مقالات مقالات رأي بحوث ودراسات كتاب الثورة
٢٦ سبتمبر ٢٠١٧
تصحيحاً للمسار المائل ..الحاضنة الشعبية تنتفض على "تحرير الشام"

لم تستطع الجهات الخارجية من تقديم نموذج ايجابي يتناسب والأهداف التي دفعهتا للولوج للساحة السورية، بل ساهمت بتعقيد الملف أكثر فأكثر حد انقلبت الآية في كثير من الأحيان، وتحول المظلوم لعدو عالمي.

جمل التشكيك والتخوين التي هي حاضرة دوماً عند توجيه الإنتقاد لأي جهة في المناطق المحررة، لن تكون مانعاً من كشف حقائق كانت شرارة الثورة، وسبب استمرارها دون أي تنازل عن أي هدف أو مبدأ صغر أو كبر.

لايحتاج الأمر لأمثلة أو مسميات مبهمة، إذ المكاشفة أمر ضروري، فهيئة تحرير الشام، بجميع ألوانها السابقة (جبهة النصرة – فتح الشام) والتي تبنت نهج ومنهج لنفسها، سعت لتحقيقه على حساب نصرة الدين والثورة، فحاربت جميع الفصائل وخلقت اقتتالاً داخلياً كبيراً مع أكثر من 26 فصيلاً، باسم محاربة الفساد والمفسدين وتطهير البيت الداخلي، فحاربت كل من يقف عثرة في سبيل تحقيق مشروعها في تملك بالمناطق المحررة وبناء كيان لايمكن الوقوف في وجهه، فأنهت أكثر من 16 فصيلاً لايبدو أن آخرهم حركة أحرار الشام.

الايهام بالشعارات الدينية نجح نوعاً ما في جذب الحاضنة الشعبية مع تواصل المعارك ضد النظاموحلفاءه، وإزداد الأمر مع قسوة الرد الروسي الذي أقحم نفسه بكامل قوته.

من خلال عملياتها العسكرية التي لايمكن لأحد أن ينكرها ضد قوات الأسد، وعلا صوتها وباتت الحاضنة الشعبية تلتف حولها بشكل كبير، كونهم وجدوا فيها فصيلاً قوياً قادراً على صون حقوقهم ورد الظلم عنهم، إلا أن الأمر ومنذ اكثر من عام تغير بشكل كبير.

صحيح أن الأمور الآنفة لازالت ظاهرة بكل سطوتها ودمويتها، إلا ان الإلتفاف الشعبي شهد تغيراً كبيراً سيما خلال العام المنصرم ولازال مستمر.

التغير له أسبابه ومقدماته، أبرزها نهج تحرير الشام في حرب كل من يهدد كيانها لاسيما فصائل الجيش الحر، وملاحقت أبناء الثورة ونشطائها الأوائل، فهجرت من هجرت واعتقلت من اعتقلت، حتى ملئت سجونها بمئات الثوار والنشطاء لايعلم حالهم إلا أؤلائك القابعون في معتقلات الأسد.

في حين كان الرد أقل حدة اتجاه من يماثلها بالإيدلوجية، وسعت لتهريب القتلة كما حدث في بدايات تنظيم الدولة وظهر بشكل جلّي ابان قضية جند الأقصى.

السيطرة على جميع مقدرات المناطق المحررة، وانتهاجها سياسة الاقصاء لكل المؤسسات المدنية، واغليف تصرفاتها بكيان مدني خاص، لايملك من الإعتراف إلا أؤلائك المشاركين به بشخوصهم.

واستمراراً في ايضاح المخالفات التي وقعت هيئة تحرير الشام فيها، وضح مع تزايد المهجرين لمحافظة إدلب وضيق المخيمات بهم، ولم تكتفي الهيئة بالتغيب عن دورها في المساعدة، بل صعدت من التضييق وفرض الأتاوات على المنظمات الإنسانية.

أمور جمة وكثيرة جعلت الحاضنة الشعبية تتراجع شيئاً فشيئاً وتنفض من حول تحرير الشام، فكثر الناقمين والمتعطشين للثأر من نير الظلم، احتدت الأمور مع غياب أي أفق للمصالحة، مع اعتماد جبهة النصرة أو فتح الشام أو تحرير الشام، على حكم الشريعة التي تكون فيه الخصم والحكم ومنفذ الحكم في آن معاً.

وتعد المعركة الوهمية التي أطلقتها تحرير الشام في ريف حماة الشرقي، و المناوشات "الإنغماسي" في ريف حلب الغربي، الشعرة الاخيرة في العلاقة مع الحاضنة الشعبية، وحولتهم لأهداف دون داع لذلك من مجموعة من الأعداء لا غاية يملكونها إلا ايجاد مبرر يتيح لهم مواصلة القتل.

العجز عن التعبير عن الإنتقاد علناً أو في أرجاء الفضاء الالكتروني خشية الاعتقال، دفع الشعب للتعبير عبر الكتابات على الجدران والتي تصاعدت بشكل كبير لاسيما في المدن الرئيسية بينها مدينة إدلب مركز الثقل الرئيسي لتحرير الشام وقبضتها الأمنية.

ولطالما عول المدنيون في المناطق المحررة على تغير تصرفات وسياسة تحرير الشام تجاه المدنيين والفصائل والحاضنة الشعبية لها، إلا أنها استمرت في عمليات التضييق والاعتقال  دون أي تغير في نهجها وسياستها، حتى وصل الحال لخروج المتظاهرين في مناطق عدة للهتاف ضد تحرير الشام أبرزها معرة النعمان وسراقب ومدينة إدلب ومناطق أخرى، لم يسلم من خرج من الاعتقال.

اقرأ المزيد
٢٥ سبتمبر ٢٠١٧
"كفريا والفوعة" البقعة الأكثر أمناً في إدلب وطائرات روسيا تستبيح دمائنا

تتصاعد حدة الضربات الجوية الروسية على مدن وبلدات ريف إدلب، وتتزايد معها شلالات الدم والدمار والتشريد من جديد، ضمن حملة هستيرية على المحافظة كرد روسي على معركة بدأت فيها تحرير الشام بريف حماة الشمالي ليوم واحد وتوقفت بعد ذلك دون تبريرات عن الأسباب، تاركة المناطق المدنية عرضة لأعتى هجمة من عدو اعتاد على منظر شلالات الدم والدمار.

في كل قوانين الحرب في العالم يكون الهجوم أفضل وسيلة للدفاع، أو على أقل تقدير الضغط وتحقيق التوازن في القتل والرعب والتدمير، لتجبر عدوك على الخضوع ووقف القصف والقتل، من خلال استهدافه مواقع حساسة تصيبه في مقتل، وهذا مالم تستخدمه الفصائل حتى اليوم في ردع الفورة الروسية لقصف المدنيين في إدلب بعد أن تعطش لدماء أهلها لأشهر عدة عاشوها بدون قصف ودماء.

ولعل الأوراق التي تملكها الفصائل في إدلب والتي تستطيع تغيير الموازرين والضغط على روسيا لوقف الحملة كثيرة جداً، من هذه الأوراق هو حلفائها الميليشيات الشيعية المحاصرة في بلدتي كفريا والفوعة، والتي فرغت من غالبية المدنيين فيها خلال عمليات الإخلاء السابقة، وباتت الميليشيات الشيعية تعيش في نعيم من الأمن والأمان بعيداً عن القصف، بعد أن غدا محاصروها هم حماتها الساهرون على أمنها، في الوقت الذي تعيش المدن والبلدات المحيطة بها جحيم القصف والموت اليومي.

طيلة الأيام السبعة من الحملة العسكرية على ريف إدلب لم تقصف الفصائل ولو صاروخاً واحداً على الميليشيات الشيعية في بلدتي كفريا والفوعة، واكتفت ببضع رشقات من الصواريخ على مواقع لقوات الأسد، لم تكن أكثر من إبر مسكن لتهدئة الشارع الغاضب، في الوقت الذي تمنع فيه الفصائل أي استهداف للميليشيات الشيعية والتي لو ضربت بقوة أو شنت حملة عسكرية ضدهم لربما تخفف من الغارات المستعرة على المدنيين.

ولربما يقول قائل بأن الفصائل مرتبطة باتفاق طويل المدى مع الميليشيات الشيعية، نعم هو الوفاء بالعهود، ولكن ... كم عهداً نقصه الروسي وقلبوا الأرض وقتلوا وسفكوا من الدماء ولم يلتزموا بأي اتفاقيات، كذلك إيران وكذلك الأسد، إلا أن الفصائل تلتزم لأن فيه مصلحة لها وفيه منفعة للفصيل على حساب دماء الشعب السوري النازف.

يتساءل الشعب المعذب المستباحة دمائه عن موقف آلاف العناصر المدججين بالسلاح، المعتزين بأنفسهم وسلاحهم، المتبخترين فيه في الساحات والطرقات والأعراس والحفلات، أين هذا السلاح اليوم، وأين أنتم من نجدة المستضعفين والاستجابة لنداء الثكالى والأرامل ..؟، أين أنتم من أنات الجرحى وأوجاع المشردين في المخيمات ...؟، أما آن للصادقين أن يصحوا ويقفوا موقف رجل واحد للذود عن أهلهم والدفاع عنهم ورد الظلم .... آلا نامت أعين الجبناء.

اقرأ المزيد
٢٤ سبتمبر ٢٠١٧
ترامب وإيران… وخدعة الملف النووي

كان خطاب الرئيس دونالد ترامب في الأمم المتحدة ناريا بالفعل، خصوصا في تناوله كوريا الشمالية، التي هدّد بـ”تدميرها عن بكرة أبيها”. مضى زمن لم تلجأ فيه الولايات المتحدة إلى هذه اللغة التي تعبّر في الحقيقة عن شخصية ترامب وإصراره على رفض أيّ تحدّ من أيّ نوع للقوّة العظمى الوحيدة في العالم أكثر من أيّ شيء.


يبقى التصعيد الكلامي شيئا والأفعال على أرض الواقع التي تحتاج إلى اقتران القول بالفعل شيئا آخر. إنه الفارق بين التنظير والكلام الجميل والحماسي من جهة وبين الممارسة من جهة أخرى. هل ترامب الرئيس يختلف عن ترامب المرشّح الذي فاجأ العالم بوصوله إلى البيت الأبيض؟


بعد كوريا الشمالية، لم يوفّر ترامب إيران التي وصف نظامها وقادته بطريقة تشير إلى أن المحيطين بالرئيس الأميركي يعرفون تماما طبيعة هذا النظام. ولكن يبقى أهمّ ما في الخطاب، الربط بين الإرهاب السنّي والإرهاب الشيعي، أي بين “داعش” من جهة والميليشيات المذهبية التابعة لإيران من جهة أخرى. سمّى الرئيس الأميركي “حزب الله” ولم ينس الإشارة إلى نشاطات النظام الإيراني نفسه خارج حدود البلد وإلى إن إدارته غير راضية إطلاقا عن الاتفاق في شأن الملف النووي الإيراني الذي توصلت إليه مجموعة الخمسة زائد واحدا مع طهران صيف العام 2015.


