إن تصاعد التوترات بين إيران والدول العربية المجاورة ينسحب بوضوح على التصعيد الواضح لأنشطة طهران داخل العالمين العربي الإسلامي، تنفيذاً لاستراتيجية توسعية كتبها دستور «ثورة 1979 - 1980» تحت غطاء نشر «الثورة الإسلامية»، لا خدمة الشعوب الإسلامية؛ بل على حسابها، ولا حباً للشيعة؛ بل استخدام الدين الحنيف لصالح تحقيق السيطرة الشاملة على العالمين العربي الإسلامي.
الحروب في سوريا والعراق واليمن قد وفّرت للنظام الإيراني مسرح عمليات أكبر. وبتمويل وتوجيه الميليشيات العميلة في كل من هذه الأماكن، بدأت طهران بالفعل في إعادة إنتاج نموذج «حزب الله» الذي لطالما كان له تأثير على السياسة والمجتمع في لبنان. ونتيجة لذلك، تزداد وتيرة العنف الطائفي، في حين يواصل النظام الإيراني سعيه لتحقيق هدفه المنشود منذ وقت طويل، المتمثل في تكريس خلافة مذهبية متطرفة تمتدّ إلى المنطقة العربية الإسلامية.
وللجزيرة العربية مبررات قوية في مواجهة التهديد الإيراني المتزايد. وفي هذا الإطار، تم تشكيل ائتلاف عربي مهمته الرئيسية دفع النفوذ الإيراني في اليمن ثم في الجزيرة كلها.
وفي حقيقة الأمر، يبدأ نفوذ النظام الإيراني وفروعه الكثيرة من داخل إيران، وهو المكان الذي يجب أن يقتلع منه، ومن جذوره.
ومن المؤكد أن شعوباً أخرى قد عانت أيضاً على أيدي نظام توسعي وعملاء إرهابيين مسؤولين عن أعمال الذبح والتخريب، مثل تفجير أبراج الخبر في عام 1996. ولكن المعارضين للنظام داخل إيران قد تعرضوا لعمليات قتل منظم وبأعداد كبيرة منذ إنشاء «الجمهورية الإسلامية».
وحاول مؤسس «الجمهورية الإسلامية» الخميني في عام 1988 القضاء على جميع قوى المعارضة النشطة، وأصدر فتوى تدعو إلى إعدام كل من بقي له ولاء للمعارضة الرئيسية «مجاهدين خلق». وبذلك تم إحضار ما قُدّر بثلاثين ألف سجين سياسي أمام «لجان الموت» في جميع أنحاء البلاد لاستجوابهم حول انتماءاتهم السياسية، ليحكم عليهم بالشنق.
لا أحد في العالم لديه عطش لتحقيق العدالة في إيران أكثر من عائلات وأصدقاء ضحايا مجزرة 1988. ولذلك ليس هناك من هو أكثر التزاماً بين أبناء الشعب الإيراني منهم بالعمل من أجل قضية تغيير النظام. فقد أصبحت مجزرة السجناء السياسيين قضية رأي عام للشعب الإيراني، لا سيما منذ ظهور التسجيل الصوتي في السنة الماضية لوريث الخميني آنذاك حسين علي منتظري، الذي قال فيه لأعضاء «لجنة الموت» في طهران: «أنتم ارتكبتم أبشع جريمة في تاريخ (الجمهورية الإسلامية)».
معروف أن كل طرف كان ضحية لـ«الجمهورية الإسلامية» يجب أن يكون حليفاً في دحر هذا النظام. وهذا ينطبق بشكل خاص على أبناء الشعب الإيراني الذي يتصدر الصفوف الأمامية في المعركة لوقف النشاط القمعي والمدمر داخل إيران وخارجها. فينبغي على أولئك الذين سيشاركون في هذه المعركة؛ سواء من الولايات المتحدة أو من الدول العربية، أن يبدأوا بالتعبير عن تضامنهم مع الشعب الإيراني والاعتراف بمقاومته الرئيسية المتمثلة في «المجلس الوطني للمقاومة الإيرانية». ولا توجد طريقة أفضل للقيام بذلك أكثر من السعي إلى تحقيق العدالة على الساحة الدولية.
لم يواجه أي شخص اتهامات، ولم يتم حتى التحقيق رسمياً مع أي كان حول دوره في مجزرة عام 1988، على الرغم من أن - تقريباً - جميع المسؤولين الرئيسيين لا يزالون على قيد الحياة اليوم، ويشغلون مناصب عليا في «الجمهورية الإسلامية».
ولم تترك المنظمات غير الحكومية، مثل منظمة العفو الدولية ومنظمة مراقبة حقوق الإنسان المعروفة باسم «هيومان رايتس ووتش» و«الفيدرالية الدولية لحقوق الإنسان»، وكذلك كبار المختصين الدوليين في مجال القانون الدولي، أي مجال للشك في أن الإعدامات الجماعية عام 1988، تمثل جريمة ضد الإنسانية، من النوع الذي كان ينبغي أن تضعه الأمم المتحدة والدول الأوروبية والولايات المتحدة والدول المجاورة لإيران في دائرة اهتمامها الخاص.
لدول الجزيرة مبررات قوية في مواجهة النظام الإيراني وعملائه في المنطقة، خصوصاً عندما يقترب هؤلاء من حدودها. لكن هناك مبررات أكثر وضوحاً عند مواجهة انتهاكات صارخة لحقوق الإنسان في إيران. وقد أصبحت مجزرة عام 1988 بالفعل صرخة حشد للناشطين والمنشقين الإيرانيين. وينبغي أن تتعالى أصواتهم في الساحة الدولية، لتصبح صرخة حشد في جميع أنحاء المعمورة لجميع البلدان الملتزمة بوقف تدخلات إيران الشيطانية في جميع البلدان العربية الإسلامية.
في الوقت الذي تحتفل فيه إدارة ترمب باتفاق جديد يرمي إلى تجميد ميدان القتال في جنوب سوريا، يستعد نظام الأسد وإيران للمرحلة التالية من الحرب طويلة الأمد القائمة، التي سيحاولان خلالها غزو باقي أرجاء البلاد. أما مسألة ما إذا كانت إيران سيحالفها النجاح في ذلك أم لا، فتعتمد بدرجة كبيرة على ما إذا كانت الولايات المتحدة من ناحيتها ستقر بوجود مثل هذه الاستراتيجية من الأساس، ثم تعمل على التصدي لها، أم لا.
في الوقت الراهن، تدفع طهران بآلاف المقاتلين إلى داخل الأراضي التي سيطرت عليها حديثاً وتعكف على بناء قواعد عسكرية لها. ورغم أن القوات المدعومة من واشنطن تسيطر على أراضي شرق الفرات في جنوب شرقي سوريا، إضافة إلى مساحات على امتداد الحدود مع إسرائيل والأردن في الجنوب الغربي، أعلنت طهران عزمها معاونة بشار الأسد في استعادة السيطرة على كامل أراضي سوريا.
من ناحية أخرى، شوهد قائد الحرس الثوري الإيراني، الجنرال قاسم سليماني، في الفترة الأخيرة في مدينة دير الزور الواقعة شرق سوريا، الأمر الذي يكشف الأهمية الكبيرة التي توليها إيران للسيطرة على المناطق الغنية بالنفط المجاورة للمدينة. كما شوهد سليماني قرب بوكمال، التي تقع قرب الحدود من مدينة القائم العراقية، وتشكل الجزء الأخير من الجسر البري الذي تسعى إيران لإقامته بين طهران وبيروت.
