مقالات مقالات رأي بحوث ودراسات كتاب الثورة
١٠ أكتوبر ٢٠١٧
الاحتلال اللغوي لسورية يوازي الاحتلال العسكري

فرضت الدول الثلاث التي تحتل سورية، مع اختلاف في طبيعة هذا الاحتلال وحجمه، لغاتِها التركية والفارسية والروسية على المواطنين السوريين في الأماكن الخاضعة لسيطرتها. وبذلك صار على الأطفال في هذا البلد العربي المنكوب، أن يتعلموا لغة أجنبية مفروضة عليهم، على حساب لغتهم العربية. وقد يُرغم هؤلاء الأطفال على تعلم لغتين على الأقل من اللغات الثلاث التي باتت اليوم هي السائدة في المناطق الخاضعة للهيمنة الشاملة من طرف الدول الثلاث. والمسألة إلى هنا ليست تقديم خدمات تربوية لقطاع واسع من الشعب السوري حرم من فرص التربية والتعليم، التي من المفترض أن تتيحها له حكومة بلاده، لو أنها كانت حرة، وليست تابعة للنفوذ الأجنبي، خصوصاً النفوذ الروسي والإيراني، ولكنها مسألة استقلال مغصوب ووطن منهوب، وتمهيد لفرض الهيمنة الأجنبية بالكامل على سورية لأطول فترة ممكنة.

حتى الاستعمار الفرنسي الذي فرض على سورية عقب الحرب العالمية الأولى، تحت مسمى الانتداب، لم يفلح في إلغاء اللغة العربية، وفي فرض اللغة الفرنسية بدلاً منها بالإكراه. وكانت قبله الدولة العثمانية تبسط نفوذها على الشام والعراق، مع استمرار اللغة العربية في النماء والانتشار بين الشعوب العربية في تلك المناطق أو «الولايات العربية»، كما كان يطلق عليها، على رغم مزاحمة اللغة التركية لها، فاحتفظت بأصالتها في حدود الإمكان، وظلت لغة الثقافة والفكر والأدب والشعر، وإنْ في حدود ضيقة، وتدرَّس بها العلوم الدينية، وفي النصف الثاني من القرن التاسع عشر، بدأ تدريس العلوم العصرية بها. ولعل مكتب عنبر، وهو المؤسسة التعليمية الرائدة والشهيرة في دمشق، خير مثال للحفاظ على اللغة العربية في سورية. ففي هذه المؤسسة درس وتخرج شخصيات كان لها حضور مؤثر في تاريخ سورية وقامت بأدوار متميزة في النهضة العلمية والثقافية.

إن إجبار الأطفال السوريين على تعلم اللغات التركية والفارسية والروسية فوق ترابهم الوطني، مع الضعف الملحوظ في تعليمهم اللغة العربية، هو بكل المقاييس، استلاب ثقافي كامل الأركان، وانتهاك صارخ لحق أصيل من حقوق الإنسان، بقدر ما هو إيذان بأن الوجود الأجنبي فوق الأراضي السورية، ليس له من نهاية في المديين المتوسط والطويل. الأمر الذي يؤكد أن الأزمة السورية لن تعرف انفراجاً، حتى وإن زعمت روسيا أنها في سبيلها إلى إيجاد «تسوية سياسية» لها. فما تلك التسوية السياسية المزعومة سوى شكل مبتكر من ترسيخ الوجود الروسي في سورية. ويقابل هذا الخطرَ الذي يهدد شخصية الفرد والمجتمع في سورية، عمليةُ التوطين التي تقوم على قدم وساق من طرف إيران، بإحلال جماعات أفغانية وباكستانية وأخرى إيرانية محل المواطنين السوريين الذين اقتلعوا من مواطنهم وأرغموا على النزوح إلى مناطق أخرى، خصوصاً إدلب التي باتت اليوم مستودعاً للنازحين من مدنهم وقراهم، وأصبحت قاب قوسين أو أدنى من الانفجار المفضي إلى الدمار، لتتكرر مأساة حلب التي دمرت بالكامل، بإخراج جديد.

إن إفراغ سورية من شعبها وإخضاع مَن تبقى منه لعملية تشويه لهويته، إلى جانب إهدار كرامته، هما الخطر الحقيقي المحدق بهذا الشعب العربي الذي حمل لواء الحضارة العربية الإسلامية عقوداً متطاولة من الزمن، وكان أعلامُه الروادُ من أبرز البناة للنهضة العربية في القرنين التاسع عشر والعشرين. ويتحمل النظام الطائفي الاستبدادي، المسؤولية الرئيسَة في تدمير سورية وإفراغ شخصيتها من مضمونها الحضاري العربي الإسلامي، إلى جانب المسؤولية التي تتحملها روسيا الاتحادية وإيران، في هذه المأساة الإنسانية التي لا يعرف العالم اليوم شبيهاً لها. أما تركيا، فهي وإن كانت تعلن عن انحيازها إلى انتفاضة الشعب السوري، إلا أنها انخرطت في تفاهمات غير واضحة مع روسيا يخشى أن تكون في الاتجاه المعاكس لإرادة الشعب السوري، وإن كان يقدّر لها أنها تأوي فوق أراضيها نحواً من ثلاثة ملايين من اللاجئين السوريين.

فإذا كان الاحتلال اللغوي يوازي، من وجوه كثيرة، الاحتلال العسكري، فإنه بطبيعته يساهم في تعزيز هذا الاحتلال، وفي إطالة أمده، حتى يصبح أمراً واقعياً.

الأدهى من هذا كله، أن جامعة الدول العربية، ومنظمة التعاون الإسلامي، واليونيسكو، بل مجلس الأمن الدولي، في منأى مما يجري اليوم على الأراضي السورية من جرائم ضد الإنسانية.

اقرأ المزيد
٩ أكتوبر ٢٠١٧
نصر النظام واندحار «داعش»: العيش على شفير موتين

قالت لي سلاف وهي صديقة سورية نازحة من ريف دير الزور إلى مدينة عينتاب التركية، هرباً من «داعش»، أنها شعرت بمرارة مضاعفة حين استعاد النظام قريتها من «داعش»، ذاك أن «داعش»، بحسبها، عارض طارئ لن يقوى على البقاء، فيما عودة النظام إلى القرية ستكون امتداداً لخمسين عاماً حكم فيها سورية، ومنها مضارب عشيرة الصديقة السورية.

والحال أن شعور سلاف ظاهرة تستحق التوقف عندها، فهي هربت من «داعش» إلى تركيا، على رغم أنها منقبة، وإذ تشعر بأن عودة النظام إلى القرية سيُمثل استعصاء جديداً قد يمتد عقوداً، فإن «داعش» يحكم من غير منظومة السلطة المستدامة. وشعورها هذا ينطوي على حقيقة يهرب منها الجميع، وتتمثل في أن هذا «الشيطان الرجيم» المدعوّ «داعش»، تُخاطب سلطته البشعة شيئاً من بشاعتـ«نا»، فيما بشاعة سلطة النظام السوري بشاعة احتلالية لا عمق نفسياً واجتماعياً محلياً لها.

التعامل مع «داعش» بصفته شيطاناً غريباً سقط علينا من السماء، فيه هرب من حقيقة لا يجدي الهرب منها. «داعش» شيطان في حديقة شياطين أهلية. فهم هذه الحقيقة يساعد على تجاوزه. والقول أننا حررنا الناس من «داعش» حين حررنا المدن منه، ينطوي على حقيقة وعلى هرب من الحقيقة في آن واحد، ذاك أن التنظيم حين تلبس المدن واحتل القرى والبوادي مثل لحظة استجابة لنداء أهلي، ولا يُعرف عن الأهل في لحظات الاحتقان غير الغريزة يواجهون مصائبهم بها.

اليوم يجرى أيضاً صقل جديد للغرائز. اليوم يشعر «داعش» بأن هزائمه في المدن ليست سوى محطة لولادات جديدة له. هذا الهرب إلى الأمام، في ظل منتصر أهلي يُعلي انتصاره فوق رؤوس مهزومين أهليين، هو تماماً ما يجعلنا نشيح بأسماعنا عما قالته الصديقة السورية، الهاربة من «داعش» إلى تركيا، والتي تشعر بمرارة «تحرير النظام قريتها» من التنظيم المسخي.

الأمر شديد التعقيد ولا تستوعبه عقول انتصارية. «داعش» قتل ألفين من عشيرة العجيلات في ريف دير الزور. النصر عليه لم يمثل انتصاراً للعشيرة، إذ الأخيرة تنتظر أن تنتقم لنفسها على نحو مختلف. القتل الذي مارسه التنظيم هناك يتطلب محوه ضغينة مختلفة، والانتقام لا يتولاه الأغيار.

سلاف قالت أيضاً أن أقارب لها قتلوا أثناء معارك بين «داعش» والجيش الحر. بعضهم كان يقاتل مع التنظيم، وآخرون مع فصائل المعارضة. لم يُقتل أحد من أقاربها أثناء قتاله إلى جانب النظام، فالأخير صار في السنوات الأخيرة قوة من خارج بنية الجماعة الأهلية. «داعش» تنظيم بشع ونكل بالسكان، لكنه استدرج شباناً وشيوخ عشائر وأدمجهم في غريزته وفي خرافاته وعنفه. ابن شقيق صديقتنا كان عنصراً في التنظيم، وهنا ثمة قابلية لمغفرة، ذاك أنها تروي عن عنفه بموازاة «طيبته»، وعن خطورة أفكاره التي تنكسر في لحظة عائلية حميمة. وكم تبدو صورته مختلفة عن صورة عنصر «داعش» الذي في مخيلتنا، ليس لأنه غير قاتل وغير مستجيب لنداء الدم، إنما لأنه يُشعرنا بأننا عرضة أيضاً لاحتمالات إصابته، وللحظات كنا فيها قريبين من مشاعره ومن صوره وقناعاته.

«النصر» المتوهم على التنظيم يقتضي استحضار «داعش» بصفته الغريبة هذه. أهل الموصل فرحون بالقضاء عليه، وهم فعلاً فرحون، لكن الاستنتاج يجب ألّا يذهب إلى خرافة أن التنظيم سقط على السكان من خارجهم. التنظيم مثل استجابة عنيفة للحظة ولد فيها ما يُمكن أن يلاقي «داعش» في منتصف الطريق. الاعتقاد بأن هذه القناعة هجاء للسكان، فيه هرب غير مجد من الحقيقة. فلكل جماعة «داعشها»، وصور الحشد الشعبي لا تبعد مسافة طويلة من تلك التي جاد علينا بها التنظيم الإرهابي. لا أحد بريء. الضحية كانت جلاداً قبل أيام، والجلاد عرضة لمصير الضحية بعد أيام.

«النظام» حرر القرية في ريف دير الزور من «داعش»! لن يُمثل ذلك سوى دوران لدولاب الموت. وأن ننصت لأنين الحائرين في اختيار قاتليهم، فذلك يضعنا أمام سؤال نور. قاتل عمره خمسون عاماً من القتل، وآخر جديد عليه وما زال في صدد تحصيل خبرات واجتراح صور ومشاهد يُباهي بها نظيره، وهو نجح في مباهاته.

لـ «داعش» صوره الكثيرة بيننا، وها نحن نحاول الهرب منها، والقول أنه طائر غريب. العالم كله يريده غريباً. المنتصرون عليه يريدون أن يقولوا أنهم انتصروا على احتلال، لا على أهلٍ وجماعةٍ وعشائر. ومن هزمهم التنظيم يهربون من حقيقة أن من هزمهم هم أولادهم وجيرانهم وعشائرهم. الجميع يواصل الهرب إلى الأمام. الأم التي أرسلت ابنها إلى الرقة نسيت أنها هي من فعل ذلك، وقالت أن شيطاناً لبسه فغادر من تلقائه، والمسجد الذي كان يصلي فيه قال إمامه أن القذيفة التي أصابت مئذنته لم تكن بوصلة ولا وجهة. ونور التي اصطحبتها حماتها إلى المطار لتغادر إلى تركيا ومنها إلى سورية لكي تلتحق بزوجها هناك، عادت حماتها ونفت أنها هي من فعل ذلك، وأخبرت والد نور أن ابنته هربت من المنزل من دون معرفتها.

الجميع بريء، على رغم أن الهزيمة مرتسمة على وجوه كثيرة، فيما النصر تحول شعيرة مذهبية تستدرج وافدين جدداً إلى المذهب والحزب والحشد. والحال أن المرء إذا ما تخيل اليوم أن «داعش» نفذ عملية انتحارية في ثكنة لجيش النظام السوري أو في حاجز للحشد الشعبي، وسأل نفسه عما إذا كانت هذه الفعلة تخاطب مشاعر أحد، فسيجد ملايين المغتبطين، وعلى رغم ذلك سيبقى «داعش» غريباً وستبقى فعلته في منأى من المشاعر المعلنة. فالفاجعة تقيم تماماً في موازاة النصر، والمأساة لم تستثن مدينة في حزام المنكوبين، والأبرياء أكثر الناس انزلاقاً نحو الرغبة في الانتقام.

 ما أصعب أن تجد نفسك بين نصر النظام واندحار «داعش»! فأنت هنا تعيش على شفير موتين وفي صحرائهما. هذا تماماً ما حصل لصديقتنا المنقبة حين غادرت قريتها هرباً من منقبة أخرى جاءت من تونس إلى دير الزور. غادرت منقبتنا تاركة أقارب لها يقاتلون مع «داعش» وآخرين ضد «داعش»، تفصل بينهما بئر نفط شحيح، ونظام كيماوي وتنظيم مسخي.

