مقالات مقالات رأي بحوث ودراسات كتاب الثورة
١٦ سبتمبر ٢٠١٧
بوتين الإمبراطور المؤقت لسورية

لم تُعجب إسرائيل باتفاق خفض التوتر الذي أبرمته القوى المعنية بسورية في جنوب غرب سورية في السابع من يوليو/ تموز الماضي، والذي ضمنت تنفيذه الشرطة العسكرية الروسية. فهو برأيها لا يبعد كفاية مليشيات إيران عن حدودها، ويحدّ من "مجالها الحيوي"، ومن حق تقريرها في شؤون سورية. حاولت مع الولايات المتحدة إنتزاع شيء ما، لكنها لم تفلح، ففهمت، واتجهت نحو موسكو، فكانت الزيارة السادسة لنتنياهو إلى روسيا قبل أيام، ولقائه بالرئيس فلاديمير بوتين، حيث ظفرت بالسماح لها، وهي في خضمّ مناوراتها العسكرية، بالقيام بضربة جوية، تتجنّب الصدام المباشر مع الروس، المسيطرين على هذا الجو. فكانت الضربة، في 7 سبتمبر/ أيلول الجاري، على موقع حكومي سوري بالقرب من مصياف في محافظة حماه، وهو مركز بحوث علمية لصناعة السلاح الكيميائي. لذلك ربما، لم ينبسْ الروس ببنت شفة. صمتوا وكأنهم يردّدون لأنفسهم، مع بشار الأسد، بأنهم سوف يرّدون "في المكان والزمان المناسبَين". وذلك خلافاً للطيران التركي، مثلاً، الذي فرض عليه الروس، وعلناً، حظراً جوياً، تحت طائلة العقوبات، منذ انخراطهم رسمياً في الحرب السورية في خريف 2015. أو العكس، الضربة الأميركية على مطار الشعيرات السوري في إبريل/ نيسان الماضي، وكان بليغاً صمت أبو الهول الروسي عليها.

اعتراف إسرائيل بقيامها بالغارة، وتعليق قادتها وإعلامييها أنهم يستهدفون موقعاً "حكومياً"، وكونها رسالة مفادها بأن إسرائيل لن تتردّد في زعزعة "الهدنة السورية"، وأن الضربة منعطف يتميز عن الضربات المائة السابقة ضد شاحنات حزب الله... وغيرها من توضيحات القادة العسكريين الإسرائيليين، كلها تكشف عن مشيئة إسرائيلية معلنة: إسرائيل تعتبر نفسها ليست أقل من غيرها من القوى الخائضة للحروب والهدَن في سورية. لم تكن تتمنى سقوط بشار، لكنها أيضاً لم تكن ترغب باقتراب منافسيها، عناصر الحرس الثوري الإيراني، والمليشيات التابعة له، إلى حدودها الجنوبية. وهي تتصور أن مسافة العشرين كلم التي حدّدتها الهدنة لإبعاد هذه القوات ليست كافية. تريدها أكبر. وحصلت منذ يومين على ضعفها، أي أربعين كلم. أي أن إسرائيل مثل غيرها ممن يتهافتون على سورية، تريد لنفسها حصة في قرارها. لا تركيا، ولا إيران، ولا دول الخليج، ولا أميركا، يستحقون ما لا تستحقه إسرائيل. وهي لم تقصد بشار "المنتصر"، إنما اتجهت علناً إلى روسيا، سلّمت لها بسيطرتها على الميدان، مطمئنة إلى اعترافها بإسرائيل منذ تأسيسها، إلى المليون روسي إسرائيلي مقيم في إسرائيل، وإلى حسابات روسيا الحكيمة في كيفية الموازنة بين مختلف الأطراف التي يسيل لعابها على الدمار السوري.

نحن أيضاً، أبناء هذه المنطقة، مثلما نجافي إسرائيل، لا نريد مليشيات إيرانية تعبث دماراً وتمزيقاً في نسيجنا. هل يعني ذلك أننا نتعامل مع العدو؟ أو أننا مطبِّعون؟ أو خونة، ناكرو الانتصارات الساطعة لمحور الممانعة؟ هل يعني ذلك أن الضربة الإسرائيلية قبل أيام، وما سبقها من ضربات، دليل على صحة الموقف الممانع؟ على أساس المعادلة البسيطة القائلة إن الوقوف ضد الطموحات الإيرانية هو تآخٍ مع إسرائيل؟

مثل الروس، سكت "الممانعون" أيضاً عن الضربة، لكن إعلامهم أطلق العنان لثرثراته المعهودة. فعدنا معه إلى الأسطوانة المكسورة إيّاها: الضربة الإسرائيلية أثبتت بالملموس انتصار هذا المحور. والدليل، المعلوم أيضاً، أن العدو يستهدفه. والموازنة البسيطة الأخرى: إذا ضربتنا إسرائيل فهذا دليل على صحة وطنيتنا. ممانع هزلي أخذ على إسرائيل استخدامها "القوة" في محاولاتها تلبية تطلعاتها الاستراتيجية هذه.. وكأن أسلحة محوره كانت ترمي السوريين بالورود! من بشار إلى بوتين إلى إيران ومليشياتها، إلى "داعش" والتحالف الدولي الذي "يحاربه"... جميعهم شمّروا عن سواعدهم في المقْتلة السورية.

الإيرانيون بالذات، برعوا في توجيه مليشياتهم، بحيث أنهم تمكّنوا من إيجاد ممرّ برّي يصل طهران بالعراق وسورية ولبنان، فباتوا يتنقلون بين هذه البلدان من دون تأشيرة دخول. متسبّبين بمفارقة تكشف "نجاح" استعمالهم للقضية الفلسطينية التي لم يعودوا في حاجة إليها. فهذا الممرّ البرّي، وهو من وجوه "الانتصار" الإيراني، يسمح للإيراني بالتجول بحرية في كل هذه البلدان، لكنه يمنعه عن الفلسطيني، وعن عرب آخرين. أكثر من ذلك: في الوقت الذي يصرخ المحور الإيراني بانتصاراته التي بناها على أكتاف فلسطين، تتراجع قضيتها حثيثاً نحو الكوارث الفادحة: مزيد من الضم لأراضي الضفة الغربية والقدس (تقرير الصليب الأحمر الدولي الذي يبدو أكثر اهتماماً بالقضية ممن أهلكوها "انتصارات"). مزيد من الاستحالة لإنجاز أضعف الإيمان، أي حل الدولتين. مزيد من التراجع في أوضاع الفلسطينيين الحياتية، في إسرائيل وسورية ولبنان.. وربما في أنحاء أخرى من المعمورة.

تشي الضربة الإسرائيلية بأن الزمن الممانع صار مفوّتاً، وبأن عليه أن يغيّر خطابه المعلن، على الأقل، حفاظاً على رصانة مناصريه، خصوصاً الإعلاميين منهم. يمكنهم أن يكفّوا عن أنفسهم شرّ الشيخوخة الفكرية بأن ينظروا جيداً إلى المشهد السوري: الروس في سورية هم المسيطرون عسكرياً، ودبلوماسياً. الأميركيون، الأقوى عسكرياً من الروس، متذبذبون، لا يعوّل عليهم؛ ضعفهم أو تقهقرهم، أو إنشدادهم نحو مراكز اهتمام أخرى، أو ارتباك إدارتهم الجديدة، برئيس أهوج، أعصابه تسبق عقله.. ولكن مع ذلك يملكون، هم أيضاً، قوى في السماء وعلى الأرض، بالتنسيق مع الروس، أو تلزيمهم سورية... كل هذا ترك فراغاً "قيادياً" ملأه الروس على أفضل الوجوه. سلاح الإيرانيين أقل من سلاح الروس، لكنهم أكثر وجوداً على الأرض. اتفاقية حلب في الشتاء الماضي ثبّتت أقدامهم على الأرض. حاول الروس التفرّد بتنفيذها بإخراج المسلحين منها، فعطلته المليشيات الإيرانية؛ وفهم الروس الدرس. ولكن هناك أيضاً تركيا، في الشمال. ودول الخليج لدى بعض الفصائل المبعثرة. ولدى جميعهم أجندات غير سورية: الأكراد، ولقاء الروس وتركيا وإيران ضدهم، ثم لا... ضد أميركا، صديقة الأكراد غير المضمونة.. إلخ.

تعترف إسرائيل بالهيمنة الروسية، لا تريد مزاحمتها، لكنها تريد حصتها. وهي لا تستطيع أن تحصل عليها، حتى اللحظة، إلا بالقوة المضبوطة: القوة تحت السماء الروسية. هذا ما يمنح روسيا منزلة سياسية جديدة، سوف تمكّنها من "التوسط" بين الإسرائيليين والفلسطينيين؛ تماماً كما كان يفعل الأميركيون في الأيام الخوالي.

أما التعويل على "بوتين صديق الشعوب المقهورة"، فهو أيضاً من زمن آخر... بوتين يضبط سورية بحساباتٍ تبدو حتى الآن صائبة، هي حسابات الأباطرة المسيطرين على رقع شاسعة من أراضٍ يتزاحم عليها ذئاب، أقل منهم جبروتاً، متعطشين لفراغها. نقول "حتى الآن"... لأن "النصر" الذي أبقى بشار الأسد على عرشه لا يصنع استقراراً، أو سلاماً. ربما يصنع ملوكاً مؤقتين، مثل إيران ومليشياتها، مثل بشار، مثل سياسيي لبنان الزاحفين إلى موسكو.. وجميعهم "ينسّق" مع بوتين، إمبراطور سورية المؤقت.

اقرأ المزيد
١٦ سبتمبر ٢٠١٧
هل غيّرت إسرائيل مقارباتها السورية؟

لا تشكل غارة إسرائيلية بمفردها، مهما كان دوي وقعها وكانت شدّتها، دليلاً كافياً على أن الدولة العبرية قد غيّرت مقارباتها الملتبسة، منذ نحو ست سنوات، إزاء الأوضاع السورية القائمة في البلد الذي بات مرتعاً خصباً للتدخلات الخارجية، وتحول إلى مناطق نفوذ موزّعة بين القوى الإقليمية والدولية ذات المصالح المتضاربة، بل وصار ميدان رمايةٍ مثاليا لاختبار صنوف الأسلحة الحديثة، لا سيما وأن إسرائيل هي الدولة الأقل حضوراً، قياساً بسائر جيران سورية، في مجريات هذه الأزمة التي خالفت مآلاتها توقعات كبار القادة والمحللين الإسرائيليين.

غير أن سيلا من المراجعات التي حفلت بها الصحافة العبرية، أخيرا، قبل شن هذا العدوان الاستفزازي السافر، وما عكسته من مشاعر خيبة أمل حيال عدم أخذ الدولتين الكبريين (روسيا وأميركا) في حسابهما المصالح الأمنية الإسرائيلية، لدى عقد اتفاقية خفض التوتر في الجنوب السوري، وما عبّرت عنه تلك السجالات من ندمٍ على تفويت عدد من الفرص السانحة لحجز مقعد إسرائيلي كبير على مائدة التسوية المحتملة، نقول لعل ذلك كله يشير إلى أن هذه الغارة التي وقعت في مكان غير بعيد عن قاعدة حميميم الروسية قد تكون فاتحة لمقاربة إسرائيلية مختلفة.

