في طريقه إلى فنلندا للاجتماع بقيادات 12 دولة أوروبية والتداول في شأن غايات روسيا من تحركاتها في أوروبا الشرقية «سابقاً»، أدلى وزير الدفاع الأميركي جيمس ماتيس بتصريح لافت للصحافيين حيث قال: «أؤيد المفاوضات الرامية إلى إنهاء الحروب الدائرة في سورية منذ ست سنوات بما فيها إنهاء تنظيم داعش». وتابع: «لقد عبّر وزير الخارجية تيلرسون للمبعوث الأممي عن الملف السوري، ستيفان دي ميستورا، وبقوة، عن الموقف الأميركي من محادثات السلام في آستانا التي تدعمها موسكو، وأوضح الوزير تيلرسون كيفية الانتقال من آستانا، والعودة إلى جنيف، حيث واشنطن تشارك الأمم المتحدة في عملية المفاوضات وتدعم الدفع بها قُدماً».
العارف بالتقاليد السياسية الأميركية يدرك أن وزير الدفاع الأميركي، المعيّن في البنتاغون مباشرةً من الرئيس الأميركي، عادة ما يكون مدنياً وليس عسكرياً. إلا أن الرئيس ترامب اختار لهذا المنصب جنرالاً مخضرماً في الحياة العسكرية، صرف نفسه لها حتى أُطلق عليه لقب «الراهب المحارب»، وهو الرجل الستيني الأعزب الذي اختار البيت العسكري عائلة له. فالمؤسسة الجمهورية التي تؤمن بالحسم العسكري عندما يستحيل العمل السياسي أو الديبلوماسي، في حل أزمة معقّدة ومتعدّدة الأوجه والذرائع كالحالة السورية، اختار رأسها هذه المرة أن يدعم الديبلوماسية الأممية لإيجاد مخارج سياسية للحرب السورية، لا سيما أن تنظيم «داعش» الإرهابي قد شارف على الاندحار والسقوط تماماً في العراق وسورية بعد أن انهارت عاصمتاه على التوالي، في الموصل ثم في الرقة، وقتل من قتل من أفراده وفرَّ من فرّ.
اختار ماتيس أن يدعم المسار السياسي في جنيف للمضي في محادثات السلام السورية التي من المفترض أن تستأنف في 28 تشرين الثاني (نوفمبر) الجاري بعد توقف طال أشهراً ثلاثة، وكذلك إثر فشل محادثات آستانة في جولتها السابعة أمام تمسك المعارضة بشرط خروج الميليشيات الإيرانية من الأرض السورية بتشكيلاتها كافة: العراقية والإيرانية والأخرى العابرة للقارات، حيث استقدمت إيران ودربت أجانب ضمن مجموعات طائفية مقاتلة كفرقة «فاطميون» وفرقة «زينبيون». وقد سبق أن اعترفت طهران بأنها جنّدت الفرقة الأولى من السجناء الأفغان الذين أفرجت عنهم شرط القتال في سورية، بينما شكلت الثانية من باكستانيين شيعة يسكنون إيران.
وبينما يرتفع إمكان التصادم الميداني بين القوات الروسية والأميركية على الأرض السورية بعد تراجع «داعش»، حيث كل طرف يساند طرفاً معادياً، تتريث الولايات المتحدة التي تدعم المعارضة في التصعيد الميداني في مواجهة روسيا داعمة النظام، ولتتحوّل إلى المعركة السياسية في جنيف كما نقلتُ أعلاه على لسان وزير الدفاع الأميركي. كما ارتأت واشنطن أن تدعم مساعي المملكة العربية السعودية لإقامة حوار سوري وطني شامل يجمع فرق المعارضة بطيفها الواسع للتوجه إلى جولة جنيف 8 بوفد وطني مهني صاحب كفاءات عالية أُطلق عليه اجتهاداً «وفد كسر العظم»، حيث من المفترض أن يكون قادراً على الأداء التفاوضي بأعلى مراتبه الديبلوماسية والسياسية والإجرائية بهدف تحصيل حقوق الشعب السوري سياسياً فيما لم نحصّله ميدانياً للأسف بسبب الدخول الروسي الرسمي والإيراني الميليشياوي المباشر لإنقاذ منظومة حكم الاستبداد في سورية.
أما عن التغلغل الإيراني في سورية، وإذ ينفد صبر الولايات المتحدة بعد أن بلغ السيل الزبى لجهة تدخلات طهران في المنطقة، وانتشار أذرعها العصبوية الطائفية مهددة الأمن والاستقرار أينما وصلت مخالبها وقد عاثت فساداً بحشدها الشعبي في العراق، وبـ «حزب الله» ومشتقاته في لبنان وسورية، وبحوثييها في اليمن، بل غدت تهدد سلامة الملاحة الدولية في باب المندب، وتستهدف بصواريخها المدنيين في عاصمة كبرى مثل الرياض، فإن واشنطن تعدّ لها العدة على المستويات الرئاسية والتشريعية والحكومية دونما استثناء. فتغريدات الرئيس ترامب وموقفه من الاتفاق النووي المعزَّز بتهديدات عالية اللهجة لطهران إذا ما استمرت في تفريخ الميليشيات المتطرفة وغامرت في طموحها النووي العسكري الرامي إلى تهديد أمن جيرانها واستقرار المنطقة، وإدراج وزارة الخزانة الأميركية حديثاً الحرس الثوري الإيراني على قائمتها للعقوبات، وكذا إحالة الاتفاق النووي مع إيران إلى الكونغرس لبحث إمكان انسحاب الولايات المتحدة منه، وتصريح الناطق الرسمي باسم البنتاغون، الميجور آدريان رانكين غالوي، إثر إطلاق «البروكسي» الحوثي في اليمن صاروخاً باليستياً إيرانياً باتجاه مطار الرياض الدولي المدني، إذ أفاد بأن: «واشنطن ترتبط بعلاقات دفاعية قوية مع المملكة وهي تؤيد المواقف السعودية التي تكشف دور إيران الشرير في اليمن»، كل هذه الحيثيات مجتمعة ترتبط عضوياً بانفراج سياسي في سورية يتأسس في مؤتمر ترعاه الرياض في 22 و23 الشهر الجاري، وبحملة تطهير للشر الحوثي البديل في اليمن يقودها التحالف العربي، وبتوجّه أميركي لِلَجْم الحشد الطائفي ومفرزاته في صفوف الجيش العراقي، وذلك في ربط وحل متزامن بين الرياض وواشنطن لخيوط العقدة الإيرانية التي أينعت رؤوسها وحان قطافها.
امتد الشعور الانتصاري ليشمل الأكراد هذه المرة. انتصر «الحشد الشعبي» وما يوازيه على الموصل وقبلها على حلب وبيروت، وها هو اليوم ينتصر على الأكراد. وفي الزيارة الأربعينية شهدنا ندبياتٍ ضمت أهل الشمال إلى الظلامة الحسينية. صار الجماعة من «ظلمة أهل البيت». المسألة لم تأخذ أكثر من أيام قليلة انتقلوا فيها من كونهم حلفاء في عراق ما بعد صدام، إلى شياطين الروضة الحسينية. ورئيس الحكومة العراقي حيدر العبادي صار بطلاً ليس لأنه «هزم داعش في الموصل»، بل لأنه «هزم الأكراد في كركوك». لم يحتج الأمر إلى أكثر من أيام قليلة، جرى خلالها تبديل الأقنعة وتحويل هوية الشيطان. الأمر مخيف فعلاً، ليس فقط لأن الإيرانيين قرروا أبلسة الأكراد فكان لهم ما أرادوا، بل بسبب سهولة الاستجابة والجهوزية الشعبية لتلبية المهمة. الوقت القصير الذي استغرقته كتابة ندبيات وأراجيز وتمثيلها في مشاهد «كربلائية» خلال الزيارة الأربعينية. الاستعداد المتواصل لتوظيف الظلامة في مشهد راهن وفي جعله امتداداً لها. والغريب أن الظلامة الأصلية تنطوي على مرارة الخيبة والخذلان، فيما الانتصار لا يتسع لغير الانتشاء. فكيف يمكن لمنتصر أن يبكي؟ وكيف تمت المواءمة بين نشوة «النصر» ومرارة الفقد والخذلان.
إنه الشرط السياسي الراهن. لا بأس من اللعب في الظلامة في سبيله. اللحظة تقتضي أن ينضم الأكراد إلى قتلة الحسين، فلا ضير من ضمهم. لا خوف على الرواية، فلطالما جرى توظيفها. ألم يبحث «مؤرخو» الثورة في إيران على أصل ساساني لأمهات الأئمة. جرى ذلك بكل سلاسة ومن دون معوقات. فالثورات لا تشترط تدقيقاً، ولا تحاسب على أخطاء في سرد الرواية. أي شيء ينسجم مع مقولاتها يمكن لها أن تضمه من دون أن يرف لها جفن.
الرشاقة في الانتقال من حليف إلى حليف، ومن عدو إلى عدو، يدفع إلى شعور بأن لا شيء حقيقياً في منطقتنا. لا شيء صلباً ولا شيء أصلياً. حتى المودة بصفتها شعوراً عابراً، عمرها قصير جداً. من يسمع مفوّهي «الحشد الشعبي» يتحدثون على شاشات التلفزيون عن عدوهم الجديد يصيبه ذعر. أين كانت مختبئة كل هذه المشاعر؟ هل يكفي حدث الاستفتاء لانتفاخها على نحو ما انتفخت؟ المسألة لا تكمن في أن جهة قررت أن الأكراد أعداء، بل في سرعة الاستجابة وفي حجمها. إذاً لا شيء حقيقياً. لا المودة ولا الظلامة. هذا تماماً ما يجب دفعه ومنعه. أي أن يُصاب العدل الذي تنطوي عليه أي حكاية. أن يكون سهلاً ومطواعاً وقابلاً للتوظيف بالسهولة التي توظف فيها الأغاني والأراجيز وقصائد شعراء البلاط.
ثمة مأزق يواجه الظلامة اليوم، فالحسين بطل ولم يسع إلى انتصار. هو بطل لأنه كذلك، لأن كربلاء واقعة انكسار إيجابي، وفيها تمت أيقنة الهزيمة بصفتها ظلامة. أما الزاحفون المنتصرون إلى الزيارة الأربعينية اليوم فلم يكترثوا إلى أنهم يقتلون الحكاية، وأنهم في صدد تجاوزها ووضعها وراءهم. هذا تماماً ما تنطوي عليه السهولة في ضم الأكراد إلى قتلة الحسين. فمن يكون في طريقه إلى تجاوز الحكاية لن يكون حريصاً على صلابتها. يمكن استعمالها في أي واقعة، ويمكن حجبها عن الكثير من الوقائع التي يشهدها العراق اليوم ويشهدها الإقليم.
ما يجري ليس ابتذالاً للظلامة، بل تجاوزاً نهائياً لها. كان يمكن لهذه المهمة أن تكون تقدّمية، لكنها اليوم عملية استبدال للظلامة بـ «الانتصار»، وعملية استعاضة عن قيم الترفع عن الانتصار بقيم الثأر وتوليد الضغينة وإنتاج ظلامات موازية.
