يلاحظ المتابع لكل "بغي" تمارسه هيئة تحرير الشام على إحدى مكونات الثورة العسكرية، حجم الهجمة الإعلامية والتسويق لهيئة تحرير الشام ومظلومياتها وسعيها لنصرة المستضعفين وتسيير الجيوش والأرتال لاسترجاع حق أو نصرة ضعيف او محاربة فساد وكله من وراء القصد ..
في كل بغي تمارسه تحرير الشام تبدأ الماكينة الإعلامية الكبيرة التابعة لها لشيطنة الطرف المقابل وخلق المبررات التي تسوغ لها البغي وتسيير الأرتال في المحرر ونبش الزلات والنزوات لخصومها، من خلال غرف إعلامية وقنوات ومواقع وحسابات وهمية جمة بأسماء ما أنزل الله بها من سلطان، مهمتها التجييش الإعلامي وتهيئة الجو للبغي في كل مرة، وإضفاء صورة الهيئة في موقع المدافع عن الأعراض الحريص على حقوق الناس وإنهاء الفساد كيف لا وهم شعب الله المختار.
استغلت في الحرب الإعلامية الشعارات البراقة والتستر بعباءة الدين في محاربة الخصوم، والعمل على إظهار الخير المطلق والحامي والناصر والمحرر والحق الكامل في فصيلهم الوقت الذي تعمم صورة الفساد والعمالة والارتزاق على غيرها من المكونات العسكرية، بهدف تشويه صورتها ودفع الحاضنة الشعبية للتخلي عنها ثم إنهاؤها والسيطرة على مقراتها وسلاحها والظهور أمام الشعب بأنها تحميهم وتدافع عنهم وتبعد الفساد الأكبر (اقتباس).
وفي كل حرب أو بغي تخوضه الهيئة ضد خصم جديد لها تكون دائرة الإنهاء قد أحاكت به، لابد من التذكير بماضي الهيئة المجيد وانها تخوض على ثغور المسلمين الحروب وتزود عنهم وأن الغدر جائها من الخلف وطعن وغدر بها فكان لابد من التأديب.
المتتبع لحسابات هيئة تحرير الشام سواء كانت الرسمية أو المناصرة أو حسابات الشرعيين يلمس حجم التجييش الذي تمارسه هذه الحسابات، وتساهم بشكل كبير في أراقة الدم وتزيكة اشتعال النار أكثر فأكثر، في الوقت الذي يعيبون على غيرهم من خصوصهم الدفاع عن أنفسهم أو مواجهة هذه الحرب الشيطانية بحرب مقابلة ومماثلة ولو أنها لم تصل لدرجتها في التجييش فهو بالتأكيد حلال لهم وحرام على غيرهم ..!؟
في الوقت الذي كان الرئيس الروسي، "فلاديمير بوتين"، يستقبل نظيره التركي "رجب طيب أردوغان"، في منتجع سوتشي، كانت الطائرات الروسية بكل دم بارد، تصب جام حقدها على سوق مدينة الأتارب السورية في ريف حلب، محولة أجساد السوريين لذرات متناثرة أو مدفونة تحت الركام.
قبل توجه أردوغان إلى سوتشي، ذات التاريخ الأسود مع السوريين لاسيما اتفاق الكيماوي الشهير، كان واضحا أن هناك أمر جلل قد حدث، دفع بأردوغان للانتقال دون سابق إنذار إلى روسيا على عجل، وما يعزز التوتر تصعيد أردوغان، قبل انطلاقة من إسطنبول للقاء بويتن، حيث طالب كل من لا يريد حل عسكري أن يسحب قواته في إشارة إلى روسيا وربما الولايات المتحدة.
رد فعل الروس لم يكن سريعا فحسب، بل أسرع مما توقعت تركيا، الذي بدا واضحا مع غارات الطيران الروسي على منطقة الاتارب على بعد كيلومترات قليلة من الانتشار التركي، وكأنها "قرصة أذن" لأنقرة، و"لوي ذراع" لتدرك أن لا مجال لتقول لا، وهو ما اعتادت روسيا عليه في مواجهة تركيا، في أحياء حلب الشرقية، والان معارك درع الفرات عندما قتلت جنود أتراك بغارات قالت إنها عن طريق الخطأ، لكنها كانت كفيلة بوقف التمدد التركي عند الباب.
روسيا كما هي بعد 7 سنوات من الحرب الدامية في سوريا، لن تتنازل عن مكاسبها أو تقبل المناصفة أو المشاركة مع أحد، وان كان الإيرانيون يشكلون لها قلقلاً، إلا أنهم كرت "جوكر" تستخدمه حالياً إلى جانب النظام السوري، إلى حين تجد كرتاً أفضل لتحرقهم، وتبقى مصلحتها هي الأهم.
أما تركيا، فيبدو أنها أكلت الصفعة من جديد، مع فشلها في التحالف مع الجانب الروسي أو الايراني، تخالف لم يثمر إلا وقفا غير منضبط لإطلاق النار.
روسيا تقصف نقاط بالقرب من جيش تركيا، وإيران تتأهل لكسر منطقة خفض التصعيد الرابعة بالهجوم على ريف حلب الجنوبي ليهددوا بموجات نزوح تثقل كاهل تركيا.
أيا كانت نتيجة قراءتنا لما يحدث، يبقى الدم السوري هو الفاتورة الوحيدة التي يبذخ بها الجميع، دون أن ينقص من مالهم أو أرضهم أو هامتهم ذرة رمل، فهذا الدم خارج الحسابات.
لم تتشكّل سورية الدولة الحديثة -التي شهدت النور بحدودها الحالية بعد الحرب العالمية الأولى- بإرادة سكانها من مختلف المكوّنات والجهات. ولم تتطابق حدودها الواقعية مع النزعات الرغبوية لمكوّناتها المجتمعية، وكتلها السياسية. فمع انقشاع غبار المعارك، تبلورت ملامح الاتفاقية السرية التي كانت بين فرنسا وبريطانيا؛ وهي الاتفاقية التي بددت إمكانية تحقّق الحلم القومي العربي، ووضعت حدًا للخلافة الإسلامية بمنحاها العثماني، وأعادت هيكلة المنطقة، على أساس تصنيع دول متفاوتة الحجم والقدرات، مبنية وفق حسابات ومصالح أرباب القرار الدولي.
نحو مئة عام مرّت، وسورية ما زالت ممزقة بين إمكاناتها الفعلية ومصالحها الوطنية من جهة، وتطلعات أصحاب المشاريع السياسية العابرة للحدود من جهة ثانية. هذا مع استثناء محدود تمثّل في المرحلة التي أعقبت الاستقلال، وهي المرحلة التي برز فيها سياسيون، من مختلف المكوّنات، كانت لهم أدوار لافتة في النضال السوري من أجل الاستقلال؛ ولكن سرعان ما هيمنت النزعات الحالمة في ساحة التفكير السياسي، وكانت المنافسة بين ثلاثة مشاريع كبرى، لم يكن في مقدور السوريين تحمّل أعبائها، أو إنجاز الحد الأدنى منها؛ فلم يتمكن المشروع القومي من بلوغ الوحدة القومية المنشودة، وأخفق المشروع الإسلامي في إقناع غالبية السوريين. أما المشروع الأممي فقد ظل سطحيًا نخبويًا، ولم يتحوّل إلى جزء من ثقافة الشعب السوري وسلوكيته، وذلك قياسًا إلى المشروعين المذكورين.
وسرعان ما اكتشف القوميون في الجيش القوةَ التي ستمكّنهم من بلوغ السلطة التي ادّعوا بأنها ستكون وسيلتهم لتحقيق الوحدة العربية الكبرى، ومن هنا كان تركيزهم على أبناء الفلاحين في الأرياف، ليشكلوا العمود الفقري في الجيش العقائدي الذي تسلّطوا عليه، ليكون مجرد أداة لتنفيذ أهدافهم. ولكن الذي تبين لاحقًا هو أن الشعارات “القومية” البراقة، الموشاة بزخرفة اشتراكية، لم تكن سوى تضليل، الغرض منه الانقضاض على الداخل الوطني، والتحكّم بمفاصل الدولة والمجتمع، عبر دولة أمنية لم تنجز في البلد غير الاستقرار الأمني، القسري؛ والتهمت في المقابل كل الإمكانات المادية التي كان من شأنها وضع الأسس الثابتة لنهوض اقتصادي متكامل على المستوى الوطني، نهوض كانت سورية تمتلك كل عناصره ومستلزماته المطلوبة.
أما الاتجاه الإسلامي الذي تمثّل على وجه التحديد في جماعة “الإخوان المسلمين”، فقد ركّز على الأوساط التجارية والصناعية في المدن. كما تغلغل ضمن صفوف الطبقة الوسطى المدينية، خاصة بين الأكاديميين من أطباء ومحامين ومهندسين ومدرسين. واستمرت العلاقة متوترة بين المشروعين القومي والإسلامي. وفي خضم الصراعات والتناقضات والحملات الشعاراتية، أصبح أي تفكير في المشروع الوطني السوري نوعًا من التهمة التي تدين صاحبها، من دون أي تمهّل أو تردّد.
