بات غـرب آسيا أكبر ملاعب الصراع بين كبار لاعبي العالم وصغاره، وبين آخرين ارتقوا بسرعة لافتة إلى مراتب إقليمية عالية. ملاعب الصراع منفصلة ومتصلة في آن. تمتّد من الشواطئ الشرقية للبحر الابيض المتوسط إلى الشواطئ الغربية لبحر قزوين، ومن الشواطئ الجنوبية للبحر الاسود إلى الشواطئ الشمالية لبحر العرب.
ملاعب الصراع في غرب آسيا مكتظة بلاعبين كثر اقليميين: عرب، وصهاينة، وترك، وكرد، وفرس. إلى هؤلاء، ثمة لاعبان كبيران دوليان: الولايات المتحدة وروسيا الإتحادية، يشاركهما أحياناً لاعب بريطاني وآخر فرنسي، ويراقب «المباريات» من بعيد لاعب دولي مقتدر: الصين.
لكلٍّ من هؤلاء اللاعبين «لعبته»، بمعنى قضيته الخاصة، لكنه يشارك الآخرين في ألعابهم وألاعيبهم. اولى القضايا هي قضية العرب المزمنة، بما هي صراع من اجل الإستقلال والحرية والوحدة والنهضة. غير انه، بتدخلاتِ كبار لاعبي اوروبا وامريكا، استطاع الصهاينة مشاركة سائر اللاعبين المباريات المحتدمة منذ النصف الاول للقرن العشرين.
في هذه «اللعبة» تحديداً، ازداد مع احتدام الصراع عدد اللاعبين الاقليميين من ترك وفرس. كما حاول لاعبون كرد التسلل إلى الملعبين العراقي والسوري لانتزاع ادوار لهم بغية تنظيم لعبتهم الخاصة.
اقوى اللاعبين واخطرهم واكثرهم خرقاً لقواعد الصراع هو اللاعب الامريكي، ذلك انه تمكّن بعد الحرب العالمية الثانية من ازاحة اللاعبين البريطاني والفرنسي وانتزاع الكثير من ادوارهما. اللافت انه كان دائماً داعماً ومناصراً لللاعب الصهيوني في كل المباريات التي جرت على ملاعب الصراع. كما انه استفاد من خروج اللاعب الروسي بضعَ سنوات، بعد انهيار الاتحاد السوفييتي، لكن، بعودة اللاعب الروسي بكامل لياقته البدنية إلى ملاعب الصراع، انحسر دور اللاعب الامريكي بشكل ملحوظ وتبدّى ذلك في نتائج المباريات التي جرت، وما زالت تجري، من عام 2011 فصاعداً.
إذا ما ترجمنا هذه اللوحة الرمزية إلى وقائع سياسية وميدانية لخرجنا بصورة واقعية للوضع القائم في غرب آسيا على النحو الآتي:
أولى قضايا الصراع حاليّاً تلك المحتدمة بين الولايات المتحدة وإيران، ذلك أن واشنطن تستشعر، بقلق، تنامي قوة ايران، عسكرياً وسياسياً ، ما حملها تحت ضغط «اسرائيل» من جهة، والكونغرس من جهة اخرى، على التهويل بإلغاء الاتفاق النووي المعقود بين ايران ودول كبرى ست ومصادَق عليه في مجلس الامن، ظنّاً منها أن ذلك قد يُقنع ايران بالموافقة على تعديله. غير أن طهران رفضت التعديل وهددت بردٍّ حازم على واشنطن اذا ما قامت بإلغاء الاتفاق. الواقع أن جميع الدول الموقعة على الاتفاق ومعظم أطراف المجتمع الدولي تؤيده ما قد يؤدي إلى احد احتمالين: إبقاؤه على ما هو عليه، أو قيام الكونغرس الامريكي بتشديد العقوبات على ايران إرضاءً لـِ»اسرائيل». كلٌّ من هذين الاحتمالين يُضعف الولايات المتحدة ويصنّفها الخاسر الاكبر في الصراع.
ثانيةُ قضايا الصراع الحرب في سوريا وعليها، ذلك أن الولايات المتحدة، بالتواطؤ مع «اسرائيل»وبعض دول الخليج، قامت بدعم تنظيمات إرهابية ناشطة في العراق وسوريا بالمال والسلاح والرجال ما مكّنها من السيطرة، في بعض المراحل، على ثلثي مساحة العراق وأكثر من نصف مساحة سوريا. غير أن بقاء الجيش السوري متماسكاً واندفاع حزب الله إلى مساندته كما روسيا في مرحلة لاحقة، كسر هجمة الإرهابيين واخرج فصائلهم من معظم المناطق التي وقعت تحت سيطرتهم.
في العراق، أعيد تنظيم الجيش وجرى دعمه بفصائل «الحشد الشعبي» ما أدى إلى تحرير الموصل ومناطق اخرى واسعة كانت وقعت تحت سيطرة تنظيمات الإرهاب. هذه الهزيمة المدوّية للإرهاب تشكّل هزيمة للمشروع الامريكي- الصهيوني الهادف إلى تفكيك الدول العربية المحيطة بالكيان الصهيوني إلى جمهوريات موز قائمة على اساس قبلي او مذهبي او إثني. كما هي هزيمة لتركيا التي حاولت، في ظل اردوغان، إحياء هيمنة عثمانية ذاوية على المشرق العربي تحت راية الاخوان المسلمين الذين يوالون اقليمياً حزب العدالة والتنمية الاردوغاني.
ثالثةُ قضايا الصراع محاولة بعض قيادات الكرد استغلال انشغال دول الاقليم بحربها على الإرهاب، بغية إحياء مطلب الكرد التاريخي بإقامة دولة مستقلة تجمع شعوبهم في تركيا والعراق وسوريا وايران. اللافت أن الولايات المتحدة، بالتواطؤ مع «اسرائيل»، دعمت مباشرةً ومداورةً الكرد الانفصاليين في اطار مشروعها الرامي إلى تفكيك محيطها العربي إلى جمهوريات موزٍ هزيلة ومتناحرة. غير أن نهوض حكومتي سوريا والعراق، بالتعاون مع قوى المقاومة العربية المدعومة من ايران، إلى مواجهة الإرهاب التكفيري عطّل جهود الكرد الانفصاليين أو كاد وحمل تركيا على وقف دعمها لـِ»داعش» والتنسيق بجديّة اكثر مع كلٍ من روسيا وايران حليفتيّ سوريا في مواجهة الارهاب. مع ذلك فإن قضية الكرد الانفصاليين لم تنتهِ بعد لأن الولايات المتحدة و»اسرائيل» تثابران على دعم الكرد الانفصاليين في سوريا والعراق (وحتى في تركيا وايران) بغية تحويل غرب آسيا، على المدى الطويل، إلى موزاييك حيّ من الكيانات القبلية والمذهبية والإثنية المتمايزة والمتناحرة.
رابعةُ القضايا هي قضية فلسطين التاريخية التي فقدت مركزيتها في حياة العرب والمسلمين، جرّاء صراعات الاطراف الفلسطينية، من جهة ودعم الولايات المتحدة اللامتناهي لـِ»اسرائيل» وللقوى المحلية العربية المتعاونة معها من جهة اخرى. في هذا السياق، تحاول ادارة ترامب تدوير زوايا التباين بين «اسرائيل ومنظمة التحرير ( برئاسة محمود عباس) على نحوٍ يؤدي إلى «منح « الفلسطينيين «دولة» أشبه ما تكون بكانتون بلدي بحكم ذاتي منزوع السلاح ومرتبط بالاقتصاد الإسرائيلي، على أن يتمّ ذلك كله في إطار ترتيبٍ أوسع يقضي بمصالحة الدول العربية المحافظة مع «اسرائيل» وتطبيع العلاقات بينها وبين سائر الدول العربية الرافضة توقيع معاهدة سلام معها. لا أفق لمبادرة ادارة ترامب هذه، خصوصاً بعدما تمكّنت سوريا والعراق من تجاوز خطر الإرهاب الداعشي، وبالتالي مباشرة إرهاصٍ بنهوض عروبي جديد مقاوم للكيان الصهيوني وحلفائه.
خامسةُ القضايا هي قضية التخلف العربي الذي أنجب، من بين مواليد قميئة كثيرة، الإسلام السلفي المتطرف، الذي أنجب بدوره الإرهاب التكفيري المتوحش. غني عن البيان أن التخلف قضية مزمنة متعددة الجوانب ولا جدوى من مواجهتها إلا بحركة عروبية نهضوية، ثقافية واجتماعية وسياسية، تقودها طلائع مقاومة مدنية وميدانية بنَفَس طويل على مستوى القارة العربية برمتها.
هذا على المدى الطويل. أما على المدى القصير والمتوسط فلا بدّ من اضطلاع قوى المقاومة العربية الحيّة في كلٍّ من سوريا والعراق بمهمة إطلاق حركة سياسية نهضوية لبناء دولة «سوراقيا» المدنية الديمقراطية الاتحادية بغية النهوض بمهمتين تاريخيتين: مواجهة الكيان الصهيوني العنصري النووي، ومقاومة الإرهاب التكفيري المتحالف مع امريكا و»اسرائيل».
المقاومة هي المبتدأ والخبر.
حقّقت المستشارة الألمانية أنغيلا ميركل نصراً جديداً في الانتخابات التشريعية الألمانية يضمن لها تشكيل حكومة للمرة الرابعة رغم أن نتيجة حزبها تراجعت 9 نقاط عن نتيجتها السابقة (41٪ من الأصوات) في الانتخابات السابقة عام 2013، ولكن هذه النتيجة لن تستطيع تجاوز آثار صعود حزب «البديل»، وما يستثير دخوله كممثّل لاتجاه اليمين المتطرّف إلى البرلمان لأول مرة منذ 60 عاماً من ذكريات أليمة لألمانيا وأوروبا والعالم عبر استعادة سنوات ثلاثينيات القرن الماضي التي جاءت بالنازيين وزعيمهم أدولف هتلر إلى السلطة.