بحسب تعليقاتٍ فوريةٍ من جنرالات إسرائيليين متقاعدين، لم تكن هذه الغارة المتزامنة مع الذكرى السنوية العاشرة لضرب مفاعل دير الزور روتينيةً على غرار عشرات الغارات السابقة، بل كانت غارة استثنائية من حيث الهدف والتوقيت والرسائل المبثوثة، تهدف إلى نقل إسرائيل من دور المراقب للأزمة السورية إلى دور الشريك الفاعل حول مائدة التسوية المرتقبة، أو كما قال وزير الحرب، أفيغدور ليبرمان؛ الذي أعلن عن تحمل تل أبيب المسؤولية، لأول مرة، إن هذه الغارة وضعت خطاً أحمر لن تسمح إسرائيل بتجاوزه، وهو ما يعني أن الدولة العبرية عمدت إلى تعميق تدخلها في الشؤون السورية.

ويمكن للمراقب أن يضيف إلى هذه الأقوال المتحدية قولين اثنين؛ أولهما أن إسرائيل، المطمئنة حيال سياسة أميركية مستقرة، تحفظ لحليفها المدلل في الشرق الأوسط كامل مصالحه بعيدة المدى، ينتابها الآن حسٌّ بالخذلان والترك، جرّاء ما تراه قصوراً شديداً في استراتيجية أميركا تجاه الأزمة السورية، وثانيهما أن حكومة بنيامين نتنياهو المعوّلة على تفاهماتها المستجدة مع الرئيس الروسي، خسرت رهانها الهشّ على حسن نيات فلاديمير بوتين الذي أوضح لها، خلال لقائهما أخيرا في منتجع سوتشي، أن بلاده لن تضحّي بحليفها الإيراني في هذه الآونة.

وعليه، تكون هذه الغارة، في مغزاها ومبناها، قد انطوت على احتجاجٍ إسرائيلي مزدوج، كُتب بالحديد والنار، تجاه تجاهل كل من أميركا وروسيا لمطالب تل أبيب المتعلقة أساساً بالوجود الإيراني والمليشيات الملحقة به، خصوصاً في المنطقة اللصيقة بهضبة الجولان ودرعا والسويداء، وفيما بدا هذا الاحتجاج مصوغاً بنبرةٍ سياسيةٍ عاتبة تجاه الحليف الأميركي القديم، بدا متحدّياً ومستفزاً بشدة للحليف الروسي الجديد الذي أحرجه، حتى لا نقول أهانه، اختراق أربع طائرات مقاتلة المنظومة الدفاعية التي تعد فخر التكنولوجيا الحربية الروسية المتطوّرة.

من المرجّح أن تتفهم واشنطن حالة الغضب الإسرائيلي هذه، وأن تعمل من خلف أبواب مغلقة على تهدئة روع ربيبتها في المنطقة، بتقديم مزيدٍ من الطائرات الحربية والخدمات الأمنية الحديثة، هذا إن لم تكن أميركا قد أومأت برأسها، وأعطت الضوء الأخضر لهذه الغارة. أما موسكو المهانة بانكشاف عجزها وقلة حيلتها، وهي صاحبة المنظومة التي قيل إنها قادرة على رصد المقاتلات منذ لحظة إقلاعها في أيٍّ من مطارات المنطقة، فإن من غير المحتمل أن تبدي أي تسامح مع مثل هذا الصلف الإسرائيلي الذي وضع دولة كبرى في موضع اختبارٍ لا تحسد عليه أبداً.

من المفارقة الفارقة هنا أن الدولة السورية المستهدفة في صميم سيادتها بهذه الغارة لم تكن، من قريب أو بعيد، ضمن الحسابات الإسرائيلية، المستخفّة تماماً برد الفعل السوري المعهود "الاحتفاظ بحق الرد في الزمان والمكان الملائمين". إذ إن أقصى ما قاله الإعلام الحربي السوري إن الغارة حدثت من داخل الأجواء اللبنانية، في محاولةٍ ساذجةٍ لتخفيف حدة وقع الغارة على نجاعة القدرات التكنولوجية الروسية التي أظهرت ضعفاً مخجلاً أمام تفوق الأسلحة الأميركية، وهو ما يمكن ملاحظته من خلال صمت الكرملين المطبق، إن لم نقل الذعر، إزاء الفارق النوعي بين الترسانتين المتبارزتين في الأجواء السورية المستباحة.

وبالعودة إلى العنوان أعلاه، "هل غيرت إسرائيل مقارباتها السورية؟"، يمكن القول إن تغيراً ما قد دخل على الحسابات المسكونة بالقلق العميق لدى هذه القوة الإقليمية ذات الخلفية الأمنية المتطيرة، كعادتها، حيال أيٍّ من المتغيرات السياسية والعسكرية المحيطة، فما بالك إذا كانت هذه المتغيرات تشي بإمكانية اشتعال جبهتين شماليتين، عوضاً عن جبهةٍ واحدةٍ مع حزب الله، في أي حربٍ محتملة في المدى المنظور، الأمر الذي أهّل هذه الغارة النوعية لتدشين فصلٍ جديد من أزمةٍ لا تزال بعيدةً عن نهايتها، وجعل منها فاتحة أولية لمقاربةٍ إسرائيلية قد تعيد خلط الأوراق مجدّداً، وتزيد من درجة تعقيدات الأزمة المديدة، بصورة تحبس الأنفاس لدى كل المنخرطين فيها.

ومع أن الوقت لا يزال مبكراً للحكم على مدى ما انطوت عليه هذه الغارة من متغيراتٍ تخصّ الرؤية الإسرائيلية الحاسمة، إذا ما جرى تفعيل أدواتها بصورةٍ متزايدةٍ في المستقبل القريب، فإن مجموع الرسائل المحمولة على جناحي هذه الغارة، المترافقة مع أكبر مناورة عسكرية في العقدين الماضيين، تفيد بأن العقل الإسرائيلي الهاجس بالأمن، والأمن أولاً وأخيراً، قد أخذ يميل إلى حمل مخاطر أكبر من ذي قبل إزاء احتمال تورّطه أكثر وأعمق في المسألة السورية، المفتوحة بعد على تطوراتٍ لا يمكن التنبؤ بها من الآن، خصوصاً إن تمخض الصمت الروسي على الإهانة التي لحقت به، وهو في عز إمساكه بمعظم مقاليد المشهد السوري، عن ردة فعلٍ ملموسةٍ ضد العربدة الإسرائيلية.

إزاء ذلك كله، يجدر بالمراقب الموضوعي أخذ قسط من التحفظ، وهو يقرأ كامل الصورة السورية المتحولة بين يوم وآخر، وأن يُمسك قليلاً عن التخمينات السياسية والعسكرية المتعلقة بوضعٍ قد يخرج عن السيطرة في أي وقت، لعل غارة إسرائيلية أخرى تواجه بردّ فعلٍ روسي غير مستبعد تماماً، تعزّز من هذا الافتراض الذي لا يمكن الاطمئنان إليه الآن بصورة كلية.

اقرأ المزيد
١٦ سبتمبر ٢٠١٧
أروقة الاستانة تعيد المعارضة الى البدايات

لم تختلف نتائج اجتماعات أستانة، بجولته السادسة، والتي انتهت جلسته الختامية يوم أمس الجمعة، عن سابقاتها من الإجتماعات والأروقة السياسية التي تبحث في الملف السوري، في مشهد يتسارع فيه كل طرف من أطراف الأستانة للزج بتصريحاته في عمق الإعلام، لينسج خيوط أفكاره بعقل القارئ، وفي النهاية كل يغني على ليلاه، والتصريحات المتضاربة هي النتيجة.


يبدو أن أروقة الأستانة تعيد المعارضة الى البدايات، فما اتفاق وقف مناطق خفض العنف، إلا مصطلح أكثر رقياً من مصطلح "وقف اطلاق النار"، ويعود وفد نظام الأسد وحلفائه الروس والإيرانيين إلى تأجيل موضوع المعتقلين، بعد وعود باهتة للمعارضة بالنظر في الموضوع، كنوع من المماطلة التي لا تزال المعارضة مصرة على تصديقها، ليخرج وفد المعارضة كعادته مفرغة الكفين، ويعتبر ان التوصل الى انشاء مناطق خفض العنف في ادلب "انتصاراً".


فكيف لمنطقة ادلب أن تشهد وقف اطلاق نار، بحسب ما صرح الوفد المعارض، وبحسب ما قال عضو اللجنة الاعلاميه لوفد المعارضة إلى الأستانة، لشبكة شام الإخبارية يوم أمس، بالتزامن مع تصريحات سفير نظام الأسد لدى الأمم المتحدة، "بشار الجعفري"، الذي أكد أن الاتفاق الذي توصلت إليه روسيا وإيران وتركيا في إدلب، "لا يشمل المجموعات المتطرفة التي رفضت وقف إطلاق النار، بما في ذلك الفصيل المرتبط بتنظيم القاعدة"، في اشارة منه الى "هيئة تحرير الشام"، التي تسيطر على معظم محافظة ادلب.


اتفاق أستانة بجملة مختصرة اتفاق مشبوه وحبر على ورق، والبنود الفضفاضة كانت واضحة على قرارات "أستانة 6"، فقرار انتشار قوى مراقبة تركية وروسية وإيرانية في محافظة ادلب، مخالف للمنطق، فكيف لحليفا نظام الأسد على الأرض أن ينشرا قواهتما في منطقة سيطرة المعارضة، وتوعد صريح من قبل النظام عقب الأستانة بخرق القرارات، وضرب تضمين ادلب ضمن خطة مناطق خفض العنف بعرض الحائط، تصريح بطريقة أو بأخرى برفض الإلتزام بالأستانة، فمحافظة إدلب تعني "هيئة تحرير الشام" أو ماتعرف ب"النصرة" سابقاً.


وبالنظر إلى دعوة الأستانة إلى كافة أطراف النزاع السوري لإطلاق سراح المعتقلين، كبند لبناء الثقة بين الاطراف، ما يجعل العمومية تشمل القرارات، دون ان تطالب بشكل صريح بالمعتقلين في سجون الاسد، وما هذا إلا تأكيد على أن النتيجة ستكون ببقاء المعتقلين في المعتقلات ولا موعد قريب لإطلاق سراحهم.


لم تكن تصريحات الدول الضامنة للأستانة وطرفا المفاوضات هي الأمر اللافت فحسب، فقد سارعت الولايات المتحدة لتؤكد عقب الأستانة، أنه لا مكان للأسد، وأكدت السفيرة الأمريكية لدى الأمم المتحدة، "نيكي هيلي"، مساء الجمعة، أن إيران لن تلعب دوراً رئيسياً في سوريا بعد الانتهاء من تنظيم الدولة.


التصريحات الأمريكية، تؤكد حجم الهوة بين واشنطن وموسكو في هذا الوقت، ويبدو أن هذه التصريحات تأكيد أمريكي لما كان تحت طاولة الأستانة، وان كانت روسيا راضية بنشر قواتها في ادلب معقل هيئة تحرير الشام، والذي تعتبره أمريكا معقلا للقاعدة، فيبدو أن البيت الأبيض لم ولن يرضى بهذا السيناريو.


أما نظام الأسد فقد شن هجومه على الولايات المتحدة، عقب الاستانة أيضا، إذ صرحت مستشارة بشار الأسد، "بثينة شعبان"، إن نظام الأسد سيقاتل أي قوة، بما في ذلك قوات تدعمها الولايات المتحدة، من أجل استعادة السيطرة على كامل البلاد، وهذا يعني أن نظام الأسد لن يطبق أي بند من بنود اتفاق الاستانة، ولن يرضى وحليفته إيران إلا أن يسيطر على كافة سوريا.


