجرد قول المعارضة إن هدفها هو إسقاط النظام لم يعد كافياً، إذ إن أي سوري معارض يستطيع أن يقول مثل ذلك، لكن قيادة المعارضة مطلوب منها أكثر من مجرد التلويح ببضع كلمات، إذ عليها أن توضّح، أيضاً، كيف يمكن لها أن تسقط النظام، بأي قوى ووسائل وتحالفات، وأن توضح هل ستسقطه مرة واحدة، وهل تستطيع ذلك؟ وإذا كانت لاتستطيع فماهي إستراتيجيتها لمراكمة القوى وإسقاطه بالتدريج، أو للحفاظ على قواها وتطوير وضعها بانتظار اللحظة المناسبة؟ هل ستسقطه بواسطة القوة العسكرية أم بالوسائل السياسية أم بالاثنتين؟ وهل تملك ما يمكنها أن تفعل ذلك وحدها أم يلزمها تحالفات وخلق معطيات دولية مناسبة، ومن دون ارتهانات خارجية مضرّة؟ هل يتطلب الأمر شق جبهة النظام، واستقطاب فئات اخرى وتوسيع جبهتها والتصرف كممثل لكل السوريين أم بتكريس الانشقاق الأهلي في سورية وتقديم نفسها كممثل لجزء من السوريين، لا يهم أكانوا أقلية أم أكثرية؟ ثم ماذا عن واقع الأكراد، هل ستبقى تتعاطى معهم في العموميات، أم أنها ستقوم بتقديم مقاربة وطنية ديموقراطية تلبي فيها طموحات الأكراد للتعبير عن ذاتهم كشعب، له حقوق قومية وكأفراد مواطنين. وأخيراً ماهي رؤيتها لسورية المستقبل؟ أي هل ستبقى على مواقفها في محاباة خطابات جماعات المعارضة العسكرية الإسلامية المتطرفة، التي قدمت نموذجا سيئاً للسلطة في إدارتها «المناطق المحررة»، وفي نمط هيمنتها على السوريين في تلك المناطق، الأمر الذي أفاد النظام، أم ستعيد الاعتبار إلى المقاصد الأساسية للثورة باعتبارها ثورة ضد الاستبداد بكل أشكاله، ومن اجله الحرية والكرامة والمواطنة والديموقراطية، بحيث تكون سورية لكل السوريين، بغض النظر عن اية هوية دينية أو مذهبية أو اثنية أخرى.

هذه أسئلة يفترض بقيادة المعارضة أن تفكر فيها وأن تقدم الإجابات المناسبة عليها، بدل الاكتفاء بالتغطّي بهدف إسقاط النظام، لأن الوضع يستلزم حينها سؤالها ماذا فعلت حقاً لإسقاطه غير الكلام أو مجرد طرح الشعارات؟ ولماذا لم تسقطه حتى الآن؟

الآن، للتوضيح، أو منعاً للالتباس، فإن هذا الكلام يأخذ في اعتباره حجم القوى التي صبّت في خدمة استمرار نظام بشار الأسد، ولاسيما وقوف دولتين معه إلى أخر حد، هما روسيا وإيران، في مقابل الخذلان او الإنكار الذي لاقاه السوريون من قبل دول ما، سميت «أصدقاء الشعب السوري»، وكذلك الفارق في موازين القوى العسكرية، وضعف خبرات السوريين في السياسة، التي حرموا منها لنصف قرن. لذا فإن الحديث هنا يتعلق بدور العوامل الذاتية في تردي أحوال المعارضة، أي قصور الأوساط التي تصدرتها، وتحكمت بمساراتها وخطاباتها وأشكال عملها، وأخطاء المراهنات والارتهانات التي استندت إليها، مع التأكيد أن السياسة هي فعل بشر، وأنها لذلك تستوجب النقد، والتشجيع على التفكير النقدي.

اقرأ المزيد
١٣ سبتمبر ٢٠١٧
سياسة تركية مضطربة في الشمال السوري

على الرغم من تعزيز وجودها العسكري شمالي حلب، وإجرائها تفاهمات مع روسيا جعلتها جزءا رئيسا من أي ترتيبات تتعلق بالشمال الغربي لسورية، إلا أن تركيا ما تزال تعاني اضطرابا في سلوكها، سواء على مستوى تحقيق أهدافها في المناطق السورية التي تعتبر حيوية لها، أو على مستوى رؤيتها للحل السياسي في سورية.

مشكلة تركيا أنها بحاجة إلى عباءة دولية، روسية أو أميركية، لتمرير سياساتها في سورية، وهذا راجع إلى فشلها على مدار السنوات السابقة في صناعة قوى سورية سياسية/ عسكرية تستحيل إلى كتلة تاريخية قادرة على إحداث الفرق. وهكذا شهدنا ضعف الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة السورية، وعدم قدرته على أن يكون مرجعا رئيسا لكل القوى السياسية (لا تتحمل تركيا المسؤولية وحدها، لكنها تتحمل العبء الأكبر)، وهكذا شهدنا ضعف القوى العسكرية المدعومة من تركيا، وعدم قدرتها على فرض انتصارات مستدامة. وقد جعل هذا الواقع تركيا أضعف من أن تفرض شروطها على اللاعبين الدوليين الرئيسيين (روسيا/ أميركا)، وأضعف من أن تجترح مسارها الخاص في بيئةٍ تتشابك فيها قوى محلية وإقليمية ودولية.

صحيح أن التحالف مع روسيا سمح لها بالحصول على حصة جغرافية مهمة داخل سورية، ومكّنها من أن تكون ضمن الأطراف الخارجية الفاعلة في الملف السوري، لكن هذا التحالف اضطرّها في المقابل إلى تقديم تنازلات سياسية ـ عسكرية، أثرت على حضورها وتأثيرها في المجال السياسي والعسكري للمعارضة، ما جعلها أضعف أمام الروس، في حين يبدو هؤلاء أكثر قوةً، ليس بسبب إمكاناتها العسكرية فحسب، بل أيضا بسبب امتلاكها ناصية القرار العسكري داخل سورية، وقدرتها على ضبط إيقاع النظام والقوى التابعة له.

