تقترب التحوّلات الإقليمية لإعادة تشكيل المشرق العربي من منعطفات حاسمة، متزامنة مع بوصلة دولية ضائعة بفعل حال اللاصراع واللاتوافق بين الولايات المتحدة وروسيا، ما يجعل قراءة المشهد وتوجهّاته وخرائطه غاية في الصعوبة. ثمة نهايات بدأت ترتسم من دون أن تتضح، أوّلها نهاية السيطرة التي كان تنظيم «الدولة الإسلامية» (داعش) فرضها على أجزاء من العراق وسورية، والثانية نهاية جغرافيتَي هذين البلدَين ووحدة أراضيهما كما عُرفت قبل مئة عام، والثالثة نهاية المفهوم العربي السائد منذ منتصف القرن الماضي للقضية الفلسطينية ولحلّها العادل. لكن يبدو أن ثمة بدايةً واحدة تحتكرها القضية الكردية بكونها مرشحة للخروج من الصراعَين الداخليَين/ الإقليميَين، السوري والعراقي، بما يحقق أخيراً حلم الأكراد التاريخي بأن تكون لهم «دولة» بل أكثر من «دولة» في ظل المتغيّرات الطارئة دولياً.
منطقياً، سيتيح استفتاء كرد العراق على تقرير المصير لحكومة الإقليم ورقة تستطيع إخراجها من جعبتها في أي وقت لإعلان الاستقلال/ الانفصال. ومجرد إجراء الاستفتاء، على رغم المواقف الدولية المعترضة والمحذّرة، سيعني أن وحدة العراق شعباً وأرضاً ودولة لن تكون ممكنة وسط تصدّع العلاقة بين المحافظات السنّية وحكومة بغداد والمحافظات الأخرى الواقعة تحت الهيمنة الشيعية - الإيرانية. إهمال المصالحة الوطنية ودخول «داعش» على الخط أدّيا الى إثقال المصالحة بحمولات غير متوقعة، وساهم التعسكر الشيعي خارج إطار الدولة ووفقاً لثقافة الاستقواء الـ «حرس ثورية» في تهميش هذه الدولة، فما عادت قادرة على إقناع مكوّنات المجتمع بأنها الكيان القادر على جمعها في صيغة تعايشية.
لذلك مسّت الحاجة الآن، ولو متأخّرة، إلى استعادة البُعد العربي للعراق، فلا السعودية ولا سواها من العرب يمكن أن يكون لديهم مشروع لإضعاف الدولة والجيش لمصلحة ميليشيا أو ميليشيات خاصة بها. لكن مجرد الانفتاح على العرب لا يحقّق توازناً وشيكاً مع إيران، بل ربما تكون إيران نفسها في حاجة إلى العرب في العراق بعدما ضلعت في استدراج الدمار لكبرى المدن والبلدات. من المهم الآن أن يستعيد الشيعة العرب كلمتهم ومكانتهم في العراق، والأهم أن يكون هناك وعي عراقي شامل بضرورة تصحيح أخطاء الحقبة الإيرانية التي لا تزال قائمة، ومن أخطر نتائجها فشل الدولة واستعصاء المصالحة، وأخيراً حسم الأكراد قرارهم بالانفصال. فإذا كان للمشروع الإيراني أن يبقى على حاله، وأن يستمرّ التعايش الأميركي معه، فإنه لا يرمي إلى أقل من إخضاع الشيعة والسنّة والأكراد معاً، مع فارق أن الأكراد باتوا يملكون إمكان رفض هذا المصير بفضل الرعاية الدولية لقضيتهم.
لا شك في أن النموذجين الكرديين العراقي والسوري يوفران مثالاً لأكراد تركيا وإيران، ولم يكن في السياسات الأميركية والروسية والأوروبية ما ينفي ذلك أو يستبعده إذ إنها تشجّع نشوء الأمر الواقع وتتظاهر بعدم الاعتراف به فيما هي تغذّيه وتدعم تكريسه. أما المواقف الحالية التي ترفض الاستفتاء في إقليم كردستان أو تدعو إلى تأجيله فهي إما هاجسة فقط بالحرب على «داعش» والخشية من الانعكاسات السلبية على نهاياتها، وإما تمويهية لأن «التوقيت الخاطئ» الذي دُمغ به موعد الاستفتاء قد يكون أربك الدول الكبرى المعنية بتعديل خرائط المنطقة بكشفه استحقاقات مقبلة لم يحن وقتها بعد. فـ «الدولة الكردية» وُضعت على جدول الأعمال منذ إسقاط نظام صدّام حسين وحلّ الجيش ومؤسسات الدولة، كذلك منذ طرح مشروع «الشرق الأوسط الجديد» واعتماد نهج «الفوضى الخلّاقة» أميركياً. وعليه فإن إقامة هذه «الدولة»، واستخلاصها من ركام الدولتَين العراقية والسورية، لا يعني أقلّ من أن جغرافية تركيا وإيران ستكون عاجلاً أو آجلاً تحت المجهر، فمناطق وجود الأكراد، المتّصلة أو شبه المتّصلة، باتت مناطق «اختراق» خارجي.
كانت معاهدات ما بعد الحرب العالمية الأولى لحظت وضع المناطق الكردية، الموزّعة بين الدول الأربع، تحت الوصاية الدولية ريثما يُنظر في ترتيبات جعلها دولة. وكما برزت آنذاك صعوبات رسم حدود هذه الدولة واعتماد مرجعية سياسية لها فإن الصعوبات ذاتها ترجّح الآن احتمال ظهور أكثر من دولة بسبب التنافر بين الأطراف الكردية نفسها. معلوم أن تركيا جمال أتاتورك كانت أطاحت بالقوة مشروع الوصاية الدولية وفرضت تعديل المعاهدات، كما أن إيران رفضته، فيما رجّحت بريطانيا آنذاك تثبيت مناطق الأكراد في إطار الدولتَين الناشئتَين في العراق وسورية لقاء منحها حكماً ذاتياً. في ما بعد تكرّس الاختلاف في طبيعة الدولتَين العراقية والسورية عنها في تركيا وإيران، لذلك يُنظر بترقّب إلى ردود فعلهما على الاستحقاق الكردي الداهم. إذ أثارت زيارة رئيس الأركان الإيراني محمد باقري أنقرة وتصريحات رجب طيب أردوغان احتمال وقوع حرب هدفها إجهاض المشروع الكردي، فإشارة الرئيس التركي إلى «عملية مشتركة» تعني أن الدولتَين لن تعتمدا فقط على «حرب بالوكالة». لا أحد يتصوّر واقعياً حرباً كهذه إلا إذا تخلّت الولايات المتحدة عن دعمها الأكراد وأقلعت روسيا عن اللعب، أو إذا انضمّت تركيا إلى إستراتيجية المواجهة المفتوحة التي تمارسها إيران ضد الولايات المتحدة.
لم تبدُ التغييرات متاحة أو ممكنة في العراق وسورية إلا بسبب الحروب التي مزّقتهما وكان لإيران فيهما دورٌ تخريبي مؤجّج، كما كانت لتركيا أدوار ملتبسة، لكن مساهمتهما لم تعفهما من نتائج باتت مقلقة تحديداً بسبب المسألة الكردية. وبديهيّ أنهما لا تريدان انتظار اشتعال النار في داخلهما على نحو يصعب احتواؤه، لذا فهما ستسعيان بأي طريقة إلى إخمادها في مهدها الخارجي. لكن أنقرة لا تشعر بارتياح إلى موقف حليفها الأميركي المزمن حتى أنها لم تتمكّن من انتزاع مجرّد ضمان أو تعهّد منه، ولا طهران مطمئنة إلى نيات حليفها الروسي الراهن. والواقع أن ما ظهر من الإستراتيجيتين الأميركية والروسية في سورية أكد على الدوام حرصاً على دور الأكراد وحماية لهم واعتماداً عليهم، وقد يُفسَّر ذلك بأن الأميركيين وجدوا عند الأكراد استعداداً قتالياً مناسباً لمحاربة «داعش» ما لم يتوافر لهم لدى فصائل المعارضة السورية، أما التقارب الروسي مع الأكراد فيمكن فهمه بحرص موسكو على حيازة ورقة يمكن استخدامها في سياق الترتيبات السياسية والأمنية المقبلة للمنطقة.
في فترات سابقة كان هناك توافق بين الدول الأربع (تركيا والعراق وإيران وسورية) على رفض مطلقٍ لإقامة أي دولة أو كيانٍ للأكراد، أما الآن فأصبحت هذه الدول في مواجهة واقعية وتماسٍ مباشر مع ما كانت تستبعده. لكن اللافت حالياً أن النظام السوري هو أقل الأصوات المسموعة في إبداء ذلك الرفض وقد يكون السكوت تعبيراً عن قبول ما يُطرح في الشأن الكردي أو لأن الضرورات الميدانية توجب عدم استعداء الفرع السوري لـ «حزب العمال الكردستاني» (بي كي كي) واستمرار التعاون معه. ذاك أن نظام بشار الأسد الذي يتهيأ لولايته التالية، الجديدة، لا يعارض التحوّلات الإقليمية الجارية طالما أنها تقبله بسجله الإجرامي بل تقبله خصوصاً لكونه غير معني بسورية ومصيرها، إلا أنه مع ذلك يطمح إلى أن يكون نقطة تقاطع روسية - أميركية، بعدما استطاع أن يجتاز أزمته كنقطة تقاطع أميركية - إسرائيلية - روسية - إيرانية. هل يفترق الأسد عن إيران (المتقاربة مع تركيا) في هذا المنعطف ما دام أكراده يلعبون اللعبة الدولية مثله ليفوزوا بحلمهم كما يوشك هو أن يفوز ببقائه؟ هناك من يعتقد أن الأسد يخادع وقد ينقلب في اللحظة المناسبة ضد الأكراد ومشروعهم لكن روسيا وليس هو مَن يحدّد دوره. الاحتمال الآخر أن يُوظَّف الأسد ونظامه وأكراده للانخراط في اختراق تركيا من خاصرتها الكردية.
