لم تكن الحرب يوماً في إقليمنا على هذا القدر من الوضوح ومن الجلاء. إيران تخوض حربها من خلال جيوش غير إيرانية- بينها الجيش العراقي والجيش السوري- توازيها ثلاث ميليشيات، الحشد الشعبي العراقي و «حزب الله» اللبناني والميليشيات السورية المستحدثة.
تعقد طهران اتفاقاً مع «داعش» لمبادلة جثة جندي لها بسلامة مقاتلين للتنظيم، فيتولى «حزب الله» تنفيذ تفاصيل الاتفاق. وفيما يُدفع مقاتلو «داعش» من الحدود اللبنانية إلى الحدود العراقية، تتذمر حكومة بغداد، وتُسجل حكومة بيروت «نصراً» على الإرهاب. ويبقى «التذمر» و «النصر» ضمن دائرة الضبط الإيراني، ولا يخرجان عن الهامش الذي تتيحه طهران للأطراف التي تدير عبرها حروبها الإقليمية.
والحال أن قمة الانكشاف كانت هذا الأسبوع عبر الفصول الجديدة من اتفاق انسحاب عناصر «داعش» من القلمون اللبنانية- السورية إلى البوكمال السورية- العراقية، ذاك أن طائرات التحالف الدولي قررت أن تُنغص على طهران تنفيذ الاتفاق في نصفه الثاني، أي في مرحلة انتقال مقاتلي التنظيم وعائلاتهم إلى البوكمال. «حزب الله» رفع الصوت لـ «إنقاذ» المقاتلين وعائلاتهم من موت في الصحراء، فهالتنا خطوته ورفعنا الصوت مذهولين من حرصه على حياة عناصر التنظيم وعائلاتهم. والحال أن ذهولنا يشبه إلى حد كبير محاولة التحالف الدولي اعتراض الخطوة الإيرانية، ذاك أن خطوة التحالف كاشفة لعجزه عن الإتيان بأكثر من اعتراض قافلة لمئات من المقاتلين وعائلاتهم. ومثلما انطوى ذهولنا على سذاجة، انطوى صمتنا على حقيقة أن الخطوة الدولية لا قيمة لها، على سذاجة موازية.
طهران تسجل انتصاراً في أعقاب انتصار، وتمتص غضب خصومها بتذمر لا قيمة له لحكومة بغداد، أو بإتاحة رفع صوت لبناني كئيب استهوالاً لفعلتها، إلى أن انضم التحالف الدولي إلى حفلة الأصوات المختنقة، فكان انتقامه من طهران عبر حصار قافلة لـ «داعش»، واستجاب حزب الله لرغبتنا في سقطة له تمكّن عبرها من امتصاص غضبنا، فأصدر بيان القلق على مقاتلي «داعش»، وانطلق الصراخ، وشعرنا أننا أفرغنا ما في وجداناتنا من توتر واضطراب. أكمل «حزب الله» حياته، ونمنا جميعاً ملء جفوننا في تلك الليلة.
إيران انتصرت في الحرب على «داعش»، أما الحكومات التي تمارس نفوذاً عليها في بغداد ودمشق وبيروت، فليست في موقع من ينتصر أو ينهزم. وأن تنتهي الحرب بهذه النتيجة، أي بانتصار جلي لطهران، فعلينا أن ننتظر ولادة وشيكة لمسخ جديد. من الغباء والجهل انتظار شيء آخر. قوة مذهبية إقليمية انتصرت في الحرب على «داعش». تركيا لم تنتصر على «داعش»، والعرب لم يفعلوا ذلك. أما التحالف الدولي، فكان ملحقاً بالقوة الإيرانية تماماً كما كان الحشد والحزب ملحقين، وجل ما فعله كان اعتراض قافلة لـ «داعش» أرادتها طهران أن تصل إلى الحدود. «لا بأس أقصفوها وسنصدر بياناً يعبر عن قلقنا على المدنيين فيها»!
وأن تنتصر طهران في هذه الحرب فهذا يعرضنا إلى مصير أكثر بؤساً مما كابدناه مع «داعش». الأخير سيصبح ممثلاً لكل المهزومين، وما أكثرهم. والمسخ لا يموت، ذاك أنه عرضة لولادة جديدة. الشروط كلها مؤمنة له. عدوه المذهبي انتصر في الحرب عليه، المدن مدمرة بالكامل، ومخيمات البؤس والجوع والمرض تمتد من على مساحات شاسعة أينما اتجهت في دول الإقليم.
إيران مَن انتصر على «داعش»، وليس العقل ولا الاعتدال. في لبنان انتصر «حزب الله» وفي سورية انتصر بشار الأسد وفي العراق انتصر «الحشد الشعبي». هل من مشهد أشد دلالة على توقع ولادة المسخ مجدداً وقريباً جداً؟
لكن ما يجعل الإقامة في هذا العالم مخيفة، هو أن المسخ الجديد لا أحد بريء من ولادته. العرب الذين انكفأوا عن الحرب عليه، والأتراك الذين فتحوا حدودهم له، و «الامبراطورية الإيرانية» التي لطالما غبطها عدو مثل «داعش» فراحت تفتح له المدن والقصبات، تمهيداً لانتصارات سهلة عليه. أما الأب الرابع فهو ذلك الانكفاء الغربي والأميركي تحديداً. هذا الغرب لم يتعلم ما يعنيه أن تتحول الحرب على «داعش» إلى نصرٍ مذهبي. ولم يتعلم أيضاً أنه لن يكون في منأى عن هذا الاختلال الهائل.
فتح الاتفاق الأخير بين حزب الله وتنظيم داعش الباب لأسئلة طالما طُرِحت بثقة لكنها كانت عُرضة للتأويل أو اللامبالاة من جملة الاهتمامات الدولية وتركت إلى الفراغ بإرادة دول الصف الأول، وأهمها الأعضاء الدائمين في مجلس الأمن.
خلاصة الصفقة بين ميليشيا الحرس الثوري الإيراني في لبنان وعناصر داعش الإصرار على استمرار استغفال الشعوب التي تقع ضمن جغرافيا قريبة للمشروع الإيراني وإيهامها بالحرب المذهبية والإقفال بالشمع الأحمر على عقلها أو بقايا عقلها عند بعضهم.
بمعنى آخر إنهم يقدمون لنا النُصح بعدم التفكر والتفكير، لأننا في نظرهم “جهلة” وهذا ما عبر عنه رئيس كتلة دولة القانون في برلمان العراق وزعيم حزب الدعوة نوري المالكي.
كل من لا يستوعب أو ينتقد أو يعترض مهما كانت مكانته فهو “جاهل” بنظر المالكي. لِمن توجه بكلامه ولماذا؟ فالعراق بمعظمه توحد في رفض الصفقة، وحتى رئيس الوزراء حيدر العبادي، وهو من حزب الدعوة، لم يستطع التملص ربما لأول مرة رغم سياسة أضعف الإيمان من القول إن الاتفاق غير مقبول. وهذا يحسب له.
لماذا لم يتجاهل نوري المالكي الاتفاق ويترك المأزق في ملعب العبادي؟ هل اضطر إلى هذا التصريح وتوجيه الإهانة ونعت المنتقدين بـ”الجهلة” ومنهم طبعا رئيس وزراء العراق الذي من كتلته وحزبه؟
ربما نجد عذرا للمالكي إذا وصف الشعب العراقي بما يشاء، فالشعب في ذيل قائمة اهتماماته، لكن كيف وموسم الانتخابات على الأبواب؟ هل يراهن المالكي بكل قوته على المعسكر الإيراني الذي ينتمي إليه مع حزب الله ويستند إلى الحشد الشعبي بميليشياته الأكثر قربا أو صلة بالحرس الثوري وقاعدتها الانتخابية بما أنه، أي المالكي، يستعرض نفسه كعراب للحشد.
أكيد أن مفردة “الجهلة” لم تكن زلة لسان، قد تكون استجابة برضا لأوامر أو رغبات المرشد خامنئي وحرسه الثوري اللذين لديهما قناعة بأن حيدر العبادي غير مقبول أو مرضي عنه رغم ما يقدمه من تنازلات مخجلة أحيانا وتضعه في مواقف محرجة بصفته رئيسا للوزراء وقائدا عاما للقوات المسلحة. يبدو أن حماسته في الدفاع عن الحشد الميليشاوي لم تنفع أو لم تشفع لصقله إلى قيادة مرحلة أزمات قادمة في العراق والمنطقة.
إيران متطلِبة في العراق ولن يكفيها حاكم بوجه معلن كدولة عراقية ذات سيادة في تعاملها مع السياسة والعلاقات الدولية ووجه خفي معها وإن قلبا وقالبا. إيران تريد حاكما على طريقة التبليغات وأداء الواجبات كفرد في الحرس الثوري وبهيئة قاسم سليماني في المهمات الداخلية أو أي مسؤول إيراني آخر بما يتعلق بإدارة شؤون العراق مع العالم.
ما قاله نوري المالكي كسر القشرة الخارجية التي منعت طويلا المجاهرة بموقف العداء الصريح لأي تقارب عربي مع العراق وخاصة مع المملكة العربية السعودية وبما خرجت به قمة الرياض في محاربة التطرف وإدانة المشروع التوسعي لنظام ولاية الفقيه واعتباره الداعم والراعي الأول للإرهاب في العالم.
المالكي ردّ بفظاظة شملت الجميع، لكنه أراد مهاجمة الأصوات الأعلى الرافضة للاتفاق المشين وهي أصوات مؤثرة في المشهد العراقي وتحديدا منها أصوات كتلة الأحرار الصدرية في البرلمان، بما ينذر بكارثة صراع عام ومفتوح في العراق يستهدف أي شخصية تبتعد عن المشروع الإيراني ولو بمسافة تمليها المأساة التي تعرض لها شعب العراق من تمزيق في نسيجه الاجتماعي ووحدته الوطنية وبحربه على الإرهاب، وهي حقائق تستدعي عودة وإعادة بل وانتزاع العراق من ويلات المشروع الإيراني وما يمكن أن نتوقعه من حروب بالإنابة دفاعا عن أمن إيران وإبعاد الأذى عن حدودها، مع الاستفتاء في إقليم كردستان على الانفصال والشحن السياسي والمجتمعي في قضية كركوك وما يتبعها من مخاطر أمنية محتملة.