فإن حاولت المعارضة السورية أن تبدي تفاؤلها، فلا مكان للتفاؤل مع اتفاق ضمنه الطرفان الإيراني والروسي، لأن كلاهما معروف بتميزه بالبحث عن مصالحه، ولا مكان للقيم والاتفاقات في تاريخهما السياسي والعسكري، وما الخاسر الأكبر في هذا الاجتماع إلا شعب خرج وقال "بدنا حرية".

اقرأ المزيد
١٥ سبتمبر ٢٠١٧
ماذا بعدما ضربت «إسرائيل» مصياف السورية؟

« نورداغان» إسم لأكبر مناورات قام بها الجيش الإسرائيلي خلال السنين العشرين الماضية. شاركت في المناورات عشرات الفرق والألوية من القوات البرية والبحرية والجوية والاستخبارات. حاكت عمليات إخلاء مدن، وصدّ عمليات تسلل من حزب الله، وشنّ هجوم على لبنان، وإبطال عمل خلايا تجسس. هذا ما سُمح لوسائل الإعلام بكشفه، وربما المخفي أخطر.

ضابط اسرائيلي رفيع قال لصحيفة «هآرتس» إن سيناريو المناورات يهدف الى هزيمة حزب الله. المقصود بمصطلح هزيمة توجيه ضربة قاصمة الى البنى التحتية للعدو، وتقليص اطلاق القذائف من المناطق التي يتمّ احتلالها، «لكن ليس مؤكداً ان هذا سيوقف الحرب».
مَن هو عدو «إسرائيل؟»

العدو متعدد الهوية والمنطلَق والقدرة، في هذا السياق، يأتي لبنان في المرتبة الأولى، لأنه المنطلَق الأساس لحزب الله. لكن لحزب الله منطلقات أخرى، فهو يقاتل في مختلف مناطق سوريا وكذلك في العراق. ولأنه يقاتل في سوريا فهو حليف لها، ومَن يكن حليفاً لحزب الله يصبح عدواً لـِ»اسرائيل». ثم، أليس لسوريا حلفاء آخرون؟ أليست ايران حليفة لسوريا وكذلك لحزب الله؟ أليست روسيا حليفة لسوريا؟ بل أليست روسيا، موضوعياً، حليفة لإيران؟ يتحصّل من هذه الواقعات أن أطراف محور المقاومة جميعاً أعداء لـ»إسرائيل»، وأن روسيا وإن لم تكن عدواً لها، إلاّ أنها حليف أو داعم لكل أطراف محور المقاومة، ما يجعلها خصماً غير مباشر للكيان الصهيوني.

لماذا أجرت «إسرائيل» مناورات «نورداغان» الآن؟

ليس في الأمر سر. «إسرائيل» خائفة ولا تخفي خوفها. خائفة من تداعيات اندحار «داعش» أمام الجيش السوري وحلفائه، ومن ترسيخ وجود إيران في سوريا واحتمال قيامها، مع حزب الله وأفواج مقاومةٍ سورية بازغة، بفتح جبهة ساخنة في جنوب سوريا بمحاذاة الجولان المحتل. أكثر من ذلك، أن تقوم إيران بتسليح سوريا وحزب الله بأفعل وأفضل ما لديها من أسلحة فتاكة وقدرات تكنولوجية، ما يؤدي إلى اختلالٍ موازين القوى لصالح أطراف محور المقاومة المتربصين بها. الوضع سيصبح أكثر خطورة إذا ما آلت تطورات المشهد العراقي إلى انخراط بغداد في محور المقاومة وفي إقامة جسر بري لوجيستي مفتوح بين طهران وبيروت عبر العراق وسوريا. لمواجهة هذه التحديات اعتمد قادة «إسرائيل» ثلاث مقاربات:

* الأولى سياسية وذلك باستغلال مخاوف دول الخليج من صعود إيران بغية توسيع علاقات «إسرائيل» الاقتصادية والأمنية مع بعضها، ولإقامة جبهة ردع فاعلة في وجه ايران وحلفائها. لرفع معنويات جمهوره، صرح نتنياهو بأن «إسرائيل» باتت تتمتع بمستوى تعاون غير مسبوق مع العالم العربي، واصفاً العلاقات بأنها افضل منها في أي وقت مضى، رغم انعدام الاتفاق مع الفلسطينيين. أكدّ ان «التعاون الحالي مع دولٍ في العالم العربي يُعدّ الأقوى مقارنةً بفترة توقيع معاهدتيّ السلام مع مصر والاردن». عزا هذا التحوّل إلى دمج قوة «اسرائيل» الاقتصادية- التكنولوجية وقوتها العسكرية – الاستخبارية، ما ادّى إلى تعزيز قوتها السياسية.

*المقاربة الثانية استراتيجية ميدانية، وذلك بإجراء مناورات «نورداغان» الضخمة، مصحوبةً بتغطيةٍ إعلامية هدفها إعطاء انطباعٍ محدد الى اعدائها: «وجود القدرة والاستعداد والإرادة السياسية لدى «إسرائيل» ليس لضرب حزب الله فقط، بل لإخضاعه ايضاً والانتصار عليه» (مقالة إيال زيسر، نائب رئيس جامعة تل أبيب، في «يسرائيل هَيوم» 2017/9/5).

*المقاربة الثالثة عملانية وذلك بتوجيه سلاح الجو الإسرائيلي من الأجواء اللبنانية ضربةً لمنشأة عسكرية سورية في مصياف بمحافظة حماة، التي لا تبعد كثيراً عن قاعدة روسيا البحرية في طرطوس وقاعدتها الجوية في مطار حميميم القريب من اللاذقية.

لا يهمّ ما قالته «اسرائيل» لتبرير الضربة. المهم الإحاطة بالواقعات الآتية: إن الضربة كانت في سوريا وليس في لبنان، وإن تنفيذها جرى من الأجواء اللبنانية، وإنها استهدفت منشأة عسكرية بعيدة جداً عن جبهة الجولان في جنوب سوريا التي تشكو تل أبيب من احتمال تحوّلها جبهة ناشطة بقوات لحزب الله مدعومة من ايران، وإن قرب المنشأة العسكرية من قاعدتين روسيتين، بحرية وجوية، في منطقة قريبة، أمر له دلالاته. ذلك كله حدث غداة حديث لنتنياهو في حفلٍ لوزارة خارجيته عن «تغيّر هائل» في العلاقات الاقتصادية والثقافية مع روسيا، في سياق ما سماه «الأهمية الاستراتيجية للتنسيق مع موسكو في شأن سوريا». توقيت المقاربات الثلاث يحمل على الظنّ بأن «إسرائيل» قصدت من وراء ضربة مصياف اختبار ردة فعل كلٍّ من حزب الله وسوريا وروسيا الأمر الذي يطرح اسئلةً ملّحة:
*هل تظنّ «اسرائيل» أن الضربة قد تحمل حزب الله على إعادة النظر بمستوى مشاركته في الحرب ضد «داعش» فيقلص من حجمها ونوعيتها، ما يؤدي إلى انتعاش «داعش» مجدداً وبالتالي إطالة امد الحرب واستنزاف سوريا؟
*هل تحمل الضربة سوريا على اعادة النظر بسياستها ازاء المنطقة المحاذية للجولان المحتل، فتوافق على اعطاء تعهدات بإبعاد ايران وحزب الله عن ايّ تواجدٍ فيها؟
*هل تمّت الضربة بعلم روسيا؟ وما حدود التنسيق بين «اسرائيل» وروسيا الذي اشار إليه نتنياهو؟ اذا لم تكن موسكو على علم بالضربة وغير موافقة عليها كونها استهدفت منشأة عسكرية سورية، وليس قافلة مزعومة تنقل سلاحاً لحزب الله، فهل تراها تحذر «اسرائيل» من الاسترسال في هذه السياسة تحت طائلة تزويد سوريا صواريخ دفاع جوي متقدمة قادرة على اسقاط القاذفات الإسرائيلية، حتى لو كانت تعمل عن بُعد او من الاجواء اللبنانية؟
*هل يمكن اعتبار ضربة مصياف اختبارا لمعرفة ردود فعل أطراف محور المقاومة وروسيا المتحالفة معها، وانها جرت بموافقة الولايات المتحدة او، في الاقل، بعلمها، ما يستوجب تالياً الرد عليها، بشكل او بآخر، من قبل الدول سالفة الذكر، أو اقلّه من أطراف محور المقاومة بدعمٍ قوي من روسيا؟

من الواضح أن أطراف محور المقاومة تعطي مواجهةَ الإرهاب في هذه الآونة اولوية مطلقة، سياسية وعسكرية. لكن، أليس مفيداً إفهام «اسرائيل» التي عادت الى اعتماد مذهبها العسكري القديم القاضي بنقل الحرب الى ارض العدو، أنه في مقدور العرب أيضاً نقل الحرب إلى أرضها وبالمقادير التي يرونها مناسبة؟

آن أوان الفعل.

اقرأ المزيد
١٥ سبتمبر ٢٠١٧
أسباب فشل الخطة الإيرانية في سوريا

على مدى الأسبوع الماضي أو نحوه كانت وسائل الإعلام والشبكات الاجتماعية الإيرانية تضج بالأقاصيص المنسوجة حول مباراة كرة القدم في طهران بين إيران وسوريا والأضواء التي قد تسلطها على العلاقات المتشابكة والمعقدة بين البلدين.

ووفقاً لأغلب الآراء فإن هناك مجموعة من السوريين نقلتهم إحدى الطائرات الخاصة لتشجيع منتخب بلادهم في محاولته الحصول على مكان في تصفيات كأس العالم التي ستقام في موسكو، وقد أثاروا مظاهرة مناهضة للنظام الإيراني في الاستاد. وكانت المجموعة السورية مكونة من سيدات شابات رفضن ارتداء حجاب الرأس على الطريقة الإيرانية. وعكس وجودهن في الاستاد الإيراني حقيقة مفادها أنه لا يسمح لأي امرأة إيرانية بحضور مباريات كرة القدم في البلاد إثر فتوى بهذا الخصوص صادرة عن المرشد الإيراني.

وعلى أي حال، استغلت مجموعة المشجعين السوريين الفرصة لإطلاق نفحة من السخط المكبوت ضد إيران والإيرانيين. وإن اعتبرنا مقاطع الفيديو المنشورة على الإنترنت دليلاً على شيء، فإن المشجعين السوريين قد استخدموا كلمات وعبارات لا تصلح للنشر في وسائل الإعلام المكتوبة. وهذا بدوره قد أثار سيلاً من الانتقادات المسيئة للغاية من جانب الإيرانيين عبر شبكات التواصل الاجتماعي لديهم.

كما أن تلك الحادثة قد أثارت حالة من الجدل حول الدور الإيراني في المأساة السورية.

وكان السؤال الذي طرح مراراً في الآونة الأخيرة: «ما الذي نفعله هناك»؟ وجاءت الإجابة الأولى من جانب السلطات الخمينية بأن إيران تقاتل في سوريا للحيلولة دون سقوط نظام حكم بشار الأسد الذي كان والده حليفاً وثيقاً لإيران خلال حربها السابقة مع صدام حسين في ثمانينات القرن الماضي، وصار الآن عضواً في جبهة المقاومة التي تديرها إيران.

وهذه الإجابة، برغم كل شيء، قد فشلت في إقناع الكثير من الناس، حتى داخل القاعدة الموالية للنظام نفسه.

ثم جاء ذكر سبب آخر، ألا وهو: أن إيران تقاتل في سوريا لمنع تدمير الأضرحة والمقامات الشيعية. وأذاعت وسائل الإعلام الرسمية قائمة بهذه الأضرحة والمقامات، وبعض منها مزود بالصور.

