مقالات مقالات رأي بحوث ودراسات كتاب الثورة
٤ أكتوبر ٢٠١٧
جنيف بطعم أستانة

يخفف مبعوث الأمم المتحدة إلى سورية، ستيفان دي ميستورا، في إحاطته المقدمة أخيرا إلى مجلس الأمن الدولي، في 27 سبتمبر/أيلول، من فداحة الواقع السوري، خلال الأسبوعين الأخيرين من شهر سبتمبر/أيلول الفائت، إذ يقارن على ما يبدو عدد الضحايا الذين يسقطون في المناطق التي فتحت روسيا والنظام السوري وإيران النار عليها أخيرا (ريف دمشق وإدلب وحماة وحوران)، بعدد ثابت كانت تحدثه هجمات هذه القوى المتحالفة ضد مناطق حاضنة للشعب المعارض للنظام السوري، متناسياً أن هذه المناطق يجب أن تحظى بالأمان الكامل الموعود من اتفاقات خفض التصعيد، واتفاقات مؤتمر أستانة، خلال جولاته الست الماضية، والتي تضمنها وترعاها وتتوسط خلالها القوتان الرئيستان في عمليات القصف الوحشي على سورية، إيران وروسيا.

وعلى الرغم من أن دي ميستورا استخدم صيغة الفعل المبني للمجهول "يُزعم"، في إشارته إلى ضرب المدنيين والبنية التحتية والمرافق الصحية، في إحاطته في مجلس الأمن، وقوله إن "الضربات الجوية هي الأولى منذ إبريل/نيسان لإدلب وحماة"، لتجنب الحديث عن الفاعل في القصف الجوي، إلا أنه استخدم الصيغة القطعية للتعريف بالفاعل في الحديث عن قصف المدن الخاضعة لسيطرة النظام، حيث قال: "فضلاً عن قصف المعارضة الشديد لبلدات مدنية خاضعة لسيطرة الحكومة في حماة واللاذقية"، ولم يكن دي ميستورا وحيداً في محاولة حماية الفاعل في تدمير البنى التحتية، حيث شارك مستشار الأمم المتحدة للشؤون الإنسانية في سورية، يان إيغلاند، المبعوث الأممي، أسلوبَ التعتيم اللغوي على الفاعل "إنه ليس واضحاً من نفذ هذه الهجمات على إدلب"، معتبراً أنها، أي الهجمات، "جزء من نهج متصاعد ضد شرايين الحياة الإنسانية".

يبدو أن دي ميستورا يملك أجهزة رصد تتابع أعمال المعارضة القتالية، فيما لا يمكنه فعل ذلك مع القوة الروسية التي لا تخفي أنها تقصف إدلب، مبررة ذلك بأنها "تستهدف المسلحين وعتادهم". وعلى الرغم من أن هذا الاستهداف لا يبرر قتل نحو 150 مدنياً، وتدمير المنشآت الحيوية، لكنها ليست المرة الأولى التي تلجأ موسكو إلى نقض اتفاقياتها، وقصف المناطق المتفق على خفض التصعيد فيها، بهدف "تنظيف" هذه المناطق من كل آثار الحياة الطبيعية فيها، كما حدث في حلب، واستلامها خاليةً من المعارضة بكل أشكالها، سياسية وعسكرية، أو في أحسن الأحوال أن تكون هذه المناطق مكسورة ومهيأة لقبول الإدارة الجديدة التي تتهيأ روسيا لإنشائها، بالشراكة مع الضامنين لاجتماعات أستانة، تركيا وإيران.

جبهة النصرة، أو هيئة تحرير الشام حسب تسميتها، شريك فاعل في إدارة الصراع في المناطق المختلف على تبعيتها للضامن "الأستاني"، حيث تهيئ هذه الجهة الظروف المقنعة للمجتمع الدولي بقبول التدخل الروسي، واستفراده في حربه على المناطق الواقعة تحت سيطرة المعارضة، بغطاء أنه يمارس حربه المشروعة ضد الإرهاب (القاعدة)، لكن تبرير ضرب المدن تحت هذه الذرائع، وتجاهل الوسيط الدولي للخروق التي ترتكبها روسيا ذاتها في إحاطته، والالتفات عن الدور السوري للفصائل في التعامل مع ملف "النصرة"، يفيد بأن ثمة اتفاقات غير معلنة بين الضامنين الثلاثة لاجتماعات أستانة، ولعلّ هذه الاتفاقات هي التي أتاحت لموسكو فتح النار من جديد في مناطق خفض التصعيد، والذهاب إلى فرض حلول تتناسب وأطماعها:
أولاً، سواء في بسط سيطرة النظام على كامل المدن والمناطق، خصوصا ذات الطابع الاقتصادي، ومنها ما يدور اليوم من خلاف حول معبر نصيب، في المنطقة الجنوبية درعا، حيث قدرت وارداته في عام 2010 بما يقرب من ملياري دولار، ومحاولة الهيمنة الكاملة عليه، تحت التهديد الروسي ومساندته قوات النظام التي تلوّح بشن هجوم ساحق على فصائل المعارضة، على الرغم من أنها واقعة ضمن مناطق خفض التصعيد. ويأتي ذلك ضمن رؤية روسيا التي تفاوض المعارضة في الأردن، وتعتبر أن كل من وقّع معها اتفاق خفض التصعيد ملزم بالحل الذي تفرضه، لسورية المنزوعة المقاومة والمعارضة، بشقيها السياسي والعسكري، ما بعد مناطق خفض التصعيد. ومن هنا، يأتي الشك أن ما تردد على لسان المندوب الروسي في "أستانة 6" أن المرحلة اللاحقة ستكون الحرب على من هم ضد الحكومة السورية. وعلى الرغم من نفيه من موسكو، إلا أن ما يحدث في إدلب من قصف على الفصائل نفسها التي حضرت "أستانة" يجعل من ذلك النفي مجرد حالة إعلامية ليس أكثر.

ثانياً، في إعلان صريح أنها اليوم صاحبة اليد العليا في توزيع الغنائم على الجهات المشاركة في الصراع الدولي على سورية، بعد انحسار الدور الأميركي في مهمة قتال "داعش" وحماية ذراعها العسكرية (قوات سورية الديمقراطية) في المنطقة، وهو ما يفسر خلط الأوراق من جديد، وإعادة توزيع خريطة الحضور الإيراني والتركي، بعيداً عن الإرادة الأميركية التي صرحت مرات عن ضرورة إخراج المليشيات الإيرانية من سورية، وعدم السماح لها بالوصول إلى المنافذ الحدودية، سواء مع العراق أو الأردن، في حين أن وصول قوات النظام إلى دير الزور يعني الوجود الإيراني في هذه المناطق التي كان يعتقد أنها خط أحمر، لا يسمح لإيران بالوصول إلى حدوده، في وقتٍ تظهر جلياً آثار الخطوات الإيرانية ما بعد تلك الخطوط في الشمال والجنوب.

يبدد دي ميستورا مخاوف المتشائمين بإعلانه عن موعد الجولة الجديدة من جنيف المقرر بعد نحو شهر. وعلى المعارضة أن تلتزم "رغبة النظام" خلال هذا الوقت، لأنه يريدها أن تجلس مقابلة له وهي موحدة، كما أوضح المبعوث الأممي الذي يأمل فعلياً ذلك، بيد أن دي ميستورا الذي أشار إلى وجود آلاف الأسر السورية التي تعاني من غياب أقاربهم، وعدم معرفة مصائرهم، لم يطلب من النظام المسؤول الأول عن الاعتقالات أن يحضر إلى جنيف. وهو كما تريده المعارضة متخففٌ من ملف المعتقلين، وقد أفرج عنهم، وهو أمر لا يحتاج إلى قراراتٍ مشتركة، بل إلى إرادة النظام في عمليةٍ سياسيةٍ تؤسس لحكم ذي مصداقية وشامل للجميع على الصعيدين، المحلي والمركزي، وهذه إشارة ذكية ومبطنة لدي ميستورا عن أن الحكم الذي يتحدث عنه هو أقرب إلى الفيدرالية منه إلى المركزية.

ربما لم يعد يجدي نفعاً التذكير بأن الذهاب إلى جنيف بات للتوافق على منتجات أستانة والاتفاقات فوق التفاوضية التي جرت في الأردن والقاهرة وجنيف، وهي منتجات جعلت كل الأطراف السورية على قائمة الخاسرين، ووحدها موسكو تنظر بإعجاب إلى نجاحاتها التي ستبارك لها الأطراف السورية عليها في جنيف المقبلة، مروراً كما تظن روسيا بمؤتمر الرياض 2 الذي سيغير المرجعية السياسية، لتكون على مقاس صانع "أستانة"، وهو ما تبشر به تصريحات قيادة المعارضة التي تراجعت عن شرط رحيل الأسد، لتوضح أنها "تتحدث فقط عن ضمانات رحيله فيما بعد، لأن ما تخشاه أن يبقى إلى ما بعد المرحلة الانتقالية، وينتقم من السوريين المخالفين".

اقرأ المزيد
٤ أكتوبر ٢٠١٧
تأليه البشر وتقديسهم.. أولى خطوات التخلّف والانهيار

“عاش القائد الخالد” “إلى الأبد أيها الأسد” “سوريا الأسد” “القائد المفدّى” وغيرها من الشعارات التي تربى عليها أجيالاً من أبناء سوريا، ومثلها في مصر وتونس، ولا ننس “الملك المبجّل” و”جلالته” و”سمو الأمير” و”معالي الوزير” في دول الخليج، حيثُ سعت الأنظمة القمعية فجر استقلال الدول العربية إلى ترسيخ فكرة “الزعيم الأوحد” في خيال الشعوب التي لا زالت ترزح تحت وطأة الجهل والتخلّف وتركة “استعمارية” ثقيلة.

يعتبر تقديس الأشخاص مصنعًا لإنتاج وتوزيع الجهل والتخلّف وتعطيل مسيرة الحياة الطبيعية، وإن أي مجتمع لم يبتليه الله بمرض تقديس الأشخاص كما ابتلى المجتمع العربي، فما أن يبزغ شخص في المجتمع في مجال الفكر أو السياسة، حتى يبادر مجموعة من الجهلة بطبيعة الإنسان، إلى وضع هالة من القدسية حوله، تجعل نقده بقول أو فعل من موبقات الإثم التي قد تدفع بمعجبيه إلى خوض حرب ضروس إن لم تكن باليد فبالسان وإن لم تكن كذلك فبالقلم، ضد أي شخص آخر يحاول نقد هذا العالم أو المفكر وتصحيح بعض أخطاء ما يقول أو يكتب، ولعلاج هذه المشكلة لا بد من الاعتراف بوجود فرق واضح بين النقد البناء الذي يبرز الإيجابيات ويشيد بها، ويعالج السلبيات ويصححها بأسلوب يبتعد عن التجريح وتناول ذات الشخص الذي نريد نقد بعض أفكاره.

تركيا.. نموذجاً عن الدول المتحضرة، والشعب الواعي، وقعت بعض بلديات حزب العدالة والتنمية في مستنقع نصب التماثيل لشخصية القائد أردوغان، ولكن لم تنتهي هنا، سرعان ما رد أردوغان بتصريحات هي الأولى في العصر الحديث، حيث قال:

“أُعرب عن أسفي لنصب تمثالي من قِبل بعض بلديات حزبنا، وأؤكد أنّ مثل هذه التصرفات تتنافى مع القيم التي نؤمن بها، فأنا لا أريد تماثيل؛ بل أدعوكم لبذل المزيد من الجهود لخدمة المواطنين”.