ورغم اختلاف السياقات التاريخية، وأن الأغلبية الكبرى من الألمان صوّتوا لأحزاب معتدلة، فإن حصول الحزب المتطرّف على 94 مقعداً، ونيله المركز الثالث في ترتيب الأحزاب، وتحوّله من كيان هامشيّ إلى جزء من الماكينة السياسية التشريعية القادرة على الضغط على الحكومات والسلطات، كل هذا يعني أن هذه الظاهرة ستكون، ولوقت طويل، جزءاً من التاريخ السياسي لأوروبا والعالم، وخصوصاً حين نضعه في سياق صعود الرئيس الأمريكي دونالد ترامب إلى سدّة السلطة، ونجاح أنصار الانفصال عن أوروبا في بريطانيا بالفوز في استفتاء حزيران/يونيو العام الماضي، والمخاوف التي اجتاحت أوروبا مع إمكانيات صعود «الجبهة الوطنية» وزعيمتها مارين لوبان في فرنسا، وكذلك حزب «الحرية» وزعيمه في هولندا غيرت فيلدرز (وتجلّياتها المشابهة في أنحاء القارة وخارجها).
إضافة إلى رفض هذه الاتجاهات للاتحاد الأوروبي، فإن ميولها الاجتماعية والسياسية العنصرية وجدت هدفاً كبيراً آخر غير اليهود (الذين كانوا موضوع الكراهية الرئيسي لهذه الاتجاهات خلال القرن الماضي) هو المسلمون، وقد فاقم هذه المسألة، في ألمانيا خصوصاً، قرار ميركل بفتح الحدود أمام فيض اللاجئين عام 2015، ما أدّى إلى دخول نحو مليون لاجئ معظمهم من سوريا والعراق، إلى البلاد، وهذه كانت العتلة التي رفعت من شعبيّة حزبي «البديل» (الذي فاز بـ12.6٪ من أصوات الناخبين) و«الديمقراطي الحرّ» (10.7٪ من الأصوات) المعارضين بشدة للهجرة.
ورغم التراجع الذي لحق بحزبها «الديمقراطي المسيحي»، وإقرارها بمسؤوليتها عن حالة الاستقطاب الحالية في البلاد فقد كررت ميركل أمس موقفها من قرار فتح الباب للاجئين واعتبرت أن القرارات الأساسية التي اتخذتها سليمة وأنها مسؤولة عنها.
بنت ميركل قرارها المذكور على عمودين متساندين، الأول يتعلّق برؤية استراتيجية للاقتصاد والاجتماع الألمانيين، واللذين يتجهان خلال العقود المقبلة نحو عجز متزايد في عدد السكان الشبان القادرين على قيادة عجلة الاقتصاد ودفع الدماء الطازجة في المجتمع، والثاني يرتبط بمبادئها السياسية وبتاريخها الشخصي الذي وضع مقاربة بين كوارث النزوح والآلام التي تعرض لها الشعب الألماني ونظائرها لدى الشعوب الأخرى.
إضافة إلى تأثير هذه الدعامات الاقتصادية ـ السياسية ـ الاجتماعية والأخلاقية لقرار ميركل في التاريخ المعاصر والمقبل لألمانيا، فإن له أيضاً أثره التاريخيّ في حفظ مصداقية وشرعيّة المبادئ الإنسانية لأوروبا، وكذلك في تخفيف التوترات السياسية والحضارية التي تعتاش عليها التيارات العنصرية في الغرب، وكل من الأنظمة الاستبدادية والتيارات السلفيّة المسلحة في الشرق.
انتصار ميركل، ولو كان مطعّما بالمرارة ومخترقاً بصعود تيارات الفاشية العنصرية، هو انتصار للخطّ العقلاني والإنساني الأوروبي أمام ذئاب العنصرية والاستبداد والتطرف في الغرب والشرق.
لا شك أن التاريخ سيذكر أن سيرجي لافروف وزير الخارجية الروسي الحالي وجون كيري وزير الخارجية الأمريكي الأسبق في عهد باراك أوباما شكّلا ثنائياً شهيراً لسنوات، فقد كانا أنشط وزيرين دوليين في الأزمة السورية، وقد اجتمعا عشرات لا بل مئات المرات، وكانا يقودان عملياً فريقي الصراع السوري، لافروف كان بمثابة المتحدث الرسمي باسم النظام السوري، بينما كان جون كيري يمثل بطريقة ما قوى المعارضة السورية مع الاعتراف طبعاً أن الجانب الروسي كان أصدق وأوثق في تحالفه مع نظام الأسد من الجانب الأمريكي مع المعارضة. ومن كثرة ما التقى لافروف بكيري أصبح هذا الثنائي أشبه بتوم أند جيري بطلي المسلسل الكرتوني الشهير، إلى حد أن البعض قال ذات يوم ساخراً: « ونحن صغار كنا نشاهد توم أند جيري، وعندما كبرنا صرنا نشاهد لافروف أند كيري».
لكن على عكس توم أند جيري اللذين ارتبطا في أذهان العالم بالصراع الأبدي بين القط والفأر، فإن الجميع كان ينظر إلى لافروف وكيري نظرة ريبة وشك، فعلى الرغم من أنهما يمثلان قوتين متصارعتين نظرياً، إلا أنهما كانا في نظر الكثيرين نسخة عن الثنائي الفرنسي البريطاني الشهير سايكس وبيكو اللذين قسّما العالم العربي إلى اثنتين وعشرين دولة عبر الاتفاقية التاريخية الشهيرة المعروفة باسميهما. وقد شك الكثيرون بأن الروس والأمريكيين رغم صراعهما على مناطق النفوذ في العالم، إلا أنهما كانا متفقين على تقاسم النفوذ بسلاسة فيما بينهما في سوريا تحديداً. وقد كان مؤيدو النظام السوري نفسه المتحالفون مع الروس يخشون من ذلك الثنائي الخطير كيري ـ لافروف، وكان بعضهم يعتقد أنهما يتآمران على تقسيم سوريا وغيرها في المنطقة، لا بل إن كثيرين كانوا يعتبرون كيري ولافروف بأنهما أخطر من سايكس وبيكو، لأنهما سيعيدان تقسيم العالم العربي ليس إلى دول كما فعل سايكس وبيكو البريطاني والفرنسي، بل إلى دويلات وأقاليم وطوائف وملل متناحرة.
وأتذكر ذات مرة في محادثة مع أحد مؤيدي النظام السوري أنه قال لي حرفياً: «انتظر ذات يوم تطبيق اتفاق كيري لافروف على الأرض السورية، وعندها سنكتشف أن الروس كانوا متواطئين مع الأمريكيين والإسرائيليين على سوريا وليسوا متحالفين معنا كما يبدون الآن».
لكن الآن وبعد بدأت أمريكا تخرج من المنطقة شيئاً فشيئاً، يبدو أن اتفاق كيري لافروف كان في واقع الأمر كذبة كبيرة، وكان مظهراً من مظاهر نظرية المؤامرة التي تعشش في أذهان الكثير من السوريين والعرب. ومن الواضح أن التحالف الدولي الذي شكلته أمريكا من أكثر من ستين دولة لمحاربة داعش في سوريا كان يهدف إلى مساعدة الروس والإيرانيين والنظام السوري على إعادة إحكام السيطرة على سوريا بدل تقاسم النفوذ مع الروس. وقد بدأنا نكتشف في الأيام الأخيرة أن فكرة سوريا المفيدة بدأت تتلاشى بعد أن بات الروس والإيرانيون وقوات النظام السوري تسيطر على المدن الواحدة تلو الأخرى.
لقد ظن البعض أن مدينة دير الزور التي تشكل جزءاً مهماً من الشرق السوري ستكون من نصيب أمريكا كونها غنية بالنفط والغاز. لكن الجميع تفاجأ بوصول القوات السورية وحلفائها على حين غرة إلى دير الزور. وبذلك إذا سقطت المدينة في أيدي الروس وحلفائهم، فهذا يعني سقوط فكرة سوريا المفيدة التي كانت تعني عملياً تقسيم سوريا بين القوى المتصارعة عليها. وحتى مدينة الرقة فيما لو انتزعتها القوات الكردية من أيدي الدواعش، فلن تكون من نصيب الأمريكيين ولا الأكراد، لأن الروس وقوات النظام والإيرانيين يبدون مصممين على القضاء على الميليشيات الكردية بعد الانتهاء من داعش. وقد شاهدنا في الأيام الماضية أن الطيران الروسي استهدف ما يسمى قوات سوريا الديمقراطية الكردية حسب الاتهامات الأمريكية. وهذا يعني أن اتفاق كيري لافروف الذي ظن البعض أنه يهدف إلى تقسيم سوريا كان وهماً، بدليل أن الروس يريدون السيطرة مع النظام على كامل الأرض السورية، لا بل إنهم أبدوا معارضة واضحة للاستفتاء الكردي في كردستان العراق. وقد طالب بوغدانوف نائب وزير الخارجية الروسي إسرائيل بالتوقف عن دعم الانفصال الكردي وتأييد الحقوق الكردية في سوريا والعراق، واتهمها بالنفاق قائلاً: «أليس من الأفضل أن تعطوا الفلسطينيين حقوقهم في فلسطين بدل دعم الحقوق الكردية في العراق وسوريا؟».
هذه التصريحات والمواقف الروسية على الأرض تنسف اتفاق كيري لافروف تماما وتجعله في مهب الريح، هذا إذا كان موجوداً أصلاً. ويُحسب للروس أنهم منعوا تقسيم سوريا إذا نجحوا في نهاية المطاف في الحفاظ على وحدة التراب السوري ومنع تقسيم سوريا إلى دويلات طائفية وعرقية ومذهبية.