اقرأ المزيد
٩ أكتوبر ٢٠١٧
إيران وتركيا.. الاضطراب وبعده

جاهَرَ الإيرانيون منذ مدة بأنهم لا يريدون أن يكون عنوان المنطقة: المشرق العربي. وفي مناطق نفوذهم بالعراق وسوريا ولبنان، لا يتحدث أحد عن العرب إلا على سبيل التعيير والذمّ، لأنّ القومية شرٌّ أساساً، ولأن العرب استسلموا لأميركا وإسرائيل! لكنهم أيضاً لا يُحبّذون تعبير «الشرق الأوسط» الذي يستخدمه الغربيون، لأنه مشروع أميركي للمنطقة لا يجوز قبوله وأساسه تبرير إقامة الدولة الصهيونية على أرض فلسطين. لكن ما هي التسمية أو العنوان الذي يختارونه؟ هم لا يتحدثون عن ذلك عَلَناً، لكنهم لا يحبون أيضاً العنوان الإسلامي، مع أنهم «ثورة إسلامية»، وذلك لأن معظم سكّان المنطقة من العرب السّنّة، وإيران اليوم في نظامها دولة طائفية ومذهبية حتى في دستورها. وكلامهم الرسمي عن «المحور» الممتد من طهران إلى بيروت عبر العراق وسوريا. واعتماده في امتداده على الميليشيات الشيعية التي شكلتها وسلحتها طهران، وقد استجلبت بعضها من أفغانستان وباكستان والعراق خلال النزاع السوري. وهناك أحد تكتيكين في نشر الدعوة والسيطرة في المحور وعلى أطرافه: إما الاستيلاء بالقوة المسلّحة على السلطة مثلما يحدث في لبنان، أو التغلغل في أوصال البلاد كما يحدث في العراق وسوريا، وبخاصة في مناطق الكثافة السنية (الأنبار وديالى ونينوى بالعراق ودمشق وضواحيها وإلى القلمون وحمص والشمال والشرق، كما في سوريا). وخلال ذلك، ولأن يد إيران طليقة في البلدان الثلاثة، لا مانع من تعديل ديموغرافي بالوسيلتين معاً: التهجير والإحلال والاستيلاء على طريقة إسرائيل في فلسطين المحتلة، وفرض التشيع على السكان الفقراء الباقين في منازلهم وبلداتهم أو العائدين إليها.

سياسات إيران هذه تجاه البلاد العربية (حتى في البحرين والكويت واليمن)، سابقة على الاضطراب العربي خلال السنوات الست الماضية. لكنها تزايدت خلال الاضطراب، وذلك إمّا لإفشال التغيير الذي اعتبرته ضدّها كما في العراق وسوريا واليمن، وإمّا لفرض نظام سياسي آخر يكون عميلاً لها وداخلاً في المحور كما في حالتي اليمن وغزة. لكنها وهي تلعب وتقسّم وتشرذِم وتُمذْهِب، تتذاكى بوساطة «حزب الله» وسليماني إلى حدود المآل إلى عكس أهدافها الأصلية. وهذا ما حصل في كردستان العراق. فقد استقطبت حزب جلال الطالباني في السليمانية (الأقرب لحدودها)، وشجعّت الانقسام بينه وبين حزب مسعود البارزاني. وعندما هجم تنظيم «داعش» على منطقة البارزاني عام 2014، تغلبت عليه في الشهور الأولى اعتبارات التصارُع مع تركيا، لأنّها اعتبرت أنّ الأخيرة وراء «داعش». وامتد هذا التصارُع إلى سوريا، فوقفت مع الأكراد هناك، وسهّلت دخول مليشيا «حزب العمال» الذي يقاتل منذ ثلاثة عقود ضد تركيا بالداخل وفي الجوار العراقي والإيراني. لذا أيضاً سمحت لحزب العمال بإقامة قواعد في منطقة سنجار العراقية لوقوعها في موقع متوسط بين الحدود التركية والسورية.

كل ذلك جرى عليه اضطرابٌ كبير، عندما تقدم لديها كما لدى تركيا الخطر الكردي، وفي العراق كما في سوريا. حاولت تركيا منذ عام 2004 مدّ نفوذها إلى سوريا عبر النظام السوري. إنما مع بداية الاضطراب العربي، صار لديها تكتيكان بديلان: ركوب حركة «الإخوان المسلمين» الإرهابية في الدواخل العربية، ومنها سوريا ومصر والعراق وتونس وغزة، ومنع بروز الأكراد على حدودها ككيانات مستقلة في سوريا وفي العراق. وعلى هذا فقد أقامت علاقات متميزة مع البارزاني من جهة، وما انزعجت كثيراً لظهور «داعش»، لأنه هجم على المناطق الكردية في سوريا والعراق. واستمر الصراع أو التنافُس مع إيران لثلاث سنوات على خطوط التماس بين سوريا والعراق وتركيا والدائرة الكردية المبرقشة على خط تلعفر كركوك سنجار سوريا تركيا. وعلى هذه الدائرة وخطوطها وجد السنة العرب بعض الراحة لوقوعهم لسنوات في خضم الحرب الإيرانية العراقية الأسدية عليهم.

وما انجلى غبار المعارك بعد. لكنْ ظهر عاملان جديدان في منطقة الجزيرة الفراتية ومن حولها في العامين الآخرين: الولايات المتحدة وروسيا. فقد تدخلت الولايات المتحدة لصالح الأكراد وضد «داعش» في العراق وسوريا، وهمّشت مؤقتاً إيران وتركيا. وتدخلت روسيا لنُصرة النظام السوري، وتركت مكافحة الإرهاب للآخِر. وجعل ذلك كلاً من إيران وتركيا تقتربان من روسيا، حتى برز تحالُفٌ واضحٌ مع بداية عام 2017 ترعاه موسكو، وتريد تحويله لغير صالح الولايات المتحدة. لذلك حدث الالتقاء بين إيران وتركيا في نقطتين: ضد قيام كيانات كردية على حدودهما، واستخدام المظلة الروسية لمواجهة الخطط الأميركية في المنطقة.

ما انجلى المشهد عن أفق واضح، وهو يمر بمخاضٍ كبير بعد قُرب الإعلان عن سياسات أميركية جديدة ضد إيران.

اقرأ المزيد
٩ أكتوبر ٢٠١٧
الثورة السورية ومسار اللامفاوضات في جنيف

صدر في سبتمبر/ أيلول من عام 2013 القرار 2118 عن مجلس الأمن، وتناول استعمال الأسلحة الكيميائية في سورية، بعد مجزرة الغوطة الشرقية، وضم بيان جنيف1 (صدر في 5 يوليو/ تموز 2012)، والذي وضع أسس الحل والانتقال السياسي في سورية، بدءا بتشكيل هيئة حكم انتقالية كاملة الصلاحيات، ما يعني أن رحيل بشار الأسد هو الخطوة المؤسسة لانطلاق المرحلة الانتقالية. ووفق هذا الفهم لبيان جنيف، كان المسار التفاوضي سيفضي إلى وقف إبادة السوريين، وتحقيق طموحهم في تغيير نظام الحكم، لو أنه اقترن بإرادة دولية جادة وحاسمة في ضرورة وقف الجريمة التاريخية المعلنة بحق السوريين والقيم الإنسانية من الأسد وحلفائه، لكن ذلك لم يحصل.

ومع انطلاق الجولة الأولى من مفاوضات جنيف في يناير/ كانون الثاني لعام 2014، شهدت المعارضة السورية تبايناً في الرأي بشأن المشاركة في مفاوضات جنيف من عدمها، حيث امتنعت عدة فصائل من الجيش الحر والجبهة الإسلامية عن المشاركة، باعتبار أن المؤتمر يؤسس لخفض سقف تطلعات الثوار، بينما شارك الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة السورية، مدعوماً من بعض فصائل الجيش الحر في مقدمتها جبهة ثوار سورية.


بيان فيينا
حال الفيتو الروسي، وأولوية الاتفاق النووي الإيراني لدى الرئيس الأميركي، باراك أوباما، دون تحقيق مفاوضات جدية، فسرعان ما بدأت عملية تمييع موقف المعارضة، وتكسير حدة بيان جنيف، وهو ما تحقق لها لاحقاً بعد التدخل الروسي في سورية (30 /9 /2015)، من خلال مؤتمر فيينا (نوفمبر/ تشرين الثاني 2015) الذي أسس للقبول بدور إيراني في الحل.

وكانت هذه من نتائج الرغبة الأميركية في التراجع عن دور فعال في الملف السوري، وهو الذي أضعف مجموعة أصدقاء سورية، وساهم في فقدان المعارضة السورية قرارها لصالح القوى الإقليمية والدولية، ما أوجد فراغاً شجع موسكو للعمل على استثماره والانقلاب على بيان جنيف، لتعيد تأويله من خلال التوافقات مع الدول المؤثرة على المعارضة، ليصدر استنادا إلى ذلك البيان الختامي لاجتماع فيينا، والذي ارتكز على بيان جنيف. وفي حقيقة الأمر، تضمن بيان فيينا تجاوزا لفكرة جوهرية متعلقة بشكل الحكم الانتقالي، كان بيان جنيف قد نص عليها، وهي ضرورة تشكيل هيئة حكم انتقالية ذات صلاحيات تنفيذية كاملة. بينما دعا بيان فيينا إلى تشكيل حكومة ذات مصداقية وشاملة وغير طائفية، الأمر الذي أسّس لتمييع مفصلية رحيل الأسد في بداية المرحلة الانتقالية، لكون كل الصلاحيات التنفيذية ستكون محصورة بهيئة الحكم الانتقالي بحسب جنيف، وهو ما نقضه بيان فيينا.


القرار 2254 وضمّ المنصات
بعد مؤتمر الرياض الذي تشكلت بموجبه الهيئة العليا للمفاوضات (ديسمبر/ كانون الأول)، والذي نالت الفصائل الثورية تمثيلاً داخلها، إضافة إلى الائتلاف الوطني وهيئة التنسيق وشخصيات مستقلة، اعتقدت المعارضة أنها قد سدّت الثغرة التي لطالما أشارت إليها روسيا وإيران، وأحيانا دول من أصدقاء الشعب السوري، وهي قضية التمثيل الحقيقي. لكن سرعان ما عقدت مجموعات من الأشخاص وأحزاب "السوشيال ميديا" لقاءات في القاهرة وموسكو وأستانة، لتؤسس منصات معارضة، سيشير قرار مجلس الأمن 2254 إليها إلى جانب الهيئة العليا للمفاوضات.

بعد تفاهمات وزيري الخارجية، الأميركي جون كيري والروسي سيرغي لافروف، وليس بعيداً عن تفاهمات كيري ونظيره الإيراني محمد جواد ظريف، وبداية التدخل الروسي الذي ركز على قصف مقرات الجيش الحر ومعسكراته، فضلاً عن المدنيين، وعلى الرغم من تشكيل الهيئة العليا للمفاوضات قبل أيام، تحقق التراجع المفصلي المطلوب ليصدر قرار مجلس الأمن 2245 (18 /12 /2015) الذي أسس لوجود ما تسمى منصات معارضة تحت مسمى منصتا القاهرة وموسكو، وأسس لمرجعية جديدة، بدأت تطغى على قرار مجلس الأمن 2118 وبيان جنيف.

وبعد شهرين فقط من صدور قرار مجلس الأمن 2254، وفي مؤتمر ميونيخ للأمن، بدأت الدندنة الأميركية على وقع بيان فيينا وهذا القرار بشأن إمكانية بقاء الأسد في المرحلة الانتقالية، وهو ما دفع رئيس الهيئة العليا للمفاوضات، رياض حجاب، إلى إبلاغ الوزير كيري استعداده لقطع أصابعه، بدلا من توقيع اتفاق يسمح ببقاء الأسد في المرحلة الانتقالية.

"لا تكترثوا، الهيئة هي الأساس، والكلام عن منصات القاهرة وموسكو مجرد إشارة لن تعطيهم أي وزن.."، رسالة رددها سابقاً معظم المبعوثين من دول أصدقاء سورية، في محاولة إلى دفع المعارضة إلى أن تتجاوز هذه السقطة المتعمدة في القرار الأممي الذي أسس، بكل وضوح، لتفتيت المعارضة بما يتماشى مع رغبات روسيا. والسؤال الأهم الذي يطرح نفسه: ما هي عواقب عدم قبول ضم منصات القاهرة وموسكو إلى وفد المعارضة السورية، في غياب الحاضنة الشعبية لهذه المنصات؟ بل ينظر الشعب الثائر في عمومه إلى هذه المنصات على أنها من أشكال الاختراق الذي تحاول روسيا وحلفاؤها فرضه على المعارضة لإضعافها من الداخل، وما الذي تخشاه الهيئة العليا للمفاوضات، فيما لو أعلنت رفضها هذه المنصات، ورفضها تقديم أي تنازل في هذا الصدد، خصوصاً وأنه في اجتماع الرياض الذي كان مراداً منه أن يشكل وفداً موحداً للمعارضة، يضم منصتي القاهرة وموسكو، والذي تزامن مع الذكرى الرابعة لمجزرة الكيميائي البشعة في الغوطة الشرقية، جددت منصة موسكو "المعارضة" تمسكها ببقاء بشار الأسد على سدة الحكم في سورية!


جنيف 4
بعد إعادة هيكلة وفد الهيئة العليا للمفاوضات في الرياض، ليضم مزيداً من ممثلي الفصائل الثورية، وتحديداً المشاركة في مفاوضات أستانة، قرّرت الهيئة العليا المشاركة في الجولة الرابعة من مفاوضات جنيف. ولاحقاً، وبعد دموع من مبعوثة دولة صديقة، ورجاء وضغط من مبعوثي دولة أخرى (يفترض أنها صديقة)، وبطريقة غير مفهومة، تضاربت حولها الروايات، أبلغ رئيس بعثة الهيئة العليا حينها إلى جنيف يحيى قضماني الوفد المفاوض، برئاسة نصر الحريري، بموافقة الهيئة على مشاركة الوفد في افتتاح الجولة الرابعة من مفاوضات جنيف، إلى جانب المنصات الأخرى، الأمر الذي شكل إقراراً وقبولاً بوجود تلك المنصات.