وإن دل هذا على شيء، فهو يدل على خطورة تقديس الأشخاص، بالانشغال عن الفكرة التي وجد شخص أردوغان لها، وهي بناء تركيا وتطويرها.


تقديس الأشخاص مرض نفسي
يحتاج هذا المرض علاجًا واقعيًا وفهمًا صحيحًا بعيدًا عن التعصب، فمن خطورة هذا المرض أنه يحكم على الشخص بالتخلّف الأبدي والعيش في بوتقة التبعية والوعي القطيعي، وهو الذي حكم طويلًا على هذه الأمة بالتخلف عن ركب الحضارة.

تحتاج المجتمعات العربية اليوم أكثر من أي وقت مضى إلى الابتعاد عن تقديس الأشخاص الذي يعتبر مصنعاً لإنتاج وتوزيع الجهل والتخلف وتعطيل مسيرة الحياة

وعلى ضوء ما سبق لا بد لنا ولابد للمربين والمعلمين وصانعي الأجيال بشكل خاص، أن يفهموا – بشكل عقلاني بعيداً عن الانفعال – أن تقديس الأشخاص مرض نفسي يحتاج علاجاً واقعياً وفهماً صحيحاً للأشياء بعيداً عن التعصّب، فبعض العقليات السائدة والرائجة هذه الأيام تحاول تصوير نقد العلماء ورجال الفكر والسياسة على أنه خيانة عظمى في حق هذا العالم أو ذلك المفكر، وأصحاب هذا التعصب الأعمى لا يدركون أن النقد الهادف والبناء أداة تساعد على تصحيح أخطاء المنتقَد إن كانت له أخطاء، وهذا لا يغض من مقامه أصلاً، وقد آن الأوان أن يفهم الجميع، خصوصاً نحن الشباب أن لا أحد فوق النقد مهما كان، فبميزان النقد يمكن تقويم الخلل والخطأ.

وقد قرأتُ تغريدة على تويتر للشيخ صالح المغامسي يقول فيها : الأمة أحوج ما تكون لإعادة النظر في قراءة تراثها، فكما ننهى عن تقديس الذوات، لابد من النهي عن تقديس أقوال الرجال.

وقد دعا الدكتور سلمان العودة في تغريدة له على تويتر إلى الكف عن تقديس البشر والتعامل معهم بمعصومية عدا الأنبياء، وفي مقولة قرأتُها للمفكر مالك بن نبي يقول : الجهل في حقيقته وثنية، لأنه لا يغرس أفكاراً، بل ينصّب أصناماً.

يقول الكاتب والمفكر السعودي إبراهيم البليهي في “حصون التخلف” : “إن تعظيم فرد من أفراد الأمة وحصر الحقيقة فيما يقول أو يكتب من أسباب تخلف الأمة وواحد من الطرق المؤدية إلى السقوط، لأن أصالة النقص البشري أرسخ من احتكار المعرفة المطلقة التي تنتج عن تقديس الأشخاص مهما كانت مستوياتهم العلمية والفكرية، وإذا بالغت أية أمة في تعظيم فرد واحد من سالف علمائها أو حصرت فهم الحقيقة ببضعة أفراد ممن كان لهم نصيب من التميز أو الشهرة من أبنائها وتوقفت بمعارفها عند انجازات أولئك الأفذاذ فإنها بذلك تعلن أنها تجهل أصالة النقص البشري الملازم حتى للعظماء المبدعين كما تجهل أن لكل جيل نصيبه من العظمة والإبداع وأن المعرفة الإنسانية عملية تراكمية تنمو باستمرار”.

ويذهب الكاتب أبعد من ذلك مشخصاً أسباب متلازمة تقديس الأشخاص وكيف أنها تتسبب في تأليه الفرد ووضعه في مكانة تخرجه عن الطبيعة البشرية وتضفي عليه هالة من التأليه، مؤكداً أن نتيجة هذه المتلازمة هي الجهل والجور والتخلف فيقول: ”إن بين الجهل والجور والتخلف تلازماً عضوياً، فهو ثالوث مترابط يخنق عقل المجتمع ويلغي فردية الإنسان ويوقف حركة التاريخ ويعطل مسيرة الحضارة فمع استمرار جهل المجتمع بما له وما عليه يحصل الجور ومع الجور تسوء الأخلاق وتتدهور الضمائر ويتفاقم الجهل، وباجتماع الجهل والجور وسوء الأخلاق وفساد الضمائر تسود الأنانية الشرسة ويتوطد التخلف، وباستحكام هذه الشبكة من الآفات والمعوقات وتبادل التغذية بين أطرافها تتوالد عناصر الانحطاط وتترسّخ أركان الإفلاس الحضاري فتنسد الآفاق وتنغلق العقول ويشتد التعصب ويسود الاجترار ويختفي الإبداع ويتوجّس الناس من أي طارئ في الأفكار والأذواق والممارسات ويحتمون بما ألفوه ويبالغون في تعظيم الأشخاص الثقات وينقلب التقدير إلى تقديس وبذلك يستحكم الانغلاق ويتوقف النمو وتبدأ مرحلة الجفاف والتيبّس، والمبالغة في تعظيم المتميزين من الأشخاص هي أغزر منابع الجهل والظلم والتخلف.


طريقي الانحراف
هناك نوعان من الانحرافات التي أخذت مكانها منذ مطلع التاريخ البشري علي الأرض، منها ما كان الانحراف السلوكي، والتصرفات، وهو الأهون والأسهل معالجته، ومنها الانحراف التصوري العقدي والفكري والفلسفي وهو الأخطر إلى هذا اليوم، فقد ابتليت البشرية من هذا النوع، بعد أن سولت لأنفس قوم لوط أن قدّسوا ووضعوا هالات لبعض الصالحين، وتبعا لسياسة خطوة خطوة “الإبليسية” صنعوا لهم صوراً، ثم في جيل آخر نحتوا صورهم وأدخلوها في معابدهم، “وتنادوا لا تذرن آلهتكم ولا تذرن وداً ولا سواعاً ولا يغوث ويعوق ونسرا”، فكانت بداية الانحراف العقدي والفكري والسلوكي لتثمر في يومنا هذا.

نشهد اليوم خطورة تقديس الزعامات والقادة والأشخاص، ولستُ ضد إنزال الناس منازلهم، وإني أؤيد حب الزعماء المخلصين الصادقين، الذين يخدمون أوطانهم وشعوبهم، وهذا شيء رائع، بل خير أئمتكم من تحبونهم ويحبونكم، والعكس شرارهم الذين تبغضونهم ويبغضوكم.

الأخطر في هذا هالة التقديس، فقد اختلط في ذهن الفاروق عمر بن الخطاب عندما سمع بوفاة سيد البشر الرحمة للعالمين وصال وجال منفعلاً، حتى وفق الله الصديق أبي بكر رضي الله عنه فقال: من كان يعبد محمداً فإن محمداً قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت.

من كان يعبد القائد الخالد أو الزعيم المفدى أو النبي المعصوم أو الرجل الصالح أو سيادة الرئيس أو جلالة الملك فهو سيموت حتماً، ومن كان يعبد رب هؤلاء ويحيا لأجل ربهم ويعيش لتقديس فكرة لا تقديس صاحبها فهو المنتصر حتماً.

ولو انطلق المقدّسون للأشخاص اليوم من القاعدة التي انطلق منها جهابذة الأمم والمجتمعات قديماً وفهموا معاني الكلمات الخالدة للإمام مالك والشافعي رحمهما الله لابتعدوا عن تقديس الأشخاص، فالإمام مالك قال: ” ما وافق مذهبي من الكتاب والسنة فخذوا به وما لا فاضربوا به عرض الحائط، وقال: كل كلام يؤخذ منه ويرد إلا كلام صاحب هذا القبر ، وأشار إلى قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم”، كما أن الإمام الشافعي أصل لقاعدة تمنع تقديس الأشخاص وذلك بقول : ” رأيي صواب يحتمل الخطأ ورأي غيري خطأ يحتمل الصواب”.

اقرأ المزيد
٣ أكتوبر ٢٠١٧
من يكبح نفوذ إيران في سوريا؟

عندما يجري الحديث عن النفوذ الإيراني في سوريا، لا بد من التوقف عند مسار العلاقات التي نسجت منذ أواخر السبعينات بين نظام الأسد في سوريا ونظام الملالي في إيران. ومنذ ذلك الوقت دخلت علاقات الطرفين مساراً يجمع مصالح الطرفين، ويوحدها، رغم كل ما يقال من تباين بينهما في التوجهات الفكرية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية، وكانت الحرب العراقية - الإيرانية فرصة توثيق العلاقات وتطويرها؛ إذ وقف نظام الأسد إلى جانب نظام الملالي في الحرب، وقدم كل مساعدة سياسية وعسكرية ممكنة، وقدم الإيرانيون مساعدات مهمة ولا سيما في الجانبين المالي والنفطي، وفي خلفية هذا المشهد، بدأت إيران بتأسيس نفوذ آيديولوجي سياسي وطائفي لأهداف استراتيجية وسياسية، فأخذت تبني أول مرتكزات علاقاتها بنخبة النظام وشقيقتها الموجودة على أطرافه من رجال المال والأعمال والفعاليات الثقافية والشعبية، وبدأت مسيرة الاهتمام بمراكز التشيع ونشر ثقافته، وصولاً إلى بدء عمليات تشييع في أوساط السوريين.

وتواصل نمو النفوذ الإيراني في سوريا، رغم ما واجهه من مشاكل وتحديات، لكنه وفي السنوات العشر الأولى من عهد الأسد الابن، حقق قفزة أكبر. فقد انتقل النفوذ من الدائرة السياسية - الثقافية إلى الدائرة الاقتصادية، بحيث دخلت إيران إلى الأوسع في ميدان التعاون الاقتصادي مع النظام ونخبته، فتم إنشاء عشرات الشركات، وزاد حجم الاستثمارات الإيرانية في سوريا بالتوازي مع تصعيد العلاقات السياسية والثقافية، والتي كانت تمثل طموحات لإيران في الواقع السوري، وكثيراً ما عبر عنها المسؤولون الإيرانيون بشكل علني ومستمر.

ثم جاء اندلاع الثورة السورية ضد نظام الأسد، ليفتح أمام النفوذ الإيراني أوسع الأبواب، حيث اصطفت إيران إلى جانب نظام الأسد في مواجهة ثورة السوريين، فصعدت أنشطتها السياسية والثقافية والاقتصادية، وسياسة التشييع، وجرت خلفها الطائفة الشيعية السورية، قبل أن تتقدم إلى مناطق نفوذ داخل المؤسستين الأمنية والعسكرية من خلال ما قدمته وميليشياتها الطائفية من دعم لنظام الأسد في مواجهة ثورة السوريين وجماعات المعارضة المسلحة، التي اعتبرتها إيران جماعات إرهابية تكفيرية متطابقة في هذا الوصف مع نظام الأسد، وبفعل ما قامت به إيران في هذا الجانب من إرسال الميليشيات إلى القوات الإيرانية والخبراء الأمنيين، أصبحت القوة الحاسمة في توجهات النظام وقراراته السياسية والميدانية. وهذا هو جوهر النفوذ الإيراني، وقد صارت له تعبيرات سياسية وعسكرية واقتصادية واجتماعية وثقافية قائمة على الأرض.