باتت كل الأخبار تتمركز حول بقاء الأسد الذي ظهر أنه انتصر، على الرغم من أنه أعلن انتصاره وإن أقرّ بأن الصراع لم ينته. لهذا ظهر أن هناك حركة واسعة من أجل الحج إلى دمشق، وإلى الإعلان عن قبول بقائه في السلطة. عربياً، تنفتح الخطوط مع النظام، ليس من أحزاب باتت تنشط من أجل الضغط على نظمها لإعادة العلاقات، بل إن نظماً باتت تعلن ذلك. يسعى الأردن إلى فتح الحدود، حيث يظهر شَرَهاً في تصدير السلع إلى سورية، والسعودية تمهّد لإقرار قبول النظام. باختصار، هناك نشاط محموم من أجل تتويج بشار الأسد منتصراً.
في مستوى آخر، باتت دول "أصدقاء الشعب السوري" الأوروبية تعلن موقفاً مختلفاً، حيث "لم تعد تتمسّك برحيل بشار الأسد"، وأنه يمكن أن يشارك في المرحلة الانتقالية، وحتى يمكنه الترشح للانتخابات، كما أوضح وزير خارجية بريطانيا. وموقف فرنسا شبيه بذلك، حيث أن بشار الأسد هو عدو الشعب السوري، وليس عدو فرنسا، وبالتالي لم تعد تتمسّك برحيله. وأميركا تتوافق مع روسيا (في سورية تحديداً بعد الخلاف المتصاعد)، وتقبل منظور روسيا للحل "السياسي". ولم تعد تركيا تبتعد كثيراً عن هذا الجو. بالتالي، بات واضحاً أن كل هذه الدول، العربية والغربية، قد أسقطت "شروطها"، وسلمت الأمر لروسيا.
بالتالي، يمكن القول إن الكل تخلى عن المعارضة السورية التي بنت إستراتيجيتها على دور "الغرب"، ودول الخليج، وتركيا. من هذا المنظور، يجب فهم ما جرى في الرياض من حوار بين "منصات المعارضة"، وتمسّك منصة موسكو بعدم ذكر مصير بشار الأسد. لقد بدا أن الخلاف في حوار المنصات يتمحور حول هذا الأمر، وظهر أن منصة موسكو وحدها ترفض تناوله، وتراهن على تغيرات دولية تفرض نجاح رؤيتها التي أوضحها قدري جميل، بعد انتهاء الحوار من دون نتيجة، بأنهم ليسوا مع رحيل الأسد وليسوا مع بقائه، بل إنهم مع خيار ثالث، يتمثل في تحديد الأمر في المفاوضات مع النظام. تكتيك "بارع" يطرحه قدري جميل، وهو يصرّ على أنه لمس موقفاً سعودياً إيجابياً، ينمّ عن تغيّر حدث أخيراً.
يشير ذلك كله إلى مأزق تعيشه المعارضة التي لم تستطع أن تبني إستراتيجيةً صحيحة منذ البدء، وخضعت لما كان يهمس به "الحلفاء"، أولاً أميركا في جنيف 2، ثم تركيا والسعودية وقطر. حيث كانت تغوص إلى قاع غائر. ستظهر نتائجه في الفترة المقبلة، حين تصبح منصة موسكو قائدة الحوار مع النظام، ويتهمّش الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة السورية، وربما كذلك هيئة التنسيق.
كان الخطأ القاتل منذ البدء هو قبول الحوار مع وفد النظام (وفد بشار الأسد) وليس وفداً من النظام يقبل "جنيف1"، وبالتالي يقبل بتشكيل هيئة حكم انتقالي تبدأ بإبعاد الأسد. فوفد الأسد لن يقبل برحيل الأسد. ولهذا ظلّ يناور، ويُفشل المفاوضات، ما جعلها بلا معنى. وإلى الآن، تريد الهيئة العليا للتفاوض التفاوض مع وفد النظام، من دون أن تفهم أن الأمر عبثي، وهو من أشكال تضييع الوقت الذي يستغله الروس لترتيب الأمر "على الأرض". وبات الوضع الآن مرتباً على الصعيد السياسي، من خلال الميل العربي الدولي إلى قبول الأسد. ومرتب في الواقع على ضوء إقامة المناطق "منخفضة التوتر". وباتت روسيا المايسترو المعترف به مقرّراً لطبيعة الحل السياسي.
جيد التمسك برحيل الأسد، وجلبه إلى المحاكم الدولية، لكن ليس جيداً التمسّك بالمفاوضات، وتكرار موقف بات من الماضي. هذا لا يعني التخلي عن رحيل الأسد، بل يعني التخلي عن المفاوضات التي تسير نحو أن تصبح منصة موسكو قائدتها. وربما التكتيك الصحيح الآن أن يطرح الوفد المفاوض قبول قدري جميل رئيساً في المرحلة الانتقالية، بدل بشار الأسد.
هذا تكتيك وفق الوضع القائم الذي نشأ عن جرائم ارتكبتها قوى المعارضة، ومجموعات مسلحة كثيرة، أما الثورة فستستمر على الرغم من أن الشكلانية التي تحكم النظر لا تصل إلى رؤية أن الشعب هو الذي فجّر الثورة، وسيستمر بها على الرغم من كل التآمر عليه من كل الأطراف.
عادت محافظة دير الزور السورية، والتي كانت تعيش حالةً من العزلة المستدامة والتعتيم الإعلامي، في السنوات القليلة الماضية، إلى دائرة الضوء، عبر الزحف من المحاور العديدة باتجاهها، وتسابق الأطراف الدولية والمحلية لتحقيق نصرٍ على تنظيم الدولة الإسلامية (داعش)، وبالتالي الظفر بثاني أكبر المحافظات السورية مساحةً.
في الأثناء، قررت قوات سورية الديمقراطية (قسد)، في وقتٍ متأخر، وبإصرارٍ أميركي، خوض معركة دير الزور، بعد أن كانت "قسد" قد صرّحت، في وقت سابق، أن معركة الرقة قد تدوم أشهراً إضافية، الأمر الذي فُهم منه أن معركة الرقة الطويلة قد تعرقل خطة التحالف الدولي والولايات المتحدة في التوجّه إلى آخر معاقل التنظيم في دير الزور، خصوصاً بعد فشل الولايات المتحدة في الاعتماد على المليشيات العربية التي أعلنت تنسيقها مع الولايات المتحدة، والتي كان يراد منها التوجّه صوب دير الزور، إضافة إلى انشقاق أبناء عشائر الشعيطات والبقارة من تحالف المليشيات العربية المتمركزة جنوب محافظة الحسكة، وإعلانها الانضواء تحت راية "قسد"، لتصبح الفرصة سانحةً أكثر للقوات الحكومية والمليشيات التابعة لها، ومن ورائها روسيا، للتوجه نحو المحافظة الإستراتيجية، إلّا أن إعلان "قسد" أخيراً أفسد على النظام فرص خوض المعارك بأنفاسٍ طويلة.
في ميزان الفائدة من معركة دير الزور، تطمح القوات الحكومية إلى استعادة المحافظة، أملاً بقطع الطريق على "قسد" والأميركان اللذين كانا قد عزما التوجه إليها، عقب التخلص من "داعش" في الرقة، وبالتالي حرمانهما من الاستفادة من الموقع الاستراتيجي للمحافظة، المتاخم للحدود العراقية التي باتت تحت سيطرة القوات الحكومية العراقية وقوات الحشد الشعبي. وبالتالي، قطع الطريق على الأميركان الراغبين في قطع طريق التواصل بين الحلف الإيراني العراقي السوري، إلى جانب السيطرة على الحقول النفطية، وأبرزها حقل العمر، شمال شرق الميادين، الذي قد يؤمن موارد مالية مهمّة للنظام السوري، إضافةً إلى بسط النظام وروسيا سيطرتهما على مساحةٍ أكبر من الأرض، الأمر الذي يحجّم من قدرات غريمه في "قسد" ومن خلفه الأميركان من فرض شروطهما اللاحقة.
على الرغم من عدم الجهوزية التي أبدتها "قسد"، وعلى الرغم من تباطؤ النظام السوري الذي يخوض معارك في البادية السورية وريف السلمية في ريف حماة الجنوبي، إلا أن الروس والأميركان أعلنا المضي في هذه المعركة، على ما يحويه الأمر من مخاطر جسيمة، جرّاء المخاوف من التماس المباشر والتحام القوتين أو حلفائهما على الأرض. وبالتالي، يأخذ السباق على دير الزور طابعاً دراماتيكياً وسريعاً، قد يفضي إلى خسائر في صفوف القوتين ("قسد" والنظام)، ما يعزز من إمكانية صمود "داعش" الذي قد يستفيد من الاندفاع الذي يقوم به الطرفان، وقد يؤدي إلى الخلل والوقوع في هفواتٍ مكلفة، جرّاء عملية التسابق والتدافع للسيطرة على المحافظة.
يبدو "داعش" هشّاً في الرقة، إلا أنه قد يكون متماسكاً أكثر في دير الزور، نتيجة لنفاذ فرصه في الفرار إلى مناطق أخرى، فمعركة دير الزور معركته الأخيرة، يبقى بعدها أو يزول كتنظيم تسيّد البادية السورية، ومعظم أراضي المحافظات الشرقية منذ ما يزيد عن ثلاثة أعوام. إلى ذلك، تبدو قوات النظام والمليشيات التابعة لها، ومن أمامهم وخلفهم الطيران الحربي الروسي، في وضع صعبٍ أيضاً، إذ يعكس التقدّم البطيء لهذه القوات صعوبة المعارك التمهيدية للمعركة الكبرى، وضعف فاعلية سلاح الجو الروسي قياساً بطيران التحالف الدولي. في إزاء ذلك، لا تبدي "قسد" حماسة كبيرة لمعركة دير الزور، على عكس ما كانت تبديه قبيل بدء "حملة الرقة"، وهذا لا يعني بأي حال عدم قدرة "قسد" التوجه إلى فتح جبهة جديدة، لاسيما وأن طيران التحالف أثبت فاعليته المرجوّة، إلا أن عدم حماسة "قسد" قد يضمر خشيتها من الصدام مع قوات النظام والمليشيات التابعة لها. وبالتالي، استعداء روسيا، وهو أمر مقلق لـ"قسد"، ومضرٌّ بسياساتها الإستراتيجية في عموم الشمال السوري.