الاتفاق على ترحيل تنظيم داعش من الحدود اللبنانية السورية له حسابات في الداخل اللبناني لن نخوض فيها لكنها أيضا على صلة بالإرادة الإيرانية والمناورة داخل الأراضي السورية. وكما قيل إن انتقال عناصر داعش تم من أرض سورية إلى أرض سورية وإن كان ترحيلهم إلى البوكمال القريبة من الحدود العراقية أو إلى دير الزور المحاذية كذلك للعراق. فلماذا هذه الضجة المفتعلة وردود الفعل في العراق؟
الاتفاق المذكور دون شك سحق تماما فكرة توازن الرعب التي تبناها داعش في سياسته التي ترتكز على الترويع والصدمة والعزلة واستحالة الحوار معه والتوحش واللامبالاة بالحياة وليس له إلا الموت بالقتال أو الانتحار بالسيارات المفخخة أو الأحزمة الناسفة. لكننا رأيناهم يتواصلون ويتفقون ويبتسمون للكاميرات ويشربون الماء باردا وبرفقتهم عوائل من نساء وأبناء وأمهات وآباء. ومع من يتفقون، أليست هذه أكبر المفاجآت؟
للمتتبع كان وقعها استكمالا لسياسة المشروع الإيراني واستباقا للأحداث وتقاطعا مع المستجدات. السؤال الأكثر وقعا في نفوسنا: لماذا لم يُفتح أي اتصال أو حوار مع مقاتلي داعش بعد أي صفحة من صفحات معركة الموصل؟ لماذا لم تفتح ثغرة لهروبهم إلى خارج الموصل القديمة واصطيادهم هناك أو إيقاعهم في الأسر بما أننا نتابع مصائر أعداد منهم في معركة تلعفر أو تركهم ليغادروا الحدود العراقية؟
ماذا كانت مهمة الحشد الميليشاوي إلا العزل والتطويق من جهة الواجبات المكلف بها غرب الموصل؟ ما هو الاستنتاج الذي نخرج به غير الإبادة الممنهجة والتشريد والإهانة والإذلال وتدمير الموصل؟
رأينا بفضل تواطؤ النظام السوري وحزب الله تنظيم داعش كيف يتحول إلى بعض عشيرة تائهة في الصحراء أعيدت إلى مضارب خيام أهلها الذين استقروا قرب الحدود العراقية. لماذا الحدود العراقية السورية أصبحت مركزا للتجمعات المسلحة من تنظيم داعش الذي أُخرِجَ من الموصل وتلعفر بالدم العراقي؟
الحشد الميليشاوي يحاول السيطرة على الحدود. هل كانت وظيفته مطاردة داعش وإلحاق الهزيمة به أم أن الاتفاق أو الصفقة المشبوهة نبهتنا إلى مضمون الاتفاق في إعادة احتلال المدن العراقية لما له من غايات أدرى بها نوري المالكي الذي سلم الموصل دون قتال ويصف اليوم شعب العراق وكل من يقف بوجه المشروع الإيراني بـ”الجهلة”؛ وهو قبل زيارته إلى موسكو كان يصرح متحمسا عن وحدة الموضوع بين العراق والنظام الحاكم في سوريا بما يخص الحرب على إرهاب داعش ولولا قتال “العراقيين” دفاعا عن سوريا لسقطت بغداد.
ما الذي تغير لتكون البوكمال بعيدة كل هذا البعد عن الحدود العراقية في رأي المالكي وأتباع المشروع الإيراني؟ هل هي فضيحة مقبلة لتعاون صريح لميليشيات الحشد مع داعش لمواجهة التوجهات الأميركية في العراق لفصل الهلال الطائفي ومنع التمدد الإيراني إلى البحر المتوسط.
القادة العراقيون غاضبون، وخصوصا ضباط الجيش العراقي، فقد اقترحوا الإبقاء على منفذ لفرار الدواعش إلى مدينة الرقة لإنقاذ مدينة الموصل التي تعتبر ثاني أهم حاضرة من حواضر العراق. والذي عطل الصفقة هو خطاب حسن نصرالله الشهير، حيث طالب العراقيين بعدم السماح للإرهابيين بالفرار وحث الميليشيات على قطع الطريق المؤدي إلى سوريا وجعل الموصل محرقة للجميع.
الآن جنرالات الجيش في حالة احتقان لأنه حين وصل الأمر إلى القلمون وجرود عرسال ومصير بعض الأسرى اللبنانيين تفاوض حسن نصرالله وسمح للدواعش بالانسحاب نحو دير الزُّور والبوكمال على الحدود العراقية. هذه رسالة لبنانية إلى ضباط العراق تقول إن الموصل كلها و650 ألف طفل عراقي مصاب بصدمة الحرب لا تساوي رفات جندي لبناني واحد.
البيان الذي أصدره حسن نصرالله لتهدئة الغضب العراقي كان تأثيره عكسيّا، فهو يقول “كانت لدينا في لبنان قضية إنسانية وطنية جامعة هي قضية العسكريين اللبنانيين المخطوفين من قبل داعش منذ عدة سنوات، وكان الإجماع اللبناني يطالب بكشف مصيرهم وإطلاق سراحهم إن كانوا أحياء أو استعادة أجسادهم إن كانوا شهداء، وكان الطريق الوحيد والحصري في نهاية المطاف هو التفاوض مع هؤلاء المسلحين لحسم هذه القضية الإنسانية الوطنية”، وهنا يلاحظ تسمية الدواعش بـ”المسلحين” للتخفيف. ويقول إن نقل 310 داعشي منهك ومهزوم بالباصات التي وفرها حزب الله إلى دير الزُّور لا مشكلة فيه.
الاحتجاج بالنسبة إلى العراقيين ليس هو نفسه بالنسبة إلى الولايات المتحدة. الكولونيل ريان ديلون متحدثا باسم التحالف قال إنه “لمنع القافلة من التقدم شرقا، أحدثنا فجوة في الطريق ودمّرنا جسرا صغيرا وأن داعش يشكل تهديدا عالميا، ونقل الإرهابيين من مكان إلى آخر كي يتعامل معهم طرف آخر ليس حلا دائما”. فالولايات المتحدة ضد عقد صفقات من أي نوع مع الإرهابيين، لهذا نفذت غارات جوية داخل سوريا لمنع الدواعش من الوصول إلى الحدود العراقية، بينما العراقيون غاضبون لتدخل حسن نصرالله واعتراضه على توفير أي منفذ لهروب الدواعش من الموصل.
هناك معلومات تشير إلى صفقة سابقة مع الدواعش في تحرير الفلوجة، حيث قاد حزب الله العراق المفاوضات معهم وتم انسحاب الدواعش إلى الصحراء. شهود عيان ذكروا خروج الدواعش حينها من مدينة الفلوجة وعبورهم عند سيطرة الرزازة التي تسيطر عليها ميليشيا حزب الله.
سيدة لبنانية تابعة لإعلام حزب الله تقول إن حسن نصرالله خط أحمر لا يحق للعراقيين أن ينتقدوه، فهو يفهم بأمور الحرب أكثر من الجميع. ولا نعرف هل يفهم حسن نصرالله بأمور الحرب أكثر من جنرالات العراق الذين فكروا بإنقاذ المدينة من خلال ترك منفذ للهرب وليس عقد صفقة كما فعل الغادر حزب الله؟ لا شك أن إنقاذ حياة مليون طفل عراقي ومدينة عظيمة بحجم الموصل يعتبر سببا إنسانيا أكبر بكثير من رفات جندي لبناني.
السيد مقتدى الصدر قال إن على الحكومة نشر قوات على الحدود السورية مع البوكمال وعرض المساعدة، في إشارة إلى استيائه من غدر حسن نصرالله بالعراقيين. فهو بنظرهم غادر مرتين: مرة حين أمر الميليشيات العراقية، لقطع الطريق وإفشال أي خطة لإنقاذ الموصل وأهلها، بتوفير طريق هروب للدواعش خارج المدينة التاريخية؛ ومرة ثانية لأنه في لبنان لم يسمح بفرار الدواعش فقط بل عقد معهم اتفاقا لنقلهم بالقرب من العراق.
العراقيون يشعرون بوجود خديعة. ولأول مرة نسمع من شيعة العراق لعنات وهجوما قويا ضد حزب الله والمشروع الإيراني. هناك شعور بالذنب بحق الموصل، فما كان يجب تدميرها بهذا الشكل الرهيب ولا كان يجب تشريد أطفالها بهذه القسوة. جنرالات العراق يشعرون بأنه كان من الممكن ترك الإرهابيين يهربون ومطاردتهم في الصحراء أو في مكان آخر بعيدا عن الناس والمدينة لولا أن حسن نصرالله قد خدعهم، فأيادي القادة العراقيين ملطخة بالدماء ويشعرون بالوجع فقد سقط الكثير من الأبرياء في تلك المعركة. يقولون لماذا دم العراقيين رخيص إلى هذه الدرجة بنظر حسن نصرالله؟
شيعي عراقي يقول لماذا لا يعجبنا كلام رجل على فراش الموت يقول “لئن سلمني الله لأدَعن أرامل العراق لا يحتجن إلى رجل بعدي”، ويضيف “الكوفة جمجمة العرب وكنز الرجال”.
ويعجبنا بالمقابل كلام رجل يتمنى لو يصرفنا صرف الدينار بالدرهم، يستبدل عشرة من العراقيين برجل واحد من أهل الشام؟ من حق الناس أن تتساءل في كل شيء بعد خديعة حسن نصرالله للعراقيين.