هناك في الواقع ما هو أهمّ من الاتفاق في شأن الملفّ النووي الإيراني الذي تدعو دول عدّة من بينها ألمانيا وفرنسا إلى المحافظة عليه وإن مع بعض التعديلات عليه، كما تقترح فرنسا. أوضح الرئيس إيمانويل ماكرون أن هذه التعديلات يجب أن تأخذ في الاعتبار الصواريخ الباليستية التي تسعى إيران إلى تطويرها. هنا يأتي الربط بين إيران وكوريا الشمالية في مجالي إنتاج الصواريخ والتكنولوجيا النووية. من الواضح أن هذا الربط لم يعد خافيا على إدارة أميركية تضمّ مجموعة من كبار الضباط السابقين الذين عملوا على الأرض في أنحاء مختلفة من الشرق الأوسط.


إضافة إلى ذلك كلّه لم يتجاهل ترامب النظام السوري وخطورته على شعبه أوّلا، خصوصا استخدامه للسلاح الكيميائي في الحرب التي يشنّها على السوريين منذ ما يزيد على ست سنوات. هذا يعني وجود فكرة متكاملة لدى الإدارة عن تلك الشبكة الواسعة التي في أساسها كوريا الشمالية وامتداداتها في إيران وسوريا، وربّما دول أخرى.


كلام الرئيس الأميركي جميل وواقعي. لم يبع الفلسطينيين أحلاما أو تمنيات. تجاهل قضيتهم برمتها، أقلّه في خطابه. يعكس التجاهل مدى تراجع القضية الفلسطينية، علما أن الملك عبدالله الثاني يسعى، كلّما وجد الفرصة المناسبة، إلى تأكيد أهمّية إيجاد تسوية على أساس حلّ الدولتين نظرا إلى أن ذلك سيخدم الاستقرار الإقليمي.


لكنّ موقف ترامب يعكس أيضا نوعا من الصدق، خصوصا أنّه لا ينوي الدخول في أيّ مواجهة مع رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو إضافة إلى أنّه لا يراهن على أيّ تطور في الذهنية الإسرائيلية. يظل رفض ترامب القيام بمثل هذا النوع من الرهانات قمة الواقعية السياسية… علما أنه سعى لاحقا إلى طمأنة رئيس السلطة الوطنية محمود عبّاس (أبومازن) إلى أنّه ما زال مهتما بالتسوية والسلام في الشرق الأوسط كلّه.


من يدقّق في ما قاله الرئيس الأميركي لا يكتشف فقط وعيا وإدراكا عميقين لطبيعة النظام الإيراني الذي يهدّد السلام والاستقرار في المنطقة كما يستخدم الإرهاب في التعاطي مع دول الجوار وأداة لتنفيذ سياساته. ما كان ينقص خطاب ترامب جملة واحدة. هذه الجملة هي الآتية: هل المشكلة في الملفّ النووي الإيراني الذي يعتبره اتفاقا سيّئا وفي حاجة إلى إعادة نظر، أم المشكلة الحقيقية هي في استخدام إيران هذا الملفّ لتغطية سياسات مرتبطة بمشروعها التوسّعي القائم على الاستثمار في الغرائز المذهبية لتفتيت الدول العربية الواحدة تلو الأخرى بواسطة ميليشيات معروفة الطابع والهوية والانتماء والأهداف؟


مرّة أخرى، يظل الكلام الجميل كلاما. في استطاعة الولايات المتحدة تدمير كوريا الشمالية. تمتلك ما يكفي من القذائف لعدم إبقاء حجر على حجر فيها في حال تجرّأت على عمل يمس الأمن الأميركي مباشرة. لكنّ الموقف من إيران التي تتصرّف كدولة تعتقد أن المسؤولين في العالم العربي مجموعة من السذّج، موقف مختلف.


باتت إيران جزءا لا يتجزّأ من كلّ مشروع يهدف إلى تدمير المجتمعات العربية عن طريق ميليشيات مذهبية تحلّ مكان مؤسسات الدولة. يكاد لبنان، مثلا، أن يصبح رهينة لدى “حزب الله”. هناك ميليشيا لبنانية تابعة لإيران لا تكتفي بممارسة ضغوط على الحكومة اللبنانية، بل إنّها لا تقيم أيّ اعتبار للحدود التي تفصل بين لبنان وسوريا. هل يدرك ترامب معنى ذلك على مستقبل لبنان وسوريا في آن؟ لم يعد في استطاعة أيّ مسؤول لبناني، باستثناء عدد قليل من السياسيين، تسمية الأشياء بأسمائها والقول ما هو مفترض به قوله عن خطف “حزب الله” الطائفة الشيعية في لبنان وهو في صدد خطف لبنان كلّه. يمكن أن يحصل ذلك في أيّ وقت لولا وجود مقاومة حقيقية له من داخل الطائفة الشيعية نفسها ومن المجتمع اللبناني الذي لا يزال متمسّكا بثقافة الحياة بديلا من ثقافة الموت التي تصبّ في حماية المصالح الإيرانية ولا شيء آخر.


المشكلة مع إيران ليست محصورة في الملفّ النووي، بل ليست في هذا الملف ولا حتّى في الصواريخ الباليستية. حسنا، حصلت إيران على القنبلة النووية. ما الذي ستفعله بها؟ تظل الميليشيات المذهبية التابعة لإيران أخطر بكثير من القنبلة النووية ومن الصواريخ الباليستية. غيّرت هذه الميليشيات طبيعة العراق. غيّرت طبيعة بغداد وغيرت البصرة ودمّرت ميليشياتها المسمّاة “الحشد الشعبي” مدينة الموصل، بدعم أميركي للأسف الشديد، بحجة أنّها في حرب مع “داعش”.


يمكن الكلام طويلا أيضا عن الدور الإيراني في سوريا وعن تدمير المدن السنّية الواحدة تلو الأخرى، وعن مدى ارتباط إيران بالأحداث اليمنية والميليشيا الحوثية المسمّاة “أنصار الله”، وسعيها في مرحلة معيّنة إلى استخدام “حماس”، ليس من أجل قطع الطريق على أيّ تسوية سلمية فقط. استخدمت إيران “حماس” ودفعتها إلى لعبة العمليات الانتحارية التي لم تستفد منها إلّا إسرائيل واستخدمت “حماس” في لعبة أخرى اسمها دعم الإخوان المسلمين في مصر!


لا شكّ أن الخطاب الأخير لدونالد ترامب، وهو الخطاب الأوّل له أمـام الجمعية العمومية للأمم المتحدة، كان خطابا مدروسا. ركّز على ما يؤمن به الرجل بالنسبة إلى “أميركـا أوّلا” و”سيــادة الدول”. قال الأشياء كما يجب أن تقال من دون عقد، مع مراعاة زائدة لروسيا والصين. ولكن ماذا بعد ذلك، هل من تابع للخطاب أو ملحق له؟


لعلّ السؤال الذي سيطرح نفسه عاجلا أم آجلا، هل يمكن للإدارة الأميركية بلورة سياسة واضحة تجاه الشرق الأوسط عموما وإيران بالذات؟ سيتوقف كلّ شيء على بلورة مثل هذه السياسة. تعني هذه السياسة أوّل ما تعني الموقف الواضح من النظام السوري وضرورة إخراج إيران من سوريا التي ترمز إلى الدور الذي تلعبه الميليشيات المذهبية التابعة لإيران في غير اتجاه، خصوصا في اتجاه لبنان والعراق. هذه الميليشيات هي السلاح الإيراني الواجب انتزاعه قبل التفكير في إعادة فتح ملفّها النووي الذي يظل خدعة، ساهمت إسرائيل في تسويقها، أكثر من أيّ شيء آخر…

اقرأ المزيد
٢٤ سبتمبر ٢٠١٧
هيبة محافظ إدلب

الأمور المضحكة قلما تحصل في الطبقات العليا للنظام الديكتاتوري، أعني القصر الرئاسي، والشُّعَب المخابراتية، والقيادة العليا لضباط النخبة. السببُ أن هذه المؤسسات تُحيط نفسها بطبقاتٍ كتيمة، لا يستطيع أبناءُ الشعب، و(العوام) اختراقها.. ومعلومٌ أن المواقف الفكاهية لا تَحْدُثُ إلا في أثناء الاختلاط والمواجهة، حيث يظهر التباينُ في الطباع والتفكير، ويعلو الضحك. ولعل الأماكن القليلة التي تشهد مواقف طريفة، في بعض الأحيان، هي المداخل الرئيسية لهذه الأماكن، ففي ذات يوم، حضر رجلٌ تبدو عليه علائم الغفلة و"الدروشة" إلى القصر الرئاسي، وطلب من عناصر الاستعلامات مقابلة القائد حافظ الأسد، فضحكوا منه، وقالوا له: يا غبي، حافظ الأسد مات من زمان. فانصرف محوقلاً، وعاد في اليوم التالي، وكرّر طلبه، وكرّروا الجواب. وفي اليوم الثالث، بمجرد ما وصل، اعتقلوه، ووضعوه ضمن الدولاب، وشرعوا يضربونه ويسألونه عن سر هذه الزيارات المشبوهة، فاعترف لهم بأنه يفعل ذلك لأن عبارة (حافظ الأسد مات) تُطْرِبُه! .