مع كلّ الحذر والحيطة التي تحرص القوتان الدوليتان توخّيها، لجهة الحؤول دون الصدام المباشر بين قوتيهما وحلفائهما على الأرض، تبقى أصابع أميركا وروسيا الخشنة مشيرةً إلى دير الزور، من دون تردد، لما يحمله النصر النهائي على التنظيم فيها من سبقٍ دولي، في ما خصّ الإجهاز على تنظيم داعش وأسطورته التي امتدت سنوات. ولكن يجب أن لا يفوتنا كذلك قول إن هذا التسابق المحموم قد يفضي، بالمحصلة، إلى شكلٍ من أشكال تقسيم دير الزور بين الروس وحليفهم (النظام) من جهة، والأميركان وحليفتهم (قسد) من جهةٍ أخرى، ولعل شكل القسمة سيكون توزيعاً بحسب ما تمليه الوقائع العسكرية على الأرض، وفي هذا تعود دير الزور إلى دائرة الضوء، لكنه ضوء القنابل والانفجارات هذه المرّة.
تلعب روسيا وأميركا اللعبة ذاتها في سورية، لكن الروس يظهرون بوضوح حذاقة تجعلهم أكثر قدرة على التحكم بمسار اللعب. فكلتاهما تحرص على وضع حدود صارمة للتدخل البشري على الأرض، وباستثناء مئات قليلة من الجنود وعشرات الآليات، تركز الدولتان على القصف الجوي والصاروخي الذي يجنبهما الخسائر المباشرة، ما عدا حوادث قليلة.
وبعدما حددت الولايات المتحدة هدفها النهائي، أي القضاء على «داعش» في العراق أولاً ثم في سورية، وبدأت تُسقط تدريجاً شعارات رفعتها مع بداية الانتفاضة الشعبية السورية، وتتخلى عن تهديدات رفعتها مع تعاظم ارتكابات بشار الأسد، اختارت الوكيل المحلي لتحقيق هدفها، أي الأكراد السوريين، فدربتهم وسلّحتهم وألحقتهم بحمايتها، ووقفت من أجلهم، ولا تزال، في وجه تركيا، حليفتها القلقة من تأثير ذلك في المكون الكردي في مناطقها المحاذية لسورية.
وكان السبب الذي رجح اختيارها الأكراد لخوض معركتها ضد الإرهاب، استعدادهم لتنفيذ المطلوب منهم في مقابل تأمين حاجتهم إلى سند دولي فاعل يتبنى سعيهم إلى حكم ذاتي واسع، يكون خطوة أولى نحو انفصال لاحق قد لا يتحقق، وأيضاً هشاشة وضعهم في مواجهة أعدائهم الكثر، وهم نظام دمشق وتركيا والعشائر العربية المحلية التي تقاسمهم الشمال السوري.
وهذه الهشاشة تجعل الكرد غير قادرين على الخروج عن المسار الأميركي في حال لم تف واشنطن بوعودها. وبكلام آخر لم يكونوا قادرين على رد الاختيار الأميركي لهم، ولن يكونوا قادرين على رفضه مستقبلاً، من دون تغيير أهدافهم البعيدة المدى والقبول بالعودة إلى وضعهم السابق على 2011.
في المقابل، كان هدف روسيا منذ البداية الحيلولة دون سقوط نظام الأسد وانهيار جيشه بالكامل. وعملت منذ بداية الثورة على إمداده بوسائل الصمود، إلا أنها فضلت تركه يقوم بالمهمة وحده خشية الصدام مع الغرب، ولأنها كانت منشغلة في ذلك الوقت بمشكلات أقرب إلى حدودها، مثل أوكرانيا وتمدد الحلف الأطلسي.
وغطت إيران الفجوة، لكن سرعان ما تبين عجز التدخل الإيراني المباشر، عبر «الحرس الثوري» و «حزب الله» والميليشيات الأخرى، عن حماية النظام، فكان أن أرسلت روسيا طائراتها ومدفعيتها وغواصاتها المزودة صواريخ بعيدة المدى لإسناد الجيش والإيرانيين.
وقد أثبت الأميركيون أكثر من مرة أنهم مستعدون للدفاع عن حلفائهم الأكراد السوريين، واشتبكوا قبل يومين مع قوات مدعومة من تركيا في منبج في شمال سورية. لكن لدعمهم حدوداً تشي بها النصيحة الأميركية لأكراد العراق بالتراجع عن إجراء استفتاء على «الاستقلال» والاكتفاء بالحكم الذاتي.
وبدورهم أثبت الروس أنهم مستعدون للدفاع عن حلفائهم الايرانيين بالوقوف في وجه التهديدات الأميركية والإسرائيلية المبالغ فيها كثيراً، ولم يتجاوبوا مع رغبة نتانياهو في الحصول على ضمانات بتقليص الدور الإيراني بعد التسوية، لأن المصالح المشتركة بين موسكو وطهران تتجاوز سورية بكثير.
وهدفا الولايات المتحدة وروسيا لا يتضاربان. فموسكو تشارك واشنطن رغبتها في القضاء على الإرهاب وتشارك في القصف على «داعش»، فيما لا تكترث واشنطن بما عدا ذلك، وتغض الطرف عن تمدد إيران في جبهات عدة، وسيطرة ميليشياتها على شريط واسع من الحدود مع العراق. وبات الأميركيون مستعدين لقبول أي تسوية تنسجها موسكو، والتعايش معها، بما يشمل بقاء الأسد. وهم جاهروا بذلك قبل أن تكر سبحة القابلين بالحل الروسي.
وليس مقنعاً القول بأن الأميركيين سيلتفتون إلى التهديد الإيراني بعد انتهاء الحرب على الإرهاب. فهذه لن تنتهي، والوقائع على الأرض تفرض نفسها ويصبح تغييرها صعباً مع الوقت. ويعني ذلك أن أكراد سورية قد لا يحصلون من التسوية على ما يتناسب مع طموحاتهم، فيما ستقبض إيران الثمن الأكبر.
اللجوء السوري في لبنان مشكلة بالغة التعقيد وعبء كبير على بلد اقتصاده في وضع خطير. ونتائج اللجوء الاجتماعية كارثية بسبب تزايد التوتر بين الشعبين وتزايد العنصرية والتعصب في لبنان، ففي أي زيارة الى لبنان حيث هناك اكثر من مليون لاجئ سوري نتيجة الحرب الوحشية التي خاضها بشار الأسد على شعبه بدعم من روسيا وايران، يدرك المراقب ان مشكلة اللجوء السوري لم تعد تنحصر في طائفة واحدة مثلما حصل مع اللجوء الفلسطيني، بل ان معظم الطوائف أصبحت تتذمر كما معظم طبقات الشعب تندد بوجود اللاجئين السوريين الذين كثيراً ما ينافسون اللبنانيين على وظائف صغيرة لأن أجورهم أقل بكثير من اللبنانيين.
ان من المحزن ان العالم ترك بشار الأسد يهجّر شعبه ويخلق له وللبلد الذي يستضيف هذا اللجوء مشاكل اقتصادية ضخمة. فسائق التاكسي مثلاً في بيروت او طرابلس كثيراً ما يشعر بمرارة لأن هناك العديد من السوريين يعملون على سيارات من دون رخص وينافسون بأسعارهم القليلة السائق اللبناني. حتى اذا اقترب طفل لاجئ سوري ليطلب مساعدة مالية من أحد الركاب ينصحه السائق بعدم إعطائه أي مساعدة قائلاً ان اهل هذا الطفل يستخدمونه لكسب المال وذلك يتكرر في عدد كبير من قطاعات العمل في لبنان.
ان مأساة اللجوء السوري جعلت معظم طبقات الشعب اللبناني تظهر قسوة غير عادية للبناني وشيئاً من العنصرية تثير مشاعر المراقب الخارجي الذي يرفض هذا التصرف ولكنه في العمق يدرك ان حياة عدد كبير من اللبنانيين أصبحت بالغة الصعوبة لقسوة ظروفهم المعيشية، خصوصاً ان الشعب يتذمر من طبقة سياسية فشلت في تقديم ادنى المتطلبات المعيشية ومنها الكهرباء مثلاً.
وغداً يستقبل رئيس الحكومة الفرنسي ادوار فيليب نظيره اللبناني الرئيس سعد الحريري الذي يلتقي بعد ذلك مع وزير المالية برونو لوميير، على ان يلتقي الحريري بعد غد مع الرئيس ايمانويل ماكرون ووزراء الخارجية والدفاع جان ايف لودريان وفلورانس بارلي ورئيس مجلس الشيوخ جيرار لارشي. وسيكون موضوع اللجوء السوري في طليعة اهتمام الحريري في محادثاته التي تهدف الى اقناع الجانب الفرنسي بأن يعمل على تعبئة أوروبية لمساعدة لبنان على نمو اقتصاده عبر مؤتمر دولي ليتمكن من تحمل هذا اللجوء في غياب حل للصراع السوري وغياب إمكان عودة اكثر من مليون لاجئ سوري في ظل حكم بشار الأسد.