وبدا من الطبيعي، أن يترك تصاعد نفوذ طهران في سوريا مخاوف وقلقاً عند قوى محلية وإقليمية ودولية، لا تتوافق معه، وهذا أمر طبيعي في ظل تناقضات تلك القوى وخلافاتها مع استراتيجية إيران وسياساتها السورية، خصوصاً أن إيران بسيطرتها على القرار السوري، أكملت خط نفوذها الواصل من طهران إلى لبنان على شاطئ المتوسط مروراً بالعراق وسوريا.

غير أن تناقضات تلك القوى وخلافاتها مع نفوذ إيران، لم تجد لها طريقاً عملياً للتعبير عنها. فالمخاوف السورية التي تمثلها المعارضة كانت ضعيفة، وغالباً ما تم دمجها بالموقف من نظام الأسد، وقول إن النفوذ الإيراني سوف يرحل مع سقوط النظام، وكانت البلدان العربية وتركيا قريبة من رؤية المعارضة في هذا الجانب، وزادت عليه محاولات للتفاهم مع إيران بالسكوت عن تنامي نفوذه أحياناً، أو بمحاولات رشوته من خلال علاقات اقتصادية معه، ولم تعطِ البلدان الغربية بما فيها واشنطن الموضوع أهميته، بل إنها عقدت مع نظام الملالي الاتفاق النووي في 2015 في ذروة تصاعد نفوذ إيران في سوريا، فيما كانت ترى روسيا التي تعتبر حليف إيران ونظام الأسد في سوريا، أن نفوذ إيران تحت السيطرة، لأن إيران وافقت بحماس على الحضور العسكري الروسي إلى سوريا أواخر العام 2015 خوفاً من سقوط نظام الأسد.

وسط هذا النسق من السياسات، خفت أو توارت المخاوف من نفوذ إيران في سوريا، خصوصاً في ظل ثلاث من الحقائق؛ الأولى الربط الأميركي للمخاوف مع شعار الحرب على الإرهاب وأساسه الحرب على «داعش»، وأنه بعد نهاية تلك الحرب، ستباشر الولايات المتحدة مواجهة النفوذ الإيراني والجماعات المرتبطة بها ومنها «حزب الله»، والحقيقة الثانية جهد أميركي - روسي لتطمين إسرائيل وبدرجة أقل الأردن، في أن نفوذ إيران و«حزب الله»، لن يشكل خطراً عليهما، والثالثة جهود روسيا لربط تركيا ضمن الاتفاق الروسي - الإيراني - التركي الموقع في موسكو عام 2016، والذي رسم توافقاً ثلاثياً، استَتبع تقارباً تركياً إيرانياً، ولدت على أساسه توافقات سياسية واتفاقات عسكرية بين الجانبين حول سوريا.

خلاصة الأمر في كبح النفوذ الإيراني في سوريا، أنه لا جهود جدية في هذا السياق، وأن كل ما يتم القيام به، هو تمرير لوقت يتعاظم فيه نفوذ طهران خصوصاً في ظل تمدد وانتشار قوات الأسد بمشاركة إيران وميليشياتها في معظم المناطق، وبدعم من القوات الروسية، مما يعني أن مواجهة هذا النفوذ، لا يمكن أن تتم إلا من خلال مواجهة عسكرية مكلفة، وغير مطروحة حالياً، مما يجعل الإمكانية قائمة فقط عبر حل سياسي دولي، تتم فيه عملية انتقال سياسي، تغير موازين القوى وبالنتيجة تبدل من نفوذ إيران في سوريا.

اقرأ المزيد
٣ أكتوبر ٢٠١٧
الولايات المتحدة صانعة ألعاب وتركيا ليست لقمة سائغة

تردد على مسامعي بكثرة خبر، لكن لم يرد تأكيد له بعد. يقول الخبر إن هناك مكتب في الولايات المتحدة يعمل فيه بضع مئات من الأشخاص، مهمتهم الوحيدة هي التفكير. والقصد من التفكير هنا ليس التدبر في شؤون البلد وإنما "كيف ندير العالم، وكيف نحمي مصالح شركائنا".

العاملون في المكتب يعدون مخططات لخمسين أو مئة عام، ثم يحولونها إلى مشاريع. ويعدون تكتيكات مختلفة من أجل الحالات الخاصة ثم يرسلونها إلى الفرق الميدانية للتنفيذ.

يحسب العاملون في المكتب كيف يمكنهم الاستفادة من الفوضى أو السلام في أي منطقة من العالم، بناء عليه ويضعون سيناريوهات للفوضى أو السلام اللازمين. وفي أعقاب ذلك تتحرك الدولة والطواقم الميدانية ليبدأ إنجاز مشروع يمتد على مدى عشرات السنوات. قد يبدو مخطط لخمسين عامًا طويلًا لكها فترة قصيرة في تاريخ الدول.

لكن كيف يؤثرون على مصير العالم من خلال مشاريع تمتد لخمسين أو مئة عام؟

على الرغم من أن النار المشتعلة في المنطقة منذ حرب الخليج لم يكن لها تأثير  على حدود البلدان إلا أنها أثرت على مصير المنطقة بنسبة كبيرة.

تسعى الولايات المتحدة "الضيف المقيم" في الشرق الأوسط منذ هجمات 11 سبتمبر، لكي تكون صاحبة كلمة نافذة عبر تثبيت وجودها في الكثير من أنحاء العالم.

أما في المناطق التي ليس لها نفوذ فيها فتعمل على التلاعب بـ "جيناتها" بهدف السيطرة عليها، وهي ماهرة جدًّا في ذلك.

انهيار برجي مركز التجارة العالمي على مرأى من العالم، ومصطلح الإرهاب، ومنطقة "الشرق الأوسط الإرهابية" جعلت العالم يتقبل التدخل الأمريكي غير القانوني.

فبعد استيلائها فعليًّا على أفغانستان، أكبر مصنع للمخدرات في العالم، دخلت العراق، أكبر مستودع للنفط فيه. أسلحة كيميائية لم يُعثر عليها على مدى سنوات.. وصواريخ عثروا عليها بفضل صور الأقمار الصناعية لكن تبين أنها مآذن، ومع ذلك لم تتراجع الولايات المتحدة، لتصبح صانعة ألعاب رئيسية في المنطقة رغم بعدها عنها آلاف الكيومترات.

والآن تبدو الولايات المتحدة  وكأنها تعارض استفتاء الانفصال غير القانوني الذي أجري في شمال العراق، في حين أنها ترمي خلسة لجر المنطقة إلى الفوضى.

تدعم واشنطن وتوجه المجموعات التي تمارس إعادة تقسيم المنطقة على أساس عرقي، واكتفت بطلب "تأجيل الاستفتاء في حين كان بإمكانها عرقلة مخططات الإقليم بجملة واحدة.

الجميع يقول إن الغاية هي "تأسيس دولة تكون دمية بيد إسرائيل". ودولة كهذه لا بد وأن تكون تحت أمر الولايات المتحدة.

التركمان والحكم العثماني على مدى 400 عام والحضارة المشتركة تجعل من تركيا صاحبة كلمة نافذة في شمال العراق، وإذا كانت الولايات المتحدة صانعة ألعاب فإن خصمها تركيا ليس لقمة سائغة.

اقرأ المزيد
٣ أكتوبر ٢٠١٧
الهجوم على إدلب

يضع الإقليم في أولوياته أموراً معقدة ومزدحمة، ويتراجع الاهتمام في الرحلة الدبلوماسية لإنهاء الكارثة السورية التي استهلكت، حتى الآن، سبعَ جولات في جنيف، وثلاثاً في أستانة، وعشرات المؤتمرات الصحافية، وأميالا جوية كثيرة قطعها ستيفان دي ميستورا في أجواء الحل.. الحرب على الإرهاب تأخذ الحيز الأكبر من الاهتمام، وهي عنوان يتقدم على أي جهد، ويعرض نظام الأسد نفسه مساهماً فعالاً فيه، من خلال إعلامه الحربي الذي لا يكفّ عن بث مقاطع تُظهر سيطرة جحافله على مزيد من المساحات والقرى الواقعة على طريق دير الزور. يظهرُ طرفٌ آخر في المعادلة متمثلاً بقوات سورية الديمقراطية التي تستحوذ على نصيبها من الأراضي وحقول الغاز والنفط، بما يشبه تقاسم الأسلاب مع جيش النظام في تكتيكٍ متناغم، ويجعل استفتاء إقليم كردستان المعادلة أكثر صعوبة، فهو الأمر الذي سيتيح تدخلاً أكبر من إيران، بسبب تلاصق حدودها مع كردستان العراق. وخشيةً من مكونها الكردي الذي تسعى، مثل تركيا، إلى عدم إثارته. في هذا الظرف الذي يشبه الجلوس في وهج الشمس، تقف إدلب بلا مظلة، تحت حملة قصف منتظمة ويومية وكثيفة، حصدت حتى الآن عشرات المدنيين، على الرغم من اتفاق "خفض التصعيد" الذي شملها، وتم توقيعه في آخر نسخة من نسخ أستانة.

سقطت إدلب بسرعة في يد قوات معارضة متنوعة، بعد أن تراجعت عنها قوات النظام بما يشبه التخلي، والتخلي سياسة دأب النظام على تطبيقها في إدلب في كل مراحل حربه على الشعب السوري. وهو الآن، بمساعدة أو ربما بتحريض روسي، يقصف تجمعاتها السكنية الرئيسية، ويتقصد المشافي ومراكز التنمية، وهي طريقة يتبعها النظام، عندما ينوي مهاجمة مدينةٍ ما، فيبدأ ضرب بنيتها التحتية حتى تخرج من الخدمة. يمكن أن تطول عمليات القصف المنظم كثيراً، حتى تصبح أقرب إلى العادة "العلنية"، وحين يصبح المدنيون أشبه بالعراة تهجمُ قوات النظام، وهي تمارس ساديتها على الشجر والحجر والإنسان. قد لا يكون الهدف من قصف إدلب المتكرّر مهاجمتها برياً في الوقت الحالي، ولكن النظام وحليفه الروسي يصرّان على الإعلان أن حملتهما تأتي في سياق الحرب على الإرهاب، وهو الشعار الذي يمكن صرفه في أي مكان، حتى ولو كان بلا رصيد.

على الرغم من تعرّضها للكمية الأكبر من البراميل والقذائف والهجمات الكيميائية، إلا أن إدلب ما زالت تحتضن أكثر من مليوني شخص، يكنُّ لهم النظام كراهية خاصة. ولكن في حالة الهجوم البري على إدلب، قد يتحول هؤلاء إلى لاجئين، وسيكون أقرب مهرب إليهم، أو ربما المكان الوحيد المتاح، هو تركيا، وهذه لن تقف مكتوفة الأيدي، إذا وجدت نفسها عرضةً لنزوح دفعة تقدر بمئات الألوف، كما قد يمنح هجوم النظام على إدلب جبهة النصرة التي تفرض سيطرة كبيرة هناك تعاطفاً كبيراً، وتختلط بطاقات الحرب على الإرهاب بعضها ببعض. لذلك من الأرجح أن الهجوم على إدلب مؤجل حاليا، لكن القصف سيستمر بتواتر مختلف، يتوقف على سير المعارك في الجبهات الأخرى، خصوصاً بعد أن ضمن جيش النظام والروس أن جبهة النصرة والفصائل الموجودة في إدلب لن يكونوا قادرين على شن هجوم كبير ومؤثر.