من ناحية أخرى، جرى الترويج للاتفاق الذي أبرمه الرئيس ترمب مع نظيره الروسي فلاديمير بوتين في آسيا، باعتباره سبيلاً لضمان أن الأراضي المحررة تظل خارج سيطرة الأسد، وتوفير مخرج أمام المقاتلين الأجانب. ومع هذا، أعلن وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف أن موسكو ليست لديها نية للضغط على إيران لسحب قواتها من سوريا.
إذن ما الذي يمكننا عمله؟ خرجت قوة عمل رفيعة المستوى من مسؤولين دبلوماسيين وعسكريين أميركيين سابقين بمجموعة من المقترحات، بخصوص كيف يمكن لترمب منع إيران من السيطرة على الجزء المتبقي من سوريا المحررة، وإنجاز وعده باحتواء النفوذ الإيراني بالمنطقة.
وذكر التقرير الصادر عن المعهد اليهودي للأمن الوطني للولايات المتحدة أنه «على نحو عاجل للغاية... يتحتم على الولايات المتحدة فرض عوائق حقيقية أمام المساعي الإيرانية لضمان تحقيق نظام الأسد النصر الكامل داخل سوريا. ويتسم عامل الوقت هنا بأهمية محورية».
أولاً: يتعين على الولايات المتحدة إعلان سياسة واضحة إزاء سوريا، تقضي على الشكوك حول أن مشاركة واشنطن ستتراجع الآن مع هزيمة تنظيم داعش. وينبغي أن تعلن السياسة بوضوح أن الوجود العسكري الأميركي مستمر براً وجواً لضمان عدم معاودة «داعش» في الظهور، وكذلك عدم إعادة بشار سيطرته على كامل البلاد، علاوة على تحقيق الأمن وإعادة الإعمار.
ثانياً: يجب أن تزيد إدارة ترمب مساعداتها إلى المجتمعات السنية التي كانت محظوظة بما يكفي لأن تعيش خارج حكم الأسد، ومعاونة الجماعات المحلية المدعومة من قبل واشنطن في السيطرة على الأراضي الاستراتيجية في جنوب شرقي سوريا. ويمكن أن توفر هذه الأراضي للمجتمعات المحلية فوائد اقتصادية الآن، ونفوذاً سياسياً في المستقبل.
ثالثاً: ينبغي أن تعمل الولايات المتحدة مع حلفائها الإقليميين لمنع إيران من نقل أسلحة وقوات إلى سوريا. ويتطلب ذلك اعتراض الشحنات بحراً، وضمان سيطرة قوات مدعومة أميركياً على المدن الحدودية المحورية داخل سوريا والعراق. ومن شأن مثل هذه الخطوات كبح جماح العدوان الإيراني، من دون إثارة صراع مسلح مع طهران.
من جانبه، قال جنرال القوات الجوية المتقاعد تشارلو والد، الذي ترأس قوة العمل سالفة الذكر: «نحن بحاجة لتقويض قدرة إيران على بناء هلال من النفوذ. ويتعين علينا الاستمرار في بناء تحالف مع الدول التي تشاركنا توجهاتنا».
من جهته، كان ترمب محقاً عندما أوضح أنه واجه ظروفاً سيئة داخل سوريا. الواضح أن سياسة إدارة أوباما القائمة على توجيه دعم فاتر للمسلحين السوريين، والجهود الدبلوماسية التي اعتمدت على الأماني أكثر من الحقائق، أسفرتا عن الموقف القائم على الأرض اليوم. إلا أنه يتعين على ترمب تجنب تكرار أخطاء باراك أوباما.
وفي هذا الصدد، أكد السفير السابق لدى تركيا، إريك إلدمان، الذي يتقاسم رئاسة قوة العمل، أنه «أمامنا جميع أنواع البطاقات التي يمكننا اللعب بها واستغلالها هنا، إذا امتلكنا الحكمة والذكاء اللازمين».
في الواقع، ليست ثمة رغبة داخل الولايات المتحدة للدفع بقوات عسكرية لأمد طويل داخل سوريا، لكن الدروس المستفادة من الانسحاب الأميركي من العراق عام 2011 لا تزال حية بأذهان القيادات العسكرية. من جهته، تعهد وزير الدفاع، جيمس ماتيس، الأسبوع الماضي بأن القوات الأميركية ستبقى لمنع ظهور «داعش جديد» وحتى انطلاق العملية السياسية، لكنه لم يذكر أن الولايات المتحدة ستتصدى للعدوان الإيراني.
الحقيقة أن مصالح الأمن الوطني الأميركي واضحة، ذلك أن السيطرة الإيرانية على المدى الطويل على الأراضي السورية التي تحررت من قبضتي النظام و«داعش»، ستثير مزيداً من القلاقل وتغذي التطرف وتطيل أمد الأزمة.
من ناحيته، قال معاذ مصطفى، المدير التنفيذي للمنظمة السورية للطوارئ: «لعب التحالف الذي تقوده الولايات المتحدة والقوات المتحالفة معه على الأرض دوراً محورياً في هزيمة داعش، لكن تحرير السوريين من قبضة التنظيم وتركهم في قبضة إيران، لن يسفر سوى عن إطالة أمد حالة التحول الراديكالي التي تشهدها البلاد».
وأضاف: «كثيراً ما يقال لنا إنه ليس ثمة حل عسكري للأزمة السورية، وهذا صحيح. إلا أن الصحيح كذلك أنه من المتعذر إقرار حل دبلوماسي طالما استمرت إيران والأسد في مساعيهما نحو إحراز نصر عسكري والإفلات به».
من الواضح تماماً منذ بدايات الثورة السورية أن النظام كان ينفذ في سوريا نفس المخطط الذي نفذه الروس في الشيشان، فكما قام الروس بتسوية العاصمة الشيشانية غروزني بالأرض، كان النظام يحوّل كل المدن والقرى التي ثارت ضده إلى ركام، ويسويها بالأرض. ولطالما سمعنا جنرالات النظام يهددون أي منطقة تثور ضدهم بتحويلها إلى مزرعة بطاطا. وكما هو واضح، فإن روسيا لم تكتف بإعطاء النظام الوصفة العسكرية للقضاء على الثورة، ولم تكتف أيضاً بمساعدته بكل جبروتها العسكري كي ينفذها على ما يرام، بل ها هي الآن تحاول أن تطبق التجربة الشيشانية السياسية في سوريا، بحيث لن يحصل السوريون بعد كل تضحياتهم إلا على قاديروف سوري نسبة إلى الرئيس الشيشاني الذي عينه الروس رئيساً مطيعاً للشيشان بعد تسوية الشيشان بالأرض.
مغفل من يعتقد أن روسيا ستجلب الديمقراطية للسوريين، بل ستنقل تجربتها "الديموخراطية" إلى سوريا. هل تعلمون أن كل دول أوروبا الشرقية التي كانت تنضوي تحت لواء الاتحاد السوفياتي انتقلت فعلياً من المرحلة الشيوعية إلى المرحلة الديمقراطية، باستثناء روسيا نفسها التي لم يتغير فيها سوى الاقتصاد من الاشتراكي إلى الرأسمالي المتوحش، بينما ظل النظام السياسي ديكتاتورياً؟ بعبارة أخرى، فإن وكر الشيوعية الأصلي الذي كان يتمثل بالاتحاد السوفياتي لم يفارق عهد الطغيان إلا شكلياً.