وكان مبعوث الأمم المتحدة إلى سورية، ستيفان دي ميستورا، والذي كان يعمل بشكل دؤوب ليوحي للمجتمع الدولي أن مفاوضات جنيف مستمرة، يواجه تحديا كبيرا، بفعل رفض النظام الانخراط في مفاوضات جدية وفق قرار مجلس الأمن 2254، وبحث الانتقال السياسي، وبالتالي فإن خيارات دي ميستورا كانت محدودة، بسبب تعنت النظام تجاه سلة الحكم والانتقال السياسي، ما دفعه إلى تجاوز توازي بحث السلال، وبدء الهروب إلى الأمام، بالتركيز على سلال الانتخابات والدستور. ولم تمر هذه المحاولة على وفد الهيئة العليا الذي وافق على بحث القضايا الدستورية المتعلقة بالانتقال السياسي، ليجد دي ميستورا نفسه أمام خيار وحيد: تحويل المفاوضات من مفاوضات بين النظام والمعارضة إلى مفاوضات بين المعارضة والمعارضة.


السلال الأربع ومسألة الدستور
بات واضحا، في الجولتين الأخيرتين من مفاوضات جنيف، أن ما يجري في قاعات الأمم المتحدة يشكل الانعكاس التام لتعاطي المجتمع الدولي مع القضية السورية، نفوذ روسي يدير تقريبا مسار جنيف كما مسار أستانة، وإن كان ظاهر الحال في جنيف يوحي بوجود رعاية دولية، إلا أن الوقائع تثبت أن هذه الرعاية غائبة بشكل شبه كلي، فالتركيز على "سلة الدستور" في موازاة بحث ملف المعتقلين والمختطفين وتقليص أيام الجولات واستبعاد المضي في "سلة الحكم" التي تستند إلى الانتقال السياسي، وتناول إعادة هيكلة الجيش والمخابرات ... إلخ، يشير بوضوح الى تماهٍ كامل بين مساري جنيف وأستانة الذي تساهم روسيا في صياغة معظم تفاصيله.

طرح المبعوث الأممي، دي ميستورا، مقترحه حول "آلية التشاور" الخاصة بالدستور، ليتبين لاحقا أن هذا المقترح يجسد توجهاً شخصياً من دي ميستورا نفسه، مستنداً في ذلك إلى الرؤية الروسية التي عبر عنها رئيس وفد روسيا، الأميرال إيغور، في أول لقاءاته مع وفد الفصائل الثورية في أنقرة قبل اتفاق حلب، حيث أبدى عدم تمسك بلاده ببشار الأسد، لكنها تعارض رؤية المعارضة السورية في تغييره، وهي ترى (روسيا) أن التغيير الذي يمكن لها أن تقبله وتدعمه أيضاً هو الدعوة إلى مؤتمر وطني عام، يفرز لجنة دستورية، تضع مسودة لدستور تجري، بالاستناد له، انتخابات تحت إشراف دولي، ثم قال "العرب السنة هم الأغلبية، وبالتالي لن ينجح بشار، وعندها لن نقف في وجه إزاحته". وأكدت هذا الطرح محاولة رئيس الوفد الروسي إلى أستانة 1، ليفرنتيف، تقديم مسودة للدستور إلى وفد القوى العسكرية الثورية، وهو المقترح الذي واجه رفضاً تركياً.

السعي الروسي في مسألة الدستور مستمد من استراتيجية الالتفاف على مسألة رحيل الأسد في بداية المرحلة الانتقالية، بجعل الدستور الجديد ناظما لانطلاق المرحلة الانتقالية وآليات الحكم، وبالتالي جعل الحكم، من حيث التوزيع والشكل، محكوما بالمرجعية الدستورية، وليس بصيغة اتفاق الانتقال السياسي الذي يراد من مفاوضات جنيف الوصول إليه.

من جهة أخرى، سيتحقق الانخراط في مسألة الدستور قبل الانتهاء من البت بقضية الانتقال السياسي (سلة الحكم) تفتيتاً كلياً، ليس فقط للمعارضة السورية المتهمة بنقص التمثيل، بل سيمتد هذا الصراع إلى أبعد من ذلك، إلى المجتمع السوري، وبالتالي تحويل وجهة الصراع بين معارضة وثورة مع نظام مستبد ومحتلين للأرض السورية إلى صراع بين العرب والأكراد والمسيحيين والمسلمين، وصراع أكبر بين الطوائف. وفي ظل هذه الفوضى المعقدة التي قد تمهد لحرب أهلية واسعة، سيكون وارداً جداً ارتفاع أسهم الأسد حلا لضبط هذه الصراعات.

ويبدو أن سحب دي ميستورا "آلية التشاور" الخاصة بالدستور لم يكن بسبب اعتراضات المعارضة وحسب، وإنما أيضا بسبب اعتراضات دولية، خصوصاً من واشنطن التي تتابع المفاوضات بطريقة غير مباشرة. ذلك أن التركيز على الدستور، والحديث عن مؤتمر للحوار الوطني، يمثلان إرادة روسية خالصة في الانقلاب على التراتبية المذكورة في الفقرة الرابعة من قرار مجلس الأمن 2254.

يترتب على وفد الهيئة العليا للمفاوضات التمسك الكامل بمناقشة السلال بالتوازي، انطلاقا من سلة الحكم بشكل رئيسي، ورفض المضي في بحث تفاصيل سلة واحدة بمعزل عن الأخرى، استناداً إلى التراتبية التي حددتها الفقرة الرابعة من القرار 2254، وهو ما يفرض البدء في تطبيق السلة الأولى (الحكم) على أرض الواقع، وهو ما أكده دي ميستورا لوفد المعارضة في "جنيف 5".

ولم تكن مصادفةً وضع أولوية الحكم في الجدول الزمني، إذ لا يُعقل وضع الدستور أو قانون الانتخابات قبيل البدء في تنفيذ المرحلة الانتقالية.


كيف... أيها العالم الأحمق؟
لا يزال التعنت سمة تعاطي نظام الأسد مع مسار جنيف، انطلاقا من رفضه القاطع المضي في أي حل يجرده من السلطة أو حتى يقلص سلطاته، مستنداً في ذلك إلى نفوذ روسي إيراني في مواجهة مواقف متراجعة لحلفاء الثورة السورية، وهو ما يجعل الوصول إلى حل سياسي حقيقي أمراً مستبعداً في المدى المنظور. وليس على المعارضة، في ظل هذا الاستعصاء، أن تستجيب لدعوات إبداء المرونة والواقعية السياسية، وتقديم تنازلات تسهم في دفع العملية السياسية في جنيف، بل عليها أن تجدّد التزامها الكامل بتطلعات الشعب السوري، ودعواته التي كان أكثرها وضوحاً دعوة المتظاهرين في معرّة النعمان قبل أيام، حين رفع المتظاهرون لافتة تسأل: كيف يبقى رئيساً من قتل مليوناً من الشعب.. أيها العالم الأحمق؟
فعلاً.. كيف أيها العالم الأحمق؟

اقرأ المزيد
٩ أكتوبر ٢٠١٧
متلازمة "درع الفرات" و "المفسدون في الأرض"

تواجه فصائل الجيش السوري الحر المنضوية ضمن غرفة عمليات "درع الفرات" بريف حلب الشمالي، حملات إعلامية متلاحقة لتشويه صورة هذه الفصائل وتعميم صورة "الفساد والعمالة والارتزاق" المطلق، والتي باتت تطغى على نظرة المدنيين وتؤثر بشكل كبير في النظر لهذه الفصائل التي تسيطر على مساحة كبيرة بريف حلب الشمالي.

هذه الحملات التي تديرها ماكينات إعلامية كبيرة تتشارك فيها عدة جهات منها داخلية في الطرف المقابل لهذه القوات المتمثلة بمناصري الفصائل الإسلامية التي حاربت هذه الفصائل وطردتها من ريف إدلب وفق عمليات استئصال متلاحقة، بتهم الفساد والعمالة حتى تفردت في الساحة وباتت هي القوة المتحكمة، حتى أنها لم تكتف بقتال فصائل الجيش الحر بهذه التهمة بل تعداها لتطال فصائل قريبة منها كأحرار الشام والتي نالت نفس الحملات من التشويه وملاحقة العثرات وتضخيمها.

فصائل "درع الفرات" تتكون من أكثر من 30 فصيلاً من الجيش السوري الحر، بينها فيلق الشام وجيش الإسلام وأحرار الشام والجبهة الشامية وجيش المجاهدين وفرق عدة، إضافة لمكونات الفصائل التي انهت وجودها تحرير الشام في إدلب منها حركة حزم وجبهة ثوار سوريا، والتي شكلت عناصرها وبعض قياداتها مكونات عسكرية جديدة بأسماء متنوعة، وانضوت ضمن غرفة العمليات، بعد أن تم ملاحقتها في إدلب بتهم الانتماء للفصيل الفلاني، فكان خيارها إما سجون العقاب أو الخروج من إدلب والانضواء مع فصائل الجيش الحر في شمال حلب، إضافة لأبناء الريف الحلبي الشمالي الذين انضوا في صفوف هذه الفصائل وهم من خيرة الثوار.

شكلت غرفة عمليات درع الفرات بقيادة القوات التركية في 24 آب 2016 حيث أعلنت حينها تركيا دعم فصائل الجيش السوري الحر في ريف حلب الشمالي والفصائل التي شكلت من عناصر الفصائل التي خرجت من إدلب، ودربت في معسكرات ضمن الحدود التركية، اطلاق معركة لتحرير الريف الشمالي لحلب بعد أن غدت المنطقة محط أنظار قوات قسد وتنظيم الدولة اللذان تشاركا بدعم روسي في السيطرة على غالبية مناطق الريف الشمالي، بالتوازي مع تضييق نظام الأسد الخناق على مدينة حلب.

عملية "درع الفرات" التي بدأت بتحرير مدينة جرابلس ثم توسعت بشكل كبير باتجاه دابق وصولاً حتى مدينة الباب ومناطق شاسعة تقدر مساحتها بـ 5000 كيلومتر مربع، باتت منطقة آمنة بتفاهمات دولية تقودها تركيا التي قدمت الدعم الكامل لفصائل الجيش السوري الحر وساندته جواً وأرضاَ في عملية تحرير المنطقة من قبضة تنظيم الدولة، وقطعت الطريق على توسع قوات قسد في النيل من ريف حلب الشمالي والتي حاولت جاهدة السيطرة على إعزاز قبل انطلاق الحملة.

لا يمكن إنكار التجاوزات الكبيرة التي طالت فصائل "درع الفرات" وانضمام شخصيات فاسدة ضمن صفوفها شوهت مسيرة هذه الفصائل التي قدمت مئات الشهداء في معارك التحرير في إدلب وحماة وحلب والرقة وآخرها في ريف حلب الشمالي ضد تنظيم الدولة، كما أنه لا يمكن إنكار وجود فصائل باتت مستعدة للتعاون مع أي طرف بدافع الانتقام من تحرير الشام التي طردتها من أرضها التي حررتها وكان لها بصمة كبيرة في إخراج قوات الأسد وحلفائها منها ودفعت دماء كبيرة لذلك، إلا أن هذا الفساد المستشري والارتباط الخارجي موجود لدى جميع الفصائل على تنوعه ولعل التطورات الأخيرة أثبتت ذلك لدى الجميع أنه مرهون بطرف خارجي يدعمه ويتحكم في قراره وكل الشعارات عن الاستقلالية والقرار الداخلي والحر ما هي إلا شعارات براقة قدمت للشعب المعذب للحصول على دعمه.

لعل البعض يقول أن فصائل "درع الفرات" لا تملك أي قرار ولا تستطيع فتح أي جبهة لاستعادة القرى التي سيطرت عليها قسد في ريف حلب الشمالي، وأن القرار في كل أمر لتركيا، كذلك هو الحال اليوم في إدلب فمنذ سقوط حلب لم تبادر الفصائل كافة في إدلب لفتح جبهات حقيقية في حلب او حماة أو الساحل ومن يمنعها من ضرب عقر الأسد في الساحل إلا بضع معارك في مناطق ليست ذات تأثير تكشفت دوافعها في إسقاط البعض والارتباط بأجندات كبيرة لايمكن أن ننكرها، وبالتالي بات الحال واحداً مع اختلاف التبعية والتوجه والأجندات.

تعميم الفساد على فصائل الجيش السوري الحر، حتى بات اسم "درع الفرات" مرتبط كمتلازمة مع "المفسدون في الأرض" والتي دأبت الماكينات الإعلامية على الترويج لها وإقناع الحاضنة الشعبية بفسادهم، مستغلة سلسلة التجاوزات التي تقوم بها عناصر هذه الفصائل وتضخيمها ونشرها بشكل واسع عبر مواقع التواصل الاجتماعي واستغلال أي حادثة للطعن والإساءة لهذه المكونات، في الوقت الذي تغفل فيه متابعة التجاوزات التي لاتقل بل تزيد من طرف عناصرها بحق المدنيين والحاضنة الشعبية.

استغلت في ذلك الشعارات البراقة والتستر بعباءة الدين في محاربة الخصوم، وتبييض صورة فصيل معين على حساب الجميع ليغدو هو "الخير المطلق والحامي والناصر والمحرر والحق الكامل" في الوقت الذي تعمم صورة "الفساد والعمالة والارتزاق" على غيرها من المكونات العسكرية، بهدف تشويه صورتها ودفع الحاضنة الشعبية للتخلي عنها ثم إنهاؤها والسيطرة على مقراتها وسلاحها والظهور أمام الشعب بأنها تحميهم وتدافع عنهم وتبعد الفساد الأكبر.

فكما للجيش الحر أخطاء وعثرات وفساد في بعض قادتها وعناصرها كذلك هو الأمر لدى الفصائل الإسلامية وفي مقدمتها تحرير الشام من فساد وتجاوزات في الكثير من قادتها وعناصرها بحق المدنيين والحاضنة الشعبية، أما التبعية فقد كشف الغطاء عن كل هذه الشعارات الزائفة التي تستر البعض خلفها، فيما تبقى المعضلة الأكبر هي تعميم الفساد ما يضيع صورة الصادقين في كل الفصائل ويغلب الصورة السيئة على الصورة المشرقة الساطعة التي لا تخدم إلا أعدائنا.