التخبط الدبلوماسي، وارتفاع أسهم الأسد، ونجاحات الهجوم على تنظيم الدولة الإسلامية في المناطق الشرقية، جعلت إدلب هدفاً سهلاً، فالهجوم الجوي يظهر انفجاراتٍ كبيرة في مبانٍ ومنشآت تقول المؤتمرات الصحافية الروسية إنها مقرات عسكرية تخص جبهة النصرة، بما قد يجعل الإعلام يتجاهل الضحايا المدنيين، ويحول إدلب كانتونا مغلقا مسيّجا بالنار، يغدو مليونا إنسان بداخله رهائنَ أو محتجزين في انتظار تغير جديد، هذا المتغير من غير المضمون أن يخفف من حجم الألم الواقع على المدني المحتجز ضحيةً كبرى لجبهة متطرفة تحكمه من الداخل، وطيران عسكري ذي تقنية عالية وحقد دفين يترصده من السماء.

اقرأ المزيد
٣ أكتوبر ٢٠١٧
ثلاث حروب محتملة في آسيا والشرق الأوسط

قبل فترة قصيرة كتب هنري كيسنجر مقالة تحت عنوان «فوضى ونظام في عالم متغير» اختصر فيها رؤيته للتطورات الإقليمية والدولية التي ستنشأ عنها، بحسب رأيه، حرب باردة تهدد استقرار العالم. ونعى وزير الخارجية الأميركية الأسبق النظام العالمي الذي أسسه الغرب عام 1648، مؤكداً انفراط عقده على أطراف الشرق الأوسط.

ويعتبر المؤرخون أن معاهدة «وستفاليا» التي أنهت حروب الثلاثين سنة في أوروبا، تمثل أهم محطات السلام في عالم ذلك الزمان. وأعطى كيسنجر مثلاً على ذلك فقدان السيادة لدى أربع دول حوّلتها الحروب إلى ميادين للنزاع، هي: سورية والعراق واليمن وليبيا. ثم تساءل بعد ذلك عن طبيعة الكيانات التي سترث إقليم تنظيم «داعش». واعترف بصعوبة الجواب لأن الكيانات البديلة أصبحت موضع خلاف بين روسيا ودول الناتو. كما ازدادت حدة المزاحمة بين الدول المنتصرة وفي طليعتها روسيا وإيران وتركيا. ووصف تركيا بأنها تعرضت في عهد رجب طيب أردوغان إلى تحوّل عميق، وانتقلت من دولة علمانية إلى قوة إسلامية أيديولوجية.

وقال إن هزيمة «داعش» ستشرّع الأبواب أمام تعاون وثيق بين روسيا والدول الغربية. وفي حال تعذّر هذا التعاون، فإن تعاظم الفوضى سيصل إلى حدود دول نائية مثل الصين والهند. أي الدول المرشّحة للدخول تدريجياً إلى جانب روسيا بحيث تملأ فراغ نفوذ الغرب الآفل. وهذا بالطبع، يرجّح كفة العودة إلى نمط الحرب الباردة.

ومع أن كيسنجر ساهم أثناء عهد ريتشارد نيكسون في رسم معالم الخريطة الحديثة لبعض المناطق الاستراتيجية في العالم، خصوصاً منطقة الشرق الأوسط، إلا أنه لم يتردد في الاعتراف بأن العالم الذي بناه الغرب عام 1648 قد تفكّك وتراجعت كياناته أمام هجمة الأيديولوجيات الإسلامية. على ضوء هذا التصوّر، فإن الحرب الباردة الذي حذّر كيسنجر من تداعياتها، وتخوّفَ من أن تنقلب إلى حرب ساخنة... هذه الحرب بدأت تتكون عناصرها في مواقع عدة، بدءاً من كوريا الشمالية، مروراً بكردستان، وانتهاء بإيران وإسرائيل.

الرئيس الأميركي دونالد ترامب خرج عن المألوف في خطابه أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة في دورتها الـ72، وهدّد كوريا الشمالية بمواجهة اختبار لم تشهد مثله من قبل. جاء هذا التهديد بعدما أجرت كوريا الشمالية سادس تجاربها النووية، الأمر الذي أحدث زلزالاً نسبته الدول المجاورة إلى بيونغيانغ خصوصاً بعدما توعّد وزير خارجية كوريا الشمالية ري يونغ هو بأن الزعيم كيم جونغ أون يبحث اختبار قنبلة هيدروجينية على نطاق لم يسبق له مثيل في المحيط الهادئ.

ومنظمة الصحة العالمية طالبت مجلس الأمن بضرورة التدخّل لمنع إجراء التجارب النووية في المحيط الهادئ. وذكّرت أنه قبل توقيع اتفاقية الحظر عام 1996، شهد هذا المحيط أكثر من مئتي تجربة كان من نتائجها إصابة 430 ألف نسمة بالسرطان. وعليه، حذّرت المنظمة من الأخطار التي تهد سكان شبه الجزيرة الكورية. ويُستدلّ من الإجراءات الوقائية والأمنية التي تقوم بها اليابان أن الحكومة في طوكيو تتوقع ضربة مفاجئة من غير إنذار مسبق. والسبب أن زعيم كوريا الشمالية «كيم جونغ أون» أمر باختبار 22 صاروخاً باليستياً سقطت جميعها في بحر اليابان. وترى الحكومة اليابانية أن العمليات الصاروخية الاستفزازية ليست أكثر من حملة تخويف بغرض إجبار اليابان على فك تعاقدها مع واشنطن. أي التعاقد الذي يسمح للقوات الأميركية المرابطة في اليابان بحق الدفاع عن بلد مهزوم في الحرب العالمية الثانية.

ومن هنا تعتبر كوريا الشمالية أن اليابان وكوريا الجنوبية هما الدولتان اللتان منحتا الولايات المتحدة امتيازات استثنائية لنشر قواتها في شبه الجزيرة الكورية. لذلك يحرص الزعيم «كيم» على تهديدهما بالقنابل النووية المسماة «جوشي». وكان جده كيم إيل سونغ هو الذي أطلق هذا الشعار الذي يعني الاعتماد على الذات.

وفي تصور المراقبين، فإن بكين هي التي تقود هذه الحملة ضد اليابان التي احتلت منشوريا في الثلاثينات، ولأسباب ثأرية تبنّت كوريا الشمالية وأرسلت خبراء الذرّة الذين رفعوا من شأن بلد فقير ليصبح مساوياً للولايات المتحدة من حيث قوة الردع النووي. ولم يكن التزام الصين بالعقوبات التي فرضتها الأمم المتحدة بالحد الجزئي من صادراتها النفطية إلى الدولة المشاغبة، سوى تمويه إعلامي لن يبدّل في دور الرعاية، ولا ينتقص من مسؤولية تأمين الحاجات الضرورية.

الموقع الثاني الذي يحمل بين طياته احتمال انفجار إقليمي هو كردستان.

وعلى رغم التحذيرات التي سبقت موعد الاستفتاء على استقلال الإقليم عن العراق، فإن مسعود بارزاني بقي مصراً على تنفيذ وعده، متسلّحاً بعدة أمثلة بينها استقلال جنوب السودان عبر استفتاء شعبي. عقب صدور النتيجة المتوقّعة، رفض رئيس وزراء العراق حيدر العبادي الاعتراف بشرعيتها. وهدّد برفض مبدأ التفاوض، معلناً عبر وسائل الإعلام عن نيته استرجاع المطارات والمعابر الحدودية.

وأمر رجب طيب أردوغان بإجراء مناورة اشتركت فيها فرق الدبابات والمشاة بهدف ممارسة ضغط عسكري على بارزاني، وخلق جبهة رفض داخل كردستان يمكن أن تمنع الانفصال.

كذلك منعت إيران شاحنات النفط من العبور، ووعدت بغداد بممارسة أقسى العقوبات في حال استمرت كردستان في تركيز دعائم الانفصال.

وترى مصادر الأمم المتحدة أن ردود فعل كل من العراق وتركيا وإيران وسورية مبنية على حسابات داخلية ليس لها أي علاقة بكردستان. وبحسب تقديرات المطلعين على أوضاع الأكراد في المنطقة، فإن نجاح هذه التجربة سيشجع كل الجاليات الكردية في الدول الأربع المتاخمة، على التمرُّد وطلب الاستقلال. ويكفي أن نذكر الجالية الكردية في تركيا يزيد عددها على 15 مليون نسمة، وأن أردوغان قد يضطر إلى تسديد صفعة عسكرية إلى كردستان، تنتهي بغزو الإقليم حفاظاً على الوحدة الوطنية. ولكن هذا الخيار قد يشجّع أكراد الدول الأربع على التمرُّد والعصيان!

الموقع الثالث المرشح في المستقبل لأن يكون جبهة حرب ساخنة يمتد من مرتفعات الجولان إلى سورية ولبنان. كل هذا من أجل منع وصول الأسلحة الإيرانية إلى «حزب الله».

وحدث قبل فترة قصيرة أن قصفت طائرات حربية إسرائيلية مستودعات أسلحة تابعة لـ «حزب الله» قرب مطار دمشق.

وسبق لإسرائيل أن قصفت في آخر نيسان (أبريل) الماضي مستودعاً تابعاً لـ «حزب الله» في المكان ذاته. كذلك زعمت تل أبيب أن طائراتها شنّت غارة على مصنع إيراني للصواريخ في الأراضي السورية غير بعيد عن الحدود مع لبنان.

وكانت الحكومة السورية قد اتهمت إسرائيل باستهداف موقع عسكري غرب البلاد، زعمت تقارير صحافية أن دمشق تطور فيه أسلحة كيماوية.

وفسّرت إسرائيل نشاطها المستباح بأنه يأتي في سياق سياسة تقوم على رفضها لأي مراعاة روسية للإيرانيين في منطقة تعتبرها حيوية بالنسبة لأمنها.

بكلام آخر، يرى المراقبون أن القصف الإسرائيلي ضد أهداف تابعة لـ «حزب الله» هو جزء من أمر واقع يسمح بالتحرك الإسرائيلي فوق منطقة سورية خالية من أي وجود إيراني.

والثابت من خلال كثافة الرقابة الإسرائيلية أن بنيامين نتانياهو قد اتفق مع فلاديمير بوتين على إخلاء منطقة جنوب سورية بعمق خمسين كيلومتراً من خط وقف إطلاق النار في الجولان المحتل منذ عام 1967.

من الواضح أن حرية التحرك الإسرائيلي- ولو في منطقة محدودة- تكشف عن عمق علاقة التنسيق القائمة بين روسيا ودولة اليهود في شأن الوضع الأمني. كما تشير أيضاً إلى وجود تفاهم بينهما على المستوى الرسمي. من هنا يرى بعض المراسلين في دمشق أن توقيت الغارات ودقة استهداف مخازن السلاح ينبئان عن وجود تنسيق مسبق مع موسكو.

ولكن، هل يعني ذلك التنسيق أن إسرائيل محصّنة ضد هجوم مفاجئ؟!

تقول مصادر مقرّبة من «حزب الله» أنه يملك ترسانة صواريخ يصل عددها إلى 120 ألف صاروخ من مختلف الأنواع، مخبأة داخل منازل مموّهة. وإن توقيت إطلاقها ينتظر ساعة الصفر... وإن استخدامها متوقف على قرار الرئيس دونالد ترامب، وما إذا كان التهديد بإلغاء الاتفاق النووي مع إيران هو أمر جدي... أم مناورة لتطمين صديقه نتانياهو؟

اقرأ المزيد
٢ أكتوبر ٢٠١٧
المشهد السوري واستمرارية عدم الحسم

يتأكد كل يوم أن الأزمة السورية هي أحد أكثر أزمات العالم ما بعد الحرب العالمية الثانية تعقداً وصعوبة، نظراً إلى تعدد الأطراف المتداخلة دولياً وإقليمياً، وما يمثله هذا الصراع في مستقبل التوازن الدولي، ومن ثم فإن الاقتراب من حسم ناتج هذه الأزمة مازال مستعصياً، وتأتي التطورات المحيطة بكردستان والمسألة الكردية لتضيف فصلاً جديداً إلى هذا التعقد الفريد.