أما في طبقات الحكم الأدنى، فالحكايات المضحكة كثيرة جداً، منها أن رجلاً يتمتع بذكاء متوسط، وشخصية ضعيفة، عَيَّنَهُ حافظُ الأسد محافظاً على إدلب التي كان يكرهها طوال سنيّ حكمه، ثم أورث كراهيتها لولديه بشار وماهر. وكان ذلك المحافظ يلتقي، في أوقات فراغه، بأشخاصٍ من أهل المدينة يحبّهم ويقرّبهم منه، ويثق بهم، وطوال السهرة يحكي لهم عن الذل والإهانات التي يتعرّض لها في أثناء عمله. وفي إحدى السهرات، أسَرَّ لهم بأنه لولا الخوفُ من أن تجعلهم استقالتُه يرتابون منه، ويغضبون عليه، ويعتبرونه متخاذلاً، ساقطاً على دروب النضال، لاستقال وترك لهم الجَمَل بما حمل.. وقال: تصوّروا، إنني أرفعُ طلباً لتنفيذ مشروع خَدَمي حيوي، فلا يأتيني الرد من رئاسة مجلس الوزراء إلا بعد شهور، ويأتي فيه أن هيئة تخطيط الدولة لم توافق، لأن الخطة الخمسية لا تتضمن مثل هذه المشاريع، فإذا حكيتُ، في اجتماع المحافظين الشهري، عن معاناتي، ونَقْص المشاريع والخدمات في محافظتي، يتذمرُ الوزراءُ والمسؤولون الكبار ويقولون لي: شو؟ يعني ما في عندنا غير محافظة إدلب؟ وفي إحدى المرات، ارتكبتُ خطأ لا يمكن أن يرتكبه محافظٌ عاقل، إذ لعب بعقلي صحفي متمرّن، وجعلني أتحدث بصراحة، فقلت إن ثمة أشخاصاً في القيادة (فوق) لا يريدون الخير لمحافظة إدلب. وفي أول سفرة إلى دمشق، وبينما أنا أسير في أحد أروقة وزارة الإدارة المحلية، إذ شعرتُ بضرورة الدخول إلى الحمام، وما إن دخلت حتى تناولني رجل يشبه البغل من ياقتي، وأسند رجل آخر شبيه بالديناصور البابَ بجسمه لئلا يُفتح، وقال لي: اسمع يا محافظ إدلب، معلمنا اللواء فلان يسلم عليك، ويقول لك إذا لم تسحب الكلام الذي تفوهت به للجريدة التافهة وتعتذر عنه فالأمر سيكلفك كثيراً.. 


اعتذر المحافظ، بالطبع، عن غلطته، عبر الصحيفة نفسها، للشعب السوري، وللقيادة الحكيمة، وقال إنه بنى الآراء التي نشرها في الصحيفة على معلوماتٍ تبين أنها غير دقيقة! وأوضح أن محافظة إدلب، على عكس ما جاء في التصريح الصحفي، تنعم بالخير العميم، بل إن عطاءات القائد الكبير توشك أن تطمرها. ومن يومها، تسلطت عليه الدوريات الأمنية، وأصبحت مثل مكوك الحايك، دورية رايحة ودورية غادية، وكل واحد من أفرادها يطلب لنفسه مكاسب وأعطيات، وفوقها يوجّهون له عباراتٍ عامرةً بالتوبيخ والاستهزاء.


وضحك السيد المحافظ وقال لأصدقائه: وفوق كل هذه البهدلة والشرشحة، حضر إلى مكتبي البارحة مختار إحدى القرى، وطلب مني أن أزوره في القرية، ليراني الناس في ضيافته، ويصبح هو ذا هيبة وسلطة باعتبار أنه "صديق المحافظ". هههه قال هيبة قال. علي الطلاق بالأمس كان فيه شباب واقفين بالحارة، ومرّيت من قربهم، وواحد منهم همَّ بالوقوف، فقال له زميله: اقعد لا تقف وتتعب حالك، هادا المحافظ.

اقرأ المزيد
٢٤ سبتمبر ٢٠١٧
"أستانة" ومشروع واشنطن في سورية

لا يمكن تجاهل الجولة السادسة من المحادثات السورية في العاصمة الكازاخستانية أستانة، والتي يمكن وصفها بأنها أنجح لقاء يجري خلال الست سنوات من المأساة السورية، فهي المرة الأولى التي تخرج فيها كل الأطراف المجتمعة بتوافق كامل، بمن فيهم الطرفان السوريان (نظام وفصائل عسكرية معارضة). والواضح أن اتفاقية إقامة مناطق خفض التوتر في سورية، التي نتجت عن محادثات أستانة بجولتها السادسة، قلبت جميع الحسابات رأسًا على عقب، ولا سيما الأميركية والمليشيات الانفصالية التي تدعمها.


لم يعد يخفى على أحد عزم واشنطن دعم المجموعات التي تطلق عليها اسم "قوات سورية الديمقراطية"، للسيطرة على خط عفرين – إدلب، في تكرار السيناريو نفسه، عندما سلمت تل أبيض وعين العرب ومنبج للامتداد السوري لحزب العمال الكردستاني، المصنف إرهابيا في تركيا وحلف شمال الأطلسي (الناتو)، بعد طرد تنظيم داعش الإرهابي من تلك المناطق. إلا أن اتفاق الدول الأربع المشاركة في محادثات أستانة السورية (روسيا، تركيا، إيران، سورية النظام والمعارضة العسكرية)، فوّت الفرصة على الولايات المتحدة الأميركية من أجل تكرار تنفيذ هذا المخطط.


ويسود ترقب بأن تؤدي مبادرة موسكو (مناطق خفض التصعيد) إلى وقف إطلاق نار طويل الأجل، وبدء إصلاح سياسي شامل. وقال مبعوث الرئيس الروسي الخاص إلى سورية، ألكسندر لافرينتيف، لكاتب هذه السطور، بعد نهاية الجولة الثالثة من محادثات أستانة، "إن المشكلة سابقا كانت في أن المجموعات المعارضة السورية التي كانت تسيطر على مساحة كبيرة من الأراضي السورية مستبعدة من الحوار، ومن مناقشة العملية السورية، سواء في لوزان أو جنيف وغيرهما من المدن التي شهدت محادثات حول سورية". وأشار إلى "نجاحات حققناها بفضل اتفاق وقف إطلاق النار الذي تم التوصل إليه بين الرئيسين، الروسي فلاديمير بوتين والتركي رجب طيب أردوغان، واستطعنا أن نشكل محادثات أستانة التي تقوم بالعمل المباشر مع من يسيطر على الأرض في سورية، ويتحمّل المسؤولية عن الناس المسالمين والمدنيين في هذه المناطق".


وفي هذا السياق، هناك ثلاثة أمور جديدة قدّمتها محادثات أستانة: الأول إنها المرّة الأولى التي تشارك فيها الفصائل العسكرية مباشرة في حوارٍ يهدف إلى حل الملف السوري، وفي ذلك دلالة مهمّة على نتائج المفاوضات، لأن هذه الفصائل العسكرية المعارضة هي أولاً وأخيراً صاحبة القرار على الأرض، وهي المعنية أكثر بالوضع السوري. الثاني أن وجود العسكريين وقادة الفصائل في أستانة يدل على أن الحوار ممكن بين أطراف القرار وأصحاب الكلمة الذين يجلسون للمّرة الأولى على طاولة واحدة، وبشكلٍ مباشر، وجهاً لوجه. الثالث أن المفاوضات ستجري في محفل دولي بعيد عن العواصم الأوروبية، وليس كما العادة في جنيف أو فيينا مثلا، ولهذا الأمر دلالات كثيرة، وعلاقة بنظرة الجانب الروسي، ورغبة بوتين برسم خارطة سياسية جديدة للعالم.

 

وقد شكلت محادثات أستانة امتحانين لروسيا. الأول لجدّيتها بإنهاء "النزاع السوري"، وإيجاد حل من خلال عملية أستانة. والثاني لمدى تأثيرها على حلفائها داخل سورية، وهذا امتحان لا بد أن يمر عبر الامتحان الأول، لأن قدرة روسيا بالتأثير على حلفائها داخل سورية ترتبط بمدى جدّيتها بالوصول إلى حل للوضع في هذا البلد. وفي المحصلة، إذا انهارت عملية أستانة، ستقع اللائمة على روسيا، اللاعب الأكبر، وسيؤخذ على موسكو أنها لم تؤثر في حلفائها على أكمل وجه.


بعد أن لعبت روسيا دوراً عسكرياً في قلب موازين القوى على الساحة السورية، دخلت أيضاً على خط التسويات والمفاوضات السياسية، وسط غياب غربي أميركي فاعل، وآخرها إعلان الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، وقف دعم المعارضة السورية العسكرية، الأمر الذي اعتبره كثيرون تسليم ملف سورية تماماً للقبضة الروسية، بل ذهب سيناتورات ومسؤولون أميركيون إلى اعتبار ذلك "خطراً يمسّ المصالح الأميركية برمتها في الشرق الأوسط".


وتتزايد تدريجيا مناطق "خفض التصعيد"، المبادرة الروسية التي تم الاتفاق عليها في أستانة في مايو/ أيار الماضي، في أكثر من منطقة سورية. وإذا نظرنا بشكل آخر، نرى أن المنابر التي تجري فيها محادثات دولية بشأن سورية كانت بمبادرة روسية، من جنيف وصولاً إلى أستانة، ولا يمكن إغفال حقيقة اختلاف نظرة كل من موسكو وواشنطن للحل في سورية. فالروس يؤكدون حرصهم على وحدة أراضي الجمهورية العربية السورية، في حين أن طريقة واشنطن في التعامل مع هذا الملف، منذ البداية، تثير تساؤلاتٍ كثيرة، وليس آخرها اختيارهم مجموعة انفصالية ودعمها، بدلاً من المعارضة التي تصفها بالمعتدلة.


يبقى القول إن مناطق خفض التوتر، المستفيد منها هو المواطن السوري، فقوات النظام، مع الدعم الروسي وضعف القوى المعارضة، بالإضافة إلى تشتتها، تجعل أي معركة قادمة بينهم معروفة النتائج مسبقاً، كما قد تكون هناك إيجابية أخرى لاتفاق خفض التصعيد، وهي إنقاذ بعض تلك المناطق من تقدّم المليشيات الانفصالية والسيطرة عليها، بعيدا عن إرادة الفريقين السوريين (نظام أو فصائل)، أو حتى سكانها الأصليين.

اقرأ المزيد
٢٤ سبتمبر ٢٠١٧
ما لم يقله السوريون لأميركا

خلال التصفية نصف النهائية لبرنامج America’s Got Talent الشهير، حيث تتنافس المواهب الفنية والإبداعية على نيل الجائزة الكبرى في تصفيته النهائية وقيمتها مليون دولار، إلى جانب الجائزة المعنوية الأكبر وهي دخول نادي المشاهير وما سيجلب هذا الموقع للفائز من عروض سخية ستشكل حكماً منعطفاً استثنائياً في حياته وحياة عائلته ومحيطه، في تلك التصفية ذهبت أصوات الجمهور الأميركي، الذي هو الحكم الأول والأخير من خلال استعمال آلية التصويت الالكتروني على تطبيقات البرنامج، إلى متسابقين أثبتوا أنهم على مستوى استثنائي من قوة الحضور والتأثير الشعبي العام، حيث انتقلت إلى التصفية النهائية صبيّتان في مقتبل العمر تحملان مؤشرات إنسانية فوق عادية تتفوق إلى حد كبير على ما قدمتاه من أداء غنائي كان لهما فيه منافسون أقدر على الاستمرار إلى الحلقة الأخيرة من التصفيات.