نجحت أنقرة في تحصيل مكتسبات عسكرية لا تُغفلها العين، لكنها فشلت في استكمال هذه النجاحات. منحها موقعها الجيوسياسي أفضليةً مقارنة بالدول الإقليمية الأخرى، غير أن الحضور الروسي ـ الأميركي الكثيف في الشمال السوري موضع مكانتها وقلص خياراتها، لتجد نفسها، في نهاية المطاف، في منزلةٍ بين المنزلتين، فتكون الحلول المقترحة وسطية، لا تحقق مصالحها، لكنها لا تهدّدها. هكذا كان الأمر في المناطق الجغرافية غرب "درع الفرات"، حيث انتشرت قوات روسية وقوات للنظام في تل رفعت ومحيطها، فهذه المنطقة، وفق القاموس الروسي ـ الأميركي، لا يمكن أن تكون تابعة للأتراك، كي لا تتحول الأخيرة قوة ضاربة في الشمال الغربي من سورية، ولا يمكن أن تشكل في المقابل تهديدا لتركيا.

ينطبق الأمر نفسه على محافظة إدلب، فموسكو وواشنطن ليستا بصدد منح المحافظة للأتراك، بسبب موقعها الجغرافي وثقلها الديمغرافي ووزنها العسكري، وليستا أيضا في وارد منح المحافظة لقوى معادية لتركيا. ولذلك، جاءت الحلول المقترحة حيال إدلب تلفيقيةً أكثر منها توافقيةً، كما هو الحال مع الطرح التركي بتشكيل هيئة إدارة محلية مدنية لمدينة إدلب وريفها. فهذا الطرح لا يستقيم مع هيئة تحرير الشام التي أعدت العدة منذ انقلابها على "أحرار الشام" للمواجهة العسكرية، وما طرح الهيئة مشروع "الإدارة المدنية للشمال السوري" إلا تمويه يتماثل تماما مع التمويه الذي أجرته جبهة النصرة، حين غيرت اسمها إلى "جبهة فتح الشام".

ومع ذلك، حقق المشروع التركي هدفا مهما بكشفه صراحةً أن محافظة إدلب لا يمكن اختزالها بهيئة تحرير الشام"، حيث هناك قوى عسكرية وطنية ذات طابع علماني، وهناك قوى مدنية قادرة على استلام إدارة المحافظة،ح وهناك قاعدة شعبية نابذة للهيئة، لكن هذه الحلول الوسطية تبقي التوتر التركي قائما في غياب الرؤية الواضحة الناجمة أصلا عن عدم حصول توافقات دولية حيال المناطق السورية المحاذية لتركيا. وليس معروفا إلى الآن ما هي المخططات التركية، فرئيس الوزراء، بن علي يلدريم، أعلن صراحة أنه لا توجد نيات لدى بلاده لشن هجوم عسكري على المحافظة، في وقت يجري التخطيط بين تركيا وإيران لاحتواء المخطط الأميركي ومنع "قوات سورية الديمقراطية (قسد) من دخول محافظة إدلب. وأمام هذا الوضع، يبدو السيناريو الأفضل الذي قد يرضي جميع الأطراف أن تعطى المحافظة للنظام السوري.

ومع أن موسكو رفضت، أخيرا، شن النظام هجوما على إدلب بدعم من إيران، إلا أنها قد تقبل به، خشية أن يصبح الشمال السوري بكامله بيد الولايات المتحدة، وقد تلقى في ذلك قبولا من تركيا التي تتحمل وجود النظام في إدلب، ولا تتحمل وجود وحدات حماية الشعب (الكردية) فيها. كما أن الولايات المتحدة التي دفعت الدول الغربية والإقليمية المعارضة للقبول بالأسد جزءا من الحل السياسي قد تقبل بوجود النظام في إدلب، وهو خيار أفضل بكثير من جعل المحافظة تحت الهيمنة التركية. لكن المشكلة التي تواجهها الإدارة الأميركية أن دخول النظام إلى إدلب يعني دخول القوات المدعومة من إيران، ذلك أن النظام غير قادر وحده على شن مثل هذه العملية. وقد تقبل واشنطن مشاركة القوى التابعة لإيران، شرط أن تخرج من المحافظة بعيد استكمال السيطرة عليها. ولكن هذا السيناريو يتطلب أيضا التفاهم مع أنقرة، بسبب وجود فصائل مسلحة مدعومة منها، داخل المحافظة وفي المناطق الحدودية داخل محافظة حلب، وقد يكون الثمن إعطاء تركيا مساحة جغرافية واسعة في حلب، أو توسيع منطقة "درع الفرات". وفي الحالتين، سيكون الحضور العسكري التركي جزءا من اللوحة المرسومة بأيد روسية.

اقرأ المزيد
١٣ سبتمبر ٢٠١٧
المعارضة السورية والسؤال عمّا بعد "داعش"

يستعيد النظام السوري سيطرته على دير الزور المدينة من "داعش"، في مشهدٍ مكرّر لما تم سابقاً في تدمر، وكأننا أمام حليفين يتبادلان مواقعهما، حيث تتطلب مصلحة النظام ذلك، وحيث استطاع التنظيم إلحاق الهزيمة بالجيش الحر، كما حدث في مناطق عديدة، في وقت فشل النظام ومليشياته الطائفية المساندة له في هذا الأمر، سواء في الرّقة أو دير الزور أو مخيم اليرموك ومنطقة جنوبي دمشق، أو بعض الثغور في ريف دمشق.