اقرأ المزيد
٨ أكتوبر ٢٠١٧
العراق.. احتياط إيراني على ذمة الاتفاق النووي

من بين الدول المعنية بنتائج الاستفتاء في إقليم كردستان على الانفصال أو الاستقلال تبدو إيران رغم تصريحاتها ومواقفها أكثر هدوءا في ردات فعلها من تركيا والعراق. الرئيس التركي رجب طيب أردوغان زار طهران على رأس وفد رفيع المستوى والتقى الرئيس الإيراني حسن روحاني، ثم المرشد علي خامنئي الذي وصف الأكراد في الإقليم بالخونة الذين يعرّضون استقرار المنطقة إلى الخطر دون أن يخصص القيادة الكردية بمفردة الخيانة، إنما أطلق تعميمه في رسالة لا تخلو من التحذير والتهديد إلى كل كردي ومنهم الأكراد في إيران.

تم تداول قضايا الاقتصاد وحجم التبادل التجاري والتطمينات المسبقة بتعويض الخسائر التركية من احتمال غلق المعابر أو قطع صادرات النفط من كردستان إلى ميناء جيهان، بزيادة حركة البضائع وتعدد مراكز تدفق المصالح بين إيران وتركيا. دول أخرى بعيدة وقريبة أبدت قلقها من نتائج الاستفتاء على صادرات النفط العالمية، والرئيس الروسي فلاديمير بوتين كان في مقدمتها.

تركيا وإيران تتقاسمان المخاوف من الاستفتاء لأنه فتيل يذكي شعلة الثورة والحرية في الأمة الكردية داخل حدودهما الجغرافية. الحديث عن مخاطر المتغيرات داخل الإقليم مفتعلة بل العكس صحيح تماما، لأن الدولة الكردية ستكون أكثر رغبة وحرصا على التعاون وبكافة المجالات السياسية والتنموية وذلك يعود بالفائدة الكبيرة على الواقع التركي والإيراني.

كما أن الانفصال سيضعف الدولة العراقية ويلغي تماماً أي قلق محتمل في الذاكرة الإيرانية من الماضي القريب للعراق العربي القوي بتجربة حرب الثماني سنوات في ثمانينات القرن الماضي. تركيا يساورها القلق على التركمان في العراق وبما يتعلق بمدينة كركوك ولا تخفي ذلك بتصريحات مسؤوليها النارية على توقعات الصراع للسيطرة على المدينة.

الاستفتاء فتح الباب لتفاهمات أكثر علنية بين تركيا وإيران بعد مستجدات الداخل التركي والواقع الروسي على الأرض السورية، وموقف الولايات المتحدة الأميركية الداعم لقوات سوريا الديمقراطية الكردية بما أدى إلى تراجع الود القديم مع أميركا أو مع الاتحاد الأوروبي.

مباحثات أستانة لم تنحصر في مردوداتها على الحصاد الروسي في سوريا بل تعدتها إلى تقريب المسافة بين تركيا وإيران والعبور فوق توجهات حلف الناتو، متجاوزة تواجد أكبر قاعدة عسكرية على الأراضي التركية.

لماذا كانت إيران على غير عادتها وبما لا يتناسب مع نهجها التصعيدي للأزمات حتى أن تركيا تفوقت عليها بردات فعلها ضد الاستفتاء. زيارة أردوغان إلى إيران كأنها حث وتشجيع تركي لمواقف إيرانية أكثر تشدداً وفعالية. أهم ما كسبه أردوغان سياسيا من زيارته هو ما جاء على لسان المرشد خامنئي بتخوين الأكراد. خامنئي أوصل إلى أردوغان ما يحب أن يستمع إليه ليطمئنه في قضية حساسة جداً لتركيا، وهي عدم قيام دولة كردية مجاورة في العراق أو في سوريا.

إيران بمناوراتها العسكرية على الحدود مع إقليم كردستان وجهت رسائل لتركيا وللداخل الإيراني، لأن وجودها الحقيقي يعتمد على ما تنفذه أدواتها من ميليشيات الحشد الشعبي التابع للحرس الثوري الإيراني وأوامر قاسم سليماني قائد فيلق القدس الذي كان نشطا ودؤوبا في التواصل مع إقليم كردستان لثني الإقليم عن الاستفتاء، أو ربما لتحفيز الأكراد على الاستفتاء بتهديدهم وإيصالهم إلى نقطة اللاعودة عن قرارهم وتلك رغبة إيرانية ننتظر أن تفصح عنها الأيام.

25 سبتمبر لن يبتعد سوى 20 يوماً عن موعد مراجعة ملف الاتفاق النووي مع إيران في الكونغرس الأميركي وهي مراجعة دورية كل 3 أشهر، لكنها تختلف تماما هذه المرة بعد خطاب الرئيس الأميركي دونالد ترامب في الجمعية العامة للأمم المتحدة وانتقاده الشديد للاتفاق والسلوك الشائن لإيران وتمددها في أكثر من دولة ودعمها للإرهاب في العالم واصفاً نظامها بالدكتاتوري الفاسد.

الرئيس ترامب رغم أنه اتخذ قراره بما يخص الاتفاق النووي إلا أنه لم يصرح به ونعتقد أنه ترك الأمر لمنتصف شهر أكتوبر الجاري، ولجلسة الكونغرس ليحظى بالدعم في حالة تأكيد الرئيس عدم التزام إيران ببنود الاتفاق. هذا التأخير في الإعلان عن قراره فيه نسبة كبيرة من الإيضاحات عن موقف الرئيس في نيته إعادة العقوبات كلياً أو جزئيا، والتي رفعت بعد توقيع الاتفاق، أو ربما يتجه إلى إلغاء الاتفاق تماماً، وهو الاتفاق الأسوأ على حد قول ترامب.

قد يفسر لنا انتظار جلسة الكونغرس لماذا تأخرت إيران في إعلان مواقفها الصارمة من استفتاء كردستان، ولماذا مهدت الطريق أمام ميليشياتها في العراق للبوح بمكنوناتها واستعدادها للمواجهة العسكرية مع الإقليم. خلال الأيام القادمة سنتابع إيران بوجه آخر وردات فعل مختلفة ربما غير محسوبة بما فيها موقفها من استفتاء إقليم كردستان.

لقاء حيدر العبادي رئيس وزراء العراق والقائد العام للقوات المسلحة بزعيم ميليشيا بعد يوم واحد من الاستفتاء كان بمثابة إنذار خطير بعواقب وخيمة لا يمكن أن يقدم عليها رئيس وزراء لدولة في حالة حرب مع الإرهاب ولديه وزير دفاع ورئيس أركان وقادة نظاميون في الجيش بإمكانه استشارتهم أو لقاؤهم لغايات ومهمات وواجبات الدولة.

لكن أن يلتقي زعيم ميليشيا في ظرف حرج يؤكد لنا لماذا إيران ليست على صفيح ساخن. إيران تعبّر من خلال العراق عن سياستها ضد نتائج الاستفتاء وعيناها على الملف النووي ونتائج مراجعته في الكونغرس.

نحن في حرب مؤجلة مع الإقليم تعتمد خيانة إيرانية جديدة تضحي بدم العراقيين وباستقرار المنطقة، وفداحتها تتوقف على الموقف الأميركي الذي سيفصّل لنا الإستراتيجية الأميركية تجاه الإرهاب الإيراني.

الإصرار على الاستفتاء من قبل إقليم كردستان وطبخه على نار من الأعصاب الهادئة وبحضور شخصيات بعينها في الإقليم يوضح لنا البعد الدولي الراصد لتطورات الأحداث القادمة في المنطقة.

نهاية إرهاب تنظيم الدولة الإسلامية في سوريا والعراق، وجرأة الإقليم في إجراء الاستفتاء أو مداخلات الأرض في كركوك ومقتربات معركة الحويجة وجبال حمرين تبين لنا مقدمات الفوضى الخلاقة على المقاسات الدولية بعد نهاية مرحلة صادمة في المنطقة استهلكت تماماً أسبابها، وصار لزاماً عليها تنظيم وترتيب مستجداتها.

مساعٍ إيرانية تستهدف الإبقاء على الاتفاق النووي مع الدول الأوروبية الموقعة عليه وهي بريطانيا وفرنسا وألمانيا إضافة إلى الموقفين الروسي والصيني المعلومَيْن من الجانب الإيراني.

مع ذلك فإن أوروبا رغم ميلها إلى استثمار الاتفاق في المنافع الاقتصادية مع إيران، إلا أنها لا تتجاهل كلياً تجاوزات إيران على نص وروح الاتفاق في دعمها للإرهاب أو تجارب إطلاق صواريخها الباليستية، ولذلك فإن الدول الأوروبية الثلاث مع تطبيق الاتفاق والتوجيه بإضافة بعض البنود التي تحجم الطموحات الإيرانية.

ما صدر عن وزير الدفاع الأميركي جيمس ماتيس قبل إشهار قرار الرئيس ترامب بشأن الاتفاق النووي؛ بالمحافظة على الاتفاق في حالة عدم تعارضه مع مصالح الولايات المتحدة، يأتي في سياق تصاعد التهديدات النووية الخطيرة مع كوريا الشمالية وما ينتج عنها من استباق لحل أزمة التسلح النووي الإيراني المحتمل في سنوات قليلة مع أن الاتفاق في جوهره لا يلغي رغبة إيران في امتلاك السلاح النووي، إنما يؤجلها لثماني سنوات فقط من تاريخ عامنا هذا. ماتيس يدعم مراجعة اتفاق يبعث بتطمينات تضامن مع حلفاء أميركا في الناتو ويترك أيضاً للرئيس قراره في حماية الشعب الأميركي.

العراق وإقليم كردستان وسط غابة من بنادق الصيد الجائر، وأي استفزاز أو حركة مباغتة مقصودة أو غير مقصودة ستوقد ألف سبب وسببا لحرب أخرى وإرهاب آخر.

اقرأ المزيد
٨ أكتوبر ٢٠١٧
من يحكم سوريا الآن؟

هذا السؤال المفجع يحتمل العديد من الإجابات، فقد يقول قائل إن روسيا هي التي تحكم سوريا، ويقول آخر، بل إيران هي التي تحكم الأرض بينما روسيا تحكم سماءها، ويقول ثالث لا تنسوا اليد الخفية لإسرائيل ومن خلفها الولايات المتحدة التي أنشأت قواعد عسكرية في سوريا وتوقفت عن دعم المعارضة. وقد يذكرنا أحدهم بوجود قوات عسكرية لعدة دول تشارك في الحكم من وراء ستار بذريعة كونها تشارك في مكافحة الإرهاب. ولن ننسى الحضور القوي للميليشيات الطائفية والعرقية التي جاءت من كل أصقاع الأرض، وبخاصة من لبنان والعراق، وتقاسمت النفوذ مع الآخرين بحسب قوتها العسكرية. وسيقول الموالون بل يحكم الثوار (وكانوا يسمونهم إرهابيين قبل الاتفاقيات الدولية معهم بخفض التصعيد، ولا أدري ماذا سيسمونهم الآن)! وفضلاً عن ذلك كله يقتطع بعض الأكراد (البي يي دي) مساحات شاسعة من شمال سوريا وشرقها ويحكمونها بدعم أميركي. بينما لا يزال تنظيم «داعش» الإرهابي يسيطر على مساحات واسعة من المنطقة الشرقية والبادية، وله حضور في الجنوب، والمفارقة أن هذا التنظيم موجود بحُرية مطلقة في دمشق وبعض ريفها المجاور، ولا أحد من النظام يهدد حضوره لأنه يهاجم ذات الأهداف التي يهاجمها النظام. وأما في إدلب وبعض ريفي حلب وحماه فما يزال الحكم لـ«هيئة تحرير الشام» (النصرة) المصنفة إرهابية، والحرب الدولية قائمة ضدها كما هي ضد «داعش»، وثمة مواقع عديدة تسيطر عليها فصائل من «الجيش الحر»، تمتد حتى ريف اللاذقية.

ومباهاة النظام بالانتصار على شعبه هي تعبير عن امتنانه لما اقترف حلفاؤه من مجازر ضد الشعب بهدف الحفاظ الشكلي على وجوده، ولكن للأسف لم يعد للسيادة السورية حضور يذكر.

لقد رفض النظام مشاركة الشعب في الحكم، ولكنه استدعى إيران وروسيا و«زعران» الأرض لحكم سوريا مقابل أن يبقى صورياً حاكماً مستبداً، وتجاهل أنه جلب الدب لكرمه، وأطلق مارد التطرف من عنق فوهات الزنازين، ولكنه لم يعد قادراً على إعادته، وخسر شعبه. وأنا أقول للتاريخ وللحقيقة التي عشتها قبل أن أغادر دمشق، إن أولى التظاهرات لم تكن تحمل شعارات ضد النظام، ولا طالبت برحيل الأسد، وما تزال الوثائق شاهدة، وإنما طالبت أولاها بإصلاح النظام، ولم يكن فيها أي نفَس طائفي أو إسلامي متشدد أو متطرف، وأغلب المتظاهرين الأوائل كانوا يطالبون بالحرية والكرامة وهتافهم «الشعب السوري واحد» تعبيراً عن وحدة وطنية. وكان من السهل أن يستجيب النظام لحد أدنى من مطالبهم، ولكنه خشي من تقديم أي تنازل يفضي إلى رفع متصاعد لتلك المطالب، وكان سيد الموقف الرسمي هو العناد والغرور، ووهم الظن بأن قتل عشرات من المتظاهرين كل يوم سيجعل الآخرين يفرون هاربين مذعورين، ولكن شعلة الثورة توهجت بعد العنف الشديد الذي استخدمه النظام الأمني العسكري، وكنت يومها أقول «إن الثورة السورية وجدت مبرراتها الكبرى بعد الثورة أكثر بكثير مما وجدته قبلها». وقد يقول قائل: ما فائدة هذا الكلام الآن وقد ضاع البلد وفقد جميع السوريين وطنهم موالين ومعارضين ورماديين، ولم يخرج أحد من السوريين رابحاً، وإن ظن النظام أنه قد انتصر فهو انتصار وهمي يمكن أن يحتفل به خامنئي وبوتين وحسن نصر الله الذي صنع له مجده شعبنا السوري، ولم يخطر قط على بال أحد من السوريين، إلا ما ندر، أنه عدو حاقد على هذا الشعب العربي السوري، وأن ولاءه خالص لإيران وحدها.