يتخذ استغلال العصبيات الدينية أوجها منفرة ومدمرة للدول والمجتمعات في العالم العربي، وفي لبنان يبرز حزب الله كعنوان أول لهذا الاتجاه منذ عقود، ومع الأزمة السورية برز هذا الاتجاه بشكل فج ومأساوي، عبر الذرائع التي قدمها للتورط في الحرب السورية والتي تقوم على استثمار العصبية المذهبية والطائفية لتجاوز قواعد الدولة وشروطها، ولتبرير الانخراط الفئوي في حرب في دول أخرى كسوريا والعراق واليمن وغيرها، باستثناء نصرة الروهينغا الذين لا يندرجون ضمن مهمات نصرة المستضعفين في برنامج حزب الله ولا إيران. حيث بات مسؤولو هذا الحزب يكررون من على منابره وأخيرا في مناسبة ذكرى عاشوراء، أن الدفاع عن مقام السيدة زينب الموجود في دمشق منذ مئات السنين، معركة مفتوحة في اليمن والعراق والبحرين، ووصف الأمين العام لحزب الله حسن نصرالله هذا القتال بأنّه بالنسبة إليه ولأتباعه واجب شرعي (21 سبتمبر 2017)، أي أن الواجب الشرعي إذا سلمنا بصحته يتقدم على العقد الاجتماعي الذي يربط اللبنانيين في ما بينهم وبين السلطة والقائم على مرجعية الدولة.
إزاء هذا الشعار المدمر للاجتماع الوطني، وللعلاقات بين الدول والشعوب، فإنّ الخيار الذي يقترحه حزب الله هو تهديد الكيانات الوطنية ورسم قواعد جديدة للسلطة لا تقوم على مشروع الدولة، بل على كيانات عابرة للحدود ومفتتة للدول بتفخيخ المجتمعات، وتفجيرها بالعصبية التي تجعل من الخوف عنصر السيطرة والتحكم بها، وتنشأ الحدود على هذا الخوف الذي هو زاد الحروب الأهلية ومصدر الدكتاتوريات وعنصر قوتها.
لم يخف نصرالله اعتداده قبل أشهر حين قال متباهيا إنّ الذين يندفعون من اللبنانيين الشيعة إلى القتال معه في سوريا هم أكثر بكثير من الذين اندفعوا في السابق إلى القتال معه ضد إسرائيل، وهذه بذاتها تشير إلى كيفية تحول العصبية المذهبية والدينية إلى وسيلة لتجاوز كل قواعد الاجتماع الوطني ودستور الدولة وقوانينها. وهذا جوهر المشروع الإيراني الذي لا يقدم للبيئات الشيعية في العالم العربي سوى الخوف من الشريك في الوطن واستعداده لأن يحول أرواحهم إلى عنصر دفاع في مواجهة الآخر سواء كان مسلما سنيا أو عربيا، فهذا الخوف والاستثمار فيه بمزيد من تصعيد العصبية المذهبية، هو ما أتاح لإيران النفاذ والنفوذ ليس من أجل مشروع أفضل أو صيغ تتفوق في منافعها على الناس من صيغة الدولة الوطنية، بل لمزيد من تدمير الدول وإضعافها بما يوفر القدرة على السيطرة عليها.
ما لدى المشروع الإيراني في المنطقة هو القتال. مقولة مواجهة إسرائيل والغرب أصبحت أكثر من كذبة، ذلك أنّ إيران مستعدة لإرسال جنودها لقتال السوريين حتى الموت وليست في وارد أن تتورط في الرد على أي عدوان إسرائيلي فيما تدعي قياداتها وأذرعها في المنطقة أنها تقاتل إسرائيل والمشروع الغربي. قتل عشرات الآلاف من السوريين هو أسهل لدى القيادات الإيرانية من قتل إسرائيلي بسلاح إيراني أو عبر جندي من جنود الحرس الثوري. تفتيت المجتمعات العربية وضرب استقرار دولها نقطة التقاطع بين اطمئنان إسرائيل لمشاريعها من جهة، وضمان النفوذ الإيراني في محيطها العربي.
لقد تهاوت كل الشعارات الإيرانية التي أطلقتها الثورة الإسلامية الإيرانية منذ نحو أربعة عقود، من مشروع الوحدة الإسلامية الذي خلص إلى أن يكون مشروع حرب بين المسلمين، وسقط مشروع الاستقلال عن الغرب والشرق لتتحول إيران عمليا إلى عنصر من عناصر تدمير المكون العربي الوطني والقومي لحساب تمدد نفوذها ونفوذ الدول الكبرى في الجغرافيا العربية وعلى مستوى الأنظمة والثروات. وسقط مشروع النموذج الإسلامي للحكم بعد فشل إيران في إيجاد قبول من التنظيمات الإسلامية السنية التي لا ترى في نظام ولاية الفقيه مشروعا إسلاميا جامعا، بل مشروعا عاجزا حتى عن تقبل المواطنين الإيرانيين من السنة باعتبارهم متساويين في الحقوق والواجبات مع بقية الإيرانيين. وسقط مشروع تقديم نموذج إسلامي جاذب للمسلم وغير المسلم في إيران، التي تعاني من فشل مقولة الاستقلال عن الغرب والشرق، بل ليس من مصدر للثروة الإيرانية يعتد به سوى النفط الذي تتوسل إيران كل السبل من أجل بيعه للغرب لسد الرمق.
المشروع الإيراني أمام مأزق وجودي اليوم، إذ لا يحمل إلا الدمار والانقسامات بعد سقوط كل الشعارات، فالوقائع كفيلة بإظهار موقع السياسة الإيرانية ودور ميليشياتها وأذرعها في المنطقة، لا هي قادرة على القبول بشروط الدولة الوطنية، ولا هي مطمئنة لمسار التفتيت الذي بات يلامس حدودها ومكوناتها، ولعل الدعوة إلى الاستفتاء من أجل انفصال كردستان في العراق مؤشر على ذلك. فإزاء سقوط كل الشعارات التي أشرنا إليها آنفا فإن هذا المسار يفرض نفسه بعدما غالت في استغلال العصبيات المذهبية والطائفية في المجتمعات العربية والإسلامية، والتي لم تنتج إلا قوى وميليشيات مذهبية وطائفية، فإن نجاح هذا المشروع التدميري ينذر بمزيد من الانهيارات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية في المنطقة العربية، والمزيد من الاستغراق في العصبية كما هو حاصل في لبنان عبر حزب الله، فهو اليوم يشكل تعبيرا عن العجز عن إيجاد بدائل قابلة للحياة ولبناء الدولة وتحصينها، فمن يراقب حرص حزب الله في لبنان على تضخيم البعد المذهبي في طريقة إحياء ذكرى عاشوراء مثلا، يلمس أن السلوك التحشيدي والأمني يعبر عن خوف وعجز، كما يرسل بطريقة إحيائه للذكرى لجمهوره بأنّه لا يزال عرضة للخطر وهذه الذكرى ليست إلا للتحشيد والقتال ليتحول قتلة أهل البيت في كربلاء في الوعي العام إلى كل من هو ضد المشروع الإيراني.
وهذا وجه النهاية للأيديولوجيا التي لم تقدم للحياة ما هو جدير بشعوب المنطقة وتاريخها، فهذه الأيديولوجيا ليس لديها سوى الخوف وحرفة صناعته وتزيين الاستبداد وهذا لا يدوم.
سواء تم الاستفتاء الكردي، أو لم يتم، فالعراق وسوريا كيانان عربيان معروضان، في مزايدة إقليمية ودولية، للبيع بالتقسيط والتقسيم، كدويلات طائفية ومذهبية وعنصرية. ولن يكون بينها سلام أو استقرار، بحكم تبعيتها إلى دول إقليمية هي أيضاً متناحرة أو متهادنة.
جاء مشروع الاستفتاء الكردي على أنقاض دويلة «الخلافة الداعشية» التي جرَّت على ذاتها، وعلى العرب السُنة عداء العالم، بسبب تفسيرها الغامض. ومفهومها المتزمت للشريعة (الأحكام الدينية).
لكن الحرب التي شنت على هذا الكيان الداعشي الهزيل هي أغرب حروب التاريخ! فقد أدى ضعف الغرب إلى الامتناع عن إرسال جيوشه إلى الميدان مباشرة. إنما استخدم جيوشاً من المرتزقة المحلية والإقليمية، لهدم الموصل والرقة ودير الزور، على رأس الدويلة الداعشية المنهارة.
أميركا التي كانت المحرك و«المشغّل» الرئيسي لهذه الجيوش الميليشياوية المؤلفة من الأكراد في سوريا والعراق و«الحشد الإيراني» في البلدين، لم تشترط على المرتزقة الانسحاب بعد احتلال هذه الأراضي العربية!
خرجت البيشمركة من كردستان العراق. فشاركت في احتلال ريف الموصل العربي الواسع، هي وقوات «الحشد» الشيعي العراقي بقيادة ضباط «فيلق القدس» الإيراني، وعلى رأسهم قاسم سليماني الذي أرسله المرشد علي خامنئي لتهديد و«تخويف» مسعود بارزاني صاحب الاستفتاء.
لماذا تهدد إيران «شريكها» بارزاني في حرب أميركا على الإرهاب «الداعشي»؟! لأن لدى إيران ستة ملايين كردي حُشروا في بوتقة عنصرية آرية من صنع العنصر الفارسي في الدولة الشاهنشاهية، منذ أيام الحكم الصفوي، إلى ملكية آل قاجار. ثم إلى ملكية آل بهلوي التي أسسها رضا بهلوي. وورثها ابنه محمد الذي نصَّبته روسيا وبريطانيا اللتان احتلتا إيران في الحرب العالمية الثانية، خشية من الميول الهتلرية النازية لدى أبيه.
هذه التفاصيل التاريخية لا بد منها، لكي يعرف العرب جذور الإشكالية الكردية التي تشكل جانباً مهماً من الصراع الديني والعنصري المرير في الخليج والمشرق العربيين.
وهكذا، فالأكراد (الإيرانيون) سوف يطالبون أيضاً باستفتاء، كحقٍ لتقرير مصير وجودهم في البوتقة الإيرانية المفبركة التي تضم فرساً وعرباً شيعة على امتداد الضفة الشرقية للخليج وأذربيجانيين من التركمان الشيعة في الشمال. وعشائر سنية متذمرة. لأنها مفصولة عن أصولها الباشتونية في باكستان. ولا شك أن أكراد إيران (سنة وشيعة) سوف يستهويهم الانضمام إلى دولة مستقلة يشكلها أكراد (سنة) في كردستان العراق.