وتأتي معركة النظام المستعجلة لـ"تحرير" دير الزور في وقتٍ تتزاحم فيه حشود القوى التي تطالب بدخول هذه المعركة الحاسمة ضد التنظيم الإرهابي الذي سيطر على هذه المدينة قبل ثلاثة أعوام (يوليو/ تموز 2014)، بعد سقوط الرّقة في يد هذا التنظيم، والذي كان سيطر على الموصل في العراق قبل ذلك من دون معارك حقيقية تبرّر انهيار القوات العراقية وانسحابها المفاجئ، إضافة إلى الدور الكبير الذي لعبته المداخلات الدولية والإقليمية في ظهوره وتوسّع انتشاره، واحتلاله حيزاً كبيراً في مشهد الصراع في العراق وسورية بداية، ثم تحوّل هذا الصراع إلى مهمةٍ أساسيةٍ لكل القوى في المنطقة، في محاولة لتغيير مواقع الجبهات وأهدافها، من صراع بين المعارضة والنظام إلى صراع ضد الإرهاب.

لم تفطن المعارضة الإسلامية المسلحة إلى الأدوار المنوطة بهذا التنظيم الإرهابي، بل احتفت ببعض معاركه الوهمية لاحتلال مساحات من سورية، ووقفت مع من يساندها من المعارضة السياسية ضد التحالف الدولي وضرباته للتنظيم، من دون الالتفات إلى أن "داعش" كان يعمل ضمن الأراضي التي يسيطر عليها "الجيش الحر"، وليس النظام، كما أنه سيطر على المناطق الشعبية الحاضنة للثورة، لا سيما في محافظتي الرّقة ودير الزور، كما أسهم في تشويه الثورة السورية، وترويج دعاية النظام في أن الحرب في سورية هي ضد الإرهاب وضد الجماعات الدينية المتطرفة.

في حين كان النظام وحلفاؤه (إيران ومليشياتها خصوصاً) هم أكثر من استثمر في هذا التنظيم الذي لم يلق أي مواجهة منهم، طوال السنوات الثلاث الماضية، ما يلفت الأنظار إلى مشهد قافلة "الدواعش" الذين يجري نقلهم في حافلاتٍ مكيّفة، من الحدود اللبنانية إلى الشرق السوري، نتيجة اتفاق عقده حزب الله (بالوكالة عن إيران) معهم. ولعل هذا المشهد يكشف الأدوار التي لعبها "داعش" لمصلحة النظام من جهة وحزب الله من جهة أخرى، سواء على الأراضي السورية، حيث منحته فرصة السيطرة على القلمون الغربي الذي صمد طويلاً قبل أن "يحتله" داعش، كما قدمت لحزب الله فرصةً لبنانية فريدة لتظهيره "مخلصاً" للبنانيين من الوجود الداعشي على أراضيهم، وتخفيف أعداد اللاجئين السوريين، بعد موجة تحريضٍ من إعلام الحزب ضدهم، تضمنت كثيراً من اختلاق الأكاذيب حولهم بإظهارهم سبباً في "زعزعة الأمن والاقتصاد اللبنانيين".

وتأتي البيانات "الإنسانية" الصادرة عن الحزب المذكور وعن الخارجية الإيرانية، والتي تلقي باللائمة على الطرف الأميركي الذي يضيّق على القافلة، ويأخذ عليه تهديد "المدنيين"، الأمر الذي لم نشهد مثله في تعامل إيران وحزبها في حربهم ضد السوريين، وحتى في تعاملهم مع اللاجئين السوريين في لبنان، لتشير إلى أن الحزب وإيران اللذيْن لم يلتزما بالقرارات الدولية لفكّ الحصار عن المدن السورية يدافع، في هذه البيانات، عن مصلحته المستمرة في وجود هذا التنظيم وسلامة عناصره، ربما لأنهم سيكونون العون له في معركة الفصل الكبرى في ريف دير الزور وليس في المدينة.

من المفيد التذكير أن معركة دير الزور، وأقصد المناطق الحدودية التي تصل "سورية المفيدة" التي يسيطر عليها النظام بالهلال الشيعي، تعيدنا إلى وقائع معركة حلب التي أدت إلى رسم خريطة طريق جديدة لمسار المفاوضات في جنيف، بعد أن أدخلت مسار أستانة إلى واجهة العمل المسلح والسياسي في آن معاً، وفتحت الطريق أمام اتفاقات فوق تفاوضية (مناطق خفض التصعيد)، ما يعني أن إنهاء "داعش" من الرّقة ودير الزور مرحلة جديدة في الصراع على سورية، تشبه مرحلة إنهاء جبهة النصرة من حلب وحصارها داخل إدلب، ليبقى مصير هذه المدينة مرهوناً بجملة التطورات الجارية في المعارك الآن، وبالأدوار الجديدة لقوات سورية الديمقراطية المدعومة أميركياً، والتي كادت، مراتٍ، تقف على حافّة الحرب مع تركيا.

إنهاء معركة دير الزور اليوم، سواء المدينة أو أطرافها، لا يعني إنهاء الصراع السوري وإنما تجميد حدوده، أي عند خطوط التماس أو خطوط النفوذ الحالية، إلى حين يتم إقرار نوع وطريقة المعركة التي تنهي وجود القاعدة في إدلب (جبهة النصرة)، حيث لا تنفع الترقيعات التي تجريها المعارضة السياسية (حكومة الائتلاف)، ولا تقنع التحالف الدولي بأن هذا ليس إعادة تدوير لجبهة النصرة، تحت غطاء الفصائل المسلحة الأخرى.