ويأتي لقاء الحريري مع ماكرون بعد أيام قليلة على استضافة الأخير قمة أوروبية افريقية بهدف الحد من موجة المهاجرين الى أوروبا عبر الدول الافريقية مثل النيجر ومالي وليبيا. فماكرون اعلن انه يريد مساعدة افريقيا لكي تضبط وتحد هذه الهجرة التي تتدفق الى الدول الأوروبية. والمستشارة الألمانية انغيلا ميركيل التي فتحت أبواب المانيا لـ٤٩٠ الف مهاجر اكدت في مقابلة في بداية الأسبوع ان المانيا وأوروبا لم تتنبه بما يكفي لنتائج الحرب الاهلية في سورية وإرهاب «داعش» في العراق وحدود إمكانات مخيمات اللاجئين في لبنان والأردن، وان الأطفال هناك لن يتمكنوا من الحصول على تعليم في المدارس ما جعل المانيا تدرك انه تنبغي مساعدة دول اللجوء حيث الجغرافيا تفرض ذلك. فلا شك ان الحريري يأتي في وقت مناسب لتناول هذا الموضوع مع فرنسا التي تقدم تاريخياً كل الدعم للبنان. فهناك نوع من ارتباط وثيق بين البلدين منذ عقود الى حد جعل دبلوماسية لبنانية بارزة تلاحظ انه من الصعب احتمال ان يفشل أي سفير لبناني في عمله في فرنسا لأنه باستمرار يجد كل الأبواب مفتوحة امامه. وتتبع زيارة الحريري الى فرنسا زيارة الرئيس عون وهي اول زيارة دولة لرئيس اجنبي في عهد ماكرون، وستتم في الأسبوع الأخير من شهر أيلول (سبتمبر). فلا شك في أن مشكلة اللجوء السوري ومساعدة الاقتصاد اللبناني ستتصدران المحادثات. ومع أن الدول الأوروبية تعاني من أوضاع اقتصادية صعبة فهي تدرك انها اذا ارادت عدم مواجهة المزيد من الهجرة فعليها ان تساعد لبنان. وماذا لو تصور الأوروبيون ان يصدر الأردن ولبنان هذا اللجوء الى حدودهم؟ ان الوقت مناسب لطلب لبنان المساعدة وتفهم فرنسا وألمانيا مثل هذا الطلب. ولكن على الجانب اللبناني ان يقدم طلب المساعدة بشكل مدروس وواضح ومركز كي يأتي بنتائج.
يجادل الكاتب الإيراني بهذه الصحيفة، الأستاذ أمير طاهري، الطرح الذي انتشر مؤخراً عن أشهر منظّر سياسي أميركي، حي، الدكتور هنري كيسنجر، بخصوص مواجهة الغرب لـ«داعش» وشقيقاته في سوريا والعراق.
خلاصة نصيحة كيسنجر هي عدم العجلة في القضاء على «داعش» وأمثاله، لأن ذلك يعني إفساح المجال لتفرد الجمهورية الخمينية الإيرانية بسوريا والعراق أيضاً!
ذهل طاهري من هذا الطرح، وبنى نقضه على كيسنجر بأنه سليل ثقافة سياسية قديمة، تقوم على مبدأ «توازن القوى» من مخلفات العصور الأوروبية الويستفالية.
بالنسبة لطاهري فإن القضاء على «داعش» لا يعني عدم القضاء على النظام الخميني لاحقاً، فالخمينية والداعشية والقاعدة والطالبانية كلها وجوه لحقيقة قبيحة واحدة.
يتابع، مثلما لم يكن القضاء على الخطر النازي في الحرب العالمية الثانية مؤجلاً بسبب الخوف من التمدد السوفياتي الأحمر، حيث تم لاحقاً القضاء عليه، فكذلك الأمر يجب أن يكون مع خطر «داعش» وشقيقاته بسوريا والعراق.
ليس كيسنجر فقط من قال ذلك، فهناك دعوات أميركية متواترة لوجوب مواجهة الرئيس ترمب مخاطر الخمينية في الشرق الأوسط، وتعويض سنوات الضياع، بل «الرخاوة» الأوبامية، إباّن أحلام اليقظة التي راودت عقل الرجل الأميركي المسمى باراك بن حسين بن أوباما، حيال «اعتدال» خميني مأمول!
مجلة «فورين بوليسي» نشرت الجمعة الماضية، تقريراً أكدت فيه أن: «ترمب يواجه خطراً آخر، وهو أن يذكره التاريخ بأنه قام بهزيمة (داعش) حتى يمهد الطريق أمام الخلافة الإيرانية».
رئيس الحكومة الإسرائيلية نتنياهو، بدوره حذّر الغرب، بما فيه روسيا، من ترك سوريا نهباً للجماعات التابعة لإيران، بالنسبة للأمن الإسرائيلي هذه قضية مرفوضة، وكلنا نتذكر غارات الطيران الإسرائيلية على أهداف إيرانية بسوريا. هناك سباق محموم على الأرض السورية، ومزاد أحلام وخطط، على وقع الهزائم التي مني بها «داعش» و«النصرة» وأمثالهما، و«تطويع» الفئات المسلحة التابعة للمعارضة «المعتدلة».
نظام بشار لديه أوهامه عن عودة الجميع لبيت الطاعة، وكرد سوريا لديهم أحلامهم الأخرى، ببركة حماستهم لمواجهة «داعش» في الشرق السوري، وجماعة إيران، ومنهم حزب الله اللبناني، لديهم أوهامهم السورية أيضاً، من آخر ذلك محاولة نصر الله إجبار الحكومة اللبنانية على التطبيع مع بشار.
بعيداً عن حجج طاهري، فإنه لا ريب فيه أن هزيمة «داعش» و«النصرة» ومغناطيس دعايتهما لن يكون بحلول جنود الولي الفقيه بصرخات قاسم سليماني على وديان وجرود ومروج الشام... هذا خير قابلة لمولود التدعشن والتقعدن.
حتى تقضي على «داعش» وشقيقاته يجب أن تواجه الخمينية بنفس الوقت، والعكس صحيح.
يكاد يكون من المتفق عليه، أن روسيا باتت صاحبة الأوراق المهمة في سوريا، بل والقوة الرئيسية في تقرير مستقبل الوضع السوري ومآلاته. ولا يحتاج هذا القول إلى كثير من جهد لتأكيده عبر دلالات سياسية وعسكرية - ميدانية، الأبرز فيها من الناحية السياسية، تعاون القوى الدولية والإقليمية مع روسيا باعتبارها ذات نفوذ وتأثير في القضية السورية، وهو أمر امتد إلى القوى السورية، التي لا تقتصر على النظام، وإنما تشمل أغلب قوى المعارضة السياسية والمسلحة، والأبرز في الدلالات العسكرية - الميدانية، لا يتمثل فقط في وجودها العسكري الجوي والبحري والبري، وفي مجال الاستخبارات وقوى الضبط الأمني، وإنما أيضا في الدور المتعدد الأبعاد الذي تقوم به قاعدة حميميم وضباطها العسكريون والأمنيون من علاقات ربط سياسي واجتماعي، وتسويات ومصالحات متعددة الأوجه بعضها مع النظام وأخرى من دونه.
وسط طغيان الحضور الروسي في القضية السورية ومحيطها، يبدو السؤال عن عوامل القوة في سياسة موسكو السورية، طبيعياً ومنطقياً وضرورياً من أجل تقدير احتمالات الدور الروسي، والأهم هو رؤية مسار التعامل مع موسكو من أجل الحل الممكن في سوريا.
أولى أوراق القوة الروسية في سوريا، تكمن في قوة الدولة الروسية، التي تعد بين الدول الكبرى، وتتمتع بقوة سياسية وعسكرية واقتصادية، تؤهلها للعب دور إقليمي دولي، خصوصا في منطقة، طالما كانت في أهداف روسيا منذ روسيا القيصرية إلى الاتحاد السوفياتي إلى الاتحاد الروسي. وتقع سوريا في قلب منطقة الاهتمام الروسي، وتدعم هذا الاهتمام عوامل تاريخية دينية وسياسية وعسكرية، تمتد عبر أكثر من مائة عام متواصلة من الإرساليات الكاثوليكية القيصرية، إلى التبشير الآيديولوجي الشيوعي بعد ثورة 1917، وصولاً إلى علاقات التسلح والدعم السياسي والاقتصادي، التي بدأت أواسط خمسينات القرن الماضي، وتالياً إلى وجود عسكري مباشر صار حاضراً منذ أواخر العام 2015.
ثاني أوراق القوة الروسية في سوريا، مبادرة روسيا للعب دور يكون بديلاً للقوى الدولية الكبرى، التي تقاعست عن لعب دور مؤثر وحاسم في القضية السورية، وعجز القوى الإقليمية عن القيام بمثل هذا الدور، وفي خلال السنوات السبع الماضية، عزفت الولايات المتحدة عن اتخاذ مواقف حاسمة وجدية حيال التطورات السورية، ومارست سياسات مترددة، دعمت جميعها استمرار تردي الوضع، وهي السياسة التي تابعتها الدول الأوروبية، ليس فقط بحكم تبعيتها لسياسة واشنطن، إنما أيضا لرغبتها في عدم تحمل النتائج، التي يمكن أن تتمخض عن انخراطها في التطورات السورية.
ولم يكن موقف الدول الإقليمية أفضل حالاً، وقد انخرطت أغلبيتها في الصراع السوري حتى آذانها، لكن وفق أجندات متناقضة، حيث وقفت إيران إلى جانب نظام الأسد، ووقفت تركيا ضده، فيما بقيت إسرائيل في موقف المراقب الحذر، غير راغبة في انتصار طرف على آخر في الصراع، وغرقت الدول العربية في خلافاتها، وركزت دعمها لجماعات مسلحة، تنتمي إلى جماعات التطرف والإرهاب أو أخواتها، وظلت في كل الأحوال، أسيرة مواقف الدول الكبرى، ولم تتخذ جميعها مواقف جدية وحاسمة ضد إرهاب الدولة الذي يمارسه نظام الأسد، وإرهاب متطرفي «داعش» و«النصرة» وأخواتهم.
ثالث أوراق القوة الروسية في سوريا، سعي موسكو إلى تجميع مختلف الأوراق الدولية والإقليمية المتناقضة في يدها، حيث أعطت لكل طرف ما يريده تحت شعار محاربة الإرهاب، ولا سيما محاربة «داعش» الذي لم يكن بمقدور أحد أن يعترض عليه أو يرفضه. فتم تنسيق روسي مع الولايات المتحدة، حظي بتأييد أوروبي، وآخر مع إسرائيل في غرفة مشتركة تجمع حميميم وتل أبيب، وأخرى تجمع العراق وإيران ونظام الأسد في بغداد، وبعد رخي وشد سياسي وعسكري واقتصادي، أعادت موسكو تعزيز علاقاتها مع تركيا، وجعلتها بوابتها لربط تشكيلات للمعارضة السورية المسلحة في مسار آستانة.