على عكس كل الدول الأوربية الشرقية التي كانت تدور في الفلك الروسي، انتقلت روسيا بعد ثورتها، أو لنقل بعد تفكك الاتحاد السوفياتي، انتقلت من الديكتاتورية الشيوعية إلى عصر المافيا، حيث حكمت المافيا هناك لفترة من الزمن ريثما يتشكل نظام جديد يحكم البلاد بعد سقوط النظام الشيوعي. وبعد طول انتظار، لم يحظ الشعب الروسي بحكم ديمقراطي على غرار بقية دول أوروبا الشرقية التي انتقلت فعلياً إلى النظام الديمقراطي الحقيقي. لا شك أن النظام الروسي الجديد راح ينافس الرأسمالية المتوحشة اقتصادياً، حيث تحولت موسكو إلى واحدة من أغلى العواصم في العالم، لكن النظام السياسي الجديد ظل نظاماً سوفياتياً بواجهة ديمقراطية زائفة. صحيح أن الدولة الروسية الجديدة تظاهرت باتباع النظام الديمقراطي والانتخابات والتعددية الحزبية وغيرها من مظاهر الديمقراطية، إلا أنها في الواقع كانت وما زالت بعيدة عن الديمقراطية الحقيقية بعد الأرض عن الشمس.
انظروا فقط إلى لعبة التداول على السلطة المزعومة في روسيا منذ سنوات طوال. لقد تحولت روسيا إلى لعبة في أيدي الثنائي الشهير ميدفيديف-بوتين. مرة يكون ميدفيديف رئيساً للجمهورية وبوتين رئيساً للوزراء، ومرة يكون العكس، مع الانتباه طبعاً إلى أن الحاكم الحقيقي الوحيد في روسيا هو بوتين، بينما يلعب مدفيديف دور الكومبارس الديمقراطي. ولسنا بحاجة أبداً لأي برهان كي نرى كيف أصبحت روسيا العظمى كلها مرتبطة باسم بوتين، بينما ينظر حتى الروس أنفسهم إلى ميدفيديف شريك بوتين في السلطة على أنه مجرد ديكور ديمقراطي، بينما السلطة الحقيقية للقيصر بوتين، وهو الاسم الذي تطلقه عليه وسائل الإعلام الغربية، لأنه الحاكم بأمره بقوة الجيش وأجهزة الأمن الروسية الشهيرة التي ورثت أساليب الكي جي بي من ألفها إلى يائها.
وبما أن روسيا أصبحت صاحبة الكلمة العليا في سوريا بعد احتلالها المباشر للبلاد بغطاء شرعي زائف اسمه بشار الأسد، فهي لا شك ستنقل للسوريين تجربتها "الديموخراطية" الكوميدية، بحيث ستعمل على إجراء انتخابات يفوز فيها عميلها في دمشق سواء كان بشار أم عميل آخر من نفس الطينة. ويجب أن ننوه هنا إلى أن روسيا تغلغلت عميقاً داخل المؤسستين العسكرية والأمنية السورية، وتعرف أيضاً كيف تتلاعب بأتباعها داخل المؤسستين. وبالتالي، فيما لو حصل تغيير في سوريا، فلا شك أنه سيكون على الطريقة الروسية، بحيث سيبقى الأمن والعسكر مسيطرين على البلاد بنفس الطريقة التي يدير بها بوتين روسيا "الجديدة". بعبارة أخرى، فإن الثورة السورية ستفرز واقعاً مشابهاً للواقع الذي أفرزته الثورة الروسية المسكينة التي انتقلت ظاهرياً من العهد السوفياتي الشيوعي إلى العهد الديمقراطي الزائف، بينما ظلت اليد العليا فيها عملياً للجيش والاستخبارات. ولا ننسى طبعاً أن الرئيس الروسي بوتين نفسه هو أحد رجالات المخابرات الروسية "الأشاوس". وهذا يؤكد أن روسيا شذت عن باقي ثورات أوروبا الشرقية.
وفي أحسن الأحوال، إذا ظلت روسيا ممسكة، بزمام الأمور في سوريا، فلن يحصل السوريون إلا على نسخة مشوهة من "الديموخراطية" الروسية، بحيث سيكون لدينا رئيس من فصيلة المخابرات والعسكر حاكم بأمره يتناوب على السلطة مع شخصية أخرى من وزن "الطرطور" كي يقنع العالم بأن سوريا تغيرت وأصبحت ديمقراطية، بينما هي في الواقع انتقلت من سيء إلى أسوأ. ولا شك أن "الديموخراطية" السورية ذات النكهة الروسية ستكون مناسبة جداً لإسرائيل، لأنها تطمئنها بأن الشعب السوري سيبقى تحت ربقة العسكر والمخابرات الذين حموا إسرائيل من الشعب السوري على مدى نصف قرن من الزمان.
ولعل أكثر ما يثير الضحك في التصريحات الروسية حيال الوضع السوري أن الكرملين يكرر باستمرار أن السوريين وحدهم سيقررون مصير النظام والرئيس، مع العلم أن من يقرر كل شيء في سوريا الآن هم الروس بآلتهم العسكرية الجبارة. لا أدري لماذا يستحمر الروس السوريين وبقية العالم بهذه التصريحات الهزلية القميئة.
قال شو قال: مصير الأسد بيد السوريين. طيب، ألا تقدم روسيا كل أنواع الدعم للنظام السوري؟ ألا تستخدم كل أنواع أسلحتها الجديدة للقضاء على معارضي النظام بالحديد والنار؟ هل تركت فصيلاً معارضاً على الأرض إلا واستهدفته طائراتها؟ ألم تتدخل في سوريا بحجة محاربة داعش ثم اكتشفنا أنها جاءت حصراً لمحاربة كل من يعارض النظام؟ ألم تستخدم الفيتو في مجلس الأمن إحدى عشرة مرة لحماية النظام؟ ثم يخرج علينا الكرملين بكل صفاقة ليقول إن الشعب السوري سيقرر مصير النظام؟ وماذا كان جيشكم الروسي وطائراتكم وقواتكم تفعل في سوريا على مدى سنتين؟ هل كنتم توزعون الأزهار والحلوى على أطفال سوريا، أم كنتم تقتلون وتشردون الأكثرية في سوريا، بينما تعملون على إعادة تأهيل النظام والطوائف المتحالفة معه لتفرضوه على ما تبقى من السوريين المكلومين وعلى العالم مرة أخرى ككلاب حراسة لمصالحكم واستثماراتكم وقواعدكم الجديدة في سوريا؟ حتى الدستور السوري وضعته موسكو!
قال شو قال: مصير الأسد يقرره الشعب السوري.. هل ترك الروس أصلاً أي شيء للسوريين كي يقرروه بأنفسهم، أم إنهم فرضوا عليهم تطبيق التجربة الشيشانية الهمجية بحذافيراها؟
أسفر سقوط معاقل «داعش» الرئيسية في سوريا عن ظهور تحديات تتعلق بضرورة إيلاء موسكو مزيداً من التركيز على العملية السياسية الرامية إلى تسوية الصراع السوري، الأمر الذي يعني بدوره تهيئة المرحلة المقبلة لعقد حوار موسع بين الأطراف المتنازعة، إذ يرغب الكرملين في أن يحصد وكلاؤه مزيداً من الزخم السياسي، وبأكثر مما قد يحصل عليه خصومهم.
