في وقتٍ أعلن فيه محققو جرائم الحرب التابعون للأمم المتحدة، بما لا يقبل الشك، مسؤولية الأسد في الهجوم بالسلاح الكيميائي الذي تعرّضت له بلدة خان شيخون في محافظة إدلب في أبريل/ نيسان الماضي، ما أسفر عن مقتل أكثر من 80 مدنياً وجرح مئات آخرين، معظمهم من الأطفال والنساء، وهو واحد من أكثر من 27 هجوما قامت به قوات الأسد بالسلاح الكيميائي ضد المدنيين في المناطق الخاضعة لسيطرة المعارضة، منذ العام 2011، منها سبعة بين الأول من مارس/ آذار والسابع من يوليو/ تموز، أقول في هذا الوقت بالذات، صرح مبعوث الأمم المتحدة إلى محادثات السلام السورية، ستيفان دي ميستورا، بأن الحرب في سورية انتهت تقريباً، لأن دولا كثيرة انخرطت فيها فعلت ذلك من منطلق هزيمة تنظيم الدولة الإسلامية في سورية، وأن على المعارضة السورية قبول أنها لم تنتصر في الحرب، ما قد يقود إلى مواجهة "لحظة الحقيقة"، متسائلا في ما إذا كانت المعارضة السورية "قادرة على أن تكون موحّدة وواقعية بالقدر الكافي لإدراك أنها لم تفز بالحرب"، أي خسرتها.
يطرح هذا التصريح حقيقة الدور الذي لعبته، ولا تزال تلعبه، الأمم المتحدة في ما سميت عملية الحل السياسي التي أطلقتها المبادرة العربية الدولية، منذ الأشهر الأولى للثورة أو/والحرب، والتي لم تسفر حتى اليوم عن أي نتيجة سوى الفشل بعد الفشل، ما دفع مبعوثين سابقين للأمين العام للأمم المتحدة إلى الانسحاب من مهمتهم، والاعتذار للشعب السوري. وبمقدار ما يفضح هذا التصريح حقيقة ما يفكّر فيه المبعوث الأممي للسلام يكشف طبيعة الحل الذي يتصوره دي ميستورا، والذي يعتقد، كما هو واضح من حديثه، أن على المعارضة التي خسرت الحرب أن تعترف بذلك وتعمل بمقتضاه، أي تتصرف من موقع المهزوم، وتقبل ما يُعرض عليها، أي ما يريده الروس والإيرانيون. بمثل هذا الكلام يضع دي ميستورا نفسه، بشكل واضح وصريح، في خدمة الأسد الذي لم يتردّد في الحديث بالمعنى ذاته عن انتصاره، ولا يكفّ عن ترديده في كل أحاديثه، طالبا من المعارضة/ "الإرهاب" إلقاء السلاح والاستسلام. ما يعني أن المبعوث الأممي يعتقد اليوم، تماما كما يعتقد الأسد، أن لا حل سياسيا ممكن من دون التسليم بهزيمة المعارضة، والقبول بالتطبيع مع النظام القائم الذي لن يربح في نظر دي ميستورا الحرب بعد، ولن يضمن انتصاره، ما لم يقبل بفتح مفاوضات لتلقي استسلام المعارضة والمصادقة عليه.
بالتأكيد لم تربح المعارضة المسلحة الحرب ضد النظام، وما كان لها أن تربحها، مهما فعلت في مواجهة تحالفٍ ضم إلى جانب قوى النظام السوري الذي صادر الدولة ومؤسساتها ومواردها للدفاع عن نفسه وزعيمه، روسيا "العظمى" وإيران الخامنئية الطامحة إلى إعادة مجد الأمبرطورية الساسانية، ومليشيات الحشود الشعبية الطائفية والتنظيمات الإرهابية التي تعمل على هامشها وضمن استراتيجيتها. وفي نظري، يشكل صمود المعارضة المسلحة واستمرارها في القتال خلال ست سنوات متواصلة، من دون دعم جدي ولا حليف استراتيجي، وفي مواجهة اختراقات الأجهزة الأمنية المحلية والإقليمية والدولية، بحد ذاته معجزة، ويشير إلى عمق إرادة التحرّر في انتفاضة السوريين، وتصميمهم على التخلص من نظامٍ هو نفسه مؤامرة مستمرة على الشعب والبلاد، والاستعداد غير المسبوق للتضحية من أجل التخلص من نظامٍ تحوّل إلى آلة للقتل والتطويع والترويع، وصار بمثابة مؤامرةٍ، تشارك فيها أكثر من دولة ونظام، على استقلال شعب وسيادته على أرضه وحقه في تقرير مصيره، واختيار ممثليه بإرادته الحرة. ما من شك في أنه كان للتحالف الدولي ضد السوريين تفوّق عسكري لا يقارن، لكني لم أسمع أحدا يصف سقوط الغيتوات اليهودية تحت ضربات الجيوش النازية بالهزيمة، أو يعترف لهتلر فيها بالانتصار. ليس لأن النازيين لم يربحوا الحرب ضد المقاومة الضعيفة للمعازل المحاصرة، وإنما لأن ما قاموا به كان جريمة، ولا يوصف إلا بوصفه كذلك. وهذا ما فعله الأسد ومليشيات حلفائه الرديفة بالقرى والمدن والأحياء السورية، وبمقاومة فصائلها الشعبية التي كانت ولا تزال تفتقر لكل ما يساعدها على أن تكون قوةً عسكرية قادرة على تحقيق أي انتصار، أعني التنظيم والتدريب والخبرة والإدارة والسلاح والقيادة الموحدة.
هؤلاء الذين هاجموا المدنيين بأسلحتهم الكيميائية وبراميلهم المتفجرة وصواريخهم الباليستية، ودرّبوا وجربوا فيهم كل أسلحة روسيا الجديدة، وخردة الأسلحة الإيرانية، وقضوا على أكبر عدد ممكن منهم، وشرّدوهم من بيوتهم، ليسوا ولا يمكن أن يعدّوا منتصرين في حربٍ، بل هم مجرمون، تماما كما وصفتهم عشرات التقارير الصادرة عن المنظمات الحقوقية والإنسانية الدولية، وجديدها أخيرا تقرير لجنة التحقيق الدولية المنبثقة عن الأمم المتحدة. مثل هذه الجرائم التي نظر إليها دي ميستورا انتصارات، ولو مؤجلة حتى تحقيق الحل السياسي واعتراف المعارضة باستسلامها، لا يكافأ عليها، ومن العار على ممثلٍ للأمم المتحدة أن يذكّر ضحاياها، ولا أقصد مئات آلاف القتلى وملايين الجرحى والمعاقين والمشردين فحسب، وإنما الشعب السوري الذي قوّضت حياته ودمرت بلده ومستقبله، بأنهم لن ينالوا السلام والسكينة ووقف القصف والقتل إلا بالاعتراف بهزيمتهم، فمجرد صمودهم أمام القوة المتوحشة وتصميمهم على مواجهة الظلم والعدوان، وبذلهم أرواحهم وأبناءهم، وكل ما يملكون لرفع الظلم عنهم، هو أكبر انتصار، لكنه من نوع الانتصارات التي لا يمكن لمستخدمٍ من الأمم المتحدة أن يشعر بها أو يدرك فحواها الأخلاقي العظيم. وهذا هو المحرّك الأكبر لثورة الكرامة والحرية، وطلب المقاومة والنصر.
بدل أن يُضغط على المجرم والمعتدي، يريد الانتقام مجدّدا من الضحية، وتدفيعها ثمن فشله وانعدام حيلته وسوء نيته، محاولا أن يغطي تواطؤه، كباقي الدول "العظمى" وراء الحرب على "داعش" والمنظمات الإرهابية التي أطلق يدها المجرمون أنفسهم، لتلغيم الأرض التي تسير عليها المقاومة الشعبية، وتبرير التواطؤ مع العنف العاري والحرب الوحشية التي أعلنها نظام القتلة على شعبٍ كاد يفقد كل نوابضه الإنسانية.
بعد انحيازه إلى جانب الجلاد، ومطالبته تلك من المعارضة، وهو يقصد الثورة ومن ورائها الشعب السوري الذي ضحّى بكل شيء للتخلص من قاتله، لم يعد للمبعوث الأممي أي شرعيةٍ في أن يستمر في رعاية العملية السياسية، هذا إذا كان لا يزال هناك معنى لعمليةٍ سياسية أصلا عندما يقرّر مسبقا راعيها من هو المهزوم ومن هو المنتصر. ومن واجب المعارضة تجاه الشعب السوري، ممثلةً بهيئة المفاوضات، أن ترفض الاجتماع بدي ميستورا ثانية أو اللقاء به، وأن تطلب رسميا من الأمين العام للأمم المتحدة تحمل مسؤولياته، وتعيين ممثل آخر أكثر جدية واحتراما لمعاناة الشعب السوري، وأكثر احتراما لأرواح الضحايا وتضحياتهم.
لقد فقد ستيفان دي ميستورا أهليّته ليكون وسيطا نزيها ودبلوماسيا محنّكا، وأخلّ بواجبه تجاه الأمم المتحدة، وبالمهمة الكبيرة التي أوكلت له. وفقد ثقة الشعب السوري به، بعد أن أعلن انحيازه للقاتل ضد ضحيته، على الرغم من أنه لم يحقق أي تقدم أو إنجاز منذ تعيينه. ولوكان لديه أدنى شعور بالمسؤولية تجاه الشعب السوري الذي سلم له مفاتيح أمره، لأعلن، منذ زمن طويل، فشله وقدّم استقالته واعتذاره للشعب الذي ابتلي بخدماته، كما فعل من سبقه. اللهم إلا إذا كانت الأمانة العامة للأمم المتحدة شريكة الأسد والحليف السري له، وهذا ما لا أؤمن به.
أعرف أن الأمين العام للأمم المتحدة لا يستطيع أن يجترح المعجزات، لأنه مقيّد بآراء الدول الأعضاء. لكن إذا لم يكن للسيد غوتيريس أي سلطة على الإطلاق على هذه الدول، ويعتقد بالفعل أنه لا يملك أي وسيلة ضغط لدفعها إلى الاضطلاع بمسؤولياتها واحترام قراراتها ومواثيق الأمم المتحدة التي وقّعت عليها، فاستمراره في منصبه يعني أنه يقبل أن يكون شاهد زور، وشريكا في إبادة شعب وتجريده من حقوقه، وتقويض مواثيق الأمم المتحدة، وتبرير الانتهاكات المستمرة لحقوق الناس.