أما الصبيّة الأولى الفائزة بالتصويت الشعبي فهي الناجية الوحيدة من حادث تحطم طائرة مدنية في الولايات المتحدة قبل سنوات قليلة، قتل فيه كل ركابها، وهم بمعظمهم زملاؤها في المدرسة وقد استقلوا الطائرة ذاتها في تلك الرحلة الطلابية المشؤومة. وعلى رغم الحروق الجلدية البليغة على الوجه والساعدين والساقين التي خلّفها سقوط الطائرة وانفجارها حين ارتطمت بالأرض على جسد تلك الصبية، فإن إصرارها على الحياة، بل وإيمانها بطاقة الروح التي تضاهي في لمعتها الكمال الجسدي وتغلبه في معظم الحالات، جعلتها تقف بهيبة الكبرياء، وبلا وجل، أمام ملايين المتابعين على الشاشات في بث مباشر من هوليوود وهي تغني بما يشبه تراتيل القيامة التي نحفظها من شعر محمود درويش: إنني عدت من الموت لأحيا وأغني!


الفائزة الثانية كانت عازفة ومغنية صماء تماماً، تتعامل مع الموسيقى بالحس والتخاطر، تغني ولا تسمع أغنيتها، تردد المقامات اللحنية بقلبها وفطرتها، وتتناغم مع الموسيقى من خلال إرادة استثنائية على التواصل مع محيطها ولو كانت محجوبة عنه بعازل الصمت.


كلتا الصبيتين حازتا تأييد الأغلبية في التصويت الجماهيري العام، وفازتا بمنطق تفوق رهافة الحسي الإنساني على صرامة المحسوس الفيزيائي وقد غدا معياراً عتيقاً ينتمي إلى الماضي، نسبة إلى الجيل الأميركي الجديد ومفاهيمه ما بعد الحداثوية.


السبب في سوقي هذا المشهد الرمزي من الحياة الأميركية يقع في عمق علاقتنا نحن السوريين في تفنيد السبل التي سلكناها لنقل وتسويق قضية الحرية والعدالة والكرامة الإنسانية التي نحملها عبر العالم، وبالأخص إلى عاصمة من عواصم القرار العالمي: واشنطن.


من المؤسف أن التشكيلات السياسية والمدنية السورية المعارضة التي كان من المفترض أن تحمل الصوت السوري إلى العالم وتبتكر الأدوات المناسبة لتوصيله بما يتماشى مع طبيعة المجتمعات الغربية التي تخاطبها، وهي مجتمعات ديموقراطية بعامة، ذات تركيبة سياسية أفقية، ولا سيما في الولايات المتحدة حيث يشكل الرأي العام الشعبي الدينامو المحرك لحكومتها الفيدرالية وأداة للضغط عليها هي الأجدى في تحديد سياساتها الداخلية والخارجية في آن، من المؤسف أن الفهم لدى تلك التشكيلات بدا قاصراً عن استيعاب فكرة حتمية التعامل مع القاعدة الشعبية الأميركية والمواطن الأميركي العادي بالدرجة الأولى، وهو الذي يرحّب بفطرته بالحركات الثورية والتحررية في العالم، وينتصر لها ويحتضنها. غير أن التواصل على مدى سنوات ست انحصر على الحكومات والمسؤولين التنفيذيين فيها، وهم عادة ما يتغيرون بشكل متسارع في الأنظمة الديموقراطية حيث لا يبقى المسؤول الحكومي في منصبه لفترة طويلة ويتم تداول المنصب باستمرار تلافياً لتغليب المصلحة الفردية والعلاقات الخاصة التي تنسج من خلال المركز الوظيفي المستدام. أما التواصل مع الشعب الأميركي أو حتى ممثليه في الكونغرس فكان ضعيفاً إلى حد الانعدام في معظم الحالات. والأفدح من هذا كله أن هذا الأداء الساذج لم يتغير مع دخول الثورة السورية الماجدة عامها السابع، ومع تحوّل مسمياتها والتعتيم على معانيها الأصيلة إلى أن حملت اسم «الأزمة» في قواميس البعض من أطراف المعارضة.


بالطبع، التوجُّه إلى الشعوب يحتاج إلى خبرة ودراية من عاش بينها، وانفتح على ثقافتها، وعرف لغتها بالأبجديتين: اللسانية والسياسية. فالجالية الأميركية السورية، تلك التي انخرطت من بعد لكن بمصداقية وقوة في تيار التغيير الديموقراطي السلمي منذ البدايات، لم تعطَ الفرصة أو الموقع لنقل الصورة إلى مطبخ القرار وطبّاخيه الأساس من الشعب الأميركي بمؤسساته المدنية العريضة الطيف. وعلى رغم أن العديد من مثقفي الجالية وناشطيها لم يكونوا لينتظروا تكليفاً من أحد للقيام بواجبهم تجاه أرضهم الأم وشعبهم الجريح، فإنهم لم ينالوا يوماً احتضاناً حقيقياً من منظومات المعارضة التي اقتصرت على التحالفات المرحلية العابرة مع الحكومات نفسها التي تخذلها وتتنكر لها اليوم.


وإثر الضربة التي وجهتها واشنطن للنظام السوري في موقع تحميل المواد الكيماوية الضاربة في مطار الشعيرات، والتي توقعنا أن تشكل تغيراً استراتيجياً عن نهج حكومة أوباما في إدارة الملف السوري، حدث ما كان صادماً لنا من انكماش الدعم الأميركي للنشطاء والمعارضة السياسية، وسحب السلاح من أيدي المعارضة المعتدلة، وترك الدفة للرياح الروسية.


مشهد الفائزتين أعادني إلى لب المشكلة: نعم، لقد فشلنا في فهم هذا التحول الدرامي في الذهن الشعبي الأميركي في القرن الحادي والعشرين. فبعد أن كان في بدايات ومنتصف القرن الفائت يمجّد القوة والكمال والثراء، نراه اليوم في أعلى حالات تعاطفه مع المظلومية وحالات الإعاقة والفقر، منتصراً للضحية وليس للجلاد. ولو أننا تمكنا من طرح قضيتنا في مقوماتها الإنسانية وليس السياسية وحسب، لكان لدينا اليوم مخزون بشري من الداعمين الأميركيين يضغطون على الزر ليصوتوا بـ «نعم» للإنسان السوري.

اقرأ المزيد
٢٤ سبتمبر ٢٠١٧
النظام السوري والكرد.. صدام أم توافق؟

مع تسابق قوات النظام السوري وقوات سوريا الديمقراطية (قسد) إلى السيطرة على دير الزور تحت شعار واحد هو استعادة المدينة من تنظيم الدولة الإسلامية (داعش)؛ ثمة سؤال جوهري يطرح نفسه هو: كيف سيكون شكل العلاقة بينهما في اليوم التالي لاستعادة المدينة؟


لعل السؤال السابق يشكل الامتحان الأصعب لعلاقة الطرفين التي طالما ظلت في إشكالية تتراوح بين الدور الوظيفي لها في سياق مراحل الأزمة السورية، وبين وجود مشروعين متناقضين على أرض الواقع لاختلاف رؤية كل طرف لمستقبل البلاد، ولا سيما في ظل إصرار الكرد على الفدرالية كنظام للحكم ورفض النظام والمعارضة معا لذلك.

 

التحالف الوظيفي إلى أين؟


منذ البداية، بدا وكأن ثمة تفاهم بين النظام السوري والكرد، وبشكل أدق حزب الاتحاد الديمقراطي وجناحه العسكري وحدات حماية الشعب ولاحقا قوات سورية الديمقراطية.


فعلى وقع اشتداد المعارك في حلب وحمص والجنوب؛ سحب النظام قواته من المناطق الكردية بغية التفرغ لهذه المعارك، فتسلمها حزب الاتحاد الديمقراطي وسارع إلى تشكيل إدارة ذاتية أنيطت بها مهمة إدارة العلاقات بين مكوناتها، وفق خطاب تجاوز البعد القومي إلى تنظيم كافة المكونات الاجتماعية في معركة حملت شعار مكافحة الإرهاب.

 

وهكذا تفرغ النظام لمحاربة الفصائل المسلحة التي رفعت شعار إسقاطه وتغاضى عن "الخطر الكردي" مرحليا في إطار إستراتيجية بعيدة المدى تبقي على النظام، بينما تفرغ الكرد لمحاربة "داعش" فكانت المحطة الأهم في هذا السياق هي معركة كوباني التي نقلت الكرد إلى مرحلة جديدة على صعيد التحالفات.


فقد كانت هذه المعركة بداية افتراق سياسي بين الكرد والنظام لصالح دخول الكرد في تحالف مع الولايات المتحدة الأميركية التي وجدت فيهم حليفا موثوقا به لمحاربة "داعش"، وترسيخ نفوذ واشنطن داخل الساحة السورية في إطار الصراع مع الروس على النفوذ وأوراق القوة، لا سيما بعد التدخل العسكري الروسي في سوريا.


وعلى وقع هذه التطورات؛ بدا أن العلاقة الأمنية السابقة لم تعد قادرة على تأطير الجوانب الأمنية والعسكرية والسياسية والاقتصادية للعلاقة، خاصة أن الكرد اتجهوا -بجانب تحالفهم مع أميركا- إلى نسج العلاقات مع الروس والأوروبيين وغيرهم، كما بدأت أذرعهم العسكرية في الصعود دون الصدام مع النظام إلا في حدود معينة.


وهكذا حملت العلاقة الوظيفية السابقة بداخلها مشروعين متناقضين، وبات كل طرف ينظر إلى الآخر بوصفه مصدر خطر على مشروعه المستقبلي ما لم تحدث تطورات سياسية خارج المألوف؛ فالنظام يجد اليوم نفسه أمام واقع كيان كردي من الصعب عليه القبول به لأسباب أيديولوجية وسياسية، ومخاوف مستقبلية من ولادة دولة كردية مستقلة في المنطقة، ولا سيما في ظل إصرار كرد العراق على استفتاء يحدد مصير الإقليم بالاستقلال.


وفي المقابل، فإن حزب الاتحاد الديمقراطي -الذي يجيد بناء التحالفات والدخول في المحاور مع خوض القتال عبر جناحه العسكري- يجد أنه من المستحيل العودة إلى المرحلة السابقة، وأن سوريا المستقبل لا يمكن أن تكون دولة مركزية، وبالتالي لا تَراجع عن مطالبته بالنظام الفدرالي بوصفه الأنسب لإدارة الحكم في البلاد.