رابع الأوراق، وربما هي الأهم في عناصر القوة الروسية في سوريا، تتمثل في التغلغل الروسي في الواقع السوري. فبعد أن أيقن نظام الأسد والحلفاء الإيرانيون بضرورة الوجود والتدخل العسكري الروسي لمنع سقوط الأسد أواخر العام 2015، فإنهم قبلوا مرغمين تدخلاً روسياً في سوريا، استفادت منه موسكو في بناء منظومة خاصة لعلاقاتها السورية الداخلية شمل التدخل العميق داخل النظام ومؤسساته بما فيها المؤسستان العسكرية والأمنية، ثم امتد تأثيرها إلى «المجتمع» في مناطق سيطرتها وفي المناطق المحاصرة، وتالياً في المناطق الخارجة عن سيطرة النظام، فتمت إقامة علاقات مع شخصيات وتجمعات وهياكل اجتماعية مختلفة، عززت الوجود الروسي وتأثيراته في الواقع إلى درجة بات ذلك صريحاً وواضحاً في المستويين الداخلي والخارجي على السواء.
وسط تلك الوقائع والمعطيات، لا بد من قول، إن الحضور الروسي في القضية السورية ومحيطها، صار مؤثراً وقوياً، ولا بد من أخذه بعين الاعتبار في التعامل مع القضية السورية أياً يكن شكل التعامل سياسياً كان أو عسكرياً، وإن الروس شريك رئيسي في أي حل للقضية، وهذه صارت نقطة توافق دولي وإقليمي، لكنها ما زالت موضع أخذ ورد في الواقع السوري في الوسط الشعبي، وفي وسط المعارضة السياسية والعسكرية، التي ما زالت تحت مستوى الإدراك السياسي أو أنها أسيرة علاقات دولية وإقليمية، تنظر إلى الدور الروسي بتحفظ من بعض الزوايا، أو هي راغبة في انتزاع بعض مكاسب تدعم أجنداتها في سوريا.
ولا يحتاج إلى تأكيد قول، إن خطورة الدور الروسي في سوريا، لا تعني ضرورة الاستسلام لأطروحاته، بقدر ما تعني فهمها، واتباع طرق ناجحة في التعامل معها، لأن من المؤكد، أن ثمة فوارق جوهرية بين رؤية الحل السوري من وجهة النظر الروسية الداعية إلى الحفاظ على النظام ورأسه، ورؤية الحل السوري من مصلحة الشعب السوري الذي من أول أولوياته تغيير النظام والخلاص من رأسه، بعد كل ما سببه من كوارث وخسائر لسوريا والسوريين في السنوات السبع الماضية.
قبل ما يزيد عن خمس سنوات، في 19 أيار/مايو 2012 تحديداً، نقلت وكالة رويترز عن قمة رؤساء دول مجموعة الدول الصناعية الثماني (كانت روسيا آنذاك تُدعى للاشتراك في لقاءات مجموعة الدول السبع) المنعقدة في كامب ديفيد، إن الرئيس الأمريكي السابق باراك أوباما أكّد لزملائه أنه يؤيد حلاً للنزاع السوري يستوحى من النموذج اليمني. وبعد ذلك بأسبوعين، بتاريخ 26 أيار/مايو، نشرت صحيفة «نيويورك تايمز» تقريراً عن المساعي الدولية لإنهاء النزاع المذكور تحت عنوان «تأمل الولايات المتحدة أن إزاحة سهلة للأسد ممكنة بمساعدة روسيا».
حسب تقرير الصحيفة الأمريكية، فإن دميتري ميدفيديف، الذي حضر قمة كامب ديفيد بصفته رئيساً للوزراء بعد أيام قليلة من نهاية تولّيه رئاسة روسيا لمدة أربع سنوات بنيابة غير رسمية (وبالغة النفاق) عن فلاديمير بوتين، الرئيس الفعلي للبلاد بدون انقطاع منذ عام 2000، إن ميدفيديف ذاك إذاً عبّر عن استعداد موسكو لمناقشة السيناريو اليمني خلافاً لأي سيناريو يقوم على إزاحة بشّار الأسد بالقوة. بيد أن التقرير ذاته أضاف: «يقول المشكّكون إن دافع انفتاح روسيا على النموذج اليمني ليس رغبة ما في إزاحة السيد الأسد بقدر ما هو الحؤول دون عمل عسكري بقيادة أمريكية».
ومن الواضح تماماً اليوم أن المشكّكين كانوا على حق. فقد تجلّى أنه لم يكن في نيّة موسكو في أي وقت أن تساهم في إزاحة الأسد من الرئاسة، بل كانت تسعى وراء تدعيم نظامه وهي توحي لواشنطن بأنها مستعدة لإزاحته كي تقوّي وهم أوباما بإمكان حل النزاع السوري مثلما تمّ «حل» النزاع اليمني (حسبما ظنّ السذّج في ذلك الحين)، بل استخدمت موسكو الحيلة ذاتها في حصولها على ضوء أخضر أمريكي لتدخّلها العسكري المباشر في النزاع السوري بدءًا من خريف 2015، وهي توحي لواشنطن بأنها سوف تحدّ من النفوذ الإيراني على دمشق وتخلق ظروفاً ملائمة لحلّ تفاوضي يتضمن تنحّي بشّار الأسد عن الرئاسة السورية بمبادرة روسية، مثلما تنحّى عليّ عبد الله صالح عن الرئاسة اليمنية في شباط/فبراير 2012 بموجب «المبادرة الخليجية» التي وقّع عليها وابتسامة عريضة ترتسم على وجهه، وكان ذلك في تشرين الثاني/نوفمبر من السنة السابقة، سنة «الربيع العربي».
تذكّرنا اليوم خرافة ضرب «الحل اليمني» مثالاً عن التسوية الناجحة بتلك الأيام السابقة لاندلاع حرب لبنان في عام 1975 عندما كانت «الصيغة اللبنانية» تُضرب مثالاً عن التعايش السلمي الأنيس بين الطوائف!
والحال أن المرء لم يكن بحاجة إلى قدرة خارقة على التنجيم لإدراك حتمية انهيار «الحل اليمني» المبني على قبول عليّ عبد الله صالح بالتخلّي عن منصب رئاسة الجمهورية وهو يحتفظ بكل مناصب السلطة الأخرى التي كانت بين يديه. وقد كان محتماً أن المخلوع سوف ينتظر أول فرصة يستطيع من خلالها السطو مجدداً على حكم البلاد المركزي، حتى لو كلّف الأمر تدمير البلاد بأسرها شعباً وتراباً.
ولو قامت إدارة أوباما بالوقوف بحزم إلى جانب المعارضة السورية الرسمية (المجلس الوطني) في عام 2012 لأفلحت ربّما في تكرار «الحل اليمني» في سوريا، لكنّ مآل ذلك كان سوف يكون حتمياً انهيار الحل المذكور بعد حين وإعادة سقوط البلاد في جحيم الحرب على غرار ما حصل في اليمن. فإن آل الأسد كانوا سوف يترصدّون أول فرصة سانحة للانقضاض مجدداً على الحكم المركزي على غرار ما فعله آل صالح في اليمن وبقوة أعظم إذ أن سيطرة آل الأسد على القوات المسلحة السورية أكمل مما كانت عليه سيطرة آل صالح على القوات المسلّحة اليمنية.
وكيف بالشروط التي باتت تشكّل اليوم سقف صيغة التسوية السورية التي تحظى بأوسع إجماع دولي، ألا وهي حكومة انتقالية تحت رئاسة بشّار الأسد؟ كيف بمثل هذه التسوية تصمد في المدى الطويل وتكون أكثر من مسرحية يقوم بها آل الأسد كي يلتقطوا أنفاسهم قبل الانقضاض مجدّداً على شتى أطراف المعارضة (على الأرجح باستفرادها طرفا بعد آخر وفق وصفة «فرّق تسُد» المعهودة)؟ وعلى أي عاقل يمكن أن تنطلي حيلة قبول آل الأسد بمنح بعض المعارضة بضعة كراسٍ في حكومة انتقالية لن تكون انتقالية سوى إلى استفرادهم بالحكم من جديد وبشروط أفضل (في تقديرهم)؟ وكيف بمثل هذه التسوية تُقنع المهجّرين بالعودة إلى مناطقهم وديارهم في ظل حراب السلطة وميليشيات حلفائها حيث هي مسيطرة وحراب شتى أطراف المعارضة المسلّحة في المناطق الأخرى؟
الحقيقة الساطعة هي أن لا حلّ للنزاع السوري يستطيع أن يصمد ويؤدي إلى إعادة تركيب أجهزة الدولة على أسس ديمقراطية إلّا بقوة خارجية تسهر على حفظ السلام وعلى فرض مراعاة التسوية للأسس المذكورة. وبكلام آخر فلا حلّ مستديما للنزاع السوري، أو بالأحرى لا أمل في حلّ مستديم (إذ ليس من تسوية مضمونة النجاح مهما تكن)، إلّا بانتشار قوات حفظ سلام دولية على امتداد الأراضي السورية تحت إشراف الأمم المتحدة وبموافقة طرفي النزاع السورييْن الرسمييْن، مع خروج كل القوى المسلحة الأجنبية التي دخلت سوريا بعد عام 2011. وكل ما عدا ذلك كناية عن تسوية سلمية أبرز المشاركين فيها ذئاب، أي تسوية لا فرصة لها بالنجاح إلّا بأعجوبة تُحوّل الذئاب إلى نعاج.
طرح الشاعر السوري منذر مصري، قبل أيام، فكرةً عن مبادرة لحل سياسي مفترض من شأنه أن ينهي المأساة السورية المفتوحة، واستبق ما يمكن أن تتلقاه فكرته من اعتراضات، صاغها بأسلوب يجعلها غير ذات أهمية، بالقياس إلى فكرته.
والحال أن فكرة المبادرة، كما طرحها شاعرنا الجميل، مفعمة بأحلام وردية بقدر امتلائها بالمغالطات. ولو لم يكن منذر مصري هو صاحب الفكرة، لربما كانت غير جديرة بالمناقشة.