ولكن هذا السبب أيضاً قدح في جديته الكثير من مثيري المشاكل الذين يبحثون عن الثغرات في مزاعم النظام الإيراني الواهية، فلقد تبين أن 90 في المائة من الأضرحة والمقامات الشيعية في سوريا هي في الأساس مقابر الأنبياء اليهود القدامى أو علماء المذهب السني الراحلين.

وكان المبرر الأخير والراهن الذي أعلنه النظام الإيراني إزاء دوره في الأزمة السورية، بشأن مساعدة بشار الأسد في قتل المزيد من أبناء شعبه، يدور حول احتياجات الجمهورية الإسلامية إلى تأمين الوصول البري إلى الحدود اللبنانية، حيث يتسق الأمر تماماً مع الأجندة السياسية الإيرانية بفضل وجود «حزب الله» الشيعي الكبير هناك.

والجزء السوري الخاص بهذا الممر المنشود، والذي يجب أن يمر أيضاً عبر مساحات كبيرة من الأراضي العراقية، يجاور السهول الخصبة إلى الجنوب من دمشق. ومن هنا جاءت فكرة إبرام الصفقة مع تركيا بمباركة روسية واجبة. وبموجب هذه الصفقة، سوف تنشر إيران قواتها في منطقة نزع التصعيد في جنوب دمشق في حين تسيطر تركيا على قطاع من الأراضي السورية في محافظة إدلب. ومن المفترض أن تنشد تلك الصفقة واجهتها الرسمية خلال محادثات العاصمة الكازاخية آستانة تحت رعاية الأمم المتحدة.

وإذا دخلت تلك الصفقة حيز التنفيذ، فإن مشروع وقف التصعيد الروسي سوف يجمد تقسيم سوريا إلى خمس مناطق كبرى، مع سيطرة كل من روسيا وتركيا وإيران على ثلاث مناطق منها، وتشهد المنطقتان الباقيتان وجوداً من الولايات المتحدة وحلفائها من الأكراد والعرب هناك. ومن شأن المخطط الروسي أن يُوقف، أو يُجمد لفترة من الزمن على أدنى تقدير، القتال الدائر هناك ولكنه يجازف بالظروف التي تؤدي في خاتمة المطاف إلى دمار سوريا كدولة موحدة وقوية.

ومع ذلك، فإن النظرة القريبة إلى الحقائق السورية تعكس أن المخطط الروسي - الإيراني - التركي محكوم عليه بالفشل المحقق. ومن واقع معرفتي بسوريا، وهي الدولة التي راقبتها وداومت على زيارتها منذ سبعينات القرن الماضي، على الرغم من سبع سنوات من المأساة المريعة هناك، فإن مشاعر الانتماء الوطني لا تزال قوية ومؤثرة وبدرجة كافية لإحباط الشهوات الإمبراطورية المفترضة.

وفي هذا السياق، فإن فرص النجاح الإيراني هناك أقل بكثير من مثيلتها لدى تركيا وروسيا.

ففي إدلب، تتمتع تركيا بميزة التواصل الجغرافي المباشر مع سوريا، وهي الحقيقة التي تسهل مرور الخدمات اللوجيستية.

كذلك، تملك تركيا علاقات وثيقة مع بعض العناصر في كردستان العراق، وبإمكانها استغلال هذه العلاقات للتأثير على جزء من الأكراد السوريين لقبول منطقة نزع التصعيد باعتباره أقل الخيارات المطروحة سوءاً. ويشكل وجود مجموعات صغيرة من الأقليات التركمانية والشراكسة الأتراك في تلك المنطقة من المميزات الأخرى التي تتمتع بها أنقرة هناك.

كما أن روسيا أيضاً في وضع أفضل من إيران فيما يتعلق بتأمين قطعة من الكعكة السورية لنفسها.

بفضل احتكارها للقوة النيرانية الأكبر في الحرب السورية وسيطرتها على الأجواء السورية بالكامل، يمكن استخدام سلاح الجو الروسي في إسناد أي خطة على الأرض. وأغلب «قطعة الكعكة السورية» المقصودة روسيّاً هناك تقع على سواحل البحر الأبيض المتوسط، ويسهل الدفاع عنها بواسطة القوات البحرية الروسية. وعلاوة على ذلك، فإن غالبية السكان المحليين، الذين تبنوا موقفاً غامضاً ناحية نظام الأسد، قد يفضلون السيطرة الروسية على الهيمنة الإيرانية.

ولا تملك الجمهورية الإسلامية الإيرانية أياً من هذه المميزات.

وسوريا ليست مثل لبنان حيث الشيعة، الذين يشكلون ثلث تعداد السكان، دائماً ما يتطلعون إلى إيران كدولة حامية لهم. وفي أحيان مختلفة، ولا سيما في ذروة نعرات القومية العربية في عهد جمال عبد الناصر، كانت إيران تحت حكم الشاه تعتبر من جانب بعض المسيحيين اللبنانيين كقوة موازنة في المنطقة. والوجود والنفوذ الإيراني في لبنان يعود إلى المراحل المبكرة من الأسرة الصفوية منذ أكثر من خمسة قرون مع الروابط العائلية العميقة والوثيقة، ولا سيما بين رجال الدين وعائلات المال والأعمال التقليدية.

وفي المقابل، كانت سوريا دائماً ما تمثل الصورة السوداء السيئة في الثقافة الدينية الإيرانية باعتبارها مركز الدولة الأموية التي دمرت خلافتهم بواسطة الثورة الإيرانية بقيادة أبو مسلم الخراساني. والملالي في إيران يعتبرون سوريا «بوابة الجحيم».

ومحاولات طهران إضفاء «حكم الشيعة» على الطائفة العلوية السورية وبالتالي فهم يستحقون الحماية الإيرانية مثل الشيعة في لبنان قد فشلت تماماً. فلم يوافق رجل دين شيعي واحد على إلغاء الفتاوى التاريخية التي لا حصر لها والتي تحكم على العلويين بالزنادقة أو حتى بأنهم من الأتباع المتخفيين للديانة الزرادشتية. وهذا يعني أنه، على العكس من لبنان، حيث يتعاطف جزء على الأقل من المجتمع الشيعي مع إيران تحت أي نظام للحكم، فإن إيران اليوم تفتقر إلى أي قاعدة شعبية محلية مؤيدة في الداخل السوري.

اعترف الجنرال الإيراني حسين حمداني، الذي قتل في العمليات العسكرية في سوريا، بالكثير من ذلك في مقابلة شخصية صريحة أجريت معه قبل أسابيع من وفاته. وفي هذه المقابلة، كشف الجنرال حمداني أنه حتى المؤيدون لنظام الأسد داخل الجيش السوري وحزب البعث الحاكم كانوا معارضين وربما كانوا معادين للوجود الإيراني في سوريا. وقال الجنرال الراحل إن «الطريقة التي نفكر بها والأسلوب الذي نعيش به بغيض للغاية بالنسبة لهم».

وفي مقابلة تلفزيونية حديثة، أعرب الرئيس الأسد وبصورة غير مباشرة عن هذه المشاعر، إذ قال إن «أنظارنا موجهة شرقاً صوب روسيا»، ولم يأت على ذكر إيران أبداً.

إن بناء الإمبراطوريات ليس بالمهمة السهلة، ولا سيما عندما تفتقر إلى القوة العسكرية أو الكاريزما الدينية أو التأثير الثقافي المطلوبين لكسب الدعم والتأييد المحلي اللازم.

وإيران على وشك أن تدرك ذلك، ولكن بالأسلوب العسير بكل أسف.

اقرأ المزيد
١٥ سبتمبر ٢٠١٧
لهذا تريد إيران الاستفتاء مواجهة عسكرية

لولا أنه لم يبق على «الاستفتاء» الذي تصر القيادة الكردية ممثلة بالرئيس مسعود بارزاني على إجرائه سوى عشرة أيام لكان بالإمكان القول للزعيم الكردي، ما دام أن العراق خلافاً لاتفاق البدايات في عام 2003 بدل أن يكون دولة ديمقراطية مدنية وعلمانية قد أصبح دولة دينية ومذهبية يُسيطر عليها الإيرانيون، أليس من الأفضل يا ترى أن يتم تأجيل هذا الاستفتاء إنْ ليس بالإمكان إلغاؤه وتوحيد جهود كل الذين يرفضون هذه السيطرة الإيرانية، التي تحولت مع الوقت إلى احتلال فعلي بكل معنى الاحتلال، لإخراج إيران من بلاد الرافدين ليصبح بإمكان الشعب العراقي بكل مكوناته تقرير مصيره بنفسه بعيداً عن وصاية الولي الفقيه وسطوة حراس الثورة الإيرانية وامتداداتهم في الأراضي العراقية.

والخوف كل الخوف أن يستغل الإيرانيون رفض غالبية العرب العراقيين ومعهم التركمان كلهم لاستفتاء يوم الخامس والعشرين من هذا الشهر وأن ينجحوا في دغدغة الحس القومي لدى هؤلاء وافتعال صدام عربي - كردي لن تستفيد منه سوى إيران التي تعتبر أن قيام أي كيان كردي مستقل «دولة» سيشكل مقتلاً فعلياً لتماسكها الذي بقي مهدداً بيقظة فسيفسائها القومي، الأكراد والعرب والبلوش والآذاريين.. وغيرهم، والمعروف أن الشاه السابق رضا بهلوي كان قدم تنازلات كبيرة للروس وللأميركيين من أجل إطاحة دولة «مهاباد» الكردستانية التي تم الإعلان عن إقامتها في عام 1946 وإعدام رئيسها القاضي محمد.

إنه على الأكراد أن يدركوا ومنذ الآن أن إيران التي بادر أتباعها، الحشد الشعبي وغيره، إلى التهديد والوعيد، ستلجأ إلى التصعيد ودفع الأمور في اتجاه المواجهة العسكرية ليس حُباً بالعراق وشعبه ولكن لضمان استمرار وجودها الذي اتخذ الطابع الاحتلالي في هذا البلد الذي بات يشهد صحوة قومية عربية موجهة ضد هذا الوجود وبخاصة بين أتباع المذهب الشيعي الذين أدركوا أن الإيرانيين (النظام) يستهدفونهم كعرب ومثلهم مثل أشقائهم «السنة».

ولهذا فإنه ضروري جداً ألا يواجه الأكراد، بعد «استفتاء» يوم الخامس والعشرين في هذا الشهر، بتصعيد مماثل، وذلك لأن هذا هو ما تريده إيران وهنا فإن الحوار الذي وعد به الرئيس مسعود بارزاني مباشرة وبمجرد الانتهاء من هذا الاستفتاء يجب أن يتم بالحرص لا بل بأقصى الحرص على أن يكون بهدوء وبعيداً عن التوتير وعن استحضار العنف وعلى أساس المصالح المشتركة بين شعبين يربط بينهما تاريخ واحد وعلى مدى حقب طويلة.

يجب ألا تستدرج إيران الأكراد إلى المواجهة العسكرية التي إن هي حصلت فإن أول ما تدمره هو الحلم الكردي وهو حركة البناء والإعمار والتقدم الذي تم في المجالات كافة في كل مدن كردستان العراقية ولذلك وبما أن المعروف أنَّ ما بات يواجه هذا الاستفتاء المشار إليه هو مشكلة كركوك فيجب الاستعداد ومنذ الآن لتنازلات مرضية للعرب والعراقيين الذين سيجدون صعوبة جدية بأن تتغير هوية هذه المنطقة الحساسة من عربية إلى كردية... إنه يجب التفكير في حلٍّ معقول ومقبول لهذه المشكلة التي إن هي تفجرت فإن دولة الولي الفقيه ستكون المستفيد الوحيد، وذلك إنْ على المدى القريب وإنْ على المدى البعيد.