فتح المسلمون العراق عام 14 هجرية وبعد 22 عاما فقد سقط 10 آلاف قتيل من البصريين في “معركة الجمل”، حيث قرر الصحابة نقل خلافاتهم العائلية إلى البصرة، وبعد عام من ذلك التاريخ سقط 40 ألف قتيل من العراقيين في “وقعة صفين” التي هي أبشع حرب أهلية في تاريخ العرب. منذ البداية والعراقيون حطب لصراعات لا ناقة لهم فيها ولا جمل. يبدو العراق اليوم نتيجة لصراع صفوي عثماني، فالإسلام السياسي معناه خضوع العراق لاحتلال إيراني أو تركي.
في مؤتمر صحافي مع نظيره الروسي سيرجي لافروف انتقد الشيخ عبدالله بن زايد آل نهيان وزير الخارجية الإماراتي ما أسماه “النظرة الاستعمارية” لدى كل من إيران وتركيا تجاه العرب. إن هذه الأعمال الاستعمارية أصبحت واضحة من خلال نقل الإرهابيين من مكان إلى آخر بشكل علني ودعمهم والتفاوض معهم لأغراض سياسية تخدم الهدف الاستعماري التركي والإيراني معا.
هناك ملامح انشقاق واضح بين العراقيين وحزب الله بعد فضيحة التفاوض مع الدواعش ونقلهم إلى العراق. لم يكن ممكنا لهذه الحقائق أن تكون مكشوفة لولا إبعاد قطر من قبل الدول العربية، فالدوحة كانت الطرف الرئيسي الذي يقوم بالوساطات ويشوّش الصورة القبيحة لتحالف إيران وعملائها مع الإرهابيين لتدمير العرب وسحق مدنهم.
يوسف العتيبة، سفير الإمارات العربية المتحدة في واشنطن، قال “الأمر ليس عزلا أو تهميشا لقطر بل هو لحماية أنفسنا منها”. دون اللاعب القطري تبدو إيران أضعف بكثير وكذلك الإرهاب وتحركاتهما مفضوحة. إن استبعاد قطر بهذا الشكل أربك جميع اللاعبين المعادين للسلام وأصبح العراق يضع ثقته أكثر بالعرب وبالسيد مقتدى الصدر وفضح خبث حسن نصرالله وعملاء طهران.
كشفت صفقة حزب الله و«داعش» أكثر من حقيقة ظن صانعها، وهو أمين الحزب العميل الإيراني حسن نصرالله، أنها لن تُعرف، لأنه أكثر ذكاء، والآخرون أغبياء!
فقد اتضح أن المسرحية هي في حقيقتها صفقة بين حزب الله وإيران ونوري المالكي ونظام بشار الأسد، من جهة، و«داعش» من الجهة الأخرى.
وكالعادة فإن غلطة «الشاطر» حسن بمليون غلطة، إذ لم يسأل نفسه أصلاً: إذا انتهت المعارك التي زُعم أن الجيش اللبناني خاضها ضد «داعش» في المناطق الجبلية التي يسيطر عليها التنظيم داخل لبنان، قرب الحدود مع سورية، بانتصار الجيش، وانكسار «داعش»، فلماذا يحصل المهزومون على امتياز التفاوض، والاتفاق معهم على إخلاء سبيلهم إلى محافظة دير الزور، بكامل عتادهم، وعائلاتهم؟
هذه هي المرة الأولى التي نسمع فيها بأن المهزوم هو الذي يكتب شروط هزيمته، وليس العكس!
«الأمعة» الإيرانية بشار الأسد سارع بدوره لتوفير الحافلات لنقل الدواعش معززين مكرمين بعائلاتهم من لبنان إلى دير الزور.
هل كان ذلك مصادفة؟ ليست هناك مصادفات في دفاتر الإيرانيين وأزلامهم بشار ونوري وحسن، كل شيء له ثمنه، ومقابله.
فبعدما تقدمت قافلة الدواعش متجهة لدير الزور، انتاب القلق قادة قوات التحالف الدولي لضرب «داعش» الذي تتزعمه الولايات المتحدة، واتخذوا قراراً بضرب القافلة قبل وصولها إلى هدفها، فهم يعرفون أنها تتجه لدير الزور ليتسنى لها التسلل إلى المحافظات السنية العراقية التي دفع أهلوها لتوِّهم دماءً غالية وزكية للتخلص من سرطان الدواعش، فيعودوا بذلك لذبح السنة، بدعم من العصابات الإرهابية الشيعية العراقيّة التي يديرها قاسم سليماني من وسط بغداد. وما إن توقفت غارات التحالف التي استهدفت القافلة، حتى سارع بشار الأسد ليعرض على نصر الله تغيير اتجاهها صوب منطقة السخنة، التي استعادتها قوات نظامه في المنطقة نفسها، ليعبروها آمنين إلى مناطق سيطرة «داعش».
وهي صفقة «جهنمية»، إلى درجة أن رئيس الوزراء العراقي حيدر العبادي استنكرها بعبارات قوية، في مؤتمر على رؤوس الأشهاد، وانضم إليه مستنكراً التيار الصدري، وزعيم البرلمان العراقي الذي يمثل سنة العراق. لكن الصورة باتت أشد جلاء حين خرج نوري المالكي من مزبلة النسيان ليثني على الصفقة، ويصف معارضيها بأنهم «جهلة». إذن فهي صفقة ليست بين نصرالله و«داعش» وحدهما، بل هي صفقة تضم إيران، وحزب الله، ونظام بشار، وشيعة العراق الموالين لإيران -من جهة- و«داعش». وتعني أن إيران تريد أن تقول للعبادي والتحالف الدولي ودول المنطقة المتنفذة إنها وحدها التي تنفرد بالنفوذ في العراق وسورية ولبنان، وأنها ماضية في خطتها الإجرامية لتصفية سنة العراق، مهما يكون شأن الإرادة الإقليمية والدولية. وهي صفقة تلغي كل نظريات المؤامرة السابقة بشأن أصل «داعش» والجهات التي يُزعم أنها تقف وراءه. فقد بات جلياً أن إيران هي صانعة «داعش»، وأن نصرالله ليس سوى إحدى أدواتها في المنطقة، وأن بشار الأسد يذبح الشعب السوري يداً بيدٍ مع انتحاريي «داعش»، وأن نوري المالكي لا يزال يقوم بدوره القذر في تنفيذ المخططات الإيرانية، تحت ستار منصب نائب الرئيس العراقي. وهي بالطبع نتائج لن ترضى بها دول المنطقة العربية، ولن يقبل بها التحالف الدولي الذي تشارك فيه بشكل فعال الولايات المتحدة وفرنسا وبريطانيا.
الأكيد أن المنطقة مقبلة على مزيد من الاضطراب والزعزعة، وأن الحرب التالية لن تقتصر على أدوات ووكلاء الدول الراعية للإرهاب وحدها، بل سيصل حريقها إلى تلك القوى نفسها، لأن العالم لن يترك سورية ولبنان والعراق لقمة سائغة للعملاء والخونة والنظام الإيراني المهووس بأحلام استعادة حضارة سادت وبادت.
أشعر بالأسف والاشمئزاز حقا حينما أرى بعض الأشخاص والأصدقاء يتهافتون على تشجيع المنتخب السوري لكرة القدم "المنتخب الأسدي"، ويزداد أسفي عندما أرى أن بعض هؤلاء هم ممن ادّعى الثورية والنضال من أجل حرية سلبها منا مرتزقة عاثوا في الأرض فسادا على مدى عقود عدة.
يطلق هؤلاء الأشخاص حججا واهية ليثبتوا ديمقراطيتهم وثقافتهم ووعيهم السياسي على مواقع التواصل الاجتماعي من أجل نيل إعجاب من هنا وآخر من هناك.
لنفترض جدلا أن مدّعي الديمقراطية لهم الحق في التشجيع انطلاقا من منظور "فصل الرياضة عن السياسة"، ولكن في المقابل لماذا لا يبدون ديمقراطيتهم ويطلقون عنانها حينما يقوم كابتن ما يسمى بـ "المنتخب الوطني" بنشر صورة على صفحته على مواقع التواصل الاجتماعي يبدي فيها علم نظام الأسد مرفقا بسلاح الكلاشينكوف، هو ها هنا يمثل منتخباً أسدياً ولا يمثل منتخباً "وطنياً سورياً" دون أدنى شك.
سلاح الكلاشينكوف الذي ظهر جليا في الصورة يرمز إلى تأييد الحرب الشعواء التي يخوضها جيش الأسد ضد الشعب السوري، ولا يقف الرمز عند مسماه بالتأكيد، بل يتعداه تأييد كل سلاح قام بشار الأسد بتوجيهه ضد المدن الثائرة والمحررة من بينها السلاح الصامت "الكيماوي".
ألم تذكرون يا مدّعو الديمقراطية ما فعله كلاشينكوف وبنادق الأسد بصدور ورؤوس وأحشاء المتظاهرين العزل في بدايات الثورة، ألم تذكرون ما فعلته صواريخ الأسد بكافة أنواعها بمنازل وممتلكات أهلك بعد عامين من بدء الثورة، طبعا لم نذكر أرواح شهدائنا لأنكم تناسيتموها يا أعزائي، ألا تتذكرون غاز السارين في الغوطة والمعضمية وداريا! أجل مضى عليها الزمن ... ألم تنشط ذاكرتكم بما فعله السارين بخان شيخون قبل أشهر فقط؟؟؟؟ ... يبدو أنها في سبات عميق!!!.
تهتم وتاهت بوصلتكم، لم يعد لديكم موقف، لم يعد لديكم مبدأ، حقا نجح الإعلام في قلب معتقداتكم وتفكيركم، وتم تعويم الأسد في عقلوكم، وإلا لما أقدمتم على مثل هذا الهراء.
لعلي نسيت أمرا... أجل، يجب فصل السياسة عن الرياضة.. ولكن لماذا تتهربون عندما تواجهون سؤالا بسيطا ... لماذا لم يفصلوا الحرب عن قصف المشافي واستهداف الأطفال ومصادر المياه والغذاء، فحصار الغذاء حصد عشرات الضحايا في مضايا الجريحة الجائعة.