ملخص ما طرحه مصري هو أن يتوجه وفد من خمسة عشر شخصاً من «شخصيات وطنية معروفة بينهم معارضون» ينتمون إلى مختلف أطر المعارضة في الخارج والداخل، إلى دمشق، على متن طائرة واحدة تحط في مطار دمشق الدولي، وتضع النظام أمام تحدي التفاوض معهم دون شروط مسبقة، وبلا أي جهات وسيطة، للوصول إلى حل سياسي «سوري ـ سوري» ينقذ البلد من الخراب.
ويقول مصري إن هذه المبادرة ستضع النظام أمام «مسؤوليته الوطنية» التي «لم يبطل يوماً إدعاءها»، وفي مواجهة سياسية مباشرة مع من دأب على إنكار وجودهم.
إلى أي حد يمكن أخذ فكرة مصري عن المبادرة على محمل الجد؟
لندع جانباً كيف يمكن تشكيل وفد من 15 شخصية وطنية «بينهم معارضون سياسيون». أي أن قسماً منهم فقط معارضون سياسيون، علماً بأنهم سيتشكلون، على افتراض مصري، من جميع الأطر المعارضة: الهيئة العليا للمفاوضات، والائتلاف الوطني، ومنصتا موسكو والقاهرة، وهيئة التنسيق، ومعارضات الداخل والخارج، وكل من يقبل بالمبادرة! فإذا تخلينا عن «كل من يقبل» هذه، واقتصرنا على ممثل واحد لكل من الأطر المذكورة، أصبح لدينا 6 أشخاص أو 7 معارضين سياسيين، من أصل 15، في حين أن البقية هم «شخصيات وطنية» لا نعرف ما هو معيار وطنيتها.
يعرف صديقنا الشاعر كيف انتهى ما سمي بـ»مؤتمر الحوار الوطني» الذي عقد برئاسة فاروق الشرع، في يوليو/ تموز 2011، وكيف تعاطى النظام مع المبادرة العربية، ثم مبادرة كوفي أنان الدولية، وبيان جنيف 2012، وهي على التسلسل سورية، ثم عربية، ثم دولية. وكيف اعتقل عبد العزيز الخير من مطار دمشق، وما زال مجهول المصير إلى اليوم، وهو الموصوف بالمعارض الوطني الداخلي. وكل ذلك في فترات كان فيها النظام في أضعف حالاته ميدانياً وسياسياً. فما الذي يمكن توقعه منه وهو يرى نفسه، هذه الأيام، في حالة «انتصار» بفضل حماته الروس والإيرانيين؟ على أي حال لم يترك لنا النظام فرصةً لطرح تكهنات بصدد مسالكه المتوقعة في المرحلة المقبلة. ففي خطابه أمام «مؤتمر وزارة الخارجية» كان رأس النظام واضحاً في رأيه بكل من عارض حكمه. لم ينكر وجودهم، كما يقول المصري، بل اعتبرهم مجرد عملاء وخونة يستحقون العقاب، وقد بلغ بهم «التلوث» مدىً لا يمكن معه إصلاحهم!
فما بال صديقنا الشاعر يريد للنظام أن «يفاوضهم». إن أقصى ما قد يطمح إليه أولئك «المعارضون العملاء» في نظر رأس النظام الكيماوي، هو أن يقبل هذا بإصلاحهم، ولن يقبل لأنهم غير قابلين، في رأيه، للإصلاح. وهنا لا يبقى من حل لمشكلتهم إلا الإبادة.
«المسؤولية الوطنية» أخي منذر؟ في نظر المعارضة لا يملك النظام أياً من تلك المسؤولية، بل هو نظام ارتهن لقوى أجنبية ورهن لها سوريا ومستقبلها بمعاهدات مجحفة (مع روسيا مثلاً) مقابل الإبقاء عليه في السلطة. أما في خطاب النظام، الذي تعكسه تصريحات مسؤوليه ووسائل إعلامه، فالمسؤولية الوطنية تقتضي إبادة المعارضة، مسلحة كانت أم سلمية، إسلامية أو علمانية، مع إبادة «الحواضن الشعبية للإرهاب» التي قدرها رأس النظام، في أحد خطاباته، بالملايين، وصولاً إلى «المجتمع المتجانس»، مجتمع العبيد والروبوتات المبرمجة.
فصديقنا الشاعر يعرف أن اللغة كانت إحدى أوائل شهيدات الصراع في سوريا. يستخدم النظام كلمات كالوطن والشعب والإسلام والمصالحات وغيرها بمعان مختلفة عما ألفه مستخدمو العربية. فمن قال إن المسؤولية الوطنية مفهوم قد يجتمع عليه النظام مع غيره، دع عنك المعارضة، بل مع مطلق غيره؟
واقع الحال هو أن المعارضة انساقت في مسارات تفاوضية عقيمة، في جنيف وآستانة، قدمت فيها تنازلات لا يمكن القبول بها، وتتعرض لضغوط إقليمية ودولية كبيرة لتقديم المزيد منها. وكل ذلك بلا أي نتيجة حتى على مستوى القضايا الإنسانية كإطلاق سراح مئات آلاف المعتقلين الذين يبادون بصورة منهجية، وتحرق جثثهم في أفران صنعت لهذه الغاية، أو إدخال الغذاء والدواء إلى المناطق المحاصرة تحت شعار «الجوع حتى الركوع» المكتوب على الجدران. بدلاً من ذلك يواصل النظام قصفه لمناطق مكتظة بالمدنيين، على رغم شمولها بالمخطط الروسي المسمى بـ»خفض التصعيد»، وتهجيره للسكان، وغيرها من الأعمال الموصوفة بجرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية.
في حين يفترض أي منطق سليم أن يقوم النظام بتقديم المبادرات والتنازلات، وليس المعارضة، ما دام يدعي تمثيله للدولة، والدولة تعريفاً كيان عمومي فوق التباينات والمصالح والصراعات الجزئية. ويمكن القول، بطريقة معكوسة، إنه ما دام النظام يمتنع عن تقديم مبادرات من أجل الحل، ولا يبدي أي استعداد لتقديم أدنى تنازل من أجل المصلحة العامة، فهو إذن لا يمثل الدولة، بل مجرد طرف في صراع داخلي، يتطلب التفاوض معه طرفاً ثالثاً وسيطاً، وتكون نتائجه انعكاساً لموازين القوى، وليس «المسؤولية الوطنية» أو ما شابه ذلك من كلمات بلا مضمون.
والحال أن النظام يقوم بمبادرات، بعيداً عن الإعلام: فهو يرسل أزلامه إلى إسطنبول وغيرها من منافي السوريين، لإقناع «معارضين» أفراد من ضعاف النفوس بالعودة إلى «حضن الوطن». حتى في هذه «المبادرات» الوسخة يرد النظام على استسلام أولئك الأفراد بالغدر، كحالة بسام الملك الذي أعلن التوبة ونيته بالعودة إلى حضن النظام. لكن هذا الأخير لم يقبل بتوبته، فاضطر للذهاب إلى مصر مع عاره.
ولماذا الإصرار على مطار دمشق الدولي، أخي منذر، في حين تنشط قاعدة حميميم الروسية في مفاوضات جارية على قدم وساق من أجل «حقن الدماء»؟ بينما المطار المذكور عاطل عن العمل منذ سنوات!!
الإخفاء القسري هو الاختطاف أو أي شكل من أشكال حرمان لأسباب سياسية والذي يؤدي لإخفاء مصير الشخص المخفي أو المختطف أو مكان تواجده بما يجعله خارج حماية القانون.
تذكرنا الأمم المتحدة في مناسبة اليوم العالمي لضحايا الإخفاء القسري (30 آب/أغسطس) بأن هذه العملية جريمة ضد الكرامة الإنسانية وانتهاك لحقوق الإنسان وحرياته الأساسية. فحسب الإعلان العالمي لحقوق الإنسان «لا يجوز لأي دولة أن تمارس أعمال الإخفاء القسري أو أن تسمح به أو تتغاضى عنه»، وانبثق عن هذا التوجه اتفاقية دولية للحماية من الإخفاء القسري يفترض أن تقوم الدول التي تصادق عليها باحترام التزاماتها الأممية والجنائية.
حسب الأمم المتحدة فهناك 94 دولة وقعت على الاتفاقية التي دخلت حيّز التنفيذ عام 2010 (وهناك 44 دولة أخرى صادقت عليها)، وهو إقرار عمليّ بأن المشكلة عالمية، وأن عدداً كبيراً من الحكومات تستخدمها كاستراتيجية تتجاوز القضاء على خصومها السياسيين إلى بث الرعب في المجتمع، عبر توسيع الشعور بانعدام الأمان والخوف من أقارب الضحايا إلى تجمعاتهم المحلية والمجتمع بأكمله.
ينتهك الإخفاء القسري عدداً من الحقوق المتعارف عليها عالميا، كالحق في الأمن والكرامة، وعدم التعرض للتعذيب، وتوفير ظروف إنسانية في الحجز، وفي أن تكون للإنسان شخصية قانونية، وأن يحصل على محاكمة عادلة، وصولاً إلى الحق في الحياة وتكوين أسرة.
تتعرّض أسر المخطوفين وأصدقائهم لألم نفسيّ كبير ومستمر لعدم معرفتهم ماذا يحصل لأبنائهم أو بناتهم أو أمهاتهم أو آبائهم، إنْ كانوا على قيد الحياة أم لا، أين يحتجزون وكيف تتم معاملتهم، كما أن الحدث يضع العائلة والأصدقاء والمعارف في خوف من أن تتم ملاحقتهم هم أيضاً.
عادة ما تعاني النساء العربيات، اللاتي يفقدن الأب أو الابن أو البنت، من هذا القلق الرهيب، والخوف من الملاحقة، والابتزاز والترهيب من أجهزة الأمن، كما يعانين، على الأغلب، من أوضاع ماليّة قاسية حين يكون الشخص المختفي مسؤولاً عن اكتساب الرزق، وهو ما يعني معضلة اجتماعية وسياسية مستمرة، وأحيانا تخلق سوقاً سوداء للوسطاء والسماسرة الذين يعتاشون على صفقات يعقدونها مع أسر وأقارب الضحايا المخطوفين.