من ناحية أخرى، يحيل التطور المذكور إلى خيارين، إدامة الصراع أو وضع حد له، تمهيداً للاتفاق على شكل سورية المستقبل، لكن هذا الخيار أو ذاك سيخضع، على الأغلب، لتوافق، أو عدم توافق، القوى الدولية والإقليمية وبخاصة الولايات المتحدة والاتحاد الروسي، من الناحيتين السياسية والأمنية، بالإضافة إلى أن أي توافق على شكل سورية في المستقبل سيخضع لتوجهات القوى الخارجية ومصالحها، أكثر بكثير مما سيخضع لمصالح السوريين وحقوقهم، خصوصاً في ظل ضعف المعارضة، وارتهاناتها لمصالح القوى الإقليمية، وتشتتها، والفجوة بينها وبين مجتمعات السوريين في الداخل والخارج.

ولكن، هل هناك مساحة لانتصار أهداف الثورة؟ هذا السؤال المهم لكل من يؤمن بأن الثورة عندما انطلقت لم تكن مسلحّة، ولم تكن مرتهنة لممولين، وكانت سورية، بكامل مساحتها، تحت حكم النظام، إجابة السؤال من فحوى السؤال نفسه: "نعم" في الثورات، يبقى الأمل قائماً بانتصار أهدافها، على عكس الحروب التي تعلن القوى انتصارها أو خسارتها، ولأن أهداف الثورة ومقاصدها ليست هي ما ارتهنت للأنظمة المختلفة، وفشل كيانات المعارضة في تحقيق ما يريده السوريون لا يعني فشل الثورة، وإنما تعثّرها، وهو ما يجب أن نعترف به، كي ننهض من جديد.

اقرأ المزيد
١٢ سبتمبر ٢٠١٧
في «خسارة» المعارضة وعجز النظام وفشل دي ميستورا

صدق المبعوث الدولي ستيفان دي ميستورا في توصيفه للوضع الحالي في سورية. سأل المعارضة «هل هي قادرة على أن تتحد وأن تكون واقعية لتدرك أنها لم تربح الحرب»؟ وسأل أيضاً «هل ستكون الحكومة السورية مستعدة للمفاوضات بعد تحرير دير الزور والرقة أم أنها ستكتفي برفع راية النصر»؟ والجواب على السؤالين يعرفه المبعوث الأممي جيداً. ولكن كان الأجدى به أن يتحلى بالقدر المطلوب من الديبلوماسية. أو أقله مراعاة التوقيت. ليس من الحكمة إعلان «هزيمة» المعارضة في يوم إدانة زملائه الأممين المحققين في جرائم الحرب قوات النظام السوري بأنها استخدمت الأسلحة الكيماوية 27 مرة خلال الحرب ومنها في خان شيخون. صحيح أن المعارضة لم تربح الحرب، لكنها لم تهزم ولم تنتهِ فعلاً. ولو سلمت بخسارتها النهائية لانتهت معها مهمته. ولعله نسي تصريحات سابقة له عن عدم جدية النظام في المفاوضات بل عرقلته العملية السياسية في الجولات السابقة. وهي بين أسباب أخرى دفعت سلفيه في المهمة كوفي أنان والأخضر الإبرايهيمي إلى التنحي. علماً أنه يعي جيداً أن النظام كان ولى من زمن لولا دعم حليفيه إيران وروسيا. وهذا باعترافهما معاً. ويعي أيضاً أن الأزمة السورية عسكرها النظام والجماعات المتطرفة التي يقال الكثير عن دوره في تصديرها من سجونه، وعن رعايته ورعاية بعض جيرانه لعناصرها سابقاً أيام الغزو الأميركي، وإثر اندلاع التظاهرات المطالبة بالحرية والمساواة والعدالة في بلاد الشام. لم يوفق المبعوث الدولي، حتى وإن لطّف مواقفه بالإشارة إلى «أن لا أحد يمكنه القول إنه ربح الحرب».

وصدق «الائتلاف الوطني المعارض» في الرد على المبعوث الدولي بأن تصريحاته «هزيمة للوساطة الأممية»، وأن «عملية جنيف بهذا الشكل تفقد صدقيتها». لكن قادة المعارضة الذين لم يعجبوا بدي ميستورا منذ البداية، يأخذون عليه أنه ينسق خطواته وآراءه بما يتماهى مع الموقف الروسي إلى حد ما، إنما بغطاء أممي. لذلك كان عليهم أن يتوقعوا منه ما قال، فلا يصابون بـ «الصدمة» من مواقفه الأخيرة. وهو ليس الوحيد بين من يدعوهم إلى التعقل أو الواقعية. فهو يقرأ جيداً مثلما هم يقرأون أن «أصدقاءهم» سلموا لموسكو بدورها الأول في إدارة الأزمة السورية، وعلى رأسهم الولايات المتحدة. ولا يحتاج الرجل إذاً إلى مراعاة المشاعر أو التمسك بلغة ديبلوماسية من أولى صفات الوسطاء أو المبعوثين. منذ ثلاث سنوات وهو يتابع تنفيذ رؤية روسيا للتسوية. وما دام هناك شبه إجماع إقليمي ودولي على هذه الرؤية فإن من مصلحته الشخصية ربما أن يسير خلفها لعله يكون هو «الفائز» بهذه الحرب حيث فشل سلفاه! ولكن من حق المعارضة التعبير عن استيائها. فكيف يمكن مبعوثاً دولياً أن يدعو طرفاً في الحرب عدّه «مهزوماً» إلى مفاوضات سليمة وجدية وعادلة؟ كأنه يدعو ببساطة إلى تقديم تنازلات. بالطبع لا يشكف دي ميستورا جديداً بدعوة هذه المعارضة إلى وحدة تبدو مستحيلة لأسباب تتعلق بمكوناتها، مثلما تتعلق أكثر برعاتها في الخارج. وهو يدرك مثلها السبب وراء تشتتها. كان حرياً به أن يتحدث عن التغيير الذي نادى به بيان جنيف الأول (حزيران/ يونيو 2012) بدل أن يركب عربة مشروع الكرملين الذي لم يفعل شيئاً منذ دفع قواته إلى الميدان سوى طي صفحة هذا البيان، والعمل على إعادة تأهيل النظام. ألا يقرأ ما يكتب عن محنة سورية التي هجر نصف سكانها إلى الداخل والخارج ودمرت مدنها ودساكرها فضلاً عن مئات ألوف الضحايا فيما الدول المسؤولة عن حماية المدنيين من بطش حكامهم لا ترى ولا تسمع!