راجعوا حساباتكم.. عودوا لمبادئكم .. استعيدوا ذكرياتكم .. تذكروا الآهات والمتاعب والمصائب والنوائب التي اعترضتكم من جبروتهم وطغيانهم .. لا تجعلوا ملذات الحياة تنسيكم ثورتكم وإنسانيتكم وصوت الحق فيكم .. لنعيدها سيرتها الأولى.
أيضا يجب ألا يتم إغفال إرادة وتصميم القتلة والمجرمون على فصل السياسة عن الرياضة، ففي سبيل ذلك اعتقلوا وفصلوا أرواح الرياضيين الوطنيين عن أجسادهم، كاللاعبين أمثال:
1-أحمد سويدان لاعب نادي الكرامة الحمصي الذي قتله جيش الأسد في عام ٢٠١٢.
2-زكريا يوسف لاعب نادي الاتحاد الحلبي الذي قتله جيش الأسد عام ٢٠١٢.
3-لؤي العمر اللاعب السابق في نادي الكرامة في ثمانينات القرن الماضي استشهد تحت التعذيب في سجون وأقبية مخابرات الأسد.
4-إياد قويدر لاعب نادي الوحدة الدمشقي استشهد في سجون الأسد.
5-أحمد العايق لاعب نادي الكرامة معتقلا في سجون الأسد منذ عام ٢٠١٢.
6-طارق عبد الحق لاعب نادي تشرين اللاذقاني معتقلا في سجون الأسد.
7-محمد أحمد سليمان لاعب نادي مصفاة بانياس معتقلا بتاريخ 11 أيار 2012 في سجون الأسد.
إذاً ... الحياة موقف .. والثورة موقف ومبدأ ... فلنعيدها سيرتها الأولى لأننا متحدين نقف ومتفرقين نسقط....
تختصر المعارضة السورية معركتها السياسية ـ التفاوضية بين "المنصات"، التي اجتمعت في الرياض أخيرا (21 أغسطس/ آب)، في بند رحيل الأسد، والخلاف حول إعلان ذلك، وتصدير هذه المعركة إلى السوريين عبر الإعلام، كأن كل ما أرادته في قيادتها المعارضة قد تحقق، أو أنجز، باستثناء هذه "الجزئية"، أي المتعلقة برحيل الأسد أو بقائه، في وقت تتسارع فيه الدول الراعية للمنصات ذاتها إلى التقليل من أهمية هذا البند الذي تراه الهيئة العليا للمفاوضات جوهر العملية التفاوضية، بينما تراه "منصة" موسكو شرطا مسبقاً مرفوضاً، وتراه "منصة" القاهرة تفصيلاً يمكن التعاطي معه بدبلوماسية تتيح التوافق، وتحول دون ازدياد الشرخ في معارضةٍ لم يلتئم شملها بعد.
وعلى الرغم من الإعلان عن حجم المشتركات بين "المنصّات"، إلا أن ما يثير الاهتمام أن هذه المشتركات هي نفسها مع النظام، بدءاً من التوافق على سورية الواحدة الموحدة إلى الحفاظ على مؤسسات الدولة، ما يعني أن الأصل في الاجتماع هو التوافق على المختلف عليه بينهم، والذي تم اختصاره، أولاً، بمصير الأسد، وثانياً، بالدستور الذي يحكم المرحلة الانتقالية، مع أهمية الأول، الأمر الذي تحوّل إلى همروجة إعلامية شعبوية، هدفها إثارة الرأي العام، وتحويل أنظاره عما هو أهم وأعمق في العملية التفاوضية، وما سبقها وسياقاتها ومآلاتها.
ليس المهم اليوم مناقشة ما يمكن أن يطرحه اجتماعٌ لم يذهب إليه المجتمعون بناء على رغبة ذاتية تقتضيها المصلحة الوطنية، أو "لتكتيكات" تفاوضية آنية، أو جزئية، وإنما تنفيذاً لإملاءاتٍ دولية، لوّحت لهم بها القرارات الدولية، وتم تجاهلها نحو عامين متتاليين، تحت شعاراتٍ تمسّكت بها الهيئة العليا للمفاوضات من دون أن تعي عواقبها، فهي التي رفضت بداية عقد مثل هذه الاجتماعات، ثم أعلنت على الملأ أن المبعوث الأممي، ستيفان دي ميستورا، غير مخول بدعوة وفود إلى التفاوض مع النظام "إلاها". وبعد ذلك، رضخت لهذا الأمر، بعد أن كانت قد رضخت لفتح مسار تفاوضي جديد هو مسار أستانة.
هكذا قام المبعوث الأممي بدعوة منصتي القاهرة وموسكو، وغيرهما، إلى جولات التفاوض، في حين برّرت الهيئة ذلك باعتبار الأمر مجرد مشاورات، وبسبب الإصرار على عدم قراءة قرار مجلس الأمن 2254 الذي صدر نهاية 2015 والذي ينصّ صراحةً على شراكة هذه المنصات، ومن يراها المبعوث الأممي أيضاً. وفي المحصلة، تحولت الهيئة العليا للمفاوضات ذاتها إلى مجرد منصة، وهي التي كانت تضم أكثر الهيئات والكيانات المعارضة، سواء المشكّلة خارج الأراضي السورية، كالائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة، وممثلين عن فصائل عسكرية تعمل من داخل و"خارج" الأراضي السورية، وممثلين عن معارضة الداخل مثل هيئة التنسيق الوطنية، ومجموعة من المستقلين، وجميع المدعوين من هيئات أو أفراد كانت دعوتهم اسمية، ولاعتبارات الدول المقرّرة، أي أنها ليست نتاج انتخابات شعبية، أو لاعتبارات تمثيلية، ما يسقط فكرة تمثيل الشعب، ليضع مكانها تمثيل الكيانات والدول الداعمة فقط.
وبالعودة إلى القرار 2254 الذي يعد أحد أهم المرجعيات التفاوضية للمعارضة، وبعيدا عن القراءات العاطفية والرغبوية للمعارضة، فإنه يتضمن نصاً واضحاً على: "جمع أوسع طيف ممكن من المعارضة التي يختارها السوريون، والتي ستقرر ممثليها للتفاوض وتضع مواقفها التفاوضية بما يمكّن من إطلاق العملية السياسية، وإذ يأخذ علماً بالاجتماعات التي جرت في موسكو والقاهرة وغيرها من المبادرات، بغاية الوصول إلى هذا الهدف، وإذ يلحظ خصيصاً الفائدة الناجمة عن الاجتماع الذي جرى في الرياض في الفترة بين 9-11 كانون الأول/ديسمبر 2015، التي تسهم نتائجها في التحضير للمفاوضات تحت إشراف الأمم المتحدة حول التسوية السياسية للصراع، طبقاً لبيان جنيف وبياني فيينا".
فوفقاً لهذه الفقرة، وهي العاشرة في القرار 2254، فإن المسؤولية اليوم تتجلّى في التفطّن لإعادة قراءة هذا النص، بمسؤولية وطنية، وبواقعية، ومن دون مكابرة، قبل أن يصار إلى التعامل معها من جديد دولياً، في ظل المتغيرات على الأرض وفي ساحة المعارك. ويأتي ضمن هذه القراءة ملاحظة وجود قوة أخرى، غير متمثلة بعد، وسيُصار إلى فرضها لاحقا، وهي القوة الكردية، المتمثلة في قوات سورية الديمقراطية، التي تحظى بدعم أميركي مطلق، ليكون التعامل مع هذا الأمر وفقاً للأجندة السورية، وليس وفقاً للتوظيفات الخارجية، ووفقاً للتوافقات والمشتركات المتبادلة، بدلاً من تجاهل هذا الأمر ثم قبوله أمرا واقعا، كما حصل مع المنصات الأخرى. أيضا، هذه التطورات الحاصلة تطرح تساؤلاتٍ عن ماهية التسويات اللازمة مع كل من التحالف الجديد الإيراني والروسي والتركي، والذي يحقق مصالح متبادلة بين كل الأطراف، ويحفظ الأمن القومي التركي، من دون أن يتراخى بما يتعلق بحقوق الكرد في الدولة السورية الجديدة، وهذه، بعيداً عن الولاءات الحالية، هي مهمة وطنية، تدخل ضمن جهود العمل السياسي الذي يجب أن تضطلع به كيانات المعارضة بإرادة ذاتية، هدفها تحصيل حقوق كل السوريين ضمن المشروع الوطني البديل للنظام الاستبدادي القائم.
التعامل من منطلق فهم موازين القوى من دون التفريط بجوهر المطالب الشعبية في الحرية والكرامة وحق المواطنة، والتعاطي مع القرارات الدولية من منطق الواقع القائم، وليس القراءات السطحية، يدفع إلى القول فعلياً: إننا مازلنا أمام بابٍ مفتوح لشراكات تتجاوز المنصتين، كما ينص القرار في الفقرة العاشرة منه، بما يتعلق بدور الوسيط وصلاحياته التي يجب دراستها ورسم خطة تعامل واقعية معها، وتوظيفها في خدمة أهداف الثورة التي قامت من أجل إقامة الديمقراطية وإحقاق حقوق المواطنة لكل السوريين، أفراداً وقوميات. ومن دون ذلك، تتزايد جولات العملية التفاوضية من دون قطاف سوري لثمارها.
بقاء الأسد أو رحيله ليس بالاتفاق بين المنصّات، لأن هذا الأمر، وفقا لموازين القوى والمعطيات الراهنة، هو بيد القوى الدولية والإقليمية الفاعلة، خصوصا أن هذا الأمر لا يحل بمجرد تصريحات أو بيانات، ولكن بالعمل الذي مازالت خططه توضع لمصلحة أجنداتٍ غير سورية، وتغيب عنها المصلحة السورية الحقيقية للمعارضين والموالين بإنهاء الاستبداد، نظاما وشخوصاً.