العبادي سينجح في الانتخابات لأنه «هزم الأكراد». سينافس نوري المالكي في ظل هذه الحقيقة. ألم يكن الأكراد على حق حينما صوتوا بـ «لا للعراق» في استفتائهم؟ كان خطأ مسعود بارزاني في توقيته، أما وجهة التصويت، فمن الصعب أن تكون غير ذلك، في ظل قناعة الشيعة العرب المستجدة في أنهم «قتلة الحسين»، وفي ظل طغيان الشعور «الوحدوي» القاتل للسنة العرب.
سقطت «القبة الحديد» التي كانت تظــــلل لبنان طوال السنوات الست الماضية. بات في قلب الصراع الإقليمي. بل في الصف الأمامي تتنازعه مشاريع إقليمية ودولية يخوض أصحابها مواجهات بالوكالة أو مباشرة في معظم الخريطة العربية. أُعيد زجـــه في خط المواجهة. فيما يكثر الحديث عن حرب واسعة يتجاوز مسرحها البلد الصغير إلى سورية والعراق. لعلها تعيد تحريك عجلة الديبلوماسية التي تعاني استعصاء ومآزق عدة، على وقع المدافع والصواريخ. بين ليلة وضحاها وجد لبنان نفســــه بلا غطاء، على رغم ما يبديه سياسيّوه من حرص على الوحدة والأمن والاستقرار. بات على خط النار كأنه مقبل على حرب كبرى. فهنا حدوده مع إسرائيل من جهة، وهناك كيفما نظر تبدو إيران في كل مكان، من جنوبه إلى خارج حدوده شمالاً وشرقاً من الجولان إلى العراق حيث تتزاحم قوى كبرى وأقوام من شتى المذاهب والطوائف. ما يثير المخاوف من اندلاع هذه الحرب سيل من التصريحات والتهديدات، هذا الاهتمام الدولي الواسع بالتداعيات التي خلفتها استقالة سعد الحريري من رئاسة الوزراء. فيما كانت بيروت تستعد للتعامل مع العقوبات التي فرضها الكونغرس الأميركي وبعض الدول الخليجية على «حزب الله»، في إطار استراتيجية لمواجهة الجمهورية الإسلامية. الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش عبّر عن قلقه إزاء التوترات المتصاعدة. وحذر من «صراع جديد في المنطقة»، لأنه «يمكن أن يسبب تبعات مدمرة». ووزير الخارجية الأميركي ريكس تليرسون حذر كل الجهات داخل لبنان وخارجه من استخدام هذا البلد «ساحة لصراعاتهم بالوكالة».
المخاطر تثقل على لبنان وأهل المنطقة كلها، في ضوء تعثر كل المساعي الدولية الناشطة هنا وهناك، من ليبيا إلى العراق. والحروب الأهلية لم تحط رحالها بعد. أما أن تنزلق دول المشرق عموماً إلى مواجهة واسعة تنطلق من لبنان أو من الجولان، أو من كردستان وغيرها، فاحتمال وارد إذا أخطأ بعض الأطراف في حساباته، أو إذا وقع محظور بالمصادفة أدى إلى إشعال الشرارة الأولى. حتى الآن لا يبدو أن الوكلاء المحليين تعبوا. وحتى الآن لم تتوافر ظروف دولية لا بد منها لإعطاء ضوء أخضر لمثل هذه المغامرة الكبيرة. هناك جدال مستمر بين الديبلوماسية والجنرالات لم يرس على قرار بالذهاب إلى حرب حاسمة. في إسرائيل، تتحدث دوائر إعلامية عن ميل لدى ساستها، خصوصاً رئيس الوزراء بنيامين نتانياهو ووزير دفاعه أفيغدور ليبرمان، لانتهاز الفرصة من أجل تحقيق جملة أهداف يتعلق بعضها بالوضع السياسي الداخلي الذي يربك أقطاب اليمين الإسرائيلي، وكذلك بالاستعدادات الأميركية لإعادة إطلاق العملية السلمية مع الفلسطينيين. ويتعلق بعضها الآخر بالرغبة في الثأر من «حزب الله» والحؤول دون ترسيخ إيران أقدامها في سورية. لكن النخبة العسكرية لا تميل إلى مثل هذا الخيار. وترى أن قرار وقف النار بعد حرب تموز 2006 علق المواجهة بين الطرفين بحراسة دولية توفرها قوات أممية من أكثر من عشرين دولة، ولا حاجة إلى إسقاط القرار 1701.
بل إن القيادة العسكرية في إسرائيل تحرك غاراتها منذ اندلاع الأزمة في سورية على مخازن أسلحة أو قوافل إيرانية تنقل عتاداً إلى «حزب الله». ولا تلقى هذه الغارات أي ردود تذكر. ولا تخفي إيران انزعاجها الشديد من هذا التفاهم بين موسكو وتل أبيب، والذي يتيح بموجبه لإسرائيل مواصلة عملياتها في المسرح السوري. ولا تملك سوى الإصرار على الدفع بميليشياتها نحو حدود الجولان المحتل لعلها تسقط وعد وزير الدفاع الروسي سيرغي شويغو نظيره الإسرائيلي بتوسيع المنطقة العازلة لإبعاد هذه الميليشيات عن حدود الجولان المحتل. ومن نافل القول إن الدولة العبرية جنت وتجني مكاسب لم تحلم بها جرّاء تدمير الجيوش العربية وتعميم الحروب الأهلية في المنطقة. ولا يمكنها في ظل وجود روسيا في بلاد الشام أن تغامر بحرب قد تستفزها. خصوصاً أن موسكو لا تزال تراهن على تفاهم مع إدارة الرئيس دونالد ترامب ينتهي برفع العقوبات الاقتصادية المفروضة عليها بعد ضمها شبه جزيرة القرم. وهي الآن تحاول أن تستغل موقفها من أزمة كوريا الشمالية والمأزق الذي تواجهه واشنطن حيال هذه الأزمة، من أجل المقايضة أيضاً. ولا شك في أن البيت الأبيض يعوّل بل يشدد على تفاهم مع موسكو وبكين أولاً من أجل تسوية الأزمة مع بيونغ يانغ.
أبعد من ذلك، لا يسمح الكرملين بضرب حليفه الإيراني وميليشياته التي عوّل عليها كثيراً في الميدان السوري. ولا يزال يحتاج إليها لترسيخ مشروعه في بلاد الشام والمنطقة... إلا إذا غالت طهران أو المتشددون فيها وذهبوا بعيداً في تقويض مساعيه للتسوية السياسية ووقف الحرب في سورية. وليس سراً أن الرئيس بوتين الذي أبرم اتفاقات نفطية خلال زيارته طهران أول الشهر الجاري بنحو ثلاثين مليار دولار، يدرك أن هذه الاتفاقات لا تنعكس بالضرورة تفاهماً تاماً في الشؤون أو القضايا السياسية. ويضيره بالتأكيد أن يسمع مستشار المرشد الأعلى علي أكبر ولايتي وهو يتوعد خلال زيارته قوات إيرانية وميليشيات موالية في حلب بتحرير المناطق الشرقية من سورية وغربها، في إشارة أولى إلى الرقة التي حررتها «قوات سورية الديموقراطية» بدعم من قوات التحالف الدولي الذي تقوده الولايات المتحدة. ويكرر الطرفان الروسي والأميركي أنهما متمسكان بالتنسيق لئلا يقع صدام بين الأطراف التي يدعمها كل منهما، وفي إشارة ثانية إلى إدلب التي يشملها اتفاق «خفض التوتر»، وهو اتفاق قضى بانتشار قوات للنظام وحلفائه شرق المحافظة جنوب حلب، فيما تنتشر قوات تركية في المدينة وأريافها. وتواصل هذه القوات فرض الهدوء في هذه المنطقة بالتنسيق مع موسكو التي تغض الطرف عن الترتيبات التي تقوم بها أنقرة لتذويب عناصر «جبهة النصرة». كأن المسؤول الإيراني يعبر صراحة عن اعتراض بلاده على قيام هذه المناطق، تماماً مثل النظام في دمشق. ويقود هذا التوجّه ببساطة إلى إعاقة الرئيس بوتين الذي يستعجل ترسيخ الهدنة في سورية، عبر مساري آستانة وسوتشي وغيرهما. ويتمسك بمناطق خفض التوتر والمصالحات التي أبرمها قادته العسكريون مع فصائل محلية في مناطق عدة. فما يستعجله فعلاً هو فرض رؤيته للتسوية السياسية تمهيداً لخفض مستوى انخراطه العسكري. فهو يخشى الغرق في المستنقع، لإدراكه أن الحرب في سورية لن يخرج فيها طرف منتصر وآخر مهزوم.
وإذا كانت الجمهورية الإسلامية تعاند وتعارض هذه الرؤية وتخشى في المحصلة أن يقوم تفاهم بين موسكو وواشنطن تكون فيه الخاسر الأكبر، فإن الكرملين ينتظر بفارغ الصبر مثل هذا التفاهم مع إدارة ترامب مستخدماً «إنجازاته» على الأرض السورية. وقد سعى ولا يزال يسعى إلى توسيع دائرة اتفاقاته مع دول إقليمية، من تركيا إلى السعودية ومصر لتبقى له وليس لطهران اليد الطولى. وهو يعرف تعقيدات أي حرب على إدلب وحدود تركيا، مثلما يعرف صعوبة المواجهة مع «قوات سورية الديموقراطية» التي تملك أكثر من سبعين ألف مقاتل أشرفت قوات أميركية على تدريبهم وتسليحهم وأبلوا بلاء حسناً في محاربة «داعش».
ويترقب الروس بحذر ما سترسو عليه سياسة إدارة ترامب في سورية والعراق أيضاً. وهم يدركون أن الولايات المتحدة قادرة على أداء دور معرقل لمشروع التسوية الروسية لأزمة سورية. بل يمكنها بعد انخراطها في ربط الأزمات من بيروت إلى بغداد، أن تعيق كل ما تسعى الجمهورية الإسلامية إلى ترسيخه. لقد حققت هذه مزيداً من المكاسب وسعت إلى ملء الفراغ بعد سقوط الموصل. ثم بعد سقوط مشروع الاستفتاء في كردستان وما انتهى إليه الوضع في كركوك والمناطق المتنازع عليها. وإذا كانت هذه التطورات عززت شهية الإيرانيين نحو مزيد من الهيمنة والسيطرة، فإنها في المقابل فاقمت مخاوف أميركا وتركيا أيضاً من تحول كردستان كلها «محمية إيرانية». وتملك واشنطن وحلفاؤها التقليديون في المنطقة الكثير من الأوراق، ويمكنهم أن يقلبوا الطاولة بوجه الجميع. لذلك تخشى طهران أن تصل موسكو إلى مرحلة لا تعود فيها بحاجة إلى مساعدتها الميدانية في سورية، خصوصاً إذا تقدمت نحو تفاهم مع إدارة ترامب يخفف أعباءها العسكرية في بلاد الشام. بالطبع لا يرغب الكرملين في ضرب الجمهورية الإسلامية. ولا حتى الولايات المتحدة مستعدة لحرب واسعة معها. كل ما تصبو إليه الدولتان الكبيرتان هو دفعها إلى داخل حدودها. وفي هذا مصلحة لروسيا بلا شك. فطهران تنافسها في أفغانستان وآسيا الوسطى والقوقاز وأمكنة أخرى أيضاً.