صحيح أن المعارضة لم تربح الحرب، ولن تربحها في ظل موازين القوى الحالي. إذ لا تقتصر عناصر هذا الميزان على حركة الميدان فقط، بل في صلبها شبكة العلاقات التي ينسجها كل من المعارضة والنظام. الفصائل التي حملت السلاح بعيداً من «داعش» و «النصرة» توزعت مجموعات بالمئات بل بالآلاف، وهذا ما سهل على اللاعبين الخارجيين استقطابها ثم الإمساك بقرارها. ولا يصح بعد هذا أن تلومهم بالتخلي عنها. قوات «جبهة الجنوب» التي قارب عديدها أربعين ألفاً تمتعوا برعاية أردنية وعربية وأميركية. ولم يصدر عنهم في السنتين الأخيرتين أي حراك. لذلك لم يعد لها أي دور قتالي والزمن زمن إقامة مناطق خفض توتر، سوى اللحاق بالحرب على «تنظيم الدولة» إلى جانب «قوات سورية الديموقراطية» وقيادتها الكردية، أو المساهمة في توفير أسباب الهدنة... لعلها تنتظر دوراً في المستقبل كما كان حالها في الماضي القريب. بل إن قوات النظام هي التي تتقدم للإمساك بالحدود مع إسرائيل والأردن. وعمان تعمل على إعادة بناء العلاقات مع دمشق لأسباب كثيرة داخلية معروفة وخارجية أولها هذا التردد الأميركي من أيام إدارة الرئيس باراك أوباما، ثم إهمال خلفه دونالد ترامب الذي سلم الراية لروسيا، وأوقف برنامج المساعدات العسكرية والمالية عن الفصائل. همّ البيت الأبيض فقط هزيمة «داعش». فيما سياسته لتطويق نفوذ إيران لم يعد لها أي معنى ما دام أن النظام وحليفه الإيراني يتقدمان كل يوم لملء الفراغ الذي يخلفه تقلص جغرافيا المعارضة المعتدلة من جهة وتآكل خريطة «دولة الخلافة». ولا شك في أن استكمال تحرير دير الزور سيتيح لطهران تعزيز «طريقها» إلى ساحل المتوسط.

جميع الرعاة الإقليميين والدوليين للمعارضة يدعونها، كما فعل المبعوث الدولي إلى الواقعية، ويلحون على وفد موحد إلى مفاوضات جنيف قريباً. «الائتلاف الوطني» يبدو أعزل ومعزولاً لا حيلة له ولا قوة. ويتعذر على «الهيئة العليا للمفاوضات» أن تصل إلى تصور واحد مع «منصة القاهرة» و «منصة موسكو». وإذا كانت الأولى ترغب في تأجيل بند رحيل الرئيس بشار الأسد أو حرمانه من أي دور في «المرحلة الانتقالية»، فإن الثانية ترفض البحث في هذا البند نهائياً، وتتحرك تحت عباءة روسيا وتبع رغبتها في بقاء رأس النظام حتى نهاية ولايته في 2021 وتأكيد حقه في الترشح لأي انتخابات رئاسية مقبلة قبل هذا التاريخ أو بعده. ولا ترى حتى ضرورة لإقرار دستور جديد. بل تدعو إلى مواصلة العمل بالدستور الذي أقره النظام في 2012 إثر استفتاء عام مثير لم تشارك فيه المعارضة. وتدرك الهيئة أن رحيل الأسد لم يعد على أجندة أي من «أصدقاء الشعب السوري». الإدارة الأميركية لا يعنيها شيء سوى دحر «داعش». ومثلها أوروبا التي تقر بالعجز عن ردع النظام وإن استخدم الأسلحة المحرمة. وفي المقدمة فرنسا التي كرر وزير خارجيتها قبل أيام ما كان رئيسه ايمانويل ماكرون قاله من أشهر أن بلاده لا تضع رحيل الأسد شرطاً مسبقاً لإطلاق عملية سياسية وبدء المرحلة الانتقالية. ولا حاجة إلى تعداد المواقف التي تبدلت جذرياً منذ التدخل العسكري الروسي. ولعل أبرزها موقف تركيا التي لم يعد يعنيها شيء من الساحة السورية سوى حصار أو قتال الكرد ومنعهم من الفوز بحكم ذاتي. هذا الهاجس المقيم يدفعها كل يوم بعيداً من شبكة علاقاتها التاريخية القديمة مع الولايات المتحدة الداعم الرئيس للكرد. ويدفعها إلى تمتين تحالفها مع روسيا وإيران.

هذا ما يعرفه دي ميستورا عن وضع المعارضة. ويعرف أكثر أن النظام السوري لا يملك قراره وإن قدم إليه حليفاه انتصارات وأعادا سلطته إلى أراضٍ واسعة. فهو عاجز اليوم وغداً عن الحد من هيمنة روسيا وإيران. ويجب ألا يغيب عن باله كوسيط دولي أن ما يهم موسكو حالياً بالتفاهم مع اللاعبين الآخرين هو التهدئة ووقف الحرب، لأنها كما قال هو نفسه، تحتاج إلى استراتيجية خروج من هذا المستنقع. أما ما يشاع عن «وعودها» بإخراج كل الميليشيات الحليفة لإيران من سورية فيبقى مجرد آمال في الظروف الحالية. تغلغل طهران عميق في قطاعات أساسية في بلاد الشام، من الأمن إلى الاقتصاد والمجتمع والثروة الوطنية نفطاً وغير نفط. ولا يمكن قوة أخرى مواجهتها ما لم تتبدل خريطة التحالفات في الداخل والخارج، وما لم تستجب إدارة الرئيس ترامب دعوات أميركية داخلية إلى ترجمة سياسة مواجهة الجمهورية الإسلامية في سورية والمنطقة عموماً، حفاظاً على ما بقي من مصالح للولايات المتحدة في الإقليم.