تتصدّر، كما هو متوقع، بعض الحكومات العربية الأرقام القياسية لحالات الاختفاء القسري، وعلى رأس هذه الدول سوريا، التي قالت الشبكة السورية لحقوق الإنسان إن عدد المختفين القسريين فيها 85 ألف شخص، كما تقدر عدد المحتجزين في سجونه بـ215 ألف شخص تم توثيق قتل 65 ألفا منهم تحت التعذيب.
مثير للسخرية السوداء أيضاً أن يختفي عشرات آلاف العراقيين قسرياً، رغم أن حكومتهم، هي أحد الموقعين على الاتفاقية، كما أنها عضو من أصل عشرة أعضاء في لجنة متابعتها.
أما في اليمن، فبلغ أعداد المختطفين والمختفين قسريا في سجون جماعة الحوثي والرئيس السابق علي عبد الله صالح 16800، يتوزعون على 484 سجناً غير رسمي، حيث تم تحويل 227 مبنى حكوميا و27 مؤسسة طبية و49 مبنى جامعيا و99 مدرسة عامة وخاصة و25 ناديا و47 مبنى قضائيا و10 منازل إلى معتقلات إضافة إلى السجون الرسمية.
وحسب «مركز الشهاب لحقوق الإنسان» فإن عدد حالات الاختفاء القسري في مصر منذ 2013 حتى الشهر الجاري بلغ 5500 حالة بينها 44 مخفى قسريا تم قتلهم خارج نطاق القانون، وأن هذا الانتهاك أصبح عملية ممنهجة في مصر تمارس بشكل يومي، وأنها تشمل كل الاتجاهات السياسية وغير السياسية.
تمتدّ القائمة طبعاً لتشمل كل البلدان العربية، بعضها تحاول الخروج من كوابيس العقود الماضية، كما هو حال المغرب، التي ما زال ناشطون حقوقيون فيها يطالبون بمعرفة مصير المختفين قسريا في ما يسمى «سنوات الرصاص» (1961ـ 1994)، معطوفة على مخاوف من عودة أشباح الماضي مع الانتهاكات التي ترافق أحداث الريف حاليّاً.
كل هذا يعيدنا إلى سؤال عربيّ ممض: لماذا؟
الجيش اللبناني هدف واضح وصريح للمحور الإيراني منذ أن رفض التنسيق مع الجيش السوري وحزب الله في عملية فجر الجرود التي أطلقها منذ أكثر من أسبوع ضد تنظيم داعش في جرود القاع قرب الحدود السورية من جهة الشرق.
إعلان الجيش اللبناني رسميا عدم التنسيق، ترافق مع إعلان حزب الله أنه سيقاتل إلى جانب الجيش السوري في هذه المعركة من داخل المناطق السورية. وهي إشارة إلى إصرار حزب الله على الدخول في هذه المواجهة بغاية واضحة وهي منع الجيش اللبناني من تحقيق انتصار يمكن أن يستثمره في نزع ذرائع بقاء سلاح حزب الله متفلتا من أيّ قيود في لبنان، وإلى هذه الغاية ثمة سبب آخر أعلن عنه الأمين العام لحزب الله، حسن نصرالله، قبل أيام، وهو أن هناك معادلة جديدة يريد فرضها على اللبنانيين كبديل عن المعادلة الثلاثية التي أطلقها حزب الله منذ سنوات أي الجيش والشعب والمقاومة، بمعادلة رباعية بإضافة الجيش السوري، قاصداً القول إنّ جيش النظام السوري هو طرف في معادلة الأمن التي فرضها المحور الإيراني على سوريا ولبنان.
معركة جرود القاع أو فجر الجرود، أقلقت حزب الله بسبب أن الجيش اللبناني أظهر كفاءة عسكرية عالية وحقق تقدماً ميدانياً مهماً في الأيام الأولى، حيث نجح في تحرير مئة كيلومتر مربع من أصل 120 تسيطر عليه مجموعات داعش، هذا التقدم للجيش المحرز بقدرة ذاتية، خلق مناخا وطنيا جامعا حول الجيش، وهذا ما زاد في قلق الحزب الذي لم يكن يقدر أن معركة الجيش سوف تثمر سياسيا خلال أيام وتفرض مناخا وطنيا غير مسبوق في التفافه حول الجيش اللبناني وعمليته ضد تنظيم داعش.
بدأ حزب الله هجوما سياسيا مضادا، تمثل في دعوته أو محاولة فرضه التنسيق الرسمي اللبناني والعلني مع الجيش السوري، والربط بين معرفة مصير الجنود العسكريين المخطوفين من داعش قبل 3 سنوات بعملية التنسيق هذه.
هذه الدعوة لم تجد آذاناً صاغية، ولكن أمكن لحزب الله، وهو يرى أن عناصر تنظيم داعش بدأت بالانهيار، وراحت تسلم نفسها له متفادية التسليم للجيش اللبناني، أن يوجه رسالة مفادها أن عدم التنسيق مع الجيش السوري يمكن أن يؤدي إلى أنّ الأخير لن يعطي أيّ معلومات عن العسكريين المخطوفين، متناسيا مسؤوليته الوطنية عن هذا الملف، حيث تعامل مع أسرى داعش باعتبارهم أسرى لدى الجيش السوري وليس لدى طرف لبناني، وهذا ربما ما فرض على الجيش اللبناني أن يقبل التسوية التي أعدها حزب الله مع داعش بأن يوقف الجيش المعركة مقابل كشف مصير 11 جندياً لبنانياً تبين لاحقا أنّهم قتلوا من قبل داعش، مقابل أن ينسحب جنود داعش باتجاه مناطق سورية.
أي مراقب لاحظ أن العلاقة هي بين حزب الله والجيش السوري من جهة، وتنظيم داعش من جهة ثانية سلسة، بل إن حزب الله أنجز التفاهمات من دون أن يسمح للجيش اللبناني بالمقايضة بأسرى داعش لديه بأي معلومة يمكن الحصول عليها من داعش، بل كان حزب الله والجيش السوري عائقين أمام استكمال الجيش المعركة للقضاء على فلول داعش إما باستسلامهم أو بقتلهم.
وكما أشرنا سابقا، فإن الجيش هو الهدف، حيث سار حزب الله على طريق منع الجيش من تحقيق انتصار كامل، وكل ما قام به حزب الله خلال معركة فجر الجرود هو إنقاذ هذا التنظيم الإرهابي من أن يقع أي عنصر من أفراده في يد الجيش اللبناني، وإلا ما معنى أن يسلم هؤلاء أنفسهم لحزب الله ويرفضون تسليم أنفسهم للجيش اللبناني؟
هل حزب الله أكثر رأفة بهم من الجيش؟ بل ما تكشفه الوقائع أكثر من ذلك بكثير. حزب الله هو الطرف الموثوق في اللحظات الحرجة، والقادر على ترتيب اتفاقيات تمنع القضاء على التنظيم الإرهابي وعناصره. بل إن حزب الله الذي كان يمنع الدولة اللبنانية من التفاوض مع داعش قبل سنوات من أجل استعادة جنودها المخطوفين، هو نفسه من فرض على الدولة اللبنانية إطلاق عناصر من جبهة النصرة في سجونها مقابل أن تطلق هذه الجبهة أسرى حزب الله الخمسة قبل أقل من شهر. فيما يقول حزب الله اليوم، ومن خلال شبكة من مناصريه في سياق استهدافهم للجيش، إنّ حزب الله أعاد أسراه أحياء من جبهة النصرة، فيما أعادهم الجيش رفاتا وبمساعدة حزب الله.
هذه الوقاحة هي السياسة التي يعتمدها حزب الله في تطويع الدولة اللبنانية لتسير في ركابه، ولتسويق فكرة أن الجيش كما كل المؤسسات يجب أن تبقى في وضعية العاجز وأنّ حزب الله هو الذي يحميها.
يعلم اللبنانيون أنّ العلاقة بين الدولة اللبنانية وحزب الله يجب أن تبقى بنظر الأخير مشروطة بأن تكون الدولة مهانة وعاجزة، لكن معركة فجر الجرود هي معركة فضحت سلوكيات حزب الله تجاه الدولة. وهي سلوكيات ما كانت لتنكشف لولا إصرار الجيش على خوض المواجهة مع داعش من دون حزب الله أو جيش النظام السوري.
الاتفاق النووي مع إيران هو ثمرة الود المتبادل بين رئيس أميركا الرابع والأربعين والجمهورية الإسلامية في إيران الذي سمح للوبي الإيراني في واشنطن بالتحرك بحرية في العاصمة الأميركية وأدى إلى فتح قنوات هيأت لنجاح محادثات مجموعة 5+1 بالمضي قدماً حتى الإعلان عن الاتفاق في العام 2015 بما يخدم مصالح إيران في المنطقة.
حظيت العلاقة بين إيران والبيت الأبيض في عهد أوباما بود لم يسبقها له أي رئيس أميركي منذ الثورة الإسلامية في إيران في العام 1979، وصلت إلى ذروتها، خصوصاً بعد أن أدار أوباما ظهره لانتفاضة عام 2009 أو ما سمي بالثورة الخضراء في إيران التي اندلعت احتجاجاً على إعادة انتخاب أحمدي نجاد. هذا الود الذي كان ثمرة عمل لأكثر من عقد من الزمن بعيداً عن الأنظار لإنشاء اللوبي الإيراني بهدف التغلغل في الداخل الأميركي وزرع العديد من الأسماء داخل المؤسسة السياسية في واشنطن للدفع بالسياسة الخارجية الأميركية تجاه إيران على نحو أكثر قرباً. تمتع العديد من الأعضاء المعروفين في جماعات الضغط الإيرانية وغيرهم بإمكانية وصول غير مسبوقة إلى البيت الأبيض. العديد من مراكز الفكر Think Tank في واشنطن ونيويورك أيضاً عملت عن قرب مع اللوبي الإيراني في واشنطن لأجل الترويج للنظام الإيراني ووضع حجر أساس لتلك العلاقة لتجنب الخيار العسكري واتخاذ نهج أقل حدة لصالح تفضيل خيارات الدبلوماسية والتفاوض للتمهيد من أجل التعايش مع النووي الإيراني.