بدت التحركات الدبلوماسية الروسية، خلال الثلاثين يوماً الماضية، فيما يتعلق بالقضية السورية، محمومة بصورة ملحوظة. من ناحية، أدلى الرئيسان الروسي فلاديمير بوتين والأميركي دونالد ترمب ببيان مشترك في قمة في دانانغ (فيتنام) في 11 نوفمبر (تشرين الثاني) الحالي، بشأن الصراع السوري، أكدا فيه أن التسوية السياسية هي المسار الوحيد للصراع القائم، وأكدا أيضاً على احترام عملية جنيف، فضلاً عن مبادئ قرار مجلس الأمن الدولي رقم 2254. ومن ناحية أخرى، وبعد مرور عدة أيام، وجه وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف اتهاماً صريحاً إلى أعضاء الأمم المتحدة، بعدم القيام بما يجب في شأن تسوية الصراع السوري، مضيفاً أنه ينبغي على روسيا، وبمعاونة اللاعبين الإقليميين في إيران وتركيا، منح دفعة جديدة لعملية المصالحة السياسية في سوريا.
وأثار هذا الموقف، بدوره، على الفور تساؤلاً مهماً بين المحللين السياسيين، بشأن مصلحة روسيا في المحافظة على عملية جنيف، إذ رأى بعضهم أن الكرملين يسعى لتقويض أهمية محادثات جنيف ومحاولة استبدال عملية آستانة بها، والتي تهيمن عليها بالأساس القوى الإقليمية التي تعد موالية لموسكو بصورة من الصور. ومع ذلك، وعندما يتعلق الأمر باللاعبين الإقليميين، قد يبدو الموقف الروسي غير متسق: بدلاً من المضي قدماً في محادثات آستانة، قررت موسكو عقد اجتماع الحوار الوطني السوري. وفي الوقت الذي تغازل فيه موسكو الأكراد السوريين، فإنها تعمل في الوقت ذاته على بناء مزيد من التعاون مع تركيا وإيران. وهكذا، التقى الرئيس الروسي، خلال الشهر الحالي، بنظيريه التركي والإيراني مرتين متتاليتين (بما في ذلك اجتماع 22 نوفمبر الحالي). وأخيرا، كانت روسيا تتشاور مع إسرائيل حال العمل على إنشاء مناطق خفض التصعيد في جنوب وغرب سوريا.
ومع ذلك أيضاً، وفي 14 نوفمبر، وصف وزير الخارجية الروسي الوجود العسكري الإيراني في سوريا بـ«المشروع»، وجاءت ردود فعله سلبية حيال البيانات الصادرة عن المسؤولين الأميركيين والمعنية بضمان موسكو لانسحاب القوات الإيرانية من الأراضي السورية، إلى مسافة قريبة من الحدود مع إسرائيل.
وعلى الرغم مما تقدم، وإن وضعنا الأمر في الحسبان، فإن التحركات الدبلوماسية الروسية توحي بمزيد من المنطقية والمساومة عن الخطوات المتخذة من بعض القوى الغربية. أولاً وقبل كل شيء، أن روسيا تتفهم أهمية اللحظة الراهنة في الصراع السوري، وأن المرحلة العسكرية النشطة لذلك الصراع قد قاربت على الانقضاء. فلقد لحقت الهزيمة الفادحة بتنظيم داعش الإرهابي (إلا أن ذلك لا يعني نهاية التنظيم بالكامل) ولقد حان الوقت للبدء في بناء سوريا الجديدة على أنقاض الدولة القديمة الممزقة. ويدرك الكرملين أنه إن رغب في المحافظة على الوجود الروسي في سوريا لما بعد الصراع، فلا بد من أن يتصدر قيادة هذه العملية.
ومع ذلك، من غير المنتظر أن تلعب محادثات جنيف دور نقطة البداية الجيدة في العملية السياسية الجديدة، فهناك كثير من القوى الضالعة فيها بغية التوصل إلى توافق فوري حيال كافة القضايا ذات الصلة. وبدلاً من ذلك، يمكن لعملية جنيف أن تلعب دور المرحلة الأخيرة من العملية السياسية، والمعنية بصياغة واعتماد الدستور الجديد وتشكيل وجه الحكومة السورية الجديدة.
قبل مناقشة القضايا ذات الاهتمام العالمي، لا بد من مواصلة تنفيذ وقف إطلاق النار على المستوى الإقليمي في البلاد، والعمل على بناء الحكومة المحلية، والعودة إلى الحياة الطبيعية التي يمكن للأطراف المتناحرة التعايش في ظلها بعضهم مع بعض. ولا يمكن تحقيق ذلك إلا من خلال سلسلة من المفاوضات بين مختلف القوى الفاعلة على الأرض. وهذا بدوره يزيد من أهمية محادثات آستانة. من أجل ذلك، تولي موسكو في الوقت الراهن مزيداً من تركيز جهودها الدبلوماسية للعمل مع البلدان التي تملك الكلمة في الواقع السوري.
وهكذا أكدت القيادة الروسية دعم تشكيل جماعة معارضة وموحدة لتمثيل القوى المناهضة لرئيس النظام بشار الأسد في اجتماع جنيف المنتظر. وفي الأثناء ذاتها، كثف الكرملين من المشاورات مع طهران وأنقرة، بغية مناقشة الموقف بشأن عفرين وإدلب، ومستقبل مناطق خفض التصعيد هناك. كما تولي موسكو اهتماماً منفصلاً إزاء تهدئة المخاوف الإيرانية والتركية، بشأن ولاء موسكو لالتزامات الشركاء، على سبيل المثال اجتماع الرئيس الروسي بنظيره الأميركي، والاجتماعات المتكررة بين المسؤولين الروس والإسرائيليين، فضلاً عن الصمت الروسي بشأن الاستفتاء على استقلال إقليم كردستان العراق، وهي القضايا التي أثارت قدراً من المخاوف لدى طهران بأن روسيا تسعى للتخلي عن إيران في الواقع السوري.
وكان هذا هو السبب وراء بيان وزير الخارجية الروسي لمحاولة طمأنة طهران. كما أن روسيا قد علقت مؤقتاً التحضيرات لانعقاد مؤتمر الحوار الوطني السوري، الذي كان محاولة من جانبها لزيادة زخم المعارضة شبه الرسمية، وضم الجانب الكردي إلى مائدة الحوار، وبالتالي، تعزيز مواقف جماعات المعارضة الموالية لموسكو في محادثات جنيف. أيضاً، عمدت موسكو إلى تأجيل مؤتمر الحوار الوطني السوري، في محاولة منها لتهدئة المخاوف التركية بشأن مشاركة الأحزاب الكردية فيه، باعتبارها قوى مستقلة.