ليس هناك ما يثير الاستغراب في تطابق آليات تفكير النظام الأسدي وطرق تصدّيه للمشكلات، وآليات تفكير قيادة جبهة النصرة وطرقها في التصدي لما يترتب، في الحالتين، على تفكير (وأفعال) استبداد سياسي في دمشق، مذهبي في إدلب، يلتقي عند أمر جوهري، يرى من السياسة السلطة وحدها: أداته لإعادة إنتاج مجتمع قطيعي، فقد بانعدام حريته إنسانيته، فهو مجزّأ ومتناحر وخاضع خضوعا مطلقا لفردٍ معصوم سياسيا في العلمانية الأسدية ذات الملامح والمضامين الدينية، ودينيا في المذهبية الجولانية ذات الإيحاءات السياسية. يفضح هذا الجوهر، بتظاهراته المتماثلة الصادرة عن تطابقه، حجم التزوير في تسميات النظامين، وكم هي الأسدية جولانية والجولانية أسدية، وكم تحفل علمانية الأولى بمضامين قاعدية، تتصل بعبادة فردٍ أبطلت عبادة الله، ودينية الثانية بتسييس فردٍ تجعل ستائره وحجبه من الأرباب الإلهية. لا عجب إن رأيت في الأسد جولاني نظامه، وفي الجولاني أسد نصرته، وأكدت أن أيا منهما ليس القائد الأول في تنظيمه، بل هو القائد الأوحد الذي لا يجوز أن يتردد في التخلص من أي تابعٍ يخال نفسه ثانيا فيه، فالقائد الأوحد لا ند ولا نظير ولا ثاني له، وإلا لكان، أولا، زعيما ذا مرتبة، بينما هو الزعامة في شخصٍ لا يوجد، ولا يجوز أن يوجد، بل ولا يمكن أن يوجد بين البشر، وفي شعب"ه" الخاص، من يحق أو يجوز له أن يماثله أو يدانيه.
في كل مرةٍ واجه النظام الأسدي مشكلة، عمل لتوسيع دوائر التضليل من حوله، لإخفاء حقيقته وإيهام السوريين أنه بدأ، أخيرا، يبدل بنيته وأساليب عمله، وشرع يمد يديه إليهم بالرغبة في التغيير. بما أنه كان يكذب في أقواله التهويلية حول التعاون مع الآخرين، وخصوصا المعارضين منهم، فإنه سرعان ما كان يضيف إلى أكاذيبه أكذوبة جديدة تشكو من عدم وجود من يتفاعل بإيجابية مع قراره بوضع نظامه في خدمة شعبه العزيز. لذلك يتحمل الآخرون المسؤولية كاملة عن فشل التغيير، وما قد يقع اليوم أو غدا من أخطاء سترجع حكما إلى لاعقلانية مطالبهم وخطابهم التهويشي اللذين يستهدفان إضعافه، في حين أن هدف التغيير لا يجوز أن يكون غير تقويته.
في كل مرة كانت سورية تواجه مشكلاتٍ أنتجتها الأسدية، كانت تتعالى دعوتها إلى تحميل الغير عبء مساعدتها على تجاوزها، وبعد تخطيها، كان القسم الأكبر ممن استجابوا لدعوتها حول التعاون يذهب إلى السجن، بينما ينضم قسم صغير منهم إلى فاسدين ولصوص ومجرمي الأسدية ويخونون شعبهم. بمرور الزمن وتعاقب الأزمات، صار من يخاطبهم الأسديون يقولون، حين يطلب تعاونهم: "اللي بيجرّب المجرّب بيكون عقله مخرّب".
.. واليوم، يحاول أسدي النصرة، أبو محمد الجولاني، تغطية مأزقٍ ليس لديه حل له، هو استحالة قيام نظام إسلامي في سورية بيده من جهة، وتزايد احتمالات تعرّضه للهلاك على يد تحالف أميركي/ روسي، يستهدف نصرته باعتبارها تنظيما قاعديا من جهة أخرى، هو في تصريحات جنرالات الطرفين الخطر الأشد على أمن العالم وسلامه. لذلك، لا مفر من القضاء عليه، إذا لم يوجد حل سياسي يضع حدا لوجوده. ماذا يفعل الجولاني لتفادي الكارثة؟ إنه يدعو إلى تشكيل مجالس مدنية تدير منطقة إدلب، تشبه "الجبهة الوطنية التقدمية" التي كان الأسد الأب قد "شكلها من تافهين لعبوا أدوارا خطيرة وغير تافهة"، كما كان أستاذ جيلي الراحل إلياس مرقص يقول. اليوم، يريد الجولاني تافهين يلعبون دورا خطيرا وغير تافه هو افتداء تنظيمه بأرواح الشعب، نسوا كم قتل منهم، واختطف من نسائهم وأطفالهم، وسجن من رموزهم، ودمر من تنظيمات جيشهم الحر، وسبب موت آلاف منهم. وكم تجبر وتكبر وأصدر أوامره الإلزامية إليهم من شرفات وحيه الرباني.
هل يسقط ضحايا جبهة النصرة في الفخ الذي تنصبه لهم، ويسمحون لها باستخدامهم، فيهلكون بدلا منها، بزعم أنهم "مجالس مدنية" تدير مناطقها، بينما تسيطر على قراراتهم بما تبثه في نفوسهم من رعب، وتمارسه ضدهم من ابتزاز يطاولهم هم وأسرهم وأصدقاءهم، وتوجهه إلى صدورهم من سلاح؟
"من يجرّب المجرّب يكون عقله مخرّب". لن تستحق المجالس اسمها، أو "تمون" على أي شيء. لذلك لا يجوز أن ينخرط فيها أحد، قبل إعلان الجولاني حل جبهة النصرة، بمختلف مسمياتها، ليس من أجل أن يلبي مطلبا أميركيا أو روسيا أو دوليا، بل استجابة لمطلب شعب سورية الذي لا يهدّد هو وجبهته أحدا سواه.
قد تتنفس شعوب المخيمات في المنطقة العربية آملةً بأن تكون مرحلة ما بعد تبخُّر «خلافة البغدادي»، بداية العدّ العكسي لانتزاع الخيم، بعدما انكفأ «داعش» وانتحاريوه... لكن الأكيد أن مسرح الحروب مع الإرهاب لم يسدل الستارة على الفصل الأخير من المذبحة.
شوط طويل ما زال على العراقيين استكماله، قبل عودة بلادهم إلى خريطة الدول العربية المؤثرة... شوط أطول على السوريين أن يتعايشوا معه تحت «وصاية» القيصر الروسي الذي عرف كيف تؤكل كتف الفراغ الأميركي، فشيّد قواعد عسكرية في سورية، ووسّع أخرى تمهيداً لإقامة طويلة، على ضفاف البحر المتوسط.
لم يعد القيصر فلاديمير بوتين مجرد ضيف عابر، رغم ذلك المشكلة أكثر تعقيداً من خداع الذات لأن «ليس بالإمكان أحسن مما كان». المشكلة أن بين حلفاء الروس وشركائهم مَن لا يزال يحلم بأن «الفراغ» يحتمل القسمة على «الإمبراطوريات الصاعدة». وأما المعضلة فربما يجسّدها غياب أي أفق يُمَكّن من تحديد عمر الانسحاب الأميركي.
الجميع ينتصر على «داعش»، لكن شعوب المخيمات ما زالت مهزومة... يتيمة في غياب القدرة على استعادة الإقليم من مشاريع «الإمبراطوريات» التي تبدو متخاصمة متنافسة، ومتقاتلة أحياناً، لكنها في المحطة الأخيرة متواطئة على رقابنا.
حين يحاربون الإرهاب، نحن «إرهابيون». حين يرفضون الإسلاموفوبيا، نحن في قفص الاتهام لأننا «لا نفعل ما يكفي» لوقف حملات الطعن والدهس في شرق أوروبا وغربها، وفي روسيا وأميركا.
هُزِمت «خلافة البغدادي»، لكننا لم ننتصر. بعد فلسطين، أكثر من فلسطين تجسّد نكبتها مآسي السوريين، شعوب المخيمات باتت من معالم المنطقة. العراق ما زال على خط النار، عدم التصدّي لاستفتاء الأكراد على الانفصال أزمة كبرى لبغداد، وصدّه يطلق شرارة حرب.
وحدهما القيصر بوتين والمرشد علي خامنئي يمكنهما ادعاء «نصر» لروسيا الكبرى وإيران «الإمبراطورية»، على رغم تباينات ليس أقلها عدم هضم معدة الكرملين كل أدوار الميليشيات الإيرانية في سورية. وإذ يبدو بوتين مفوّضاً بورقة أميركية لإدارة الصراع في سورية وعليها، لا يكتسب تحرُّك طهران شرعية دولية، رغم كل الضجيج حول «محاربة الإرهابيين والتكفيريين»، وحماية المقامات الدينية. وليست مجرد استنتاج حقيقة أن التدخّل الإيراني ألحقَ أفدح الأضرار بالثورة السورية، قبل أن يدفن تواطؤ «الكبار» أي أمل للمعارضة بإسقاط النظام.
قتلُ الأبرياء إرهاب، ماذا عن اغتيال وحدة دول ومجتمعات وطوائف ومذاهب؟... ومصادرة سيادات وحدود وخرائط بذريعة مطاردة الإرهابيين وقتالهم حيث هم؟
تاريخ شعوب المخيمات مع الثورة الإيرانية، لا يراكم سوى الخيبات والالتباسات، والعداوات، رغم كل ما يوحي به حلفاء المرشد وراء الحدود. وإذا كان بعضهم لا ينتظر جواباً عن السؤال «متى ينفجر الصراع بين النجف وقم»، لأن العراق استثناء، ماذا عن الدور الإيراني في البحرين، ولبنان وغزة؟ أي دور لطهران هناك لم ينجب حروباً واضطرابات؟
ليس نبأً سعيداً لأهل غزة المنكوبين بالجوع والحصار، تمتين «حماس» علاقتها مع إيران التي تزوّدها سلاحاً ومالاً. ليس خبراً عابراً تشاؤم الأميركي بـ «غيوم ملبّدة بالحرب» في جنوب لبنان. المرشحون ضحايا لأي حرب يرصّ بها اليمين الإسرائيلي صفوفه، هم مرة أخرى من شعوب المخيمات، أو المقاومات التي تحرّضها جمهورية المرشد، ويستدرجها الليكود إلى مقصلة مجانية... ودائماً بدماء عربية.