صدق المبعوث الدولي. لم تربح المعارضة الحرب، لكنها ستبقى في ثنايا أي تسوية تتجاهل أسباب انفجار الأزمة منذ ست سنوات. خسرت الحرب إلى حين لكنها لم تخسر القضية. وكذلك النظام انتهى من سنوات، ولم ولن يربح، وإن أعلن الأسد قبل أيام أن علامات النصر واضحة في ظل تقدم المعارك. وصدقت نظرة المعارضة إلى دي ميستورا. فهو أيضاً فشل ولم ينجح بعد ثلاث سنوات. وأسباب فشله تكاد تكون هي نفسها أسباب فشلها: تخلي المجتمع الدولي عن سورية وشعبها وتقدم روسيا وإيران إلى ملء الفراغ الأميركي... وعوامل أخرى كثيرة.

اقرأ المزيد
١٢ سبتمبر ٢٠١٧
تصريحات دي ميستورا.. واقعية أم انحياز للنظام؟

أثارت تصريحات مبعوث الأمم المتحدة إلى سورية، ستيفان دي ميستورا، أخيرا، وطالب فيها المعارضة السورية بالواقعية والإقرار بالهزيمة أمام النظام الأسدي، سخط معظم أوساط المعارضة واستنكارها، وخصوصا الهيئة العليا للتفاوض التي اعتبرها منسقها العام، رياض حجاب، تصريحاتٍ غير مسؤولة، وتعكس سقوط الوساطة الأممية ممثلة بشخص دي ميستورا، فيما اعتبر كبير مفاوضي وفد المعارضة إلى جنيف، محمد صبرا، أن دي ميستورا لم يعد وسيطاً مقبولاً، لأنه فقد حياده، وتكلم كجنرال روسي.

واللافت أن تصريحات دي ميستورا تزامنت مع إعلان لجنة التحقيق الأممية أن نظام الأسد قام بهجمات بالأسلحة الكيميائية سبعا وعشرين مرة خلال حربه الشاملة ضد الحاضنة الاجتماعية للثورة السورية، واستخدم غاز السارين في هجومه على بلدة خان شيخون في أبريل/ نيسان الماضي. ولذلك اعتبرت أوساط المعارضة السورية التصريحات أنها جاءت للتغطية على جرائم الحرب التي ارتكبها نظام الأسد، حسب التقرير الأممي.

ولعل الكلام عن الواقعية يذكّرنا بأن دي ميستورا لم يطالب نظام الأسد بالواقعية، والإقرار بخسارة الحرب قبيل التدخل العسكري الروسي المباشر، حين فقد النظام السيطرة على معظم سورية، وكان يسيطر على أقل من ربع مساحتها خلال النصف الثاني من العام 2015، حيث أظهرت الوقائع الميدانية والعسكرية تقدماً كبيراً للمعارضة السورية المسلحة، وتراجع قوات النظام في المناطق التي كانت تسيطر عليها، بعد أن سيطرت فصائل الجبهة الجنوبية على معظم محافظة درعا، بما فيها المعابر الحدودية مع الأردن. وحدث الأمر نفسه في جبهة إدلب وريفها، حيث تم دحر قوات النظام وإخراجها من مدينة إدلب وما حولها، ثم سيطرت المعارضة على مدينة جسر الشغور، وهو أمر اعترف به وزير الخارجية الروسي، سيرغي لافروف، حين قال إنه لولا التدخل الروسي لسقط النظام خلال أسبوع أو أسبوعين.

ولا شك في أن دي ميستورا يريد أن يستثمر، في تصريحاته، ما تشهده القضية السورية من تطورات ومتغيرات خطيرة في أيامنا هذه، في ظل انعدام أي أفق حقيقي لحل سياسي يحقق طموحات الشعب السوري في الحرية والخلاص من الاستبداد، وتحول الصراع في سورية وعليها إلى تقاسم نفوذ بين القوى الدولية والإقليمية التي تخوض في الدم السوري، وتضع مصالحها القومية والأمنية فوق أي اعتبار، وباتت تنظر إلى القضية السورية وفق ما تراه روسيا نزاعاً أهلياً، يحتاج إلى تبريد الجبهات، بغية تهدئة الأوضاع، عبر عقد مصالحات واتفاقات وقف إطلاق النار، وتقسيم سورية إلى مناطق خفض للتصعيد وأخرى مستثناة منه، إلى جانب مناطق السيطرة والنفوذ الأميركي والروسي والإيراني وسواها، وفق ما تقوم به هذه القوى، وتحاول تثبيته على الأراضي السورية.

والخطير في الأمر أن دي ميستورا ينحاز إلى ما يقوم به الروس والأميركيون والإيرانيون، والذي يهدف إلى إعادة إنتاج نظام الأسد، وإبقائه جاثماً من جديد على صدور السوريين. لذلك أراد من تصريحاته إيصال رسالة إلى المعارضة السورية، لكي تذعن لما تتطلبه المتغيرات والتطورات الجديدة، وإلزامها بمخرجات هذه التطورات ومفاعيلها.