أما تركيا إردوغان التي تجد نفسها إلى جانب «صديقتها» اللدودة إيران ضد دولة كردية مستقلة في العراق، فهي أيضاً لديها عشرة ملايين كردي، كان آباؤهم وأجدادهم أقلية صغيرة في منطقتهم الجبلية الجنوبية الشرقية، عندما ضمتها الدولة العثمانية لاستكمال استدارة هضبة الأناضول، طاردة الفرس الذين كانوا يحتلون «كردستان» التركية والعراقية، في القرون الإسلامية الوسيطة.
مشكلة النظام التركي الإسلامي مع أكراده، أكبر من مشكلة إيران مع أكرادها. فتركيا لا تطل فقط على كردستان العراق، إنما أيضاً تطل من سلسلة جبال طوروس الجنوبية، على السهول السورية الخصبة. فتشتبك في مواجهة صعبة مع أكراد سوريا الذين دعمهم نزوح عشرات ألوف الأكراد من تركيا بقيادة عبد الله أوجلان زعيمهم اليساري. فآواهم الرئيس حافظ الأسد لمجرد كون أوجلان علوياً. فخاض هؤلاء، منذ الثمانينات حرباً حدودية مع تركيا بتمويل سوري، قُتل فيها خمسون ألف كردي وتركي. وانتهت بإنذار تركي إلى الأسد بغزو سوريا. فأقنع بشار أباه بطرد أوجلان في أواخر التسعينات. فوقع في أسر الأتراك. ويقيم الآن معتقلاً في جزيرة تركية صغيرة في بحر إيجة.
لكن بشار الذي ورث بدوره أباه (سنة 2000) عاد فصالح الأتراك. وحسَّن علاقته مع إردوغان. وصالح الأكراد. فمنح نحو 65 ألف كردي نازح من تركيا الجنسية السورية. مع ذلك، لم تمضِ الرياح المتقلبة بمركب بشار كما يشتهي. فتعطلت لغة الكلام مع إردوغان الذي نصحه بالتخلي عن الحكم.
في هذه الأثناء، استغل الأكراد تخلي «المعارضات» السياسية والمسلحة عن العروبة، فأقاموا منطقة «حكم ذاتي» على الحدود السورية - التركية. عاد الأتراك. فأسلموا مع آخرين هذه المعارضات. واعتمدوا عليها، في اختصار منطقة الحكم الذاتي الكردية. فبقيت في شرق الفرات.
بغباء منقطع النظير، رفضت أميركا أوباما عرضاً تركياً بالقضاء على الدويلة «الداعشية» في شرق سوريا. فوض أوباما الأكراد بالمهمة. فزحفوا من الحدود نحو الجنوب. فاحتلوا الرقة «الداعشية». وتوقفوا على أبواب دير الزور التي سبقتهم إليها قوات بشار مدعومة بطيران روسيا. وبتعزيزات برية إيرانية.
نبهت منذ شهور في «الشرق الأوسط» إلى أن دير الزور ستكون مسرحاً لحرب دولية - إقليمية، من شأنها تعطيل أي حل دولي أو إقليمي للأزمة السورية التي شردت سبعة ملايين سوري مهاجر إلى الخارج. وحاصرت ملايين السوريين في دمشق. والمدن الكبرى. والريف، موزعين تحت نير نظام طائفي شرس. أو تزمت معارضات انتهازية مسلحة متناحرة «تأسلمت» لإرضاء مموليها. وتخلت عن عروبتها لإرضاء داعميها في الغرب الذين عادوا لتعويم نظام الأسد فوق بحر من دماء 600 ألف سوري ذُبحوا في سني الانتفاضة السبع.
كيف تبدو آخر صورة «سيلفي» للعراق وسوريا في الهاتف «الذكي» المحمول عربياً؟ الدبلوماسية الأميركية منهمكة في تبويس شوارب الأكراد، راجية عودة «المارد» الكردي إلى القنينة التي أطلقه منها أوباما، ريثما تسترضي نظام العبادي ليقف على قدميه في مواجهة إيران السابحة في دجلة والفرات.
القوميسار بوتين ليس بحال أحسن من حال أميركا. فعليه أن يهدئ أولاً من غلواء صبي كوريا النووية الذي يهدد «الجبار» ترمب. وعليه أن يعثر ثانياً على مخبأ في سوريا لحليفه مرشد إيران الذي يصف «أمريقا بالقاوبوي». وعلى بوتين ثالثاً، أن يظل صامتاً أمام تحدي إسرائيل له، بقصفها «مؤونة» «حزب الله» من صواريخ إيرانية تنتظر من ينقلها من مطار دمشق إلى لبنان، شرط أن لا يراها جيش الجنرال عون. ولا يصادرها الرئيس سعد الحريري.
ثمة شيء محير فعلاً في الممارسات الانتصارية التي تشهدها دول المشرق الثلاث، أي العراق وسورية ولبنان. فالتحقق من أن النصر تم لأصحابه يجري كل صباح، بما يوحي بأن المنتصر مرتاب بنصره، ويريد أن يمارسه استباقاً لانكشافه. أو هو يريد أن يثبت شيئاً في هذا الوقت القصير الذي هو عمر النصر.
المنتصر غير أريحي على ما هي عادة المنتصرين، ولا يريد للمهزومين غير هزيمتهم. والمنتصر يبدو مستعجلاً، فما أن ينهي معركة صغيرة حتى يطوبها فتحاً. هو مبدئياً لا يحتاج إلى ذلك، لكنه يفعله. حزب الله لا يحتاج لأن يقول أن معركة الجرود هي النصر الثاني بعد النصر الأول في عام 2006 على إسرائيل. فهو في قوله ذلك عرض نصر تموز لمساءلة تشبه المساءلات التي تعرض لها نصر الجرود. وعلى رغم ذلك لم يتردد الحزب في تطويب «نصر الجرود» نصراً ثانياً.
الضيف الإيراني على محطة التلفزيون الموالية لطهران، لم يكن بحاجة لأن يقول للضيف الآخر الكردي العراقي «أنا أحدثك من هنا من بيروت وأقول لك أن أكراد إيران لا يتعرضون لاضطهاد». بيروت بحسبه العاصمة الرابعة بعد طهران وبغداد ودمشق، التي يمكن لضيف إيراني أن يرفع إصبعه منها ملوحاً بأن النصر قد تم واكتمل. ناهيك عن أن إيران كان بإمكانها أن تمارس النصر في العراق من دون أن تعلنه على شكل صور عاشورائية تجتاح مناطق السنة «المهزومين».
ليست هذه نرجسية المنتصر، ذاك أن للنرجسية صوراً أكثر خبثاً وذكاء. ثمة شعور مركب هنا. ثمة هزيمة أصلية تجثم على صدر المنتصر وتجعله غير مستوعب نصره، وفي مقابل ذلك ثمة شيء غير منطقي، وإن كان واقعياً، في مشهد النصر هذا. فالانتصار على الجماعة الأكثر عدداً في المنطقة يُنذر بانقلاب وشيك، ويؤسس لانعدام في التوازن لا يُطمئن.
السهولة التي يتم فيها إشهار النوايا في ظل النصر تدفع إلى التأمل في حال المنتصر. فسرعان ما تحول «الجسر الإمبراطوري» الذي ربط طهران ببيروت عبر العراق وسورية من وظيفته العسكرية، إلى صلة وصل مذهبية. الأمر كان يحتاج إلى بعض الوقت حتى تُدعم قواعد الجسر، لكن الذي جرى أن التحول لم ينتظر كثيراً حتى كشف عن وظيفته الأخرى. صار اليوم الطريق الذي سلكه الضيف الإيراني على محطة التلفزيون اللبنانية لكي يصل إلى بيروت ويؤشر منها بإصبعه للضيف الكردي. وعبر نفس الجسر جرى نقل عدة التشيع الجديد للشيعة اللبنانيين، وها نحن ننتظر عاشوراء غير تلك التي كنا نعيشها في السنوات اللبنانية لهذه المناسبة.
المهمة لم تنتظر اكتمال النصر ونضوجه وتحوله سياسة. المنتصر مستعجل ولا وقت لديه لكي تســـتقر الجماعات على واقعها الجديد. في العراق تشــــــهد الموصل تسريعاً لخطوات الحشد الشعبي في إخضاع المدينة، وفي ســـورية قال رئيس النظام هناك إن الملايين الذين هُجروا لن يعودوا لأن عودتهم ستطيح «انسجاماً اجتماعياً» أرســاه اقتلاعهم من بلادهــم، وفي لبنان تجول سيارات المنتصرين في أحــياء المـــهزومين رافـــعة رايات عاشورائية جديدة ومستقدمة عبر الجسر الإمبراطوري.
ثمة استثمار سيىء للنصر العسكري، وهو استثمار مهدد لدوامه، ذاك أن النظام الذي اهتز في السنوات العشر الأخيرة وعاد والتقط أنفاسه، يُكرر أخطاء كادت تطيحه. فمن غير الفطنة جعل الشعيرة المذهبية بيرق النصر الوحيد، وتوسيع دائرة المهزومين يفتح شهية الراغبين في الانتقام. ويشهد على هذه الحقيقة حلفاء المنتصر من أبناء الجماعة المهزومة، إذ إن أصواتهم سرعان ما بدأت تصدر طالبة التروي استباقاً لانقلاب يلوح.