وكذلك لم تنتصر الثورة عسكرياً، لأنها قامت ضد فروع الأمن المحلية المستبدة المتسلطة على رقاب الناس، ولكنها لم تقم ضد إيران وروسيا العظمى ونصف الكرة الأرضية، وعدة دول لم تفهم القضية وظنت أن إرهابيين هم الذين خرجوا متمردين على النظام ومن حق النظام أن يقتلهم ويشردهم. ولكن حضور السوريين المشردين في العالم كان أقوى من كل السياسات الداعمة للنظام علناً أو سراً، حين رأت الشعوب أن غالبية المشردين واللاجئين السوريين هم شعب حضاري متعلم ومثقف وكل جريمته أنه قد طالب بحريته، وحلم بالديموقراطية التي تنعم بها أغلب شعوب الأرض، وبات محرجاً لأوربا وأميركا مثلاً وهما تدعوان إلى الديمقراطية، أن تناصرا نظاماً مستبداً قتل شعبه حتى بالغازات السامة والأسلحة الكيماوية، ولم يبق في دول العالم نظير له إلا في بلد أو بلدين في العالم اليوم.

والمتنورون من شعوب العالم يقولون: أما كان يكفي الأسد أن يحكم سوريا سبعة عشر عاماً؟ والمفارقة أننا نسمع عن توجهات دولية تسعى للإبقاء على الأسد رغماً عن أنف الشعب الذي دفع أضخم التضحيات كي يبني دولة مدنية ديمقراطية غير طائفية، وثمة من يقول «حسناً، أهزموه بالديموقراطية» أي بالانتخابات وهو يعرف أن الشعب السوري في المهاجر بات في شتات يصعب جمعه! وأن الباقين في سوريا يدركون أن من يقول «لا» سيلقى عذاباً يكون الموت أهون منه، حتى لو حضرت الأمم المتحدة كلها لرقابة الانتخابات. ومن المحال أن ترشح جبهة النظام سوى مرشح واحد، كما أنه من المحال أن تتفق المعارضة أيضاً على مرشح واحد ينافسه.

إننا ندرك أن من يصرون على بقاء الأسد في المرحلة الانتقالية إنما يريدون بقاء سلطة (إيران) تخصيصاً، فقد تكتفي موسكو بمصالحها وقد يتم التفاهم معها حولها، ولكن إيران ترنو إلى مشروع إمبراطوري توسعي يصعب أن تحققه إذا انتهت سلطتها على النظام.

اقرأ المزيد
٨ أكتوبر ٢٠١٧
مجتمع قوي، معارضة ضعيفة

حتى مارس/ آذار من عام 2011، كانت تسيطر على الأوساط الثقافية والسياسية فكرة ترى أن النظام في سورية قوي والمجتمع ضعيف. وكان من الوعي السائد أن النظام نجح في تسطيح عقل السوريين، وتدمير قيمهم ونواظم عيشهم، وخصوصا الوطنية منها، ومزق مجتمعهم إلى مجموعاتٍ لا رابط بينها غير الخلاف، وحفر هوة واسعة بين نخبه المتناحرة وكتلته الكبرى غير المسيسة، التي تشترك في سكوتها المطبق على الاستبداد، الذي تتعرّض له وهي مكتوفة اليدين، على الرغم مما تعانيه من تدهور في معاشها، وانهيار في مكانتها، وغربة عن الشؤون العامة. في المقابل، كانت السلطة تبدو متماسكةً وقادرة على احتواء أي ظاهرة تبرز عند قاع المجتمع، فهي موحدة، تنصاع لشخصٍ لا يخرج أحد من منتسبيها على ما يراه ويقرّره، ومن الذي يمكن أن يفكر، ولو مجرد تفكير، بالخروج عليه قائدا مطاعا لدولة عميقة تضم ملايين الموظفين والمخبرين، يساندها جيش جرّار يؤمر فيطيع، تربطه عصبيات مركبة، همّ قيادته الرئيس إثارة الشقاق في جسد الهيئة المجتمعية العامة، وتنظيم وحدة القلة المؤيدة له، واعتبار المواطنين سكان مستعمرة يمسك بخناقها.

بعد شهر الثورة في مارس/ آذار من عام 2011، تأكد أن هذه الصورة ليست صحيحة، وأن المجتمع ليس فقط غير ضعيف، بل هو أقوى من السلطة، وإلا لما حرّر، خلال أقل من عامين، قرابة ثلثي سورية، وطرد جيش النظام "القوي"، وشبيحته وأجهزته القمعية، منها، وتصدّى بنجاح لمن يساندونه من مرتزقة متعددي الجنسيات، انضموا إلى صفوفه، بينما كان جيشه "الوطني" يتصرف باعتباره قوة استعمارية داخلية، وليس مؤسسة عسكرية وطنية، منظمة وتحمي شعبها ودولتها.

بهذا الدور الاستعماري الداخلي، الذي استفز أعدادا كبيرة من مواطني سورية، ممن يمضون خدمتهم فيه، وبما أبداه الشعب من تصميمٍ على التمسّك بحريته هدفا لا يحيد عنه، تبيّن أن الجيش الذي كان يبدو متماسكا وموحدا لم يكن كذلك في حقيقة الأمر، وأنّ النظام الذي خطط، منذ سنوات، لمعركة شاملة يقتلع خلالها الشعب السوري من جذوره، بمجرد أن تصدر عنه صرخة احتجاج واحدة، لم يكن قويا بالقدر الذي حاول إيهام السوريين به، ولو كان قويا حقا لما استنجد بإيران وحزب الله عام 2012 وبالروس عام 2015، ودعاهم، في الحالتين، إلى النهوض بأعباء الحرب، عوضا عن عسكره الذين افتضحوا طائفيين، لا وطن لهم، لكنهم تهشموا وفقدوا القدرة على كسب أي معركةٍ، طوال نيف وعام في التاريخ الأول، وأيقنوا أنّ دمشق ساقطة لا محالة خلال شهرين في التاريخ الثاني، بينما لم يطلب الجيش الحر أي تدخل خارجي من أي طرف، وواجه، بقواه الذاتية، التصعيد الاستثنائي الذي تعرّض له في التاريخين، على الرغم مما وقع من تبدل في ظروف المعارك، نتيجة استخدام أسلحة حديثة ضده لم تعرفها أي حرب من قبل، وما تكبده الشعب الأعزل من خسائر جسيمة بسببها، وعاناه من حصار وتجويع وقصف عشوائي وأسلحة كيميائية، لو انصب عشر ما استهدفه من صواريخ على مليشيا الأسد لما بقي منها صافر نار.

واليوم، لا يستطيع أحد القول إن مجتمع سورية هزم، لأنه لم ولن يهزم، وإن النظام انتصر لأنه هزم مرتين في ثلاثة أعوام. فضلا عن أنّ هناك شهادات دولية تتحدث عن استحالة حله العسكري، والسبب: استحالة أن يتمكن جيشٌ لم يعد موجودا من كسب حرب، عجز عن خوض معاركها عندما كانت أوضاعه أفضل بكثير من وضعه المزري الراهن، بدليل نجاح قبضة "داعشيين" من الوصول خلال ساعات من مناطق ادّعى أنّه طردهم منها إلى مشارف حمص!

أثبت المجتمع السوري أنه قوي بذاته، لكنه ليس قويا بمن يمثلونه، ويعتقدون أنهم قادته، وأثبتوا، خلال نيف وسبعة أعوام، أنهم لم يكونوا في مستوى ثورته وتضحياته، ولو كانوا لسقط الأسد ونظامه منذ سنوات، ولما تكبد السوريون الخسائر الهائلة التي تعرّضوا لها. لذلك، يصح قولي مع القائلين: عندما أنظر إلى الشعب أقول هناك ثورة، وحين أنظر إلى النخب السياسية والعسكرية، أهز رأسي حسرة وأسفا.

ترى: أما حان الوقت كي نرتفع، نحن النخب، إلى مستوى شعب عصي على الهزيمة، ونوقف ما نبذله من جهود لخدمة أعدائه: عن وعي أو تفاهة؟

اقرأ المزيد
٨ أكتوبر ٢٠١٧
الثورة السورية.. ومفاوضات في أتون المحنة

(1)
فشلت المعركة الثانية لكسر الحصار عن حلب (نوفمبر/ تشرين الثاني 2016)، والتي واجهت فيها فصائل الثورة السورية سلاح الجو الروسي، بكامل طاقته، وآلافا من مليشيات شيعية متعدّدة الجنسيات، لتبدأ مرحلة إطباق الحصار وتدمير الأحياء الشرقية لحلب، وكل ملامح الحياة فيها، في مشهد إجرامي شابه، إن لم يتجاوز، مشاهد التدمير في الحرب العالمية الثانية.

وعلى الرغم من وحشية العدوان الروسي الإيراني، والضغط العسكري الهائل على خطوط المواجهة، قرّرت جبهة النصرة، مع حركة الزنكي وسرية أبو عمارة، مهاجمة "تجمع فاستقم" من الجيش الحر داخل مدينة حلب المحاصرة، والذي كان واحداً من أهم الفصائل المحاصرة وأكثرها تنظيماً، كما أنه الفصيل الحلبي الوحيد الذي كان قائده العام داخل حلب المحاصرة، ما ساهم، إلى جانب القصف وأسباب أخرى، في اختلال الخطوط الدفاعية وانكسارها في عدة جبهات، ما جعل شبح المذبحة بحق أكثر من مائة وخمسين ألف محاصر يخيّم على أجواء الأحياء المحاصرة.

غادرتُ تحت جنح الظلام منطقة سوق الجبس، أحد أسخن خطوط المواجهة مع الإيرانيين والقناصين الروس، لأعود مع المقاتلين مسرعين إلى بابسقا المجاورة للحدود التركية، لمنع رتل الزنكي من الوصول والاستيلاء على مقر قيادة الريف في "تجمع فاستقم" في جبل بابسقا، على وقع انقضاض قاذفات السوخوي وقصفها قرى ريف حلب الغربي بالعنقودي والنابالم. انتشرنا على قمة جبل بابسقا بعد منتصف الليل، مع قوات من جيش الإسلام وصقور الشام وتجمع فاستقم، لحماية مقر القيادة.

في تلك الأثناء، نفذت طائرة سوخوي روسية غارة جوية على خان العسل في ريف حلب الغربي، أضاءت واهتزت لها كلّ إدلب وريفها، بما في ذلك الجبل الذي رابطنا عليه. حينها لعنت قادة الفصائل وجبهة النصرة التي دفعت ثوارا كثيرين لترك نقاط المواجهة مع هذا الإجرام الروسي وجموع المليشيات الطائفية، لتغزو مخازن سلاح لفصيل يرابط معهم، ودفعت آخرين إلى ترك نقاط الاشتباك مع جموع المليشيات الطائفية القذرة لتدافع عن مقارها وسلاحها. ولم يكن في تلك الفصائل من المروءة ما يجعلها تحترم أشلاء المدنيين ومنازلهم التي كانت تحترق بفعل النابالم والعنقودي الروسي.

أحدث هذا المشهد إحباطاً وقهرا دمّرا همة ثوار كثيرين ومعنوياتهم. وساهم، إلى حد كبير، بفقدان الثقة بالنفس وبالفصائل وقادتها، إن لم يكن بالقضية. حطم هذا المشهد معنويات (وإمكانات) شباب غاضب يريد الثأر للمقهورين في حلب، فأخرجهم من معادلة المعركة التي لم يكن في الوسع الانتصار فيها إلا بروح قتالية، تستمد بركان غضبها من تراكم القهر والظلم والتكالب على قضية السوريين، وتستمد إرادتها وتماسكها من الثقة المشتركة بين رفاق الثورة والسلاح، وبين هؤلاء الثوار المقتتلين وشعبهم المقهور.


(2)
في بداية نوفمبر/ تشرين الثاني 2016، وأنا غارق في إحباط فشل معركة كسر حصار حلب، وقهري من الفصائل التي أمعنتْ في إذلالنا وتحطيمنا، على الرغم من شناعة المواجهة مع عدوٍّ أمعن في الإجرام بحق شعبنا، توجهت إلى أنقرة إلى جانب مجموعة من قادة الفصائل، لمناقشة عرض روسي لوقف إطلاق النار في حلب.

كانت المفاوضات مع وفد من وزارة الدفاع وهيئة الأركان الروسية، حاول في مستهلها إظهار رغبة روسيا في المساهمة بحل القضية السورية، وأن روسيا ليست متمسّكة حالياً ببقاء الأسد على رأس السلطة، لكنها ترى أن الطريق المناسب لتغيير الأسد عقد مؤتمر لمختلف فعاليات المجتمع السوري وشرائحه، ويشكل المؤتمر لجنةً لتضع مسودة الدستور، ويتم إجراء انتخابات بمراقبة أممية، استنادا إلى الدستور الجديد. ويشبه هذا كله، إلى حد كبير، المسار الذي يعمل وفقه مبعوث الأمم المتحدة إلى سورية، ستيفان دي ميستورا، ويسيّر من خلاله مفاوضات جنيف. هذا الكلام المعسول كانت تبدده أشلاء ممزقة، بفعل قاذفات السوخوي، وانعدام الثقة بدولةٍ صرّح وزير خارجيتها، سيرغي لافروف، في مستهلّ الثورة السورية، بكلام يقطر حقداً وطائفية، حين قال إنه لا يمكن لروسيا السماح للسنّة بأن يحكموا سورية.. ليقترن التصريح لاحقاً بجسر جوي وجنود وقنابل عنقودية لم تفرق بين مركز للدفاع المدني ومدرسة ومقاتل.