يستطيع الأمين العام للأمم المتحدة أن يلعب دورا كبيرا، ويمارس ضغطا قويا إذا توجه إلى الرأي العام الدولي، ووضع الدول الأعضاء، وأعضاء مجلس الأمن بشكل خاص، أمام مسؤولياتهم، واحتجّ على تهاونهم في تطبيق القرارات الدولية، وتغطيتهم على مرتكبي جرائم الحرب وجرائم الإبادة الجماعية والجرائم ضد الإنسانية. ولا توجد أي ذريعة تبرّر موقف دي ميستورا الممالئ للأسد وطهران، ولا موقف الأمين العام للأمم المتحدة غوتيريس الساكت على تقويض عملية السلام، والمتعايش مع خيانة الدول الأعضاء في مجلس الأمن التزاماتها واستمرارها في تقويض حياة شعب كامل، من أجل الحفاظ على مصالح استعماريةٍ لا مشروعة. وهو مسؤول أمام الرأي العام الدولي، وقبل ذلك أمام الشعب السوري، عن وضع حد للاستهتار بالقرارات الدولية، والتواطؤ بالصمت على فتك النظام بالسوريين، وتعطيل أي عملية سياسية، والاستمرار في الخداع من أجل إجبار الشعب السوري على الاستسلام، وهو الأمر المستحيل. لن تعمل خسارة المعركة العسكرية إلا على مزيد من التصميم على الاستمرار في المعركة السياسية، حتى تحقيق الأهداف الإنسانية التي خرج من أجلها السوريون، وإقامة العدالة وحكم القانون.
ينتظر من اجتماع الأستانة المقرر هذا الأسبوع أن يرسم الخطط النهائية لمنطقة خفض التوتر في إدلب، رسم يكون فيه توزيع القوى و الفصائل مما يمهد لإطلاق المنطقة، بعد أن يتم إنهاء العراقيل التي لا تخرج عن المعرفة العمومية ألا وهي "هيئة تحرير الشام" سواء أكانت كجهة عسكرية أم مدنية التحت بالهيئة مؤخراً.
لا يمكن إخفاء الدور المصلحي الدولي في سوريا، والذي يصل حد التدخل العسكري لفرضه بعد أن أعيت المفاوضات رجالاتها، وأفشل العناد الخطط لمجرد الإفشال دون إيجاد البديل المناسب، المقبول شعبياً قبل أن يكون الأمر متعلق بالمحيطين القريب و البعيد.
و لكن في الوقت ذاته هناك دور مشبوه لعبه المسيطرين على الأرض، و ظنوا أنهم باتجاه إجبار الجميع على التعامل معهم كونه المسيطرين الوحيدين، و لكن لم يقدموا أي دليل على ذلك إلا مزيداً من التعنت و الإقتراب من تجربة تنظيم الدولة بمراحلها الأولية التي تفضي بطبيعة الحال للنهاية ذاتها، فالدرس لم يفهم ولا بد من تكراره من قبل التنظيمات العابرة للحدود، التي لا تنفك عن فعل ذات الأمر بل ذات الأخطاء في كل مكان تحط به ليس بداية في أفغانستان و لا إنتهاء في العراق و سوريا.
ساعدت هيئة تحرير الشام جميع الدول على الدخول في العداء للسوريين و لكل من يقاتل إلى صفهم، وبعيداً عن الدخول في سلسلة تاريخية طويلة، فمع أولى انعقادات الأستانة، بدأت الشقاقات عندما ضغطت الهيئة ممثلة بـ"أبو محمد الجولاني" على حركة أحرار الشام ممثلة برئيس مجلس الشورى حينها "حسن صوفان" بعدم الذهاب للإجتماع، رغم الالحاح التركي الذي وصل حد الطلب الرئاسي الشخصي، لكن الجولاني قدم لصوفان الخارج حديثاً من العزلة طوال 12 عاماً، عروضاً ضمن كذبة التوحد و الإندماج والذوبان وما إلا ذلك، عروضاً أبعدت الحليف التركي الذي شعر بأنه غُدر به من قبل فصيل علّق عليه آمالاً كبيرة، وإذ بها مجرد سراب.
بعد اطمئنان الهيئة بحدوث الإنشقاق الأخير بين الحركة و تركيا، أتى دور الضربة النهائية التي بالفعل تمت دون جهود كبيرة نتيجة اختراقات الهيئة لصفوف الحركة، التي وهنت و تضعضعت صفوفها مع المعارك الدونكيشوتية الداخلية بين أقطاب أقرب لـ"الجهادية المتشددة" من "السلفية المتوازنة التي انتهجها المؤسسين الشهداء".
في العموم ظنت الهيئة عبر قطب الجولاني وجيشه "جيش النصرة"، أن فرض السيطرة التامة على كل ما هو موجود داخل ادلب وأريافها وصولاً إلى أرياف اللاذقية و حلب وحماة، يمنحها شرعية بقوة السلاح محصنة بما يقارب المليوني مدني، لكن القضية أبعد من مجرد تفكير بضع شخصيات تشي التسريبات عن ضحالة تفكيرهم و حصره بفرض المنطق بإنهاء هذا الفصيل أو ذاك، أم بتصفية سين من الشرعيين أو تمجيد عين من القيادين.
لا يمكن لوم أحد بعينه فيما وصلت إليه إدلب أكثر من لوم من ساعد على ذلك عبر الدراسات التي تم تقديمها للدول بأن الأمور وردية، أو أنه يمكن القضاء على الهيئة ببضع مفرقعات هنا وهناك، إذ أن وجودها في هذه البقعة يمثل الوجود الأخير لها في العالم المعاش، أي إما الإستمرار أو الإفناء التام لها ومع من حولها.
لفّ حسن نصر الله ودار خمسة أعوام، محاولا تبرير جريرته التي لا ولن تمحى من صفحات تاريخه الطائفي، ولن يغفرها السوريون، مهما طال الزمن، غزو سورية، وممارسة قتل يومي ضد شعبها، امتثالا لتكليف "شرعي" أصدره مجرم لا صفة له غير مذهبيته وعدائه العرب، اسمه خامنئي، ولا غرض له غير إنقاذ مجرم آخر اسمه بشار الأسد، مذهبي وكاره للعرب. بدايةً، قال نصر الله إنه يغزو سورية "كي لا تُسبى زينب مرتين". بعد ألف وأربعمائة عام ونيف، ظلت زينب خلالها آمنة مطمئنة في قلوب حُماتها من مسلمي سورية وعربها وأرواحهم، اكتشف أنها مهدّدة، وأن عليه غزو سورية لإنقاذها من سبي ثانٍ، سيقوم به حُماتها التاريخيون! وقد أطاعه قطيع طائفي يأتمر بأمر خامنئي. لذلك، لم يسأله أحد منهم: وهل يحمي عاقل ميتةً بقتل أحياء يقدّسونها؟ كان نصر الله يعلم أن من يتهمهم بسبيها لن يستطيعوا الصعود إلى دار الحق، وانتزاعها من الرفيق الأعلى، فاختطفها هو من المسلمين، ليستخدمها في إثارة هيجان طائفي وثني، يحوّل حزبه إلى وحوش ستستبدل أكذوبة السبي عقولها الآدمية بغريزة لطالما جرّمها الإسلام، هي قتل النفس التي حرّم الله قتلها. منذ سبيها على يدي نصر الله واستخدامها لتبرير غزو سورية، وخامنئي ونصر الله، الحريصين على ميتةٍ، يغسلان أيديهما بدماء السوريين، وينافسان البغدادي والجولاني على جعل القتل شعيرة إلهية، يكفران من يرفض ممارستها، كما يكفران ضحاياها أيضا. لقتل الآخر لأنه آخر، ولإعلاء مكانة أموات على الأحياء، لا بد لتحويل قطيع مذهبي إلى حثالاتٍ ما دون بشرية، تعبد أوثانا وتضعها في مقام الواحد الأحد، ترفض رحمانية الإسلام ونزعته الإنسانية، وتجعل القتل طقسا إلهيا مقدسا، يبلغ القاتل بواسطته درجةً من العرفان، يؤمن معها أنه بقتل ضحاياه الأبرياء لا يرتكب معصية، بل يرد الحسين إلى الحياة، ويحمي زينب من السبي، بالثأر لهما من المغاير مذهبيا، المجرم بالوراثة.
أخرج نصر الله زينب من لحدها، وأبلغ جماعته أن حمايتها تتطلب قتل السوريين من دون تمييز. وحين أيقن أن وحوشه فقدوا تماما إنسانيتهم وعقولهم، ودخلوا في الحالة التي تجعلهم مهيئين تماما لتنفيذ مخططات خامنئي، كشف أن الغزو لم يكن لحماية زينب، بل وقع امتثالا لتكليف شرعي صدر عن خامنئي، دام رصاصه الشريف.
بعد استعمال زينب لإيقاظ نزعات إجرامية، صار محرّر فلسطين واثقا من أن قطيعه سيصدّق أية أكاذيب أخرى، فأخرج من جرابه حكاية القرى الشيعية على الحدود اللبنانية/ السورية قرب القصير التي يجب إنقاذها، على الرغم من أن أحدا من جيرانها لم يرمها، ولو بوردة. عند دخول مرتزقته إليها، قوبلوا بتذمّر سكانها الذين يعيشون بسلام ووئام مع شركائهم في التهريب من سنّة قراهم والقرى المجاورة، ومسيحييها وعلوييها، لا يعكر صفوهم غير خوفهم من مهرّبين يسيطرون على حدود الشعب الواحد وجماركه في الدولتين الشقيقين، قدموا من "عرين الأسد" في القرداحة، وأسسوا شبكات تهريب وسرقة عابرة للقطر الممانع والمقاوم، بمعونة شركائهم في حزب "السيد"، قبل أن يتفرّغوا لقتل اختطاف مهرّبيها الأصليين، ويقسموا برأسي بشار الأسد وحسن نصر الله، أنه لا شيء يمنعهم من تحرير الجولان وفلسطين غير قلة الوقت، وانشغالهم بتوطيد عرى التعاون الأخوي مع إخوتهم في شبكات تهريب المخدرات وتجارة السلاح من قادة الحزب الفارسي الشقيق.
ما أن دخل القطيع إلى سورية، حتى قصد مدينة القصير، ليعمل سيف الخامنئي في رقاب سكّانها، ويقتل قرابة ألف منهم ويهجر ثمانين ألفا، ثم يجرف أحياء كاملة منها. بعد القصير، وما أثاره "انتصاره الإلهي" عليها من حماسة، أخرج نصرالله من جرابه أزعومة جديدة، سيكون ضحيتها ملايين السوريين، هي حتمية غزو العمق السوري للقضاء على "إرهابيين/ تكفيريين"، يوشكون الدخول إلى لبنان. عند هذا الحد من "التكليف الشرعي"، فجر "داعش" قنبلتين في الضاحية الجنوبية، فأعلن السيد أنه قرّر إنقاذ ضحيتها الرئيس بشار حافظ الأسد، المستهدف إمبرياليا وصهيونيا، كي يقلع عن المواء كهر صغير يختنق بهزائمه ودماء ضحاياه. من الآن، نسي خامنئي ونصر الله زينب وشيعة القصير، ونشرا قتلتهما على مجمل الأرض السورية، والمهمة: إبادة شعبها الإرهابي /التكفيري. عندئذ، انطلقت الحناجر بنشيد حزب المقاومة، بكلماته الوطنية الجميلة: رصاصة منك ورصاصة مني ما منترك بالأرض سني.