والمفترض لتفادي هذا كله أنْ تعلن القيادة الكردية، ممثلة بالرئيس مسعود بارزاني المعروف باتزانه وحكمته وبصفات رجل الدولة المجرب من الطراز الرفيع، ومنذ الآن أن «الاستفتاء» لا يعني ترسيماً للحدود بين العراق وبين الإقليم الكردستاني ولا يعني إلحاقاً فورياً لمنطقة كركوك بعد هذا «الاستفتاء» مباشرة بكردستان العراقية فكل هذا يجب أن يتم بالتراضي وبالتفاهم وبالابتعاد عن استخدام العنف الذي تريده إيران وتسعى إليه لضمان بقاء وجودها الاحتلالي في بلاد الرافدين، والمعروف هنا أن قائد فيلق القدس قاسم سليماني كان قال إن حراس الثورة قد أصبحوا أقوى قوة عسكرية في شرق البحر الأبيض المتوسط، والمعروف أن كردستان العراقية جزء لا يتجزأ من شرق البحر المتوسط هذا الذي بعد سيطرتهم على العراق وسوريا أصبح الإيرانيون يشكلون فيه القوة الرئيسية.
من حيث المبدأ إنه حتى لو تراجع الرئيس مسعود البارزاني عن قرار إجراء «الاستفتاء» الذي تقرر إجراؤه في الخامس والعشرين من هذا الشهر، والمؤكد أنه لن يتراجع فقد سبق السيف العذل، فإنه من حق الأكراد في كل أماكن وجودهم الأساسية - التاريخية أن يقرروا مصيرهم بأنفسهم وأن يقيموا دولتهم أو «دولهم» المستقلة حيث يوجدون، ومثلهم مثل أمم وشعوب هذه المنطقة وبخاصة أن المعروف أن معطيات هذا القرن، الألفية الثالثة، تختلف عن معطيات القرن الماضي - القرن العشرين والمفترض أن «سايكس - بيكو» قد انتهت ولم تعد لها أي تأثيرات فعلية في هذه المنطقة الشرق أوسطية، وأنه من حق الشعوب التي كانت ظلمتها هذه الاتفاقيات التآمرية أنْ تحصل على ما حصل عليه غيرها.

إنه لا يجوز الاستمرار بالتعامل مع الأكراد في كل الدول التي يوجدون فيها بصورة أساسية ورئيسية كـ«مادة لاصقة» للحفاظ على الوحدة الداخلية لهذه الدول، وحقيقة أن هذا إنْ هو كان ممكناً في القرن الماضي وقبله فإنه لم يعد ممكناً الآن، ولذلك فإنه على الدول المعنية أن تدرك أنه لا بد مما ليس منه بُدّ وأن الأفضل أن يتم التعاطي مع هذه المسألة بالتفاهم وبعيداً عن المنطق الذي ساد في القرن الماضي والذي للأسف لا يزال سائداً حتى الآن، وحيث إنه لا تزال هناك نظرة «شوفينية» ضد هذا الشعب الكردي في بعض الدول التي أصبح جزءاً منها وفقاً لمعطيات القرن الماضي ووفقاً لاتفاقيات «سايكس - بيكو» التآمرية المعروفة.

إنه لا شك في أنَّ مع مسعود البارزاني الحق كله في أن يغضب كل هذا الغضب من عدم الالتزام باتفاق ما بعد الغزو الأميركي وإسقاط نظام صدام حسين، الذي نص على أن تكون الدولة الجديدة دولة ديمقراطية ومدنية، وحيث قد تم استبدال دولة مذهبية وطائفية «يسيطر عليها الإيرانيون» بها، فهذا لا يمكن الاستمرار به على الإطلاق والواضح أنه من غير الممكن تغييره ما دام أن إيران تحتل العراق احتلالاً عسكرياً فعلياً وتهيمن على كل مقاليد الأمور في هذه «التركيبة» السياسية العراقية.

ويبقى في النهاية أنه لا بد من التأكيد على أنه خطأ فادح بالفعل أن يوصف قيام الدولة الكردية المنشودة بأنه كقيام دولة إسرائيل، فالإسرائيليون جاءوا إلى فلسطين كجزءٍ من خطة استعمارية دولية عنوانها: «وعد بلفور» الشهير وهم قد أقاموا دولتهم هذه التي أصبحت خنجراً في قلب هذه المنطقة العربية والشرق أوسطية كلها وبالقوة وعلى أساس الأمر الواقع، أمّا بالنسبة للأكراد فهم جزء لا يتجزأ من هذه المنطقة وعلى مدى تاريخ طويل يتجاوز الألف عام بكثير وهم وفي كل الأحوال إنْ هم حققوا حلم تقرير مصيرهم بأنفسهم فإنهم لا يمكن أن يكونوا إلا شعباً شقيقاً إنْ بالنسبة للعرب والمفترض أيضاً إن بالنسبة للإيرانيين والأتراك.

اقرأ المزيد
١٥ سبتمبر ٢٠١٧
على أبواب المنشية.. نجاة من القصف وقدر جديد

لكل قصة بداية، وبداية قصتي مع البجعة الروسية القاتلة كانت في السابع عشر من فبراير عام 2017. يومها شنت المقاتلات الحربية الروسية نحو ثلاثين غارة جوية على أحياء درعا البلد، بعد ساعات معدودة من إعلان الروس بداية مؤتمر الأستانة 2 وقف غاراتهم المساندة للنظام السوري في مواجهة معركة أطلقت عليها المعارضة السورية اسم "الموت ولا المذلة" كانت ابتدأتها في الثاني عشر من فبراير لاستعادة حي المنشية أخر معاقل النظام في درعا البلد، بعد أن طرد النظام والمليشيات الأجنبية الموالية له جميع أهله منه محولا إياه لثكنة عسكرية.

شارك الإعلاميون في هذه المعركة الضروس بكاميراتهم رصدا للحقيقة وتوثيقا لفصولها الدموية. ظهيرة ذلك اليوم دخلت درعا لرصد وتوثيق المعارك هناك في ظل جحيم نيران الطائرات الروسية التي أصبحت فيما بعد أحد ضحاياها. كانت ساعات مليئة بالدم والآلام، كنت فيها أشبه بمن يعيش في عالم آخر.. بل كنت كذلك، كل ما أتذكره في تلك اللحظة كيف اخترق الغراب الروسي جدار الصوت، مطلقا أحد صواريخه الفتاكة ..عندها ارتميت على الأرض بجانب السيارة ظنا مني أنني الهدف، إلا أن الصاروخ الروسي كان قد أصاب هدفا على بعد عشرات أمتار مني، (قيل لي فيما بعد أنها سيارة كانت تقل اثنين من مقاتلي المعارضة فقتلهما).

لملمت نفسي ونكت غبار الخوف الذي استملكني.. ومسرعا بسيارتي البيضاء التي تدلل على أني مدني حاولت الوصول إلى مكاني المنشود على أطراف حي المنشية.. ثلاث دقائق أو تزيد قليلا كانت كفيلة باستدارة الطائرة الروسية وملاحقتها لي.. موجهة حممها نحوي. لا زلت أذكر كيف تزامن وقوفي بسيارتي أمام أحد البيوت مع هزة عنيفة حولت كل ما حولي إلى غبار أسود وشرر تتطاير من حولي.. لحظة كأنها عقد من الزمن أدركت فيها بأنني أصبت.. سمعت أصواتا من حولي تركض نحوي قبل أن أغيب عن الوعي. كانت أخر كلمة قلتها ولعلي لم أعي حقيقتها "تصوبت" لأغيب بعدها بعقلي عن واقع ما يجري.


قيل لي بعد ذلك أن ما منع الصاروخ من الوصول إلي مباشرة هو حافة البيت الذي وقفت بجانبه.. قدر الله ان يرتطم الصاروخ به ليتناثر علي ومن حولي، فحال دون تمزيقي وحرقي. شظايا من ذلك الصاروخ اخترقت السيارة فبترت يدي اليمنى بالكامل وهشمت كتفي ووصلت حد الرئة اليمنى فكشطت اللحم عنها حتى بانت، وبعضها اخترق مقعدي من الخلف، فمنعها - رحمة من الله - الدرع الذي كنت أرتديه من الوصول إلى ظهري.

ساعات ما قبل نقلي للأردن للعلاج كانت مخيفة بحسب الأطباء، فضعف إمكانات العلاج والعجز عن إيقاف نزيف الدم، والمشقة في تأمين زمرة دمي، ووعورة الطريق إلى الحد الأردني وطوله، كانت كفيلة بإنهاء حياتي بعيدا عن أهلي، لولا قدر الله الذي كتب لي فصلا جديدا من حياة، سأظل فيها أحد الذين يجمعون تاريخ الثورة السورية ويوثقون منعطفاتها الدموية، بدأ من صرخة الحرية التي قلعت من أجلها أظافر أطفال صغار في درعا، مرورا باحتلال الروس والإيرانيين لسوريا محاولين إرجاعها لحظيرة العبودية، ومقاومة أهلها لهم.


في الأردن وفي غرفة العناية المشددة حيث الأطباء على مدار الساعة من حولي.. وكذا أهلي وطاقم قناة الجزيرة في عمان. يتناوبون على استفاقتي من الغيبوبة بابتسامات عريضة.. سرت في أعماقي أملا لامس ضعف قلبي فقواه، فكان وقوفهم بجنبي كفيلا بطرد شيطان اليأس عني بعد أن كاد يتلبسني. لا أعلم لم تذكرت وقتها الزميل محمود حسين متألما، فكل أحبتي من حولي.. وهو في غيابات الظلم بعيدا عن أهله وأحبته..

 

في محنتي هذه لهج الكثيرون بألسنتهم وأقلامهم تعاطفا معي ضد غاصب ومحتل، فكانت دعواتهم سياجا إلهيا رد عني قدر الموت المحتم لأقف من جديد في مواجهتهم. خرجت من المشفى ولم يتغير علي شيء سوى أنني بدأت أكتب بيساري بدلا من يميني التي سبقتني لرب رحيم كريم. فجل ما فعلته الطائرة الروسية بي هو ما كتبه الله علي.

اقرأ المزيد
١٤ سبتمبر ٢٠١٧
بين قنبلة كيم النووية وقنابل إيران الطائفية

تنعكس الأزمة النووية مع كوريا الشمالية أكثر فأكثر على النقاش داخل الإدارة الأميركية في شأن الاتفاق النووي مع إيران. ومن الطبيعي أن تدفع الأزمة نحو مزيد من التشدّد الأميركي، باعتبار أن الصفعة التي تلقتها واشنطن من بيونج يانج ستجعلها أكثر تحفّزاً لتفادي المفاجآت من مصدر آخر. صحيح أن الوكالة الدولية للطاقة الذرّية تراقب تنفيذ الاتفاق وتؤكّد تقاريرها الدورية أن طهران تحترم الالتزامات التي ينصّ عليها، غير أن الوكالة لا تبدو معنية أو مختصّة بالتدقيق في تطوير الصواريخ الباليستية. وبالنظر إلى ما حققته كوريا الشمالية، وإلى علاقتها بإيران وتعاونها النووي معها (وكذلك مع النظام السوري لتجديد ترسانته الكيماوية)، فإن التداعيات الاستراتيجية الخطيرة لنجاح تجربة القنبلة الهيدروجينية، أطلقت نحو طهران إيحاءات مشجعة قد تكون المندوبة الأميركية لدى الأمم المتحدة نيكي هايلي عبّرت عنها بقولها إن الاتفاق النووي تنتهي مدته خلال عشر سنوات، وإذا بقي من دون تعديل، فقد يتيح لإيران بعدئذٍ أن تشكّل التهديد نفسه الذي باتت تشكّله كوريا الشمالية للمدن الأميركية.