كان وفد القوى العسكرية في أنقرة، والذي كان يمثل كل الفصائل، بما فيها أحرار الشام وجيش الإسلام، باستثناء جبهة النصرة، يدرك المعطيات المؤسفة داخل أحياء حلب الشرقية المحاصرة. لذلك، حاول مراراً المناورة لإنجاز اتفاقٍ يوقف اجتياح حلب، بعد أن باتت مهدّدة، إلى حد كبير، بشبح المذبحة، الأمر الذي دفعه إلى قبول مبدأ التفاوض، وبحث مشروع وقف إطلاق نارٍ شامل، لكن بعد إنجاز اتفاقٍ ينقذ المحاصرين في حلب.

كانت جولات التفاوض الأولى متعثرة للغاية، بسبب انعدام الثقة، واستمرار الروس في المراوغة في نطاق الهدنة الجغرافي، حيث برز المطلب الروسي في ألا يخصّ الاتفاق المناطق المحاصرة للمعارضة فقط. ولم يكن هذا المطلب مقبولاً لوفد الثوار، بسبب عدم الرغبة بإجراء تفاهماتٍ مباشرة مع روسيا التي كنا نقاتلها قبل أيام فقط، إلا في حدود الحاجة الملحة، والتي كانت تتمثل في إنقاذ حلب من شبح المذبحة. ومن جهةٍ ثانية، كان المطلب الرئيس للروس أن تخرج جبهة النصرة من أي منطقةٍ يشملها الاتفاق، وكان هذا الشرط قابلاً للتنفيذ في حلب، باعتبار العدد القليل لمقاتلي "النصرة"، والضغط الإنساني الشعبي الذي كان ممكنا أن يكون عاملا مساهما في إجبار مسلحي جبهة النصرة على الانسحاب هناك. أما في منطقة إدلب التي ذكرها الروس، فالأمر معقد جدًا، والإشكالية الرئيسية أصلاً أن "النصرة" قد يكون ممكنا أن نجبرها على الانسحاب من حلب إلى إدلب، لكنها تالياً إلى أين ستنسحب، وتعقيدات كثيرة لم يشأ وفد الثوار ربطها بملف حلب المحاصرة.

في الأسبوع الثالث من نوفمبر/ تشرين الثاني 2016، توصّل وفد الثوار والوفد الروسي إلى مسودة اتفاقٍ يقضي بوقف إطلاق النار والضغط العسكري على كل من حلب والوعر والتل، وكلاهما كانتا مهدّدتين بالتهجير القسري، وتم توقيع الاتفاق بالأحرف الأولى بضمانة تركيا وروسيا، وكان يشبه، إلى حد كبير، الاتفاق الذي وقع أخيرا في القاهرة لوقف إطلاق النار في الغوطة، حيث كان سيبقي المناطق الثلاث تحت سيطرة الثوار، والسماح بدخول المساعدات بأنواعها كافة، في مقابل انسحاب مقاتلي جبهة النصرة إلى الوجهة التي يختارونها، مع سلاحهم وعائلاتهم أو بدونهما.

سافر الوفد الروسي متوجها إلى دمشق، ليوقع الأسد على الاتفاق، لكن الوفد الروسي لم يعد إلى أنقرة في الوقت المتفق عليه، متذرعا بتصريحات الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، إن الجيش التركي دخل إلى الأراضي السورية لإنهاء حكم الأسد. في ذلك الوقت، بدأت دفاعات الثوار تنهار داخل حلب الشرقية، ليخسروا لاحقاً مساكن هنانو التي كانت بداية الانهيار السريع لأحياء المدينة المحاصرة، وفي الوقت نفسه وقع ثوار التل اتفاقاً يقضي بخروجهم إلى إدلب، ما جعل الصيغة التي تم التوصل إليها ملغية.

في بداية ديسمبر/ كانون الأول، وعلى وقع الانهيار السريع للثوار في حلب ومحاصرتهم مع عشرات آلاف من المدنيين في عدة أحياء فقط تبقت من القسم المحاصر، عاد الوفد الروسي ليطرح سيناريو وحيداً للاتفاق، وهو خروج جميع الثوار من حلب الشرقية إلى إدلب. كان كلام الضابط الروسي واضحاً، وكان في حقيقة الأمر تهديداً صريحاً، حيث قال: تغير الوضع في الميدان، وهذا العرض هو لمنع استمرار إراقة الدماء.

لم يكن هذا الخيار الذي نطمح إليه، لكنه كان خيارنا الوحيد لإنقاذ المدنيين، ومن تبقوا من ثوار. وتحت ذلك الضغط الإنساني وهول التطورات داخل حلب الشرقية، وافقت الفصائل، لتبدأ عملية تهجير أهالي حلب وثوارها إلى ريف حلب الغربي وإدلب.

أول الخارجين من حلب كان مسلحي جبهة النصرة الذين لو كان لديهم من الشرف والاكتراث لأمر السوريين ذرة لقتلوا أنفسهم، في بث مباشر، داخل أحياء حلب الشرقية، منعاً لتهجير أهلها، لكنهم كانوا كزعيمهم، الجولاني، بلا شرف ولا ضمير.

بعد وصول مقاتليها إلى إدلب، بدأت جبهة النصرة بممارسة هوايتها في ابتزاز الثورة والعالم، ليبدأ المدعو أبو بلال قدس، الذي كان مسؤول جبهة النصرة في نقطة العبور في الراشدين، بتعطيل عبور الحافلات، وبدأ يحاول فرض شكل جديد لآلية العبور.

في أثناء ابتزاز جبهة النصرة تركيا والوفد التفاوضي، لأجل أن تثبت قوتها على الأرض، وأن على الدول التفاوض معها، كان آلاف من الشباب والنساء والأطفال قد تجمعوا في منطقة الراموسة المدمرة، في انتظار الخروج من حلب، في درجات حرارة اقتربت من الصفر، وتحت هطول الثلج والبرد، ومن دون بيوت، ولا حتى دورات مياه، باتوا ليلتين ينتظرون جبهة النصرة الهاربة أن تقبل المقايضة عليهم. ومن دون وجود خطوط دفاعية حقيقية خلفهم، فيما لو قرّرت المليشيات الإيرانية والأسدية أن ترشّ عليهم النار، أو تقتحم المنطقة. كان المشهد سوريالياً، حسب ما نقلت لنا الصور من داخل حلب، أطفال يبكون حقاً من البرد ونساء بلا مأوى في الثلوج، وآلاف المدنيين متجمعون في مشهد أشبه بالقيامة المصغرة، وبالتيه الكبير للثورة اليتيمة، بينما يتاجر بآلامهم وأرواحهم تنظيم الجولاني، بعدما كان أهم أسباب معاناتهم وتشريدهم وهزيمتهم، وعلى الجانب الآخر كانت حافلات الخارجين من الفوعة وكفريا في وضع مشابهٍ أيضاً، وكثيرون ممن فيها من المدنيين كذلك، إلى أن استجابت جبهة النصرة والمليشيات الإيرانية، وخرجت آخر قوافل المهجرين من حلب في 21/12/2017.


(3)
بعد سقوط حلب، عاود الجانب الروسي طرح وقف إطلاق نارٍ يشمل كل الأراضي السورية، والدخول في مفاوضات مع النظام، لأجل حلحلة القضايا الإنسانية العالقة، مثل المساعدات الإنسانية والمعتقلين والمناطق المحاصرة. وبعد اجتماع قادة الفصائل في أنقرة، أجمع الحضور على أن هدنةً شاملةً أمر محل قبول، لكن الإشكالية في المفاوضات التي ستليها، لأن روسيا راعية لها.

تم الرد على المقترح الروسي بخطة لوقف إطلاق النار، قدّمها وفد الفصائل الثورية الذي غادر أنقرة إلى الشمال السوري، بعد تقديمه هذا المقترح. وبعد يومين، توصلت تركيا وروسيا إلى مسودة اتفاق حول وقف إطلاق نار شامل، وإطلاق مسار مفاوضات في العاصمة الكازاخية أستانة. عرضت المسودة على قادة فصائل من الجيش السوري الحر، ليقرروا التوقيع على الاتفاقية في 30 ديسمبر/ كانون الأول 2016.

قمت في أنقرة، مفوضا من 14 فصيلاً ثوريا في شمال سورية وحمص وريف دمشق وحماة بالتوقيع على اتفاق لوقف إطلاق النار، يتبعه مفاوضات لأجل القضايا الإنسانية العالقة، وفي مقدمتها المعتقلون والمناطق المحاصرة، وبعدها بأيام وقعت الجبهة الجنوبية الاتفاقية.

بعد توقيع الاتفاق، سعت الفصائل الموقعة إلى التشاور مع طيفٍ واسع من الفاعلين في الثورة السورية، من نشطاء وقادة للرأي العام في الداخل. وبمساعدة الحكومة التركية، تمت الدعوة إلى لقاء كبير في أنقرة، شارك فيه أكثر من خمسين شخصية فاعلة في المعارضة من ائتلاف قوى الثورة والمعارضة السورية والهيئة العليا للمفاوضات، وأيضاً في الميدان. وقد جرت في الاجتماع، وعلى مدار يومين، مداولات ونقاشاتٌ قررت بعدها الفصائل الثورية الموافقة على المشاركة في مفاوضات أستانة بوفد ضم كل الفصائل السورية، بما فيها الجبهة الجنوبية، عدا حركة أحرار الشام.

وكان قرار الموافقة على المشاركة في المفاوضات يستند إلى عامل جوهري، وهو أن عدم الذهاب يعني عودة السلاح الروسي إلى المواجهة العسكرية المباشرة وعودة الطيران الروسي إلى ممارسة ما يتقنه من قتل للسوريين بالنابالم والفوسفور الأبيض، ليبدأ بعد ذلك مسار أستانة بتفاصيله الإشكالية جداً.


(4)
كان واضحاً أنه بعد حلب بدأ فصل آخر من تغريبة السوري المتروك إلا من الأعداء، ولتبدأ الثورة السورية مرحلة جديدة وخطيرة، على المستويات كافة.

اقرأ المزيد
٧ أكتوبر ٢٠١٧
نهاية داعش في سورية

بينما تمر المعركة ضد تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) في سورية اليوم بمراحلها الأخيرة، يزداد تعقيد المشهد السياسي بشكل كبير، خصوصا أن الأطراف التي تحارب "داعش" اليوم في سورية كثيرة، وعلى عداء فيما بينها، حيث تحاصر قوات الحماية الكردية مدينة الرقة، العاصمة الرئيسية لداعش في سورية، بتعاون وتغطية جوية كاملة من الولايات المتحدة، بينما تحاصر قوات النظام السوري، بتعاون وتغطية جوية كاملة من روسيا، "داعش" في مدينة دير الزور، وتمكّنت، أخيرا، من عبور نهر الفرات، لتستكمل حصار "داعش" في دير الزور التي يطلق عليها "داعش" ولاية الخير، لأنها تمثل مصدرا لموارد زراعية ونفطية كثيرة لـ "داعش" خلال سيطرتها على المدينة.

انتهى هذا الأسبوع في نيويورك، وعلى هامش اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة، لقاء ما يسمى أصدقاء الشعب السوري على المستوى الوزاري، وكان لافتا قول وزير الخارجية البريطاني، بوريس جونسون، عقب الاجتماع، إن بريطانيا والدول الغربية "لن تساهم في عملية إعادة إعمار سورية ما دام الأسد في السلطة، وأنها تسعى إلى تحقيق عملية انتقالية بدونه".

يبدو الموقف البريطاني، ومن خلفه الغربي، ثابتاً في عدم قبول الأسد. لكن، وفي الوقت نفسه، يبقى الموقف الغربي ثابتاً أيضا في عدم اتخاذ أي إجراء يجبر الأسد على التنحّي، ويسمح بالبدء بمرحلة انتقالية. وبالتالي، يبدو موقف "مجموعة أصدقاء سورية" مكرّراً على مدى السنوات السبع الماضية، من دون أن يكون له تأثير على الأرض، أو على المسار السياسي الآخر الذي تقوده روسيا، ويسعى بشكل رئيسي إلى إعادة الاعتبار للأسد، وتقويته سياسيا وعسكريا، عبر قضم المناطق الخارجة عن سيطرته رويداً رويداً. عسكريا، بفضل القوة العسكرية المتفوقة. وسياسياً، عبر ما يسمى فرض خفض مناطق التصعيد، بما يفتح الباب لما تسمى المصالحات المحلية التي تعني، أولاً وأخيرا، إعادة بسط سيطرة خدمات النظام السوري على هذه المناطق بحكم عدم قدرة المعارضة على تأمين الاحتياجات الأساسية لها، أو توفير الخدمات الضرورية من ماء وكهرباء وغيرها.

ويترافق ذلك مع الرغبة الروسية في تنحية مفاوضات جنيف، تحت مظلة الأمم المتحدة، وتقوية مسار أستانة الذي يهدف إلى تنفيذ مناطق خفض التصعيد في سورية. وكانت النتيجة واضحة، فاجتماعات جنيف السبعة لم تسفر عن أي تقدم على المستوى السياسي، أو حتى الإنساني، وغالبا ما كانت تقود إلى فشل ذريع، بسبب رفض النظام السوري بحث أي من السلال الأربع التي تحدث عنها المبعوث الأممي، ستيفان دي مستورا، مراراً، وهي: تشكيل حكومة غير طائفية خلال ستة أشهر، صياغة الدستور، انتخابات خلال 18 شهراً بإشراف أممي. وأعلن دي ميستورا أنه تم الاتفاق على سلة رابعة تركز على محاربة الإرهاب، والعمل على إجراءات بناء الثقة بين الطرفين. لم يتحقق تقدم في أي من هذه السلال، وغالبا ما انتهت الاجتماعات في جنيف بشكل عدائي أكثر مما تشير إلى اقتراب الأطراف إلى حلول وسط، ما كان يكشف باستمرار عدم جدية نظام الأسد في الدخول في عملية سياسية في جنيف، تقود إلى حل سياسي.