ومع انطلاقة الثورة الشبابية، اعتقد السوريون، في مختلف المناطق ومن سائر المكوّنات، أن مستقبلهم المنتظر قد بات أقرب إليهم من أي وقت مضى. وكانت التظاهرات، والمهرجانات الشعبية الكرنفالية، المطالبة بالقطع الكامل مع نظام الاستبداد والإفساد.
وعاشت الزمرة اللامرئية المتحكّمة بالدولة السورية رعبًا حقيقيًا، وذلك لشعورها بحلول يوم الحساب؛ فاستنجدت بالحليف الإيراني الذي سلّمته كل أوراقها، ليأخذ هو على عاتقه مهمة الدفاع عن النظام بكل إمكاناته وميليشياته، مستفيدًا من ضبابية الموقف الأميركي، والتعطّش الروسي لاستعادة دور القوة العظمى على المستوى الدولي.
كانت استراتيجية النظام ورعاته تقوم على تسويق الثورة السورية، تحت اسم الصراع بين السلطة العلمانية، حامية الأقليات، والقوى الظلامية الأصولية المتطرفة، الإرهابية الإسلاموية، وفُرضت العسكرة على ثورة السوريين؛ فتراجعت القوى المدنية، وباتت الساحة، في ظل تغييب واضح للجيش الحر، ميدانًا للمواجهة بين قوى التطرف بكل أسمائها وأشكالها.
ونحن هنا لسنا بصدد إجراء تحليل عام تفصيلي لما جرى، ويجري، في سورية منذ ما يقارب السبعة أعوام؛ وإنما نود بيان كيف أن السوريين -بكل انتماءاتهم وتوجهاتهم- باتوا على قناعة اليوم بأهمية وضرورة المشروع الوطني السوري الذي لا بد أن يُطمئن الجميع، عبر احترام الحقوق والخصوصيات، وبموجب عقد دستوري يتوافقون عليه؛ من أجل الحفاظ على وحدة بلدهم، وتأمين مستقبل أفضل لأجيالهم المقبلة، في مشروع يضع مصالح السوريين جميعًا فوق كل الاعتبارات، ومن دون أن يكون ذلك على حساب أي فئة أو مكوّن، وذلك يكون عبر الإقرار الواضح باحترام الخصوصيات، والالتزام بالحقوق المترتبة عليها. أما أن نتحدث بلغة مجاملاتية خالية من أي مضمون ملموس حول دور المواطنة، وضرورة أن يتساوى الجميع أمام القانون، والاحتكام إلى صناديق الاقتراع؛ فهذا لن يبدّد من هواجس المكونات المذهبية أو القومية.
في هذا المجال، نرى ضرورة تأكيد أهمية وحيوية دور المكوّن العربي السني تحديدًا، في ميدان التواصل، وترميم الجسور مع سائر المكوّنات الأخرى، ضمن سياق مصالحة وطنية عامة، تمهّد لحوار وطني معمق على مختلف المستويات، يكون أساسًا لتوافقات وطنية ديمقراطية، تصادر على المخاوف الجمعية، وتؤسس لعلمية دستورية عادلة لكل السوريين، ضمن إطار وطن مشترك يجمعهم، ويساهم في تعزيز الأمن والاستقرار في المنطقة؛ وكل ذلك سيفتح الأبواب أمام تنمية حقيقية، تقوم على قاعدة الاستثمار الرشيد للموارد البشرية والطبيعية، وتضمن توفير فرص العلم والعمل لشبابنا، بعيدًا من الاستبداد والإرهاب.
حتى أولئك السوريين المؤيدين للأسد، وجدوا أنفسهم أمام السؤال المعقد: وماذا بعد؟ وعلى مدار حوالي سبع سنوات من الصراع الدامي وغير المسبوق، بين سلطة عنيدة عنيفة متوحشة، وشعب شبه أعزل، صراع تكاد تفاصيله تستعصي على العدِّ، فضلًا عن التوثيق والإحصاء؛ وجد الشعب السوري الثائر نفسَه في وضع الجريح النازف المترقب نهايةً، أو نهايات، مختلفة جدًا عن تلك التي حلم بالوصول إليها، عندما هبَّ في معظم مدنه وقراه، يهتف للحرية وإسقاط النظام عام 2011.
بات الشعب السري يتمنى توقف القصف وحصار التجويع أولًا، ليستعيد أنفاسه، وقدرته على التفكير بالمستقبل، وأصبح تعبير (والله تعبنا) يُستخدم بين السوريين اللاجئين في دول الجوار، ودول الغرب أيضًا، ويصدمك أحيانًا أن تسمع هذا التعبير من مغترب سوري يملك ثروة طائلة، بعدما يُعدّد لك المنظمات والعائلات التي يُقدّم لها المساعدة، كل شهر، طوال سنوات الثورة.
مع فداحة المصائب التي نزلت بكل شخص سوري؛ فإنه سيجيبك إن سألته: هل تقبل بالعودة إلى حكم الأسد؟ لا، ذلك مستحيل. هذه الإجابة ذاتها سمعها ستيفان دي ميستورا مبعوث الأمم المتحدة إلى سورية، وقبله الأخضر الإبراهيمي وكوفي عنان، من قيادة المجلس الوطني، والائتلاف فيما بعد، وكذلك من الهيئة العليا للمفاوضات، فضلًا عن شخصيات وطنية مستقلة أخرى، أوصلت صوت الثورة إلى كبار المسؤولين في دول القرار.
هذا الإصرار على مطلب إسقاط سلطة الأسد تقابله مشروعات دولية وعربية، لا يبدو أنها مهتمة برحيل الأسد أو بقائه إلا بالقدر الذي يُناسب مصالحها، إن إصرار الأسد على البقاء في السلطة، مهما كلّف من ثمن، مثّلَ فرصًا ذهبية للطامعين بالهيمنة على سورية، أرضًا وبحرًا وشعبًا وثروة غازية واعدة، وهؤلاء مختلفون في الأهداف، وفي الحصص، وفي مناطق النفوذ..
المحلل السياسي د. لبيب قمحاوي، بدا -كغيره من كبار المحللين السياسيين العرب- متشائمًا بشأن مستقبل سورية، حين قال: “إن سورية التي نـَعْرِف قد انتهت، وسورية التي لا نعرف، ولا نريد أن نعرف، هي الآن قيد التشكيل”. لقد شعر معظم السوريين بحالة متفاقمة من العجز، وفقدان القدرة على استشراف المستقبل، أو استيعاب حقيقة ما يجري في بلدهم، بعد شهور من التظاهر السلمي والاستنجاد بالدول العربية والغربية من دون طائل؛ ما أدى إلى تبلور حالة متفاقمة من الإحباط ودفع بعضهم باتجاه حمل السلاح، للدفاع عن بيوتهم وأعراضهم، ثم إلى انضمام المتشددين منهم إلى تنظيمات متطرفة مثل (داعش) و(النصرة) وأشباههما؛ أملًا في التنفيـس عن غضبهم، وربما في تحقيق حلم “الخلافة” الذي يعني لهم السلطة القوية القادرة على سحق نظام الأسد، وهذا الوضع عملت على خلقه مخابرات النظام، بالتعاون مع الحرس الثوري الإيراني وميليشيات (حزب الله)، وقد شكّل في بداياته مخرجًا للنظام السوري، من أزمته الطاحنة التي وضعته في حال من الشلل الذي رافق صراعه مع الشعب الثائر والجيش الحر، ولقد أدى إطلاق يد (داعش)، ومن ثم (النصرة) في اجتياح المدن والبلدات التي حررها الجيش الحر إلى دفـْع الأمورِ في اتجاه حصر الخيار أمام الشعب السوري والعالم الخارجي، إمـَّا في بقاء النظام أو في سقوط البلد بيد “الإرهابيين”، وبذلك فتح المجال أمام قوى عديدة، للتدخل العسكري والسياسي في الشأن السوري، بذريعة مكافحة الإرهاب.
وهكذا؛ فإن الأرض والأجواء السورية أصبحت مستباحة لكل طامع، ومن الواضح أن النظام السوري يحصد ما زرعه، عندما حصر الخيار أمام الشعب السوري والعالم بين بقائه، أو سيطرة المتشددين، وهو تخيّل أن تلك هي خشبة نجاته من السقوط، تلك الخشبة ذاتها أصبحت العذر الكافي للدول الإقليمية والعالمية لقصف سورية وتدميرها وتقسيمها، دون أن تُشكّل ضمانة حقيقية لبقاء النظام.
إن التواجد الروسي في سورية ليس جديدًا، ويعود إلى سنوات طويلة، والتطور الجديد يتمثل بتسمين ذلك الوجود، وتفعيل دوره ونشاطه العسكري بشكل ملحوظ ومُعـْلـَن، وهذا التطور لم يُفاجئ أميركا طبعًا، ولا هو شكّلَ صورةً من صور التنافس الذي ميّز حقبة الحرب الباردة، بل عكس التوجه الجديد في التنسيق، بين مصالح الدول الكبرى على حساب الدول الصغيرة أو الفاشلة.