المشهد يسوده خلل كبير. النصر أنشأ اختلالاً هائلاً في التوازن. الضبط الديموغرافي نجح في تدمير مدن المهزومين، إلا أنه لم ينجح في إزاحتهم من طريق الجسر المذهبي الجديد. ملايين السكان انتقلوا من المدن إلى مخيمات في جوارها. المنتصر سيتعثر بهؤلاء النازحين قريباً. لا بل هو بدأ يتعثر. نزوح ملايين السنة من أرياف دمشق وحمص إلى لبنان أعفى حاكم دمشق من عبئهم المذهبي، لكنه أخل بتوازن ديموغرافي لبناني مهدد مستقبلاً لتفوق حزب الله. الأمر نفسه في الموصل، ذاك أن أهل الساحل الأيمن يقيمون اليوم في مخيمات ليست بعيدة عن مدينتهم، وسيعودون قريباً جزءاً من الحساب المذهبي.
لا يقيم المنتصر حساباً لهذا الاختلال الكبير الذي لن يكون في مصلحته في المستقبل القريب. لا يسعى إلى تأسيس نفوذ يعدل من أخطاره. يذهب في نصره إلى أقصاه، رافعاً شعيرة مذهبية لن تدفع المهزوم إلى التعامل بواقعية مع هزيمته.
ثم أن طغيان مشهد الانتصار يُغفل حقيقة أخرى، تتمثل في أن مساحات جغرافية وديموغرافية هائلة ما زالت خارج مشهده. القول أن النصر تم، صحيح إذا ما نظر المرء إلى المشهد من خارجه. أما من داخله فهناك الآلاف من الوقائع تؤشر إلى غير ذلك. فمدينة طرابلس اللبنانية مثلاً، يمكن أن يُمارس النصر عليها من خارجها، أما من داخلها فثمة وقائع تجري بعيداً من تأثير المنتصر. ويصح ذلك على مدن ومخيمات وتجمعات كثيرة، فيما ترسل المناطق التي يُمارس فيها الانتصار صورها مؤسسة لضغائن لا يبدو أن ثمة راغباً في التعامل معها.
السياسة لا تُفسر ما يجري، واستيعاب نصر ملتبس يحتاج إلى منتصر حكيم. نحن هنا حيال «نفس جماعية» تمارس النصر وهي مدركة استحالة تحوله حكماً وسلطة ومستقبلاً. أما السياسة هنا فتكمن فقط في أن ثمة راعياً لهذا النصر غير معني بمســـتقبل الجماعات المتناحرة في هذا الإقليم، لا بل هو راغب بتحطيمها. راع لا يمت إلى طبيعة العلاقات التي تربط الجماعات الأهلية بغير علاقة أيديولوجية سرعان ما يتم ابتذالها في نزاع مذهبي ها نحن نشهد اليوم ذروة صوره.
كل هذا لا يُلغي الذهول الذي يخلفه شعور المنتصر بأن نصره وجبة سريعة عليه هضمها على نحو سريع.
لم تستطع الجهات الخارجية من تقديم نموذج ايجابي يتناسب والأهداف التي دفعهتا للولوج للساحة السورية، بل ساهمت بتعقيد الملف أكثر فأكثر حد انقلبت الآية في كثير من الأحيان، وتحول المظلوم لعدو عالمي.
جمل التشكيك والتخوين التي هي حاضرة دوماً عند توجيه الإنتقاد لأي جهة في المناطق المحررة، لن تكون مانعاً من كشف حقائق كانت شرارة الثورة، وسبب استمرارها دون أي تنازل عن أي هدف أو مبدأ صغر أو كبر.
لايحتاج الأمر لأمثلة أو مسميات مبهمة، إذ المكاشفة أمر ضروري، فهيئة تحرير الشام، بجميع ألوانها السابقة (جبهة النصرة – فتح الشام) والتي تبنت نهج ومنهج لنفسها، سعت لتحقيقه على حساب نصرة الدين والثورة، فحاربت جميع الفصائل وخلقت اقتتالاً داخلياً كبيراً مع أكثر من 26 فصيلاً، باسم محاربة الفساد والمفسدين وتطهير البيت الداخلي، فحاربت كل من يقف عثرة في سبيل تحقيق مشروعها في تملك بالمناطق المحررة وبناء كيان لايمكن الوقوف في وجهه، فأنهت أكثر من 16 فصيلاً لايبدو أن آخرهم حركة أحرار الشام.
الايهام بالشعارات الدينية نجح نوعاً ما في جذب الحاضنة الشعبية مع تواصل المعارك ضد النظاموحلفاءه، وإزداد الأمر مع قسوة الرد الروسي الذي أقحم نفسه بكامل قوته.
من خلال عملياتها العسكرية التي لايمكن لأحد أن ينكرها ضد قوات الأسد، وعلا صوتها وباتت الحاضنة الشعبية تلتف حولها بشكل كبير، كونهم وجدوا فيها فصيلاً قوياً قادراً على صون حقوقهم ورد الظلم عنهم، إلا أن الأمر ومنذ اكثر من عام تغير بشكل كبير.
صحيح أن الأمور الآنفة لازالت ظاهرة بكل سطوتها ودمويتها، إلا ان الإلتفاف الشعبي شهد تغيراً كبيراً سيما خلال العام المنصرم ولازال مستمر.
التغير له أسبابه ومقدماته، أبرزها نهج تحرير الشام في حرب كل من يهدد كيانها لاسيما فصائل الجيش الحر، وملاحقت أبناء الثورة ونشطائها الأوائل، فهجرت من هجرت واعتقلت من اعتقلت، حتى ملئت سجونها بمئات الثوار والنشطاء لايعلم حالهم إلا أؤلائك القابعون في معتقلات الأسد.
في حين كان الرد أقل حدة اتجاه من يماثلها بالإيدلوجية، وسعت لتهريب القتلة كما حدث في بدايات تنظيم الدولة وظهر بشكل جلّي ابان قضية جند الأقصى.
السيطرة على جميع مقدرات المناطق المحررة، وانتهاجها سياسة الاقصاء لكل المؤسسات المدنية، واغليف تصرفاتها بكيان مدني خاص، لايملك من الإعتراف إلا أؤلائك المشاركين به بشخوصهم.
واستمراراً في ايضاح المخالفات التي وقعت هيئة تحرير الشام فيها، وضح مع تزايد المهجرين لمحافظة إدلب وضيق المخيمات بهم، ولم تكتفي الهيئة بالتغيب عن دورها في المساعدة، بل صعدت من التضييق وفرض الأتاوات على المنظمات الإنسانية.
أمور جمة وكثيرة جعلت الحاضنة الشعبية تتراجع شيئاً فشيئاً وتنفض من حول تحرير الشام، فكثر الناقمين والمتعطشين للثأر من نير الظلم، احتدت الأمور مع غياب أي أفق للمصالحة، مع اعتماد جبهة النصرة أو فتح الشام أو تحرير الشام، على حكم الشريعة التي تكون فيه الخصم والحكم ومنفذ الحكم في آن معاً.
وتعد المعركة الوهمية التي أطلقتها تحرير الشام في ريف حماة الشرقي، و المناوشات "الإنغماسي" في ريف حلب الغربي، الشعرة الاخيرة في العلاقة مع الحاضنة الشعبية، وحولتهم لأهداف دون داع لذلك من مجموعة من الأعداء لا غاية يملكونها إلا ايجاد مبرر يتيح لهم مواصلة القتل.
العجز عن التعبير عن الإنتقاد علناً أو في أرجاء الفضاء الالكتروني خشية الاعتقال، دفع الشعب للتعبير عبر الكتابات على الجدران والتي تصاعدت بشكل كبير لاسيما في المدن الرئيسية بينها مدينة إدلب مركز الثقل الرئيسي لتحرير الشام وقبضتها الأمنية.
ولطالما عول المدنيون في المناطق المحررة على تغير تصرفات وسياسة تحرير الشام تجاه المدنيين والفصائل والحاضنة الشعبية لها، إلا أنها استمرت في عمليات التضييق والاعتقال دون أي تغير في نهجها وسياستها، حتى وصل الحال لخروج المتظاهرين في مناطق عدة للهتاف ضد تحرير الشام أبرزها معرة النعمان وسراقب ومدينة إدلب ومناطق أخرى، لم يسلم من خرج من الاعتقال.
تتصاعد حدة الضربات الجوية الروسية على مدن وبلدات ريف إدلب، وتتزايد معها شلالات الدم والدمار والتشريد من جديد، ضمن حملة هستيرية على المحافظة كرد روسي على معركة بدأت فيها تحرير الشام بريف حماة الشمالي ليوم واحد وتوقفت بعد ذلك دون تبريرات عن الأسباب، تاركة المناطق المدنية عرضة لأعتى هجمة من عدو اعتاد على منظر شلالات الدم والدمار.
في كل قوانين الحرب في العالم يكون الهجوم أفضل وسيلة للدفاع، أو على أقل تقدير الضغط وتحقيق التوازن في القتل والرعب والتدمير، لتجبر عدوك على الخضوع ووقف القصف والقتل، من خلال استهدافه مواقع حساسة تصيبه في مقتل، وهذا مالم تستخدمه الفصائل حتى اليوم في ردع الفورة الروسية لقصف المدنيين في إدلب بعد أن تعطش لدماء أهلها لأشهر عدة عاشوها بدون قصف ودماء.
ولعل الأوراق التي تملكها الفصائل في إدلب والتي تستطيع تغيير الموازرين والضغط على روسيا لوقف الحملة كثيرة جداً، من هذه الأوراق هو حلفائها الميليشيات الشيعية المحاصرة في بلدتي كفريا والفوعة، والتي فرغت من غالبية المدنيين فيها خلال عمليات الإخلاء السابقة، وباتت الميليشيات الشيعية تعيش في نعيم من الأمن والأمان بعيداً عن القصف، بعد أن غدا محاصروها هم حماتها الساهرون على أمنها، في الوقت الذي تعيش المدن والبلدات المحيطة بها جحيم القصف والموت اليومي.
طيلة الأيام السبعة من الحملة العسكرية على ريف إدلب لم تقصف الفصائل ولو صاروخاً واحداً على الميليشيات الشيعية في بلدتي كفريا والفوعة، واكتفت ببضع رشقات من الصواريخ على مواقع لقوات الأسد، لم تكن أكثر من إبر مسكن لتهدئة الشارع الغاضب، في الوقت الذي تمنع فيه الفصائل أي استهداف للميليشيات الشيعية والتي لو ضربت بقوة أو شنت حملة عسكرية ضدهم لربما تخفف من الغارات المستعرة على المدنيين.