اللوبي الإيراني في الولايات المتحدة: شخصيات ومنظمات:
المجلس الوطني الإيراني الأميركي National Iranian American Council NIAC ، وهي منظمة ضغط مقرها واشنطن أسسها تريتا بارسي Trita Parsiعام 2002، شكلت حجر الأساس للعمل لخدمة المصالح الإيرانية في واشنطن، ومن خلال المحافظة على وجود نشط في العاصمة الأميركية، تقوم NIAC على التأثير على آراء كبار المسؤولين الأميركيين والسياسيين، والعمل من أجل سياسة أكثر صداقة مع إيران وتعزيز مصالح طهران في الكونغرس ومعارضة العقوبات الاقتصادية، إضافة إلى مواجهة نفوذ اللوبي الإسرائيلي.
تريتا بارسی: عند الحديث عن NIAC لابد من الإشارة لهذه الشخصية الأكثر تأثيراً، مؤسس ورئيس المجلس الوطني الإيراني الأميركي، سويدي الجنسية من أصل إيراني وحاصل على الإقامة الدائمة في أميركا، وأهم اللاعبين في دعم مصالح طهران في واشنطن، وصف عدد قليل من المحللين في واشنطن بارسي "بصانع القرار في إيران"، بما يصل إلى 33 اجتماعاً في البيت الأبيض في الفترة من 2013 إلى 2016. من خلال عدة مقالات في الصحف روج بارسي للاتفاق، حث فيها الإدارة الأميركية وصانع القرار بتبني الخيار الدبلوماسي ومحذراً من أن الحياد عن الدبلوماسية ستكون له آثار غير محمودة، وإن الولايات المتحدة قد تواجه بكوريا شمالية أخرى يصعب السيطرة عليها، في مقالات أخرى تحدث عن إمكانية تحقيق سلام مستقبلي بين إسرائيل وإيران.
في العام 2006 خلال فترة رئاسة الرئيس بوش، في خطوة تهدف لشن المزيد من الضغط ضد إيران، تم إحالة الملف النووي الإيراني إلى مجلس الأمن الدولي. بدأ النظام الإيراني حملة لإقامة اتصالات مع السياسيين المناهضين لبوش، واستغلال الانقسامات السياسية في واشنطن حول السياسة مع إيران. في العام 2006 سلم جواد ظريف وثيقة المساومة الكبرى -التي تم إعدادها في العام 2003- إلى بارسي الذي قام بدوره بالإفراج عنها لاحقا للصحافة لاستخدامها في حملة لإثبات أن إيران كانت على استعداد للسلام والحوار بينما كانت الولايات المتحدة تسعى فقط إلى الحرب مع إيران. أطلق بارسي "مشروع التفاوض الإيراني" "Iran Negotiation Project" ، وبدأ بترتيب الاجتماعات بين ظريف وبعض أعضاء الكونغرس مثل Gilchrest ممن يعارضون سياسات بوش وعارضين تولي بعض المخاطرة السياسية، وطالبوا بالإجتماع مع أعضاء البرلمان الإيراني. تظهر الوثائق الداخلية أنه خلال الفترة 2006-2007، كيف لعب بارسي دورا هاما في هذه الحملة، ونظم اجتماعات بين جواد ظريف، السفير الإيراني لدى الأمم المتحدة -آنذاك – وبعض أعضاء الكونغرس الأميركي الذين قالوا لبارسي: "خاب أملهم إزاء السياسة الخارجية لبوش وهم متعبون من الجلوس على الهامش حيث يقوض بوش موقف الولايات المتحدة العالمي. إنهم على استعداد لاتخاذ الأمور في أيديهم ويقبلون المخاطر السياسية التي تأتي معها".
في أغسطس 2013، أدلى وزير الخارجية الإيراني جواد ظريف بخطاب تأكيد أمام البرلمان الإيراني، وأوضح أنه خلال فترة عمله سفيرا لإيران لدى الأمم المتحدة في نيويورك، بعد أن حصل على موافقة السلطات العليا للنظام، أقام اتصالات مع مجموعة من السياسين الأميركيين المعارضين لسياسات بوش في خطوة تهدف لاستغلال الانقسام بين صناع القرار. وثائق تم الإفراج عن جزء منها توضح وبصورة أكثر تحديدا تبادل البريد الإلكتروني بين جواد ظريف وتريتا بارسي، مسلطة الضوء على تكتيكات طهران للتأثير على السياسة الأميركية تجاه إيران، وعلاقة ظريف بأعضاء الكونغرس، وكيف قام بارسي بتنسيق الجهود الرامية إلى تحييد الضغوط الأميركية ضد إيران. نجح بارسي في بناء شبكة علاقات عامة استطاع من خلالها جذب الكثير من الأسماء للمشاركة في حلقات نقاش حول تفضيل الخيار الدبلوماسي حيال النووي الإيراني.
بعد توقيع الاتفاق أصدر كتابا بعنوان "خسارة عدو: أوباما وإيران، وانتصار الدبلوماسية"، مروجا لنجاح الدبلوماسية التي صنعت الاتفاق، أشار إلى سعي أوباما لمقابلة الرئيس روحاني والسلام عليه عند حضور الأخير في سبتمبر من العام 2013 لدورة الجمعية العامة للأمم المتحدة في نيويورك، وتردد روحاني بالموافقة على مقابلته ثم اتصاله بأوباما قبل مغادرته لنيويورك، كأول محادثة بين رئيسي الولايات المتحدة وإيران منذ الثورة الإسلامية في إيران في العام 1979.
سيد موسافيان: الدبلوماسي الإيرانى الذي عمل سفيرا لإيران لدى ألمانيا في التسعينات (1990-1997) عندما كانت السفارة هي العقدة المركزية لشبكة الإرهاب الأوروبية الإيرانية لاغتيال المنشقين الإيرانيين في أوروبا. المتحدث باسم إيران خلال المفاوضات حول النووي الإيراني مع المجتمع الدولي (2003-2005)، كما عمل أيضا مستشار السياسة الخارجية لأمين المجلس الأعلى للأمن القومي (2005-2007). زار موسافيان روبرت مالي مسؤول مجلس الأمن القومي في البيت الأبيض، ومستشار الرئيس السابق حول الشرق الأوسط وتنظيم داعش، وتمت استضافته في البيت الأبيض ثلاث مرات على الأقل، ساعد بارسي وموسافيان البيت الأبيض على صياغة الرسائل المؤيدة لإيران ونقاط النقاش التي ساعدت على قيادة الاتفاق النووي مع إيران، وكانت هذه الجهود جزءا من صفقة أكبر مؤيدة لإيران "غرفة صدى" بقيادة كبار مسؤولي إدارة أوباما الذين كلفوا بتضليل الكونغرس حول طبيعة الصفقة. في خطبه المتكررة للترويج للصفقة مع إيران، يتحدث عن الاعتدال الإيراني المزيف، لديه أبحاث تركز على استكشاف مسارات للدبلوماسية بين إيران والولايات المتحدة والحفاظ على خطة العمل الشاملة المشتركة والبناء عليها.
سحر نوروزداه: أيضا أحد أبرز الأسماء التي عملت من داخل البيت الأبيض بهدف تعزيز نهج النظام المؤيد لإيران، أحد المنتمين للمجلس الوطني الإيراني الأميركي وأحد أهم الأفراد في مجموعة الضغط داخل البيت الأبيض"، وفقا للصحافة الغربية سحر نوروزاده أميركية إيرانية تتمتع بمنصب متميز في السياسة الخارجية، بدأت حياتها المهنية في الخدمة العامة في عام 2005 خلال ولاية الرئيس بوش، انضمت إلى وزارة الخارجية الأميركية كموظف للشؤون الخارجية، وبدأت في عام 2014 دورة لمدة عامين كعضو في مجلس الأمن القومي في البيت الأبيض الخاص بإيران تحت الرئيس أوباما. وكانت سحر جزءا من فريق الرئيس أوباما المسؤول عن دعم المفاوضات النووية مع إيران. اتهمتها وسائل الإعلام المحافظة بالجاسوسة الإيرانية، وانتقدت علاقتها بالمجلس الوطني الإيراني الأميركي مطالبة بإبعادها عن البيت الأبيض، وبعد وصول فريق ترمب مؤخرا تمت إعادتها إلى وزارة الخارجية الأميركية، وتعمل حاليا في مكتب تخطيط السياسات الخاص كمسؤولة عن الشؤون الإيرانية والخليج.
دعم المدافعين عن مصالح إيران، وليس مصالح أميركا
السماح لبارسي بزيارة البيت الأبيض أكثر من 30 مرة، على الرغم من مواقفه التي تتماشى تماما مع مصالح النظام الإيراني، وعلاقاته القريبة مع رموز النظام الإيراني يوفر نظرة مثيرة للاهتمام حول المدى الذي وصلت له إدارة أوباما في مساعدة الموالين لنظام ملالي إيران، ففي الوقت الذي كانت إيران مستمرة في وصفها لأميركا "الشيطان الأكبر".
هذه الأسماء هي جزء من منظومة كبيرة تعمل من أجل مصالح طهران في واشنطن، ولايزال اللوبي الإيراني في الداخل الأميركي يعمل للحفاظ على الاتفاق مع الإدارة الحالية ولترسيخ أن هذا الاتفاق التاريخي هو ثمرة نجاح الدبلوماسية، والترويج بأن العقوبات الاقتصادية التي فرضت على إيران لم تجد نفعها، وأن أميركا أوباما هي من بدأت بمد يد المفاوضات لإيران، وحدث ذلك خلال ولاية المتشدد أحمدي نجاد. لكن توفر معلومات حول حقيقة بارسي ومنظمته وتتبع نشاطها القريب مع السلطة في إيران والعديد من الأسماء التي عملت عن كثب حتى توقيع الاتفاق النووي يوفر المعرفة اللازمة حول حقيقة الاتفاق النووي المعيب جدا والمختوم بموافقة إدارة أوباما مع طهران.
كل هذا يدل على ضرورة أن تقوم إدارة ترمب بإصلاح الوكالات التي تتعامل مع إيران، ومعرفة خلفيات العاملين فيها وأجنداتهم وفرض تغييرات جذرية على سياستها تجاه إيران تماما.