 

تحولات على وقع الميدان


في الواقع، يمكن القول إن التطورات الميدانية أفرزت واقعا جديدا في العلاقات بين النظام والكرد على شكل افتراق في الأهداف وتضارب في الأولويات؛ فسيطرة النظام على حلب مكنته لاحقا من التوجه نحو الحدود الأردنية والعراقية بدعم من روسيا وإيران وحزب الله.


وعلى وقع هذا التقدم بات النظام يعتقد أن باستطاعته استعادة السيطرة على كافة المناطق التي خسرها بما في ذلك المناطق التي سيطر عليها الكرد، خاصة أن اتفاقات وقف إطلاق النارالتي تتم بين الروس والأميركيين تمنحه إمكانية مواصلة عملياته العسكرية باسم مكافحة الإرهاب.

 

وفي المقابل، فإن قوات سوريا الديمقراطية سيطرت -بدعم أميركي مباشر- على العديد من المناطق الشمالية والشرقية، ونجحت في ربط هذه المناطق جغرافياً على شكل كيان يتشكل خطوة خطوة، وهو الأمر الذي هيأ لها الأرضية لخوض معركة الرقة ومن ثم إعلان معركة الريف الشرقي الجنوبي لمحافظة دير الزور، انطلاقا من بلدة الشدادة التي كانت معقلا لـ"داعش" في محافظة الحسكة.


ولعل السمة البارزة لهذه التطورات كانت سرعة وصول إلى ضفاف الفرات من جهة، ومن جهة ثانية بروز محورين متناقضين بشكل واضح هما: النظام في المحور الروسي/الإيراني، والكرد في المحور الأميركي. ويتصارع المحوران على منطقتيْ نفوذ، حيث يسعى كل طرف إلى بسط سيطرته على أوسع منطقة جغرافية ممكنة، ومنع الطرف الآخر من التمدد وقطع الطريق أمامه مستقبلا إذا ما قرر ذلك.


ولبلوغ العلاقة بين الجانبين هذا المستوى من الحساسية مجموعة من الأسباب المتداخلة؛ فبالنسبة للنظام تبقى قوات "قسد" ممثلا لمجموعة قومية مختلفة لها مطالب تثير مخاوف مستقبلية خاصة في ظل التواصل الكردي خارج الحدود، كما أن تحالف الكرد مع واشنطن يثير مخاوفه من وجود أميركي طويل الأمد في شمال شرقي البلاد، خاصة أن الإدارة الأميركية أقامت العديد من القواعد والمراكز العسكرية في هذه المناطق.


وفي النهاية يعتقد النظام أن ما جرى على صعيد العلاقة مع الكرد -ولا سيما في البداية- كان بتخطيط منه، وأنه يستطيع إعادة الأمور إلى ما كانت عليها حال الانتهاء من الفصائل المسلحة المطالبة بإسقاطه. ولعل هذا ما يفسر وصف فيصل المقداد (نائب وزير الخارجية السوري) قبل فترة هذا الوضع بالمزحة، وذلك عند سؤاله عن الانتخابات التي ينوي الكرد تنظيمها في مناطق سيطرتهم.


أما الكرد فإنهم -وانطلاقا من عناصر القوة التي امتلكوها وتحالفهم مع الإدارة الأميركية وجملة المعادلات التي تؤثر في الأزمة السورية- باتوا يعتقدون أن النظام لم يعد قادرا على فرض شروطه عليهم، وأنه لا مجال للعودة إلى الوراء، دون أن يعني ما سبق عدم حرصهم على تجنب الصدام مع النظام.


الامتحان الأصعب للطرفين


مع تسابق النظام والكرد إلى السيطرة على أكبر مساحة من محافظة دير الزور؛ ثمة ملامح مرحلة فاصلة ترسم على ضفاف الفرات على شكل امتحان سيكون الأصعب لعلاقة الطرفين، ولعل السؤال الملح هنا يتعلق بالسيناريو الذي سينطلق في اليوم التالي لتحرير المدينة من "داعش". وإلى حين قدوم تلك اللحظة؛ يجري الحديث عن جملة سيناريوهات لعل أهمها:


1- سيناريو الصدام: وينطلق أصحاب هذا الرأي من أن النظام بات -بدعم من حليفيه الروسي والإيراني- يتحدث ويتصرف بمنطق المنتصر، فيؤكد أنه لن يتوقف عند حدود دير الزور بعد السيطرة عليها وإنما سيتجاوز نهر الفرات ليتجه شرقا، حتى ولو أدى ذلك إلى صدام مع قوات "قسد".

 

وذلك في ظل اعتقاده أن الإدارة الأميركية -التي رفعت شعار أولوية محاربة "داعش" دون إسقاط النظام- ستراجع حساباتها الكردية، على وقع نتائج معركة الرقة والحسابات الإقليمية المرتبطة بالحليف التركي، وأن الوهم الذي امتطاه الكرد سينقلب عليهم ما لم يعودوا عنه. ومثل هذا السيناريو يعني مواجهة حتمية سيخوضها الكرد الذين لن يجدوا ما يخسرونه في معركة وجودهم القومي.


2- سيناريو التوافق: ويستمد هذا السيناريو مشروعيته من أن اللاعبيْن الأميركي والروسي لن يسمحا بالصدام، وأن هناك مساحة كبيرة للتفاهم في إطار جديد لتوزيع الأدوار ومناطق النفوذ والسيطرة، خاصة أن مثل هذا التوجه ينسجم مع مجمل السلوك الأميركي والروسي في مراحل الأزمة السورية.


ويقوم هذا السيناريو أساسا على شكل الحل السياسي الذي ينتظر الأزمة السورية، وهو في عناوينه العامة يقوم على إيجاد حكم لا مركزي يسمح للإدارات الذاتية بشكل من أشكال الحكم المحلي، وهو ما سيضمن للكرد إطارا من المشاركة المحلية في الحكم. لكن مثل هذا السيناريو لا ينفي إمكانية حصول مواجهات محدودة في مناطق حساسة بغية تعزيز النفوذ والدور.


وفي الواقع، إذا كانت محافظة دير الزور تشكل امتحان العلاقة بينهما فإن العامل الذي يعمل عليه كل طرف لفرض موقفه هو المكوِّن العربي في هذه المنطقة، وعليه يمكن فهم السعي النظام الحثيث إلى تشكيل جبهة من القبائل العربية لمواجهة التطلع الكردي وخرق البنية الاجتماعية لمناطق الإدارة الذاتية.


وفي الوقت نفسه؛ يسارع الكرد إلى فرض الوقائع وخلق معطيات جديدة على الأرض عبر تشكيل مجالس عسكرية ومدنية في المناطق التي يسيطرون عليها، تطلعا إلى تجيير التطورات لصالحهم في المستقبل.


ومن دون شك، فإن العلاقة بين النظام والكرد دخلت مرحلة حساسة يبدو أن سيناريو كل من الصدام والتوافق حاضر فيها بقوة، ولا سيما في ظل توجه الكرد إلى اتخاذ مجموعة من الخطوات التي تعزز المزيد من الانفكاك عن النظام، وفي مقدمة هذه الخطوات سلسلة الانتخابات التي تعتزم الإدارة الذاتية إجراءها في الأسابيع والأشهر المقبلة.

اقرأ المزيد
٢٣ سبتمبر ٢٠١٧
لماذا فرض على تركيا دخول الأراضي السورية

رفضت تركيا التدخل في سوريا منذ بدء الحرب في سوريا، مفضلة بدلا من ذلك العمل من زوايا دبلوماسية أو دعم وكلاء لها على الأرض. لكن بعض القوى غير المرئية ما تزال تدفعها إلى التدخل هناك، مثلما فعلت تماما على مدى قرون قبل أن تنشأ تركيا، وحتى في وقت الصراع بين البيزنطيين والعثمانيين. ويبدو أن الأتراك لم يعد بإمكانهم أن يقاوموا، ذلك أن أمنهم يتطلب نهجا أكثر مباشرة.

المناطق الآمنة وفراغ السلطة

بدأت القوات التركية تحتشد على الحدود الجنوبية الغربية مع سوريا الأسبوع الماضي. وقد أرسلت ما يصل إلى 80 مركبة عسكرية، تضم عددا غير معروف من الدبابات وشاحنات المساعدات الطبية، إلى ولاية هاتاي التي تبعد حوالى 30 ميلا عن الحدود. وذُكر أن قافلة أخرى تتكون من عدد غير محدد من المركبات العسكرية أرسلت إلى منطقة أخرى في هاتاي، على بعد ميلين فقط من الحدود السورية، كما شوهدت مجموعة ثالثة من 20 مركبة عسكرية بالقرب من الحدود عند معبر باب الهوى في سوريا، على بعد حوالي 7 أميال من الريحانية.

قد تبدو هذه التحركات عديمة الضرر في حد ذاتها، فمن الطبيعي لتركيا أن تنقل الجنود والعتاد حول حدودها اعتمادا على المكان الذي تعتقد أن التهديدات قد تظهر فيه. ولكن السياق هو كل شيء، وسياق عمليات الانتشار تلك ليس اعتياديا. في 15 سبتمبر/ أيلول، وافقت تركيا وإيران وروسيا في أستانا على إنشاء منطقة آمنة في محافظة إدلب السورية، إلى الغرب من حلب. وذكرت الأنباء أن الدول الثلاث اتفقت على تقسيم المحافظة إلى ثلاث مناطق. وفي اليوم نفسه، أفادت صحيفة تركية مقربة من الحكومة أن 25 ألف جندي تركي يستعدون للانتشار في محافظة إدلب، بهدف السيطرة على منطقة تبلغ مساحتها نحو ألفي ميل (5 آلاف كيلومتر مربع) يعيش فيها أكثر من مليوني نسمة.

حتى الآن، اختارت تركيا البقاء بعيدا عن المعركة في سوريا بقدر ما تستطيع. وكان الاستثناء الرئيس هو عملية درع الفرات التي استمرت من أغسطس/ آب 2016 إلى مارس/ آذار 2017. بيد أن نطاق هذا التوغل لم يكن كبيرا كما ذكرت وسائل الإعلام التركية، حيث إن درع الفرات كانت عملية محدودة دامت سبعة أشهر شارك فيها حوالي 8 آلاف جندي تركي، كان هدفهم الرئيس دعم عمليات الجيش السوري الحر لطرد مقاتلي تنظيم الدولة (داعش) بعيدا الحدود التركية. (كان الهدف من ذلك هو إضعاف وحدات حماية الشعب الكردية، ولكن العملية لم تنتزع منها أي إقليم).