الأكيد في سجل علاقات الجوار بين إيران والمنطقة العربية، أن «إمبراطورية الحرس الثوري» التي راهنت على تفتيت اليمن إذا تعذّر ابتلاعه بفم حوثي، استقوت بأزمة قطر لعلها تشرذم وحدة مجلس التعاون الخليجي. وإن سألتَ في الخليج عمّا يحول دون صفحة جديدة مع طهران، يسألونك كيف يستقيم حوار مع مَنْ لا يرون تصحيحاً لاختلالات العالم إلا بأوامر من المرشد؟!
الإمارات آخر حلقة استهدفتها «لغة الجار» الإيراني، فيما تتراكم مؤشرات إلى مزيد من التصعيد تُقدِم عليه طهران مع إدارة ترامب في الملف «النووي»، لكنها تحضّر لمواجهة في مسرح آخر.
مريبة حكاية الصفقة التي سمحت لمئات من عناصر «داعش» وعائلاتهم بمغادرة الحدود اللبنانية – السورية في حافلات مكيّفة، متوجهين الى مناطق التنظيم على الحدود السورية – العراقية. مربكة هي ردود الفعل العراقية التي تراوحت بين انتقاد لاذع للصفقة على لسان رئيس الوزراء حيدر العبادي باعتبارها «إهانة للشعب العراقي» وبين ترحيب حار من جهة سلفه الموالي لإيران، نوري المالكي، الذي عارض مَن قال إن الاتفاق الذي أبرمه «حزب الله» والحكومة السورية مع «داعش» أتى على حساب الأمن القومي العراقي. لافت هو شبه الصمت الروسي التام على الحكاية المريبة لحليفيه في الميدان العسكري في سورية، علماً أن الكرملين يرفض أية مفاوضات مع الإرهابيين وأية صفقة تؤدي الى نجاتهم من السحق الذي يُجمع على تحقيقه الكرملين والبيت الأبيض معاً. التحالف الدولي في سورية بقيادته الأميركية اعترض القافلة بالقصف وكأن الأدوار تم تنسيقها مسبقاً، فيما كانت الرسائل من واشنطن الى لبنان مفخخة بالتناقضات. فبعضها انطوى على استياء مما اعتبرته واشنطن رضوخ الدولة اللبنانية للاتفاق بين «حزب الله» والنظام في دمشق على صفقة إخراج مسلحي «داعش» من الأراضي اللبنانية بحمايتهما. وبعضها الآخر كان رسالة تهنئة للجيش اللبناني على قيامه بتحرير أراضيه من «داعش». الأقطاب السياسيون في لبنان دخلوا، كعادتهم، في سجال وخلافات جزء منها لا علاقة له بما حدث في معركة تحرير الجرود في رأس بعلبك والقاع من الفصائل الإرهابية قبل أن تقتنص صفقة «حزب الله» و «داعش» تأهب الجيش اللبناني لقطف التحرير كي يستعيد هيبته السيادية. مريبة حكاية الصفقة. إنما الأكثر إثارة للفضول هي أدوار الرعاة الكبار لها وتداعيات الرعايات. الأكثر غموضاً في القصة لا يقتصر على ما هي أهداف ذلك الكوكتيل الاستخباراتي العالمي الرهيب وراء «الشركة المساهمة» التي أنشأت «داعش»، وإنما ماذا في حوزة الذين يسوّقون لأولوية الصفقة على حساب المحاسبة، وأولئك الذين يسوّقون لأولوية السحق على ظهر الوعود السياسية والتعهدات بعدم الإفلات من العقاب لجميع المعنيين بمجزرة الشعوب والمدن العربية.
لبنانياً أولاً، إن أي مسؤول كان على علم سابق بأن «داعش» قام بقتل العسكريين اللبنانيين المخطوفين وتعمد تضليل أهلهم إنما هو منافق ارتكب جريمة أخلاقية. مراعاة المشاعر شيء، والتضليل عمداً شيء آخر. التضليل لغايات سياسية هو إهانة وطنية. أما وفاة عسكريين في الخدمة، فهذه من سُنَّة العمل العسكري والانتماء الى مؤسسة الجيش.
إلقاء اللوم على «حزب الله» لإبرامه صفقة مع «داعش» شيمتها الازدواجية القاطعة في محله، بلا جدال. أما القول إن «حزب الله» وحليفه النظام السوري أبرما هذه الصفقة السابقة من نوعها من دون علم الحكومة اللبنانية، فإن في ذلك استغباء.
صحيح أن صفقة «حزب الله» طوّقت الجيش اللبناني الذي كان متأهباً لاستعادة السيادة على الحدود اللبنانية – السورية، لو استطاع استكمال العملية العسكرية ضد «داعش» في الجرود اللبنانية. وصحيح أيضاً أن «حزب الله» تعمَّد حجب ذلك الإنجاز عن الجيش اللبناني لأنه يريد له أن يبدو ضعيفاً غير قادر على بسط سلطته وعاجزاً عن إتمام مهمة التحرير. فهذه مهمة يريد «حزب الله» أن تكون حقوقها محفوظة له حصراً، وإلّا يخسر كثيراً وتضعف أسهم استثماره في الانطباع بأنه وحده سيد التحرير في لبنان.
صحيح أن «حزب الله» حجب عن الجيش اللبناني فرصة إتمام انتصاره بتحرير الجرود من «داعش»، إنما هذا لا ينفي أن صفقة «حزب الله» مع «داعش» وفّرت على الجيش اللبناني معركة عسكرية لعلها كانت أسقطت العديد من الضحايا في صفوفه. فالذي حدث ليس معيباً للجيش اللبناني. ما حدث هو عقد صفقة بين تنظيمين عسكريين قاتلا بعضهما بعضاً في سورية. صفقة استسلام «داعش»، شرط حصوله على طريق آمن خارج الأراضي اللبنانية عبر الأراضي السورية الى مواقع تنظيمه على الحدود مع العراق، هي صفقة بين طرفي حرب الميليشيات في سورية برعاية حكومية سورية وإيرانية، وليست برعاية الحكومة اللبنانية. الحكومة اللبنانية لعبت دور المسهِّل لصفقة أخرجت الإرهابيين من أراضيها. بعضهم ينتقدها، على أساس أنه كان عليها محاكمة أولئك الإرهابيين الذين خطفوا وقتلوا أفراد الجيش اللبناني بدلاً من تسهيل تهريبهم وترحيلهم. وبعضهم الآخر وافق على دورها الذي أدى الى تحرير لبنان من «داعش»، في نهاية المطاف، حتى وإن كان عبر المفاوضات والصفقات وليس المعارك.
لا داعي لمزايدات «حزب الله» في بازار الانتصار، ولا لزوم لانتقادات أوتوماتيكية لما أفرزته صفقة «حزب الله» و «داعش» الثنائية والتي لم تكن الحكومة اللبنانية طرفاً فيها – فهي كانت صفقة الميليشيات. ما لم ينجزه «حزب الله» هو رغبته في جر الحكومة اللبنانية مُرغمة الى الاتصال الرسمي المباشر والعلني مع الحكومة السورية – راعية صفقة الميليشيات. ما أنجزه هو تأمين خروج الإرهابيين من الأراضي اللبنانية الى الأراضي السورية في ترتيبات مريبة لها رائحة التفاهمات بين «داعش» والنظام في دمشق وحكومة نوري المالكي الموالية لطهران والتي ظهر «داعش» في عهدها وتمكن بين ليلة وضحاها من إلحاق الهزيمة بالجيش العراقي واحتجاز معداته والسطو على البنوك في الموصل.
لعل استخدام «داعش» لسحق المعارضة السورية المسلحة المعتدلة كان دائماً جزءاً من المهام الموكلة الى ذلك التنظيم المريب. فلا يخفى أن عناصر «داعش» تم إخراجهم من السجون العراقية ومن السجون السورية لتنفيذ مهمة القضاء على المعارضة السورية ولتحويل القصة السورية الى محاربة الإرهاب.
إنما هناك بعدٌ آخر لافت حقاً. إنه بعد التناوب بين «داعش» و «الحرس الثوري» الإيراني و «الحشد الشعبي العراقي» و «حزب الله» اللبناني على الجغرافيا ذاتها في العراق وفي سورية. هذه الجغرافيا هي ذلك القوس المسمى «الهلال الفارسي».
«داعش» أتى بمهمة إحباط مشروع «الهلال الفارسي» في الجغرافيا التي تربط العراق وسورية، انطلاقاً من إيران وانتهاءً بلبنان. «الحرس الثوري» كلف نفسه أن يكون الشريك الأساسي لواشنطن وموسكو في القضاء على «داعش» الذي التصق اسمه وفعله بالإرهاب الفظيع. «داعش» احتل جغرافيا «الهلال» للسنوات القليلة الماضية، والآن، لدى إيران و «حشودها» وميليشياتها كل المبررات الميدانية والسياسية لامتلاك الجغرافيا التي يتم تحريرها من «داعش»، بلا اعتراض. إنها بدعة لا مثيل لها. بدعة مرعبة وراءها حنكة حياكة الصبر والاستراتيجية البعيدة المدى التي تميّز صنّاع السجاد العجمي في إيران.
تنظيم «داعش» سيضمحل شيئاً فشيئاً بعدما أتم مهمة تدمير المدن العربية العريقة، وقضى على المعارضة المعتدلة، وأجج الحروب المذهبية، ونهب الخزائن، واستخدم الأطفال أداة حروب قذرة بقدر قذارة عقلية وأيديولوجية هذا التنظيم المدمِّر. قد تكون هناك حاجة الى استمرار بعض عناصره بالعمل في البقعة العربية، بالذات في منطقة الخليج التي تريد تلك «الشركة المساهمة» تفكيكها لإضعافها. وقد يكون في ذهن البعض استخدام بقايا التنظيم في أوروبا، كي يؤدي الهلع الى انضوائها وتقوقعها بصورة تشبه الانعزالية الأميركية.