لقد أدّى إصرار الأسد على البقاء في الحكم بأي ثمن، إلى اختصار الطريق أمام روسيا، وحصر الثمن الذي ستدفعه، مقابل تحقيق مصالحها هناك، بمجرد دعم الأسد والحفاظ على نظامه ولو مؤقتًا، ومصير الأسد أصبح أحد أدوات التفاوض بيد روسيا، وبقاؤه من عدمه أصبح مرتبطًا ارتباطًا وثيقًا بمصالحها، ولا علاقة له بالعواطف أو الأيديولوجيا.
إن خشية روسيا من أن يتأثر وجودها في سورية، إذا جاء نظام حكم بديل عن الأسد يُطالبها بالرحيل، هو السبب الحقيقي وراء الدعم الروسي لبقائه، ولا مانع لديها من تقسيم سورية إلى دويلات، تكون أهمها الدولة العلوية في مناطق تواجد القواعد العسكرية الروسية غربي سورية؛ إذا ما تطلّب الأمر ذلك.
إن السيطرة على موارد الغاز الهائلة، تحت مياه البحر المتوسط، التي سوف تخضع لكل من يُسيطر على الساحل السوري، تُعتبر فوائد إضافية على هامش الأهداف الرئيسية لروسيا، فقد تحوّلت الحرب السورية إلى حرب إقليمية على الأرض السورية، بحكم تضارب المصالح بين دول إقليمية ودولية، في حين أن العرب لم يتعد دورهم التابع المنفذ للآخرين.
الصراع الدائر حاليًا حول سورية يأخذ أشكالًا متعددة، ويدور في دوائر مختلفة، منها ما هو بين أميركا وروسيا، وبين روسيا وتركيا، وبين إيران والسعودية… إلخ. وفي الوقت نفسه، فإن دولًا عدة، منها فرنسا وبريطانيا وألمانيا، لا أحد يستشيرها في قرارات وإجراءات تمسّ الوطن السوري والسيادة السورية، وفي المقابل لا يصدر عن الحكم السوري أي تصريح أو قرار ذي قيمة أو أثر، بخصوص الاحتلالات الأجنبية لمعظم أراضي البلد.
المؤكد أن روسيا والولايات المتحدة لن تخوضا أي نزاع عسكري مباشر، من أجل سورية، وإذا ما كان هنالك أي داع لخوض معارك عسكرية؛ فإن ذلك سوف يتم بأيدي سورية وعربية، بحيث يقتلون بعضهم خدمة لأهدافها، كما يجري الآن.
إن مستقبل سورية ووحدة أراضيها مرهون بمدى قناعة روسيا وأميركا وتركيا وإيران، بأن ما ستؤول إليه أمور الحكم فيها لن يتعارض مع استراتيجياتها، والجميع ينظر إلى مصالحه الوطنية بجدية، بينما تفتقد الأنظمة العربية ذلك الهدف، وينظرون إلى أوطانهم باعتبارها أرضًا وبشرًا في خدمتهم، وليست أوطانًا يقومون على خدمتها، ولا بأس أن تزول بزوالهم، وبالرغم من المآسي المروعة في المشهد السوري، والضباب الذي يُغطّي طريق الخلاص، فإن الأكيد أن الشعب السوري لن يسمح لنظام الأسد بأن يحكمه، مرة أخرى، مهما كلف ذلك من ثمن.
تشارك القوى العالمية الكبرى في الصراع السوري و “الحرب بالوكالة”، والتي باتت مرادفًا لطبيعة الاقتتال في البلاد. وعلى الرغم من الطابع غير الدولي الظاهر لطبيعة النزاع السوري، إلا أنّ العديد من الدول، التي تعدّ طرفًا ثالثًا، ساهمت في تنشيط الأزمة، ودعمت أطرافًا مسلحةً في النزاع، أو حتى ساهمت -بصورة وبأخرى- في العديد من التحالفات العسكرية والسياسية الفاعلة، سواء كان ذلك مع حكومة بشار الأسد أو مع مجموعات المعارضة المسلحة الأخرى. لم يكن لهذه التحالفات تأثير كبير على تداعيات النزاع السوري فحسب، مثل زيادة أعداد الضحايا في صفوف المدنيين وزيادة نسبة العمليات الفردية، بل أثّرت أيضًا في مسار النزاع ونتائجه. ويمكن للحرب بالوكالة أنْ تتّخذ صورًا عدّة، مثل تحالفات دول متعددة مع بعضها بعضًا، أو دولة ما تدعم دولة أخرى، أو دول تدعم جماعات مسلحة، غير شرعية لدول أخرى.
وفي الصراع السوري، حظي التحالف الروسي، سيئ السمعة، مع نظام بشار الأسد بالأهمية الكبرى، من بين جميع التحالفات الواقعة في المنطقة.
يقع جزء من مسؤولية تعزيز القانون الدولي ودعمه على عاتق روسيا؛ كونها عضوًا دائمًا في مجلس الأمن. بيد أنّ روسيا قرّرت تأييد نظامٍ يرتكب، بصورة اعتيادية، جرائم حرب شنيعة وجرائم ضدّ الإنسانية. وعلاوةً على ذلك، ارتكبت روسيا نفسها جرائم خطرة، مثل قتل المدنيين الأبرياء في غارات جوية، خلال شهرَي شباط/ فبراير وتشرين الثاني/ نوفمبر 2016، استهدفت ودمّرت مستشفيات عدّة ومدرسة في حلب. لذلك، مشروعٌ لنا أنْ نتساءل عن شرعية الانضمام الروسي إلى ركبِ نظام الأسد.
بدايةً، من المهم فَهْم عواقب التحالفات في أثناء الحروب. تشير دراسة نوعية شاملة، قام بها “إبراهيم البدوي” و”نيكولاس سامبانيس”، إلى أنّ أمَد الحروب الأهلية يزيد حينما تتدخل دول أجنبية في الصراع. وعلاوةً على ذلك، إنّ الدول المشاركة في النزاعات من خلال التحالفات هي دولٌ أقل اكتراثًا بعواقب تدخلها، كالاهتمام بأعداد الضحايا والإصابات في صفوف المدنيين؛ لأنّها لا تستهدف شعوبها الأصلية بصورةٍ مباشرة. وفي معظم الحالات، تُركّز الدول المنغمسة في الصراعات الدولية على أهدافها الجيو-السياسية، وتُبدي تعاطفًا ضئيلًا بمعاناة السكان المعنيين بالصراع بصورة مباشرة. إضافةً إلى ذلك، تُعَقِّد التحالفات الجهدَ الرامي إلى مساءلة ومحاسبة الأطراف المسؤولة عن ارتكاب انتهاكات في القانون الدولي، حيث يَصعب تحديد مسؤولية الطرف المرتكِب للجريمة. ويرى المستشارون القانونيون التابعون للجنة الدولية للصليب الأحمر أنّ الأطرافَ المشاركة في نزاعٍ ما، من خلال التحالفات، لا تتردد إطلاقًا بانتهاك القانون الدولي، لأنّها تُدرك صعوبة تحديد المسؤولية. ومع ذلك، يُمكن، بصورة مقنعة، أنْ ترتكب الأطراف الأجنبية جرائم حربٍ، بالنيابة عن شركائها المحليين.
لذا، من الضروري تقييم مساهمة روسيا في آلة الحرب الأسدية.
بدأت روسيا حملتها الجوية في أيلول/ سبتمبر 2015، بعد أنْ أصدر مجلس الأمن الدولي القرار رقم (2249)، الذي يسمح للدول الأعضاء في مجلس الأمن باتخاذ إجراءات عسكرية أحادية الجانب للقضاء على تنظيم (داعش). الأمر الذي دعا موسكو إلى رفع شعار “الكفاح ضدّ الإرهاب”، كذريعة تبررُ تدخلها العسكري في سورية. ومع ذلك، تشير الدلائل إلى أنّ هذه الغارات الجوية المعنية، بالدرجة الأولى، في استهداف تنظيم (داعش)، استهدفت في المقابل، بشكلٍ منهجي، جماعات المعارضة المسلحة التي تقاتل نظام الأسد وتنظيم (داعش) الإرهابي معًا. وعلاوةً على ذلك، ادّعت روسيا أنّها استجابت لدعوة الأسد للتدخل في سورية، ومن ثمّ احترمت مبدأ “التدخل عن طريق الدعوة”. ويسمح هذا المبدأ للقوات العسكرية الأجنبية بإحلال السلام في البلاد التي استدعتها، وذلك من دون التغاضي عن “عدم استخدام القوة ضدّ السلامة الإقليمية أو الاستقلال السياسي لأي دولة”، وإلّا تُعدّ انتهاكًا محظورًا بموجب مادة 2(4) من ميثاق الأمم المتحدة. ونتيجة لذلك، يمكن القول إنّ مبدأ الدعوة قانوني تمامًا، بموجب القانون الدولي. ومع ذلك، وكما رأينا في قضية نيكاراغوا ضدّ الولايات المتحدة الأميركية في محكمة العدل الدولية، فإنّ الدعوة صحيحة إذا ما اعتُبرت الحكومة هي الهيئة الشرعية للسلطة ضدّ القوات السياسية والعسكرية المعارضة. ومع ذلك، في الحالة السورية، اعتُرِف بالائتلاف السوري المعارض، وعلى نطاق واسع، من قبل الأغلبية العظمى من المجتمع الدولي، بأنّه الممثل الشرعي للشعب السوري. ولذلك، فإنّ نظام الأسد ليس في وضعٍ يسمح له بدعوة الدول للتدخل في النزاع، منذ أنْ فقدتْ حكومته التمثيل الشرعي للسلطة. في ضوء ذلك، يُعدّ استخدام القوة الروسية في سورية استخدامًا غير متوافق مع مفهوم “التدخل عن طريق الدعوة”؛ لذا فهو غير قانوني بموجب القانون الدولي.