الوضع في شمال غرب سوريا أكثر تعقيدا، حيث يسيطر الأكراد السوريون على مدينة عفرين، وهو ما يغضب تركيا كثيرا، وتسيطر هيئة تحرير الشام (تنظيم القاعدة أو جبهة النصرة سابقا) على مدينة إدلب التي استولت عليها مؤخرا من أحرار الشام المدعومة من تركيا، كما استولت على مناطق على الحدود التركية. تراجعت قوات المعارضين للأسد إلى بلدات إدلب بعد أن خسرت معركة حلب، ولم يتخل نظام الأسد عن طموحاته لاستعادة الأراضي.

إن وجود كثير من المجموعات المختلفة يعني أن هناك أيضا كثيرا من القوى الخارجية التي لها مصلحة فيما يحدث في شمال غرب سوريا: تدعم تركيا المتمردين المناهضين للأسد المحاصرين في محافظة إدلب، ولكن خطوط إمدادها ضعيفة في أحسن الظروف، بينما تدعم كل من روسيا وإيران نظام الأسد. وعلى الرغم من أن تركيا قد توصلت إلى تفاهم مع البلدين في هذه المسألة، فإن مصالح هذه الدول الثلاث في سوريا على المدى الطويل تختلف اختلافا كبيرا. لا ترغب تركيا في رؤية قوة مؤيدة لروسيا أو مؤيدة لإيران في المنطقة يمكن أن تهدد جنوب تركيا. ويشكل الأكراد السوريون مشاكل واضحة لتركيا، أما هيئة التحرير الشام، فعلى الرغم من أنها تراجعت عمدا في حين يركز العالم على داعش، فإن لديها خططا طويلة الأجل في العالم الإسلامي لا تتماشى مع تركيا.

هذا الوضع غير المستقر يتجه نحو فراغ السلطة، وإذا لم تملأ تركيا الفراغ، فإن آخرين سيقومون بذلك، ولا يعد أي من هذه الخيارات المحتملة خيارا جيدا لتركيا.

تركيا الكبرى

هذه المشكلة ليست مشكلة حديثة، فقد واجهت القوى السابقة في البوسفور التهديد من الجنوب، حيث بسط العثمانيون، والبيزنطيون من قبلهم، في مراحل مختلفة من تاريخهم، سيطرتهم على أجزاء من سوريا الحالية. حاولت الدولة العثمانية، في الواقع، الإبقاء على بعض ما أصبح جزءا من سورية الحالية داخل أراضيها. وكان من بين آخر أعمال البرلمان العثماني في عام 1920 تمرير الميثاق الوطني الذي كان من المفترض أن يحدد حدود تركيا المستقبلية. لم يحصل العثمانيون على ما أرادوا، إذ تركت الجمهورية التركية الجديدة أصغر مما كان العثمانيون يخططون له، وكانت إحدى المناطق الرئيسية التي فقدت فيها الجمهورية التركية أراضيها هي منطقة شمال غرب سوريا. وليس من قبيل الصدفة أن كثيرا من وسائل الإعلام التركية، وحتى الرئيس رجب طيب أردوغان نفسه، أشاروا إلى "الميثاق الوطني" في السنوات الأخيرة.

من بين الأشياء الجديرة بالملاحظة في خريطة الميثاق الوطني الميزة الجغرافية التي تعطيها السيطرة على شمال غرب سوريا لتركيا. ووفقا للاتفاق الجديد مع روسيا وإيران فإن المنطقة التي تمت الموافقة على دخول تركيا إليها تشمل الأراضي الجبلية التي تسمح لتركيا بالسيطرة على الأراضي المرتفعة لرصد أي عدو يسعى إلى عبور الحدود. وفي الوقت نفسه تعد إدلب مهمة؛ لأنها تقع بالقرب من الممر الصغير بين جبال العلويين، والأراضي التي يسيطر عليها نظام الأسد، والسهول التي يهيمن عليها العرب السنة. وإن سيطرت تركيا على إدلب، فإنها تستطيع أن تتحكم في هذا الممر، فضلا عن السيطرة على الطريق السريع 60 الرابط بين حلب وإدلب، الذي يمكنها استخدامه لدعم وكلائها في الجوار. ومن شأن سيطرة تركيا على هذا الوادي في الجانب السوري أن يمكنها من الدفاع بسهولة عن الشريط الساحلي الجنوبي على الحدود الغربية لسوريا، كما أنه سيضع تركيا في وضع أفضل بكثير في المعارك القادمة على مستقبل سوريا.

تركيا لديها مصلحة في السيطرة على هذه الأراضي منذ انتزاعها من العثمانيين في عام 1923، وكانت تحتاج إلى القدرة والفرصة لتغيير الوضع، وقد صار كلاهما بيدها الآن. وكان هذا أمرا حتميا عندما أصبح من الواضح في عام 2011 أن الجمهورية السورية تتفسخ. لقد استمر القتال لبعض الوقت، وأضعفت الأطراف المعنية بعضها بعضا بحيث أتاحت لتركيا فرصة ومخاطر: فرصة لاستعادة نفوذها القديم في تلك المنطقة، وفي الأراضي التي يمكن أن تستخدمها منطقة عازلة ضد الأعداء المحتملين من الجنوب والشرق، ولكن الخطر هو أنه إذا لم تتحرك تركيا، فإن مثل هذا العدو سيظهر وسيسعى إلى تهديد حدودها الحالية.

لن يفعل الوكلاء شيئا لأمن تركيا الذي أصبح على المحك على المدى الطويل، بيد أنها تمتلك قدرات كافية للمهمة. ولذلك فعلى الرغم من رغبة الحكومة في أنقرة بعدم التدخل في سوريا، فإن تركيا تُسحب إلى هناك. وهذه ليست المرة الأولى، ولن تكون المرة الأخيرة. وهو تذكير بقوة تركيا، وكيف أن جغرافيتها تجعلها تحوز القيادة الإقليمية والمصداقية. إن جغرافية تركيا تذكر أيضا بضعفها، وكيف أنها لا تملك حقا خيارا في هذا الشأن. شمال غرب سوريا في انتظار من يسيطر عليه وتركيا لديها مقعد على الطاولة لاتخاذ القرار، ليس لأنها تريد ذلك، ولكن لأن عدم التدخل ليس خيارا.

اقرأ المزيد
٢٣ سبتمبر ٢٠١٧
سورية و «التقسيم الناعم» في الأفق

في زحمة الاجتماعات والاقتراحات المقدمة حول سورية على هامش الجمعية العامة الـ٧٢ للأمم المتحدة، هناك الكلام الاستعراضي العلني المتفائل بالحل والانتخابات والمرحلة الانتقالية، وهناك الحديث والاقتراحات الأكثر واقعية خلف الكواليس، والتي بدأت تفترض وتُعد لسيناريو تقسيمي «ناعم» أي غير رسمي على الأرض يتعاطى مع وقائع الحرب.


في الحرب السورية، هناك انتصارات وتحولات مرحلية، ويقول ديبلوماسي عربي متابع الملف أن واقع هذه المرحلة هي «أن الأسد لم يفز إنما المعارضة خسرت على الأرض». ووفق ذلك، فإن الأطراف الأساسية في المجتمع الدولي بينها الولايات المتحدة وروسيا ودول إقليمية والمبعوث الأممي دي ميستورا بدأت تعد لمرحلة تعايش مع الأسد، ينتقل فيها التنافس على مصالح هذه الدول وأولوياتها داخل سورية من إخراج إيران إلى الإعداد لمرحلة ما بعد داعش، إلى توزيع حصص النفط والغاز وتقوية القوات الكردية، ومن ثم صوغ مرحلة سياسية على هذا الأساس.


المعارضة السورية الممثلة في الأمم المتحدة بمنسق الهيئة العليا للمفاوضات رياض حجاب، التقت بالجانب الفرنسي والأميركي والعربي في نيويورك، وطُلب منها ركوب القطار الجديد، أي التعاطي بإيجابية مع البنود المقترحة لمفاوضات جنيف، وإعادة تنظيم صفوفها مرة أخرى قبل مفاوضات قد تحافظ على البنية الأمنية للنظام وتستوعب أطرافاً محسوبة على المعارضة وقريبة منها. ليس هناك مؤشر إلى أن هيئة التنسيق ستركب هذا القطار، والأرجح أنها ستنتظر في المحطة، وستتجاوب مع مطالب تأهيل صفوفها وما هو متوقع في مؤتمر الرياض.


أما بالنسبة إلى المجتمع الدولي، فتصريحات دي ميستورا في لقاءات مغلقة تعبر أكثر من غيرها عن واقع الحرب. فالمبعوث، ووفق جهات ديبلوماسية عدة التقت به في نيويورك، قال حرفياً أنه يعتقد أن سورية تتجه نحو سيناريو «التقسيم الناعم». بل إن المبعوث قدم خرائط وبألوان واضحة تفصل على أرض الواقع مناطق النفوذ بين الشمال والجنوب، والمناطق المحررة من «داعش» وتلك التي تحت سيطرة النظام.


خرائط دي ميستورا تتماشى عملياً مع الواقع الميداني. ففي الجنوب هناك منطقة تهدئة بمظلة أميركية وروسية، وفي الشمال هناك حصص للأكراد، ولقوات موالية لتركيا ولجبهة فتح الشام في إدلب. أما المناطق المحررة من «داعش»، فيؤكد المبعوث الأميركي برت ماغورك أن قوات سورية الديموقراطية وليس النظام هي التي ستتولى حكمها، وأن المحادثات مع روسيا جارية حول عدم الاشتباك في تلك المناطق. أما قوات النظام والميليشيات المؤيدة له فهي على خط الساحل وفي دمشق وبقية المدن الأساسية من حلب إلى حمص.


هذا التوزيع قد لا يتغير وبسبب المعادلات والتوازن العسكري الموجود الذي يمنع أي طرف من بسط سلطته بالكامل على هذه المناطق، بالتالي يصبح أمراً واقعاً في أي محادثات سياسية ستبدأ من نقطة وقف القتال. فمصير الأسد لم يعد أولوية اليوم للولايات المتحدة إلا من نطاق إضعاف إيران ودفع الحل السياسي. وينتظر المراقبون استراتيجية دونالد ترامب نهاية الشهر حول إيران لمعرفة نوع الأدوات التي ستستخدمها واشنطن في الساحات الإقليمية ضد طهران. أما روسيا، فضمان نفوذها وتحصين أعمدة النظام الأمني في سورية كانت وتبقى الأهم لموسكو ومن مصلحتها الإسراع بحل سياسي يضمن المكاسب الحالية.