التطورات التي تشهدها سورية أخيراً معروفة، حيث تواصل قوات النظام السوري مدعومة بالقوات الروسية تقدمها في دير الزور، واتساع مساحة الأراضي التي يسيطر عليها الجيش السوري وفي شكل كان يعطي انطباعات لمعسكر مؤيدي النظام ولبعض المراقبين بأن هناك حسماً قريباً للمسألة السورية، وأن روسيا تواصل السيطرة على أوراق هذه المسألة، وحققت أخيراً خطوة أخرى في مسيرة طويلة لإجراءات بناء الثقة والتهدئة وفقاً لما حدث في جولة الآستانة الأخيرة، إلا أن أموراً أخرى سارت جنباً إلى جنب مع هذه التطورات وكانت تؤشر إلى ابتعاد فرص الحسم للطرف الروسي – الأسد وحلفائهم.

الأول هو الإستراتيجية الأميركية منذ بعض الوقت، بنشر مئات عدة من جنودها لإكساب الحصانة لقوات سورية الديموقراطية الكردية للتقدم في مناطق دير الزور لمحاصرة عناصر داعش وطردها، وبينما بدا المشهد وكأن روسيا والولايات المتحدة يستهدفان الإكمال على «داعش» في مناطق دير الزور والرقة، فإن الأكثر أهمية هو أنه بينما تتسع سيطرة دمشق على مناطق متزايدة من الأراضي السورية بالدعم الروسي فإن هناك تحركاً عكسياً من الجانب الكردي السوري للسيطرة على مناطق كردية سورية في شمال شرقي البلاد، كما أن هناك، وهو الأخطر، وجوداً عسكرياً أميركياً في الشأن السوري، وبكلفة زهيدة نسبياً لا تتعدى مئات من الجنود، تواجه فلول «داعش» المنهارة بدرجة كبيرة بفعل القصف الروسي المستمر، وبعد أن ثبت أن التنسيق الروسي – الأميركي محدود نسبياً، فقد وصلت الرسالة إلى الجانب الروسي والعالم، إن واشنطن ليست في حاجة لكلفة سياسية ومادية كبيرة للتدخل، فضلاً عن أن كلفة التدخل العسكري الكبير لا تحقق بالضرورة الانتصار الكامل، ولكن الردع الأميركي الروسي المتبادل قادر على إحداث توازن معقد، أو على الأقل ضمان دور في ساحات المعارك التي تدور بالوكالة، أو مباشرة بين الجانبين. وهذا الوجود الأميركي يمكن أن يكون له عائد في المشاركة في الترتيبات النهائية أولاً وفق المسألة الكردية، كما سنعرض بعد قليل.

أما التطور الثاني، فهو الاجتماع الذي عقد أخيراً بين أطراف غربية وعربية، وكرر مطالبه في شأن إزاحة الأسد، وربط هذه الإزاحة بالمشاركة في جهود إعادة إعمار سورية، ليصبح بالتالي أمام الراعي الروسي للترتيبات النهائية أحد طريقين: إما استيعاب هذه المطالب في التسوية النهائية، أو على الأقل البحث عن صيغة حل وسط بهذا الصدد، أو يرعى تسوية أمر واقع لا يملك كلفتها الاقتصادية، كما أنها ليست في إمكان الحليف الإيراني، وهنا تثور التساؤلات حول المدى الذي تستطيع به الصين الدخول إلى حلبة النفوذ السياسي الحقيقي والمكلف مادياً، خصوصاً بعد لقاء المبعوث الصيني الجديد لدى سورية مع نائب وزير الخارجية الروسي بوغدانوف أخيراً، وإثارته رغبة الصين في المشاركة في صيغة الآستانة، وهل تصبح سورية هي مدخل العملاق الاقتصادي الصيني إلى نادي النفوذ والتأثير السياسي والدولي؟ أمر قد يكون سابقاً لأوانه ولكن أظن أن احتمالاته عالية.

ثم يأتي التطور الثالث والمهم، والأكثر خطورة في مستقبل المشرق العربي، وهو مصير كردستان العراق، وإلى أين ستتجه هذه المسألة، والآن وقد تم إجراء الاستفتاء ضد إرادة الحكومة العراقية، والنظام الإقليمي العربي، وضد إرادة كل من تركيا وإيران، وادعاء دولي غربي بعدم تأييد هذه الخطوة، وكان التأييد الواضح طبعاً من جانب إسرائيل والمتوقع أيضاً، هنا يثور السؤال المعقد حول الدور الأميركي الذي يدّعي عدم ترحيبه بعقد الاستفتاء في وقت كان الداعم التاريخي للأكراد ودعاة الانفصال، وفي وقت يتحالف مع فصيل كردي سوري في عملية عسكرية مثيرة للتساؤلات في سورية، وأن يأتي كل هذا متزامناً لتتضاعف هذه التساؤلات، ولأنه من الواضح أن مسألة انفصال كردستان ستواجه بتعقيدات كثيرة، فإنه من المؤسف أن هذه التعقيدات والضغوط قد تؤدي إلى مزيد من احتمالات تكريس الانفصال، وقد تحدث مواجهات عسكرية لترسيم الحدود، ومراعاة مطالب وحاجات الحكومة العراقية، وقد تواصل أطراف إقليمية بخاصة تركيا محاصرة هذا الإقليم، وأياً كان مصير هذه التفاعلات التي أشرنا إليها في مقال سابق وقد نتناولها بمزيد من التحليل في ما بعد، فإن السؤال يظل مطروحاً بالنسبة إلى سورية المعقدة بما يكفي، وهو أي دلالات وانعكاسات ستؤثر في المشهد السوري المعقد بما يكفي مع تكريس سيطرة عسكرية كردية مدعومة بحصانة أميركية على بعض مناطق فيها أقلية كردية في سورية على خريطة التوازنات الجديدة في المنطقة. المعنى إذن أنه لا يمكن فصل المشهد الكردي العراقي عن نظيره السوري، وهذا ما يفسر تصاعد اتهامات قوات سورية الديموقراطية في الأيام الأخيرة ضد ما سموه تصعيداً روسياً ضد أهداف لها بما في ذلك قصف متعمد، وفي التقدير أنه مع احتمالات بدء ترتيبات جادة في الشأن الكردي أن روسيا ستعمد إلى انتهاز كل فرصة لا توجد فيها قوات أميركية لتقليص المساحات التي سيسيطر عليها الجانب الكردي السوري في هذه المعارك، ما يبقى في النهاية متضمناً قدراً كبيراً من الأخطار والاحتمالات التي تحتاج إلى ضبط أعصاب شديد من الجانبين الأميركي والروسي، خصوصاً أن تركيا قد تدعم روسيا في هذه العمليات الانتقائية مستقبلاً، ما لا يترك مرونة تكتيكية عسكرية أميركية كافية.

أما مقدرة واشنطن على مقايضة هذا الدور بمساحة أكبر في التسويات النهائية للأزمة السورية، فترتبط بمدى احتمالية انفصال كردستان، وأي أولوية ستعطيها واشنطن وهل يكون لها دور في الترتيبات السورية النهائية، أم لتمكين الأكراد من إقامة كيانهم السياسي المستقل عن كل من العراق وسورية كبداية. ولأن الشواهد تشير إلى توقع الكثير من التفاعلات في شأن كردستان العراق، فإن الموقف في سورية بصدد الرقة ودير الزور قد يصل إلى حالة من الجمود والكمون النسبي بعد استكمال محاصرة وطرد «داعش»، أو قد يتم التباطؤ من الجانبين في هذه المهمة، ويبقى التماس بين الجانبين الأميركي والروسي هادئاً لحين حسم كردستان العراق.

في النهاية تواصل روسيا لعب دور محترف بهدوء وصبر لافتين لجمع كثير من خيوط الأزمة والتحكم في الموقف في يدها، ولكنها لن تتمكن من فرض إرادتها كاملة وسيكون عليها إيجاد صيغة مقبولة إلى حد ما من الفاعلين الرئيسين العرب والدوليين، كما ستكون عليها رعاية رؤية متكاملة لقضية إعادة إعمار سورية واستكمال إعادة النازحين الذين بدأ بعضهم في العودة فعلاً وعليها هنا أن تلزم النظام السوري رعايتهم واحترامهم، ولأن هذه الشروط مازالت بعيدة يظل المشهد السوري غير جاهز بعد لتسوية نهائية وشاملة.

اقرأ المزيد
٢ أكتوبر ٢٠١٧
الأكراد في مواجهة التهديدات والدرس السوري

تناقش الدول الأربع التي يمتد عليها الوجود الكردي (تركيا وإيران والعراق وسورية) قضية انفصال شمال العراق («كردستان») من منظور تحريمي، أو مما تعتبره أمنها القومي، مؤكدة أن ذلك غير قابل للمناقشة والحوار. وهي- أي الدول الأربع- كانت أمضت عقوداً تتجاهل وجود «المسألة الكردية»، اعتقاداً منها بأن التجاهل قد يؤدي إلى النسيان، وأن انتهاج الحظر والعنف والقسر في مواجهتها لشعوبها يقمع أو يجهض طموح هذه الشعوب بالحرية. وبينما كانت المسألة الكردية، ولا زالت، عامل تفريق بين هذه الدول، فإن القاسم المشترك اليوم بينها هو توحيد الموقف في القضية نفسها، برفض استفتاء كردستان العراق، والتوافق على فرض عقوبات عليها، بين أطراف إقليمية تعيش حالة خصومة بل وحرب بالوكالة في ما بينها.

وبينما يوحّد التخوّف من إقامة كيان كردي ديموقراطي هذه الدول، يتم في الوقت ذاته تجاهل مطالب الشعوب (وضمنها الأكراد) التي تبدي بوضوح رغبتها في أن تبقى ضمن إطار الدولة الواحدة، (في سورية مثالاً) إذ تهيئ الأنظمة المستبدة لسيناريو النظام العراقي، على رغم أنها ترى نتائجه على أرض الواقع، ولا تحاول تدارك أسبابه، منعاً من تكرار السيناريو الذي يقود فعلياً الشعوب إلى التفكير بالانفصال، أو اللجوء إلى حلول شبه انفصالية، ولعل هذا ما يجب أن تفعله هذه الدول، في ما تبقى لها من خيارات متاحة مع شعوبها لإقامة نموذج الدولة الديموقراطية، على أساس المواطنة المتساوية، بدل أن تقود تلك الشعوب إلى خيارات المواجهة مع التقسيم والانفصال، في ظل انعدام الرؤيا والحكمة والتقدير لهذه الأنظمة، ومع الأسف أيضاً عند بعض معارضيها (وثيقة لندن أيلول/ سبتمبر 2016 التي تتحدث عن رؤية المعارضة لسوريا الجديدة، والتي تلاقت فيها الهيئة العليا للتفاوض مع النظام في تجاهل السعي لإقامة الدولة الديمقراطية لمواطنين أحرار متساوين).