إضافة إلى ذلك، عندما يُحلّل المرء واقع التدخل الروسي، يجب عدم إغفال “القانون الدولي الإنساني (IHL)”، إذ إنّ احترام القانون إلزاميٌ على جميع الدول، بموجب المادة 1 المشتركة بين جميع “اتفاقيات جنيف” و”القانون الإنساني الدولي (IHL)”. ومن خلال شنّ الضربات الجوية، تصبح روسيا جزءًا من النزاع المسلح، ومن ثمّ، ملزَمة بتطبيق واحترام القانون الدولي الإنساني. وبما أنّ الضربات الجوية الروسية تستهدف مناطق المدنيين، على نحو اعتيادي ومنهجي، وتُقدِم على تدمير البنى التحتية للمدن، مثل المستشفيات والمدارس، ولا تقوم باستهداف المناطق التي يسيطر عليها تنظيم (داعش)؛ فإن هذا يجعل تدخلَها في سورية انتهاكًا صارخًا للقانون الدولي الإنساني؛ وبالتالي يجعل دعمها العسكري المباشر لنظام الأسد غيرَ قانوني، بموجب التزاماتها الدولية.
ويتعزّز مفهوم عدم شرعية التدخل الروسي، حينما يجري تقييم نطاق الدعم هذا ومدى فاعليته وتأثيره في الواقع السوري، حيث لا يُغفل ما قدّمه الدعم الروسي من تعزيزٍ وإطالة في أمد القدرة القتالية لقوات الأسد.
فيما ينصُّ التعليق المرفق باتفاقية جنيف الأولى على أنّه “في حالة العمليات المتعددة الجنسيات، يتطلب، بموجب المادة 1 المشتركة، من الأطراف الأساسية المتعاقدة أنْ تشير إلى عملية محددة متوقعة، استنادًا إلى وقائع أو معرفة بأنماط سابقة، من شأنها أنْ تُعَدُّ انتهاكًا للاتفاقيات؛ لأن ذلك من شأنه أنْ يُشكّل مساعدة أو تقديم عون”. وفي الحالة السورية، ثبت انتظام “نظام الأسد” في ارتكاب جرائم حرب وجرائم ضدّ الإنسانية، منذ اندلاع أعمال العنف في عام 2011. وأفاد مستشارو اللجنة الدولية للصليب الأحمر أنّ المساعدة وتقديم العون لا تعني بالضرورة إجراء عمليات عسكرية بالنيابة عن الدولة المتورطة فحسب، بل يُمكن أنْ تتجسد في صورة عمليات التمويل وتوفير الأسلحة، والمساعدة في مجال الخدمات اللوجستية والاستخبارات للدولة المعنية أيضًا.
روسيا، إضافة إلى مشاركتها المباشرة في العمليات العسكرية في سورية، ينطبق عليها جميع المعايير والشروط المتعلقة بالمساعدة وتقديم العون. كما حافظت على قواعد لقواتها البرية والجوية في سورية، بل قامت ببنائها أيضًا، حيث إنها “تؤدي دورًا محوريًا في عملية إعادة الإعمار والاستثمارات الاقتصادية في سورية”، وذلك من خلال عقد صفقات نفطية، وغيرها من اتفاقيات البنى التحتية، ومن خلال توفير الدعم المالي اللازم للدولة السورية. وعلاوةً على ذلك، وقّعت موسكو مؤخرًا اتفاقيةً للحفاظ على قواعدها الجوية في سورية مدّة نصف قرن؛ ما سيمنح تحالف وشراكة البلدين صفة الديمومة.
وجدير بالذكر أنّ الأسد نقل قسمًا كبيرًا من قواته الجوية إلى القواعد الروسية، في نيسان/ أبريل الماضي، ما يدلّ، بوضوح، على التعاون العسكري الوثيق للغاية بين الدولتين. وأمّا من حيث الدعم العسكري، فقد قدّمت موسكو بصورة دائمة التأهيلَ المطلوب لدمشق، من حيث تزويدها بأحدث المعدّات العسكرية الهجومية مثل مركبة المشاة الروسية، وغيرها من المدرعات المتقدمة والطائرات المسلحة بدون طيار والطائرات المقاتلة وطائرات الهليكوبتر، ما يدلّ على التأثير غير المباشر لروسيا في قدرة نظام الأسد على الانتقال من العمليات العسكرية الدفاعية إلى الهجومية مع نجاح ساحق. وأخيرًا، نشر بوتين منظومة جمع المعلومات الاستخبارية والتنصت في سورية، من أجل تزويد نظام الأسد بمزيد من الموثوقية والفاعلية التي يمكن من خلالها الاعتداء على المناطق التي تسيطر عليها المعارضة، بشكل أكثر فاعلية.
ولذلك، فمن خلال دعم النظام السوري، بهذه الطريقة، بارتكابه فظائع موثقة ضدّ الشعب، تُقدم روسيا يد العون والمساعدة له، أي أنها مذنبة بالقدر ذاته في انتهاك القانون الدولي الإنساني.
إنّ روسيا، على الرغم من مبررات تدخلها في سورية، بقدر دعمها للنظام السوري، تنتهك بصورة صارخة القانون الدولي. ولا بدّ من وضع حدّ لهذه الانتهاكات ومحاسبة مرتكبيها. ومع ذلك، فإنّ انسحاب روسيا من “نظام روما الأساسي”، العام الماضي، يجعل من المستحيل إشهار دعوى ضدّها في المحكمة الجنائية الدولية إلّا من خلال رفع الدعوى من قبل مجلس الأمن. وهذه الإحالة غير واقعية، حيث إنّ روسيا، بموجب الحقوق الممنوحة لها بوصفها عضوًا دائمًا في مجلس الأمن، ستمارس صلاحياتها في حق النقض “الفيتو” لعدم المساس بسياستها الخارجية. ومن سوء الحظ، ليست هذه هي المرة الأولى التي تخالف فيها روسيا القانون الدولي (مثل الحرب الروسية -الجورجية وضم شبه جزيرة القرم)، الأمر الذي يؤدي إلى فتح قضايا ضدها في المحاكم الدولية. ومع ذلك، فإنّ روسيا ما فتئت تعمد إلى إساءة استخدام أحكام القانون الدولي، وتشويهها بما يُحقق مصالحها الخاصة، وقامت بالفعل ببناء حيّز يسمح لها دومًا بالإفلات من يد العدالة والمساءلة. وربما يؤكد هذا، مرةً أخرى، الاعتقاد السائد بأنّ القانون الدولي لا يفيد إلّا دول العالم القوية، ولا يُطبَّقُ إلّا حينما تقرر هذه الدول القيام بذلك.
استند موقف روسيا المؤيد للنظام، منذ الأيام الأولى لاندلاع التظاهرات في سورية -حسب معظم التقديرات- إلى ردّ الاعتبار لها كدولة عظمى، بعد استفراد الغرب بالموضوع الليبي، واستمرار بيع الأسلحة للحلفاء، وضمان عدم منافسة الآخرين، في ما يتعلق بإمداد أوروبا بالنفط والغاز الروسيين، فضلًا عن أهمية القاعدة البحرية في طرطوس من أجل تموين الأسطول الروسي في البحر المتوسط. في تلك البدايات، تداولت أوساط “المجلس الوطني السوري” معلوماتٍ، حول محاولة بعض الدول الخليجية شراء الموقف الروسي، وتقديم ضمانات لروسيا بتأمين مصالحها في سورية، في حال انتصرت الثورة، لكنّ ذلك كان مجرّد أوهام، وإن الموقف الروسي كان أبعد مدًى، واستراتيجيًا بامتياز.
خلال سنوات المأساة السورية، استخدمت روسيا حق الفيتو في مجلس الأمن، تسع مرات، كان الفيتو الأول بتاريخ 5 تشرين الأول/ أكتوبر 2011 ضد قرار أممي يدين النظام لانتهاكه حقوق الإنسان خلال قمع الانتفاضة، فيما كان الفيتو الأخير بتاريخ 24 تشرين الأول/ أكتوبر 2017 ضد التمديد للجنة التحقيق باستخدام الأسلحة الكيميائية في سورية. وفي مطلع خريف عام 2015، فاجأ الروس الجميع، ربما باستثناء الأميركيين، بتدخلهم المباشر في سورية. بدايةً، رفض الأميركيون التدخل الروسي بنعومة، واعتبروه إطالة لأمد الحرب، لكنهم سارعوا إلى التنسيق مع الروس، تفاديًا لحدوث صدامات غير مقصودة في الأجواء السورية.