أما بالنسبة للغرب، فلا يثير الجانب الأوروبي أو الأميركي جُل اهتمام موسكو في المرحلة الراهنة. فإما أنهما لا يبديان كثيراً من الاهتمام اللازم بمزيد من الانخراط في الشؤون السورية، أو لا يملكون كثيراً من النفوذ والتأثير على الواقع السوري. وخلال اجتماع الرئيس بوتين بالرئيس ترمب في فيتنام، حصلت موسكو على أقصى ما تحتاجه من واشنطن، إذ حصلت على ضمانات بأن تعترف الولايات المتحدة ببشار الأسد، والتزامها بمبادئ وحدة وسلامة الأراضي السورية، واحترامها لمبادئ خفض التصعيد، ودعمها لعملية جنيف.
وفي المقابل، اتسق الموقف الروسي مع نظيره الأميركي الذي يضع مكافحة الإرهاب على رأس أولوياته القصوى، إذ أكدت روسيا في البيان المشترك على اهتمامها بقتال «داعش»، جنباً إلى جنب مع الولايات المتحدة وحتى الانتصار النهائي. ومع ذلك، حتى هذا البيان المشترك كان يصب في صالح الكرملين. بعد سقوط معاقل «داعش» الرئيسية في سوريا، قد ينشأ التشكيك في مشروعية الوجود العسكري الروسي في البلاد.
ومن الناحية الرسمية، جاءت القوات الروسية إلى سوريا لمكافحة الإرهاب وقتال الإرهابيين، أما الآن، فإن التنظيم الإرهابي الرئيسي (وإن لم يكن الوحيد) قد نالته الهزيمة العسكرية الفادحة. وأشار الإعلان الأميركي الروسي المشترك، ضمنياً، بشأن ضرورة مواصلة الحرب ضد الإرهابيين، إلى أن الحرب ضد الإرهاب في سوريا لم تنته بعد، وهذا بدوره «يشرعن» لمزيد من وجود القوات الروسية في البلاد.
وإجمالا للقول، إن لم تشهد المقاربات الأميركية حيال الصراع السوري أي تغيرات، فقد ترغب موسكو في التحادث مع الجانب الأميركي بشأن المستقبل السوري لما بعد القضايا محل النقاش في فيتنام، عندما يتعلق الأمر، بصورته المباشرة، بالتحضيرات الفنية للاجتماع المقبل في جنيف.
يكفي أن يفتح وزراء الخارجية العرب خريطة العالم الذي ينتمون إليه ليتأكدوا أن اجتماعهم الطارئ في القاهرة أمس، كان مبرراً وضرورياً. فالحديث عن «التدخلات الإيرانية» ليس تهمة عابرة تفتقر إلى الأدلة. والإصرار على مناقشتها لا يدخل أبداً في باب التحرش أو التصعيد. إنه محاولة لبلورة إرادة عربية موحدة حيال التعامل مع واقع يومي ضاغط يعيشه العرب في مجموعة دول وخرائط. ولا يقتصر الأمر على الدول التي تتحرك الميليشيات المدعومة إيرانياً على أراضيها، ذلك أن مفاعيل مسلسل التدخلات تمس موازين القوى على امتداد المنطقة.
اللافت في هذه التدخلات هو أن طهران لا تحاول أن تنفيها. الصاروخ الذي استهدف الرياض يحمل توقيعاً صريحاً، ولا يحمل الحوثيون فيه غير صفة المنصة التي استخدمت في إطلاقه. وصور الجنرال قاسم سليماني يتحرك وسط المسلحين وبين دول الهلال لا تترك مجالاً للشك. وحديث جنرالات «الحرس الثوري» عن السيطرة على أربع عواصم عربية ليس مجرد هفوات أو مبالغات. وكلام الرئيس حسن روحاني نفسه عن المعبر الإيراني الإلزامي على مستوى المنطقة يستكمل الصورة.
«التدخلات الإيرانية» ليست حدثاً جديداً. سياسة «تصدير الثورة» هي بالدرجة الأولى إشهار لحق التدخل في شؤون الدول الأخرى. جديد التدخلات هو اتساع حجمها وتزايد خطورتها وعلانيتها، وما تحاول إحداثه من تغييرات عميقة في المسارح التي تستهدفها. تغييرات سياسية. وانقلابات في موازين القوى بين المكونات. وتغييرات ديموغرافية لضمان تكريس الملامح الجديدة.
«التدخلات الإيرانية» ليست جديدة. لكنها اتخذت بعد الدور الإيراني الصريح في اليمن منحى أكثر خطورة. الجديد في المقابل هو شعور الدول المستهدفة بأنها لم تعد قادرة على إرجاء تسمية الأشياء بأسمائها وتحويل هذه التدخلات بنداً ثابتاً في اللقاءات العربية والمحادثات مع القوى الدولية. الجديد أيضاً هو وجود إدارة أميركية لا تنام على حرير الاتفاق النووي الذي كان إنجازه هاجساً لازم باراك أوباما. فالإدارة الحالية أدرجت بند «التدخلات الإيرانية» في صلب علاقتها مع المنطقة ودولها وأزماتها.
وجديد «التدخلات الإيرانية» هو أن طهران لم تتعامل مع الاتفاق النووي كفرصة للعودة إلى احترام القوانين والمواثيق الدولية. يمكن القول إن ما حصل هو العكس تماماً. فبعد توقيع الاتفاق رفعت طهران وتيرة تدخلاتها في المنطقة وكأنها اعتبرت الاتفاق فرصة لا بدّ من اغتنامها وتوظيفها في خدمة مشروع «الانقلاب الكبير». وهكذا بدا المشهد غير مسبوق. إسقاط لحصانة الخرائط. وانتهاك للقوانين الدولية. وتحويل ميليشيات حليفة إلى جيوش صغيرة جوّالة تسقط أنظمة، وتمنع إسقاط أخرى بغض النظر عن مشاعر أهل تلك الخرائط المخترقة أو معظمهم. وزاد الأمر خطورة تشكيل ميليشيات صاروخية تستكمل الانتهاكات التي تمارسها الميليشيات باندفاعاتها البرية.
وجديد «التدخلات الإيرانية» هو أن مناقشتها جاءت بعد انحسار خطر تنظيم داعش الإرهابي. فقد أعاد انحسار هذا الخطر تسليط الضوء على حقيقة مفادها أن زعزعة الاستقرار لم تبدأ مع إطلالة «داعش» ولن تنتهي بانحسارها. وثمة من يعتقد أن سياسة زعزعة الاستقرار الإيرانية ذات العمق المذهبي كانت السبب في تصدع الوحدة الوطنية في أكثر من قطر عربي وأن «داعش» أطل من خلال هذه التصدعات.
ولأن المنطقة هي أيضاً منطقة ثروات وممرات حيوية للاقتصاد العالمي، تصاعد القلق الدولي من البصمات الإيرانية على الصواريخ والميليشيات معاً. فعشية اجتماع القاهرة تحادث دونالد ترمب وإيمانويل ماكرون حول وضع الشرق الأوسط. وقال البيت الأبيض إن الرئيسين «اتفقا على ضرورة العمل مع الحلفاء لمواجهة أنشطة حزب الله وإيران المزعزعة للاستقرار في المنطقة».
بلغت التدخلات الإيرانية حداً غير مسبوق. هذا الواقع أحرج حتى الدول التي تستعذب الإقامة في المناطق الرمادية، وتفضل علاج الجروح العربية بالعبارات العامة المكررة. صار من الصعب على أي وزير عربي العثور على تبرير للسلوك الإيراني أو على ذرائع لمنحه أسباباً تخفيفية. الصاروخ الإيراني على الرياض ومضمون استقالة رئيس الوزراء اللبناني سعد الحريري قدما أدلة جديدة لمن لا يزال يبحث عن أدلة.