«التقسيم الناعم» المطبق على أرض الواقع وبمظلة دولية، هو تسليم بنتائج حرب الخاسر الأكبر فيها هو وحدة سورية وسيادتها. فتعدد القوى في الداخل وتنافس الخارج على الحصص وعقود إعادة الإعمار الذي يسابق المفاوضات السياسية، ستكون العنوان الأساسي للمرحلة المقبلة وحافزاً أساسياً للجميع لإنهاء القتال.

اقرأ المزيد
٢٣ سبتمبر ٢٠١٧
استراتيجية الأسد ... تكتيك عون

هناك سوء فهم عميق، على ما يبدو بين الرئاستين في لبنان وسورية. فكلما أبدى رئيس الثانية ارتياحه لتخلصه من ملايين السوريين وتحويلهم لاجئين، جاء الرئيس اللبناني لينغص هذه الفرحة بالقول إن بلده يعمل على إعادة اللاجئين الى الأماكن التي أتوا منها.


بل إن العميد في الحرس الجمهوري السوري عصام زهر الدين أوضح أنه «لن يسامح الهاربين» ناصحاً بعدم عودتهم. وتراجع بعد ذلك عن هذا التهديد بقوله إن نظامه يعمل في ظل القانون، ولعل هذا يزيد من فداحة التهديد إذا أخذت في الاعتبار الطريقة التي يفهم بها زبانية بشار الأسد معنى القانون. المهم أن الرئيس اللبناني ميشال عون لم يبالِ بتصريح زهر الدين، كما كان قد تجاهل سعادة الأسد بـ «التجانس» الذي أضفاه على المجتمع السوري، وأعلن عون في الأمم المتحدة انه لن يقبل بتوطين أي لاجئ أو نازح في لبنان استناداً الى دستور هذا البلد الذي يمنع التوطين.


الأدهى أن وزير الخارجية اللبناني جبران باسيل التقى نظيره السوري وليد المعلم في الأمم المتحدة وهنأ باسيل المعلم بانتصارات الجيش السوري في مكافحته الإرهاب، وأكد تطوير مجالات التعاون كافة، من دون أن تأتي المعلومات الموزعة بعد الاجتماع على أي ذكر للاجئين السوريين الذين تلاحق أشباحهم الوزير اللبناني بحيث يُضمّن كل تصريحاته إشارات اليهم والى الأعباء التي يشكلونها على اقتصاد لبنان وأمنه. السؤال الذي لا مفر منه: أليس وزير الخارجية السوري هو الجهة الأجدى بالتوجه اليها لبحث مسألة اللاجئين، ما دام أن النظام الذي يمثله المعلم قد بات يسيطر على 85 في المئة من الأراضي السورية التي حلّ فيها الأمان على ما قال عون؟ لا جواب.


لم يترك بشار الأسد فرصة إلا وأعلن فيها رفضه عودة اللاجئين الى بلادهم. كذلك فعل معاونوه. في مقابلات صحافية وفي مؤتمر وزارة الخارجية وفي تصريح بعد أدائه صلاة العيد في مسجد مدينة داريا المدمرة، كرر الأسد مرات عدة أن اللاجئين لن يعودوا الى سورية التي أصبحت أكثر تجانساً، ولم يترك ذا سمع إلا وأسمعه انه لن يسمح بعودة من ترك سورية هرباً من قمعه أو من ممارسات «داعش» و «النصرة» الإرهابيين. لكنّ للرئيس عون رأياً آخر.


التطهير الطائفي الذي مارسته قوات الأسد والميليشيات ذات التمويل الإيراني المتحالفة معها، لم يأخذ موقف الحكومة اللبنانية في الاعتبار ولا هشاشة اللعبة الديموغرافية في لبنان. جاء التطهير الطائفي الذي تؤكده شهادات ووثائق دولية عديدة، وفق قرار استراتيجي بتعديل الميزان السكاني السوري بحيث تتغير مزاعم الأقليات والأكثريات وخطابها بتغير الحقائق المفروضة على أرض الواقع. وليس كشفاً كبيراً الحديث عن إصرار على تبديل بعض المعالم الأساسية في دمشق التي يبدو أن مصيرها قد حُسم لمصلحة بقائها عاصمة «سورية المفيدة» التي يحكمها الأسد.


عليه، يكون كلام عون والمواقف اللبنانية المعترضة في وسائل الإعلام على «خطر اللاجئين السوريين» يندرج ضمن تكتيكات السياسات المحلية المعدة للاستهلاك الداخلي ولا تمت الى حقيقة ما يُعد للمنطقة بصلة. التلويح بخطر طغيان المسلمين السنة على عديد السكان في لبنان ما زال لعبة مربحة لابتزاز المسيحيين وتأبيد التحاقهم بمن وضع استراتيجية التطهير الطائفي وتغيير الميزان الديموغرافي السوري، في المقام الأول.

اقرأ المزيد
٢٣ سبتمبر ٢٠١٧
بروباغندا الكرملين بشأن سوريا تفقد بريقها

تحولٌ لافتٌ في موقف المواطنين الروس من التدخل العسكري الروسي في سوريا عكسه استطلاع للرأي أجراه مؤخراً مركز "ليفادا" الروسي، حيث أظهرت نتائج الاستطلاع أن نصف من شملهم عبروا عن رفضهم لاستمرار هذا التدخل، مقابل 30% فقط يؤيدون مواصلته.


مع ارتفاع نسبة المتخوفين من غرق روسيا في المستنقع السوري كما غرق الاتحاد السوفياتيفي المستنقع الأفغاني (32 %)، وعدم مقدرة نسبة وازنة على تحديد موقفها بدقة (21 %). وكشف الاستطلاع أيضاً أن 82% من الروس لا يتابعون عن كثب تطورات الحرب في سوريا، ونسبة مهمة من هؤلاء لا تتابعها البتة (26 %).

 

وهو ما يعد فشلاً ذريعاً للماكينة الإعلامية الروسية التي وظّفت كل إمكانياتها لتبرير ودعم التدخل العسكري في سوريا، والتسويق لانتصارات عسكرية سهلة تعطي موسكو مكاسب إستراتيجية كبيرة، من شأنها أن تعزز دور روسيا باعتبارها دولة كبرى وطرفا مقررا في النسق الدولي.


تحول مهم شعبيا


الصورة تتضح أكثر بالمقارنة مع نتائج استطلاع سابق أُجري في الفترة الممتدة من فبراير/شباط وحتى أبريل/نيسان 2017، وأظهرت نتائجه أن 87% من الروس يثقون في أن بوتين "سيقوم بخطوات صحيحة بكل ما يتعلق بالسياسة الخارجية".


كما أفاد بأن غالبية من شملهم الاستطلاع راضون عن التدخل العسكري في سوريا، ويعتقد 64% منهم أن "الهدف الأساسي لهذا التدخل يجب أن يكون القضاء على الجماعات الإرهابية"، بينما رأى 25% أن "هدف القوات الروسية في سوريا يجب أن يكون الحفاظ على سيطرة الرئيس بشار الأسد".


بتحليل نتائج الاستطلاعيْن المذكوريْن، يلاحَظ بروز تحوّل كبير في موقف الشارع الروسي من الحرب في سوريا، وهو يعود -في جزء منه- إلى مصداقية الجهة التي أجرت الاستطلاع وكيفية صياغة أسئلة الاستبيان، إلا أن الاستطلاع الثاني يؤكد ضمنياً ما انتهى إليه الاستطلاع الأول.


فالاستطلاع الثاني أقر بأن اهتمام المواطنين الروس ينصب -بشكل رئيسي- على الأوضاع الداخلية الروسية لا سيما الاقتصادية والمعيشية، بتأكيد غالبيتهم أن "الاقتصاد والفجوات الاجتماعية وغلاء الأسعار ما زالت حتى الآن هي المواضيع التي تقلق الروس".


وتكشف الأرقام أن 71% من المشاركين في الاستطلاع الثاني أشاروا إلى أن "قضية غلاء الأسعار ما زالت كبرى المسائل التي تشغل الروس"، وأن 54% منهم يعتقدون أن "نقص فرص العمل يعتبر مشكلة كبيرة"، وربما الأهم تأكيد 58% أن "الفساد بين السياسيين من أصعب المشاكل بروسيا"، و51% غير راضين عن تعامل بوتين مع الفساد، علماً بأن 62% كانوا راضين تماماً وفقاً لاستطلاع أُجري 2015.


ومن الجدير بالذكر، وعلى خلاف ما قد يعتقده البعض؛ أنه يلاحَظ -منذ سنوات- عدم اهتمام الشارع الروسي بالقضايا السياسية، الأمر الذي دفع معارضين روساً إلى اعتبار أن المجتمع المدني لم يتبلور بعد في روسيا.

 

وهذا يبيِّن جانباً مهماً من قدرة الرئيس بوتين على إبقاء قبضته الحديدية، رغم ولادة حركة احتجاجية غير مسبوقة في روسيا عام 2012 للمطالبة بالتغيير. غير أن عدم تبلور بنية المجتمع المدني في روسيا "سلاح ذو حدين"، إذ من الممكن جداً أن ينقلب على النظام السياسي الذي بناه بوتين وأرسى أركانه منذ عام 2000.


بوتين نفسه أقر بأن اهتمام المواطنين الروس ينصب على الأوضاع الاقتصادية في البلاد، وأكد في برنامج "حوار مباشر مع بوتين" (15 يونيو/حزيران 2017) أن الاقتصاد الروسي لم يفلح في الخروج من طابعه الريعي، فما زال يعتمد على عوائد تصدير النفط والغاز، كما اعترف بوتين بارتفاع نسبة الفقراء في روسيا.


ويُذكر أن هيئة الإحصاء الروسية "روستات" كشفت -في بيانات نشرتها خلال يونيو/حزيران 2017- أن عدد الفقراء في روسيا بلغ 19.8 مليوناً عام 2016، مقارنة بـ19.5 مليوناً عام 2015، و16.5 مليوناً عام 2014.


وبالعودة إلى استطلاعات الرأي؛ فهل تكون الأوضاع الاقتصادية والمعيشية المتدهورة في روسيا "كعب أخيل" بوتين ونظامه السياسي، رغم أنه ضامن لنجاحه في الانتخابات الرئاسية في مارس/آذار العام المقبل؟


بداية نهاية بوتين


يعكف فريق بوتين الاقتصادي على صياغة مشروع لإعادة هيكلة الاقتصاد الروسي، سيكون بمثابة ركيزة لبرنامج عمل بوتين خلال ولايته الرئاسية الرابعة. ووفقاً لما ذكرته وكالة "بلومبيرغ" الأميركية (في تقرير لها يوم 31 أغسطس/آب 2017) فإن "وزير التنمية الاقتصادية الروسي ماكسيم أوريشكين يُعِدّ مشروع إصلاحات اقتصادية عشية الانتخابات الرئاسية التي ستجري في الربيع المقبل، ويتنافس في هذا المجال مع وزير المالية الأسبق ألكسي كودرين".