حتى الآن، إن اضمحلال تنظيم «داعش» يقع في المصلحة المباشرة لإيران وميليشياتها، تماماً كما أتى ظهور «داعش» في العراق وسورية ليخدم إنشاء علاقة نوعية بين «الحرس الثوري» وبين واشنطن وموسكو تحت عنوان: القضاء على الإرهاب. وما يجدر بالأطراف العربية القيام به بعد الآن، هو إجراء مراجعة صادقة وعميقة وشاملة لظاهرة «داعش» وكلفتها العربية وكذلك لنتائجها في الجغرافيا العربية. فلقد أتى «داعش» ليشكل تهديداً وجودياً للدول الخليجية كما للمشرق العربي وللمغرب العربي. إنه يضمحل ولا يزول بعد، وخطره ما زال وجودياً.
تعامل العالم، بشرقه وغربه، مع النظام السوري بصفته ضرورة من ضرورات التوازنين الإقليمي والدولي، كما أن نظام دمشق بقيادة حافظ ثم بشار الأسد لم يتجاوز إلا ما هو متاح ومسموح في اللعبة الدولية الخبيثة.
التزمت دمشق بدقة بمسألة إسكات جبهة الجولان منذ 1974 وباحترام الخطوط الحمر مع إسرائيل في لبنان. أطاحت العرفاتية حين كان أمر ذلك متاحاً ولم تجد حرجاً في وضع قوات سورية تحت العلم الأميركي في حرب تحرير الكويت. وحين كانت حيوية النظام السوري تلتحق بديناميات ثورة الخميني، كان عقل النظام يعمل وفق مقاربة لا تعاند الرياح التي تنفخها واشنطن. فنظام دمشق قام على ضرورات وظيفية عمل على صونها والترويج لقدريتها. وحين تقوم ثورة قي سورية لاقتلاع النظام، فذلك يعني أن ركناً أساسياً له تاريخ عريق في المنظومة الدولية مهدد بالزوال. وهذا يعني أيضاً أن احتمالاً من هذا النوع لن يمر إلا إذا أجمعت تلك المنظومة على جواز ذلك، أو فرضت موازين القوى العالمية هذا الخيار. مر أمر ذلك في مصر وتونس وليبيا ولم يمر في سورية.
لا يستطيع ثوار سورية أن ينجحوا في إزالة نظام الأسد من دون تأييد حقيقي ودعم ناجع من دول القرار الكبرى. لم ينجح انقلاب 63 من دون هذه القاعدة ولم يرتكب حافظ الأسد «تصحيحيته» من دون إدراك ذلك. بدا حراك السوريين في أشهره الأولى عام 2011، شرعياً عادلاً محقاً يتّسق مع قيم الحداثة بنسختها الغربية على الأقل. لم تكن العواصم الغربية بكينونتها السياسية والثقافية والحقوقية لتتجاهل «ربيعاً» سورياً لا يختلف في شعاراته عن تلك التي شاعت في أوروبا الشرقية فأسقطت نظاماً عالميا برمته. كان لا بد لتلك الثورة أن تصبح مأساة سورية وكابوساً على العالم أجمع. خرجت القيادات الأولى لثورة السوريين من أجندتها الأصلية لتلتحق بأجندات دينية تتجاوز بساطة أمر الاستبداد وإقامة نظام حر متعدد ديموقراطي. نجح نظام دمشق في دفع السلميين إلى التسليم بخيارات العنف وفي دفع العلمانيين إلى القبول بالأسلمة وسيلة لتحقيق الهدف الأسمى. برع النظام في نفخ غول التطرف الديني في متن معارضيه. أطلق من سجونه من باتوا لاحقاً قيادات مؤسسة لتنظيمي «داعش» و «القاعدة» في سورية، فيما وجد الجهاديون المحررون أو المستوردون في أجندات العواصم الإقليمية المناصرة للثورة مساحات مفتوحة بلا تردد أو ارتباك. يعرف نظام دمشق المنظومة الدولية جيداً. تعرف طهران الداعمة له فلسفة العقل في العواصم الكبرى. خبرت العاصمتان الرقص مع الشيطان وملاعبة الثعابين. لم تعرف المعارضة السورية ذلك وأمعنت في ممارسة سذاجة سياسية سلبت منها أي حنكة في مواجهة الخصوم وفي «مواجهة» الحلفاء. فكان أن وجد العالم المشهد السوري وفق السيناريو والإخراج الذي رعته روسيا لاحقاً ليقود الغرب قبل الشرق إلى التسليم بما اكتشفه رئيس فرنسا الجديد من أن لا بديل عن الأسد لحكم دمشق.
دعمت العواصم الغربية في الثمانينات جماعات الجهاد الإسلامية من أجل إلحاق هزيمة بالاتحاد السوفياتي في أفغانستان، لكنها لن تدعم جماعات الجهاد، سواء صنفوا معتدلين أو إرهابيين، لإقامة حكم طالباني جديد في سورية. يعيش الغرب منذ ما قبل «غزوة» 11 سبتمبر هاجس هذا الإسلام الذي استشرف فيه هانتنغتون الشهير صداماً للحضارات. ولن يقوى أي نظام غربي أن يعبد الطريق لهذا الإسلام لإطاحة مستبد ليقيم دولة الخلافة سواء تلك التي يبشر بها «داعش» أو تلك التي تفوح بها أدبيات الإسلاميين المعتدلين.
لم يكن خطاب الدولة المدنية الحديثة طاغياً في خطاب الهيئات والمؤسسات التي تعاقبت على تمثيل المعارضة السورية. ولم يكن المانحون الإقليميون مهتمين لخطاب طوباوي يتحرى دولة أفلاطون. فُرض على المبشرين بالدولة المدنية التحالف ثم التواطؤ مع الإسلاميين، فحين قرر العالم وضع النصرة على لائحة الإرهاب، خرج من تلك المعارضة العلمانية المدنية من دان ذلك، وقال إنهم ثوار سوريون.
فشلت المعارضة في إنتاج خطاب جلي حازم حاسم في قضايا الهوية والوحدة والعلاقة مع الأقليات، الطائفية خصوصاً والعرقية أيضاً. لم يسمع الغربيون نغماً يفهمه ويستطيع فك رموزه، فيما استطاع الإنصات ملياً وباهتمام إلى إسلاموية يفوح منها إرهاب معلن عابر للحدود، حملته موجات اللجوء الصادم إلى قلب أوروبا. لن يكون السوريون مسؤولين عن ترتيبات تُعد لبلدهم لا يبدو أنها ستزيل نظاماً أو حتى تصلح من متنه. تتحمل الأجندات الدولية والإقليمية المتعارضة مسؤولية المآلات التي تعيد إلى نظام دمشق وظيفته المطلوبة لضبط التوازنات الدولية. وبما أن الأسلمة بنسختها السنّية أهملت أبجديات العلاقات الدولية، قيّض للأسلمة بنسختها الشيعية أن تحاكي هواجس تخطّها أجهزة المخابرات الدولية الكبرى.
تقاطعت مصالح الإسلاموية بالطبعة الإيرانية مع مصالح العداء المطلق للإسلاموية كما تجسدها روسيا بقيادة فلاديمير بوتين. لا يمكن إلا الاعتراف بأن التحالف الدولي ضد «داعش» بقيادة واشنطن يرابط في خندق واحد مع موسكو وطهران وحتى «حزب الله» ضد تنظيم البغدادي وبقية الجماعات المجمع على تصنيفها إرهابية. لم تلتقط المعارضة السورية قواعد الثابت والمتحوّل، وهو أمر ينسحب على مزاج إقليمي رديف تصوّر أنه من خلال أمراء الجهاد باستطاعته إزاحة ذلك الأمير في دمشق.
... وأسدل الستار أخيراً على وجود تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) في جرود رأس بعلبك والقاع في السلسلة الشرقية للجبال التي تفصل حدود لبنان عن سورية في شرق البقاع، ولكن بصفقةٍ وليس بحسم عسكري، كما كان كثيرون يعدون. وقضت الصفقة التي قادها حزب الله من الجهة اللبنانية مع "داعش" بالسماح لمسلّحي "داعش" بالخروج من المربع الأخير الذي حوصروا فيه في الجرود، بعد معركة فجر الجرود التي شنّها الجيش اللبناني قبل نحو عشرة أيام من الجانب اللبناني، وحزب الله والنظام السوري من الجانب والسوري، عبر حافلاتٍ أمّنها الحزب للمسلحين، حيث خرجوا بأسلحتهم الفردية إلى البوكمال في شرق سورية، في مقابل تسليم حزب الله جثامين بعض مقاتليه كانت في حوزة التنظيم، إضافة إلى أسير من حزب الله لدى التنظيم، فضلاً عن الإفصاح عن مكان جثامين جنود الجيش اللبناني الذين اختطفهم التنظيم في العام 2014 من بلدة عرسال البقاعية، وتمّت تصفيتهم في فبراير/ شباط 2015 كما كشف قبل أيام المدير العام للأمن العام اللبناني، اللواء عباس إبراهيم، وفقاً لمعلومات كانت توفرت للجهاز.
أثار كشف مصير العسكريين الذين كانوا مختطفين لدى تنظيم الدولة الإسلامية و"استشهادهم" عاصفة من الغضب الكبير في البلد تجاه التنظيم أولاً، وتجاه الصفقة التي تمّ بموجبها ترك مسلحي التنظيم يرحلون عن الأراضي اللبنانية من دون محاكمة أو محاسبة بعد قتلهم الجنود اللبنانيين، خصوصا أن الجيش تمكّن، خلال الأيام الأخيرة، من محاصرتهم بعد معركة فجر الجرود في بقعة ضيقة لا تتجاووز 20 كيلومتراً مربعاً. وبالتالي، اعتبر مسؤولون كثيرون والشارع اللبناني أن الجيش وأهالي العسكريين الشهداء طعنوا في الظهر جرّاء هذه الصفقة التي جرت، والنتائج التي تمخّضت عنها.