أسمعنا نصر الله أسطوانة "الإرهاب التكفيري" أربعة أعوام. وحين تحارَب مع جماعة هيئة تحرير الشام التي تفاخر العالمين بصفتها تنظيما إرهابيا/ تكفيريا، وبعد أن أعلن سماحته أنه أحرز "انتصارا إلهيا" عليها، بادر إلى عقد اتفاق رسمي معها حول مغادرتها لبنان، وقبل أن تصعد إلى الباصات الخضراء المكيفة، أخرج بعض معتقليها من سجون "الدولة" اللبنانية، فسافرت جحافلها الجرّارة الكرّارة التي بلغ عديدها رقما فلكيا، هو 120 مقاتلا بالتمام والكمال، سالمة غانمة إلى إدلب، بحراسة قواته الظافرة وفلول الجيش الأسدي التي لم ترمها ولو بحصاة، وهي تعبر أربعمائة كيلومتر من الأرض السورية يخضع معظمه لها. بعد انجلاء غبار "الانتصار"، تبين أنه كان لدى "الجماعة الإرهابية/ التكفيرية" أسرى وجثامين، وأن عدد من قتلوا وجرحوا على يد جيش جبهة النصرة العرمرم بلغ مائةً من أبطال حزب التحرير والعودة الذي لا يصد ولا يرد، وأن بعضهم أسر خلال المعركة التي سبقت سفر الإرهابيين/ التكفيريين السياحي الميمون.
لم يكتف نصر الله بهذه الفضيحة التي تكشف حجم ما اختلقه ليغطي جريمة غزو سورية وإنقاذ جلادها والبطش بشعبها، فقد اتفق مع مجرم دمشق على إخراج "داعش" من لبنان إلى منطقة سيطرة "دولتها" شرق دير الزور، القريبة من حدود العراق، متناسيا مزاعمه عن غزو سورية للقضاء عليها. أما بطل الحرب الآخر ضد الإرهاب، بشار حافظ الأسد، فتولى حماية قافلتها طوال رحلة شاركت فيها عشرات من باصاته المكيّفة، امتدت على أكثر من سبعمائة كيلومتر. وعندما شنّت طائرات التحالف غارة يتيمة عليها، عاد إرهابيوها للاحتماء داخل مناطق الأسد الذي ابتز العالم نيفاً وستة أعوام، وسوّغ قتل ملايين السوريين الأبرياء وجرحهم وتهجيرهم وتجويعهم وتعذيبهم، بحجة حربه ضد الإرهاب. وها هو نصر الله يتفاوض ويتفاهم معهم على رحلة سياحية آمنة من لبنان إلى حدود العراق، ومدّعي الحرب ضد شعب"ه"، بحجة أنه يحميهم من التحالف الذي أغار مرة واحدة عليهم، فواصلوا رحلتهم بطرقهم الخاصة وحراسة الأرض والسماء إلى البوكمال، حيث تقول نكتة سمجة وثقيلة الظل إنهم سيقاتلون الأسد والتحالف.
قلنا دوما إن نصرالله وبشار لا يحاربان الإرهابيين، وليس لهما من عدو أو هدف غير شعب سورية، لأنه ثار على نظامه الطائفي الإيراني التبعية. استهدف السيد ومسلحوه، وسفّاح طهران، المواطن السوري بالقتل والتهجير والاعتقال والتجويع والحصار، لأنه ثار على ظلم تابعهما. أليس هذا ما تقوله لنا الباصات المكيّفة التي بدل أن تنقل الإرهابيين إلى السجون والمشانق، كما توعدهم نصر الله وبشار مرات عديدة، حملتهم ، بعد "انتصار إلهي" آخر، وتحت حماية مشدّدة، إلى الداخل السوري، ليواصلوا جرائمهم ضد المواطن الذي لن ينسى، ما دام فيه عرق ينبض، هذه "المأثرة" لنصر الله ومرشده.
ربما كان من الطبيعي أن يفكر بعض السوريين، وقد غرقوا في الكارثة، وغرق بلدهم بالخراب والدمار نتيجة سياسات نظام الأسد وحلفائه باللجوء إلى بريطانيا في عداد الدول الأوروبية التي توجه إليها النازحون، وثمة كثير من الحيثيات التي تدعم رغبة السوريين في الذهاب إلى بريطانيا، الأبرز بينها هو سهولة اللغة الإنجليزية، التي تعد الأكثر شيوعاً في التعليم السوري، وهي الأكثر انتشاراً في العالم، والثاني ما شاع من مزايا إنجليزية في مساعدة اللاجئين من سكن وطبابة، ووثيقة سفر هي بين الأفضل في الوثائق العالمية، والثالث أن بريطانيا بين الدول الأولى التي تشجع توطين الوافدين لتعديل النسبة السلبية في النمو السكاني، خصوصاً إذا كان الوافدون من الشباب.
غير أن رغبة النازحين السوريين الراغبين في اللجوء إلى بريطانيا بدت أمراً مختلفاً عن سياسة لندن في هذا المجال، إذ إنه وبالإضافة إلى التشدد البريطاني في منح تأشيرات السفر للسوريين منذ بداية حرب النظام في مارس (آذار) 2011، اتخذت إجراءات من شأنها زيادة المعيقات أمام وصول ولجوء السوريين إليها، ومنها تأخير إقامات اللاجئين، وإجبارهم على العيش في أماكن لا تتناسب مع أوضاعهم كوافدين جدد، والتضييق المادي وفي الخدمات الصحية عليهم ضمن سياسة تدفعهم إلى المغادرة إلى بلد آخر مع تقديم مساعدة مالية تشجعهم على هذه الخطوة، غير أن الأهم في هذه الإجراءات كان تقليص تدخل الإدارات الحكومية المختلفة ومنظمات المجتمع المدني في ملف الهجرة واللاجئين، وحصره بوزارة الداخلية، أي جعله «ملفاً أمنياً»، بحيث صار خارج النقاش والتدخلات من أي مستوى كان.
ورغم أهمية وفعالية هذه الخطوات لمواجهة طالبي اللجوء الذين وصلوا إلى بريطانيا بشروط معينة، فقد استفادت السلطات البريطانية من حقيقة الحماية الجغرافية كونها جزيرة، ليس لها بشكل مباشر حدود برية مع أي بلد آخر، مما أعطاها مناعة نسبية، وجعلها أكثر قدرة في عدم التعرض لموجة الهجرة واللجوء، التي اجتاحت أوروبا في عامي 2015 و2016، وكان السوريون جزءاً أساسياً فيها، وقد أضافت السلطات البريطانية إلى ما سبق إظهار مزيد من التشدد حول موضوع الهجرة في علاقاتها مع شركائها في الاتحاد الأوروبي، فأصرت على إعادة كل وافد جاء من بلد عضو في الاتحاد وبصم فيه، وذلك طبقاً لاتفاقية «شينغن» التي ميزت بريطانيا نفسها بعدم القبول بفيزتها العمومية، كما نظمت السلطات البريطانية مع فرنسا مجموعة مشتركة على الأراضي الفرنسية لمنع تسلل وافدين غير شرعيين إلى بريطانيا.
لقد أحكمت السلطات البريطانية قبضتها على ملف اللاجئين الذي لا يضم سوى آلاف السوريين، ولم تحد من مجيئهم فقط، بل تتشدد بقبول وجودهم، وتقوم بترحيل بعضهم إلى جانب ممارسة سياسة التطفيش لترحيلهم بصورة غير مباشرة، وعتمت قدر المستطاع على هذه السياسة، تجنباً لإثارة مؤيدي حقوق الإنسان وداعمي حقوق اللاجئين ومنظماتهم، التي تواطأ بعضها مع سياسات الحكومة، وقلصت فرص طرح الموضوع في الصحافة البريطانية قدر المستطاع، حتى لا تتحول قضية اللاجئين إلى قضية رأي عام.
وذهبت الحكومة البريطانية لدعم سياستها المتشددة في موضوع اللاجئين إلى خطوتين محسوبتين، لتزين تلك السياسة بأقل قدر من المسؤولية، أولاها السير على طريق دول أخرى في الانخراط ببرنامج إعادة التوطين الذي تتابعه الأمم المتحدة، وهو برنامج يشمل أعداداً محدودة، ويستغرق تنفيذه زمناً طويلاً لإتمام عمليات اللجوء، وثانيتها القيام بمشاركة دول أخرى باختيار لاجئين من تجمعات اللاجئين في دول الجوار السوري ولا سيما الأردن ولبنان، والقيام بجلبهم للإقامة في بريطانيا. وإن بدا الهدف البريطاني من الخطوتين المساعدة على معالجة قضية اللاجئين السوريين، فإنه في الجانب الأهم إعلامي ودعائي، هدفه التغطية على السياسة البريطانية العميقة في هذا المجال والموصوفة بالتشدد والسلبية.
إن مئات قصص اللاجئين السوريين في بريطانيا تروي معاناتهم وظروفهم الصعبة وغير الإنسانية، التي يعيشون في ظلها، وهناك عشرات التقارير الصحافية وجزء منها منشور في الصحافة البريطانية، التي تناولت تلك الصعوبات، والتي لا تستمر فقط، وإنما تتراكم، وتترك أثرها لدى أنصار اليمين البريطاني لممارسة مزيد من التصرفات العنصرية ضد اللاجئين والسوريين منهم، فيتم الاعتداء عليهم وعلى بيوتهم، وتوجه إليهم الاتهامات بأنهم يستولون على فرص عمل البريطانيين وعلى بيوتهم، ورغم أن ذلك لا يمثل ظاهرة واسعة الانتشار في أوساط البريطانيين، إلا أنه يفسح المجال أمام نمو هذه الممارسات، إذا استمرت سياسة الحكومة البريطانية حيال اللاجئين السوريين.
ولعله لا يحتاج إلى تأكيد قول، إن ثمة حاجة لقيام الحكومة البريطانية بمراجعة سياسات وإجراءات سياسة اللجوء حيال السوريين، وتقويمها بما ينسجم مع روح الاتفاقات الدولية وشرعة حقوق الإنسان، بل ومع مشاعر وروح الرأي العام البريطاني والقيم الإنسانية التي يتبناها ويدافع عنها، ومنها حق الإنسان في الحصول على ملجأ آمن، يوفر شروطاً إنسانية للحياة.
غير أن الأهم فيما مطلوب من الحكومة البريطانية في معالجة المشكلة، هو التقدم للمساهمة الجدية والفعالة إلى جانب القوى الإقليمية والدولية في حل القضية السورية، التي تخلق مزيداً من تهجير السوريين، نتيجة استمرار نظام الأسد وحلفائه بالحرب على السوريين، وإجبارهم على وقف الحرب وتوطيد السلام والبدء في مرحلة انتقالية تعيد بناء سوريا، وتوقف هجرة السوريين، وتتيح فرصة لعودة المهجرين وبعض اللاجئين إلى بلدهم.