مؤخرًا، دعت روسيا إلى عقد مؤتمر “الشعوب السورية” في قاعدة حميميم، ومن ثمّ أعلنت عن نقله إلى مدينة (سوتشي) على ساحل البحر الأسود، وحددت موعد انعقاده بتاريخ 18 من الشهر الحالي، كما غيّرت اسمه إلى مؤتمر “الحوار الوطني السوري”، بعد صدور العديد من الانتقادات حول مصطلح “الشعوب السورية”. ومنذ ثلاثة أيام، أعلن ناطق باسم الرئاسة التركية أن الروس أبلغوهم بتأجيل المؤتمر حتى إشعار آخر، وبعدم دعوة (حزب الاتحاد الديمقراطي) إليه.
كانت وزارة الخارجية الروسية قد نشرت قائمة بـ 33 حزبًا وهيئة سياسية معارضة، من أجل دعوتها إلى حضور المؤتمر، معظمها محدود الوزن والتمثيل، علاوة على وفد من النظام. ولم تخفِّف التصريحات الروسية اللاحقة حول النية بإجراء تعديلات على قائمة المدعوين من حقيقة ضحالة التمثيل المزمع في هذا المؤتمر، واقتصر جدول الأعمال على مناقشة “الدستور السوري” الذي وضعته، وسرّبته روسيا في الشهر الأول من هذا العام.
بعيدًا عن نكتة مناقشة “الدستور السوري” في عدة أيام، تريد روسيا طهو طبختها على نار حامية، وتشكيل مسار سياسي جديد خاص بها في (سوتشي)، بعد أن رسم مؤتمر أستانا خطوطَ الصراعات العسكرية على الأرض، وأقام مناطق خفض التصعيد بالتعاون مع الولايات المتحدة وتركيا وإيران؛ وبذلك تطوي روسيا -عمليًا- مساري جنيف 1 وجنيف 2، اللذين أكّدا على مرحلة انتقالية وإجراء تغيير سياسي تدريجي في سورية.
ما الذي يمكن أن تقدمه روسيا للسوريين على الصعيد السياسي؟
يشبه الواقع السوري الحالي واقع ألمانيا بعد الحرب العالمية الثانية، بصورة ما، حيث تحول القسم المحتل من قبل الاتحاد السوفييتي إلى ألمانيا “الديمقراطية” أو الشرقية، في حين اتحدت الأقسام الثلاثة، المحتلة من قبل الولايات المتحدة وفرنسا وبريطانيا، باسم ألمانيا الاتحادية أو الغربية. وروسيا التي ورثت الاتحاد السوفييتي إلى هذه الدرجة أو تلك، لم تزل بعيدة عن أن تكون دولة ديمقراطية، ولا يمكن أن تنتج جهودها في سورية نظامًا سياسيًا مختلفًا، بل نسخة أكثر تخلفًا من نظامها، أو، بكلام آخر، مجرد تحديث للنظام الحالي، سواء في عموم سورية إن استفردت بالحل، وهذا أمر غير واقعي، أو في المنطقة الغربية التي تسيطر عليها إلى جانب النظام.
من جهة ثانية، سيكون اقتصاد المافيا هو النموذج الأكثر ترجيحًا وحضورًا في منطقة نفوذ الروس، ولن يتغير الكثير في هذا الصدد. كما سيضفي النفوذ الإيراني، في المنطقة التي تسيطر عليها روسيا، مظاهرَ تتعلق بنشر مؤسسات التشيع ومظاهره الدينية والاجتماعية، إن لم تحدث تطورات تضع حدًا لطموحات إيران المتزايدة، فمواجهة الإسلام السياسي السني لا يمكن أن تنجح، من دون مواجهة نظيره الشيعي والأحلام الإمبراطورية الإيرانية من ورائه. نشير هنا إلى أن الخطوات الأميركية الأخيرة للتضييق على إيران وامتداداتها الإقليمية، فضلًا عن دلالة استقالة رئيس الوزراء اللبناني سعد الحريري، قد تؤشر إلى قيام الحلف المناهض لإيران، بمحاولات جدية لوقف التمدد الإيراني في المنطقة العربية، وإن كانت المؤشرات الداخلية السعودية هي السبب المرجح وراء استقالة الحريري.
عمومًا، يمكن القول إنّ ما سيحدث في “سورية الغربية” هو استمرار الشراكة بين روسيا وإيران والنظام الحالي، حسب الحاجة والمصلحة. هذه الحالة لن تكون قابلة للحياة على الأرجح، وربما سيفضي التباين المتزايد مع واقع المناطق السورية المجاورة إلى انهيارها، كما حدث لألمانيا الشرقية عام 1989. كما تتمثل نقطة الضعف في هذا السيناريو، لحسن الحظ، بضعف استقرار النظامين السياسيين في روسيا وإيران، وتأثير تغير السياسات في أي من هذين البلدين، أو في كليهما، على تحقُّقه.
في المقابل، ستكون المناطق الشمالية الشرقية، الواقعة تحت النفوذ الأميركي، مفتوحةً أمام الاستثمارات الأجنبية كامتداد للاقتصاد الليبرالي الغربي؛ ما سيساهم في سرعة تطورها واندماجها مع فعاليات الاقتصاد العالمي (منذ الآن، بدأ الحديث عن إعمار الرقة من قبل مستثمرين سعوديين بتوجيه أميركي). في حال تحقق هذا السيناريو، ربما ستكون البادية السورية ممرًا أميركيًا لوصل المناطق الشمالية الشرقية بالمنطقة الجنوبية الغربية، هذا ما يمكن استنتاجه من احتفاظ الأميركيين بقاعدة (التنف)، التي لا يمكن أن تقتصر وظيفتها على إعاقة وصول الإيرانيين إلى دمشق، ما دام منفذ (البوكمال) الحدودي مع العراق مفتوحًا.
ولن تخرج المناطق الخاضعة للنفوذ التركي في الشمال السوري، عن النموذج السياسي والاقتصادي السائد في هذا البلد، وكأن التاريخ يعيد نفسه في ما يتعلق باجتياح الأتراك لشمال جزيرة قبرص في عام 1974، وإنّ حكومة “الإنقاذ الوطني” و”الجيش الوطني” اللتين أُعلن عنهما مؤخرًا في مدينة إدلب، هما -على الأغلب- مجرد تسميتين مخادعتين أخريين لنيّة تركيا اقتطاع هذه المحافظة، بعد جيب إعزاز، ما لم يتم الوقوف في وجه الطموحات التركية أو تحقيق تسوية سياسية مقبولة، بالنسبة إلى جميع السوريين، فالخطر التركي يتمثل بقضم الجغرافية السورية كأمر واقع، في حين لا يمكن للدول الأخرى ذات النفوذ في الأرض السورية القيام بذلك؛ بسبب عدم وجود حدود مشتركة.
يرتبط تحقق السيناريوهات السابقة أو فشلها، باستمرار التحالفات الدولية الحالية أو تغيرها، وباستعادة “الوعي السوري” أو استمرار غيابه؛ ما يترك المجال مفتوحًا لإعادة إنتاج سيناريو سوري آخر في المستقبل، وبما يشبه توحيد ألمانيا في 3 تشرين الأول/ أكتوبر عام 1990، بعد تفكك المنظومة الشرقية للاتحاد السوفييتي.
منذ إعلان الرئيس الأميركي عدم طلبه من الكونغرس تصديق الاتفاق النووي مع إيران (13/ 10)؛ تزايدت التصريحات المتشددة، الصادرة عنه وعن عديد من أركان إدارته، بخصوص وضع مزيد من القيود على الاتفاق المذكور، وحث الدول الأوروبية على اتخاذ موقف مماثل ضد إيران، وحتى الامتناع عن توطيد العلاقات الاقتصادية معها، وصولًا إلى التوجه نحو فرض مزيد من العقوبات عليها، وعلى الميليشيات التابعة لها، ولا سيما “حزب الله” اللبناني، وهي الأمور التي باتت موضع اهتمام فعلي في الكونغرس الأميركي، في الأسبوعين الماضيين؛ ما نجم عنه استصدار أربعة مشاريع قوانين عن مجلس النواب الأميركي، ينتظر رفعها إلى مجلس الشيوخ لمناقشتها، ثم إلى الرئيس لتصديقها.
يستنتج من ذلك أن إيران باتت في إطار الاستهداف الأميركي، وأن فترة السماح الأميركية لإيران، أو فترة الاستثمار الأميركي بإيران في المنطقة، قد انتهت، وهو ما تحدثت عنه في مادة سابقة هنا قبل أسبوعين (16/ 10)، إذ أضحت معظم مراكز صنع القرار في الولايات المتحدة الأميركية تركز على الخطر الإيراني، ليس في منطقة الشرق الأوسط فحسب، وإنما في ما يخص الأمن القومي الأميركي مباشرة.