لا يمكن تعديل الاتفاق من دون مشاركة روسيا والصين وموافقتهما، لكن الظروف تغّيرت، كما أن الأدوار انكشفت وكشفت بدورها تصوّرات أكثر وضوحاً للمصالح والدوافع على مستوى الدول الكبرى، فالرفض الصيني والروسي لبرنامج بيونج يانج كان لفظياً واستمر كذلك بعدما صار خطره قائماً. ذاك أن قنبلة كيم جونج أون قدّمت رادعاً جديداً للولايات المتحدة ونفوذها، ما يعني أنها تلعب لمصلحة الصين وروسيا ولا تشعران بأي خطر عليهما منها، وبالتالي فإن أي «ردع» إيراني إضافي مستقبلاً سيكون مرحّباً به طالما أنه يبنى على أساس علاقة شبه تحالفية مع هاتين الدولتين، لتصبح بذلك «كوريا الشمالية الجديدة» أو التالية. وإذا كان فلاديمير بوتين غير متحمّس حتى لعقوبات أممية جديدة بل يشارك نظيره الصيني شي جين بينج الدعوة إلى التهدئة لتبديد احتمالات حرب نووية في كوريا، ثم إلى التفاوض لوضع قواعد التأطير الدبلوماسي للمخاطر المستجدّة، فإن الرئيسين الروسي والصيني يستخدمان أيضاً رفض الدول الغربية أي عمل عسكري، ليضعا ترامب وإدارته أمام حرج الذهاب إلى حرب من دون تأييد دولي، حتى لو كان هناك ما يبرّرها.

وكشفت «نيويورك تايمز» أن الأزمة الطويلة زمنياً مع بيونج يانج لم تمكّن واشنطن من تحديد أهداف كيم، فالسؤال: ماذا يريد؟ مطروحٌ منذ عهد والده كيم جونج إيل وجدّه كيم إيل سونج، لكن المؤكّد الآن أنه أكثر عنفاً منهما. باحثون واستخباراتيون واختصاصيون جزموا بصعوبة التعرّف إلى «دوافع» كيم، لكن حصيلة آرائهم تضع لائحة بما هو ممكن أو محتمل منها: المحافظة على نظامه، والحصول على القوة النووية لحماية كوريته، والاعتراف بها دولة نووية وندّاً للدول الكبرى النووية، واستخدام قنبلته لرفع العقوبات الدولية وللشروع في تطوير اقتصاده، وتهديد الأراضي الأميركية لفرض انسحاب أميركي من المنطقة، والاستناد إلى النفوذ النووي لتوحيد شمال كوريا مع جنوبها. رغم بعض الفوارق المتعلقة بالموقع الجغرافي، هناك تشابه في طبيعة النظامين وكذلك بين أهداف كيم وأهداف الخميني وعلي خامنئي، من الحفاظ على النظام الحالي والسعي إلى «القنبلة» لحمايته وتثبيته، إلى تحصيل النفوذ والارتقاء إلى «دولة عظمى إقليمية»، إلى المطالبة بالانسحاب الأميركي. غير أن الطموحات الإيرانية أكثر جشعاً، وقد مكّنتها قنابلها الطائفية من التخريب المنظّم لأربع دول عربية والسعي الدؤوب إلى تخريب دول أخرى مجاورة.

في اليابان وكوريا الجنوبية يتساءلون حالياً عما ستفعله الولايات المتحدة، وهل أنها لا تزال على الاستعداد ذاته للدفاع عنهم بعدما أصبحت مدنها تحت التهديد، وهل هناك احتمال لأن تقلّص وجودها أو تنسحب من المنطقة في ضوء ما يتبدّى من تخبّط في استراتيجيات البيت الأبيض وسياساته؟ وكانت الأسئلة نفسها شغلت دول الشرق الأوسط والخليج العربي بعدما أعطت إدارة أوباما إشارات واضحة للانسحاب من المنطقة والتوجّه نحو شرق آسيا، تطبيقاً لاستراتيجية تبنتها إدارات سابقة، وكان واضحاً أن الطرف الأول المستفيد من هذا الانسحاب هو النظام الإيراني، مثلما أن أي انسحاب (ولو غير محتمل بعد) من شرق آسيا سيكون لمصلحة النظام الكوري الشمالي. لعل الأخطر في النظام/ أو اللانظام الدولي الراهن أن روسيا والصين تستسهلان في لعبة النفوذ صعود الدول المارقة واستقوائها، أما أميركا فلا تزال تدّعي مساعدة الدول المعتدلة والدفاع عنها لكنها تواصل تراجعها.

اقرأ المزيد
١٤ سبتمبر ٢٠١٧
تواطؤ متبادل في سورية وأفغانستان

حلّت قبل ايام ذكرى اعتداءات 11 ايلول (سبتمبر)، واعادت معها الجدل حول جدوى الحرب المستمرة في افغانستان التي حضنت تنظيم «القاعدة». لكن ما يعنينا، على رغم قرب هذا البلد من عالمنا العربي وتأثر أحدهما بالآخر، مقاربة اميركا وايران لأزمة عندنا تحمل بعض أوجه الشبه مع الازمة الافغانية، أي الوضع في سورية.

من المسلّم به ان الاميركيين والاطلسيين واجهوا في افغانستان ولا يزالون معضلة لم يجدوا لها حلا: كيف يمكن هزم حركة «طالبان» المتشددة والحفاظ على النظام الموالي لهم في كابول على رغم زجهم نحو 150 الف جندي في 2001، قبل ان يتراجع هذا الرقم راهنا الى نحو 15 الفا فقط ؟

والواقع انه أمر مستحيل تقريبا، فقبائل البشتون التي تنتمي اليها «طالبان»، بل يمكن القول انها ممثلها السياسي والعسكري، تمثل الغالبية (62 في المئة)، ويصعب عزلها او اخضاعها لحكم اقلية قبلية او اتنية، مثلما حاول الاميركيون، وحاولت قبلهم قوى محتلة كان آخرها السوفيات.

ويحتاج الاميركيون الى نشر ما لا يقل عن مليون جندي اذا ارادوا فرض الاستقرار وضبط الامن في سائر انحاء افغانستان، وهو رقم يفوق كل قدرة وتصور. فالبلد عبارة عن مستوطنات بشرية متباعدة تفصل بينها مناطق خالية تصعب السيطرة عليها، والجيش الموالي لكابول لا يزال يحتاج سنوات طويلة من التدريب والتجهيز والتمويل، ولا يزال عرضة لاختراقات «طالبان» التي عاودت السيطرة على كل منطقة انسحب منها الاميركيون.

ولهذا رأت واشنطن الحل في ابقاء حامية اميركية للسلطة المركزية في كابول واقاليم قليلة، وابقاء الضغط على طالبان في المناطق الاخرى بواسطة سلاح الجو والطائرات المسيرة وعمليات الانزال المتفرقة. لكنه حل لن يصمد طويلا لأنه يبقي البلد مقسماً بين اطراف متعددين، ولا ينهي التقاتل بينهم.

وفي كل هذا، تتعاون ايران التي تعتبر نفسها حامية للشيعة الافغان (الهزارة)، مع الاميركيين منذ بداية الغزو في خططهم لابقاء «طالبان» ملاحقة ومشتتة، لكنها تغازل في الوقت نفسه الحركة البشتونية وتمدها ببعض وسائل الصمود، اتقاء لانتقامها لاحقا.

اما في سورية، فيمارس الاميركيون خدعة مزودجة: يجافون الحقيقة أولاً عبر اعلان ان المعركة ضد الارهاب أهم بكثير من محاولات الاصلاح السياسي وتغيير النظام الامني الجاثم على صدور السوريين منذ نصف قرن، ويجب ان تكون منفصلة عنها، ويروجون ثانياً ان استعادة مناطق انتشار «داعش» و «القاعدة» كفيلة بانهاء الارهاب ومنعه من تهديد مصالح اميركا وحلفائها.

يكمن «الخطأ» الاول في رفض اعتراف الاميركيين بأن نظام الاسد وارتكاباته هي السبب الرئيس في ظهور الارهاب في سورية، ليس فقط بسبب التواطؤ الاستخباراتي مثلما ظهر واضحاً في تمثيلية استعادة المناطق الحدودية بين سورية ولبنان، بل اساساً لأن النظام هو الذي مارس عنفاً بغير حدود ضد المتظاهرين السلميين وقصفهم بشتى انواع الاسلحة بما فيها الكيماوي، واعتبر ان مناطقهم ذات الغالبية السنية ليست ضمن دائرة اهتمامه وإفادته، وقرر تفكيك الهيكلية الادارية الحكومية فيها، وبالتالي افسح المجال امام تمدد «داعش» و«النصرة»، وعزز منطقهما في مواجهة قوى المعارضة الفعلية.

ويكمن «الخطأ» الثاني في ان انهاء «دولة الخلافة» جغرافيا لا ينهي نشاط خلاياها السرية في المناطق المستعادة وخارجها، وان تسليم جزء من هذه المناطق الى «وحدات حماية الشعب» الكردية التي تقود الحرب الاميركية على «داعش» والتغاضي عن انتشار الميليشيات الإيرانية في اجزاء اخرى، يعني الاقرار ببقاء سورية مقسمة بين دويلات متحاربة: مناطق سيطرة النظام، ومناطق سيطرة الاكراد، ومناطق سيطرة المعارضة.

وبما ان القوات الحكومية السورية لم تستطع، ولن تستطيع في مستقبل قريب، ان تحافظ على مناطقها من دون دعم الطيران الروسي والميليشيات الايرانية، وبما ان روسيا متمسكة بتجنب نشر قوات برية في سورية، تبدو إيران مهيأة اكثر من غيرها لانتهاز الفرصة وملء الفراغ. ولعل هذا ما تشير اليه اسرائيل عندما تتحدث عن اتفاق وشيك بين ايران والاسد لإقامة قواعد ايرانية دائمة على الاراضي السورية.

وهكذا، على رغم العداء المعلن واستراتيجيات المواجهة من الجانبين، تحمي قوات اميركية في افغانستان نظام كابول بتواطؤ ايراني، وتحمي ميليشيات ايرانية في سورية نظام دمشق بتواطؤ اميركي.

اقرأ المزيد
١٤ سبتمبر ٢٠١٧
وضوح ليس بعده وضوح في لبنان

بعد الإعلان في لبنان عن استشهاد العسكريين الذين خطفهم تنظيم “داعش” في العام 2014، ثمّة أمران لا يحتاجان إلى أي توضيح من أي نوع. يتعلق الأوّل بأن بلدة عرسال كانت مستهدفة دائما وذلك منذ بدء التفكير في مشروع “سوريا المفيدة”. أما الأمر الثاني، فهو مرتبط بمستقبل لبنان نفسه، أي بالتعايش بين الجيش والقوات الأمنية المختلفة من جهة، وميليشيا مذهبية مرتبطة بإيران تسعى إلى أن تكون صاحبة القرار في البلد من جهة أخرى.