في أواخر آب /أغسطس الماضي أدلى وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف بالتصريح التالي: «إذا كان أيّ طرف في الشرق الأوسط أو سواه يخطط لانتهاك القانون الدولي عن طريق نسف سيادة ووحدة أراضي أية دولة، بما في ذلك الشرق الأوسط وشمال افريقيا، فإنّ هذا مدعاة إدانة». كان لافروف يردّ على أسئلة المراسلين الصحافيين، حول تأكيد رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو بأنّ إسرائيل لن تتردد في قصف أية أهداف داخل سوريا يُراد منها تمرير أسلحة ستراتيجية إلى «حزب الله».
وفي آذار /مارس الماضي أعلن بشار الجعفري، ممثل النظام السوري في الأمم المتحدة، أنّ روسيا قد أبلغت إسرائيل بأنّ «قواعد اللعبة» في سوريا قد تغيرت، وأنّ حرّية النشاط الإسرائيلي في الأجواء السورية قد انتهت. وروى الجعفري حكاية مثيرة عن قيام الرئيس الروسي فلاديمير بوتين باستدعاء السفير الإسرائيلي، وإبلاغه أنّ «اللعبة انتهت». وكان أيضاً تحت وطأة الحماس الملتهب الذي دبّ في أفئدة، وعلى ألسنة، وفي أقلام، أنصار النظام ومعلّقيه والمتعاطفين معه، بعد إطلاق نيران المضادات الأرضية لإبعاد طيران حربي إسرائيلي كان يحلّق في الأجواء السورية.
لم يكن هذا رأي الرادارات الروسية في مطار حميميم، ولا في قاعدة طرطوس الروسية، ولا على أيّ من البوارج الروسية في عباب المتوسط، حينما نفذت إسرائيل ضربة جوية فجر أمس، استهدفت معسكر الطلائع الذي يستضيف مصنعاً للأسلحة الكيميائية والصاروخية، تابعاً لـ»مركز البحوث»، في ظاهر مصياف، وعلى مبعدة كيلومترات قليلة من هذه المنشآت العسكرية الروسية. لزمت هذه الرادارات صمت القبور، في المجاز الشائع، وصمت المتيقظ البصير العارف، في المعنى الفعلي لقدرات هذه الرادارات على التنصت والرصد والتنبيه، كي لا يتحدث المرء عن الإنذار والتشويش والتعطيل.
هيهات، بالطبع، أن تتدخل روسيا لإيقاف عملية مثل هذه، ولا عزاء لأمثال لافروف (حول «انتهاك سيادة» الدول)، أو الجعفري (بصدد تغيير «قواعد اللعبة»)، فضلاً عن المعلقين البؤساء الذين بُحّت حناجرهم في وصف «رعب» إسرائيل من انطلاق مضادات النظام. يومها، للتذكير المفيد، ذهب بعض المعلقين إلى مستوى رسم اصطفاف جديد لقوى «الممانعة»، يبدأ من الضاحية الجنوبية في لبنان، ويمرّ من نظام الأسد، ويلتقي مع رئيس الوزراء العراقي حيدر العبادي (وعفّ البعض، في حياء مبتذل مفضوح، عن تسمية «الحشد الشعبي» وعصائب غلاة الشيعة)، ثمّ ينتهي في طهران (وتفادى الحياء الرخيص إياه ذكر الجنرال قاسم سليماني و»الحرس الثوري» الإيراني)، ولا ضرر في أن يعرّج قليلاً على اليمن وعبد الملك الحوثي!
لكنّ الحمقى، وبائعي التصريحات الجوفاء، وشبيحة النظام، وأبواق «الممانعة»، هم وحدهم الذين تجاسروا على التفكير بأنّ الكرملين (متمثلاً في بوتين، حصرياً، وليس البتة في لافروف وأضرابه)، يمكن أن يذهب إلى مواجهة مع إسرائيل، أو حتى ملاسنة لفظية، دفاعاً عن مصنع سلاح تابع للنظام، أو تديره إيران ذاتها. في المقابل، لا يحتاج كلّ ذي بصر وبصيرة إلا إلى استذكار واقعة زيارة نتنياهو إلى موسكو، في أيلول /سبتمبر) 2015، كي يستعيد الحقيقة البسيطة الساطعة: أنّ «قواعد اللعبة»، أو بالأحرى قواعد فضّ الاشتباك، بين موسكو وتل أبيب، في كلّ ما يخصّ تدخّل روسيا لصالح النظام أو تدخّل إسرائيل ضدّ منشآت النظام العسكرية، رُسمت هناك، يومئذ، وهي التي تظلّ سارية المفعول حتى إشعار آخر، طويل… طويل!
وللتذكير المفيد، لم تكن زيارة نتنياهو مبرمجة مسبقاً، على غرار ما يجري عادة بين الدول، خاصة وأنها الأولى العلنية (بعد زيارة سرّية، في خريف 2009، دامت ساعات قليلة)، وكان لائقاً أن تسبقها سلسلة تحضيرات ومراسم واستقبال ومظاهر احتفاء، فضلاً عن توقيع اتفاقيات مشتركة مختلفة. لقد ذهب نتنياهو صحبة غادي أيزنكوت رئيس أركان الجيش الإسرائيلي، وهرتزل هاليفي رئيس الاستخبارات العسكرية، وبدا جلياً بالتالي أنّ جدول أعمال الزيارة يتناول تفصيلاً ملموساً واحداً، هو الانتشار الروسي في مطار حميميم، وتعزيز القاعدة الروسية في طرطوس، والتفاهمات الروسية ــ الإسرائيلية العملياتية في حال قيام الطيران الحربي الإسرائيلي بأية عمليات في الأجواء السورية، وضمان عدم وقوع سوء تفاهم من أيّ نوع بين بين قاذفات الـ»سوخوي 27» الروسية، والـ»F-15» الإسرائيلية. ولقد برهنت الأشهر اللاحقة، منذ أيلول/سبتمبر 2015 وحتى أيلول/سبتمبر 2017، أنّ سوء التفاهم لم يقع أبداً، ليس في الأجواء السورية وحدها، بل كذلك على أرض الجولان، وفي الأجواء اللبنانية (باحة إيران الخلفية وساحة «حزب الله).
جانب آخر، في قراءة صمت رادارات موسكو عن عمليات إسرائيل في الأجواء السورية، هو أنّ بوتين ونتنياهو تمكنا ــ سريعاً، ودون عناء كبير في الواقع ــ من التوصّل إلى مسلّمة مشتركة، بسيطة وجوهرية في آن: أنّ اتفاقهما على إبقاء نظام بشار الأسد، في المدى المنظور، لا يعني إطلاق يد إيران في سوريا، خاصة لجهة تمكين «حزب الله» في المنطقة، وليس في لبنان وحده، على صعيد التسلّح الستراتيجي. وما دامت إسرائيل لا تقصف الفرقة الرابعة أو «الحرس الجمهوري» أو ما تبقى من أفواج وألوية النظام (إلا حين تمرّ، من مواقع انتشارها، قوافل السلاح المتوجهة إلى «حزب الله»)، فلا ضرر عند موسكو، ولا ضرار في تل أبيب! العكس هو الصحيح، في الواقع، لأنّ واحدة من روافع ضغط روسيا ضدّ اتساع نفوذ إيران في قلب النظام السوري، هو تحجيم دور «حزب الله» العسكري في سوريا، وإبقاء سقف تسليحه عند مستويات دنيا، أو هي لا ترتقي إلى السوية الستراتيجية.
جانب ثالث، لعلّ أهل «الممانعة» يعضون على النواجذ كلما استذكروه واضطروا إلى إغفاله عن سابق عمد، هو أنّ «هوى» بوتين الشخصي كان إسرائيلياً على الدوام، وليس سورياً أو فلسطينياً أو لبنانياً أو عراقياً أو مصرياً… ولعلّ سيّد الكرملين لا ينسى أنّ أرييل شارون، رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق، لم يتردد في مباركة خيارات الجيش الروسي العنفية، وممارساته الوحشية، في الشيشان. ومؤشر العلاقات الروسية ــ الإسرائيلية في عهد بوتين لا يُقارَن، على أيّ نحو، بعلاقات موسكو مع حلفائها السابقين، أو اللاحقين، في العالم العربي، ويكفي استذكار واقعة راهنة تقول إنّ موسكو سبقت واشنطن في الحديث عن «القدس الغربية كعاصمة لدولة إسرائيل».
وفي التعليق على الغارة الإسرائيلية الأخيرة التي استهدفت مركز البحوث، في ظاهر مصياف، فجر أمس، كان عاموس يدلين، الرئيس الأسبق لجهاز الاستخبارات العسكرية الإسرائيلية، قد غرّد على «تويتر» بأنّ الضربة «ليست روتينية»، وفي تنفيذها وجهت إسرائيل ثلاث رسائل هامة: أنها لن تسمح بإنتاج أسلحة ستراتيجية، وأنها تعتزم فرض خطوطها الحمراء حتى إذا أهملتها القوى الكبرى، وأنّ حضور الدفاعات الجوية الروسية لن يعيق توجيه الضربات. ولم يفت يدلين أن يجمّل وجه إسرائيل القبيح، حين طالب المجتمع الدولي بتهنئة بلاده على ضربة «حميدة أخلاقياً»، لأنّ مصنع مصياف ينتج، أيضاً، البراميل المتفجرة التي «قتلت آلاف المدنيين السوريين»!
يبقى التذكير بما باح به الجنرال أمير إشيل، القائد السابق لسلاح الجوّ الإسرائيلي، من أنّ عدد الغارات ضدّ مواقع النظام السوري العسكرية، منذ 2012 فقط، يُحتسب بثلاثة أرقام، أي الـ100 فما فوق بالطبع. نصفها، أغلب الظنّ، نُفّذ تحت سمع وبصر الرادارات الروسية، وصمتها المطبق!
بعد يوم واحد من إصدار الأمم المتحدة تقريرها الذي يؤكّد قيام النظام السوري باستخدام السلاح الكيميائي 27 مرّة ضد شعبه، وتأكيد مسؤوليته عن مجزرة بلدة خان شيخون التي قصفها بغاز السارين، قامت إسرائيل بقصف موقع لبحوث وتخزين السلاح الكيميائي قرب مدينة مصياف، في مقاربة خبيثة لهذه المسألة تريد، بحجر واحد، ضرب العديد من الرؤوس وإيصال الكثير من الرسائل، ليس للنظام السوري فحسب، بل كذلك لرعاته في روسيا وإيران، وللتفاهمات العالمية التي تجري فوق جثث مئات آلاف السوريين الذين قتلوا منذ عام 2011 وحتى الآن.