الحرب الواسعة في المنطقة لها حسابات أكثر تعقيداً من حرب الوكلاء. وقد تبدو بعيدة ما لم تتوافر لها شروط وظروف تنجم عن عجز مطلق للديبلوماسية. قد تصير حاجة لا مفر منها إذا حل التفاهم بين الدول الكبرى وعاندت الدول الساعية إلى الهيمنة على المنطقة العربية. مثل هذا التفاهم يفتح الطريق إلى عمل عسكري كبير في الإقليم.
يرفض اللبنانيون عادة مواجهة مشكلاتهم وأزماتهم الداخلية ويحاولون تحميل الخارج مسؤولية هذه الأزمات. لذلك لا يُعتبر بحثهم عن أسباب الأزمة الحكومية الحالية خارج الحدود أمراً جديداً. فقد أصبح الجدل القائم في لبنان اليوم يدور حول شكليات استقالة الرئيس سعد الحريري والمكان الذي أعلنت منه، بدل أن يكون الجدل الحقيقي وموضوع النقاش الداخلي حول الدوافع التي أدت إلى الوضع الذي نحن فيه، والذي دفع بالحريري أن يضطر إلى التخلي عن مسؤولية رئاسة الحكومة بالطريقة التي قام بها.
في إطار تحميل الآخرين مسؤولية أزمات اللبنانيين، أطلقوا على الحرب الأهلية التي اقتتلوا فيها لعقد ونصف من الزمن «حرب الآخرين»، لتبرئة ضمائرهم مما ارتكبت أيديهم من قتل وتخريب ودمار بحق بلدهم. وفي محاولة للهرب من مواجهة مشاكلهم، أغمضوا عيونهم عن السلاح الفلسطيني الذي كان يهيمن على القرار السياسي، حتى وصل بهم الأمر إلى تشريع لهذا الوجود في ما سمي آنذاك «فتح لاند» في جنوب لبنان، وبقيت بنود «اتفاق القاهرة» سرية، ووافق عليه مجلس النواب اللبناني من غير أن يطلع على مضمونه، في فضيحة لم تحصل في أي بلد من بلدان العالم، متقدماً كان أم متخلفاً.
اليوم يستسلم اللبنانيون، أو معظمهم، أمام هيمنة «حزب الله» السياسية والأمنية على بلدهم، معتبرين أن ليس في يدهم حيلة، ويقنعون أنفسهم أن من الطبيعي أن يكون في البلد الواحد جيشان، أحدهما يصفه رئيس الجمهورية بغير القادر على حماية البلاد، و «جيش» آخر يقول الرئيس عون إنه يجب أن يبقى محتفظاً بسلاحه إلى أن تحل أزمة الشرق الأوسط، وما قد يتوافر من أزمات دولية أخرى. أما الخنوع السياسي والإعلامي أمام دور «حزب الله» فلا مثيل له في أي بلد يحرص على سيادته، وعلى كرامة مؤسساته. خنوع يصل إلى حد عبادة الشخص، من غير أن يشعر من يخضعون لهذه الهيمنة أنهم لا يسيئون فقط إلى مواقعهم السياسية والإعلامية، بل يعترفون من خلال سلوكهم بحجم النفوذ الذي بات يمارسه هذا الحزب على كل ما في البلد، بسلاح التخويف من العواقب، التي بات يدركها ويخاف منها الجميع.
وبالعودة إلى الأزمة الحكومية الحالية، يكفي القول بعيداً من الشعارات الكاذبة التي تدعي الحرص على رئيس الحكومة المستقيل، إنه لو قام من يطلقون هذه الشعارات باحترام بنود التسوية السياسية التي ارتضى الحريري بموجبها أن يوافق على انتخاب ميشال عون رئيساً للجمهورية، لما كانوا في حاجة اليوم إلى ادعاء الدفاع عن مركز رئاسة الحكومة، وكأنهم أكثر الناس حرصاً على كرامة هذا المركز، او في حاجة إلى المطالبة بعودة الحريري إلى هذا الموقع، لاستكمال مهزلة التسوية التي دفع ثمنها الحريري من رصيده السياسي ومن قاعدته الشعبية.
كان الحريري رئيساً للحكومة، صحيح. ولكن ألم تكن هناك حكومتان داخل هذه الحكومة؟ واحدة تأخذ القرارات داخل مجلس الوزراء وأخرى يديرها «حزب الله» بالتكافل والتضامن مع رئيس الجمهورية، تأخذ القرارات في الخارج، وتدير سياسة لبنان الخارجية على هواها، وتدفع العرب إلى استعداء لبنان، بفعل التهديدات المستمرة وشبه اليومية على الشاشات لأنظمتهم، والاستهزاء العنصري بشعوبهم؟ ألم يكن هناك جيشان ولا يزال، واحد يحارب الإرهاب ببسالة على الحدود، وآخر يعقد الصفقات مع الإرهابيين ويُخرجهم من جحورهم بالباصات المكيفة «مكافأة» لهم على ذبح الجنود اللبنانيين؟
هؤلاء أنفسهم، الحريصون اليوم على كرامة موقع رئاسة الحكومة هم الذين سحبوا هذه الرئاسة من يد سعد الحريري، فيما كان مجتمعاً بالرئيس الأميركي باراك أوباما، من غير أن يشعروا آنذاك بأي حرج حيال إهانة موقع رئاسة الحكومة. وهؤلاء أنفسهم هم الذين استخفوا بمشاعر رئيس الحكومة وما ومن يمثل في الموقع الذي هو فيه، عندما لم يتركوا باباً لم يحاولوا فتحه باتجاه النظام السوري القاتل، فيما كان سعد الحريري يدعوهم، ليس إلى انتقاد هذا النظام كما يُفترض بأي صاحب حس إنساني أن يفعل، بل على الأقل أن يلتزموا بالشروط التي تم الاتفاق عليها، وإبعاد لبنان عن التورط في موقف إلى جانب هذا النظام، بشكل معادٍ لمشاعر ومواقف أكثرية القادة والشعوب العربية.
... ويتساءلون بعد كل هذا عن أسباب استقالة سعد الحريري!
في خطابين متتاليين في أقل من أسبوع وظف الأمين العام لحزب الله حسن نصر الله، كل مهاراته الخطابية لحرف انتباه اللبنانيين عن القضية الرئيسة التي فرضت استقالة رئيس الحكومة سعد الحريري. يريد أن يجعل من عودة الرئيس المستقيل القضية الرئيسة، وليس حقيقة أنه هو تحديداً من قوّض التسوية التي على أساسها قدم الحريري تنازلاً كبيراً بترشيح ميشال عون رئيساً للجمهورية وأن يتولى هو رئاسة الحكومة. كانت تسوية، أو هكذا يُفترض، لحماية الدولة ولإخراج لبنان من أتون الصراعات الإقليمية، خصوصاً الحرب الأهلية السورية، بعد شغور رئاسي استمر أكثر من سنتين. وهو شغور فرضته إيران من خلال الحزب دعماً للجنرال عون بعدم قبول أي مرشح آخر للرئاسة، بما في ذلك النائب سليمان فرنجية (صديق عائلة الأسد وحليف آخر لحزب الله) الذي سبق للحريري أن رشحه في تنازل آخر.
استمرت تنازلات رئيس الحكومة بعد انطلاق العهد الجديد بما في ذلك الموافقة على إقالة كل القضاة اللبنانيين الذين دعموا المحكمة الدولية الخاصة باغتيال والده، رفيق الحريري. كان نصر الله يصر على إقالة هؤلاء القضاة منذ رئاسة نجيب ميقاتي مروراً برئاسة تمام سلام. لماذا؟ لأن حزبه هو المتهم الرئيس في هذه المحكمة.
المفارقة أن سعد الحريري، وريث المغدور، هو من وافق على إقالة القضاة. حتى هذا لم يشفع لرئيس حكومة العهد الجديد. تنازلات الحريري بالنسبة إلى الحزب ليست تضحيات لانتشال الدولة من الانهيار، والحفاظ على هويتها العربية. هي تنازلات من طرف ضعيف لطرف منتصر في صراع ترى إيران أننا لم نقترب من خواتيمه بعد. مأزق لبنان، ومعه كل العرب أن حزب الله ذراع إيرانية في هذا الصراع. وهذا ما يردده نصر الله نفسه في مطولاته الخطابية من أنه، ومعه الحزب، يعمل تحت راية «ولاية الفقيه»، وأنه فخور بذلك. الأسوأ من ذلك أن الحزب عضو في الحكومة التي يستخدمها لتشريع دوره الإقليمي في خدمة إيران، وللتغطية على أنه بات دولة داخل الدولة بجيشه وإعلامه ومخابراته وشبكة اتصالاته، وبموازنته لتمويل كل ذلك التي تأتيه من إيران، كما يقول نصر الله. مبعث السخرية أن كل ذلك داخل دولة لا تنفك عن القول بأنها تنأى بنفسها عن صراعات المنطقة. والنتيجة التسوية في نظر الحزب وأمينه العام هي غطاء لبناني للاستمرار في دوره الإقليمي كذراع إيرانية في المنطقة. انهيار التسوية باستقالة الحريري لم يرفع هذا الغطاء وحسب. بل كشف أن تواطؤ نصر الله مع عون على التسوية هو الذي أدى إلى انهيارها. من هنا سارع نصر الله بخطابيه المذكورين لأخذ انتباه اللبنانيين إلى مكان آخر. إلى ضرورة عودة الحريري، والعودة إلى إسطوانة إسرائيل والمقاومة. الحديث عن تحييد لبنان كان بالنسبة إلى الأمين العام ولا يزال مجرد حديث يتلهى به الضعفاء.
منذ البداية كان قبول الحريري بالتسوية مغامرة. صحيح أن المغامرة جزء من فن الممكن، لكن مع أطراف وقوى وطنية، أو طبيعية. حزب الله ليس كذلك. هو طرف مدجج بسلاح غير شرعي يأتي من خارج لبنان وبأموال ليست لبنانية. الأكثر من ذلك أن مرجعيته الأيديولوجية ليست لبنانية ولا عربية. وبالتالي فهو قابل ومستعد لأي عمل غير شرعي، بما في ذلك انتهاك تسوية تقوم عليها الحكومة. والتجارب مع الحزب منذ ما قبل 2005 وحتى الآن تصب في الاتجاه نفسه. وهذا طبيعي تماماً. فحسابات الحزب ومصالحه وارتهاناته ليست لبنانية، بل تقع خارج لبنان.
موقف نصر الله بعد الاستقالة طبيعي ومتوقع، خصوصاً أن استقالة الحريري رفعت غطاء كان يظن أنه ضمنه لخمس سنوات مقبلة. ما قد يبدو للبعض ليس طبيعياً هو موقف الرئيس عون الذي انشغل هو الآخر بعودة الرئيس المستقيل، ومحاولة توجيه تهم مبطنة للسعودية، من دون أن يبدي أي اهتمام بسبب الاستقالة وخطورته ودوره هو في هذا السبب. والحقيقة أن موقف عون طبيعي هو الآخر. فالذي فرضه رئيساً للدولة هو سلاح الحزب قبل تنازلات الحريري. خطأ الحريري أنه قدم بـ «التسوية» غطاء لهذا السلاح. لكن هناك فرقاً مهماً. عون قبِل أن يوفر برئاسته الغطاء المسيحي الذي يحتاجه الحزب، في حين أن الحريري أكد باستقالته أنه لا يرضى أن يظل رهينة لهذا الدور.