لعل ما حدث في العراق يعطي الدول التي ترفض الاستفتاء درساً جديداً في حق المواطنين أفراداً ومجموعات، أو قوميات، ويجعل تفكيرنا في سوريا القادمة يختلف عن الأوراق المتناثرة التي ابتدعتها المعارضة في رؤيتها لسوريا ما بعد المرحلة الانتقالية، كما ينهي إلى الأبد سياسات النظام السوري الإقصائية والاستبدادية، التي مارسها لنحو خمسة عقود ماضية. فالنظام السوري الذي يقف اليوم معارضاً لاستقلال أكراد العراق، هو ذاته الذي طالما استخدمهم كورقة ضغط ضد نظام العراق، كما هو حال تركيا في استخدامها الأكراد ضد النظام العراقي، واستخدام إيران وسورية لأكراد تركيا ضد نظام الحكم في تركيا، ولكن في وقت الحسم الذي اختاره أكراد العراق، بعد طول انتظار، تناست هذه الأنظمة خدمات الأكراد، وتوظيفاتها الضيقة والسلطوية لهم، كاشفة عن حقيقة أن خلافاتها البينية يمكن تجاوزها لتحل مكانها توافقات المصلحة المشتركة في عرقلة المشروع أو الطموح الكردي.

ومن نافل القول أن الأنظمة العربية تحديداً التي تعلن رفض الاستفتاء (سورية والعراق) لم تستطع خلال عقود من استقلال دولها بناء مجتمعات المواطنة، التي تجعل كل المواطنين يشعرون بالانتماء المتساوي لهذه الأوطان وإزاء القانون والدولة، كما لم تبن لهم مصالح تربطهم بها، تجعل من الصعوبة لأي مكون أو فرد أن يذهب به الحال اليائس من أنظمته إلى البحث عن سبل للخلاص منها، تحت ظل الدولة الواحدة أو بالانفصال عنها. ومثلاً فقد كان للعراق فرصة النجاة، بكل العراق، من خلال ما اتفق عليه في الدستور الفيدرالي الذي اعتمد اللامركزية (2005)، لكن ارتهان ساسة العراق لإيران وخضوعه لهيمنة ميليشياتها المذهبية والمسلحة، والتراجع عن الاتفاقيات المبرمة مع الأكراد، أعطى المبرر، وسهل على الرئيس مسعود البرزاني في شمال العراق اللجوء إلى خيار المواجهة- الاستفتاء، آخذاً بيد مؤيديه على الأقل، إلى إحياء حلم ظنت الأنظمة أنه قد مات، بفعل القمع والتجاهل والتعصب وطمس حقوق المواطنة الكاملة للأفراد والقوميات، وقيادة شعبه نحو استفتاء هو أشبه بمغامرة، فالرجوع عنها يساوي الإقدام عليها.

في المقابل، فإن الحديث عن الاستقلال وكأنه نهاية المطاف لحلم الدولة بإقامتها، يشوبه عديد من المشكلات، إذا لم يرتبط بإقامة دولة مواطنين متساوين وأحرار، وبأنظمة ديموقراطية تخضع للمؤسسات والقانون، وإذا لم يعتمد النظر في مصالح حقيقية تربط كل مكونات المجتمع، أولاً - على أساس فردي وهو الأهم، لأن المواطنة هي التي تشكل البنية المجتمعية الأساسية. وثانياً- على أساس جمعي يأخذ في اعتباره حقوق المكونات الإثنية أو القومية أو الطائفية، في التعبير عن ذاتها. أي أنه من دون هذا الترتيب فإن هذه الدولة قد تكون إزاء مشكلات تؤجل ولا تموت، كحال ما هو قائم في بلداننا العربية ومنهم سورية. وعليه فإن ما ورد في «الوثيقة السياسية» لضمان حقوق المكونات القومية والدينية في كردستان، من تركيز على حقوق المكونات فقط، يجعل التخوّف مشروعاً، حيث الحديث يدور أساساً، أو في معظمه، عن ديموقراطية توافقية للجماعات، إذ سيكون ذلك محور الحياة السياسية، وكأن من صاغها استرشد باتفاق الطائف لانهاء الحرب الأهلية في لبنان، (الديموقراطية الطائفية)، وبذلك تتجاهل الوثيقة- إلى حد ما- والتي يفترض أنها تؤسس لدستور جديد لحقوق المواطنين الأفراد المستقلين عن الكيانات والانتماءات الجمعية، ما قد يكرس العصبيات والهويات الجمعية، قبل الوطنية، على حساب حقوق المواطنة الفردية.

ما يجب فــهمه من قبل الأنظمة وتحديداً النظامين السوري والإيراني أن ما حصل يوم الإثنين الماضي 25 أيلول ليس نهاية مرحلة، سيغلق بعدها ملف الأكراد في المنطقة، بل هو بداية لما يمكن تســميته مواجهة الواقع، لفتح الملف الذي لا يزال بعضهم يظنه قد أقفل إلى الأبد. وهذا يشـــمل ســورياً (النظام والمعارضة)، لهذا على الأطراف المعنية بسوريا المســـتقبل، ولا سيما أطراف المعارضة، أن تفكر بطريقة أخرى، لمعالجة المــسألة الكردية، بالضد من الســياسات الإقصائية التي اعتمدها النظام في مصادرته حقوق الأفراد والجماعات، وفي تجزئته الجماعة الوطنية السورية، ووضــعه مكـــوناتها في مواجهة بعضها، بدل العمل على إيجاد فرصة للنجاة بها كوحدة سورية، قبل التشدق بشعارات الوحدة مع الآخرين، وهذا لن ينجز إلا بإقامة دولة سورية كدولة مؤسسات وقانون ومواطنين متساوين وأحرار، وكدولة ديمقراطية «فيديرالية مثلاً» على غرار دول العالم المتحضرة، حيث الفدرالية على أساس جغرافي وليست على أساس اثني أو طائفي.

هكذا يمكننا القول بأن هذا هو الشرق الأوسط الجديد خاصتنا، وليس الذي كانت أعلنت عنه كوندليزا رايس الوزيرة السابقة لخارجية الولايات المتحدة الأميركية، منذ عام 2006، والأجدى أن نقول إن الأنظمة الاستبدادية هي التي تجعل من العرب عربين، ومن السيادة الوطنية مزارع حكم استبدادية، وبالتالي هي السبب الأساس في خلق «الفوضى الخلاقة» التي بشرت بها رايس ذات مرة.

اقرأ المزيد
٢ أكتوبر ٢٠١٧
التهافُت اللبناني على دخول المحور الإيراني!

لا يكاد يمر يومٌ إلاّ ويؤكد طرفٌ من الأطراف السياسية في لبنان، على ضرورة استعادة العلاقات المميزة مع دمشق وطهران! بيد أنّ الأبرز في الشهور الأخيرة في الإصرار على ذلك كان ولا يزال جبران باسيل صهر الرئيس ووزير الخارجية. وآخِر فصول هذا المسار التسريعي كان ما بدأ به رئيس الجمهورية بنيويورك، وأكمله وزاد عليه جبران باسيل باجتماعه بناءً على طلبه مع وزير الخارجية السوري وليد المعلم، ومندوب النظام السوري في الأمم المتحدة بشار الجعفري. ثم حديثه إلى ممثلي الجالية اللبنانية في الولايات المتحدة عن اللاجئين السوريين والإرهاب وضرورة إعادتهم طوعاً أو كرهاً إلى بلادهم.

تتابعت الحلقات الأخيرة من الفيلم القديم عندما تحدث الرئيس الأميركي عن اللاجئين السوريين، فشكر تركيا والأردن ولبنان على استقبالهم، وذكر الإسهام الأميركي في المساعدة، ودعا إلى مراعاة الشروط الإنسانية؛ تمهيداً لإعادتهم إلى بلادهم بسرعة عندما تتحسن الظروف الأمنية والسياسية. من هذا الكلام فهم النصراويون والعونيون أنّ المقصود: التوطين! توطين اللاجئين في لبنان. فحمل الرئيس وحمل صهره حملات هوجاء على اللاجئين، وازدادت وسائل إعلام النصراويين تركيزاً على التوطين وشجبه، إلى حدّ أنّ رئيس الحكومة تأثر بذلك وقال إنّ التوطين ممنوع بحكم الدستور، وأنه لا أحد يستطيع إرغام لبنان على ذلك! بيد أنّ اتضاح الكلام الأميركي خلال يومين، ما خفّف من الحملة. وبرزت للعلاقات مع النظام السوري فضائل لا تُعدُّ ولا تُحصى: إعادة اللاجئين، والعلاقات التجارية، وترسيم الحدود، وتقاسم المياه، والحقول البحرية للنفط... الخ. وفيما عدا ملف اللاجئين؛ فإنّ كلَّ هذه الملفات قديم، ويعود بعضها إلى تسعينات القرن الماضي. وما أمكن في أي تفاوض، لا قبل العام 2005 ولا بعده، إقناع النظام السوري بأي شيء، حتى في الشاحنات التي تنقل السِلَع الزراعية والتجارية فيما بين لبنان والخليج عبر سوريا والأردن. بل إنه في ملفٍ حيوي جداً في أهمية ملف مزارع شبعا وتلال كفرشوبا بجنوب لبنان، التي لا يزال الصهاينة يحتلونها؛ كانت الدول الكبرى مستعدة للمساعدة في مجلس الأمن على إجلاء الإسرائيليين عنها، إذا كتب النظام السوري رسالة إلى الأُمم المتحدة أنّ هذه الأراضي تابعة للبنان. فالسكان ومالكو المزارع لبنانيون، لكنّ التبعية لا تزال سورية منذ زمن الاستقلال! لكنّ السوريين أبوا، كجزء من التنسيق مع الحزب والإيرانيين. فعندما لا تعود هناك أراضٍ محتلة، لا تعود هناك حاجة إلى ميليشيا المقاومة، التي ومنذ العام 2006 تقاتل في كل مكان، ومن سوريا إلى اليمن، باستثناء جنوب لبنان! ومع ذلك، وحتى بعد الفضيحة في سوريا وغيرها، لا يزال النصراويون - ومعهم رئيس الجمهورية الحالي - يرون ضرورة وجود هذه الميليشيا في مواجهة إسرائيل! ويزعم رئيس الجمهورية الحالي من دون تردد وفي كل مناسبة: أنّ الجيش اللبناني ومعه القوات الدولية غير كافيين للدفاع عن أمن الحدود، ولا بد من إضافة قوة الميليشيا هذه إلى قوة الجيش الذي قال الرئيس إنه لا يزال ضعيفاً!

وهكذا، فإنّ العمل في خدمة إيران في السيطرة على لبنان لا يقتصر على الابتزاز بملف اللاجئين؛ بل هناك من جانب آخر زعزعة القرارات الدولية لحفظ أمن لبنان وأمن حدوده، وأبرزها القرار 1701 من العام 2006. وهناك، إلى ذلك، القرار 1559 بشأن منع وجود الجيوش الأجنبية والميليشيات على أرض لبنان، والقرار1680 والقرار 1757؛ وكلها قراراتٌ أُنجزت بعمل عربي ودولي من جانب أصدقاء لبنان لحمايته من العدوان الإسرائيلي، وإخلائه من الميليشيات المسلحة المخلة بالأمن والمخلة بالعدالة والحياة السياسية الحرة. والرئيس عون يخلّ بكل ذلك، بل ويذهب إلى أن النأي بالنفس متحقق، وملف «حزب الله» إقليمي، وحلُّه ليس من شأن لبنان!