في المقابل، أكد الأمين العام لحزب الله، حسن نصرالله، في كلمة متلفزة له، أن التفاوض (الصفقة) مع "داعش" كان من أبزر وأهم ما قدّمه معرفة مكان دفن العسكريين الذين كانوا في "أسر داعش"، كما أكد أنه لولا التفاوض لما تمت معرفة المكان، لأن مصيرهم كان معروفاً لدى الدولة منذ وقت سابق.
أثارت الصفقة، إضافة إلى الغضب، من بعض السياسيين ومعظم الشارع اللبناني، ضجة كبيرة وجدلاً جديداً بشأن مسؤولية القرار السيادي في لبنان، فقد انتقدت أطراف سياسية كثيرة خطوة حزب الله في التفاوض مع "داعش"، وكانوا قد انتقدوا مشاركة حزب الله في الحرب السورية، كما انتقدوا اتخاذ قرار بفتح جبهة جرود عرسال، من دون قرار من الدولة، وغيرها من ممارساتٍ اعتبروها مخلّة بالقانون والدستور، ومخلّة أيضاً بالتوازن الوطني ومصلحة البلد، ومهدّدة مسألة العيش المشترك في لبنان، فضلاً عن تقليص ثقة المواطن بالدولة والأجهزة الرسمية.
وفي مقابل ذلك، اعتبر محسوبون على حزب الله أن سكوت بعضهم على وجود "داعش" وجبهة النصرة في جرود لبنانية، وعدم تأمين غطاء سياسي للجيش في وقت سابق لخوض معركة تحرير الجرود وتحرير العسكريين الذين كانوا مخطوفين، فضلاً عن الاتهام المباشر وغير المباشر دليل على وقوف هؤلاء إلى جانب "الإرهابيين".
هنالك من يقول اليوم إنه ليس المهم هذا أو ذاك، المهم أن الجرود اللبنانية تحرّرت من "داعش"، وتم كشف مصير العسكريين المخطوفين. وبالتالي، يظل كل الباقي تفاصيل ليست مهمة كثيراً. ولكن كثيرين في لبنان يسألون: لماذا ينتهي وجود "داعش" في الجرود بصفقة، طالما أن وضعهم الميداني وصل إلى الحضيض في ظل ضغط الجيش، ولماذا يجري ذلك كله وكأن الدولة هي الغائب الأبرز؟
بدأ قبل أسابيع عد عكسي دولي، لحل موضوع جبهة النصرة باعتبارها تنظيماً قاعدياً. هذا ما يمكن أن يلاحظه، ويتأكد منه، أي مراقب لما يعد لإدلب.
لن يكون زمن ما بعد جبهة النصرة كالزمن الذي كان قبلها. إنّ تراجعها، وربما تلاشيها، يجب أن يكون لحظة مفصلية في سياسة الشعب السوري وثورته، وهو الشعب الذي تسلطت هي و"داعش" عليه في وقت واحد، وأنزلت بهيمنتها على الساحة خسائر فادحة بالسوريين، منها، على الصعيد السياسي، ثورة الحرية بطابعها المجتمعي العام ونهجها السلمي، وطابعها السياسي القائل بالحرية والمواطنة المتساوية الذي أزاحه العنف المسلح والمعادي للسياسة وحملتها، وأحل محله مذهبية/ دينية، سوغت ما ارتكبه من جرائم على جميع الأصعدة، ضد مجتمع أسهمت في تمزيقه وتحريض مكوناته، بعضها ضد بعض، في سياق تبنّت خلاله نهج الأسدية الرافض للحرية وللاعتراف بوحدة الشعب السوري، والقائم على تسعير الحرب بين طوائف متنافية الأهداف لا تقبل العيش المشترك في دولة ديمقراطية، رفضها الأسد، واعتبرتها جبهة النصرة كافرة، يجب القضاء عليها وعلى القائلين بها.
طوى ظهور "النصرة" و"داعش" معادلة الثورة الأصلية التي جعلت النظام الديمقراطي بديل الأسدية، بدعم من وثيقة جنيف وقرار مجلس الأمن 2118، وما تضمناه من محدّدات أقرها الخمسة الكبار بالإجماع لحقوق الشعب السوري، وأرسى بدلاً منها معادلةً جعلت الإرهاب المذهبي بديل الديمقراطية، وأحدثت تبدلاً انقلابياً في موقف الدول من الثورة والحل السياسي، وأدخلت السوريين في مقتلةٍ دامت قرابة أربعة أعوام، ذهب ضحيتها مئات آلاف السوريات والسوريين. واليوم، وبعد اقتراب الحرب ضد "داعش" في محافظتي الرقة السورية ونينوى العراقية من نهايتها، وحل مشكلة جبهة النصرة في إدلب، تبدأ ثورتهما المضادة بالتلاشي والزوال، وتطرح نفسها من جديد مهمة صعبة، لكنها ممكنة التحقيق، هي استعادة رهانات ثورة الحرية وحراكها المجتمعي السلمي، وتحصينها ضد أخطاء النشأة وعيوبها التي لازمتها إلى اليوم، ومكّنت المتمذهبين الإرهابيين من كسب قطاعات مجتمعية واسعة أيدتها، وانفصلت عن الثورة، اكتسب معظمها خلال سيطرة "داعش"/ جبهة النصرة المريرة والمكلفة، الوعي بحتمية الانفكاك عنهما نهجاً، واستعادة رهانات الثورة الأولى، ونزل من جديد إلى الشارع لإدانتهما والتنصل من ممارساتهما، والتخلص من دورهما في تخريب ثورةٍ صار وجود سورية الدولة والشعب يتوقف اليوم على تجميع قواها وتوحيدها، وإعادتها إلى أهدافها التي قدّمت أعز التضحيات لتحقيقها طوال عام تمرّدها الأول.
يحتم ما سبق قوله الاستناد مجدّداً على الحراك السلمي/ المجتمعي الذي يجب تجميع جداوله وتحويلها نهراً جارفاً، تتجمع مكوناته في كل مكان من سورية، وتهتف لحرية الشعب السوري الواحد، وهي ترفع علم الثورة الأخضر وحده، من دون أي علم أسود أو مذهبي.
لا بد من مساندة هذا الجديد الحميد بكل ما هو ضروري على صعيدي الوعي والممارسة، كي يكون حصيناً، وتتقلص قدرة دجالي المذهبية على تضليله، ويقتنع العالم، في المقابل، بأن لدى السوريين رهاناً استعادوه، ولن يحيدوا بعد اليوم عنه، هو الحرية لشعبهم الواحد، غير القابل للقسمة أو التفتيت والتطييف، وأن مئات المجازر، وتدخل الخارج الإرهابي متنوع الجنسيات، لن يثنياهم عن طلب الحرية والتصدّي لمشكلاتهم وحلها، تعزيزاً لقيم العدالة والمساواة، وما يناضلون في سبيله من كرامة إنسانية.
بعد زوال جبهة النصرة وتنظيم داعش، من المحتم أن يُزال أي أثر لهما في فكر السوريين وممارساتهم، ويمحو تراثهم الإجرامي من ذاكرة الشعب الثائر، عبر اعتماد برامج عمل وطني فيها مكان مستحق لجميع مكونات الجماعة الوطنية السورية، تجريم الطائفية، العقبة الكأداء التي كبحت بقوة تماسك حراك الثورة وتماسك الشعب، وفكّت طوق العزلة عن الأسدية، وقلبت ثورة الشعب ضد النظام إلى حرب بين السوريين، بدعم أسدي/ داعشي/ نصراوي، وحالت دون افتضاح ما يكنه الأسد من عداء تجاه جميع فئات الشعب، بما فيها التي ضحى بأجيال منها في سبيل كرسي لا يستحقه، يعلم كل سوري أنه لم يصل إليه بجدارته أو خبرته، وأنه تعامل مع المسؤوليات التي ألقاها منصبه على عاتقه بخفة البلاهة.
ستتقدم قضية الحرية والثورة، بقدر ما تنفصل عن "النصرة" و"داعش"، وتتخلص من الضرر الذي ألحقتاه بالشعب، بواسطة تنظيميهما السفاحين، وما تدفق عليهما من أغراب تشير ممارستهم وأقوالهم التي اعتبرت أعداء الأسد أعداء لهما، وغلبت خلافاتهم التي يمكن حلها بالحوار والقبول المتبادل على تناقض الثورة العدائي مع النظام، وهو التناقض الذي لا يحلّ بغير السلاح، واعتبرت الخلافات تناقضاتٍ عدائية، أزالت طرفها الآخر بالسلاح، في حين حولت التناقض العدائي مع الأسد إلى خلافٍ جاهرت برفض حله قبل إبادة من يقاتلون نظامه من الثوار!. ستنتصر الثورة السورية بقدر ما تمنع ظهور إرهابيين في صفوفها، وتضفي طابعاً مدنياً على مؤسساتها، فيكون القانون للقانونيين، وتكون المحاكم للقضاة، والمواقع المدنية للمحامين والإداريين، والحرب والقيادة للمؤهلين وذوي الخبرة من ضباط الجيش المنشقين... إلخ.
نحن أمام نهاية مرحلة وبداية أخرى، مختلفة جذرياً عنها في منطلقاتها ووسائلها وأهدافها، فإما أن نتعامل معها بهذا المنطلق، ونخرجها من عوالق الفساد والتمذهب ومستحاثاتهما التي شوهتها، فتنتصر، أو أن نسمح لمن دمّروا سورية وشعبها وثورتها باستعادة دورهم الذي سبق لهم أن وضعوه في خدمة الأسدية، بينما أمعنوا في سفك دماء السوريين، ومحاربة حلمهم بالحرية، وبدولة ديمقراطية تكون لهم جميعهم. لقد أنقذ هؤلاء الأسد بالأمس، فهل نسمح لهم بإنقاذه من جديد، أم نقتلعهم من جذورهم فنرتاح ونريح؟.