موقف الجنرال من الأزمة التي فجرتها الاستقالة يؤكد المؤكد. كان له موقف من شعار المقاومة الذي يرفعه الحزب. في حديث له عن مزارع شبعا مع صحيفة الأهرام المصرية في 21 نيسان (أبريل)، 2005 يقول إن أصل هذه المشكلة مع سورية وليس مع إسرائيل. ثم يضيف في شكل لافت أن القول: «إن مزارع شبعا لبنانية ويجب إبقاء السلاح لتحريرها ذريعة سقطت».
في حديث آخر إلى صحيفة «القدس العربي» قبل 11 سنة، وتحديداً في 21 تشرين الثاني (نوفمبر) 2006، سئل عون عما الذي سيفعله لنزع سلاح حزب الله في حال أصبح رئيساً للدولة. أجاب بالنص: «سأحمّل الدولة مسؤولية الدفاع عن البلد وتأمين الهدوء على الحدود، ودمج الأسلحة في النظام الدفاعي للجيش». بعدما أصبح رئيساً قال: «إن لبنان في حاجة إلى الحزب وسلاحه لأن الجيش اللبناني لا يزال ضعيفاً». أي أن السلاح الذي لم يكن شرعياً بات في نظر الرئيس كذلك عام 2017. قال ذلك من الخارج، أثناء زيارته مصر. ويعرف الجنرال أكثر من غيره أن موقفه المستجد من سلاح الحزب لم يكن جزءاً من تفاهمه مع الحريري. هذا تحديداً ما يؤكده صهره، جبران باسيل الذي أصبح وزيراً للخارجية في حديثه إلى صحيفة الأخبار اللبنانية في 22 تشرين الأول (أكتوبر) 2016. يقول: «تفاهمنا طاول كل شيء، ولكنه بقي في إطاره العام من دون أن يأخذ أي طابع، لا مكتوباً ولا تفصيلياً بتنفيذيته». أي أن التفاهم مع الحريري شمل سلاح الحزب، إلا أنه كان شفهياً، وعاماً (ليس تفصيلياً)، وليس مكتوباً، أي ليس ملزماً. وهذه صيغة تضمر نية المراوغة لأنها تعطي كل طرف في التفاهم حرية التصرف، وحرية التبرير. الحاكم الأساسي في هذه الحال هو ميزان القوة بين أطراف التفاهم. وبما أن سلاح الحزب إلى جانب الجنرال، رأى أنه يملك خيار فرض واقع السلاح وفرض شرعيته على رئيس الحكومة، بعدما بدأ العهد الجديد بالإقلاع.
في المحصلة انهارت التسوية لأنها لم تكن كذلك. كانت مجرد تفاهمات شفهية وعامة، وليست ملزمة. وكانت انتهازية أيضاً. قبل بها كل طرف بناء على فهمه هو بمعزل عن الطرف الآخر، وبناء على حاجته السياسية هو، وليس بناء على فهم وطني مشترك ومكتوب وملزم لكل الأطراف. من الواضح طبعاً أن الحريري غامر بقبول تسوية مثل هذه وهو يعرف أولاً أنه الطرف الأضعف، وثانياً أن عون بات مرتهناً للحزب لأنه أوصله للرئاسة، ثالثاً أنه بالتجربة منذ 2005 لا يمكن الوثوق بالتزام الحزب، ورابعاً أن مرجعية الحزب في كل الأحوال ليست لبنانية، ومن ثم فإن قراره، على رغم جعجعات نصرالله، ليس بيده تماماً. والواضح أيضاً أن الجنرال ومعه الحزب تعاملوا مع قبول الحريري على أنه تنازل مجاني، وبالتالي لا يلزمهم بشيء. هذه هي المشكلة الكبيرة التي يحاول الجنرال ونصر الله الهروب منها إلى الأمام. الآن بات على الرئيس عون تحمل تبعات حلمه الرئاسي، وتسويق أن داعمه الرئيس في تحقيق حلمه هذا ميليشيا متهمة بالإرهاب، وتبعيتها ليست له ولا للدولة التي يقف على سدتها، وإنما تقع في مكان خارج حدود هذه الدولة.
المعتاد في الأزمات الدولية الممتدة كحالة الأزمة السورية، أنها تزداد تعقيداً كلما زاد التعقد الدولي والإقليمي حولها، كما أن التصعيد فيها يؤدي إلى مزيد من تعقد البيئة ومستويات الصراع المحيط بها. والواضح أن المشهد الإقليمي يزداد تعقيداً وصعوبة، ومِن مظاهر ذلك؛ الصاروخ الباليستي الذي اعترضته السعودية بعد توجيهه نحوها مِن الأراضي اليمنية، والاتهام السعودي الصريح لإيران وحزب الله بالوقوف خلف هذه الخطوة بما تتضمنه من تصعيد عسكري خطير، واستقالة رئيس الوزراء اللبناني سعد الحريري، وجملة المشهد الإقليمي المعقد، والذي يمكن أن يؤدي إلى تداعيات سلبية على قوس الأزمات التي تتلخص في أن بؤرة الصراع في المنطقة تنتقل من التركيز على الحرب مع «داعش» التي كانت سمة المرحلة الأخيرة؛ إلى شكل آخر أكثر حدة من مواجهة محورها إيران وحزب الله.
وسبق أن أشرتُ إلى أن الأزمة السورية أخذت منحنى جديداً بعد أن قامت الولايات المتحدة بإعادة تمركزها في هذه الأزمة بكلفة قليلة من خلال توظيف المئات مِن القوات الأميركية الخاصة الذين أسبغوا حصانة على قوات سورية الديموقراطية الكردية؛ معتمدين على عنصر الردع المتبادل بين واشنطن وموسكو، تاركة الأخيرة في موقف تجميد إعلان النصر النهائي والقبول بأحد أمرين؛ إما تسوية شاملة تراعي هذا التوازن الجديد وتقبل بدور لواشنطن، أو تقبل هي والحكومة السورية وحلفاؤهما بإنهاء للأزمة بتسوية المنتصر؛ مع وجود كيان كردي مدعوم أميركياً على جزء من الأراضي السورية بتداعيات ذلك التي قد تشمل إقامة قاعدة عسكرية أميركية؛ أياً كان حجمها، بما يرسخ أمراً واقعاً غير محدد المدى.
ومِن الواضح أن واشنطن بدأت التحضير لأجواء مشاركتها في تسوية المسألة السورية، وهو ما يتضح مِن إعلان وزير الدفاع الأميركي جيمس ماتيس؛ أخيراً، دعمه إيجاد حل ديبلوماسي للنزاع السوري وأن واشنطن تتطلع ومعها حلفاؤها إلى ما بعد القضاء على «داعش». وكان وزير الخارجية الأميركي ريكس تيلرسون حدّد سقف الموقف الأميركي في ضرورة إنهاء حكم الرئيس الأسد وعائلته– ومعنى ذلك ببساطة أن واشنطن مستعدة لقبول نفوذ ودور روسي مسيطر على الساحة السورية مقابل حفظ ماء وجهها مِن خلال إنهاء حكم الرئيس الأسد، وليس إنهاء النظام السوري الحاكم، ما يطرح السؤال حول مدى إمكانية تقبل موسكو لهذا السيناريو. وهنا نشير إلى أنه باسترجاع تطورات الموقف الروسي سنجد أنه مرَّ بتطورات عدة، ففي بعض المراحل التي شهدت التراجع الشديد للنظام السوري؛ كانت روسيا مستعدة لهذا السيناريو، فهناك تلميحات روسية إلى تطلع موسكو لإنهاء الأزمة مِن دون إصرار على استمرار الحكم أو الرئيس الحالي. ثم تراجعت موسكو بعد تدخلها الكثيف في أعقاب السيطرة الواسعة للأطراف المتطرفة على مساحات شاسعة من الأراضي السورية، والتراجع التدريجي للأطراف الإقليمية والدولية عن دعم هذه القوى المتطرفة. ونعود إلى ما بدأنا به من أنه مع تزايد الاحتقان الإقليمي ومع تأخر الاتفاق على تسوية شاملة في سورية، وأن يكون هذا الشمول متضمناً الأبعاد كافة التي تهملها مسارات التسوية الحالية، وعلى رأسها إعادة الإعمار وخطة للعودة الكاملة المشرفة للاجئين السوريين مِن دون أي تهديدات، وأن تنجح هذه التسوية في التعامل مع واشنطن وأطراف إقليمية. من دون هذا؛ يزداد خطر انتقال الاحتقان والتوتر إلى الساحة السورية بمستويات عنف جديدة، قد تزيد اشتعال المنطقة.
على أن ما نطرحه هنا هو أن مثل هذا الاحتمال بالغ الخطورة ويستدعي الكثير من الحذر والتفكير غير التقليدي، فالساحة السورية مدجّجة بالسلاح، وعلى أراضيها قوات أميركية وروسية؛ أياً كان حجمها، فضلاً عن قوات لأطراف إقليمية، فقصف مواقع لحزب الله قد يصيب مواقع إيرانية وربما روسية، وحتى لو كان هذا مستبعداً مع التكنولوجيا الحديثة، فالأخطاء ممكنة والحسابات يجب أن تكون دقيقة للغاية، وينبغي ألا نفتح الصراع على منعطفات تصعب السيطرة عليها، وتهدد مَن تبقى مِن الشعب السوري في أراضيه وليس فقط تهدد بتأخير عودة النازحين السوريين إلى ديارهم، فضلاً عن تهديد استقرار المنطقة وأمنها. مِن هنا؛ تأتي ضرورة تطبيق قواعد التفكير الرشيد والبحث عن مخرَج، وفي الواقع ليس مِن طرفٍ سوى روسيا قادر على وضع حد لهذا التوتر، بشرط التحرك الرشيد والسريع. ومفتاح هذا هو ضرورة البحث عما ينهي احتقان المنطقة، وهو عودة إيران تدريجاً إلى حدودها، بل والعمل انطلاقاً مِن ذلك على ذلك، لإعادة بناء علاقات أكثر صحية في المنطقة. وهنا، فإن تسوية الأزمة السورية قد تكون البداية الأسهل في ظل سيطرة روسيا الواضحة على أوراق الأزمة السورية، بإنتاج تسوية شاملة ومنطقية تنقذ الشعب السوري وتنهي معاناته التي طالت وكأن العالم اعتادها مثلما اعتاد معاناة الشعب الفلسطيني. تلك التسوية ينبغي أن تشمل استيعاب فصائل القوى السياسية غير المتطرفة في سورية؛ وتتضمن انتخابات بإشراف دولي يكفل السماح بالكثير من المراجعات، وإعادة دمشق إلى المنظومة الإقليمية والدولية، بالتزامن مع جهود إعادة إعمار سورية، وعودة منظَّمة ومدروسة للاجئين. أما كيف تصبح هذه التسوية وسيلة لإنهاء الاحتقان الإقليمي، فذلك بأن تتضمن خروج إيران وتركيا والميليشيات الأجنبية، والولايات المتحدة، وإكمال سيطرة الجيش السوري على أراضي البلاد، وبخاصة أن المجتمع الدولي قبل نفوذاً روسياً في سورية؛ أحسب أن موسكو ستديره في شكل بالغ الدقة والحذر، وأنه مع اكتمال عودة الدولة السورية لأوضاعها الطبيعية ستقتصر هذه العلاقة على التسهيلات البحرية والمكانة التي ستتمتع بها روسيا؛ ليس فقط في سورية بل إقليمياً، سواء مع حلفائها التقليديين أو مع أطراف المنطقة الأخرى، إذ ستكون قد تمكنت من نزع تدريجي لفتيل التوتر. نعم؛ هو أمر بالغ الصعوبة، خروج إيران وحزب الله من سورية، ولكنه خيار عقلاني قد يتيح فرصة لمقاربات أكثر هدوءاً في المنطقة، وسيتيح بدء توقف سياسات الامتداد الإيراني والانتقال إلى مقاربات جديدة للحوار والبحث عن تعايش إقليمي واحتواء التوتر. وتستطيع روسيا إن تجاوبت الأطراف بلغة العقل والرشادة، أن تقدم ضمانات تحمي المنطقة والعالم من انزلاق إلى منحدرات شديدة الخطورة ومليئة بعدم التيقن. وتحسباً لاحتجاج مَن سيبدي القلق على السيادة السورية، فعليه أن يتذكر أنه لا وجود لها الآن، بل ربما يسمح هذا بترتيبات جادة نحو استعادتها.