من متابعة التصريحات والمواقف الأميركية؛ يتضح أن رؤية الرئيس دونالد ترامب لإيران تقوم على عدة محددات: أولاها، اعتبار إيران مسؤولة عن نشر الموت والدمار والفوضى في العالم، بدلالة احتلال السفارة الأميركية في طهران (1979)، وتفجير السفارة الأميركية في بيروت مرتين (1983 و1984)، وقتل 241 جنديًا أميركيًا في ثكناتهم في بيروت (1983)، وقتل 19 جنديًا أميركيًا في تفجير لمساكنهم في السعودية، وتنظيم عمليات ضد القوات الأميركية في العراق. وثانيتها، اعتبار إيران أكبر داعم للإرهاب في العالم، وضمن ذلك اتهامها بمساعدة تنظيم “القاعدة” وحركة طالبان في أفغانستان، و”حزب الله” في لبنان وشبكات أو منظمات أخرى تعتبرها الولايات المتحدة إرهابية. وثالثتها، الاعتقاد أن إيران تطوّرُ وتنشر صواريخ تهدد القوات الأميركية وحلفاءها، وأنها تضايق السفن الأميركية وتهدد حرية الملاحة في الخليج العربي والبحر الأحمر. ورابعتها، اعتبار أن النظام الإيراني يقمع مواطنيه، ويوقد العنف في العراق وفي اليمن وسورية، وأنه يدعم الأعمال الوحشية للنظام في سورية. وخامستها، التأكيد أن إيران تتعاون مع كوريا الشمالية في مجال التسلح. وسادستها، النظر إلى الاتفاق النووي الذي أبرمته إدارة أوباما (بالشراكة مع حلفائها الأوروبيين) مع إيران، من أسوأ الاتفاقات في تاريخ الولايات المتحدة، كونه يؤجل تمكين إيران من السلاح النووي بدلًا من أن يضع نهاية له.
يتبين من تلك القائمة أن التوجهات الأميركية ضد إيران تأتي بمفعول رجعي، أي لا تتعلق بالسياسات الإيرانية الحالية فحسب، وأنها لا تنبع فقط من التخوف من امتلاكها السلاح النووي مستقبلًا، ولا من إشاعتها الاضطراب والتصدع الدولي والمجتمعي في بلدان الشرق الأوسط، وإنما هي تنبع، أيضًا، من أسباب أميركية بحتة، تخص الأمن القومي الأميركي مباشرة، كما هو واضح. بل إن إدارة ترامب، في هذا السياق، باتت تروج لفكرة تقول: “كما مع كوريا الشمالية، كلما تجاهلنا خطرًا معينًا؛ أصبح هذا الخطر أكبر”.
أما مرتكزات السياسة الأميركية التي تصبّ في مواجهة النظام الإيراني، فهي تنطلق، أولًا، من ضرورة تشكيل جبهة من الحلفاء لوضع حد لتوجه إيران إنتاج أسلحة نووية، أو أسلحة صاروخية بالستية. ثانيًا، تقليم أظافر إيران، وتقييد قدرتها، وتحجيم نفوذها الإقليمي، وضمن ذلك إضعاف قدرتها على زعزعة الاستقرار في الشرق الأوسط، ودعم الجماعات الميليشياوية الإرهابية. ثالثًا، فرض عقوبات على النظام الإيراني واتخاذ الإجراءات التي تحد من قدرته على تمويل أنشطة تلك الجماعات.
على هذه الخلفية، جاء تصويت مجلس النواب الأميركي (الخميس الماضي) على عدة مشاريع قرارات موجهة ضد النظام الإيراني وسياساته وتوابعه، ومن المهم هنا التنويه إلى أن ذلك حصل بأغلبية 423 من أصل 435 من الأعضاء، وذلك تمهيدًا لطرحها على مجلس الشيوخ، وبعد ذلك تصديقها من الرئيس، وتاليًا إصدارها على شكل قوانين، ما يوضح المناخ السائد لدى المشرعين الأميركيين ضد إيران، وأن هذا يشمل مطالبة الولايات المتحدة من حلفائها الالتزام بإصدار مثل هذه العقوبات.
مثلًا، ثمة مشروع قرار ضد برنامج الصواريخ الباليستية الإيرانية، وهو ينصّ على فرض عقوبات على الهيئات الحكومية الإيرانية التي تعمل في مجال تطوير ودعم برنامج الصواريخ الباليستية (التي تحمل أسلحة نووية) والأسلحة التقليدية، والكيانات الأجنبية التي توفر المواد اللازمة لهذا البرنامج أو تسهلها أو تمولها، والأشخاص الأجانب والوكالات الحكومية الأجنبية التي تستورد أو تصدر أو تعيد تصدير الأسلحة المحظورة أو المواد ذات الصلة من إيران وإليها، وعلى أي أشخاص أو كيانات تنقل السلع والتكنولوجيات التي تسهم في دعم قدرة إيران على حيازة أو تطوير الصواريخ الباليستية، بما في ذلك تكنولوجيا الإطلاق، وفرض عقوبات على الأسلحة التقليدية المتقدمة وأي أعمال تؤدي إلى زعزعة الاستقرار. بل إن العقوبات تشمل تجميد الأصول داخل الولايات المتحدة، ومنع الدخول إلى الولايات المتحدة ومنع الواردات والصادرات، إضافة إلى فرض عقوبات جنائية أو مدنية على الكيانات الداعمة لبرنامج الصواريخ الباليستية الإيرانية.
كما ثمة مشروع القرار الخاص بفرض عقوبات على “حزب الله” اللبناني، بل على الحكومات الأجنبية والأفراد والشركات التي تدعمه وتقدم له الأموال، وهذا يعني، أيضًا، إدراج وزارة الخارجية الأميركية إيران كدولة راعية للإرهاب، بسبب دعمها “حزب الله”، إضافة إلى أنشطتها الإرهابية الأخرى في المنطقة والعالم. بل فوق كل ذلك، كما قدمنا، فثمة مشروع قانون آخر يطالب الاتحاد الأوروبي، بإدراج “حزب الله” على قائمة المنظمات الإرهابية وعدم الفصل بين جناح سياسي لـ “حزب الله” أو جناح عسكري، بل تعيين “حزب الله” بكل ميليشياته منظمة إرهابية.
من المهم جدًا، متابعة تطورات الموقف الأميركي من النظام الإيراني؛ لأن هذا الأمر سيؤثر كثيرًا في شكل الصراعات الدائرة في منطقتنا، كما في تموضع القوى الإقليمية الأخرى فيها، وبالتأكيد فهو سيؤثر كثيرًا في مصير بلدان المشرق العربي، بخاصة العراق وسورية ولبنان.
في وقت من الأوقات، كانت لتنظيم داعش دولة.. كان عناصره يسيطرون على مساحات واسعة من العراق وسوريا، ويستخرجون النفط ويبيعونه.. كانوا يعملون في التجارة، ويحكمون المدن.. أسسوا دولة بالمعنى الكامل للكلمة..
ثم اتضح، وإن كان في وقت متأخر، أنهم بدؤوا يشكلون خطرًا على العالم، فانطلقت العملية لمواجهتهم...
أقام الجيش العراقي تعاونًا مع قوات البيشمركة فدخل مدينة الموصل، وتم إخراج تنظيم داعش من قضائي تلعفر والحويجة..
وفي سوريا أيضًا لم يتمكن التنظيم من الصمود..
تم تطهير الحدود الجنوبية لتركيا..
استولى الجيش السوري (قوات الأسد) على الميادين ودير الزور، في حين سيطرت وحدات حماية الشعب الكردية المدعومة من الولايات المتحدة على مدينة الرقة..
والنتيجة.. فقد التنظيم 96% من الأراضي التي كان يسيطر عليها..
بقيت منطقة صغيرة في يده.. سوف يفقدها هي الأخرى..
السؤال الذي يطرح نفسه الآن، إلى أين ذهب مقاتلو داعش؟
قيل في وقت من الأوقات أن أعداداهم بلغت 80 ألفًا..
فماذا حدث؟
هل تبخروا؟
جزء منهم قُتل في المعارك.. لكن لم يُعلن أين وكم عددهم.. كما لم تُحدد جنسيات القتلى..
هل جميع من قُتل من العراقيين العرب؟
هل هم من السوريين؟
هل هناك مقاتلون تركمان بينهم؟
كم تركيًّا قُتل هناك من بين من ذهبوا من تركيا؟ وهل أسماء هؤلاء معروفة؟
على سبيل المثال كم فرنسيًّا وألمانيًّا وشيشانيًّا وبلجيكيًّا سقطوا بين القتلى؟
كلها إشارات استفهام..
جزء منهم أُلقي القبض عليه.. كم واحدًا دخلوا السجن؟ من هم المسجونون؟ من أي الجنسيات هم؟
لم تُنشر مشاهد لهم ولا صور..
جزء منهم عاد إلى بلاده.. على سبيل المثال، يُقال إن 900 من أصل 1500 تركي عادوا إلى بلادهم.. هل أسماؤهم معروفة؟ هل تتابعهم السلطات؟
السؤال نفسه مطروح بالنسبة للأوروبيين من عناصر التنظيم، وينطبق الأمر على الأفارقة والآسيويين..
إلى أي بلد توجه عناصر داعش الفارون من مناطق القتال؟
أو عبر أي بلد فروا وعادوا إلى بلدانهم؟
أعتقد أنه..
إما أن العالم بالغ كثيرًا بشأن تنظيم داعش.. لم يكن عدد عناصره 80 ألف مقاتل.. على الأكثر ثمانية أو عشرة آلاف.. جزء منهم قُتل، وجزء فر.. وجزء في السجن.. وجزء آخر ما زال يقاتل..