ولربما يقول قائل بأن الفصائل مرتبطة باتفاق طويل المدى مع الميليشيات الشيعية، نعم هو الوفاء بالعهود، ولكن ... كم عهداً نقصه الروسي وقلبوا الأرض وقتلوا وسفكوا من الدماء ولم يلتزموا بأي اتفاقيات، كذلك إيران وكذلك الأسد، إلا أن الفصائل تلتزم لأن فيه مصلحة لها وفيه منفعة للفصيل على حساب دماء الشعب السوري النازف.
يتساءل الشعب المعذب المستباحة دمائه عن موقف آلاف العناصر المدججين بالسلاح، المعتزين بأنفسهم وسلاحهم، المتبخترين فيه في الساحات والطرقات والأعراس والحفلات، أين هذا السلاح اليوم، وأين أنتم من نجدة المستضعفين والاستجابة لنداء الثكالى والأرامل ..؟، أين أنتم من أنات الجرحى وأوجاع المشردين في المخيمات ...؟، أما آن للصادقين أن يصحوا ويقفوا موقف رجل واحد للذود عن أهلهم والدفاع عنهم ورد الظلم .... آلا نامت أعين الجبناء.
كان خطاب الرئيس دونالد ترامب في الأمم المتحدة ناريا بالفعل، خصوصا في تناوله كوريا الشمالية، التي هدّد بـ”تدميرها عن بكرة أبيها”. مضى زمن لم تلجأ فيه الولايات المتحدة إلى هذه اللغة التي تعبّر في الحقيقة عن شخصية ترامب وإصراره على رفض أيّ تحدّ من أيّ نوع للقوّة العظمى الوحيدة في العالم أكثر من أيّ شيء.
يبقى التصعيد الكلامي شيئا والأفعال على أرض الواقع التي تحتاج إلى اقتران القول بالفعل شيئا آخر. إنه الفارق بين التنظير والكلام الجميل والحماسي من جهة وبين الممارسة من جهة أخرى. هل ترامب الرئيس يختلف عن ترامب المرشّح الذي فاجأ العالم بوصوله إلى البيت الأبيض؟
بعد كوريا الشمالية، لم يوفّر ترامب إيران التي وصف نظامها وقادته بطريقة تشير إلى أن المحيطين بالرئيس الأميركي يعرفون تماما طبيعة هذا النظام. ولكن يبقى أهمّ ما في الخطاب، الربط بين الإرهاب السنّي والإرهاب الشيعي، أي بين “داعش” من جهة والميليشيات المذهبية التابعة لإيران من جهة أخرى. سمّى الرئيس الأميركي “حزب الله” ولم ينس الإشارة إلى نشاطات النظام الإيراني نفسه خارج حدود البلد وإلى إن إدارته غير راضية إطلاقا عن الاتفاق في شأن الملف النووي الإيراني الذي توصلت إليه مجموعة الخمسة زائد واحدا مع طهران صيف العام 2015.
هناك في الواقع ما هو أهمّ من الاتفاق في شأن الملفّ النووي الإيراني الذي تدعو دول عدّة من بينها ألمانيا وفرنسا إلى المحافظة عليه وإن مع بعض التعديلات عليه، كما تقترح فرنسا. أوضح الرئيس إيمانويل ماكرون أن هذه التعديلات يجب أن تأخذ في الاعتبار الصواريخ الباليستية التي تسعى إيران إلى تطويرها. هنا يأتي الربط بين إيران وكوريا الشمالية في مجالي إنتاج الصواريخ والتكنولوجيا النووية. من الواضح أن هذا الربط لم يعد خافيا على إدارة أميركية تضمّ مجموعة من كبار الضباط السابقين الذين عملوا على الأرض في أنحاء مختلفة من الشرق الأوسط.
إضافة إلى ذلك كلّه لم يتجاهل ترامب النظام السوري وخطورته على شعبه أوّلا، خصوصا استخدامه للسلاح الكيميائي في الحرب التي يشنّها على السوريين منذ ما يزيد على ست سنوات. هذا يعني وجود فكرة متكاملة لدى الإدارة عن تلك الشبكة الواسعة التي في أساسها كوريا الشمالية وامتداداتها في إيران وسوريا، وربّما دول أخرى.
كلام الرئيس الأميركي جميل وواقعي. لم يبع الفلسطينيين أحلاما أو تمنيات. تجاهل قضيتهم برمتها، أقلّه في خطابه. يعكس التجاهل مدى تراجع القضية الفلسطينية، علما أن الملك عبدالله الثاني يسعى، كلّما وجد الفرصة المناسبة، إلى تأكيد أهمّية إيجاد تسوية على أساس حلّ الدولتين نظرا إلى أن ذلك سيخدم الاستقرار الإقليمي.
لكنّ موقف ترامب يعكس أيضا نوعا من الصدق، خصوصا أنّه لا ينوي الدخول في أيّ مواجهة مع رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو إضافة إلى أنّه لا يراهن على أيّ تطور في الذهنية الإسرائيلية. يظل رفض ترامب القيام بمثل هذا النوع من الرهانات قمة الواقعية السياسية… علما أنه سعى لاحقا إلى طمأنة رئيس السلطة الوطنية محمود عبّاس (أبومازن) إلى أنّه ما زال مهتما بالتسوية والسلام في الشرق الأوسط كلّه.
من يدقّق في ما قاله الرئيس الأميركي لا يكتشف فقط وعيا وإدراكا عميقين لطبيعة النظام الإيراني الذي يهدّد السلام والاستقرار في المنطقة كما يستخدم الإرهاب في التعاطي مع دول الجوار وأداة لتنفيذ سياساته. ما كان ينقص خطاب ترامب جملة واحدة. هذه الجملة هي الآتية: هل المشكلة في الملفّ النووي الإيراني الذي يعتبره اتفاقا سيّئا وفي حاجة إلى إعادة نظر، أم المشكلة الحقيقية هي في استخدام إيران هذا الملفّ لتغطية سياسات مرتبطة بمشروعها التوسّعي القائم على الاستثمار في الغرائز المذهبية لتفتيت الدول العربية الواحدة تلو الأخرى بواسطة ميليشيات معروفة الطابع والهوية والانتماء والأهداف؟
مرّة أخرى، يظل الكلام الجميل كلاما. في استطاعة الولايات المتحدة تدمير كوريا الشمالية. تمتلك ما يكفي من القذائف لعدم إبقاء حجر على حجر فيها في حال تجرّأت على عمل يمس الأمن الأميركي مباشرة. لكنّ الموقف من إيران التي تتصرّف كدولة تعتقد أن المسؤولين في العالم العربي مجموعة من السذّج، موقف مختلف.
باتت إيران جزءا لا يتجزّأ من كلّ مشروع يهدف إلى تدمير المجتمعات العربية عن طريق ميليشيات مذهبية تحلّ مكان مؤسسات الدولة. يكاد لبنان، مثلا، أن يصبح رهينة لدى “حزب الله”. هناك ميليشيا لبنانية تابعة لإيران لا تكتفي بممارسة ضغوط على الحكومة اللبنانية، بل إنّها لا تقيم أيّ اعتبار للحدود التي تفصل بين لبنان وسوريا. هل يدرك ترامب معنى ذلك على مستقبل لبنان وسوريا في آن؟ لم يعد في استطاعة أيّ مسؤول لبناني، باستثناء عدد قليل من السياسيين، تسمية الأشياء بأسمائها والقول ما هو مفترض به قوله عن خطف “حزب الله” الطائفة الشيعية في لبنان وهو في صدد خطف لبنان كلّه. يمكن أن يحصل ذلك في أيّ وقت لولا وجود مقاومة حقيقية له من داخل الطائفة الشيعية نفسها ومن المجتمع اللبناني الذي لا يزال متمسّكا بثقافة الحياة بديلا من ثقافة الموت التي تصبّ في حماية المصالح الإيرانية ولا شيء آخر.
المشكلة مع إيران ليست محصورة في الملفّ النووي، بل ليست في هذا الملف ولا حتّى في الصواريخ الباليستية. حسنا، حصلت إيران على القنبلة النووية. ما الذي ستفعله بها؟ تظل الميليشيات المذهبية التابعة لإيران أخطر بكثير من القنبلة النووية ومن الصواريخ الباليستية. غيّرت هذه الميليشيات طبيعة العراق. غيّرت طبيعة بغداد وغيرت البصرة ودمّرت ميليشياتها المسمّاة “الحشد الشعبي” مدينة الموصل، بدعم أميركي للأسف الشديد، بحجة أنّها في حرب مع “داعش”.
يمكن الكلام طويلا أيضا عن الدور الإيراني في سوريا وعن تدمير المدن السنّية الواحدة تلو الأخرى، وعن مدى ارتباط إيران بالأحداث اليمنية والميليشيا الحوثية المسمّاة “أنصار الله”، وسعيها في مرحلة معيّنة إلى استخدام “حماس”، ليس من أجل قطع الطريق على أيّ تسوية سلمية فقط. استخدمت إيران “حماس” ودفعتها إلى لعبة العمليات الانتحارية التي لم تستفد منها إلّا إسرائيل واستخدمت “حماس” في لعبة أخرى اسمها دعم الإخوان المسلمين في مصر!