يلاحظ المتابع لكل "بغي" تمارسه هيئة تحرير الشام على إحدى مكونات الثورة العسكرية، حجم الهجمة الإعلامية والتسويق لهيئة تحرير الشام ومظلومياتها وسعيها لنصرة المستضعفين وتسيير الجيوش والأرتال لاسترجاع حق أو نصرة ضعيف او محاربة فساد وكله من وراء القصد ..
في كل بغي تمارسه تحرير الشام تبدأ الماكينة الإعلامية الكبيرة التابعة لها لشيطنة الطرف المقابل وخلق المبررات التي تسوغ لها البغي وتسيير الأرتال في المحرر ونبش الزلات والنزوات لخصومها، من خلال غرف إعلامية وقنوات ومواقع وحسابات وهمية جمة بأسماء ما أنزل الله بها من سلطان، مهمتها التجييش الإعلامي وتهيئة الجو للبغي في كل مرة، وإضفاء صورة الهيئة في موقع المدافع عن الأعراض الحريص على حقوق الناس وإنهاء الفساد كيف لا وهم شعب الله المختار.
استغلت في الحرب الإعلامية الشعارات البراقة والتستر بعباءة الدين في محاربة الخصوم، والعمل على إظهار الخير المطلق والحامي والناصر والمحرر والحق الكامل في فصيلهم الوقت الذي تعمم صورة الفساد والعمالة والارتزاق على غيرها من المكونات العسكرية، بهدف تشويه صورتها ودفع الحاضنة الشعبية للتخلي عنها ثم إنهاؤها والسيطرة على مقراتها وسلاحها والظهور أمام الشعب بأنها تحميهم وتدافع عنهم وتبعد الفساد الأكبر (اقتباس).
وفي كل حرب أو بغي تخوضه الهيئة ضد خصم جديد لها تكون دائرة الإنهاء قد أحاكت به، لابد من التذكير بماضي الهيئة المجيد وانها تخوض على ثغور المسلمين الحروب وتزود عنهم وأن الغدر جائها من الخلف وطعن وغدر بها فكان لابد من التأديب.
المتتبع لحسابات هيئة تحرير الشام سواء كانت الرسمية أو المناصرة أو حسابات الشرعيين يلمس حجم التجييش الذي تمارسه هذه الحسابات، وتساهم بشكل كبير في أراقة الدم وتزيكة اشتعال النار أكثر فأكثر، في الوقت الذي يعيبون على غيرهم من خصوصهم الدفاع عن أنفسهم أو مواجهة هذه الحرب الشيطانية بحرب مقابلة ومماثلة ولو أنها لم تصل لدرجتها في التجييش فهو بالتأكيد حلال لهم وحرام على غيرهم ..!؟
في الوقت الذي كان الرئيس الروسي، "فلاديمير بوتين"، يستقبل نظيره التركي "رجب طيب أردوغان"، في منتجع سوتشي، كانت الطائرات الروسية بكل دم بارد، تصب جام حقدها على سوق مدينة الأتارب السورية في ريف حلب، محولة أجساد السوريين لذرات متناثرة أو مدفونة تحت الركام.
قبل توجه أردوغان إلى سوتشي، ذات التاريخ الأسود مع السوريين لاسيما اتفاق الكيماوي الشهير، كان واضحا أن هناك أمر جلل قد حدث، دفع بأردوغان للانتقال دون سابق إنذار إلى روسيا على عجل، وما يعزز التوتر تصعيد أردوغان، قبل انطلاقة من إسطنبول للقاء بويتن، حيث طالب كل من لا يريد حل عسكري أن يسحب قواته في إشارة إلى روسيا وربما الولايات المتحدة.
رد فعل الروس لم يكن سريعا فحسب، بل أسرع مما توقعت تركيا، الذي بدا واضحا مع غارات الطيران الروسي على منطقة الاتارب على بعد كيلومترات قليلة من الانتشار التركي، وكأنها "قرصة أذن" لأنقرة، و"لوي ذراع" لتدرك أن لا مجال لتقول لا، وهو ما اعتادت روسيا عليه في مواجهة تركيا، في أحياء حلب الشرقية، والان معارك درع الفرات عندما قتلت جنود أتراك بغارات قالت إنها عن طريق الخطأ، لكنها كانت كفيلة بوقف التمدد التركي عند الباب.
روسيا كما هي بعد 7 سنوات من الحرب الدامية في سوريا، لن تتنازل عن مكاسبها أو تقبل المناصفة أو المشاركة مع أحد، وان كان الإيرانيون يشكلون لها قلقلاً، إلا أنهم كرت "جوكر" تستخدمه حالياً إلى جانب النظام السوري، إلى حين تجد كرتاً أفضل لتحرقهم، وتبقى مصلحتها هي الأهم.
أما تركيا، فيبدو أنها أكلت الصفعة من جديد، مع فشلها في التحالف مع الجانب الروسي أو الايراني، تخالف لم يثمر إلا وقفا غير منضبط لإطلاق النار.
روسيا تقصف نقاط بالقرب من جيش تركيا، وإيران تتأهل لكسر منطقة خفض التصعيد الرابعة بالهجوم على ريف حلب الجنوبي ليهددوا بموجات نزوح تثقل كاهل تركيا.
أيا كانت نتيجة قراءتنا لما يحدث، يبقى الدم السوري هو الفاتورة الوحيدة التي يبذخ بها الجميع، دون أن ينقص من مالهم أو أرضهم أو هامتهم ذرة رمل، فهذا الدم خارج الحسابات.
لم تتشكّل سورية الدولة الحديثة -التي شهدت النور بحدودها الحالية بعد الحرب العالمية الأولى- بإرادة سكانها من مختلف المكوّنات والجهات. ولم تتطابق حدودها الواقعية مع النزعات الرغبوية لمكوّناتها المجتمعية، وكتلها السياسية. فمع انقشاع غبار المعارك، تبلورت ملامح الاتفاقية السرية التي كانت بين فرنسا وبريطانيا؛ وهي الاتفاقية التي بددت إمكانية تحقّق الحلم القومي العربي، ووضعت حدًا للخلافة الإسلامية بمنحاها العثماني، وأعادت هيكلة المنطقة، على أساس تصنيع دول متفاوتة الحجم والقدرات، مبنية وفق حسابات ومصالح أرباب القرار الدولي.
نحو مئة عام مرّت، وسورية ما زالت ممزقة بين إمكاناتها الفعلية ومصالحها الوطنية من جهة، وتطلعات أصحاب المشاريع السياسية العابرة للحدود من جهة ثانية. هذا مع استثناء محدود تمثّل في المرحلة التي أعقبت الاستقلال، وهي المرحلة التي برز فيها سياسيون، من مختلف المكوّنات، كانت لهم أدوار لافتة في النضال السوري من أجل الاستقلال؛ ولكن سرعان ما هيمنت النزعات الحالمة في ساحة التفكير السياسي، وكانت المنافسة بين ثلاثة مشاريع كبرى، لم يكن في مقدور السوريين تحمّل أعبائها، أو إنجاز الحد الأدنى منها؛ فلم يتمكن المشروع القومي من بلوغ الوحدة القومية المنشودة، وأخفق المشروع الإسلامي في إقناع غالبية السوريين. أما المشروع الأممي فقد ظل سطحيًا نخبويًا، ولم يتحوّل إلى جزء من ثقافة الشعب السوري وسلوكيته، وذلك قياسًا إلى المشروعين المذكورين.
وسرعان ما اكتشف القوميون في الجيش القوةَ التي ستمكّنهم من بلوغ السلطة التي ادّعوا بأنها ستكون وسيلتهم لتحقيق الوحدة العربية الكبرى، ومن هنا كان تركيزهم على أبناء الفلاحين في الأرياف، ليشكلوا العمود الفقري في الجيش العقائدي الذي تسلّطوا عليه، ليكون مجرد أداة لتنفيذ أهدافهم. ولكن الذي تبين لاحقًا هو أن الشعارات “القومية” البراقة، الموشاة بزخرفة اشتراكية، لم تكن سوى تضليل، الغرض منه الانقضاض على الداخل الوطني، والتحكّم بمفاصل الدولة والمجتمع، عبر دولة أمنية لم تنجز في البلد غير الاستقرار الأمني، القسري؛ والتهمت في المقابل كل الإمكانات المادية التي كان من شأنها وضع الأسس الثابتة لنهوض اقتصادي متكامل على المستوى الوطني، نهوض كانت سورية تمتلك كل عناصره ومستلزماته المطلوبة.
أما الاتجاه الإسلامي الذي تمثّل على وجه التحديد في جماعة “الإخوان المسلمين”، فقد ركّز على الأوساط التجارية والصناعية في المدن. كما تغلغل ضمن صفوف الطبقة الوسطى المدينية، خاصة بين الأكاديميين من أطباء ومحامين ومهندسين ومدرسين. واستمرت العلاقة متوترة بين المشروعين القومي والإسلامي. وفي خضم الصراعات والتناقضات والحملات الشعاراتية، أصبح أي تفكير في المشروع الوطني السوري نوعًا من التهمة التي تدين صاحبها، من دون أي تمهّل أو تردّد.
ومع انطلاقة الثورة الشبابية، اعتقد السوريون، في مختلف المناطق ومن سائر المكوّنات، أن مستقبلهم المنتظر قد بات أقرب إليهم من أي وقت مضى. وكانت التظاهرات، والمهرجانات الشعبية الكرنفالية، المطالبة بالقطع الكامل مع نظام الاستبداد والإفساد.
وعاشت الزمرة اللامرئية المتحكّمة بالدولة السورية رعبًا حقيقيًا، وذلك لشعورها بحلول يوم الحساب؛ فاستنجدت بالحليف الإيراني الذي سلّمته كل أوراقها، ليأخذ هو على عاتقه مهمة الدفاع عن النظام بكل إمكاناته وميليشياته، مستفيدًا من ضبابية الموقف الأميركي، والتعطّش الروسي لاستعادة دور القوة العظمى على المستوى الدولي.