أفظع هذه الرسائل وأكثرها إيلاماً هو تنطّع إسرائيل، عدوّة العرب الأولى، لتقليم أظافر نظام بشار الأسد الكيميائي، وهو ما يعطي تل أبيب، في ساحة العلاقات العامة، أفضليّة على الأمم المتحدة العاجزة عن جلب المتّهم بقتل شعبه إلى المحاكمة، فتنسى مسؤوليتها التاريخية عن احتلال فلسطين، وجرائمها بحق الشعب الفلسطيني، كما تغيب علاقتها بظهور أنظمة الطغيان العسكرية والأمنية، كنظام الأسد نفسه، وتضيع صلة القربى الوثيقة بين نظام الاحتلال العنصريّ الإسرائيلي وأنظمة الاستبداد العربية الهمجية.
رسائل القصف الجديد عديدة طبعاً، فالرابط «الكيميائي» للحدث يتناظر مع مناورات شاملة وواسعة يجريها الجيش الإسرائيلي على الحدود الشمالية استعدادا لحرب جديدة مع «حزب الله» (أو بالأحرى مع إيران). والحقيقة أن إسرائيل تنظر للجغرافيتين بترابط، لأن تل أبيب ترى بوضوح أن الإيرانيين صاروا أكثر قوة، وإعلان استعادة الأسد السيطرة على سوريا، إذا حصل، قد يكون إعلاناً لمجابهة مع إيران، وقد تزداد فرص المواجهة هذه إذا انسحبت إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب من الاتفاق النووي مع طهران.
الرسالة موجّهة أيضاً إلى روسيا، لأنها تقول من جديد إن تل أبيب قادرة على اجتياز خط الدفاع الروسي في سوريا، ومنظومة الكرملين الصاروخية هناك، كما أنها تقول إن على موسكو أن تراعي مصالح إسرائيل ومخاوفها الأمنية.
الطرف المهم الآخر هو الولايات المتحدة الأمريكية، التي من الواضح أنها اتفقت مع روسيا على مواقع نفوذ داخل سوريا، وكل الدلائل تشير إلى أن واشنطن تشارك موسكو فكرة تعويم نظام الأسد وإعادة تأهيله قبل وبعد القضاء على تنظيم «الدولة الإسلامية».
حسب المعلومات التي نشرها الإعلام الإسرائيلي، ونسبها إلى معلومات استخباراتية غربية، فهناك ثلاثة مواقع سرية في سوريا لا تزال تعمل على إنتاج الأسلحة الكيميائية، كان موقع مصياف الذي تعرّض للقصف واحداً منها. الموقعان الباقيان هما مركز البحوث في برزة ومعسكر جمرايا قرب دمر، وكلاهما في ضواحي مدينة دمشق، كما أن الإعلام الغربي نشر قبل فترة أن شحنتي سلاح كيميائي من كوريا الشمالية إلى النظام السوري تم إيقافهما في عرض البحار، وكل ذلك يعني أن النظام مصرّ على إنتاج واستيراد واستخدام الأسلحة الكيميائية رغم صدور قرار أممي يجعل أي خرق في هذا الإطار جريمة أممية تقتضي محاكمة مسؤولي النظام، وأن إسرائيل، من بين كل دول الأرض، هي المعنيّة الوحيدة بقصف الأسلحة الكيميائية، ليس احتراماً لأرواح الأبرياء، بل لمخافتها من استخدامها ضدها.
أما السوريون والفلسطينيون (والعرب عموما) فليس لهم في هذا الصراع «العائلي» بين كبار البلطجية والمجرمين سوى أن يتمنوا أن يضرب الله الظالمين ببعضهم البعض.
يبدو أن ضرر التمدد الإيراني لن يقتصر على العرب السنة أو القوميات كالأكراد أو مصالح الدول الكبرى كالولايات المتحدة فحسب، بل تعدى الشيعة العرب أنفسهم التي تدعي إيران الدفاع عنهم، مما يمهد لصراع داخلي شيعي - شيعي، وان كان يبدو الحديث عنه سابق لأوانه إلا أن البوادر التي تشهدها العراق حاليا بين جناحي الشيعة، يجعل الصراع أقرب مما يتوقع و أشد مما ينتظر.
فالمشهد السياسي الشيعي في العراق، يمر بتحولات كبيرة قبل الانتخابات البرلمانية في العام المقبل والتي يمكن أن تؤثر على نفوذ إيران في البلاد، وباتت التوترات المتصاعدة بين الكيانات السياسية الشيعية الموالية لطهران تبعث على القلق، ما دفع المرشد الأعلى الإيراني، "آية الله علي خامنئي"، إلى إرسال رئيس تشخيص مصلحة النظام، "محمود الهاشمي الشاهرودي"، كمبعوث له إلى العراق الأسبوع الماضي في مهمة لتوحيد الأطراف المتنازعة.
وقد أجرى مبعوث خامنئي، محادثات مع رئيس المجلس الأعلى الإسلامي السابق في العراق، "عمار الحكيم"، الذي استقال من منصبه في يوليو الماضي، وأسس تيار الحكمة الوطني، إضافة للقائه برئيس الوزراء العراقي، "حيدر العبادي"، لكنه لم يتمكن من مقابلة رجل الدين الشيعي "مقتدى الصدر" وآية الله "علي السيستاني"، الرافضان للنفوذ الإيراني في العراق.
لكن يبدو أن بعض الكتل الشيعية العراقية بدأت تتطلع إلى الانسحاب من تحت سيطرة إيران، بعد أن هيمنت الأخيرة بشكل كامل على قراراتها، ويبدو أن التطورات الأخيرة والخلافات بين الشيعة في العراق، إضافة إلى تسريبات عن زيارة مفاجئة للصدر الشهر الماضي إلى السعودية والإمارات العربية، هي محاولة لتشكيل حركة شيعية عراقية مفتوحة على الدول العربية السنية.
ورأى زميل الأكاديمية في مركز الأبحاث البريطاني شاثام هاوس، "ريناد منصور"، أن هذه الخطوة لم تكن مفاجئة إذ كان هناك دائما نزاع شيعي داخلي في العراق حول دور إيران، بل أن مقتدى الصدر وعلي السيستاني كانا الأكثر انتقادا لنفوذ إيران في العراق.
بدورها أدركت إدارة الرئيس الأمريكي، "دونالد ترامب" مع كبار معاونيه المتمرسين في حرب العراق، مثل وزير الدفاع، "جيم ماتيس"، مستشار الأمن القومي، "وأيتش آر مكماستر"، على ضرورة حد للتوسّع الإيراني في المنطقة.
وهنا تكمن أهمية الصراع على شرق سوريا في الحسابات الجيواستراتيجية الأميركية، وأدركت إن سيطرة إيران على هذه المنطقة، سيخلق هلالاً شيعياً يمتد من إيران شرقاً حتى لبنان غرباً، لذا فقد تدخلت صقور داخل مجلس الأمن القومي، للتصعيد ضد إيران، بل وتغيير النظام في طهران.
ولم يقتصر التورط الإيراني المخزي، فقط في دعم نظام الأسد وفي تحريك الشيعة بالعراق لخلق الفوضى ووضعها تحت ابطه، بل إن تقرير منظمة العفو الدولية عن الإعدامات الجماعية للسجناء السياسيين التي قام بها نظام الأسد في سجن صيدنايا العسكري يسلط ضوءً جديدا أيضا على تورط إيران في سوريا، حيث تنفق طهران نحو خمسة مليارات دولار سنويا لحماية نظام الأسد أقرب حليف إقليمي لها.
لذا فقد تيقظت واشنطن لواقع النفوذ الإيراني في الشرق الأوسط وسارعت للتصرف وفقا لذلك، مدركة أن استمرار التوسع الإيراني الشيعي سيؤدي في النهاية إلى خلق تغيير في الشرق الأوسط والوصول إلى التوازن الجيوسياسي لصالح طهران إلى الأبد.
أما عن الداخل الإيراني، فيبدو أن الحكومة الإيرانية الجديدة، لن تهنأ بسلام وسط بلادها، ومن المحتمل أن تنشب حرب أهلية في البلاد نتيجة زيادة نشاط قوات الحرس الثوري في المناطق التي تقطنها أغلبية من الطائفة السنية، أي أن إيران ستشرب من نفس الكأس الذي روت منه دول الشرق الأوسط.
وتوقع تقرير إيراني، نشره موقع "آمد نيوز" المقرب من المعارضة الإصلاحية، أمس السبت، أن زيادة نشاط وتحركات قوات الحرس الثوري بشكل منتظم، في محافظة سيستان وبلوشستان جنوب شرق البلاد، ذات الأغلبية السنية، قد تؤدي في المستقبل إلى حروب طائفية.
إذ أن نشاطات ايران التشيعية لم تتوقف على سوريا والعراق والبحرين وبعض المناطق السعودية فحسب، بل زاد نشاط رجال الدين والمؤسسات التابعة للحرس الثوري، التي تبشر بالتشيع وتصر على إقامة المناسبات الدينية الشيعية، من بينها عيد الغدير الذي أقيم السبت في العديد من المناطق السنية، بمحافظات سيستان وبلوشستان وخراسان، ما أثار استفزاز ديني لأهل السنة.
وفي النظر إلى تصريحات إسرائيل وتخوفها من التوسع الإيراني ونفوذ حزب الله اللبناني، اليد الطائلة لإيران في سوريا ولبنان، وبالتمعن في إعلان رئيس الوزراء الإسرائيلي، "بنيامين نتنياهو"، أن تل أبيب لن تقبل بتجاوز الخطوط الحمراء التي تضعها في كل ما يتعلق بسورية، وتأكيده على عدم بقاء أي نوع من الوجود العسكري لإيران أو المليشيات التابعة لها وبضمنها حزب الله في الأراضي السورية، هو أكبر مؤشر أن الدول الكبرى ستبدأ بكف يد ايران عن المنطقة، إلا إن كانت مسرحية أبطالها يمارسون التمثيل على الشعوب العربية بأقنعة تجيد أبجدية العقل العربي، ليكون التواجد الإيراني في المنطقة أفضل من غيره، أم أن إسرائيل ستنفذ تهديداتها في المستقبل القريب؟
سجّل دخول «حزب الله» المتدرّج الأراضي السورية ومشاركته في معارك دفاعه عن نظام بشار الأسد مرحلة جديدة من تاريخه أكّدت، من جهة، موقعه الراسخ كقوّة إقليمية ضاربة لصالح إيران، ولكنّها، من جهة أخرى، أصابت سرديّته السياسية حول مقاومة إسرائيل و«الشيطان الأكبر» الأمريكي في مقتل وأظهرت وجهاً طائفيّاً صريحاً كما كشفت انتهاكات بالغة بحق المدنيين السوريين وخططاً للتغيير الديمغرافي عبر القتل والتهجير الممنهجين.