لماذا كانت عرسال ولا تزال مستهدفة؟ الجواب بكلّ بساطة أنّها تمتلك موقعا استراتيجيا مهمّا فضلا عن أن لدى خراج البلدة حدودا طويلة مع سوريا. الأهمّ من ذلك كلّه أن أهل عرسال من السنّة في منطقة يعتبر “حزب الله” أنه يجب أن تكون تحت سيطرته الكاملة. يأتي مفهومه للسيطرة من منطلق تكريس وجود حدود مفتوحة بين المناطق التي يعتبرها “مربعات أمنية” في لبنان من جهة، وكل المنطقة المحيطة بدمشق، بما في ذلك الطريق الذي يربط دمشق بحمص وحماة وصولا إلى الساحل السوري من جهة أخرى.

لا يمكن لإيران، التي تسعى إلى تكريس وجودها في منطقة سورية قريبة من لبنان تؤمّن لها السيطرة بطريقة أو بأخرى على دمشق، أنْ تقبل بأقل من وجود ممر آمن لها بين سوريا ولبنان. هذا كلّ ما في الأمر. هذا ما يوضّح ما لم يعد في حاجة إلى أي توضيح من أي نوع، خصوصا في مرحلة ما بعد استقبال عرسال وجرودها الآلاف من السوريين الذين فروا بسبب ممارسات النظام أولا، ثم بعد سيطرة “حزب الله” على قرى وبلدات عدّة، بما في ذلك القصير، لتأمين الطريق بين دمشق وحمص تحديدا.

ما فعلته الحكومة اللبنانية منذ العام 2014، عندما اشتدّت الضغوط على عرسال، يتلخص في أنها حمت البلدة وأهلها الذين لا يمكن الشكّ بأن أكثريتهم الساحقة تدعم الجيش وقوى الأمن. الأكيد أن ليس أهل عرسال الذين جاؤوا بـ“داعش” و“النصرة” إلى مناطق في جوار بلدتهم، وإلى داخل البلدة أحيانا. الأكيد أيضا أن لا علاقة لأهل عرسال بخطف العسكريين اللبنانيين الذين خطفهم “داعش”. هؤلاء خُطفوا في العام 2014 خارج عرسال واقتيدوا إلى الأراضي السورية. ليس الجيش الذي قصّر في استعادة العسكريين. من قصّر كان المزايدون الذين حذروا بالصوت والصورة، بعيد حصول الخطف، من أي تفاوض مع “داعش” من أجل تأمين إطلاق الرهائن.

لا يمكن للمقصّرين الذين فعلوا كلّ ما يستطيعون لسدّ الطريق على أيّ مفاوضات مع “داعش” ادعاء حرصهم على أرواح العسكريين. الجميع يعرف أن “داعش” تنظيم إرهابي يتبيّن كلّ يوم أن علاقته الأساسية هي بالنظام السوري وهي علاقة تقترب من أن تكون عضوية. لا يمكن للذين وضعوا كلّ العراقيل الممكنة لمنع استعادة العسكريين التهرّب من المسؤولية. كلّ شيء واضح وكلّ المواقف التي صدرت في تلك المرحلة مسجّلة. كل التواريخ معروفة. معروف متى بدأ التحرّك لمنع حكومة تمام سلام من تحقيق ما كانت تصبو إليه… أي إطلاق العسكريين اللبنانيين المحتجزين لدى “داعش” بعيدا عن عرسال.

لا شكّ أن “حزب الله” يمتلك آلة إعلامية متخصصة في قلب الحقائق، بما في ذلك الترويج لروايات من النوع الخيالي للتغطية على المجرمين الذين كانوا وراء تفجير موكب رفيق الحريري. لا يمكن إلا الاعتراف بأنّه بارع في ذلك. الدليل أنّه استطاع تمرير ما يريد تمريره على عدد كبير من اللبنانيين، خصوصا على مجموعة من المسيحيين السذّج الذين يعميهم حقدهم على كلّ ما هو سنّي أو درزي في البلد. هؤلاء أشخاص لا تحرّكهم سوى الغريزة والأفق الضيّق الذي منعهم من استيعاب مدى خطورة أن يكون في لبنان سلاح غير شرعي لدى ميليشيا قررت، بناء على طلب إيراني مباشر، المشاركة في الحرب على الشعب السوري.

في وقت، يسعى رئيس الوزراء سعد الحريري إلى تجنيب لبنان المزيد من الكوارث والمآسي عبر زيارات لبلدان مثل روسيا يمكن أن يفيد المسؤولون فيها في معرفة النتائج التي ستترتب على إعادة تشكيل سوريا، هناك محاولة واضحة لتكريس أمر واقع في لبنان. ليس الضجيج الذي يستهدف توجيه اللوم إلى حكومة تمام سلام وسعد الحريري نفسه ووزير الداخلية نهاد المشنوق سوى حلقة في حملة تصبّ في منع لبنان من أن تقوم له قيامة. أكثر من ذلك، ممنوع على لبنان حماية مصالحه، وممنوع على جيشه تحقيق انتصار من أيّ نوع. كلّ ما هو مطلوب وضع لبنان في خدمة المشروع التوسّعي الإيراني الذي يعني أنّه ورقة إيرانية لا أكثر.

في النهاية وفي مناسبة الذكرى الخامسة والثلاثين لاغتيال الرئيس بشير الجميل، يكتشف اللبنانيون أن بلدهم لا يزال مهددا. بغض النظر عن اعتراضات كثيرة على طريقة انتخاب بشير رئيسا، أو عن الأخطاء التي ارتكبت في مرحلة حمل فيها قسم من المسيحيين السلاح وأساؤوا إلى شخصيات تمتلك فكرا مستنيرا وبعد نظر مثل ريمون اده، يبقى أن بشير اغتيل لأنّه كان قادرا في العام 1982 على لعب دور توحيدي في لبنان. كان هذا الدور يقضي في البداية بإعادة الحياة إلى الجيش كمؤسسة وطنية تسيطر على كل الأراضي اللبنانية.

تندرج الحملة على الرئيسين سعد الحريري وتمام سلام والوزير المشنوق، وهي حملة تقوم على تزوير الحقيقة والواقع في سياق الترويج لشعار “الشعب والجيش والمقاومة” لتبرير بقاء لبنان “ساحة”. من يدرك خطورة هذه المعادلة التي تعني وضع الجيش في مصاف ميليشيا مذهبية، معروف لمن هو ولاؤها، لا تعود له حاجة إلى أي بحث عن الوضوح. كلّ شيء واضح. الجريمة واضحة وأبطالها معروفون.

في 2017، يعود لبنان إلى جدل عمره نصف قرن تقريبا. بدأ هذا الجدل قبل توقيع اتفاق القاهرة في العام 1969. كان عنوان الجدل وقتذاك، عندما بدأ السلاح الفلسطيني يتسلل إلى كل منطقة لبنانية، “الدولة والثورة”. هل من تعايش ممكن بين الدولة اللبنانية والثورة الفلسطينية؟ تبيّن أن هذا التعايش مستحيل. جلب السلاح الفلسطيني الذي كان استثمارا للنظام السوري في عملية القضاء على الدولة اللبنانية الاجتياح الإسرائيلي الذي أدى إلى تدمير كبير وإلى ما هو أخطر من ذلك. أدّى أيضا إلى حرب الجبل التي خلفت جروحا عميقة طالت نسيج المجتمع اللبناني.

إلى أين سيأخذ الإصرار على “المعادلة الذهبية” المسماة “الشعب والجيش والمقاومة” لبنان، خصوصا في مرحلة إعادة تشكيل سوريا والإصرار الإيراني على وجود فيها مع ربط هذا الوجود بالأراضي اللبنانية؟

هل هذا السؤال واضح لدى اللبنانيين، جميع اللبنانيين…أم ثمة حاجة إلى توضيح أكثر بعدما تبيّن، بالملموس، أن هناك وضوحا ليس بعده وضوح في لبنان.

اقرأ المزيد
١٤ سبتمبر ٢٠١٧
هل انتهت (داعش )؟

في أوائل عام 2016 كتبت مقالة تحت عنوان (بيد من سقطت الموصل؟) وذكرت فيها أن الموصل لم تسقط وإنما سلمت تسليماً (لداعش)، وأن السبب في ذلك يعود إلى خدمة المشروع الطائفي الذي يتولى التخطيط له الحرس الثوري الإيراني. وقلت وقتها أن الموصل سلمت (لداعش) بهدف كسر الروح العسكرية وسمعة الجيش العراقي، والذي كان قد انسحب انسحاباً فوضوياً من المراكز الدفاعية عن الموصل، وذلك بأوامر من (نور المالكي) الرئيس العراقي وقتها. لقد كان الانسحاب مستغرباً من الجميع؛ وجميع هذه الأحداث صنعت صناعة لإيجاد قوة عسكرية راديكالية طائفية شبيهة للحرس الثوري الإيراني.

إن الاتفاقية التي تمت بين (حسن نصرالله) و (داعش) من أجل إخراجهم من لبنان والذهاب بهم إلى العراق بمباركة الولي الفقيه لهو أكبر دليل على أن (داعش) كان وجودها في العراق والشام من أجل تكريس النفوذ الإيراني والطائفية..

وقد تحقق ما أشرنا إليه بإيجاد قوة الحشد الشعبي؛ والتي بدأت معالمها الطائفية الصفوية بالظهور والاستبانة. فمن أماني أغلب المجموعات الراديكالية الطائفية الموجودة في العراق حالياً أن يكون لها جيشاً شبيهاً بالحرس الثوري ينفذ المشروع الصفوي الطائفي المشين. وقد بدأت علامات تكّون هذه القوة بالظهور هذه الأيام، ومما يؤكد هذا الكلام أن هنالك فصائل أصبحت تطلق على نفسها مسمى «حزب الله العراق»، وغير ذلك.

إن الاتفاقية التي تمت بين (حسن نصرالله) و (داعش) من أجل إخراجهم من لبنان والذهاب بهم إلى العراق بمباركة الولي الفقيه لهو أكبر دليل على أن (داعش) كان وجودها في العراق والشام من أجل تكريس النفوذ الإيراني والطائفية.

وبما أن داعش قد سقطت عسكرياً قبل أوانها المقرر، فلا بد أن يعاد شيء من القوة لها أي (داعش). (فداعش) والحرب على (داعش) هو ما صنع الحشد الشعبي وكرّس النفوذ الصفوي، ودمر القوة السنية في الرمادي والموصل، فهذه المناطق هي التكتل السني الذي يقع حاجزاً جغرافياً بين النفوذ الصفوي في العراق، والحراك الصفوي في الشام. ولكي تكون الطريق سالكة بانسياب فلا بد أن يزال كل عائق بين العراق والشام. نحن جميعاً نعلم أن (داعش) كانت تستفيد من موارد تهريب البترول والآثار وكان ذلك يتم بمباركة (بشار الأسد) وتنسيقه، وجميعنا يعلم أن الموصل كان من الممكن استعادتها بأقل الضرر. إن ما لحق بالموصل من ضرر وتدمير لجميع البنى لا يدل أبداً على أن القوات التي كانت تحارب (داعش) كما قيل هدفها تدمير (داعش) فقط! وإنما كان الهدف من وراء ذلك هو تدمير بنية حضارية وإنسانية، وتغيير لطبيعة المنطقة، وهذا ما حدث في الرمادي، فالناس هناك يختطفون ويختفون من غير أن يكون هنالك سبب غير السبب الطائفي. لقد ضخم الإعلام ونفخ في حقيقة هذه الفئات المتطرفة وأعني هنا (داعش)، حتى أن بعض التقارير العالمية ادعت أن (داعش) أصبحت تملك القدرة على التصنيع العسكري المضاهي للصناعة العسكرية التركية، وجميع هذه الأشياء الخاصة (بداعش )، وتضخيمها كانت لأسباب تتفاوت بين الطائفية ونوايا انتهاك حقوق الإنسان.