وبديلا عن ذلك، ضغطت روسيا على نظام الأسد، من أجل إنجاح مسار أستانة الذي أصبحت لقاءاته تعقد بانتظام. وكان لافتاً تصريح الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، قبل آخر جولات مفاوضات أستانة "أن الأزمة السورية في مراحلها الأخيرة"، ما يدل، بشكل كبير، على أن تركيا أيضا، وليس روسيا فحسب، أصبحت تضع كل ثقلها في مسار أستانة، ولا ترى في مسار جنيف أملا قد يقود إلى حل سياسي قريب للأزمة السورية.

كان لافتاً جداً، على مدى الشهر الماضي، تطور الأمور في سورية، وفي الحرب ضد "داعش" هو تقدم قوات النظام وعبورها نهر الفرات من أجل استكمال حصار مدينة دير الزور، وطرد "داعش" منها. وكانت لافتةً الوجهة بحد ذاتها، فعلى مدى السنوات السبع الماضية كانت أولوية الجيش النظامي السوري القضاء على المعارضة السورية المسلحة، بأي شكل، وأي ثمن، ومهما كانت التكلفة من المدنيين. ولذلك شنت القوات النظامية فظائع وجرائم لا تحصى في المدن السورية التي خرجت عن سيطرة النظام، فأخضعتها لحصار خانق، منع خلاله الماء وإدخال أية مساعدات إنسانية، كما جرى في مضايا وداريا والمعضمية وحمص وغيرها، ما أدى إلى مقتل آلاف المدنيين، فضلا عن إمطار هذه المناطق ببراميل متفجرة فتكت بألوف المدنيين، وفقا لإحصاءات الأمم المتحدة. ولم يكترث النظام السوري لتمدّد "داعش" في الأراضي السورية سنوات، بل كان مصدر التمويل الرئيسي للنظام، فعائدات حقول النفط التي كان يسيطر عليها "داعش" كانت تباع في مناطق النظام، وتبدو معركة تدمر الاستثناء الوحيد تقريبا في تاريخ الاصطدام العسكري بين النظام السوري و"داعش" خلال السنوات الخمس الماضية، والتي كانت أولوية "روسية" بشكل رئيسي، لتبرير تدخلها العسكري في سورية في سبتمبر/ أيلول 2015.

لذلك، ظهرت فجأة قوات النظام التي بدت منهكة تماماً في حصار المدن السورية المختلفة وقصفها، وهي قادرة على عبور نهر الفرات السوري، من أجل فك الحصار عن القوات النظامية المحاصرة في مطار دير الزور العسكري. ولم يكن ذلك ليحدث، لولا الإسناد الجوي للقوات الروسية، ورغبة النظام في وقت تمدّد الكرد على حساب مناطقه، والمناطق التي يسيطر عليها "داعش"، فقد بدأ النظام يستشعر أن "سورية الموحدة" انتهت، وبدون رجعة، وأن الولايات المتحدة وروسيا لن تسمحا بسورية القديمة، كما كانت قبل عام 2011.

اقرأ المزيد
٧ أكتوبر ٢٠١٧
سنتان روسيتان.. بعيدون عن النهاية

اجتاز الدخول العسكري الروسي المباشر على خط الأزمة السورية عتبة عامه الثالث، محققاً جملة طويلة من المكاسب الحربية والسياسية، كانت ذروتها معركة حلب الكبرى، وما ترتب على هذه المعركة من تداعياتٍ واسعة، خاطبت مختلف الأطراف المحلية والإقليمية المنخرطة في الصراع المديد. وشكلت، في حد ذاتها، خطوة نوعية في مسار المواجهة على الجهة الأكثر أهمية بين جبهات الثورة السورية على نظام بشار الأسد، ونعني بها الجبهة الشمالية، ذات الثقل العسكري الراجح، والتداخل الجغرافي المعقد، والحضور الإقليمي المتنوع، وهو ما أدى إلى نقطة تحول فارقة في مجريات الحرب السورية.

بدأ التدخل الروسي بضربات جوية كثيفة، مركزة على مواقع كتائب المعارضة السورية المسلحة، مع أن ذريعة هذا التدخل كانت الحرب ضد تنظيم الدولة الإسلامية، وغيره من المجموعات المصنفة دولياً منظمات إرهابية، وحددت موسكو أجل تدخلها الزمني بفترة تتراوح من ثلاثة أشهر إلى أربعة، استدراكاً لأي التزامٍ بحرب طويلة قد تورط روسيا في أفغانستان جديدة، إذا أتت العواقب الأولية على غير ما تشتهي سفن الكرملين، وربما لتلافي حدة ردود الفعل الغربية على عودة الدب السيبيري إلى الشرق الأوسط، بعد غياب طويل عن المنطقة الواقعة تحت النفوذ الأميركي وحده.

طوال السنة الأولى من هذا التدخل، الذي كان يزداد اتساعاً ووحشية مع مرور الوقت، أخفقت الضربات الجوية الروسية الكثيفة في قلب المعادلة، أو حتى تغيير موازين القوى على الأرض، وإن كانت قد نجحت في إيقاف تقدم فصائل المعارضة نحو المواقع الأخيرة لقوات النظام المتهالكة، لا سيما في المناطق والمحافظات الشمالية، الأمر الذي تطلب زيادة مضطردة في كثافة الطلعات الجوية التي راحت تعمل على تأمين التغطية المتزايدة، بدورها، لأعداد إضافية من مليشيات إيرانية تضاعف قوامها، وانفتحت شهيتها أكثر من ذي قبل، للانخراط أعمق، بفضل الغطاء الجوي الروسي.

كان الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، يسعى، منذ بداية مغامرته الحربية هذه، إلى التقاط صورة نصر في الميدان، يبرّر فيها لنفسه هذا التدخل المحفوف بمخاطر لا يمكن التنبؤ بها سلفاً، وتعطيه هامشاً للمناورة السياسية في نطاق أوسع من حدود الرقعة السورية، وهي صورة ظلت بعيدة المنال إلى أن وقعت معركة حلب، وأسفرت، في جملة ما أسفرت عنه، تدشين أول مسعى دبلوماسي روسي من نوعه، لتحويل النتائج الحربية في الميدان إلى مكاسب سياسية حول المائدة التفاوضية، على نحو ما عبر عنه مسار أستانة، الذي رسمته موسكو بعناية فائقة، للانفراد بأوراق اللعبة السورية، وإملاء رؤيتها على جميع المتورطين في اللعبة الدامية.

بدا المسعى الروسي في أستانة بالغ التعثر أول الأمر، وعديم الجدوى من وجهة نظر مراقبين كانوا يرون أن هذا المسار ذا الأهداف العسكرية التكتيكية، المتمثلة في الهدن الجزئية ومناطق خفض التصعيد، بديل ملفق، أو قل خيارا لا يشكل بديلاً لمؤتمر جنيف، المخصص لإيجاد تسوية سياسية مبنية على قرارات مجلس الأمن الدولي ذات الصلة بالأزمة السورية، غير أن عدم الاكتراث الأميركي، حتى لا نقول إدارة الظهر لهذه الأزمة التي بدت كأنها في عهدة موسكو حصرياً، قد مكّن الدبلوماسية الروسية من تطويع قوى المعارضة، ناهيك عن اللاعبين الإقليميين، بمن فيهم الأتراك على وجه الخصوص.

وهكذا حققت روسيا في العام الثاني من تدخلها في الأزمة، ما لم تتمكن من بلوغه في السنة الأولى، لا سيما عندما استطاعت أن تجلب إلى مائدة أستانة فصائل معارضة خسرت جولة حلب، وراحت (هذه الفصائل) تبحث عن فتات مكاسب شبه مستحيلة، وفق ما كانت تشير إليه الوقائع السلبية على الأرض، وما تؤكد عليه التحولات السياسية المتعاقبة في المحيط المجاور، الأمر الذي أسس لمرحلة جديدة من الوجود الروسي في سورية، قوامه قواعد جوية وبحرية، وتقاسم نفوذ مع الولايات المتحدة، وحضور عسكري متزايد في الميدان الذي أصبح حقل رماية مثاليا لتجريب الأسلحة الحديثة.

وزاد من فرص نجاح الجهد الروسي المكثف على الأرض، وحول المائدة السياسية، إخفاق قوى الثورة والمعارضة السورية في تنظيم نفسها بصورة أفضل، لمقابلة الأخطار الساحقة الجديدة، إن لم نقل إن هذه القوى تشتتت أكثر فأكثر، على الرغم من جسامة التحديات المضافة إلى جبل تحدياتها السابقة، ناهيك عن احتدام المنافسات الداخلية على حضور هذا المؤتمر، وتصدر واجهة ذاك الاجتماع، فضلاً عن تفاقم النزاعات الحادة بينها، ووصول المواجهات البينية حداً لا سابق له طوال السنوات الست السابقة، على نحو ما حدث، ولا يزال يحدث، في الغوطة الشرقية، وفي مناطق شمالية عديدة، بما في ذلك إدلب.

ومن سوء طالع قوى الثورة والمعارضة السورية، وقوع الأزمة الخليجية المؤسفة والمؤلمة في أوائل يونيو/ حزيران الماضي، حيث كانت أول ارتدادات هذه الأزمة قد تمثلت في انعكاسها على الأوضاع السورية، خصوصاً وأن دول الخليج العربي كانت تشكل قاعدة الإسناد الأخيرة لثورة خسرت حاضنتها الرئيسة، إثر الاستدارات التركية، وتدهورت أحوالها الذاتية بشدة، في وقت كانت تشتد فيه الحاجة للدعم السخي أكثر من ذي قبل، وتتطلب معه التبدلات في الواقع الإقليمي وجود ثقل سياسي يوازي كثافة الحضور الإيراني، وموازنة تغوله على أقل تقدير.

وفي المحصلة غير النهائية لعامين صاخبين من التدخل الروسي في الأزمة السورية، نجد أن موسكو انفردت بمفاتيح الحل السياسي السوري المرتقب، ولو بعد لأي شديد، وأنها قد صعدت درجة أو أكثر على منصة التتويج دولة كبرى تزاحم الدولة العظمى الوحيدة في واحدةٍ من أهم المناطق المحسوبة على الولايات المتحدة تقليدياً، وتمكّنت من عرض نفسها لاعبا دوليا مسلّما بدوره العالمي، واستعرضت أسلحتها الحديثة واختبرتها بكثافة منقطعة النظير. وفوق ذلك كله، همّشت المعارضة، ولعبت بها ببراعة، ومنعت سقوط نظام بشار الأسد في المدى المنظور.

غير أن كل هذه المكاسب الروسية التي تراكمت في السنة الثانية من تدخل موسكو، المقدر له أن يطول، لم تتمكن من وضع نهاية لهذه الأزمة المعقدة، ولم تنه تنظيم الدولة الإسلامية بصورة حاسمة، أو تحتوي القوى الكردية الصاعدة، ولا الجماعات الجهادية المؤثرة، فضلاً عن الفصائل الثورية التي لا تزال ترابط في مناطق جغرافية متفرقة عديدة، بكامل عدتها وعتادها ونزعتها القتالية المحصنة، الأمر الذي يعني، على طول الخط المستقيم، أننا لا نزال بعيدين عن خط النهاية المؤكدة، وأن على موسكو أن تبذل مزيدا من المال والدماء، كي تدعي النصر، وتزعم أن مقارباتها كانت ناجحة، وأن سياستها السورية كانت صائبة.

اقرأ المزيد
٧ أكتوبر ٢٠١٧
الثورة السورية والمسار التفاوضي.. حوار الأشلاء

(1)
مع بدء وصول طلائع قوات الاحتلال الفرنسي إلى دمشق، قرر العقيد يوسف العظمة، مع عدد من رفاقه، خوض معركة استقلال الوطن، فكانت معركة ميسلون التي استشهد فيها العظمة ورفاقه. وفي الوقت نفسه، رفض بطريرك الروم وسائر المشرق، غريغوريوس حداد، طلب القائد الفرنسي غورو في لقاء بينهما، بينما كان بعض مؤيدي صبحي بركات الذي عينه الانتداب رئيسا لحكومة سورية يضعون أنفسهم مكان البغال التي تسحب عربة غورو، تعبيرا منهم عن الترحاب الحار بقوات الانتداب الفرنسي، وعن "الواقعية السياسية" التي تستند إلى قاعدة "العين لا تقاوم المخرز". اليوم، بعد مئة عام، لا يزال اسم معركة ميسلون خالدا، ويعيش يوسف العظمة ورفاقه الأبطال في جوارح السوريين، على اختلاف طوائفهم واحدا من رموز الاستقلال، بينما إذا سئل سوريون كثيرون عن معرفتهم بصبحي بركات ربما لن يذكره أحد.


(2)
في إبريل/ نيسان 2011، وبعد أحداث الجمعة العظيمة التي التهبت فيها شوارع محافظات سورية، باحتجاجات مدنية سلمية تطالب برحيل الأسد ونظامه الأمني، بدأ النظام يطلق مبادرات الحوار السوري، محاولا احتواء ثورة السوريين، ثورة ملايين من الشباب الطامح إلى بلد متطور حر وكريم، وثورة المظلومين المقهورين على الجلاد، وثورة من ابتدأوا الكفاح قبل آذار بعشرات السنين، وقضوا في معتقلات الأسد الأب سنين طويلة، ليخرجوا إلى الحرية، بعد تنصيب الأسد الابن على كرسي الدم. وقد حدثني الأستاذ جورج صبرة أنه، قبيل إطلاق سراحه من سجن القلعة التابع للمخابرات العسكرية في دمشق، كانت مخابرات الأسد قد أتت بعشرات من شباب كفرسوسة ودوما كانت قد اعتقلتهم بسبب المظاهرات. نادى أحدهم، وهو مضرج بدمائه نتيجة التعذيب الوحشي، جورج صبرة قائلاً: أستاذ جورج دير بالك... لا حوار مع الأسد.