أظهرت تداخلات «حزب الله» الإقليمية، والتي تجاوزت سوريا إلى العراق واليمن والبحرين، تناقضات واسعة لا يمكن لـ«البراغماتية» السياسية لقيادته رتق خروقها، كما أنها أشّرت إلى مناطق شديدة الغموض والإلغاز يتداخل فيها الأمنيّ والعسكريّ مع قضايا الاغتيالات والفساد الماليّ والإرهاب وتأمين التغطية لتجار مخدّرات كبار وإدارة معتقلات مرعبة داخل سوريا، بحيث يحضر ملفّ اغتيال رئيس الوزراء اللبناني الأسبق رفيق الحريري مع ملفّات أكثر غموضاً لمقتل مسؤولين محسوبين على النظام السوري و«حزب الله» نفسه.
شهد تاريخ تنظيم «الدولة الإسلامية» (وهبوطه)، في المقابل، حلقة واسعة أيضاً من الألغاز التي حيّرت المحللين السياسيين والعسكريين، بدءاً من جذوره في «قاعدة الجهاد في بلاد الرافدين»، ووصولاً إلى استيلائه العاصف والسريع على الموصل في العراق والرقة في سوريا، وعملياته المخيفة المصوّرة ضد ضحاياه من غربيين وعرب، وتحوّله، لاحقاً، إلى ظاهرة عالميّة مرعبة.
لا تقتصر الفروق بين التنظيمين على اختلاف السرديّات والمظلوميات والمرجعيّات والحواضن الطائفية لكليهما، والتي تؤهّلهما لخصومة طبيعية تتّسع حسب تخوم التصادم الجغرافية والعسكرية، كما حصل مؤخراً على الحدود اللبنانية، لكنّ هذه الخصومة الأيديولوجية والطائفية لا تمنع، مع ذلك، وجود نقاط تشابه وإمكانيّات اتفاق (وإعجاب مبطّن) بين التنظيمين «الإسلاميين»، كما حصل في اتفاق جرود عرسال الأخير والذي أثارت تفاصيله وتوابعه استغراباً شعبيّاً وسياسيا غير مسبوقين.
من نافل القول تأكيد دور إيران، في نقل طلائع مقاتلي «القاعدة» من أفغانستان إلى العراق، وبعدها تواطؤ النظام العراقي، أيام نوري المالكي، في إطلاق المئات من سجناء التنظيم المذكور، الذي تناظر مع اشتغال النظام السوري الحثيث على دعم ظهور تنظيمات متطرفة إرهابيّة عبر إطلاق سراح قادة سلفيين من سجونه، وهو ما ساهم عمليّاً في ظهور تنظيم «الدولة الإسلامية»، ما أدّى، خلال السنوات اللاحقة إلى إجهاض الحراك السلميّ في العراق وسوريا، الذي اضطر لحرب ثلاثية غير متكافئة مع النظامين، وتنظيم «الدولة» وحزب العمال الكردستاني، وتأطير الثورات ضمن سرديّة الإرهاب العالميّة، ما أدّى، بالتدريج، إلى كل ما نراه حاليّاً، حيث تم هدم الثورات وصار لازماً القضاء على «الدولة» بعد انتهاء المطلوب منه، محلّياً وإقليميّاً وعالميّاً.
يفيد هنا التذكير بخطاب للأمين العام لـ«حزب الله»، حسن نصر الله، عام 2016، قال فيه للعراقيين: «الانتصار العراقي الحقيقي هو أن تضرب داعش وأن يعتقل قادتها ومقاتلوها ويزج بهم في السجون، لا أن يفتح لهم الطريق إلى سوريا»، وهو خطاب يتناقض مع اتفاق «حزب الله» لنقل 600 من مسلحي «الدولة» وأهاليهم إلى دير الزور، وانتقاده لقيام الطائرات الأمريكية بمنع حافلات التنظيم، ومنع المساعدات الإنسانية عنها.
وبعد مفاجأة إعلان «حزب الله» قيام أمينه العام بزيارة بشار الأسد لتأمين مرور قافلة التنظيم إلى محطتها الأخيرة، جاءت مفاجأة أكبر في تسوية النظام السوري وحليفه «حزب الله» لأوضاع 113 مسلّحاً من تنظيم «الدولة» قاموا بتسليم أنفسهم إلى قوات النظام وتسوية أوضاعهم، وهي سابقة عجيبة وغير معروفة أبداً لعناصر التنظيم، ولا يمكن فهمها عمليّاً من دون قراءة السياق السياسي والأمني والعسكري لظهور «الدولة الإسلامية» (وتراجعه) ودور إيران والنظامين العراقي والسوري فيه.
أثارت الصفقة التي رعتها طهران بين حزب الله وتنظيم داعش بنقل مسلحي هذا التنظيم إلى منطقة دير الزور المحاذية للحدود العراقية غضباً رسمياً وشعبياً في بغداد، حيث اتهمت النخب السياسية العراقية إيران ولبنان وسوريا بالتواطؤ ضد الدولة العراقية، خصوصاً بعد أن كشفت صحيفة «واشنطن بوست» عن انتقال أعداد كبيرة من «داعش» إلى العراق عبر مناطق يسيطر عليها النظام السوري، وقد اعتبر رئيس الوزراء حيدر العبادي الصفقة التي أعلن رفضه لها وعن عدم معرفته بتفاصيلها، أنها تشكل تهديداً مباشراً للشعب العراقي، معتبراً أن «تنظيم داعش يلفظ أنفاسه الأخيرة، ولا يجوز منحه فرصة للتنفس... هذا خطأ». فقد تسبب اتفاق حزب الله - «داعش» في صدمة للعراقيين الذين اعتبروا أن ادعاءات هذا المحور بالدفاع عن العراق أمام خطر الإرهاب تلاشت، عندما وصلت إلى نقطة المصالح الخاصة التي كشفت عن أولويات إيرانية بحماية النظام السوري على حساب مصالح العراق العليا، وقد جاء دفاع أمين عام حزب الله، حسن نصر الله، عن الصفقة ليصبّ زيتاً على نار الغضب العراقي من مواقف محور طهران - دمشق - حارة حريك، الذي اهتم باسترجاع جثامين مقاتليه ولم يعرْ أي اهتمام لمصير 800 عراقي مفقودين في سوريا، والمستاء أصلاً من الخطاب الأخير لبشار الأسد الذي تنكر فيه لتضحيات بعض الفصائل العراقية في الدفاع عن نظامه حيث تعمد الأسد عدم شكرهم، وذلك ضمن رده المبطن على موقف حيدر العبادي الرافض لمشاركة فصائل من الحشد الشعبي في الحرب السورية، متمسكاً بموقف المرجعية الدينية في النجف التي أصدرت الفتوى للدفاع عن العراق ومقدساته فقط، وليس القتال في أي بلد آخر، وهو ما يعتبره نظام الأسد موقفاً سلبياً منه. عراقياً ودولياً، يُتهم النظام السوري بتسهيل وصول المتشددين إلى العراق بعد 2003 من أجل ضرب استقراره، وبأن قدرته على البقاء يستمدها من خلال تصدير أزماته، وخصوصاً الأمنية إلى الخارج، حيث كان العراق ما بعد صدام مسرحاً استخدمه الأسد من أجل إبعاد التهديدات الغربية عنه، وبخاصة بعد خروجه من لبنان جرّاء اتهامه باغتيال رئيس الوزراء اللبناني الأسبق رفيق الحريري.
ففي الذاكرة العراقية الورمة هي ليست المرة الأولى التي تتواطأ فيها طهران ضد مصلحته، ولكنها المرة الأولى التي تجاهر فيها بالوقوف في صف خصومه المتحالفين معها، سابقاً وفي أحداث مماثلة، أجبرت طهران رئيس الوزراء العراقي السابق نوري المالكي على التراجع عن دعوته إلى محاكمة بشار الأسد دولياً، بعد تأكد الحكومة العراقية أن النظام السوري يقف وراء هجمات بغداد الدامية سنة 2009، إلا أنه هذه المرة اصطدمت طهران بموقف حيدر العبادي الصلب الرافض للصفقة، وبموقف أكثر تشدداً أطلقه التيار الصدري ضد النظام السوري وحزب الله، وجاء على لسان أحد ممثليه في مجلس النواب عواد العوادي الذي قال إن «على الحكومة السورية أن تذهب إلى الجحيم، إذا كانت ستزهق دماء الشعب العراقي من أجلها». فالمواقف الصادرة من بغداد تعرقل أهداف طهران المكشوفة في إبعاد الخطر عن نظام الأسد وحزب الله، حتى لو تطلب ذلك إعادة إرباك المشهد العراقي من جديد، بعدما تمكن العراق من اجتياز المرحلة الأصعب في حربه على الإرهاب، واستعداده إلى دخول مرحلة ما بعد «داعش»، وهي نقطة التحول التي تقلق نظام دمشق ومن يدافع عنه، فمنذ سقوط نظام البعث في العراق سنة 2003، وعلى الرغم من أن الانتخابات أنتجت نظاماً موالياً لطهران، فإن حذر دمشق المستمر كان من إمكانية توافق بين الدول الكبرى على إعادة الاستقرار إلى عراق ما بعد 2003 وسوريا ما بعد 2011 الذي يتطلب الوصول إليه قبول الأطراف الدولية والإقليمية بمعادلة التوازن الطائفي والديموغرافي بين البلدين، بحيث يصبح من الطبيعي أن يسقط نظام البعث السوري ومن المنطقي أن تصل الأغلبية السورية إلى السلطة، وهذا ما يعني سقوط حكم الأسد ومنظومته الأمنية، وانتهاء الهيمنة الإيرانية على سوريا ولبنان، وهو ما يضر بمصالح إيران الجيوسياسية التي لا تجد مانعاً من إبقاء حالة عدم الاستقرار في العراق إلى أجل غير مسمى، من أجل الحفاظ على نفوذها... وللحديث بقية.
من المسلمات أن بقاء الأسد يعني استمرار سيطرة إيران على سوريا ولبنان، فضلاً عن سيطرتها على العراق، ويعني انتصار المشروع الفارسي في المنطقة، وقادة إيران يعلنون مشروعهم منذ أن نجحت ثورتهم ووضعوا خطتهم لتصديرها، وهو يعني كذلك بقاء روسيا التي وقعت عقوداً طويلة المدى مع الحكومة السورية وأعلنت أنها باقية. ولعل السوريين يرون في روسيا أهون الضررين رغم أنها هي التي حمت النظام من السقوط كما صرح قادتها. إلا أن الروس سيبحثون عن مصالحهم وحدها في المستقبل، وليست لديهم إيديولوجيا يبشرون بها كما يفعل الإيرانيون الذين يحملون شعارات عقائدية يتوافق السوريون على رفضها بمختلف طوائفهم ومذاهبهم الدينية، وكان إعلانها من الأسباب التي دعت إلى ظهور شعارات دينية مواجهة، اختطفت شعارات الثورة في الحرية والكرامة والديموقراطية واتجهت لمواجهة المشروع الإيراني بخطاب ديني. وقد وقعت في الفخ الذي أراده النظام وخطط له بأن يجعل الثورة ذات صبغة إسلامية، وأن يحشوها بالتطرف والإرهاب فيحول القضية من صراع من أجل الحرية، إلى صراع مع تنظيمات إرهابية، ومع أن العالم كله يعرف حقيقة ما حدث فإنه وقع في ارتباك كبير بين استنكاره للعنف غير المسبوق الذي واجه به النظام شعبه، وبين قلقه من انتصار هذا الشعب، خشية عدم القدرة مستقبلياً على السيطرة عليه.