فمن الأسئلة التي يجب طرحها هي كيف استطاعت جماعة حسن نصر الله التفاوض مع (داعش)؟، وهي التي لم تتفاوض أبداً لا على باب الأسرى، ولا على فك مساجين، ولا على إنقاذ أناس من الإعدام، فكيف حدث أن تتفاوض هذه المجموعة مع جماعة نصرالله، وكيف رضيت جماعة نصرالله بهذه الصفقة التي لم تعد عليهم إلا باستعادة رفات قتلى بمقابل خروج (داعش) بأسلحتها وعوائلها من لبنان؟ علماً أن عناصر حزب الله كانت تهدم البيوت في الشام على رؤوس أصحابها العزل بذريعة اغتيال عنصر واحد من حزب الله. ولا يخف على أحد أن جميع التفجيرات التي استهدفت التجمعات البشرية هي من فعل (داعش) فقط. لقد ثبت أن (داعش) لم يكن هو الوحيد الذي مارس التفجير والقتل داخل حشود مواكب العزاء، بل إن هنالك ما يدل على تورط الحرس الثوري الإيراني وأتباعه في هذه التفجيرات، وكما قيل: إن الغاية تبرر الوسيلة، وقد بدأت معالم انكشاف هذه الممارسات المشينة لتحقيق المشروع الطائفي تظهر وتستبين للعيان والمراقب. وبما أن هذا المشروع الطائفي لم ينضج بعد ولم يقف على رجليه بعد فإنهاء( داعش ) في هذا الوقت ليس من مصلحته، وفوائد وجود( داعش) مازال قائماً حتى هذه الساعة. فوجود داعش في فترات سابقة وآنية كان له فوائد للمشروع الطائفي والذي أدى إلى وجود مليشيات الحشد الشعبي أو حزب الله العراق، وهو ما تأمله وتخطط له الجماعات الصفوية في إيران والعراق. ولنذكر كيف أن قيام الحشد الشعبي قد تم بسبب ما قيل من أن الحشد الشعبي سوف يهجم على النجف والكوفة وكربلاء، وأنه سوف يهجم على بغداد، وبسبب هذه الدعاية تكثف قيام ونشوء الحشد الشعبي إلا أن هذا الحشد لم يقف على رجليه بعد فهو يحتاج إلى عدو ضاغط مثل جماعة داعش تعجل في قيام وازدهار الحشد الشعبي وقوته، ولا ننسى أن طريقة قيام ونشوء الحشد الشعبي شبيهة إلى حد بعيد بقيام وازدهار وتمكن الحرس الثوري. فالحرس الثوري كان في أول نشوئه مليشيات تحرس الخميني، ثم تحولت إلى قوة موازية للجيش الإيراني في الحرب العراقية الإيرانية، وبعد ذلك تحول إلى قوة مهيمنة على مفاصل الدولة في إيران، وهذا ما يخطط له في العراق. فجماعات المشروع الطائفي تخطط لأن يكون الحشد الشعبي هو النواة لقوة موازية للجيش العراقي، وكان خير ذريعة لقيام هذا الحشد الطائفي هو محاربة (داعش)، إلا أن (داعش) بدأت بعد حرب الموصل تلفظ أنفاسها الأخيرة مبكراً، وقبل أن يتم المشروع الطائفي خصوصاً وأن هنالك الاستفتاء على انفصال منطقة كردستان عن العراق وما سوف يتم في الأيام القادمة أن (داعش )من الممكن أن نسمع عن سيطرتها على بعض المناطق الكردية، ولهذا الوجود فوائد لأربع دول معترضة على الاستفتاء وهم (العراق، وإيران، وتركيا، وسورية). فاستمرار الحرب على (داعش) مطلوب لأهداف متباينة عند جميع الأطراف.

اقرأ المزيد
١٣ سبتمبر ٢٠١٧
تأهيل النظام و «ترحيل» الحل السياسي

التوجه الدولي الذي أفضى إلى اعتماد مسار آستانة كان يقول بالفم الملآن أن لا قدرة على إيجاد حل سياسي راهناً في سورية، وبالتالي البحث عن هدنة تُرحّل الحل إلى أجل بعيد هو البديل عن ضراوة الحرب. استبعاد إمكان الحل السياسي أساسه موضوع الأسد ذاته، وذلك ليس بسبب غياب بديل عنه يؤدي الدور والوظيفة ذاتَيهما، بل لأن إزاحة الأسد تمثل رمزية هزيمة لمشروع، وبقاءه يمثل رمزية انتصار للمشروع ذاته.

في تلك المعمعة يتلازم الإجماع الدولي الذي تقوده روسيا مع التوجه الإقليمي الذي تقوده مصر باعتبار أن هيكل النظام لا يمكن التفريط به، والمؤسسات بما فيها الجيش هي الضامن للحفاظ على مقومات الدولة السورية في المستقبل. الولايات المتحدة التي اشترطت عدم قتال فصائل المعارضة لجيش الأسد منذ البداية سارت بهذه النظرية، وإسرائيل، على غير عادتها في التعامل مع جيوش المنطقة، قبلت بها أيضاً، وبالتالي كان واضحاً أن مشروع الحل الموقت، الذي لا يشترط حرفية مسار جنيف، يفترض انخراط المعارضة بالنظام في شكل من الأشكال، الخلاف هو على النسبة وعلى الضمانات بأن لا تعود سورية دولة استبداد وتُهدَر كل تضحيات الشعب السوري في إطار تسوية كبيرة على حسابه، لكن كيف يمكن أن يظل الأسد وفق هذا التصور؟ وما الحاجة إلى مرحلة انتقالية لو بقي الأسد؟

البروفة الفعلية الأولى لهذا السيناريو لم تكن مُوفقة، فلقد فشلت جهود توحيد أجنحة المعارضة السورية مؤخراً في الرياض. افتراض أن توحيد رؤية المعارضة يستلزم جذب منصتي الرياض والقاهرة إلى المنطق الذي تتحدث به منصة موسكو فيه كثير من التجني على قوى الائتلاف، فالذهاب إلى هدنة تحت ضغط الأمر الواقع لا يشترط التخلي عن التصور الأساسي للحل. وقد بدا أن التوافق مع منصة موسكو يكاد يشبه عملية التوافق مع الأسد ذاته! فالمعروض لم يكن إلا استسلاماً لمقولة أن الإبقاء على مؤسسات ومعالم الدولة في سورية يرتبط حكماً ببقاء شخص الأسد. هذه مكافأه للدور الذي تلعبه روسيا باعتبارها الشرطي الذي يرعى الهدنة لا أكثر، والشبهة تصبح أكثر اتضاحاً عندما يتعلق الأمر بالاتفاقات الاقتصادية وتلك التي توهب أو تُؤجّر المرافق السورية والمقدرات والثروات لروسيا وإيران لعقود من الزمن وكلها ترتبط سياسياً بشخص الأسد وببقاء النظام ذاته أيضاً.

بالأساس لم يكن بقاء النظام وفقاً لهذا التصور مشكلة، المشكلة تكمن في أن يبقى كما هو بخصائصه وطبائعه ورموزه، هذا هو الموضوع، وليس خافياً أن التحول الثوري الذي أعطى الكلمة الفصل للشعوب عام 2011، عاد اليوم ليعطي الإمرة للأنظمة والجيوش. هذه خلاصة مسار تراكمي أفضى، منذ استشهاد الطفل حمزة الخطيب، إلى يقين بأن الأنظمة والجيوش في منطقتنا لا تُحاسَب على فِعلة ولا تُساءل على خطأ، وهي مستعدة لكي تُهزَم أمام العدو على أن لا تفقد هيبتها أمام الشعب. هذا الشعب الذي يُفترض أنه مصدر السلطات! التسويات تجرى في هذا السياق، لا تغيير جذرياً أو إعادة هيكلة للمؤسسات تحدد وظيفة جديدة لدور وطني جديد، ولا هي استنباط لقيادات عسكرية وسطية تُبقي على المؤسّسة وتضمن ديمومة النظام لحين إجراء انتخابات يقول فيها الشعب كلمته النهائية. هذا هو النموذج الذي يلوح في سورية وتعمل القاهرة وموسكو على هذه الرؤية من دون التطرق إلى مصير الأسد، لكن العقبات تكمن في كثير من حيثيات هذا المسار. كيف تدخل سورية إلى سلام أهلي من دون محاسبة أركان النظام والمسؤولين عن إطلاق دورة العنف وعلى رأسهم الأسد، أو من دون مصالحة ترتكز على معايير واضحة، وكيف تجرى انتخابات ويعود اللاجئون الذين قد يعكرون نقاوة وصفاء مجتمعه الذي أصبح، بعد خطابه الأخير، «أكثر صحة وأكثر تجانساً»؟

طبعاً هذا المنطق المقلوب ناجم عن توازن تفرضه الوقائع الميدانية، لكنْ في المقابل لا يوجد مسار قانوني - دولي يدعم عدالة ومشروعية المطالبة بتنحي الأسد، الأمر الذي تبرّره وتشرّعه الأكلاف التي دفعها السوريون جراء تمسكه بالسلطة.

تسليط الضوء على ضرورة توصّل أطياف المعارضة إلى ورقة واحدة قبل الشروع بالحل السياسي، وإن كان من الأفضل أن يتم، إلا أنه بمثابة شرط مسبق بحد ذاته وهو من قبيل التعجيز، وذلك حتى لو احتوت القرارات الدولية على مضامين نجحت روسيا في دسّها بهدف السيطرة على مفاصل الحل. فما الذي يمنع قيام مباحثات متعددة الأطراف، أساسها استعداد النظام لتقديم إصلاحات والتنازل عن امتيازات يملكها، وليس قدرة الشعب أو أطياف المعارضة على هضم تلك التنازلات؟

اقرأ المزيد

مقالات

عرض المزيد >
● مقالات رأي
١٣ أغسطس ٢٠٢٥
ازدواجية الصراخ والصمت: استهداف مسجد السويداء لم يُغضب منتقدي مشهد الإعدام في المستشفى
أحمد ابازيد
● مقالات رأي
٣١ يوليو ٢٠٢٥
تغير موازين القوى في سوريا: ما بعد الأسد وبداية مرحلة السيادة الوطنية
ربيع الشاطر
● مقالات رأي
١٨ يوليو ٢٠٢٥
دعوة لتصحيح مسار الانتقال السياسي في سوريا عبر تعزيز الجبهة الداخلية
فضل عبد الغني مدير الشبكة السورية لحقوق الإنسان
● مقالات رأي
٣٠ يونيو ٢٠٢٥
أبناء بلا وطن: متى تعترف سوريا بحق الأم في نقل الجنسية..؟
سيرين المصطفى
● مقالات رأي
٢٥ يونيو ٢٠٢٥
محاسبة مجرمي سوريا ودرس من فرانكفورت
فضل عبد الغني
● مقالات رأي
٢٥ يونيو ٢٠٢٥
استهداف دور العبادة في الحرب السورية: الأثر العميق في الذاكرة والوجدان
سيرين المصطفى
● مقالات رأي
١٧ يونيو ٢٠٢٥
فادي صقر وإفلات المجرمين من العقاب في سوريا
فضل عبد الغني