لقد اتهم جبران باسيل و«عمه» في السنوات العشر الأخيرة بإثارة موجة كراهية ضد المسلمين في لبنان. واتهما أيضاً بالعمل ضمن «تحالف الأقليات» الذي يرى أنّ الخطر الأكبر عليهم هم السنة، وأنّ الأقليات المسيحية وغير المسيحية لا حامي لها غير إيران بالمنطقة. وما خفّت الحملة (رغم أملنا الوهمي) بعد أن رشّح الحريري عوناً للرئاسة. فقد ظلت النبرة عالية في فصل المسلمين عن المسيحيين في قانون الانتخاب، وظلَّ العونيون يأخذون مناصب السنّة في الدولة والإدارة. وصار اللاجئون السوريون باعتبارهم مسلمين سنة «مكْسَرَ عصا» وخطراً أمنياً وإرهاباً. وكان «حزب الله» شديد الترحيب طوال السنوات الماضية بالدعاية العونية، باعتبارها تساعده ضد السنّة من جهة، وتتيح له الاستيلاء أو المزيد من الاستيلاء على القسم المسيحي في الجيش، وعلى المطار والمرفأ والجمارك... إلخ. ولذلك؛ وفي نطاق التحالُف الذي بينهما منذ العام 2007 ما سمحوا بانتخاب رئيس غير عون، حتى لو كان نصيرهم الآخر الأقدم، ونصير الأسد: سليمان فرنجية! ووزراء عون وفرنجية وأمل والحزب بالأمس واليوم ذاهبون آيبون إلى سوريا ويعملون مع رئيس مخابرات النظام، وبالتأكيد لا أحد منهم يأتي على ذكر اللاجئين!

لقد كان يمكن السكوت أو التعقل أو التشاور العلني في «فوائد» التواصل وتقديم اعتراف مستجد بالنظام، لو كان في ذلك أدنى فائدة! هناك بالطبع الاعتبارات الأخلاقية. ففي سوريا وعلى أيدي النظام والميليشيات الإيرانية والمتأيرنة والروس سقط نحو المليون قتيل، و12 مليون مهجّر، وأكثر من مليون معتقل. لكن هناك الاعتبارات السياسية، فالجامعة العربية علقت عضوية النظام السوري منذ العام 2012، والمفوضيات الدولية تحاول تحويل النظام إلى المحكمة الجنائية الدولية بسبب جرائم الحرب التي ارتكبها. والجميع - باستثناء الروس والإيرانيين - لا يريدون التعامل مع النظام السوري إلا بعد إنفاذ القرار 2254 بشأن الانتقال السياسي. ثم إنّه لا أمل على الإطلاق في إمكان عودة اللاجئين بالتفاوض ما دام النظام ما دخل في الحل السياسي بعد.

فلماذا إذن هذا الإلحاح وهذه الاستماتة وهذه اللهجة العنصرية ضد المسلمين وهم حلفاء باسيل في الحكومة الحالية رسمياً - وكلُّ ذلك بحجة تطبيع العلاقات مع النظام من أجل إعادة اللاجئين، والفوائد الأُخرى؟

لهذا الإلحاح علتان: إظهار الولاء للحزب وإيران ومحورها باعتباره انتصر، وسيكون جنة للأقليات، وبخاصة أن المتداول في بعض الأوساط الشعبية المسيحية والشيعية أن السنّة رغم كثرتهم هم إلى زوال، وستحلُّ محلَّهم إيران وميليشياتها!

أما العلة الأخرى، فهي الانتخابات النيابية. فهذه الانتخابات تجري من دون عنوان سياسي، بل الحديث عن انتزاع المناصب والأموال والتقاسُم، ومن الطرف الأقدر على ذلك. ولذلك؛ يرى باسيل واستراتيجيوه أنّ ملفّ اللاجئين، ومن ورائه المحور الإيراني المعادي للعرب وللمسلمين السنة؛ يمكن بشكلٍ من الأشكال أن يمثّل عنواناً شبه سياسي للحرب الانتخابية المقبلة.

لا بد من مواجهة باسيل وأتباعه، والحزب وميليشياته؛ إبقاءً على الدولة والدستور. لقد افتتح الوزير نهاد المشنوق هذه المواجهة ولا بد من متابعتها بحركة سياسية دؤوبة ومراكمة. وكنت أردد: يا للعرب، وأنا أُضيف اليوم: ويا للبنانيين!

اقرأ المزيد
٢ أكتوبر ٢٠١٧
جريمة إنسانية بحق الأطفال في مدينة جسر الشغور بإدلب

رغم آلة الحرب والدمار الذي طال كل شيء، الحجر والبشر، نفوس ضعيفة تشوه الحياة في قلوب من بقي على قيد الأمل، في قلوب أشخاص عانت الكثير إزاء قصف همجي؛ سلب من المنطقة كل ما يوحي بالحياة، ليحوّلها إلى مدينةٍ منكوبةٍ، لا يوجد فيها سوى مشاهد الدمار المؤلمة ورائحة الموت التي تملأ المكان.

الحالة الإنسانية الصعبة التي يعيشها أهالي جسر الشغور لم تتوقف على قصف النظام وطائرات حليفته روسيا فقط. بل وسرقة الأمل من الإنسان الفقير. قام أصحاب النفوس الضعيفة باستغلال نزوح أهالي المدينة؛ فسرقوا منها أمل الفقير الضعيف بالحصول على أبسط حقوقه في الحياة، فقد تعرّض مركز نماء التطوعي في مدينة جسر الشغور لحالة نهب يوم السبت 30 أيلول 2017، حيث قام بعض الأشخاص بسرقة مركز لحليب الأطفال مستغلين الحالة التي تشهدها المنطقة.

 الأستاذ "عبد الحميد خلف" قائد فريق نماء التطوعي قال عن حالة السرقة التي تعرض لها المركز: "بسبب الأوضاع التي تعرضت لها مدينة جسر الشغور غادر ما يقارب 90% من أهالي المدينة إلى المناطق المحيطة بمدينة الجسر بعيداً عن قصف طائرات النظام، ليأتي أصحاب النفوس الضعيفة ويستغلوا فرصة خروج الناس فقاموا بسرقة مركز توزيع الحليب في المدينة الذي يخدم ما يقارب 700-800 طفل، أغلبهم من الأطفال الأيتام وأبناء الشهداء والمعتقلين، وهي الفئة الأساسية التي يخدمها المركز؛ حيث يتمّ توزيع كميات الحليب بشكل يومي ضمن أرقام وبطاقات محددة، ولايتمّ تخزين هذه الكميات في المستودع".

لم تكن هي المرة الأولى التي يستغلّ بها أصحاب النفوس الضعيفة فرصة القصف الهمجي على المدينة، ليسرقوا مابقي من فتات الحياة والأمل في عيون الآخرين.

يتابع "الخلف" قائلاً: "عند وصول المسؤول اللوجستي إلى المركز وجد أن الباب معرض لعملية كسر، وسرقة كمية الحليب الموجودة في المركز التي وصلت إليه قبل حملة القصف وتعادل 1500 علبة حليب، وهي تغطي حاجات 700 طفل وطفلة دون عمر السنة من نوع "رينو لاك1 و2"، حيث يعطى الرقم 1 لعمر الأطفال ما دون 6 أشهر ورقم 2 لسن الأطفال من 6-12 شهر، كما تمّ إفراغ محتويات المركز من بطاريات وأوراق وبطاقات للأطفال والبعض منها ممزق وتمّ رميه في الأرض، فعلاً إنه عمل إجرامي بحق الإنسانية".

المأساة التي يعانيها الأطفال في زمن الحرب لم تقتصر على خوف من القصف أو فقد للأحبة، فهناك الفقر والجوع الذي لا يعرف أي نوع من الشفقة والرحمة، فأثناء الفترة الأخيرة انخفض الدعم المقدم لهؤلاء الأطفال الأيتام الذين لا معيل لهم في الحياة، في بلد أصبح فيه تأمين مستلزمات الحياة من الصعوبات الكبيرة فكيف وإن كان رب الأسرة غير موجود.

ليبقى التساؤل ألا يكفي ظلم الحرب؟، ألم يعد هناك إنسانية في قلوب البعض!، أي إجرام وحقد قد نال منك سوريا.. صبراً جميلاً وبالله المستعان ...

اقرأ المزيد
١ أكتوبر ٢٠١٧
أفكار تراود لاجئاً ينوي العودة إلى الوطن

على رغم أنني لم أهتم طيلة حياتي بالسياسة ولم أتعاطف مع أية جماعة معارضة، لا أعرف لم اعتبرت نفسي أحد المعنيين بعبارة «لا عودة لهم الى الوطن» التي صارت تتكرر على لسان غير مسؤول سوري في نشوة «انتصاراته»، متوعداً ومقرراً مصير ملايين اللاجئين الهاربين من جحيم الفتك والخراب، مثلما قرر بعنفه وتنكيله مصيرهم كمشردين في بقاع الأرض. ربما يكون السبب شعوري بأني مدان سلطوياً على مغادرة البلاد قبل أن يكتمل حصار مدينتي وتتلقى نصيبها من القصف والتدمير، وربما لأن ذاكرتي استحضرت من الماضي قصصاً وحكايات عن قهر وإذلال طاول أناساً عاديين لمجرد أنهم امتعضوا أو لم يظهروا تأييداً صريحاً لسياسات النظام وممارساته، فكيف الحال وقد وصل الاستقطاب بعد سنوات من صراع دام وحاقد إلى الحد الأقصى؟ ما يعني أن «حفلات السؤال والجواب» لدى الفروع الأمنية ستكون مفتوحة على أسوأ الاحتمالات، ما أن تطأ قدماي أرض الوطن.

حنيني إلى الوطن لا يزال يصطدم بالسؤال المحذر لجارتنا الوفية حين استشعرت رغبة زوجتي في العودة: إلى أين تعودين، هل مسك الجنون؟! قبل أن تبدي أسفها لإخبارنا بأنهم استولوا على بيتنا، وأن أحد ضباط الحاجز القريب حضر مع عناصره ليلاً واقتحم المنزل، وأنه زجرهم عندما سألوه عن السبب، قبل أن يجيب بحدة، أنه إجراء موقت، واعداً بما يشبه التهديد بتسوية الأمر مع صاحب البيت متى يعود... والأنكى حين أضافت أن هذا التصرف لا يتعلق بمنزلنا فقط بل بغالبية المنازل التي هجرها أصحابها أو نزحوا عنها لحماية أنفسهم من طيش المعارك المحتدمة، وأنه ليس ثمة ما يضمن، بمجرد عودتهم، استرداد بيوتهم، ومثالها جارنا الطبيب الذي عاد وطالب بمنزله، ولجأ الى ما تيسر له من المؤسسات والمراجع، ولكنه لم يصل إلى نتيجة سوى تهديد صريح من الساكن الجديد بأنه لن يفقد بيته فقط إن استمر في مطالبته وإنما حياته وحياة أولاده أيضاً، مجبراً إياه، كي يشرع مصادرة البيت، على توقيع عقد إيجار لعشر سنوات لقاء مبلغ زهيد.

والحال، لا يخفى على أحد أن الاستيلاء على كل ما يقع تحت اليد من بيوت وممتلكات بات عرفاً سائداً عند أصحاب «الانتصار الكبير» بينما ينتظر الويل والثبور وعظائم الأمور كل من يحاول استرداد حقه ويتجرأ على المطالبة بأملاكه، وخاصة في المناطق التي شهدت حصارات طويلة، والأخطر حين تكون ثمة نيات مبيتة لجماعات مذهبية معينة للاستيلاء على أحياء وبلدات تهمها دينياً وأمنياً، لنشهد مخططاً بات يعرف بالتغيير الديموغرافي يجري على قدم وساق، لخلق تجانس سكاني من النمط المذهبي ذاته يعتمد عليه لتعزيز السيطرة.