كانت استراتيجية النظام ورعاته تقوم على تسويق الثورة السورية، تحت اسم الصراع بين السلطة العلمانية، حامية الأقليات، والقوى الظلامية الأصولية المتطرفة، الإرهابية الإسلاموية، وفُرضت العسكرة على ثورة السوريين؛ فتراجعت القوى المدنية، وباتت الساحة، في ظل تغييب واضح للجيش الحر، ميدانًا للمواجهة بين قوى التطرف بكل أسمائها وأشكالها.
ونحن هنا لسنا بصدد إجراء تحليل عام تفصيلي لما جرى، ويجري، في سورية منذ ما يقارب السبعة أعوام؛ وإنما نود بيان كيف أن السوريين -بكل انتماءاتهم وتوجهاتهم- باتوا على قناعة اليوم بأهمية وضرورة المشروع الوطني السوري الذي لا بد أن يُطمئن الجميع، عبر احترام الحقوق والخصوصيات، وبموجب عقد دستوري يتوافقون عليه؛ من أجل الحفاظ على وحدة بلدهم، وتأمين مستقبل أفضل لأجيالهم المقبلة، في مشروع يضع مصالح السوريين جميعًا فوق كل الاعتبارات، ومن دون أن يكون ذلك على حساب أي فئة أو مكوّن، وذلك يكون عبر الإقرار الواضح باحترام الخصوصيات، والالتزام بالحقوق المترتبة عليها. أما أن نتحدث بلغة مجاملاتية خالية من أي مضمون ملموس حول دور المواطنة، وضرورة أن يتساوى الجميع أمام القانون، والاحتكام إلى صناديق الاقتراع؛ فهذا لن يبدّد من هواجس المكونات المذهبية أو القومية.
في هذا المجال، نرى ضرورة تأكيد أهمية وحيوية دور المكوّن العربي السني تحديدًا، في ميدان التواصل، وترميم الجسور مع سائر المكوّنات الأخرى، ضمن سياق مصالحة وطنية عامة، تمهّد لحوار وطني معمق على مختلف المستويات، يكون أساسًا لتوافقات وطنية ديمقراطية، تصادر على المخاوف الجمعية، وتؤسس لعلمية دستورية عادلة لكل السوريين، ضمن إطار وطن مشترك يجمعهم، ويساهم في تعزيز الأمن والاستقرار في المنطقة؛ وكل ذلك سيفتح الأبواب أمام تنمية حقيقية، تقوم على قاعدة الاستثمار الرشيد للموارد البشرية والطبيعية، وتضمن توفير فرص العلم والعمل لشبابنا، بعيدًا من الاستبداد والإرهاب.
حتى أولئك السوريين المؤيدين للأسد، وجدوا أنفسهم أمام السؤال المعقد: وماذا بعد؟ وعلى مدار حوالي سبع سنوات من الصراع الدامي وغير المسبوق، بين سلطة عنيدة عنيفة متوحشة، وشعب شبه أعزل، صراع تكاد تفاصيله تستعصي على العدِّ، فضلًا عن التوثيق والإحصاء؛ وجد الشعب السوري الثائر نفسَه في وضع الجريح النازف المترقب نهايةً، أو نهايات، مختلفة جدًا عن تلك التي حلم بالوصول إليها، عندما هبَّ في معظم مدنه وقراه، يهتف للحرية وإسقاط النظام عام 2011.
بات الشعب السري يتمنى توقف القصف وحصار التجويع أولًا، ليستعيد أنفاسه، وقدرته على التفكير بالمستقبل، وأصبح تعبير (والله تعبنا) يُستخدم بين السوريين اللاجئين في دول الجوار، ودول الغرب أيضًا، ويصدمك أحيانًا أن تسمع هذا التعبير من مغترب سوري يملك ثروة طائلة، بعدما يُعدّد لك المنظمات والعائلات التي يُقدّم لها المساعدة، كل شهر، طوال سنوات الثورة.
مع فداحة المصائب التي نزلت بكل شخص سوري؛ فإنه سيجيبك إن سألته: هل تقبل بالعودة إلى حكم الأسد؟ لا، ذلك مستحيل. هذه الإجابة ذاتها سمعها ستيفان دي ميستورا مبعوث الأمم المتحدة إلى سورية، وقبله الأخضر الإبراهيمي وكوفي عنان، من قيادة المجلس الوطني، والائتلاف فيما بعد، وكذلك من الهيئة العليا للمفاوضات، فضلًا عن شخصيات وطنية مستقلة أخرى، أوصلت صوت الثورة إلى كبار المسؤولين في دول القرار.
هذا الإصرار على مطلب إسقاط سلطة الأسد تقابله مشروعات دولية وعربية، لا يبدو أنها مهتمة برحيل الأسد أو بقائه إلا بالقدر الذي يُناسب مصالحها، إن إصرار الأسد على البقاء في السلطة، مهما كلّف من ثمن، مثّلَ فرصًا ذهبية للطامعين بالهيمنة على سورية، أرضًا وبحرًا وشعبًا وثروة غازية واعدة، وهؤلاء مختلفون في الأهداف، وفي الحصص، وفي مناطق النفوذ..
المحلل السياسي د. لبيب قمحاوي، بدا -كغيره من كبار المحللين السياسيين العرب- متشائمًا بشأن مستقبل سورية، حين قال: “إن سورية التي نـَعْرِف قد انتهت، وسورية التي لا نعرف، ولا نريد أن نعرف، هي الآن قيد التشكيل”. لقد شعر معظم السوريين بحالة متفاقمة من العجز، وفقدان القدرة على استشراف المستقبل، أو استيعاب حقيقة ما يجري في بلدهم، بعد شهور من التظاهر السلمي والاستنجاد بالدول العربية والغربية من دون طائل؛ ما أدى إلى تبلور حالة متفاقمة من الإحباط ودفع بعضهم باتجاه حمل السلاح، للدفاع عن بيوتهم وأعراضهم، ثم إلى انضمام المتشددين منهم إلى تنظيمات متطرفة مثل (داعش) و(النصرة) وأشباههما؛ أملًا في التنفيـس عن غضبهم، وربما في تحقيق حلم “الخلافة” الذي يعني لهم السلطة القوية القادرة على سحق نظام الأسد، وهذا الوضع عملت على خلقه مخابرات النظام، بالتعاون مع الحرس الثوري الإيراني وميليشيات (حزب الله)، وقد شكّل في بداياته مخرجًا للنظام السوري، من أزمته الطاحنة التي وضعته في حال من الشلل الذي رافق صراعه مع الشعب الثائر والجيش الحر، ولقد أدى إطلاق يد (داعش)، ومن ثم (النصرة) في اجتياح المدن والبلدات التي حررها الجيش الحر إلى دفـْع الأمورِ في اتجاه حصر الخيار أمام الشعب السوري والعالم الخارجي، إمـَّا في بقاء النظام أو في سقوط البلد بيد “الإرهابيين”، وبذلك فتح المجال أمام قوى عديدة، للتدخل العسكري والسياسي في الشأن السوري، بذريعة مكافحة الإرهاب.
وهكذا؛ فإن الأرض والأجواء السورية أصبحت مستباحة لكل طامع، ومن الواضح أن النظام السوري يحصد ما زرعه، عندما حصر الخيار أمام الشعب السوري والعالم بين بقائه، أو سيطرة المتشددين، وهو تخيّل أن تلك هي خشبة نجاته من السقوط، تلك الخشبة ذاتها أصبحت العذر الكافي للدول الإقليمية والعالمية لقصف سورية وتدميرها وتقسيمها، دون أن تُشكّل ضمانة حقيقية لبقاء النظام.
إن التواجد الروسي في سورية ليس جديدًا، ويعود إلى سنوات طويلة، والتطور الجديد يتمثل بتسمين ذلك الوجود، وتفعيل دوره ونشاطه العسكري بشكل ملحوظ ومُعـْلـَن، وهذا التطور لم يُفاجئ أميركا طبعًا، ولا هو شكّلَ صورةً من صور التنافس الذي ميّز حقبة الحرب الباردة، بل عكس التوجه الجديد في التنسيق، بين مصالح الدول الكبرى على حساب الدول الصغيرة أو الفاشلة.
لقد أدّى إصرار الأسد على البقاء في الحكم بأي ثمن، إلى اختصار الطريق أمام روسيا، وحصر الثمن الذي ستدفعه، مقابل تحقيق مصالحها هناك، بمجرد دعم الأسد والحفاظ على نظامه ولو مؤقتًا، ومصير الأسد أصبح أحد أدوات التفاوض بيد روسيا، وبقاؤه من عدمه أصبح مرتبطًا ارتباطًا وثيقًا بمصالحها، ولا علاقة له بالعواطف أو الأيديولوجيا.
إن خشية روسيا من أن يتأثر وجودها في سورية، إذا جاء نظام حكم بديل عن الأسد يُطالبها بالرحيل، هو السبب الحقيقي وراء الدعم الروسي لبقائه، ولا مانع لديها من تقسيم سورية إلى دويلات، تكون أهمها الدولة العلوية في مناطق تواجد القواعد العسكرية الروسية غربي سورية؛ إذا ما تطلّب الأمر ذلك.
إن السيطرة على موارد الغاز الهائلة، تحت مياه البحر المتوسط، التي سوف تخضع لكل من يُسيطر على الساحل السوري، تُعتبر فوائد إضافية على هامش الأهداف الرئيسية لروسيا، فقد تحوّلت الحرب السورية إلى حرب إقليمية على الأرض السورية، بحكم تضارب المصالح بين دول إقليمية ودولية، في حين أن العرب لم يتعد دورهم التابع المنفذ للآخرين.
الصراع الدائر حاليًا حول سورية يأخذ أشكالًا متعددة، ويدور في دوائر مختلفة، منها ما هو بين أميركا وروسيا، وبين روسيا وتركيا، وبين إيران والسعودية… إلخ. وفي الوقت نفسه، فإن دولًا عدة، منها فرنسا وبريطانيا وألمانيا، لا أحد يستشيرها في قرارات وإجراءات تمسّ الوطن السوري والسيادة السورية، وفي المقابل لا يصدر عن الحكم السوري أي تصريح أو قرار ذي قيمة أو أثر، بخصوص الاحتلالات الأجنبية لمعظم أراضي البلد.
المؤكد أن روسيا والولايات المتحدة لن تخوضا أي نزاع عسكري مباشر، من أجل سورية، وإذا ما كان هنالك أي داع لخوض معارك عسكرية؛ فإن ذلك سوف يتم بأيدي سورية وعربية، بحيث يقتلون بعضهم خدمة لأهدافها، كما يجري الآن.
إن مستقبل سورية ووحدة أراضيها مرهون بمدى قناعة روسيا وأميركا وتركيا وإيران، بأن ما ستؤول إليه أمور الحكم فيها لن يتعارض مع استراتيجياتها، والجميع ينظر إلى مصالحه الوطنية بجدية، بينما تفتقد الأنظمة العربية ذلك الهدف، وينظرون إلى أوطانهم باعتبارها أرضًا وبشرًا في خدمتهم، وليست أوطانًا يقومون على خدمتها، ولا بأس أن تزول بزوالهم، وبالرغم من المآسي المروعة في المشهد السوري، والضباب الذي يُغطّي طريق الخلاص، فإن الأكيد أن الشعب السوري لن يسمح لنظام الأسد بأن يحكمه، مرة أخرى، مهما كلف ذلك من ثمن.