وإما أن عددهم حقيقة 80 ألفًا.. نصفهم على الأقل، أو لنقل ثلثهم فر وعاد إلى بلاده..
إذا كان الأمر كذلك فهذا معناه أن العالم في خطر كبير..
عندما تترك الحروب في الشرق الأوسط انطباعًا بأنها تضع أوزارها فاعلموا أنها تزحف نحو مكان آخر. بينما ينتشي نظام الأسد وروسيا وإيران بسكرة النصر تظهر ديناميات صراع جديد، وتنعقد تحالفات جديدة. تبحث الصراعات الإقليمية والعالمية عن ساحات جديدة ولاعبين جدد، أو أنها تجس نبض الساحات القديمة، كلبنان.
وبينما كانت المنطقة غارقة في الأزمة السورية لم يلفت لبنان كثيرًا انتباه القوى الإقلمية والعالمية. وبقي في الظل على الرغم من أزمة الرئاسة، واحتجاجات تراكم القمامة، والاقتتال الطائفي على نطاق ضيق في المناطق القريبة من الحدود السورية، واعتداءات حزب الله على مخيمات اللاجئين، وعمليات الاغتيال.
لكن بالنظر إلى التطورات الأخيرة، ومع تراجع حدة الاشتباكات نسبيًّا في سوريا، يبدو أن الصفيح سيسخن تحت لبنان، وسيكون هذا البلد الصغير المتعب من الحروب مسرحًا لاقتتال وتصفية حسابات لم تنتهي.
ومن الزاوية التي تهم لبنان عن كثب، تركت الحرب السورية المنطقة في مواجهة موجة جديدة من التمدد الإيراني، الذي كان حزب الله ظاهرته في لبنان.
تجنب الحزب الدخول في صراعات داخلية قدر الإمكان عندما كان مشغولًا في سوريا، وفي المقابل، لم تكن الجبهة المناوئة له قادرة على الدخول في مثل هذا الصراع معه.
منذ مدة طويلة، بسطت إيران في لبنان هيمنتها، التي كانت تسعى إلى فرضها في سوريا أيضًا. وعلى الجانب الآخر، كانت إسرائيل مسرورة جزئيًّا بانشغال حزب الله في سوريا، لأن الحدود اللبنانية كانت تعيش واحدة من أهدأ الفترات في تاريخها.
بيد أن المشكلة تمثلت في خروج حزب الله من الحرب السورية أقوى مما كان عليه، والأدهى من ذلك، بينما كانت إسرائيل تشكو من حزب الله فقط، أصبحت مضطرة لمجاورة عشرات الآلاف من عناصر الميليشيات الشيعية.
لنحتفظ بهذه المعلومات في أذهاننا، ونلقِ نظرة على آخر التطورات: أعلن ترامب عن استراتيجيته لعزل إيران، لكن من الصعب أن تحقق نتائج على الصعيد الإقليمي. ويبدو هدفها الوحيد مواجهة حزب الله بشكل يرضي إسرائيل.
في السعودية يستعد ولي العهد محمد بن سلمان لتسلم الحكم. ولم تكن حملة الاعتقالات إلا سعي لتمهيد الطريق أمامه. وفي هذه الأثناء، يقول سمير السبهان وزير الدولة لشؤون الخليج العربي إن حزب الله سوف يُحاسب في الأيام القادمة وإن الحل يكمن في القضاء عليه.
ومن السعودية، يستقيل رئيس الوزراء اللبناني سعد الحريري وهو يوجه الاتهامات إلى حزب الله وإيران، فيما يُطلق صاروخ باليستي من اليمن باتجاه العاصمة السعودية الرياض.
أما إسرائيل فتقول إن حزب الله، الذي يملك 50 ألف مقاتل و100 ألف إلى 150 ألف صاروخ، بنى مصانع صواريخ في لبنان، وتجري التحضيرات لضربها.
كل المؤشرات تدل على أن الاستراتيجيات الأمريكية والإسرائيلية والسعودية لمكافحة المد الإيراني ستتجمع في لبنان أو حزب الله. بيد أن مهمة هذه التحالف صعبة للغاية.
فالولايات المتحدة تعيش جوًّا مكفهرًّا على صعيد السياسة الداخلية، والأرض تهتز تحت تحالفها مع حزب العمال الكردستاني في سوريا. ولي العهد السعودي دخل في مرحلة جديدة وهشة عقب الاعتقالات. في حين تواجه إسرائيل حزب الله أقوى وإيران ذات إمكانيات أكبر.
فمن يخرج منتصرًا من هذا الصراع؟ من الصعب التكهن بالنتيجة حاليًّا، لكن الأمر المؤكد أن الشعب اللبناني سيكون الضحية من جديد.
تشتد حدة الصراع بين حركة نور الدين زنكي وهيئة تحرير الشام في ريف حلب الغربي، بالتوازي مع استمرار التجييش الإعلامي والعسكري بين الطرفين، في الوقت الذي شهدت فيه الأيام الماضية اشتباكات عنيفة بين الطرفين على جبهات الأبزيمو ودارة عزة ومناطق أخرى استخدمت فيها الدبابات والرشاشات الثقيلة، راح ضحيتها العديد من عناصر الطرفين.
كانت حركة نور الدين زنكي المنضوية تحت لواء فصائل الجيش السوري الحر أحد المكونات العسكرية التي ضمها تشكيل "هيئة تحرير الشام" الذي أعلن عنه في نهاية شهر كانون الثاني 2017، ساهمت بتطعيم "جبهة فتح الشام" بصبغة تنوع ضمن فصائل من الحر وفصيل متهم بـ"الإرهاب" دولياً، شكل هذا الأمر صدمة كبيرة للفصائل التي تخاصمها تحرير الشام أبرزها فصائل الحر والتي وجدت في تصرف الزنكي ضربة للمشروع المعتدل ضد "بغي" تحرير الشام المتتابع ضدها.
إبان الاقتتال مع أحرار الشام وبعد أن تصاعدت التصريحات الدولية ضد هيئة تحرير الشام وبدء الهيئة بالإعداد لإنهاء الأحرار، أدركت حركة نور الدين الزنكي أو الوقت حان للانشقاق، وللوقوف في موقف الحياد بعيداً عن الصراع بين أكبر مكونين في الشمال، ربما لأنها لم تستطع كبح جماح البغي المتأصل في جذور هيئة تحرير الشام وسابقاتها "فتح الشام والنصرة" والذي تنتهجه قياداتها منذ بداية ظهورها، ففضلت الانشقاق.
أعلنت حركة نور الدين زنكي انشقاقها عن هيئة تحرير الشام في 20 تموز 2017 معللة ذلك بسبب انحراف البوصلة عن مسارها وانحراف البندقية، وعدم تحكيم الشريعة تجلى ذلك في تجاوز لجنة الفتوى في الهيئة وإصدار بيان عن المجلس الشرعي دون علم أغلب أعضائه، وعدم القبول بالمبادرة التي أطلقها العلماء، وتجاوز مجلس شورى الهيئة وأخذ قرار بقتال أحرار الشام علماً أن تشكيل الهيئة بني على أساس عدم البغي على الفصائل.
انشقاق الزنكي وعودتها للصف الأول الذي كانت فيه كفصيل معتدل ضمن الجيش السوري الحر، جعلها في مواجهة مباشرة مع هيئة تحرير الشام التي لن تقبل قطعاً بهذا الانشقاق واعتبر ضربة موجعة لها في وقت عصيب.
كما أن انشقاق العديد من المكونات عن هيئة تحرير الشام أبرزها "جيش الأحرار" دفع الهيئة للخوف من تكتل هذه القوى مع من بقي من أحرار الشام الذي قوضت قوته في كيان واحد يواجه الهيئة مستقبلاً وبالتالي وجود كيان قادر على منافستها في القرار، وهذا ماترفضه الهيئة وتعمل على إنهاء كل صوت أو قوة تقابلها منذ 2014، لذلك كان لابد من خلق التبريرات تباعاً والتحرشات للوصول لمرحلة الصدام مع الزنكي وإنهائه وتأديبه.
كما أن رفض الزنكي مؤخراً لدخول القوات التركية للمناطق التي تسيطر عليها الحركة بحجة عدم التنسيق معها، كونها تريد أن تكون جهة معنية غير مغيبة عما يدور من اتفاقيات سرية بين هيئة تحرير الشام وتركيا، وتنظيمها ماعرف بالاتحاد الشعبي في ريف حلب الغربي كواجهة مدنية لها، جعل الحركة في موضع سخط تركي كبير وبالتالي سقوط ورقتها كما سقطت ورقة الأحرار من قبل.
التحرشات الممتدة من اغتيال "السيد برشة" قائد كتيبة تلعاد وصولاً للاشتباكات التي شهدها ريف حلب الغربي بين الطرفين في شهر آب، ثم عودة التوتر من جديد من اختلاق حجج إضافية للمواجهة كانضمام مجموعات أو اعتقال شخص، كلها تشير لأن قرار إنهاء الزنكي قد اتخذ وبات في موضع التنفيذ كما حصل مع فصائل أخرى في وقت سابق ربما كشفت التسريبات الصوتية لقيادات من الهيئة كيف كانت تحاك هذه التحرشات ويتم استغلال قضايا صغيرة لإنهاء مكون ما في الشمال، لإن تحرير الشام باتت ترى نفسها الطرف الوحيد القادر على تملك المنطقة والتفاوض مع تركيا، وحكم المنطقة مدنياً ولن تقبل قطعاً بوجود أي طرف ينافسها في ذلك ولن تدخر أي جهد في تحقيق هدفها الذي بدأت فيه منذ 2014 مهما كلفها من دماء.