يفسر تصاعد التدخلات اللهجة التي استخدمها الأمين العام للجامعة العربية أحمد أبو الغيط في افتتاح الاجتماع. ويفسر أيضاً اللهجة الحازمة التي استخدمها وزير الخارجية السعودي عادل الجبير. لقد اتُهمت إيران في الاجتماع بانتهاج سياسات طائفية وتأسيس ميليشيات تابعة لها على الأرض العربية والتدخل في الشؤون الداخلية. وهذه الاتهامات كلها ترشح بند التدخلات لانتزاع الموقع الأول في جدول أعمال اللقاءات الإقليمية والدولية. ولا مبالغة في القول إن الموقف من هذه التدخلات سيكون عاملاً مؤثراً في العلاقات العربية - العربية وكذلك في العلاقات العربية - الدولية.
ثلاثة أطراف يجب أن تتوقف عند نتائج الاجتماع الطارئ لوزراء الخارجية العرب. الأول هو إيران التي أدان المجتمعون سلوكها. والسؤال هو هل تريد أن تتعايش مع جيرانها العرب في الإقليم أم أنها تصر على محاولة إخضاعهم؟ إذا تمسكت بالخيار الثاني فهذا يعني أن رياح المواجهة ستشتد، وأن إيران ستواجه حالة من العزلة. الطرف الثاني هو «حزب الله» الذي يتحتم عليه أن يتبصر فيما طرأ على صورته لدى معظم العرب. لم تعد لهذه الصورة علاقة بالمقاومة ضد إسرائيل، بل صار ينظر إليه باعتباره منظمة إرهابية انطلاقاً من دوره في الانقلاب الإيراني. الطرف الثالث الرئيس ميشال عون الذي سيكون الخاسر الأكبر من استقالة سعد الحريري. لا معنى لوجود عون في قصر الرئاسة، وهو قائد سابق للجيش، إن لم يوظف موقعه ورصيده في الدفاع عن الحد الضروري من فكرة الدولة ومقومات وجودها والدفاع عن مصالح اللبنانيين.
ما لم تتخذ إيران قراراً سريعاً بوقف هجومها الشامل في الإقليم، فإن بند «التدخلات الإيرانية» سيكون عنوان المواجهة المقبلة وعنوان الاصطفافات. وسيكون البند نفسه عنوان التحرك في اتجاه مجلس الأمن، وسيترك بصماته على أوضاع الساحات المشتعلة وتلك المرشحة للاشتعال.
هل المشكلة مع إيران محصورة بالسعودية؟ ربما يبدو السؤال غريباً للبعض. غير أن واقع الحال الذي نراه في أغلب الإعلام العربي يوحي بذلك.
الأغرب أنه لا يوجد غزو إيراني مباشر وظاهر للسعودية. أصلا هذه مغامرة انتحارية. لكن الموجود هو غزو لليمن والعراق وسوريا. وشبه احتلال وحكم وصاية على لبنان، من خلال الوكيل المحلي حزب الله.
ما يوجد في السعودية هو نشاط إيراني تخريبي على شكل خلايا إرهابية في القطيف والأحساء شرق البلاد. ودعم خبيث تحت الأرض لشبكات «القاعدة»، تلاميذ أسامة بن لادن والظواهري. وما خبر إقامة أبناء أسامة وبناته في كنف الحرس الثوري بإيران عنا ببعيد. على سبيل المثال العابر فقط.
من حذر من الهلال الشيعي قبل عدة سنوات هو ملك الأردن عبد الله الثاني. ومن غضب من مشاريع التشييع على النهج الخميني في داخل البلاد، هي دول مثل الجزائر وتونس والمغرب والسودان والسنغال. ومن قطع العلاقات قبل الجميع مع النظام الخميني هي دولة مصر. و البلاد التي تم فيها تفجير موكب رأس الدولة، وخطف طائرات الناقل الوطني هي الكويت.
لم يحصل للسعودية شيء من هذا من طرف الجمهورية الخمينية. نعم حصل لها من بركات الخمينية جرائم أخرى. حتى قبل الحرب الحوثية باليمن. مثل جريمة الحرس الثوري بحج 1987. وتفجيرات المنطقة الشرقية من الثمانينات إلى تفجير أبراج الخبر 1996. وأشياء أخرى من هذا القبيل.
القصد من هذا السرد هو تسجيل الاستغراب والاندهاش من هذا التبلد، الذي تراه السعودية من كثرة عربية إعلامية متكاثرة - واستثني هنا وسائل الإعلام الإماراتية والبحرينية انسجاماً مع مواقف الدولتين - عن حصر المشكلة العربية مع إيران بالسعودية ما عدا. ندع العبقري اللبناني جبران باسيل جانباً وهو يخبرنا عن «أنو شو خص لبنان بمشكلة السعودية مع إيران»، لأن كلام العبقري جبران يدخل ضمن مضحكات المتنبي المبكيات!
نتحدث عن البقية. فخطر المشروع الخميني لن يوفر أحداً اليوم أو غداً. إنه مشروع انقلابي مستمر بلا توقف ضد الكل. وما جرى في أفريقيا السوداء خير دليل على هذا الشره الخميني المعولم.
بكلمة... هذه ليست معركة السعودية وحدها يا سادة. بل معركة كل العرب والمسلمين. بل أقول الإنسانية جمعاء ضد نظام خرافي استباحي. صانع للفتن. ومن لم يخض المعركة اليوم بشروطه سيؤكل على مائدة اللئام.
إذن فالبيان الوزاري العربي الأخير حول أن الوقت حان لتخليص المنطقة من الخطر الإيراني. يجب أن يتجاوز سقف الكلام لميدان العمل.
سعت إيران خلال الأعوام الأخيرة لتقوية وجودها ونفوذها في سوريا، والأمر في محصلة ما يظهر، كأنها حققت نتائج تُعادل - أو تفوق - ثمار مساعيها طوال أكثر من 3 عقود مضت من العلاقات الإيرانية - السورية، التي ازدهرت بعد وصول الملالي إلى السلطة عام 1979، حتى اندلاع ثورة السوريين في عام 2011.
ولا يحتاج إلى قول، أن تعزيز نفوذ إيران في الأعوام السابقة، جرى بتأثير عوامل كثيرة، أبرزها إرث طويل من علاقات متواصلة، شهدت تحالفاً سياسياً وعسكرياً عميقاً بين نظامي الملالي والأسد، وكان أبرز تعبيرين لتحالفهما أمران: الأول، ما ظهر في الحرب الإيرانية – العراقية، حيث تطابق بصورة ضمنية موقفا الطرفين ضد العراق. والآخر، اتخاذ الطرفين موقفاً متماثلاً حول القضية الفلسطينية والصراع العربي - الإسرائيلي، حيث تبنى الطرفان فكرة المقاومة والممانعة، وجعلاها محور سياستهما الإقليمية.
والعامل الثاني اندلاع ثورة السوريين ضد نظام الأسد (الابن)، والتي مثلت تحدياً عميقاً للنظام، وهدّدت استمراره، وفي الوقت نفسه شكلت تحدياً لاستراتيجية إيران في المنطقة، وهددت بفقدها قاعدة أساسية لامتداد سياستها في المجال العربي أولاً، وفي المجال الفلسطيني والصراع العربي – الإسرائيلي ثانياً.