لا شكّ أن الخطاب الأخير لدونالد ترامب، وهو الخطاب الأوّل له أمـام الجمعية العمومية للأمم المتحدة، كان خطابا مدروسا. ركّز على ما يؤمن به الرجل بالنسبة إلى “أميركـا أوّلا” و”سيــادة الدول”. قال الأشياء كما يجب أن تقال من دون عقد، مع مراعاة زائدة لروسيا والصين. ولكن ماذا بعد ذلك، هل من تابع للخطاب أو ملحق له؟
لعلّ السؤال الذي سيطرح نفسه عاجلا أم آجلا، هل يمكن للإدارة الأميركية بلورة سياسة واضحة تجاه الشرق الأوسط عموما وإيران بالذات؟ سيتوقف كلّ شيء على بلورة مثل هذه السياسة. تعني هذه السياسة أوّل ما تعني الموقف الواضح من النظام السوري وضرورة إخراج إيران من سوريا التي ترمز إلى الدور الذي تلعبه الميليشيات المذهبية التابعة لإيران في غير اتجاه، خصوصا في اتجاه لبنان والعراق. هذه الميليشيات هي السلاح الإيراني الواجب انتزاعه قبل التفكير في إعادة فتح ملفّها النووي الذي يظل خدعة، ساهمت إسرائيل في تسويقها، أكثر من أيّ شيء آخر…
الأمور المضحكة قلما تحصل في الطبقات العليا للنظام الديكتاتوري، أعني القصر الرئاسي، والشُّعَب المخابراتية، والقيادة العليا لضباط النخبة. السببُ أن هذه المؤسسات تُحيط نفسها بطبقاتٍ كتيمة، لا يستطيع أبناءُ الشعب، و(العوام) اختراقها.. ومعلومٌ أن المواقف الفكاهية لا تَحْدُثُ إلا في أثناء الاختلاط والمواجهة، حيث يظهر التباينُ في الطباع والتفكير، ويعلو الضحك. ولعل الأماكن القليلة التي تشهد مواقف طريفة، في بعض الأحيان، هي المداخل الرئيسية لهذه الأماكن، ففي ذات يوم، حضر رجلٌ تبدو عليه علائم الغفلة و"الدروشة" إلى القصر الرئاسي، وطلب من عناصر الاستعلامات مقابلة القائد حافظ الأسد، فضحكوا منه، وقالوا له: يا غبي، حافظ الأسد مات من زمان. فانصرف محوقلاً، وعاد في اليوم التالي، وكرّر طلبه، وكرّروا الجواب. وفي اليوم الثالث، بمجرد ما وصل، اعتقلوه، ووضعوه ضمن الدولاب، وشرعوا يضربونه ويسألونه عن سر هذه الزيارات المشبوهة، فاعترف لهم بأنه يفعل ذلك لأن عبارة (حافظ الأسد مات) تُطْرِبُه! .
أما في طبقات الحكم الأدنى، فالحكايات المضحكة كثيرة جداً، منها أن رجلاً يتمتع بذكاء متوسط، وشخصية ضعيفة، عَيَّنَهُ حافظُ الأسد محافظاً على إدلب التي كان يكرهها طوال سنيّ حكمه، ثم أورث كراهيتها لولديه بشار وماهر. وكان ذلك المحافظ يلتقي، في أوقات فراغه، بأشخاصٍ من أهل المدينة يحبّهم ويقرّبهم منه، ويثق بهم، وطوال السهرة يحكي لهم عن الذل والإهانات التي يتعرّض لها في أثناء عمله. وفي إحدى السهرات، أسَرَّ لهم بأنه لولا الخوفُ من أن تجعلهم استقالتُه يرتابون منه، ويغضبون عليه، ويعتبرونه متخاذلاً، ساقطاً على دروب النضال، لاستقال وترك لهم الجَمَل بما حمل.. وقال: تصوّروا، إنني أرفعُ طلباً لتنفيذ مشروع خَدَمي حيوي، فلا يأتيني الرد من رئاسة مجلس الوزراء إلا بعد شهور، ويأتي فيه أن هيئة تخطيط الدولة لم توافق، لأن الخطة الخمسية لا تتضمن مثل هذه المشاريع، فإذا حكيتُ، في اجتماع المحافظين الشهري، عن معاناتي، ونَقْص المشاريع والخدمات في محافظتي، يتذمرُ الوزراءُ والمسؤولون الكبار ويقولون لي: شو؟ يعني ما في عندنا غير محافظة إدلب؟ وفي إحدى المرات، ارتكبتُ خطأ لا يمكن أن يرتكبه محافظٌ عاقل، إذ لعب بعقلي صحفي متمرّن، وجعلني أتحدث بصراحة، فقلت إن ثمة أشخاصاً في القيادة (فوق) لا يريدون الخير لمحافظة إدلب. وفي أول سفرة إلى دمشق، وبينما أنا أسير في أحد أروقة وزارة الإدارة المحلية، إذ شعرتُ بضرورة الدخول إلى الحمام، وما إن دخلت حتى تناولني رجل يشبه البغل من ياقتي، وأسند رجل آخر شبيه بالديناصور البابَ بجسمه لئلا يُفتح، وقال لي: اسمع يا محافظ إدلب، معلمنا اللواء فلان يسلم عليك، ويقول لك إذا لم تسحب الكلام الذي تفوهت به للجريدة التافهة وتعتذر عنه فالأمر سيكلفك كثيراً..
اعتذر المحافظ، بالطبع، عن غلطته، عبر الصحيفة نفسها، للشعب السوري، وللقيادة الحكيمة، وقال إنه بنى الآراء التي نشرها في الصحيفة على معلوماتٍ تبين أنها غير دقيقة! وأوضح أن محافظة إدلب، على عكس ما جاء في التصريح الصحفي، تنعم بالخير العميم، بل إن عطاءات القائد الكبير توشك أن تطمرها. ومن يومها، تسلطت عليه الدوريات الأمنية، وأصبحت مثل مكوك الحايك، دورية رايحة ودورية غادية، وكل واحد من أفرادها يطلب لنفسه مكاسب وأعطيات، وفوقها يوجّهون له عباراتٍ عامرةً بالتوبيخ والاستهزاء.
وضحك السيد المحافظ وقال لأصدقائه: وفوق كل هذه البهدلة والشرشحة، حضر إلى مكتبي البارحة مختار إحدى القرى، وطلب مني أن أزوره في القرية، ليراني الناس في ضيافته، ويصبح هو ذا هيبة وسلطة باعتبار أنه "صديق المحافظ". هههه قال هيبة قال. علي الطلاق بالأمس كان فيه شباب واقفين بالحارة، ومرّيت من قربهم، وواحد منهم همَّ بالوقوف، فقال له زميله: اقعد لا تقف وتتعب حالك، هادا المحافظ.
لا يمكن تجاهل الجولة السادسة من المحادثات السورية في العاصمة الكازاخستانية أستانة، والتي يمكن وصفها بأنها أنجح لقاء يجري خلال الست سنوات من المأساة السورية، فهي المرة الأولى التي تخرج فيها كل الأطراف المجتمعة بتوافق كامل، بمن فيهم الطرفان السوريان (نظام وفصائل عسكرية معارضة). والواضح أن اتفاقية إقامة مناطق خفض التوتر في سورية، التي نتجت عن محادثات أستانة بجولتها السادسة، قلبت جميع الحسابات رأسًا على عقب، ولا سيما الأميركية والمليشيات الانفصالية التي تدعمها.
لم يعد يخفى على أحد عزم واشنطن دعم المجموعات التي تطلق عليها اسم "قوات سورية الديمقراطية"، للسيطرة على خط عفرين – إدلب، في تكرار السيناريو نفسه، عندما سلمت تل أبيض وعين العرب ومنبج للامتداد السوري لحزب العمال الكردستاني، المصنف إرهابيا في تركيا وحلف شمال الأطلسي (الناتو)، بعد طرد تنظيم داعش الإرهابي من تلك المناطق. إلا أن اتفاق الدول الأربع المشاركة في محادثات أستانة السورية (روسيا، تركيا، إيران، سورية النظام والمعارضة العسكرية)، فوّت الفرصة على الولايات المتحدة الأميركية من أجل تكرار تنفيذ هذا المخطط.
ويسود ترقب بأن تؤدي مبادرة موسكو (مناطق خفض التصعيد) إلى وقف إطلاق نار طويل الأجل، وبدء إصلاح سياسي شامل. وقال مبعوث الرئيس الروسي الخاص إلى سورية، ألكسندر لافرينتيف، لكاتب هذه السطور، بعد نهاية الجولة الثالثة من محادثات أستانة، "إن المشكلة سابقا كانت في أن المجموعات المعارضة السورية التي كانت تسيطر على مساحة كبيرة من الأراضي السورية مستبعدة من الحوار، ومن مناقشة العملية السورية، سواء في لوزان أو جنيف وغيرهما من المدن التي شهدت محادثات حول سورية". وأشار إلى "نجاحات حققناها بفضل اتفاق وقف إطلاق النار الذي تم التوصل إليه بين الرئيسين، الروسي فلاديمير بوتين والتركي رجب طيب أردوغان، واستطعنا أن نشكل محادثات أستانة التي تقوم بالعمل المباشر مع من يسيطر على الأرض في سورية، ويتحمّل المسؤولية عن الناس المسالمين والمدنيين في هذه المناطق".
وفي هذا السياق، هناك ثلاثة أمور جديدة قدّمتها محادثات أستانة: الأول إنها المرّة الأولى التي تشارك فيها الفصائل العسكرية مباشرة في حوارٍ يهدف إلى حل الملف السوري، وفي ذلك دلالة مهمّة على نتائج المفاوضات، لأن هذه الفصائل العسكرية المعارضة هي أولاً وأخيراً صاحبة القرار على الأرض، وهي المعنية أكثر بالوضع السوري. الثاني أن وجود العسكريين وقادة الفصائل في أستانة يدل على أن الحوار ممكن بين أطراف القرار وأصحاب الكلمة الذين يجلسون للمّرة الأولى على طاولة واحدة، وبشكلٍ مباشر، وجهاً لوجه. الثالث أن المفاوضات ستجري في محفل دولي بعيد عن العواصم الأوروبية، وليس كما العادة في جنيف أو فيينا مثلا، ولهذا الأمر دلالات كثيرة، وعلاقة بنظرة الجانب الروسي، ورغبة بوتين برسم خارطة سياسية جديدة للعالم.