وعلى رغم أن المجتمع الدولي يقر بأن الأسد مجرم حرب وأنه ارتكب مجازر كبرى ضد الإنسانية، ولدى العديد من دول العالم ملفات قانونية ووثائق خطيرة لإدانته أمام محاكم دولية، ولعل آخرها تقرير لجنة الأمم المتحدة الصادر أول أمس برقم A/HRC/36/55 والذي أكد على استخدام بشار الأسد لغاز السارين في الهجوم الذي وقع على مدينة خان شيخون بتاريخ 4 نيسان عام 2017، فإن بعض دول العالم بدأت تتراجع باستحياء عن فكرة رحيله مع بدء المرحلة الانتقالية. وقد أقنعها الروس بأن رحيل الأسد المفاجئ سيعني انهيار مؤسسات الدولة وانفراط عقد الجيش كما حدث في العراق، وسيفتح ساحات جديدة للصراع على السلطة كما حدث في ليبيا، وأن الأفضل هو الإبقاء على الأسد وتقليم مخالب النظام، بشكل تدريجي.
ولا أستبعد أن يكون الروس أنفسهم خائفين من ردة فعل الأسد على رغم أنهم أبلغوه أنه لا دور له في مستقبل سوريا كما رشح من معلومات، ولكنهم يخشون إذا ما انقلبوا عليه وطالبوه بالرحيل الفوري أن يفسد عليهم حضورهم في الساحل حيث ثروة الغاز والنفط الكبرى الواعدة. وهم يعلمون أن لدى الأسد ميليشيات قادرة على أن تعكر صفو روسيا بدعم إيراني، ولاسيما أن إيران التي دفعت دماء ومالاً لن تقبل أن تخرج صفر اليدين، وانتهاء حكم الأسد لا يعني خروجها من سوريا فقط، وإنما سيعني خروجها من لبنان ومن العراق أيضاً، وانتهاء تهديدها للمنطقة العربية.
ويبدو أن الروس حائرون، فلا هم قادرون على متابعة مشروعهم مع إيران التي ستبقى شريكاً محاصصاً في كل مقدرات المنطقة، بما سيعني تحالفاً استراتيجياً مديداً بين روسيا وإيران لن يرضى عنه الغرب طويلاً، ولا هم قادرون على التنكر لإيران والقبول باستبعادها وهي تملك قوة عسكرية على أرض سوريا، كما أنها تملك قدرة على نقل الإرهاب إلى روسيا إذا خرجت من حلفها.
وأنا واثق من أن الروس يعرفون أن الأسد لا يملك قدرة على ضمان الاستقرار في سوريا، وأنه من المستحيل أن يقبل السوريون بحكمه لهم ويداه تقطران من دمائهم، والأسد نفسه يعرف استحالة ذلك، ولهذا نجده يخشى عودة المهجرين السوريين ويشيد بما حدث من تجانس اجتماعي بعد رحيل خمسة عشر مليون سوري، وهم في الأكثرية الساحقة من أهل السنة. وقد عبر عن خشيته من عودة المهجرين والنازحين حين شدد على وصفهم في خطابه الأخير بأنهم حثالة، وحين بدأ النظام حملة تهديد لكل من يفكر بالعودة، وقد عبر عن موقفه عضو في القيادة القطرية لحزب «البعث» حين جعل تقبيل البوط العسكري شرطاً لقبول عودة المعارضين المهاجرين، بينما صعد أحد ضباط المخابرات الذي يكتب باسم مستعار وقال: «ستكون أمامهم المشانق»! والطريف قوله: «إن بلداً بلا مشانق جدير بأن يخان»! وهدف هذا التصعيد هو تحذير المهاجرين من خطر التفكير في العودة إلى سوريا، وقد حدث أن تذلل بعض الخارجين كثيراً في استجداء قبول العودة ولكن النظام رفضهم بإهانة معلنة، وأما الذين انضموا إلى اتفاقيات خفض التصعيد فهم يعيشون حالة من التوجس والحذر، وقد ضمنت لهم روسيا وليس النظام بقاءهم في أماكنهم.
والسؤال الأهم: هل تضمن الدول التي تدعو لبقاء الأسد أن تقبل أجهزة الأسد الأمنية بأن تخفض شيئاً من صلاحياتها، أو أن تبدل شيئاً من سلوكها؟ وهل تضمن الدول التي وقفت ضد النظام ألا ينتقم منها بعصاباته الإرهابية كما انتقم من شعبه الذي ثار عليه؟ ويبدو معيباً أن يقول أحد «لا بديل عن الأسد» فهذا يعني «لا بديل عن الديكتاتورية».
بشرنا ستيفان دي ميستورا بإمكان البدء في التفاوض على الحل السياسي في سورية مطلع الخريف، ودعا المعارضة إلى «الواقعية»، والنظام إلى أن يعلم بأن الحرب لا يمكن ربحها عسكرياً.
ليست الوقائع الميدانية وحدها التي دفعت الموفد الدولي إلى تذكيرنا بوجوده. هناك أفكار لموسكو حفزته.
العرض الروسي على معارضي بقاء بشار الأسد بأن يقبلوا تصدره المرحلة الانتقالية للحكم في دمشق، في أي حل سياسي مقبل، والتعهد بإخراج الميليشيات المدعومة من إيران، يخضع للكثير من الأسئلة في الأروقة المعنية بقبوله أو برفضه، سواء في الدول التي رأت استحالة في أن يكون له دور في مستقبل البلد بعد جرائمه، أم في تشكيلات المعارضة التي ما زالت على موقفها بضرورة رحيله.
وعلى افتراض أن العرض الروسي يبقي الأسد في سدة الرئاسة عند بدء العملية السياسية التي ينص القرار الدولي 2254 في شأنها على إنشاء «هيئة حكم انتقالية في غضون 6 أشهر»، كان يفترض أن تبدأ مطلع عام 2016 أي بعد صدور القرار المذكور في 18 كانون الأول (ديسمبر) عام 2015، على أن تمتد 18 شهراً، فعلى الذين يفترض أن يشاركوا الأسد في بداية هذه المرحلة أن يحددوا ما يمكن أن تكون عليه العلاقة بينهم وبين رأس النظام وشكل الحكومة ومن يرأسها، حتى إجراء الانتخابات العامة والرئاسية، المفترضة خلال 18 شهراً.
والخيار الثاني هو أن تنتهي رئاسة الأسد بنهاية المرحلة الانتقالية، أي بحصول هذه الانتخابات مع حقه في أن يترشح للانتخابات الرئاسية وأن يتمكن خصومه من هزمه في انتخابات بإشراف دولي تتيح إجراء عمليات اقتراع نزيهة في الداخل وللنازحين برقابة المجتمع الدولي. وهذا يفترض وجود قوات مراقبة دولية، إذا لم يكن مطلوباً انتشار قوات دولية لاستبعاد تأثير نفوذ السلطات والمخابرات التي تخضع لإمرة الأسد وتملك قدرة هائلة على التزوير والضغط والإكراه.
أما إذا كان المقصود بتعايش معارضي الأسد مع بقائه، أن يقبلوا استمراره في السلطة حتى نهاية ولايته الحالية عام 2020، فإن تأخير تنفيذ القرار الدولي أمن له ذلك. وهذا الخيار يعني التسليم بأن تكون الشراكة الانتقالية مقتصرة على من يقبلون الخضوع الكامل للنظام الحالي بكل سطوته ودمويته وتسليطه الأجهزة الأمنية على التشكيلات المعارضة. فالأسد سبق له أن وصف المعارضين بـ «الحثالة... وبلا وزن وأدوات تستخدم لمرة واحدة وترمى في سلة المهملات»، في خطابه بتاريخ 20 آب (أغسطس) الماضي، منتشياً بتقدم قواته في عدد من المناطق، ومتسلحاً بالصواريخ المجنحة وضربات الطيران الروسية، وعدم الاكتراث الأميركي والأوروبي. وعلى الذين سبق أن خبروا حكم الأسد وشاركوه في السلطة كحزبيين أو أصدقاء، قبل انشقاقهم عنه بعدما صدمتهم عمليات الإبادة والقتل والتدمير واستقدام الميليشيات الإيرانية، أن يعودوا صاغرين وخاضعين له، أو أن يبقوا مشردين خارج البلاد. وعلى آلاف الضباط الذين تمردوا رافضين أوامر قتل الناس وانضموا إلى تشكيلات مقاتلة ضد النظام، أن يرجعوا إلى بيت الطاعة.
أما عن عرض موسكو سحب الميليشيات الأجنبية، لا سيما التي استقدمتها إيران: العراقية والأفغانية أو «حزب الله»، فإن القيادة الروسية تراها ممكنة طالما أن سلة الحل التي تقترحها والعمليات العسكرية التي تقوم بها ستؤدي إلى إنهاء سيطرة «داعش» و «جبهة النصرة» وإلى خروج المسلحين الأجانب من سورية، ما يحتم مغادرة الميليشيات الأخرى بما فيها «حزب الله». لكن موسكو لا تلتزم خروج «الحرس الثوري» الإيراني والتشكيلات العسكرية الإيرانية من بلاد الشام، «طالما أنها موجودة بطلب رسمي من الحكومة الشرعية»، مثلما هو وجود القوات الروسية التي ستساعد في تثبيت الأمن والحل السياسي، من خلال معاهدة وقعها الأسد.
قد تكون مراهنة موسكو على إدخال قوات مصرية إلى سورية، لأن القاهرة على علاقة جيدة بالنظام من جهة، وعلى صلة وثيقة بالدول المناهضة له، لا سيما دول الخليج من جهة ثانية، وسيلة لإحداث توازن ما مع الوجود الإيراني الذي بات أمراً واقعاً. لكن التقدم الإيراني الأخير يخالف هذه المراهنة. وقد يراهن العسكريون الروس على العودة لفكرة إنشاء مجلس عسكري يعيد تنظيم الجيش ودمج الوحدات المنشقة مع قوات الأسد، بإشراف قاعدة حميميم الروسية، لكن ما يحصل مع زهاء 4 آلاف ضابط موجودين في تركيا، يجري تسريح من شاؤوا العودة أو إخضاع البعض الآخر، لا يوحي بإعادة توحيد المؤسسة العسكرية.