العامل الثالث والأهم، امتلاك إيران القدرة على فعل كل ما تريد في سوريا برضا وموافقة النظام، سواء كانت أفعالها تصبّ في سياق ما بنت أساساته في المرحلة السابقة من علاقتها مع النظام، أو كانت الأفعال في جملة خطوات جديدة، فرضتها مرحلة ما بعد ثورة السوريين، ووقوف إيران إلى جانب نظام الأسد إلى الحدود القصوى.
العامل الرابع، عدم وجود أي جدية إقليمية أو دولية في مواجهة تنامي نفوذ إيران. بل إن ما حصل كان يشجع إيران، كلما خطت خطوة في هذا الاتجاه، أن تشرع في تنفيذ الخطوة التالية دون أي ردة فعل إقليمية ودولية، بما في ذلك محاسبتها على جرائمها بحق السوريين.
وسط البيئة الأفضل تنامى النفوذ الإيراني في سوريا وتزايد، وأخذت تتوالى في الواقع الأهم ملامحه، وبينها قوة نفوذ إيران وتأثيرها السياسي على نظام الأسد، بحيث لم يعد لديه أي قدرة على اتخاذ قرارات دون الرجوع إلى الإيرانيين، ومما يدعم ذلك جملة مؤشرات أبرزها وجود القوات الإيرانية، خصوصاً قوات فيلق القدس التابعة للحرس الثوري الإيراني، وانخراطها في الحرب على السوريين، بمشاركة جيش من الخبراء والمستشارين العسكريين والأمنيين، إضافة إلى وجود ومشاركة الميليشيات الشيعية التابعة لإيران، وأبرزها أربع: «حزب الله» اللبناني، و«الفاطميون» الأفغانية، و«الزينبيون» الباكستانية، و«كتائب أبو الفضل العباس» العراقية، وقد توج هذا الخط من نفوذ إيران بالإعلان عن إقامة قاعدة عسكرية بالقرب من دمشق.
كما أن بين مؤشرات تزايد النفوذ الإيراني نمو أنشطة إيران في المجالات الاستثمارية لا سيما في المجالات النفطية والتجارية والعقارية، والتي بين مؤشراتها اتفاقات عقدها نظام الأسد مع إيران في قطاع النفط، بالتوازي مع ارتفاع حجم السلع الإيرانية في الأسواق السورية، وتواصل الهجمة الإيرانية لشراء العقارات في دمشق وريفها وفي السويداء ومناطق الساحل السوري.
وثمة مؤشرات أخرى بينها توسع عملية تشييع سوريين في مناطق سيطرة النظام، لا سيما في أوساط العلويين، ونشر الثقافة الشيعية الإيرانية، وممارستها في الأماكن العامة على نحو ما حصل مؤخراً في سوق الحميدية قريباً من الجامع الأموي وسط دمشق القديمة.
ورغم أهمية مؤشرات تزايد النفوذ الإيراني في سوريا، فإنه لا بد من جملة ملاحظات بصددها، أبرزها أربع: الأولى، أنه يتم في مناطق خاضعة للنظام ولا يتعداه إلى المناطق الخارجة عن سيطرته، مما يعني محدودية انتشاره في الجغرافيا السياسية والبشرية. والثانية، أن أغلب الوجود الإيراني مرتبط بالنظام وبالعلاقة معه، وما ارتبط بالسوريين منه يكاد يكون محصوراً في الأوساط المؤيدة للنظام والحلقات النافذة فيه. والثالثة، أن هذا الوجود يتوسع في ظل حرب تشارك فيها إيران على السوريين، مما يعني أنها تنمو في ظل عداء الأكثرية السورية لإيران ووجودها وممارساتها على مختلف الأصعدة. والرابعة، أن تزايد النفوذ الإيراني في سوريا، يترافق مع نمو وتصاعد الاعتراضات الإقليمية والدولية عليه، مما يجعله بين أسباب تصعيد مواجهات أطراف إقليمية ودولية مع إيران وأدواتها في سوريا، ولا تنفصل حالة العداء المتصاعدة مؤخراً لوجود «حزب الله» عن تلك الاعتراضات.
وبطبيعة الحال، فإن الملاحظات السابقة، تؤشر إلى صعوبة استمرار وتكريس النفوذ الإيراني على المدى البعيد في سوريا، ليس فقط لارتباطه بنظام الأسد، وإنما بفضل الجرائم التي ارتكبها نظام الملالي طوال السنوات الماضية، الأمر الذي يعني أن مصير وجود إيران ونفوذها مرتبط بمستقبل النظام الذي قال المجتمع الدولي، إنه لا دور له في مستقبل سوريا، وإن السوريين الذين صنفوا نظام الأسد وحلفاءه من الإيرانيين والروس، لن يقبلوا ما صار إليه موقع إيران في سوريا، وسيحاربونه بكل الطرق والوسائل.
بغض النظر عن قرارات «الاجتماع الموسع الثاني للمعارضة السورية» الذي اختتم اجتماعاته في الرياض أمس، وكذلك عن المعنى الاعتراضي لاستقالات رئيس الهيئة العليا للمفاوضات والكثير من أعضائها، فالواضح أن الاجتماع عُقد ضمن إطار التفاهمات الدولية والإقليمية التي تتّجه بوصلتها، كما هو واضح، نحو مدينة سوتشي الروسية التي سيعقد فيها مؤتمر ضخم لـ»شعوب سوريا» بين 2 و4 الشهر المقبل، أما مفاوضات جنيف، التي ستجري قبلها بأيام، فستكون، كما قال بوتين لـ»إضفاء اللمسات الأخيرة» على التسوية السياسية في سوريا.
مؤتمر سوتشي المقبل المخصص لـ»الحوار الوطني السوري» سيكون إعلانا كاشفاً من موسكو عن إمساكها بالأوراق الإقليمية الكبرى فيما يخص الوضع السوري، وهو ما جسّده وجود الرئيسين، التركي رجب طيب إردوغان، والإيراني، حسن روحاني، وقبلهما بيوم، الرئيس السوري بشار الأسد، وهو ما تناظر، ببلاغة، مع لقاء فصائل المعارضة السورية، في الوقت نفسه، في العاصمة السعودية الرياض.
أما ما يقال عن التفاهم الأمريكي ـ الروسي الأخير الذي جرت آخر فصوله خلال لقاء الرئيسين دونالد ترامب وفلاديمير بوتين في فييتنام في 11 من الشهر الجاري، فهو إعلان آخر عن محدودية الأثر الأمريكي على مستقبل سوريا، والذي يقوم على عمودين رئيسيين، الأول هو موقف ترامب الأصلي الداعم لبقاء نظام الأسد، والثاني هو التراجع المنتظم لإرادة التدخّل الأمريكية في المنطقة العربية بعد وضوح فشلها الذريع في أفغانستان والعراق، وانحسار تأييدها للثورات العربية بعد التدخّل في ليبيا، وانتشار تنظيم «الدولة الإسلامية» في العراق وسوريا، بحيث أصبحت الحرب على التنظيمات الجهادية، وخصوصاً بالطائرات من دون طيار، هي استراتيجيتها الوحيدة للمنطقة.