ولعله يُراد من قضية توحيد المعارضة التي يركز عليها دي ميستورا إدخال أعضاء منصتي موسكو والقاهرة إلى الهيئة العليا للتفاوض، بغية تطويع المعارضة السورية وفق سياسات الساسة الروس والأميركيين ورغباتهم وتوجهاتهم، كي تقبل بالأسد خلال المرحلة التفاوضية وما بعدها، وهو أمر يرفضه السوريين الذين خرجوا طلباً للحرية واسترجاع الكرامة والخلاص من الاستبداد، وليس لكي يحققوا نصراً عسكريا، حسبما يزعم دي ميستورا الذي لا تغيب عنه محاولة استغلال ما جرى في الجولة الرابعة من جولات جنيف التفاوضية، التي لم تكن جولات تفاوض بالمعنى الحقيقي للتفاوض، بقدر ما كانت مشاورات ومباحثات بينه وبين مختلف الوفود، حيث استغل دي ميستورا هفوة قبول الوفد التفاوضي اقتراحات سلاله الأربع التي أعطى فيها الأولوية لمكافحة الإرهاب، نزولاً عند رغبة وفد النظام والروس، ثم راح يطالب بوفد تفاوضي موحد، فرضح وفد الهيئة العليا، وقبل الذهاب إلى الجلسة الافتتاحية مع وفد منصتي القاهرة وموسكو في قاعة واحدة مع وفد النظام، الأمر الذي اعتبره دي ميستورا إنجازاً كبيراً، وراح يطالب بتشكيل وفد موحد للمعارضة بمنصاتها الثلاث، وزاود الساسة عليه بضرورة ضم ممثلين عن حزب الاتحاد الديمقراطي (الكردي)، صاحب المشاريع الانفصالية عن سورية.

مشكلة دي ميستورا أنه يتصرف كموظف أممي، يريد الحفاظ على موقعه، ولا يعنيه كثيراً سيلان الدم السوري، أو تحطيم الثورة السورية والضرب بطموحات شعبها في التغيير السياسي، بل تعنيه مخططات الدول الخائضة في الدم السوري التي ركزت خلال السنوات السبع الماضية على إدارة الملف السوري، بوصفه أزمةً يجب تجنب إرهاصاتها الخارجية. لذلك حين بات الروس أصحاب كلمة قوية في هذه الأزمة، استدار نحوهم طالباً رضاهم، وبات ينظر مثلهم إلى الثورة السورية أنها مجرد نزاع داخلي، أهلي طائفي، وذلك بعد أن مكّنت الآلة العسكرية الروسية النظام من إعادة السيطرة على مناطق عديدة في سورية، وتقاسمت موسكو النفوذ مع واشنطن وطهران، وها هي تقوم بمحاولات لإعادة فرض الأسد على السوريين، ثم جاء الدور على إعادة تطويع المعارضة، لكي توافق على هذه العملية، خصوصا وأنها تحضر لعقد اجتماع الرياض 2، وستكون كل الاحتمالات مفتوحة عند انعقاده المرتقب.

ويبقى أن المسألة السورية هي مسألة شعب يتطلع إلى الحرية وبناء سورية جديدة، لا مكان فيها لحكم آل الأسد، وليست كما يصورها دي ميستورا في خسارة المعارضة عسكرياً أو انتصار معسكر النظام وحلفائه، وستبقى كذلك إلى أن يحقق هذا الشعب طموحاته.

اقرأ المزيد
١٢ سبتمبر ٢٠١٧
كرة قدم السياسة

يطيب الحديث، في الأيام الأخيرة، وهي تشهد تصفيات كأس العالم لكرة القدم، والمؤهّلة لمونديال موسكو في العام المقبل، عن ضرورة الفصل بين السياسة والرياضة عموماً، وبينها وبين كرة القدم خصوصاً.

تُحرّض هذه الحالة على استرجاع علمي مُبسّط للعلاقة الحميمة القائمة بين المشاريع السياسية الداخلية، كما الرهانات الجيوسياسية الإقليمية والدولية من جهة وكرة القدم من جهة أخرى. حيث تحفل أدبيات العلوم السياسية والأنثروبولوجيا، الغربية عموماً والفرنسية خصوصاً، بكتابات موسّعة في هذا الحقل، تجمع في جنباتها كباراً، كما بيير بورديو وكتابه الأساس في هذا الموضوع "قضايا كرة القدم"، والصادر سنة 1994.

وفي علم الاجتماع الغربي، يُجمع المختصون على أن النادي الرياضي يُشكّل ساحة مواجهة بين النخب، باعتبارها مدخلاً للوصول إلى السلطة، فكما بين فرق المدينة الواحدة الأوروبية التي تُمثّل مصالح متعارضة بين يسار ويمين، أو بين كاثوليك وعلمانيين، فإن الحالة الإسبانية تُعزّز الحالة المناطقية التي تتمثّل بالمطالبات الانفصالية، كما فريق برشلونة الكاتالوني أو أتليتيكو بيلباو الباسكي. وتوضح التباينات الطبقية التي تضع فريق ريال مدريد القريب من حقل الأعمال واليمين التقليدي، في مواجه أتليتيكو مدريد القريب من الحقل العمالي واليسار. ومن جهة أخرى، يتوضّح في المشهد الأيرلندي الشمالي الانقسام الديني، حيث فريق بلفاست محصور بأعضاء المذهب البروتستانتي، ويقابله من الطرف الكاثوليكي فريق كليفتونفيل.