وما شغل تفكيري أكثر تلك الأخبار التي وصلت عن أحوال أبناء الأقليات التي هادنت أو ساندت سياسات السلطة خوفاً من سيطرة الإسلاميين المتشددين على مقاليد الحكم، وفحواها أن النظام وأعوانه لا يضيعون فرصة «لتمنينها» عن دورهم في حمايتها وتخليصها من براثن التطرف الجهادي، وتالياً لامتصاص عافيتها ولابتزازها بأموالها وممتلكاتها وكرامتها.

وزاد الطين بلة الجدل الصاخب حول إقرار المناهج التعليمية الجديدة، وتلك المطالبات التي تصر على شطب أسماء كل المبدعين السوريين المهاجرين أو المعارضين منها، من رواة وشعراء ومسرحيين وفنانين، بما في ذلك منع إدراج أية معلومة من إبداعاتهم، وحتى تخوين كل مدرس يقوم بذلك، ما أثار السؤال عن حقيقة التحصيل العلمي والمعرفي الذي ينتظر أطفالي حين تُحشى أدمغتهم بمنظومة فكرية متجانسة يسعى النظام الى تكريسها، وحين يحرمون من الاطلاع على إنتاج شخصيات إبداعية أنجبها وطنهم وتغّيبت، ليس لشيء، سوى لأن حسها الإنساني المرهف حضها على إعلان موقف رافض للعنف والتدمير ويدعو لاحترام حيوات البشر وحقوقهم.

ومن الأفكار التي تراودني يبقى الهاجس الأكبر هو مستقبل البلاد التي سأعود إليها، فإذا كان حافز الثورة هو تردي الوضعين الاقتصادي والمعيشي، فالوضع اليوم أكثر سوءاً وتردياً بكثير، وإن كان رداً على واقع قائم على القهر والقمع والتميز والفساد، فإن الراهن بعد مقتل مئات آلاف البشر واعتقال وتغييب مثلهم وتشريد ملايين السوريين، هو أكثر حدة، بل ازداد سفوراً مع توهم النظام بأنه قد انتصر، ومع بنية سلطوية لن تستطيع أن تحكم بعد ما ارتكبته إلا بتشديد القهر والإرهاب وهدر حقوق البشر، ما يعني أن الأسباب التي أدّت إلى اندلاع الثورة لا تزال قائمة إن لم نقل إنّها تفاقمت أكثر، وأن فترة الهدوء الراهنة لن تدوم بل يرجح أن تشهد البلاد، في وقت ليس بعيد، صوراً من الرفض والتمرد أكثر وضوحاً وجدوى.

قبضة أمنية أكثر شراسةً وقسوة... تعزيز السيطرة المتخلفة الطائفية والمذهبية على مفاصل الدولة والحياة... استمرار تدهور الأوضاع الخدمية والصحية وغلاء فاحش يترك غالبية الناس في حالة عوز شديد أو شبه جياع...، هي عناوين ما ينتظر بلاداً غارقة في أزمات اقتصادية وإنسانية عميقة وتتنازعها قوى خارجية عديدة يزيد صراعها على النفوذ من تهتك البنية الوطنية، ما يكرس الانقسامات المجتمعية والمذهبية ويسعر اندفاع الشباب المتضرر والناقم نحو العصبية والتطرف.

وإذ تطمئنني، بعد سنوات الفتك والتنكيل، حقيقة أن سورية لن تعود إلى ما كانت عليه قبل آذار (مارس) 2011، وأن منطق التسلط والقهر بات مرذولاً عند غالبية السوريين، وأن إيمانهم بحقوقهم بات أوضح، فما يقلقني أن النظام الذي يتوهم الانتصار صار أبعد من الحلول السياسية وأشد تمسكاً بخيار العنف والغلبة، وأن ثمة مرحلة سوداء ستشهدها البلاد يحاول فيها أصحاب ذاك الانتصار المزعوم تأديب الشعب السوري الذي تجرأ وثار، كما استباحة كل شيء لتكريس سلطتهم وامتيازاتهم.

اقرأ المزيد
١ أكتوبر ٢٠١٧
معجزة في سوريا!

يحدث في سوريا الآن ما بدا للجميع قبل عامين ونيف أنه مستحيل. لم يكن متصوراً أن يستمر نظام الرئيس بشار الأسد، ويُعاد تأهيله دولياً وإقليمياً. أركان هذا النظام أنفسهم لم يتصوروا ذلك. كان أقصى طموحهم الاحتفاظ بمساحة صغيرة لا تتجاوز ثلث الأراضي السورية على الأكثر أُطلق عليها «سوريا المفيدة».

ولذا يبدو التغير الجوهري الذي حدث خلال نحو عامين أشبه بمعجزة. وتعبير المعجزة يُستخدم في الحالات التي يتحقق فيها ما كان يبدو مستحيلاً. وربما يصح استخدامه في الحالة التي نتناولها من زاوية أن مختلف مراكز التفكير وأجهزة المعلومات في العالم، إما توقعت سقوط نظام الأسد، أو رأته مُرجحاً على بقائه. لكنها راجعت تقييمها بشأن مستقبل سوريا، بعد التدخل العسكري الروسي وحسم واشنطن موقفها باتجاه التركيز في مواجهة الإرهاب.

غير أن تعبير المعجزة هنا يظل مجازياً، لأنه يرتبط بعوامل غير منظورة أو ليست معروفة. لكن بقاء نظام الأسد يعود إلى أسباب محددَّة ومعروفة مكَّنته من الصمود بعد أن فقد سيطرته على أكثر من ثلثي الأراضي السورية، وأتاحت له التحول من الدفاع إلى الهجوم، وإعادة ترتيب أوراقه على المستوى الدولي، وأدت إلى تغيير صريح أو ضمني في مواقف الدول التي أيدت مطلب إنهائه، إذ باتت الآن تقبل استمراره، إما في مرحلة انتقالية لم يتم الاتفاق عليها بعد، أو فيما بعدها أيضاً، بعد أن نجح في استغلال تصاعد الإرهاب وأعاد تقديم نفسه كشريك في الحرب عليه.

غير أن وضوح العوامل التي أدت إلى استمرار نظام الأسد لم يمنع خلط أوراق عدة في الجدل الدائر حول هذا الموضوع. فكثيرة مجادلات بعض أنصار المعارضة السورية عن خيباتها وإخفاقاتها، واتهامات هذه المعارضة لأطراف دولية وإقليمية ترى أنها خيَّبت آمالها، أو تخلت عنها، أو حتى خانتها. وكثيرة أيضاً الأوراق التي تُخلط في الجدل حول أدوار القوى الدولية والإقليمية التي ساندت نظام الأسد، فإيران تنسب لنفسها الفضل في بقاء نظام الأسد، في لحظة تسعى فيها إلى مراكمة ما تعده انتصارات تاريخية رغم أن أكثرها من نوع يحمل في طياته بذور انتكاسات لأسباب في مقدمتها هول التكلفة.

ومن هنا أهمية العمل على فرز الأوراق التي تُخلط في سياق الجدل حول بقاء نظام الأسد، وتدقيق العوامل التي ساهمت في استمراره، وأوزانها النسبية. ومهما قيل عن مساندة إيران والميليشيات التابعة لها التي لا يقل عددها عن الخمسين، والتدخل العسكري الروسي الذي قلب موازين القوى، لم يكن ممكناً أن يتغير المشهد جذرياً في سوريا من دون تصاعد الإرهاب إلى مستوى غير مسبوق جعله في صدارة أولويات القوى الدولية والإقليمية.

وليتنا نتأمل هنا السياق الذي تحول فيه تردد الإدارة الأميركية السابقة تجاه الأزمة السورية إلى قرار بعدم الانخراط فيها والاكتفاء بإدارتها، وتجميد الموقف الذي تبنته في بدايتها ضد نظام الأسد ليبقى شعاراً معلَّقاً في الهواء.

كانت التجربة المرة في العراق، خاصة على صعيد تصاعد الإرهاب وتوسعه عقب إسقاط صدام حسين، وراء تردد إدارة أوباما. وكان تصاعد الإرهاب، وتوسع تنظيم «داعش»، واحتلاله مساحات واسعة في سوريا والعراق منتصف 2014، وراء حسم هذا التردد باتجاه عدم الانغماس في الحرب السورية، وإعطاء أولوية مطلقة للحرب على الإرهاب منذ تأسيس التحالف الدولي في سبتمبر من ذلك العام.

وهذا هو نفسه السياق الذي جعل طريق روسيا إلى التدخل العسكري في سوريا في سبتمبر 2015 ممهَّدة تماماً. كان كافياً إعلان أن هذا التدخل يرمي إلى محاربة الإرهاب لإضفاء شرعية دولية ضمنية عليه، وخاصة في ظل عدم ممانعة واشنطن.

وإذا كان التدخل العسكري الروسي هو العامل الحاسم الذي غير ميزان القوى لمصلحة نظام الأسد، فما كان لهذا التدخل أن يحدث بسهولة إلا لتصاعد الإرهاب والتوافق الدولي الواسع على أولوية مواجهته. لم يكن سهلاً أن تتدخل روسيا عسكرياً بدون هذا التوافق على مواجهة الإرهاب. ولم يكن متصوراً أن يحظى تدخلها العسكري بقبول دولي واسع، رغم أنه فاقم المأساة الإنسانية في سوريا، وشجع أجهزة نظام الأسد وميليشيات تابعة لإيران على ارتكاب جرائم فادحة، في غياب إرهاب متوحش يدفع إلى التغاضي عن أي شيء في سبيل محاربته والقضاء عليه.

لقد تعددت العوامل التي حققت ما كان يدخل ضمن المعجزات، ولكن تصاعد الإرهاب هو العامل الرئيس الذي يتصدرها.

اقرأ المزيد

مقالات

عرض المزيد >
● مقالات رأي
١٣ أغسطس ٢٠٢٥
ازدواجية الصراخ والصمت: استهداف مسجد السويداء لم يُغضب منتقدي مشهد الإعدام في المستشفى
أحمد ابازيد
● مقالات رأي
٣١ يوليو ٢٠٢٥
تغير موازين القوى في سوريا: ما بعد الأسد وبداية مرحلة السيادة الوطنية
ربيع الشاطر
● مقالات رأي
١٨ يوليو ٢٠٢٥
دعوة لتصحيح مسار الانتقال السياسي في سوريا عبر تعزيز الجبهة الداخلية
فضل عبد الغني مدير الشبكة السورية لحقوق الإنسان
● مقالات رأي
٣٠ يونيو ٢٠٢٥
أبناء بلا وطن: متى تعترف سوريا بحق الأم في نقل الجنسية..؟
سيرين المصطفى
● مقالات رأي
٢٥ يونيو ٢٠٢٥
محاسبة مجرمي سوريا ودرس من فرانكفورت
فضل عبد الغني
● مقالات رأي
٢٥ يونيو ٢٠٢٥
استهداف دور العبادة في الحرب السورية: الأثر العميق في الذاكرة والوجدان
سيرين المصطفى
● مقالات رأي
١٧ يونيو ٢٠٢٥
فادي صقر وإفلات المجرمين من العقاب في سوريا
فضل عبد الغني