وجاء في تقرير وكالة "بلومبيرغ" -نقلاً عن مسؤولين روس- أن "أوريشكين الذي تولى وزارة التنمية الاقتصادية في أواخر عام 2016، بعد إقالة الوزير السابق ألكسي أوليوكايف المتهم في قضية فساد؛ تحوّل إلى شخصية مدللة وتتمتع بتأثير سياسي أكبر بالمقارنة مع أي من أسلافه".


وقد أثار هذا التقرير حفيظة الكرملينالذي رد الناطق باسمه ديميتري بيسكوف بغضب عليه، ووصفه بأنه "بهلوانيات إعلامية تصور أوريشكين بأنه الوريث لبوتين".

وامتعاض الكرملين من تقرير "بلومبيرغ" ليس سببه إشارته إلى مسألة خلافة بوتين، بل لأنه وضع أوريشكين على قائمة المرشحين لخلافة بوتين، وهو ما يُفهم منه نكوص السياسات الروسية نحو معالجة الأوضاع الداخلية الروسية، وفي مقدمتها بلا منازع الأوضاع الاقتصادية المعقدة والمتردية.


ويبدو جلياً أن الصورة القاتمة للاقتصاد الروسي -جنباً إلى جنب مع تآكل فاعلية البروباغندا بشأن الإنجازات العسكرية الروسية في سوريا، والحديث عن مكاسب إستراتيجية حققتها موسكو على الصعيد الدولي- تضغط بثقلها على الرئيس بوتين والدوائر المقربة منه، مما دفعه للقول بأنه من السابق لأوانه الإعلان عن قراره بشأن المشاركة في الانتخابات الرئاسية المقبلة.


ربما يبدو طريفاً انشغال العديد من وسائل الإعلام الروسية بالحديث عن خليفة الرئيس بوتين في الوقت الذي لا يواجه فيه بوتين منافساً جدياً، لكن الحديث عن خلافته ينمّ عن مخاوف متعاظمة في الأوساط السياسية الروسية الحاكمة.


قد يكون صحيحاً أن فوز الرئيس بوتين في الانتخابات الرئاسية المقبلة مسلّم به، إلا أن هذا الفوز سيفتح الباب على مصراعيه لمعركة خلافته التي ستحدد مصير النظام القائم وتعيد قولبة السياسات الروسية، وبالطبع ستكون مسألة الحرب في سوريا والتدخل العسكري الروسي فيها، حاضرةً بقوة على أجندة التغيير المفترض في توجهات موسكو.


ومنذ اللحظة التي سيعلن فيها بوتين ترشحه لفترة رئاسية قادمة -وسيفعل ذلك قريباً- سيبدأ العد العكسي لنهاية حقبة بوتين، ونتائج استطلاع الرأي الأخير ستُؤخذ بعين الاعتبار بشكل أو آخر، فغالبية الروس لم يعودوا يتأثرون ببروباغندا الحرب في سوريا، ويريدون إنهاء التدخل العسكري الروسي فيها، وإعطاء الاهتمام لمعالجة الأوضاع الداخلية ومحاربة الفساد السياسي المستشري.


وعلى هذا يتوقف مستقبل روسيا، فإذا صدقت التوقعات باحتمال تولي وزير التنمية الاقتصادية الروسي الحالي ماكسيم أوريشكين منصب رئاسة الوزراء بعد الانتخابات، أو أنه سيكون رجل الظل في قيادة تنفيذ برنامج الإصلاح الاقتصادي؛ فإن ذلك سيرسم خطاً بيانياً للمدى الذي يمكن أن تذهب إليه عملية التغيير اللازمة، والتي تعدّ في كل الأحوال لا غنى عنها.

اقرأ المزيد
٢٣ سبتمبر ٢٠١٧
رفعت وطلاس.. البداية والنهاية!

ذات يوم كان مصطفى طلاس ورفعت الأسد شابّين مناضلين، ثم ضابطين مناضلين، في «حزب البعث العربي الاشتراكي» في سوريا. وبالطبع كان معهما ثالث هو حافظ الأسد، شقيق رفعت الأكبر والصديق الحميم لمصطفى.


رفعت ومصطفى، وكذلك حافظ، كانوا يؤمنون بشعارات كالوحدة العربية والاشتراكية والعلمانية وتحرير فلسطين. وأغلب الظن أنهم يومذاك كانوا شباناً مندفعين وصادقين في ما يؤمنون به.


معاً شاركوا في عدد من الانقلابات العسكرية التي ظنوا أنها الطريق إلى تحقيق تلك الأهداف. معاً، ومع آخرين، نفذوا انقلاب 8 مارس (آذار) 1963 الذي أوصل حزبهم، حزب «البعث»، إلى السلطة. ومعاً قمعوا المحاولات الانقلابية المتكررة التي أرادت إطاحة «البعث» أو أراد «البعث» التخلص من شراكة أصحابها في السلطة. ومعاً انقلبوا في 23 فبراير 1966 ضد القيادة التقليدية لحزب «البعث» من أجل أن تستولي على الدولة رموزه العسكرية والجذرية. ومعاً عادوا وانقلبوا في 16 نوفمبر 1970 لكي يضعوا السلطة كلّها في يد حافظ الأسد وحده.


بعد ذاك تحول مصطفى طلاس ورفعت الأسد إلى حماية السلطة الجديدة، كلٌ منهما يحميها بطريقته. ولكن عصر البراءة الإيديولوجية والحزبية كان قد انتهى في 1970، حين باتا معنيين بالسلطة للسلطة، مع ما يرافق ذلك بالضرورة من مراكمة للثروة.


مصطفى طلاس، السُّني في نظام معظم رموزه علويون، عرف أن لطموحه حداً. أرضاه أن يصير وزيراً للدفاع، على طريقة الوزراء- الواجهة، وأن يتفرغ لأمور أخرى: الثراء ومصادقة الأثرياء وتأسيس الحظوة العائلية، فضلاً عن اهتمامات «ثقافية» تمتد من الورد والعطر إلى جورجينا رزق وملكات الجمال. لقد كان طلاس التعبير البليغ عن عطالة النظام ورثاثته.


رفعت الأسد كان شيئاً آخر. فهو، كعلويّ، عرف أن في وسعه المطالبة بحصة أكبر، والطموح لنيلها. غرف عناصره والمتحمسين له من طائفة المرشديّين، أكثر جماعات العلويين تشدداً، وأشرف على مذبحة مدينة حماة في 1982. بعد ذاك، حين مرض أخوه الأكبر حافظ، وجد أنه هو الأكثر استحقاقاً للسلطة والوراثة. طموحه هذا جعل العلاقة تنتهي على نحو سيّئ، إذ وُضع البلد على شفا مواجهة عسكرية مفتوحة. بعد ذاك رُفّع رفعت إلى «نائب لرئيس الجمهورية»، ولكنه عملياً أُبعد من السلطة ومن البلد ناقلاً معه الثروة التي جناها من عرق جبين الآخرين. وما بين فرنسا وإسبانيا خاض رفعت وأبناؤه في مشاريع كثيرة اختلط فيها البيزنس بالسياسة، والتجارة بالمافيا.


لقد كانت تكلفة مصطفى طلاس على السلطة تكلفة زهيدة، أما رفعت فكانت تكلفته عليها باهظة جداً. إنه لم يطالب بالوراثة فحسب، بل طالب أيضاً، ولو ضمناً، بتخلي النظام عن واجهته الإيديولوجية «البعثية» واعتماد الفجور الطائفي الصريح إيديولوجيةً له.


لقد نسي مصطفى ماضي البراءة واكتفى بهذا الحدّ، مكرّساً نفسه لمستقبل شخصي لا يذكّر به بتاتاً. أما رفعت فتذكّر جيداً زمن البراءة وأراد أن يكون صريحاً جداً في الانقلاب عليه وفي تكريس ذاك الانقلاب بديلاً لمستقبل الجميع.


لهذا رأينا مصطفى طلاس، في 2000، يلعب طائعاً دور عرّاب التوريث من حافظ إلى نجله بشار، فيما رأينا رفعت يلعب دور المعارض للنجل، بل المنافس له، على شرعية مزعومة، طائفية وعائلية.


والاثنان، على أي حال، يختصران سيرة الحزبية والعقائد وهشاشتها في بلدان كبلداننا لا تزال تتحكم بها عصبيات القرابة والطائفة التي لا تلبث أن تتحول، على أرض الواقع، عصبية مافياوية.


لقد قضى مصطفى طلاس قبل أشهر قليلة وقبل أيام قليلة تردّد خبر قد يكون إشاعة عن وفاة رفعت الأسد. وهذا الخبر- الإشاعة جدّد تركيز الضوء عليه. والاثنان لن يؤسف على رحيلهما، بعيداً عن بلدهما الذي لم يعد يعني لهما، أقله منذ 1970، سوى كونه مصدراً للجاه والثروة. الشيء الوحيد الذي يؤسف عليه أن الموت في حالتهما لم تسبقه محاكمة عادلة. هذا بعض ما يحزن في وضع سوريا اليوم.

اقرأ المزيد

مقالات

عرض المزيد >
● مقالات رأي
١٣ أغسطس ٢٠٢٥
ازدواجية الصراخ والصمت: استهداف مسجد السويداء لم يُغضب منتقدي مشهد الإعدام في المستشفى
أحمد ابازيد
● مقالات رأي
٣١ يوليو ٢٠٢٥
تغير موازين القوى في سوريا: ما بعد الأسد وبداية مرحلة السيادة الوطنية
ربيع الشاطر
● مقالات رأي
١٨ يوليو ٢٠٢٥
دعوة لتصحيح مسار الانتقال السياسي في سوريا عبر تعزيز الجبهة الداخلية
فضل عبد الغني مدير الشبكة السورية لحقوق الإنسان
● مقالات رأي
٣٠ يونيو ٢٠٢٥
أبناء بلا وطن: متى تعترف سوريا بحق الأم في نقل الجنسية..؟
سيرين المصطفى
● مقالات رأي
٢٥ يونيو ٢٠٢٥
محاسبة مجرمي سوريا ودرس من فرانكفورت
فضل عبد الغني
● مقالات رأي
٢٥ يونيو ٢٠٢٥
استهداف دور العبادة في الحرب السورية: الأثر العميق في الذاكرة والوجدان
سيرين المصطفى
● مقالات رأي
١٧ يونيو ٢٠٢٥
فادي صقر وإفلات المجرمين من العقاب في سوريا
فضل عبد الغني