في يوم السبت 21/5/2011، تلقيت اتصالا من يحيى شربجي، أبلغني فيه أن قيادات بعثية في مدينة داريا طلبت منه أن يحضر ناشطين من داريا إلى لقاء في مقر اتحاد الفلاحين في المدينة بين وجهاء داريا ومسؤولين من نظام الأسد، لحل قضية المعتقلين والمداهمات الأمنية. وبعد اجتماع مطول في أحد بساتين داريا مع مجموعة من نشطاء داريا، بينهم يحيى وغياث مطر وإسلام دباس ومجد خولاني، قررنا حضور الاجتماع بوفد من خمسة أشخاص، كنت أحدهم. وتم اللقاء في اليوم التالي، وكان الضابط الدمشقي في القصر الجمهوري، حسام سكر، ممثل الأسد. وبعد سرد طويل من الأكاذيب، مغلف بوعيد مفاده بأن الجيش الذي دخل درعا بإمكانه متى شاء دخول داريا، أنهى سكر حديثه بدعوتنا إلى زيارة بشار في قصره، لبحث طموحات شباب داريا.

من دون مداولات أو بحث، كان جوابنا أن داريا ليس فيها مشكلة اقتصادية أو اجتماعية، وأن مشكلتها هي ما يجري بحق أهلنا في حوران وبانياس، وأنه لا داعي لحوار أو لقاء حتى ينفذ مطلب الأهل هناك. وأرفقنا الجواب بأسطوانة ليزرية تتضمن فيديو لاقتحام المخابرات الجوية مدينة داريا يوم جمعة أزادي وعملية قتل الشهيد أحمد زهير العزب وإطلاق النار المباشر على المتظاهرين.

انتهى اللقاء بابتسامة باردة من سكر الذي دهم هو وزملاؤه، بعد أيام، منازلنا واقتادونا جميعا إلى مطار المزة.. ولا يزال الرفاق كلهم في السجن، بينما خرجت على قدميً، وخرج غياث مطر جثة.


(3)
على وقع المظاهرات الثائرة من حوران، وصولا إلى داريا والمعضمية والميدان وكفرسوسة إلى جوبر والغوطة الشرقية إلى حمص وبانياس وإدلب وجبل الزاوية وجبلة الأدهمية. وعلى وقع زج مئات من شباب سورية ورجالها وأطفالها في أقبية السجون، وتسبيح كثيرين من خطباء المساجد والكنائس بحمد بشار، أطلق النظام مؤتمر الحوار مع المعارضة في فندق سميراميس في دمشق، وطغت فيه شعارات "البعث" بأبدية حكم الأسد، وتم فيه الاعتداء على من رفع صوته بتبني مطلب المتظاهرين بإسقاط النظام، واعتقل بعده من شاركوا في المؤتمر من أصحاب القضية الثورية.
في الثامن من يوليو/ تموز 2011، قرّر الشعب السوري أن يرد على دعوات الأسد ومخابراته إلى الحوار السوري السوري، حيث ارتفعت أصوات مئات آلاف المتظاهرين في حماة ودير الزور والقامشلي ودمشق وحمص ودرعا وريف دمشق، تحت شعار: "لا حوار مع الأسد". وعلى الرغم من حملة أمنية دموية، شنها الأمن الأسدي، استشهد فيها أكثر من 26 متظاهراً من أبناء حماة التي كان قد وصل إليها السفيران الأميركي والفرنسي، خرجت واحدة من أكبر المظاهرات هناك على ضفاف العاصي، لتعلن بصوت هادر قرار كل السوريين من أقصى جنوب حوران إلى أقصى شمال دير الزور والقامشلي: بدكم بشار؟... لا والله. بدكم إيران ؟… لا والله.

في أثناء وجودي في سجن المخابرات الجوية في بداية إبريل/ نيسان 2011، كانت المخابرات الجوية، وقبل إخلاء سبيل أي معتقل، تتأكد من عدم وجود علامات تعذيب شديد  على جسمه. وكان واضحاً أنهم مازالوا يجهلون طبيعة الرد الدولي على مجريات الأحداث في سورية. أخلي سبيلي بعد أيام من الاعتقال. وبعد أقل من شهرين، اعتقلت للمرة الثالثة التي طالت حتى منتصف 2012، وكانت أيضا في المخابرات الجوية. والعلامة الفارقة أن التعذيب يفوق ما شهدته سابقا بمراحل مهولة، وكان من الطبيعي أن يقتل أي معتقل تحت التعذيب، بل شهدت تعذيب أحد علماء الشام، وكان يتجاوز السبعين عاما، حتى فارق الحياة نازفاً.. سألت نفسي: ما الذي تغير خارج السجن حتى صاروا بهذه الشراسة واللامبالاة بأرواح المعتقلين؟

وجدت إجابتي عندما خرجت: ما حصل باختصار أن الأمين العام لحلف شمال الأطلسي (الناتو)، أندرياس فوغ راسموسن، صرح ثلاث مرات بأن لا نية للحلف للتدخل في سورية. ما حصل أن سفراء ولجان مراقبة أممية وعربية دخلت إلى المدن، وشهدت سحل المتظاهرين، وخرجت وكأن على رؤوسها الطير من دون أي إجراء. ما حصل أن سفراء ست دول، بينهم سفير أميركا، زاروا عزاء ناشط سلمي بارز في داريا، هو غياث مطر، وشهدوا اقتحام الأمن مكان العزاء في أثناء مغادرتهم، من دون أي حراك. ما حصل أنهم شهدوا أقبح مجزرة في العصر الحديث بحق المدنيين القاطنين بجوار أقدم عاصمة في التاريخ، واكتفوا بسرقة جزء من سلاح الجريمة، وتركوا البقية للمجرم، ليستمر بالعربدة على شعبه، ويستمروا هم في لعبة الأعمى.. والضحية. ما حصل أنهم قالوا له: اقتل اقتل اقتل، وسنبذل جهدنا في ألا نرى جرائمك والأدلة عليها. سنكذب على الضحايا بالتحقيقات وعدم كفاية الأدلة، ونتحجج باستعمال روسيا حق النقض (الفيتو) في مجلس الأمن، ونبرر مشاركتنا في قتلهم بمحاربة الاٍرهاب. .. اقتل، إننا معك من القاتلين.

عمليّاً، تولى المجتمع الدولي مهمة تحديد حجم القتل المسموح به ووسائله، ولا يعنيني كضحية البحث في أن ذلك متعمّد أم غير متعمد.

.. بعد وصول جثمان غياث مطر الذي اهتزت داريا لاستشهاده، وكان منكلا به من عناصر مدير إدارة المخابرات الجوية، جميل حسن، إلى منزل أهله، أرسل النظام تعزيزات أمنية وعسكرية ضخمة، لمنع تشييع الشهيد الذي اقتصر على أهل الشهيد فقط، لتبقى قوات الأمن محاصرة خيمة العزاء التي وصل إليها سفراء خمس دول، بينهم سفراء أميركا وفرنسا وألمانيا، سريعاً ما تبدل طغيان عناصر الأمن إلى خوف، فمنهم من اختبأ في حاوية القمامة، ومنهم من اختبأ تحت السيارات، فقط حتى لا يرى سفراء دول عظمى جرائمهم التي وصلت إلى حد التضييق على خيمة عزاء. لم يدم ذلك الخوف طويلاً، فمع مغادرة السفراء، عادت قوات الأمن لتقتحم العزاء، وتعتقل أقارب للشهيد، وناشطين ما زالوا في سجون الأسد، وليس معلوما ما إذا كانوا من بين من صوّرهم سيزر أم ما زالوا أحياء في قبور المخابرات. وقد قال لي أحد أقارب من اعتقلوا ذلك اليوم: ما الفائدة من زيارة السفراء سوى أن من تم اعتقالهم اتهموا بالتخابر مع جهات أجنبية، وهذه الجهات الأجنبية (العظمى) لم تستطع أن تنجد الثورة، ولا حتى أنجدت من جرّت عليهم حقداً إضافيا لحقد النظام على كل منطقة ثائرة، بل حتى عجزت الدول التي حضر سفراؤها إلى العزاء عن أن تخرج معتقلاً واحداً؟

في القانون، ليست الجريمة فقط هي عندما تقدم على فعل يخالف القانون. الجريمة تكون أحيانا بامتناعك عن القيام بواجباتٍ يفرضها القانون ومبادئ الإنسانية... هكذا قتلنا العالم، وترك دمنا المستباح لسلاح الأسد وحلفائه.

هذه الوحشية التي أمعن النظام في إنزالها بأبناء الشعب السوري، قابلها إمعان من المجتمع الدولي بتجاهل الجرائم تارة، وبالتسليم بها تارة أخرى، مع قليل من التنديد والشجب. ولكن بالقدر الذي لا يؤثر على سير الجرائم، وفق مسار يحقق المآل المطلوب في إضعاف المعارضة قبيل إطلاق مفاوضات جنيف، وتحويل الحرب في سورية من حرب ضد الاستبداد والدكتاتورية إلى حربٍ ضد الإرهاب، ما أدى إلى بروز اتفاقيات هدنة وتهدئة في عدة مناطق وتهجير قسري في مناطق أخرى.


(4)
بدأت مرحلة جديدة من الصراع، تصاعدت فيها حدة جرائم الأسد بحق المناطق الثائرة، لتصل إلى ذروة وحشيتها بارتكاب مجازر الذبح ‏بالسكاكين، في كل من ريف حماة وحمص ودير الزور، وصولاً إلى مجزرة الكيميائي في الغوطة، إلى إطباق الحصار على مناطق حمص ‏وريفها وريف دمشق، ووضع المدنيين فيها بين خياري الموت جوعا أو الموت بقصف البراميل والكيميائي‎.‎

لعل أخطر الرسائل الدولية على الشعب السوري، وأكثرها خدمة لمشروع قتل السوريين الذي قاده الأسد، الخط الأحمر الذي ‏رسمه الرئيس الأميركي، باراك أوباما، والذي كان في حقيقة الأمر هامشاً واسعاً للقتل وأدواته المرّخص للأسد استعمالها. وعندما تجاوز ‏الأسد ذلك الهامش بمجزرةٍ تعد من أكبر مجازر القرن الواحد والعشرين، اكتفى أوباما بسحب سلاح الجريمة، في تأكيدٍ منه أنه في وسعك القتل كيفما شئت، وقدر ما شئت، لكن لا تتجاوز قائمة أدوات القتل المحدّدة‎.‎

وعلى الرغم من استمرار فارق التسليح والدعم بين ما قدمه حلفاء الأسد للمجرم، بالمقارنة مع ما قدمه حلفاء الثورة لأصحاب القضية الحق، وتراجع دول كثيرة عن مواقفها الداعمة لقضية الشعب السوري في تغيير ديمقراطي، وتحقيق سورية مدنية ديمقراطية تعددية، ودخول روسيا وإيران وخليط إجرامي من مليشيات طائفية متعدّدة الجنسيات، في مقدمتها تنظيم حزب الله، على الرغم من ذلك كله، استمرت عمليات الثوار في المقاومة والتصدي ومعارك التحرير والدفاع، الأمر الذي دفع الأسد وحلفاءه إلى بدء استراتيجية تدمير المدن السورية فوق رؤوس أهلها، وإطباق الحصار الكامل عليها، لدفع الثوار وإجبارهم على الانسحاب منها.


(5)
طموح الثورة في إسقاط الأسد، وإحداث التغيير الحقيقي في نظام الحكم، وتحقيق الحرية والعدالة لكل السوريين من خلال حكومة ديمقراطية، لم ولن يكون محلا للتفاوض، لكن بعد أن واجه الشعب الثائر، وحيداً طوال سنين، المذبحة الأكثر دمويةً في القرن الواحد والعشرين، انخرطت المعارضة السياسية والعسكرية في مسارات تفاوض تنظر إليها على أنها بشأن كيفية رحيل الأسد، بما يؤمن تحقيق هذه الغاية مع أقل قدر ممكن من الخسائر، لكن الواضح أن العالم يستثمر قبول السوريين مبدأ المفاوضات بدفعهم إلى التنازل عن جذر القضية، وهو رحيل الأسد. وربما سيجد كثيرون في الموت خياراً أكثر منطقية، وربما سيجد آخرون من حملة الهمّ الوطني في الهزيمة خياراً.. لكن بالتأكيد لن تكون الخيانة خيار أي ثائر.

اقرأ المزيد

مقالات

عرض المزيد >
● مقالات رأي
١٣ أغسطس ٢٠٢٥
ازدواجية الصراخ والصمت: استهداف مسجد السويداء لم يُغضب منتقدي مشهد الإعدام في المستشفى
أحمد ابازيد
● مقالات رأي
٣١ يوليو ٢٠٢٥
تغير موازين القوى في سوريا: ما بعد الأسد وبداية مرحلة السيادة الوطنية
ربيع الشاطر
● مقالات رأي
١٨ يوليو ٢٠٢٥
دعوة لتصحيح مسار الانتقال السياسي في سوريا عبر تعزيز الجبهة الداخلية
فضل عبد الغني مدير الشبكة السورية لحقوق الإنسان
● مقالات رأي
٣٠ يونيو ٢٠٢٥
أبناء بلا وطن: متى تعترف سوريا بحق الأم في نقل الجنسية..؟
سيرين المصطفى
● مقالات رأي
٢٥ يونيو ٢٠٢٥
محاسبة مجرمي سوريا ودرس من فرانكفورت
فضل عبد الغني
● مقالات رأي
٢٥ يونيو ٢٠٢٥
استهداف دور العبادة في الحرب السورية: الأثر العميق في الذاكرة والوجدان
سيرين المصطفى
● مقالات رأي
١٧ يونيو ٢٠٢٥
فادي صقر وإفلات المجرمين من العقاب في سوريا
فضل عبد الغني