من جهةٍ أخرى، يمكن أن تُشكّل هذه اللعبة عامل اندماج رمزي بين مكونات بلدٍ ما، كما حصل ذلك غداة الفوز الفرنسي بكأس العالم سنة 1998. وبسبب أهمية هذه اللعبة إعلامياً على الأقل، فقد سعى القوميون، من كل الأصناف، دائماً لاستغلالها. ولم يقتصد أي نظام شمولي، أو تسلطي، في استخدامها وسيلة دعاية فعّالة في البروباغندا الرسمية. ففي زمن الفاشية الإيطالية التي كانت تنظر بعين الريبة إلى اللعبة، على أساس أنها مستوردة من بريطانيا، فقد اعتبر موسوليني أعضاء الفريق الوطني "جنودا من أجل قضية الأمة". وكما الفاشيين، فعلى الرغم من عدم اهتمامهم الذاتي بلعبة كرة القدم، إلا أن القادة السوفييت استغلوا اللعبة أيضاً، اعتباراً من خمسينيات القرن الماضي، بعد أن وضع الجيش والشرطة والمخابرات أيديهم على الفرق الرئيسية في العاصمة موسكو. أما في يوغسلافيا السابقة، فاستعملت اللعبة وسيلة لتعزيز القومية المتطرفة من خلال سيطرة أجهزة أمنية وعسكرية على الفرق الرئيسية. تم استغلال كرة القدم دائماً في الحقل السياسي، فكما كان منتخب إيطاليا في الثلاثينيات هو السفير المميز للفاشية الإيطالية، فقد لعب المنتخب الأرجنتيني دوراً تلميعياً لعسكر الأرجنتين الدمويين، عندما أحرز كأس العالم سنة 1978. وفي سنة 1969، أدت مباراة كرة قدم إلى حرب بين السلفادور وهندوراس أوقعت ألفي قتيل، بعد أن غزت قوات السلفادور دولة هندوراس. كما وقعت مناوشاتٌ حدودية بعد المباراة النهائية لكأس العالم التي جمعت أوروغواي والأرجنتين سنة 1930.

عربياً، استخدمت جبهة التحرير الوطني الجزائرية لعبة كرة القدم أيضاً سلاحا فعالا في حرب التحرير، حيث كان الفريق المُشَكّل منها سفيراً فعالاً للقضية الوطنية، على الرغم من أن الاتحاد الدولي لكرة القدم (الفيفا) منع الفرق الأخرى من مواجهة هذا الفريق. كما ساعدت كرة القدم كوسيط دبلوماسي بين الدول، كما حصل في كأس العالم في فرنسا سنة 1998 حيث جمعت إيران مع أميركا، أو في عام 2002، حيث نظم الإخوة الأعداء في اليابان وكوريا الجنوبية كأس العالم بشكل مشترك على أرضيهما. وفي عامي 2008 و2009، استغل الأتراك والأرمينيون المباريات التأهيلية لكاس العالم التي جمعت منتخبي بلديهما وسيلة للتقارب الدبلوماسي. وقد قادت "دبلوماسية كرة القدم" هذه البلدين إلى توقيع اتفاقية تاريخية بينهما قبل مباراة الإياب في أكتوبر/ تشرين الأول 2009.

وفي ظل الأنظمة الاستبدادية العربية المتنوعة، كانت الملاعب، وما تزال، من الأماكن النادرة التي يمكن للاحتجاجات السياسية أن تعبر عن نفسها. كما أن تشجيع هذا الفريق أو ذاك كان يُعطي لصاحبه هوية سياسية. كما أن أناشيد المشجعين، على الرغم من تقيّتها، فقد كانت تحمل رسائل سياسية احتجاجية واضحة. ولمن يعرف الملاعب السورية، فهو يذكر تماما حمولة هذه الأناشيد والشتائم الجماعية الموجهة لهذا الفريق أو ذاك. وفي الحقيقة، لما تمثله الفرق من حمولة سياسية أو أمنية. كما أن شتم الحكم على أرض الملعب كان متنفساً فعالاً لشتم الحاكم مواربة. والمتابعة للحالة المصرية في ظل الدكتاتورية الأمنية ـ العسكرية القائمة تُتيح التعرّف بجلاء على الثقل السياسي الذي تمارسه اللعبة في المجتمع.

خلاصة القول، الفصل بين هذه الرياضة (على الأقل) والسياسة، والدعوة إلى تحريرها العاطفي من هذه الحمولة، وحصر الاهتمام بها بالشأن الرياضي المحض، يمكن اعتباره شيئاً من المثالية المشتهاة.

المستبد كما الثائرين عليه، الدول كما الجماعات، الأحزاب كما الطوائف، وضعت في كرة القدم ثقلها الرمزي والمادي والبشري، فالنظر المجرد لها ينتقص من الذكاء البشري.

يبرّر معتقل سابق في سجن تدمر السوري كرهه كرة القدم، لأنه كان يسمع من بعيد، وهو في زنزانته تحت التعذيب، المذيع الرياضي من بعيد يصرخ مبتهجاً: هدف لسورية!

اقرأ المزيد

مقالات

عرض المزيد >
● مقالات رأي
٢٤ يناير ٢٠٢٥
دور الإعلام في محاربة الإفلات من العقاب في سوريا
فضل عبد الغني - مؤسس ومدير الشبكة السورية لحقوق الإنسان
● مقالات رأي
١٦ يناير ٢٠٢٥
من "الجـ ـولاني" إلى "الشرع" .. تحوّلاتٌ كثيرة وقائدٌ واحد
أحمد أبازيد كاتب سوري
● مقالات رأي
٩ يناير ٢٠٢٥
في معركة الكلمة والهوية ... فكرة "الناشط الإعلامي الثوري" في مواجهة "المــكوعيـن"
Ahmed Elreslan (أحمد نور)
● مقالات رأي
٨ يناير ٢٠٢٥
عن «الشرعية» في مرحلة التحول السوري إعادة تشكيل السلطة في مرحلة ما بعد الأسد
مقال بقلم: نور الخطيب
● مقالات رأي
٨ ديسمبر ٢٠٢٤
لم يكن حلماً بل هدفاً راسخاً .. ثورتنا مستمرة لصون مكتسباتها وبناء سوريا الحرة
Ahmed Elreslan  (أحمد نور)
● مقالات رأي
٦ ديسمبر ٢٠٢٤
حتى لاتضيع مكاسب ثورتنا ... رسالتي إلى أحرار سوريا عامة 
Ahmed Elreslan  (أحمد نور)
● مقالات رأي
١٣ سبتمبر ٢٠٢٤
"إدلب الخضراء"... "ثورة لكل السوريين" بكل أطيافهم لا مشاريع "أحمد زيدان" الإقصائية
ولاء زيدان