كيف سيقنع دي ميستورا المعارضة التي «لم تربح الحرب»، بعد تثبيت الأمم المتحدة واقعة استخدام الأسد الغاز الكيماوي في خان شيخون؟
كان لافتاً جداً الصمت المطبق الذي لفّ روسيا وتركيا حيال صفقة «حزب الله» مع تنظيم داعش، هل لأن مقاتلي التنظيم كانت وجهتهم حسب الاتفاق العراق، حيث هبّ هناك الممولون من إيران يتهمون الولايات المتحدة بالازدواجية، وبأنها فتحت منفذاً لمقاتلي «داعش» من تلعفر للهرب باتجاه كردستان، وادعى ممثل «كتائب حزب الله العراق» مساء الأحد من على شاشة «الميادين»، إن لديه الإثباتات بأن مسعود البرزاني الرئيس الكردي أعطى الأمر باستقبالهم؟ هل هناك طبخة ما تُحضر ضد أكراد العراق؟ أو ضد الأكراد بشكل عام؟ وهل لهذا السبب أطبق الصمت على روسيا وتركيا؟
في العام الماضي تحسنت العلاقات بين تركيا وروسيا، وترى الدولتان ضرورة التعاون في مجالات كثيرة، والتركيز الأساسي هو على الحرب في سوريا، حيث تتداخل مصالح البلدين. ثم إن تحسين العلاقات الاقتصادية والعسكرية الثنائية يلعب دوراً مهماً، وطبقاً لمسؤولين أتراك وروس، فإن جميع الاستعدادات قد تم اتخاذها كي تشتري تركيا نظام دفاع صاروخي روسياً من طراز إس – 400 (الثالث من الشهر الحالي)؛ الأمر الذي أثار قلق حلفاء تركيا في الحلف الأطلسي، مع العلم أن الصفقة قد لا تتحقق في النهاية؛ إذ لا يزال المحللون يشككون فيما إذا كانت تركيا ستتسلم بطاريات صواريخ أرض – جو الدفاعية، ويرون أن المهم هي الرسالة الموجهة إلى الغرب أكثر من للاستحواذ الفعلي.
وحسب محلل سياسي بريطاني، فإن كلاً من موسكو وأنقرة تستخدمان هذه القصة سياسياً لإظهار عدم رضا كل منهما عن الغرب، وبالذات أنقرة التي تشعر بالإحباط العميق من جراء التعاون العسكري الأميركي المستمر مع أكراد سوريا.
في التقارب بين الدولتين، هناك مشاركة روسية في بناء محطة نووية في تركيا، ومشروع أنبوب الغاز التركي الذي سيمكّن روسيا من تعزيز صادراتها من الغاز إلى جنوب أوروبا عن طريق التحايل على أوكرانيا.
إن الساحة الأولى للتعاون بينهما هي الحرب في سوريا. وعلى الرغم من أن لكل منهما وجهات نظر مختلفة حول مستقبل الرئيس السوري بشار الأسد، فإن موسكو وأنقرة تتعاونان من أجل السيطرة على التطلعات الإقليمية للقوميين الأكراد داخل سوريا.
منذ بداية الحرب الأهلية في سوريا عام 2011، وروسيا تعمل بشكل وثيق مع إيران. وبطبيعة الحال، هذا التعاون أبعد الجانب التركي، لكن، تتردد من وقت إلى آخر تلميحات بأن لروسيا وإيران خلافات حول مستقبل سوريا. مثلاً، لا تتضمن الصيغة الإيرانية لدعم النظام السوري أي تنازلات بشأن عائلة الأسد، وبالذات بشار، فهو المتلقي والمتجاوب المرن، في حين أن روسيا كانت دائماً على استعداد لتقديم بعض التنازلات على الجبهة الدبلوماسية، طالما أن مصالحها الأساسية في سوريا مضمونة: القواعد العسكرية والنفوذ السياسي.
في سوريا، تلتقي أحياناً وجهات النظر الروسية والتركية حول تقييد طموحات إيران الإقليمية. ما يجمع بين أنقرة وموسكو ويدفعهما إلى التعاون هو الولايات المتحدة الأميركية. تركيا عضو في الحلف الأطلسي، وأقل ما يمكن أن تقوم به هو التحالف الوثيق مع القوى الغربية في سوريا. إلا أنها تسعى وراء مصالحها الخاصة القائمة على ضروراتها الجغرافية ومصالحها في الشرق الأوسط الكبير. ليس خفياً قلق أنقرة من المساعدات الأميركية للأكراد في سوريا، وأزعجتها وجهات نظر واشنطن المتغيرة حول مستقبل نظام الأسد، كذلك الأمر بالنسبة إلى روسيا التي تشعر بالقلق إزاء العمليات الأميركية في سوريا، على الرغم من أن الرئيس الأميركي دونالد ترمب أوقف مؤخراً المساعدات العسكرية للمعارضة السورية، وتوصلت واشنطن وموسكو إلى وقف لإطلاق النار في جنوب غربي سوريا في مطلع يوليو (تموز) الماضي، لكن يبقى أن التقارب التركي – الروسي تدفعه جزئياً معارضتهما المشتركة للمصالح الأميركية.
بعيداً عن معضلة الشرق الأوسط تتشارك تركيا وروسيا في علاقات صعبة مع الاتحاد الأوروبي، وقبل أن تقطع المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل ورقة الخروج الأخير لتركيا من الاتحاد، فإن أنقرة تعرضت لانتقادات حادة من قبل بروكسل، بينما تصطدم موسكو مع أوروبا منذ عام 2014 بسبب أوكرانيا.
لكن الاختلافات الجيوسياسية لا تزال كما هي بين البلدين. أحد هذه المسارح هو منطقة البحر الأسود. جغرافية تركيا تعطيها أطول شاطئ على البحر الأسود، ثم إن تحكمّها الطبيعي بمضيقي البوسفور والدردنيل يجعلها قادرة على إبراز قوتها العسكرية والاقتصادية على كل البحر الأسود.
تاريخياً كانت المنطقة ساحة قتال بين الإمبراطوريتين الروسية والعثمانية على امتداد القرن الثامن عشر وحتى نهاية الحرب الباردة، وبالتالي فإن تركيا، مثل روسيا لديها مصلحة طبيعية في توسيع منطقة نفوذها في البحر الأسود؛ مما يترك مجالاً ضيقاً للبلدين لإيجاد حل توفيقي على المدى الأطول. لكن التحركات العسكرية الروسية في المنطقة منذ عام 2014 عندما ضمت روسيا شبه جزيرة القرم، التي، نظراً لموقعها الجغرافي، أعطت الروس اليد العليا من حيث البنية التحتية العسكرية والقدرة على تغطية جميع شواطئ البحر الأسود.
على شرق البحر الأسود وفي جنوب القوقاز، فإن تركيا وروسيا تواجهان معركة تاريخية طويلة الأمد حول جورجيا، وأرمينيا وأذربيجان. ومنذ انهيار الاتحاد السوفياتي عملت تركيا وبنشاط على إعادة ربط منطقة جنوب القوقاز بسوقها المتنامية لاستهلاك الطاقة، من خلال بدء وتسهيل مختلف مشاريع الطاقة والبنية التحتية من الشرق إلى الغرب. خطوط أنابيب باكو – تبليسي – جيهان، وباكو – تبليسي – سوبسا، فضلاً عن سكة حديد باكو – تبليسي – كارس، وهذه ليست سوى بضعة مشاريع تدعمها أنقرة حاليا. وعلى الرغم من أنه من المستبعد جداً في الوقت الحالي أن تواجه تركيا روسيا عسكرياً في المنطقة، فإن هذا لا يمنع بأن أنقرة تفكر في زيادة قدرات جورجيا وأذربيجان العسكرية.
هناك مجال آخر من الخلافات العميقة بين روسيا وتركيا، وهو الصراع الناجم عن ناغورنو كاراباخ. لروسيا أجندة خاصة بها لحل هذا الصراع. والواقع، فإن موسكو تفضل إبقاء الوضع على ما هو عليه لأطول فترة ممكنة. لهذا؛ تريد روسيا من تركيا حليفة أذربيجان، أن تبقى أبعد ما يكون عن ذلك الصراع، ويتردد أن موسكو تسعى لنشر قواتها لحفظ السلام في كاراباخ مقابل أن تتنازل أرمينيا عن مناطق عدة حول كاراباخ.
أما في شرق آسيا الوسطى، فإن أنقرة ترى نفسها الحليف الطبيعي لجميع دول آسيا الوسطى، حيث كانت هناك روابط عرقية قوية بين تركيا والشعوب التركية في كازاخستان، وقيرغستان، وتركمنستان وأوزبكستان (طاجيكستان كانت دائماً أكثر تأثراً بالثقافة الإيرانية).
لا تتحمل أي من الدولتين الآن معاداة بعضهما بعضاً. تركيا ترى في روسيا الباب إلى سوريا للمشاركة في المستقبل، وربما قد تكون الغطاء الذي ستحتاج إليه أنقرة إذا ما اضطرت إلى تقبل ابتلاع مرارة بقاء الأسد على بزوغ حكم ذاتي كردي يلوّح لها بين الحين والآخر بظل عبد الله أوجلان. ستواصل روسيا وتركيا العمل معاً في الساحة السورية، هدأت أو ظلت مشتعلة، وسوف تدفع الضرورات الفورية للبلدين إلى إيجاد أرضية مشتركة للتعاون بينهما، ومعارضة المصالح الإيرانية في الشرق الأوسط أحياناً أو، المصالح الأميركية. ثم إن تركيا لا تتحمل خسارة آخر نفوذ لها فوق أرض عربية. كما ستزدهر الاتصالات الاقتصادية والعسكرية بينهما؛ لأن روسيا لا تتحمل خسارة السوق التركية المهمة جداً لصادراتها من الغاز، ومع ذلك، وأبعد من هذا التعاون، فإن العلاقات بين روسيا وتركيا ستتعرض لضغوط جيوسياسية على أساس القضايا الجغرافية والأمنية، وسيظل البحر الأسود وجنوب القوقاز، وبدرجة أقل آسيا الوسطى المناطق الأكثر تنافساً بين موسكو وأنقرة.
في ظل هذه الخريطة التي تحيط بالمنطقة العربية، نرى عمليات، ومصالح، وتوسعاً، وقواعد عسكرية، وثقافات تتمدد وتتصادم، تأخذ من المسرح السوري ساحة تلاقٍ أو فرض نفوذ. هناك الروسي، والإيراني، والتركي، والأوروبي، والأميركي، وهناك الشيشاني، والأوزبكي، والقيرغستاني، الذي جاءنا وقتلنا بثياب «داعش»، وأطل أسيراً من على شاشة التلفزيون الكردي في العراق. لكن أين الدور العربي في كل هذا؟ لم نره بعد!