تشارك القوى العالمية الكبرى في الصراع السوري و “الحرب بالوكالة”، والتي باتت مرادفًا لطبيعة الاقتتال في البلاد. وعلى الرغم من الطابع غير الدولي الظاهر لطبيعة النزاع السوري، إلا أنّ العديد من الدول، التي تعدّ طرفًا ثالثًا، ساهمت في تنشيط الأزمة، ودعمت أطرافًا مسلحةً في النزاع، أو حتى ساهمت -بصورة وبأخرى- في العديد من التحالفات العسكرية والسياسية الفاعلة، سواء كان ذلك مع حكومة بشار الأسد أو مع مجموعات المعارضة المسلحة الأخرى. لم يكن لهذه التحالفات تأثير كبير على تداعيات النزاع السوري فحسب، مثل زيادة أعداد الضحايا في صفوف المدنيين وزيادة نسبة العمليات الفردية، بل أثّرت أيضًا في مسار النزاع ونتائجه. ويمكن للحرب بالوكالة أنْ تتّخذ صورًا عدّة، مثل تحالفات دول متعددة مع بعضها بعضًا، أو دولة ما تدعم دولة أخرى، أو دول تدعم جماعات مسلحة، غير شرعية لدول أخرى.
وفي الصراع السوري، حظي التحالف الروسي، سيئ السمعة، مع نظام بشار الأسد بالأهمية الكبرى، من بين جميع التحالفات الواقعة في المنطقة.
يقع جزء من مسؤولية تعزيز القانون الدولي ودعمه على عاتق روسيا؛ كونها عضوًا دائمًا في مجلس الأمن. بيد أنّ روسيا قرّرت تأييد نظامٍ يرتكب، بصورة اعتيادية، جرائم حرب شنيعة وجرائم ضدّ الإنسانية. وعلاوةً على ذلك، ارتكبت روسيا نفسها جرائم خطرة، مثل قتل المدنيين الأبرياء في غارات جوية، خلال شهرَي شباط/ فبراير وتشرين الثاني/ نوفمبر 2016، استهدفت ودمّرت مستشفيات عدّة ومدرسة في حلب. لذلك، مشروعٌ لنا أنْ نتساءل عن شرعية الانضمام الروسي إلى ركبِ نظام الأسد.
بدايةً، من المهم فَهْم عواقب التحالفات في أثناء الحروب. تشير دراسة نوعية شاملة، قام بها “إبراهيم البدوي” و”نيكولاس سامبانيس”، إلى أنّ أمَد الحروب الأهلية يزيد حينما تتدخل دول أجنبية في الصراع. وعلاوةً على ذلك، إنّ الدول المشاركة في النزاعات من خلال التحالفات هي دولٌ أقل اكتراثًا بعواقب تدخلها، كالاهتمام بأعداد الضحايا والإصابات في صفوف المدنيين؛ لأنّها لا تستهدف شعوبها الأصلية بصورةٍ مباشرة. وفي معظم الحالات، تُركّز الدول المنغمسة في الصراعات الدولية على أهدافها الجيو-السياسية، وتُبدي تعاطفًا ضئيلًا بمعاناة السكان المعنيين بالصراع بصورة مباشرة. إضافةً إلى ذلك، تُعَقِّد التحالفات الجهدَ الرامي إلى مساءلة ومحاسبة الأطراف المسؤولة عن ارتكاب انتهاكات في القانون الدولي، حيث يَصعب تحديد مسؤولية الطرف المرتكِب للجريمة. ويرى المستشارون القانونيون التابعون للجنة الدولية للصليب الأحمر أنّ الأطرافَ المشاركة في نزاعٍ ما، من خلال التحالفات، لا تتردد إطلاقًا بانتهاك القانون الدولي، لأنّها تُدرك صعوبة تحديد المسؤولية. ومع ذلك، يُمكن، بصورة مقنعة، أنْ ترتكب الأطراف الأجنبية جرائم حربٍ، بالنيابة عن شركائها المحليين.
لذا، من الضروري تقييم مساهمة روسيا في آلة الحرب الأسدية.
بدأت روسيا حملتها الجوية في أيلول/ سبتمبر 2015، بعد أنْ أصدر مجلس الأمن الدولي القرار رقم (2249)، الذي يسمح للدول الأعضاء في مجلس الأمن باتخاذ إجراءات عسكرية أحادية الجانب للقضاء على تنظيم (داعش). الأمر الذي دعا موسكو إلى رفع شعار “الكفاح ضدّ الإرهاب”، كذريعة تبررُ تدخلها العسكري في سورية. ومع ذلك، تشير الدلائل إلى أنّ هذه الغارات الجوية المعنية، بالدرجة الأولى، في استهداف تنظيم (داعش)، استهدفت في المقابل، بشكلٍ منهجي، جماعات المعارضة المسلحة التي تقاتل نظام الأسد وتنظيم (داعش) الإرهابي معًا. وعلاوةً على ذلك، ادّعت روسيا أنّها استجابت لدعوة الأسد للتدخل في سورية، ومن ثمّ احترمت مبدأ “التدخل عن طريق الدعوة”. ويسمح هذا المبدأ للقوات العسكرية الأجنبية بإحلال السلام في البلاد التي استدعتها، وذلك من دون التغاضي عن “عدم استخدام القوة ضدّ السلامة الإقليمية أو الاستقلال السياسي لأي دولة”، وإلّا تُعدّ انتهاكًا محظورًا بموجب مادة 2(4) من ميثاق الأمم المتحدة. ونتيجة لذلك، يمكن القول إنّ مبدأ الدعوة قانوني تمامًا، بموجب القانون الدولي. ومع ذلك، وكما رأينا في قضية نيكاراغوا ضدّ الولايات المتحدة الأميركية في محكمة العدل الدولية، فإنّ الدعوة صحيحة إذا ما اعتُبرت الحكومة هي الهيئة الشرعية للسلطة ضدّ القوات السياسية والعسكرية المعارضة. ومع ذلك، في الحالة السورية، اعتُرِف بالائتلاف السوري المعارض، وعلى نطاق واسع، من قبل الأغلبية العظمى من المجتمع الدولي، بأنّه الممثل الشرعي للشعب السوري. ولذلك، فإنّ نظام الأسد ليس في وضعٍ يسمح له بدعوة الدول للتدخل في النزاع، منذ أنْ فقدتْ حكومته التمثيل الشرعي للسلطة. في ضوء ذلك، يُعدّ استخدام القوة الروسية في سورية استخدامًا غير متوافق مع مفهوم “التدخل عن طريق الدعوة”؛ لذا فهو غير قانوني بموجب القانون الدولي.
إضافة إلى ذلك، عندما يُحلّل المرء واقع التدخل الروسي، يجب عدم إغفال “القانون الدولي الإنساني (IHL)”، إذ إنّ احترام القانون إلزاميٌ على جميع الدول، بموجب المادة 1 المشتركة بين جميع “اتفاقيات جنيف” و”القانون الإنساني الدولي (IHL)”. ومن خلال شنّ الضربات الجوية، تصبح روسيا جزءًا من النزاع المسلح، ومن ثمّ، ملزَمة بتطبيق واحترام القانون الدولي الإنساني. وبما أنّ الضربات الجوية الروسية تستهدف مناطق المدنيين، على نحو اعتيادي ومنهجي، وتُقدِم على تدمير البنى التحتية للمدن، مثل المستشفيات والمدارس، ولا تقوم باستهداف المناطق التي يسيطر عليها تنظيم (داعش)؛ فإن هذا يجعل تدخلَها في سورية انتهاكًا صارخًا للقانون الدولي الإنساني؛ وبالتالي يجعل دعمها العسكري المباشر لنظام الأسد غيرَ قانوني، بموجب التزاماتها الدولية.
ويتعزّز مفهوم عدم شرعية التدخل الروسي، حينما يجري تقييم نطاق الدعم هذا ومدى فاعليته وتأثيره في الواقع السوري، حيث لا يُغفل ما قدّمه الدعم الروسي من تعزيزٍ وإطالة في أمد القدرة القتالية لقوات الأسد.
فيما ينصُّ التعليق المرفق باتفاقية جنيف الأولى على أنّه “في حالة العمليات المتعددة الجنسيات، يتطلب، بموجب المادة 1 المشتركة، من الأطراف الأساسية المتعاقدة أنْ تشير إلى عملية محددة متوقعة، استنادًا إلى وقائع أو معرفة بأنماط سابقة، من شأنها أنْ تُعَدُّ انتهاكًا للاتفاقيات؛ لأن ذلك من شأنه أنْ يُشكّل مساعدة أو تقديم عون”. وفي الحالة السورية، ثبت انتظام “نظام الأسد” في ارتكاب جرائم حرب وجرائم ضدّ الإنسانية، منذ اندلاع أعمال العنف في عام 2011. وأفاد مستشارو اللجنة الدولية للصليب الأحمر أنّ المساعدة وتقديم العون لا تعني بالضرورة إجراء عمليات عسكرية بالنيابة عن الدولة المتورطة فحسب، بل يُمكن أنْ تتجسد في صورة عمليات التمويل وتوفير الأسلحة، والمساعدة في مجال الخدمات اللوجستية والاستخبارات للدولة المعنية أيضًا.
روسيا، إضافة إلى مشاركتها المباشرة في العمليات العسكرية في سورية، ينطبق عليها جميع المعايير والشروط المتعلقة بالمساعدة وتقديم العون. كما حافظت على قواعد لقواتها البرية والجوية في سورية، بل قامت ببنائها أيضًا، حيث إنها “تؤدي دورًا محوريًا في عملية إعادة الإعمار والاستثمارات الاقتصادية في سورية”، وذلك من خلال عقد صفقات نفطية، وغيرها من اتفاقيات البنى التحتية، ومن خلال توفير الدعم المالي اللازم للدولة السورية. وعلاوةً على ذلك، وقّعت موسكو مؤخرًا اتفاقيةً للحفاظ على قواعدها الجوية في سورية مدّة نصف قرن؛ ما سيمنح تحالف وشراكة البلدين صفة الديمومة.
وجدير بالذكر أنّ الأسد نقل قسمًا كبيرًا من قواته الجوية إلى القواعد الروسية، في نيسان/ أبريل الماضي، ما يدلّ، بوضوح، على التعاون العسكري الوثيق للغاية بين الدولتين. وأمّا من حيث الدعم العسكري، فقد قدّمت موسكو بصورة دائمة التأهيلَ المطلوب لدمشق، من حيث تزويدها بأحدث المعدّات العسكرية الهجومية مثل مركبة المشاة الروسية، وغيرها من المدرعات المتقدمة والطائرات المسلحة بدون طيار والطائرات المقاتلة وطائرات الهليكوبتر، ما يدلّ على التأثير غير المباشر لروسيا في قدرة نظام الأسد على الانتقال من العمليات العسكرية الدفاعية إلى الهجومية مع نجاح ساحق. وأخيرًا، نشر بوتين منظومة جمع المعلومات الاستخبارية والتنصت في سورية، من أجل تزويد نظام الأسد بمزيد من الموثوقية والفاعلية التي يمكن من خلالها الاعتداء على المناطق التي تسيطر عليها المعارضة، بشكل أكثر فاعلية.