وقد شكلت محادثات أستانة امتحانين لروسيا. الأول لجدّيتها بإنهاء "النزاع السوري"، وإيجاد حل من خلال عملية أستانة. والثاني لمدى تأثيرها على حلفائها داخل سورية، وهذا امتحان لا بد أن يمر عبر الامتحان الأول، لأن قدرة روسيا بالتأثير على حلفائها داخل سورية ترتبط بمدى جدّيتها بالوصول إلى حل للوضع في هذا البلد. وفي المحصلة، إذا انهارت عملية أستانة، ستقع اللائمة على روسيا، اللاعب الأكبر، وسيؤخذ على موسكو أنها لم تؤثر في حلفائها على أكمل وجه.
بعد أن لعبت روسيا دوراً عسكرياً في قلب موازين القوى على الساحة السورية، دخلت أيضاً على خط التسويات والمفاوضات السياسية، وسط غياب غربي أميركي فاعل، وآخرها إعلان الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، وقف دعم المعارضة السورية العسكرية، الأمر الذي اعتبره كثيرون تسليم ملف سورية تماماً للقبضة الروسية، بل ذهب سيناتورات ومسؤولون أميركيون إلى اعتبار ذلك "خطراً يمسّ المصالح الأميركية برمتها في الشرق الأوسط".
وتتزايد تدريجيا مناطق "خفض التصعيد"، المبادرة الروسية التي تم الاتفاق عليها في أستانة في مايو/ أيار الماضي، في أكثر من منطقة سورية. وإذا نظرنا بشكل آخر، نرى أن المنابر التي تجري فيها محادثات دولية بشأن سورية كانت بمبادرة روسية، من جنيف وصولاً إلى أستانة، ولا يمكن إغفال حقيقة اختلاف نظرة كل من موسكو وواشنطن للحل في سورية. فالروس يؤكدون حرصهم على وحدة أراضي الجمهورية العربية السورية، في حين أن طريقة واشنطن في التعامل مع هذا الملف، منذ البداية، تثير تساؤلاتٍ كثيرة، وليس آخرها اختيارهم مجموعة انفصالية ودعمها، بدلاً من المعارضة التي تصفها بالمعتدلة.
يبقى القول إن مناطق خفض التوتر، المستفيد منها هو المواطن السوري، فقوات النظام، مع الدعم الروسي وضعف القوى المعارضة، بالإضافة إلى تشتتها، تجعل أي معركة قادمة بينهم معروفة النتائج مسبقاً، كما قد تكون هناك إيجابية أخرى لاتفاق خفض التصعيد، وهي إنقاذ بعض تلك المناطق من تقدّم المليشيات الانفصالية والسيطرة عليها، بعيدا عن إرادة الفريقين السوريين (نظام أو فصائل)، أو حتى سكانها الأصليين.
خلال التصفية نصف النهائية لبرنامج America’s Got Talent الشهير، حيث تتنافس المواهب الفنية والإبداعية على نيل الجائزة الكبرى في تصفيته النهائية وقيمتها مليون دولار، إلى جانب الجائزة المعنوية الأكبر وهي دخول نادي المشاهير وما سيجلب هذا الموقع للفائز من عروض سخية ستشكل حكماً منعطفاً استثنائياً في حياته وحياة عائلته ومحيطه، في تلك التصفية ذهبت أصوات الجمهور الأميركي، الذي هو الحكم الأول والأخير من خلال استعمال آلية التصويت الالكتروني على تطبيقات البرنامج، إلى متسابقين أثبتوا أنهم على مستوى استثنائي من قوة الحضور والتأثير الشعبي العام، حيث انتقلت إلى التصفية النهائية صبيّتان في مقتبل العمر تحملان مؤشرات إنسانية فوق عادية تتفوق إلى حد كبير على ما قدمتاه من أداء غنائي كان لهما فيه منافسون أقدر على الاستمرار إلى الحلقة الأخيرة من التصفيات.
أما الصبيّة الأولى الفائزة بالتصويت الشعبي فهي الناجية الوحيدة من حادث تحطم طائرة مدنية في الولايات المتحدة قبل سنوات قليلة، قتل فيه كل ركابها، وهم بمعظمهم زملاؤها في المدرسة وقد استقلوا الطائرة ذاتها في تلك الرحلة الطلابية المشؤومة. وعلى رغم الحروق الجلدية البليغة على الوجه والساعدين والساقين التي خلّفها سقوط الطائرة وانفجارها حين ارتطمت بالأرض على جسد تلك الصبية، فإن إصرارها على الحياة، بل وإيمانها بطاقة الروح التي تضاهي في لمعتها الكمال الجسدي وتغلبه في معظم الحالات، جعلتها تقف بهيبة الكبرياء، وبلا وجل، أمام ملايين المتابعين على الشاشات في بث مباشر من هوليوود وهي تغني بما يشبه تراتيل القيامة التي نحفظها من شعر محمود درويش: إنني عدت من الموت لأحيا وأغني!
الفائزة الثانية كانت عازفة ومغنية صماء تماماً، تتعامل مع الموسيقى بالحس والتخاطر، تغني ولا تسمع أغنيتها، تردد المقامات اللحنية بقلبها وفطرتها، وتتناغم مع الموسيقى من خلال إرادة استثنائية على التواصل مع محيطها ولو كانت محجوبة عنه بعازل الصمت.
كلتا الصبيتين حازتا تأييد الأغلبية في التصويت الجماهيري العام، وفازتا بمنطق تفوق رهافة الحسي الإنساني على صرامة المحسوس الفيزيائي وقد غدا معياراً عتيقاً ينتمي إلى الماضي، نسبة إلى الجيل الأميركي الجديد ومفاهيمه ما بعد الحداثوية.
السبب في سوقي هذا المشهد الرمزي من الحياة الأميركية يقع في عمق علاقتنا نحن السوريين في تفنيد السبل التي سلكناها لنقل وتسويق قضية الحرية والعدالة والكرامة الإنسانية التي نحملها عبر العالم، وبالأخص إلى عاصمة من عواصم القرار العالمي: واشنطن.
من المؤسف أن التشكيلات السياسية والمدنية السورية المعارضة التي كان من المفترض أن تحمل الصوت السوري إلى العالم وتبتكر الأدوات المناسبة لتوصيله بما يتماشى مع طبيعة المجتمعات الغربية التي تخاطبها، وهي مجتمعات ديموقراطية بعامة، ذات تركيبة سياسية أفقية، ولا سيما في الولايات المتحدة حيث يشكل الرأي العام الشعبي الدينامو المحرك لحكومتها الفيدرالية وأداة للضغط عليها هي الأجدى في تحديد سياساتها الداخلية والخارجية في آن، من المؤسف أن الفهم لدى تلك التشكيلات بدا قاصراً عن استيعاب فكرة حتمية التعامل مع القاعدة الشعبية الأميركية والمواطن الأميركي العادي بالدرجة الأولى، وهو الذي يرحّب بفطرته بالحركات الثورية والتحررية في العالم، وينتصر لها ويحتضنها. غير أن التواصل على مدى سنوات ست انحصر على الحكومات والمسؤولين التنفيذيين فيها، وهم عادة ما يتغيرون بشكل متسارع في الأنظمة الديموقراطية حيث لا يبقى المسؤول الحكومي في منصبه لفترة طويلة ويتم تداول المنصب باستمرار تلافياً لتغليب المصلحة الفردية والعلاقات الخاصة التي تنسج من خلال المركز الوظيفي المستدام. أما التواصل مع الشعب الأميركي أو حتى ممثليه في الكونغرس فكان ضعيفاً إلى حد الانعدام في معظم الحالات. والأفدح من هذا كله أن هذا الأداء الساذج لم يتغير مع دخول الثورة السورية الماجدة عامها السابع، ومع تحوّل مسمياتها والتعتيم على معانيها الأصيلة إلى أن حملت اسم «الأزمة» في قواميس البعض من أطراف المعارضة.
بالطبع، التوجُّه إلى الشعوب يحتاج إلى خبرة ودراية من عاش بينها، وانفتح على ثقافتها، وعرف لغتها بالأبجديتين: اللسانية والسياسية. فالجالية الأميركية السورية، تلك التي انخرطت من بعد لكن بمصداقية وقوة في تيار التغيير الديموقراطي السلمي منذ البدايات، لم تعطَ الفرصة أو الموقع لنقل الصورة إلى مطبخ القرار وطبّاخيه الأساس من الشعب الأميركي بمؤسساته المدنية العريضة الطيف. وعلى رغم أن العديد من مثقفي الجالية وناشطيها لم يكونوا لينتظروا تكليفاً من أحد للقيام بواجبهم تجاه أرضهم الأم وشعبهم الجريح، فإنهم لم ينالوا يوماً احتضاناً حقيقياً من منظومات المعارضة التي اقتصرت على التحالفات المرحلية العابرة مع الحكومات نفسها التي تخذلها وتتنكر لها اليوم.
وإثر الضربة التي وجهتها واشنطن للنظام السوري في موقع تحميل المواد الكيماوية الضاربة في مطار الشعيرات، والتي توقعنا أن تشكل تغيراً استراتيجياً عن نهج حكومة أوباما في إدارة الملف السوري، حدث ما كان صادماً لنا من انكماش الدعم الأميركي للنشطاء والمعارضة السياسية، وسحب السلاح من أيدي المعارضة المعتدلة، وترك الدفة للرياح الروسية.
مشهد الفائزتين أعادني إلى لب المشكلة: نعم، لقد فشلنا في فهم هذا التحول الدرامي في الذهن الشعبي الأميركي في القرن الحادي والعشرين. فبعد أن كان في بدايات ومنتصف القرن الفائت يمجّد القوة والكمال والثراء، نراه اليوم في أعلى حالات تعاطفه مع المظلومية وحالات الإعاقة والفقر، منتصراً للضحية وليس للجلاد. ولو أننا تمكنا من طرح قضيتنا في مقوماتها الإنسانية وليس السياسية وحسب، لكان لدينا اليوم مخزون بشري من الداعمين الأميركيين يضغطون على الزر ليصوتوا بـ «نعم» للإنسان السوري.