ربما تكون الزنكي قد أخطأت في انضمامها لفصيل شارك في إنهاء أكثر من 20 فصيلاً من الجيش السوري الحر وصولاً لأحرار الشام، وزجت نفسها في موقع مواجهة من هذه الفصائل ومايقابلها في التوجه كونها غدرت بهم حسب رأيهم، ولكن بالتأكيد إن الزنكي اليوم هي ضحية البغي الذي تمارسه هيئة تحرير الشام ضد فصائل الشمال ولربما كانت هذه المواجهة حتمية مع الهيئة سواء كانت انضمت لها أو لم تنضم، لأنها تبقى فصيل مؤثر يسيطر على بقعة جغرافية واسعة في ريف حلب وشمال إدلب لن تقبل تحرير الشام بوجوده قطعاً وبالتالي النهاية واحدة.
تصب جميع الاستهدافات التي تتعرض لها مذخرات ميليشيا " حزب الله " في سورية, في عرض نهاية الطريق لتلك الميليشيا داخل الأراضي السورية برغبة دولية .
لاسيما آخر تلك الاستهدافات كانت الغارة الإسرائيلية في 01 . 11 . 2017 على مستودعات الحزب في "حسياء" جنوب مدينة حمص.
وفي المسار ذاته توالت الأحداث داخل الحكومة اللبنانية , لتكون بمثابة زيادة الضغط على وجود الحزب , آخرها استقالة رئيس الحكومة "سعد الحريري" والتي لا تخلو أيضاً من مآرب أخرى لسنا بمعرض الحديث عنها .
تعد أهم المعطيات التي يضطلع بها الحزب لمد جذوره في المنطقة , بالانتصارات التي أراد تحقيقها من خلال مساندته لنظام الأسد , والتوسع بمرجعية الحزب وأفكاره في العمق السوري من ناحية أخرى .
يتضح بعد حين أن قادات حزب الله على تأهب دائم لما سيصدر من قرارات واتفاقيات من شأنها الحد من سيطرته على مناطق في سورية أو بتر أطرافه بشكل كامل بعد انتهاء الاعمال المبتغاة من عناصر الحزب فيها. فما تلك الضغوطات الا نتيجة اتفاقيات دولية تقضي بعدم السماح بوجود قوات لإيران وحزب الله في سورية.
وبدى ذلك جلياً بعد انتقال روسيا على الأراضي السورية من صفة "المتدخل المستشار" الى "المتدخل الفاعل" وصولاً الى حلولها محل النظام السوري فيما يتعلق بإدارة الدولة بعمقها الإستراتيجي. ليتجه الحزب الى تحقيق تطلعاته بعد التيقن أن الحزب لن يبقى في سورية بثقله العسكري ولو بالحدود الدنيا. خاصة أن "حزب الله" ليس كأي حزب في بنائه العقائدي وهيكليته وآليات عمله , فما كان منه إلا إيجاد صلة الوصل لمستقبله في سورية والاستمرار كحالة عسكرية , وذلك بإيجاد اليد الطولة الحافظة له ولوجوده معتمداً بذلك على شخصيات سورية لا يشك بانتمائها وولائها .
وما تلك الشخصيات إلا من أبناء سورية منبتاً ونسباً, لكن لبوسهم وعملهم يندرج ضمن النسق العام والخاص "لحزب الله" لينتقل الحزب بهم من الباحث عن ميليشيات تسانده في حربه المزعومة , الى ميليشيات تنتهج نهجه وتسير بحمله الذي يتبناه منهجاً وعقيدة وعمل .
دغدغ الحزب مشاعر البعض منهم بالشعارات العقدية كزعمه الولاء "لآل البيت" باعتبار أولئك الأشخاص يعود نسبهم "لآل البيت" كما يفترض. والدعم السخي لتحقيق أحلامهم بقيام علاقات تشاركية معهم.
متن الحزب خلال سنوات من العمل على تنمية أفكاره وآليات عمله لدى تلك الشخصيات , لتفضي النتائج بانسلاخ تابعيه عن محيطهم وبيئتهم متبنين عقيدة الحزب بأفكاره وأهدافه . فباتوا أصلاء أصحاب مبدأ وقضية لا وكلاء عن الحزب.
تجلت تلك الصورة في تشكيلات عسكرية انتشرت في عدة محافظات في سورية , منها "لواء الإمام الباقر" بقيادة "عمر الحسين" . يضم هذا اللواء مقاتلين من أبناء قبيلة "البقارة" في حلب , جيش العشائر المنتشر في مناطق الرقة بقيادة "تركي البوحمد" ولن يكون آخر هذه التشكيلات "قوات النخب" التي أسسها "نواف راغب البشير" تحت غطاء حزب الله ودعمه الكامل .
تجارب عدة , اكسبت حزب الله قدرة على المناورة والحركة بما يفيد تمتين قواه . وحتى وقتنا هذا وبالأخص على الأراضي السورية , ورغم أنه مترنحاً إلا أنه لا يفتئ البحث عن كافة المعطيات بشتى السبل للبقاء . ليثبت في كل حين انه العدو الأخطر على معطيات التحرر التي ضحى لأجلها الشعب السوري .
أعلنت روسيا، وهي توجه تهديدًا للمعارضة السورية، أنها ستعقد مؤتمر الحوار الوطني يوم 18 من الشهر الجاري، في مدينة سوتشي بمشاركة جميع الفصائل السورية. أما التهديد فكانت فحواه أن المجموعات التي ترفض المشاركة في المؤتمر أو تضع شروطًا أولية، لن تجد لها مكانًا في الحل السياسي، وهذا يعني أن المعارضة الرافضة لمشروعية الأسد ستبقى خارج اللعبة.
أكثر من نصف المجموعات الثلاثة والثلاثون المدعوة للمؤتمر يتشكل من تيارات على توافق مع نظام دمشق، وليس من المعارضة.
كما أن روسيا أقدمت على حملة أخرى، فدعت حزب الاتحاد الديمقراطي، الذي تعتبره تركيا تنظيمًا إرهابيًّا إلى الاجتماع (روسيا سمحت للحزب بفتح مكتب له في موسكو، وهي لا تعتبره تنظيمًا إرهابيًّا).
وهكذا كانت روسيا تخطط لحل سياسي، من خلال إضعاف المعارضة وموقف تركيا في آن معًا. لكن أنقرة أحبطت هذه اللعبة.
نقلت أنقرة رسالة إلى موسكو رسالة مفادها أن مشاركة حزب الاتحاد الديمقراطي في الاجتماع غير مقبولة، وأن تركيا لا تشارك في اجتماع يحضره الحزب، ولا قيمة لاجتماع بلا تركيا.
الائتلاف الوطني السوري والهيئة العليا للمفاوضات اعتبرا الاجتماع مؤتمرًا بين النظامين (الروسي والسوري)، وأعلنا عدم مشاركتهما فيه.
وبحسب آخر تصريح للمتحدث باسم الرئاسة التركية إبراهيم قالن يبدو أن روسيا ألغت الاجتماع. نعم، تركيا أحبطت حاليًّا هذه اللعبة. أقول حاليًّا لأنه ليس من الواضح أي مناورات ستقدم بها روسيا لاحقًا.
وعلاوة على حماية الأسد المسؤول عن مقتل 350 ألف بريء بحسب توثيق منظمات حقوق الإنسان (الأرقام غير الرسمية أعلى من 600 ألف) فإن لمؤتمر سوتشي غاية أخرى، وهي مناقشة الدستور السوري الجديد، الذي أعدته موسكو في يناير/ كانون الثاني الماضي.
وبموجب الدستور المذكور والمكون من 85 مادة سيكون بإمكان الأسد البقاء في السلطة 18 عامًا اخرى.
ولتحقيق ذلك، كانت روسيا تعتزم طرح قضية تشكيل حكومة وحدة وطنية في ظل الأسد.
الهدف الثالث من المؤتمر هو تشكيل سلطة جديدة خارج الأمم المتحدة من أجل الإشراف على حل سياسي. لأن إعلان جنيف الذي تبنته الأمم المتحدة ينص على مرحلة انتقالية من دون الأسد. في حين أن روسيا كانت تخطط، من خلال مؤتمر سوتشي، لمرحلة انتقالية مع الأسد.
ولأن المعارضة الحقيقية ستكون أقلية في اجتماع يشكل فيه الموالون للأسد الأكثرية، كان من الممكن لروسيا امتلاك فرصة استصدار القرارات التي تريدها.
كما أنها كانت تريد من خلال هذا الاجتماع تحويل صورتها من شريك للنظام في إراقة دماء الأبرياء في سوريا إلى بلد محب للسلام، لكن ذلك لم يحدث.
وهكذا اتضح للعالم مرة أخرى أنه لا يمكن اتخاذ قرار في المنطقة من دون تركيا.