ولذلك، فمن خلال دعم النظام السوري، بهذه الطريقة، بارتكابه فظائع موثقة ضدّ الشعب، تُقدم روسيا يد العون والمساعدة له، أي أنها مذنبة بالقدر ذاته في انتهاك القانون الدولي الإنساني.
إنّ روسيا، على الرغم من مبررات تدخلها في سورية، بقدر دعمها للنظام السوري، تنتهك بصورة صارخة القانون الدولي. ولا بدّ من وضع حدّ لهذه الانتهاكات ومحاسبة مرتكبيها. ومع ذلك، فإنّ انسحاب روسيا من “نظام روما الأساسي”، العام الماضي، يجعل من المستحيل إشهار دعوى ضدّها في المحكمة الجنائية الدولية إلّا من خلال رفع الدعوى من قبل مجلس الأمن. وهذه الإحالة غير واقعية، حيث إنّ روسيا، بموجب الحقوق الممنوحة لها بوصفها عضوًا دائمًا في مجلس الأمن، ستمارس صلاحياتها في حق النقض “الفيتو” لعدم المساس بسياستها الخارجية. ومن سوء الحظ، ليست هذه هي المرة الأولى التي تخالف فيها روسيا القانون الدولي (مثل الحرب الروسية -الجورجية وضم شبه جزيرة القرم)، الأمر الذي يؤدي إلى فتح قضايا ضدها في المحاكم الدولية. ومع ذلك، فإنّ روسيا ما فتئت تعمد إلى إساءة استخدام أحكام القانون الدولي، وتشويهها بما يُحقق مصالحها الخاصة، وقامت بالفعل ببناء حيّز يسمح لها دومًا بالإفلات من يد العدالة والمساءلة. وربما يؤكد هذا، مرةً أخرى، الاعتقاد السائد بأنّ القانون الدولي لا يفيد إلّا دول العالم القوية، ولا يُطبَّقُ إلّا حينما تقرر هذه الدول القيام بذلك.
استند موقف روسيا المؤيد للنظام، منذ الأيام الأولى لاندلاع التظاهرات في سورية -حسب معظم التقديرات- إلى ردّ الاعتبار لها كدولة عظمى، بعد استفراد الغرب بالموضوع الليبي، واستمرار بيع الأسلحة للحلفاء، وضمان عدم منافسة الآخرين، في ما يتعلق بإمداد أوروبا بالنفط والغاز الروسيين، فضلًا عن أهمية القاعدة البحرية في طرطوس من أجل تموين الأسطول الروسي في البحر المتوسط. في تلك البدايات، تداولت أوساط “المجلس الوطني السوري” معلوماتٍ، حول محاولة بعض الدول الخليجية شراء الموقف الروسي، وتقديم ضمانات لروسيا بتأمين مصالحها في سورية، في حال انتصرت الثورة، لكنّ ذلك كان مجرّد أوهام، وإن الموقف الروسي كان أبعد مدًى، واستراتيجيًا بامتياز.
خلال سنوات المأساة السورية، استخدمت روسيا حق الفيتو في مجلس الأمن، تسع مرات، كان الفيتو الأول بتاريخ 5 تشرين الأول/ أكتوبر 2011 ضد قرار أممي يدين النظام لانتهاكه حقوق الإنسان خلال قمع الانتفاضة، فيما كان الفيتو الأخير بتاريخ 24 تشرين الأول/ أكتوبر 2017 ضد التمديد للجنة التحقيق باستخدام الأسلحة الكيميائية في سورية. وفي مطلع خريف عام 2015، فاجأ الروس الجميع، ربما باستثناء الأميركيين، بتدخلهم المباشر في سورية. بدايةً، رفض الأميركيون التدخل الروسي بنعومة، واعتبروه إطالة لأمد الحرب، لكنهم سارعوا إلى التنسيق مع الروس، تفاديًا لحدوث صدامات غير مقصودة في الأجواء السورية.
مؤخرًا، دعت روسيا إلى عقد مؤتمر “الشعوب السورية” في قاعدة حميميم، ومن ثمّ أعلنت عن نقله إلى مدينة (سوتشي) على ساحل البحر الأسود، وحددت موعد انعقاده بتاريخ 18 من الشهر الحالي، كما غيّرت اسمه إلى مؤتمر “الحوار الوطني السوري”، بعد صدور العديد من الانتقادات حول مصطلح “الشعوب السورية”. ومنذ ثلاثة أيام، أعلن ناطق باسم الرئاسة التركية أن الروس أبلغوهم بتأجيل المؤتمر حتى إشعار آخر، وبعدم دعوة (حزب الاتحاد الديمقراطي) إليه.
كانت وزارة الخارجية الروسية قد نشرت قائمة بـ 33 حزبًا وهيئة سياسية معارضة، من أجل دعوتها إلى حضور المؤتمر، معظمها محدود الوزن والتمثيل، علاوة على وفد من النظام. ولم تخفِّف التصريحات الروسية اللاحقة حول النية بإجراء تعديلات على قائمة المدعوين من حقيقة ضحالة التمثيل المزمع في هذا المؤتمر، واقتصر جدول الأعمال على مناقشة “الدستور السوري” الذي وضعته، وسرّبته روسيا في الشهر الأول من هذا العام.
بعيدًا عن نكتة مناقشة “الدستور السوري” في عدة أيام، تريد روسيا طهو طبختها على نار حامية، وتشكيل مسار سياسي جديد خاص بها في (سوتشي)، بعد أن رسم مؤتمر أستانا خطوطَ الصراعات العسكرية على الأرض، وأقام مناطق خفض التصعيد بالتعاون مع الولايات المتحدة وتركيا وإيران؛ وبذلك تطوي روسيا -عمليًا- مساري جنيف 1 وجنيف 2، اللذين أكّدا على مرحلة انتقالية وإجراء تغيير سياسي تدريجي في سورية.
ما الذي يمكن أن تقدمه روسيا للسوريين على الصعيد السياسي؟
يشبه الواقع السوري الحالي واقع ألمانيا بعد الحرب العالمية الثانية، بصورة ما، حيث تحول القسم المحتل من قبل الاتحاد السوفييتي إلى ألمانيا “الديمقراطية” أو الشرقية، في حين اتحدت الأقسام الثلاثة، المحتلة من قبل الولايات المتحدة وفرنسا وبريطانيا، باسم ألمانيا الاتحادية أو الغربية. وروسيا التي ورثت الاتحاد السوفييتي إلى هذه الدرجة أو تلك، لم تزل بعيدة عن أن تكون دولة ديمقراطية، ولا يمكن أن تنتج جهودها في سورية نظامًا سياسيًا مختلفًا، بل نسخة أكثر تخلفًا من نظامها، أو، بكلام آخر، مجرد تحديث للنظام الحالي، سواء في عموم سورية إن استفردت بالحل، وهذا أمر غير واقعي، أو في المنطقة الغربية التي تسيطر عليها إلى جانب النظام.
من جهة ثانية، سيكون اقتصاد المافيا هو النموذج الأكثر ترجيحًا وحضورًا في منطقة نفوذ الروس، ولن يتغير الكثير في هذا الصدد. كما سيضفي النفوذ الإيراني، في المنطقة التي تسيطر عليها روسيا، مظاهرَ تتعلق بنشر مؤسسات التشيع ومظاهره الدينية والاجتماعية، إن لم تحدث تطورات تضع حدًا لطموحات إيران المتزايدة، فمواجهة الإسلام السياسي السني لا يمكن أن تنجح، من دون مواجهة نظيره الشيعي والأحلام الإمبراطورية الإيرانية من ورائه. نشير هنا إلى أن الخطوات الأميركية الأخيرة للتضييق على إيران وامتداداتها الإقليمية، فضلًا عن دلالة استقالة رئيس الوزراء اللبناني سعد الحريري، قد تؤشر إلى قيام الحلف المناهض لإيران، بمحاولات جدية لوقف التمدد الإيراني في المنطقة العربية، وإن كانت المؤشرات الداخلية السعودية هي السبب المرجح وراء استقالة الحريري.
عمومًا، يمكن القول إنّ ما سيحدث في “سورية الغربية” هو استمرار الشراكة بين روسيا وإيران والنظام الحالي، حسب الحاجة والمصلحة. هذه الحالة لن تكون قابلة للحياة على الأرجح، وربما سيفضي التباين المتزايد مع واقع المناطق السورية المجاورة إلى انهيارها، كما حدث لألمانيا الشرقية عام 1989. كما تتمثل نقطة الضعف في هذا السيناريو، لحسن الحظ، بضعف استقرار النظامين السياسيين في روسيا وإيران، وتأثير تغير السياسات في أي من هذين البلدين، أو في كليهما، على تحقُّقه.
في المقابل، ستكون المناطق الشمالية الشرقية، الواقعة تحت النفوذ الأميركي، مفتوحةً أمام الاستثمارات الأجنبية كامتداد للاقتصاد الليبرالي الغربي؛ ما سيساهم في سرعة تطورها واندماجها مع فعاليات الاقتصاد العالمي (منذ الآن، بدأ الحديث عن إعمار الرقة من قبل مستثمرين سعوديين بتوجيه أميركي). في حال تحقق هذا السيناريو، ربما ستكون البادية السورية ممرًا أميركيًا لوصل المناطق الشمالية الشرقية بالمنطقة الجنوبية الغربية، هذا ما يمكن استنتاجه من احتفاظ الأميركيين بقاعدة (التنف)، التي لا يمكن أن تقتصر وظيفتها على إعاقة وصول الإيرانيين إلى دمشق، ما دام منفذ (البوكمال) الحدودي مع العراق مفتوحًا.
ولن تخرج المناطق الخاضعة للنفوذ التركي في الشمال السوري، عن النموذج السياسي والاقتصادي السائد في هذا البلد، وكأن التاريخ يعيد نفسه في ما يتعلق باجتياح الأتراك لشمال جزيرة قبرص في عام 1974، وإنّ حكومة “الإنقاذ الوطني” و”الجيش الوطني” اللتين أُعلن عنهما مؤخرًا في مدينة إدلب، هما -على الأغلب- مجرد تسميتين مخادعتين أخريين لنيّة تركيا اقتطاع هذه المحافظة، بعد جيب إعزاز، ما لم يتم الوقوف في وجه الطموحات التركية أو تحقيق تسوية سياسية مقبولة، بالنسبة إلى جميع السوريين، فالخطر التركي يتمثل بقضم الجغرافية السورية كأمر واقع، في حين لا يمكن للدول الأخرى ذات النفوذ في الأرض السورية القيام بذلك؛ بسبب عدم وجود حدود مشتركة.
يرتبط تحقق السيناريوهات السابقة أو فشلها، باستمرار التحالفات الدولية الحالية أو تغيرها، وباستعادة “الوعي السوري” أو استمرار غيابه؛ ما يترك المجال مفتوحًا لإعادة إنتاج سيناريو سوري آخر في المستقبل، وبما يشبه توحيد ألمانيا في 3 تشرين الأول/ أكتوبر عام 1990، بعد تفكك المنظومة الشرقية للاتحاد السوفييتي.