يضاف إلى كل ذلك، بالطبع، مسألة الجغرافيا، فباستثناء علاقة واشنطن الخاصة مع إسرائيل، واهتمامها بالنفط وأموال دول الخليج وصفقات التسلح العربية، فإن كل المنطقة العربية لا تشكّل خطراً قريباً عليها.
أما بالنسبة لسوريا نفسها، ولروسيا وإيران وتركيا، فإن الجغرافيا هي أهمّ العوامل التي تفرض أثرها الهائل على العلاقات بين الأطراف المتصارعة، وبالتالي فإنها ستكون العامل الحاسم الذي سيحدّد معالم «التسوية السياسية» المقبلة.
لقد كانت مسألة من سيكون سيد آسيا الوسطى عامل النزاع الكبير بين إيران وتركيا قبل الإسلام، وهو أمر لم يتغيّر كثيراً بعد ظهور الدول الإسلامية، فسقوط الخلافة الأموية كان على يد أبو مسلم الخراساني الفارسي، كما جاء سقوط الدولة العباسية على يد السلاجقة الأتراك، وما يجري في سوريا حاليّاً، يظهر أثر المطحنة الجغرافية على السياسة.
لكن الجديد في المعادلة القديمة هو العملاق الروسيّ، الذي أثّر وزنه العسكري الكبير وبطاقة «الفيتو» الأممية بحوزته، على طرفي الصراع، أما حضور الإسلام، بأشكاله الأيديولوجية عبر فصائل المعارضة، وبالنظم السياسية التي ورثت جزءا من رمزيته، كالسعودية ودول الخليج، كما بالصراع السنّي ـ الشيعي المحتدم، فلا يستطيع أن يموّه أثر الجغرافيا السياسية الكاسح إلا عبر كشفه ضعف السياسات وانحناءاتها الشديدة عندما تواجه هذه المعادلة وتضطر، صاغرة، للخضوع لها.
يفسّر هذا المنظور، إلى حد كبير، الانخراط الروسيّ الكبير في الشأن السوري، والنجاحات التي حققها الكرملين، كما سيكشف لاحقاً، حدود التنازلات التي اقترح بوتين على الأطراف المتصارعة، بما فيها النظام السوري، القبول بها، لكن الأهم طبعاً، هو ما سيكشفه عن مدى رغبة الكرملين نفسه بالتنازل.
في تشرين الأول (أكتوبر) 2015، حين كانت القاذفات الروسية تستكمل هبوطها وانتشارها على مدارج مطار حميميم العسكري، جنوب شرق اللاذقية، شاء الرئيس الروسي فلاديمير بوتين عقد لقاء مباشر مع الرئيس السوري بشار الأسد، لإبلاغه بأغراض موسكو من التدخل العسكري لصالح النظام. وكان اللقاء بمثابة تعاقد حول المستقبل المنظور والبعيد معاً، واقتضى أن يقدم الأسد بموجبه تعهداً أقرب إلى تفويض شامل لوزارة الدفاع الروسية، برهنت على حسن الالتزام به سنتان ونيف من العمليات العسكرية الروسية على أرض سوريا وفي أجوائها.
ومساء الإثنين الماضي شاء بوتين تكرار اللقاء المباشر مع الأسد في سوتشي، ليشدد على ما كان وزير خارجيته سيرغي لافروف قد صرّح به سابقاً، من أن التدخل الروسي هو الذي أنقذ النظام حين كانت دمشق على وشك السقوط، ولكي يُسمع جنرالات الجيش الروسي آيات المديح والامتنان من فم الأسد شخصياً. ومن جانب آخر أراد بوتين الإعلان عن أنّ «مهمة» مكافحة الإرهاب قد أوشكت على الانتهاء، و«حان الوقت للانتقال إلى العملية السياسية» في سوريا.
الزيارة استغرقت أربع ساعات ولم يُعلن عنها إلا على الموقع الرسمي للكرملين، صبيحة اليوم التالي. ولكن تلك الساعات اليتيمة كانت كافية لكي يتلقى الأسد الرسالة واضحة صريحة، حول المرحلة المقبلة من استحقاقات روسيا في سوريا، أي حيازة تفويض شامل سياسي هذه المرة، يحمله بوتين إلى قمة سوتشي الثلاثية التي ستجمعه مع الرئيس التركي رجب طيب أردوغان والرئيس الإيراني حسن روحاني. وهو كذلك تفويض للكرملين ببحث «التسوية السياسية والسلمية على الأمد الطويل» مع الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، وقادة قطر والعراق والسعودية ومصر والإمارات والأردن، كما أعلن بوتين نفسه.
لكن واقع الحال على الأرض لا يطابق احتفاء بوتين بمهمة عسكرية توشك على الانتهاء، إلا إذا كان الرئيس الروسي يقصد التلميح إلى أن هزيمة تنظيم «الدولة الإسلامية» كان هو الهدف الاستراتيجي وراء التدخل الروسي في سوريا. وهذا افتراض خاطئ ومضلل، لأن عمليات الجيش الروسي استهدفت فصائل المعارضة في المقام الأول، وساندت ما تبقى من وحدات جيش النظام التي لم تقاتل التنظيم إلا خلال الأسابيع القليلة الماضية.
كذلك جربت موسكو الشروع في تسويات سياسية وتفاوضية، سواء من خلال ما سمي «مناطق خفض التصعيد» في حمص وإدلب والغوطة الشرقية والسويداء، أو على امتداد سبعة مؤتمرات شهدتها أستانة تحت إشراف روسي مباشر، وانتهت جميعها إلى نتائج عجفاء أو معاكسة. هذا بافتراض أن الأسد ما يزال يقبض على أعنة السلطة كاملة في سوريا، بما يمكنه من فرض أية تسوية على مراكز القوى داخل نظامه. أو بافتراض أن الأطراف الأخرى، من التنظيمات الجهادية والفصائل والميليشيات المختلفة إلى الولايات المتحدة وإسرائيل، سوف تتلاقى مع أي «عملية سياسية» يتوصل إليها الكرملين في قمة سوتشي الثلاثية.
والأصل في المسألة هو ثورة الشعب السوري ضد نظام استبداد وفساد عائلي وراثي يواصل حكم سوريا منذ 47 سنة، وأي مقاربة لتسوية سياسية لا تبدأ من هذا المعطى الجوهري سوف تنتهي إلى وضع عالق، وفشل ذريع.
الأسد في روسيا مرة أخرى. وبلاده أمام منعطف حاسم جديد. لم تختلف ترتيبات الزيارة كثيراً عن سابقتها قبل عامين. إذ نقل الرئيس السوري في شكل مفاجئ ليلاً ومن دون مرافقين، إلى سوتشي على متن طائرة عسكرية روسية. وأدخل وحيداً إلى قاعة لم يرفع فيها علم دولة الضيف. على رغم ذلك، وبعيداً من الشكليات البروتوكولية التي لم تعد موسكو توليها أهتماماً وهي تتعامل مع الرئيس السوري، فإن توقيت الزيارة ومجرياتها عكست توجهاً روسياً لوضع اللمسات الأخيرة على الجهود المبذولة حالياً لطي صفحة العملية العسكرية في سورية وإطلاق المسار السياسي.
في زيارته السابقة قبل عامين وضع الأسد أمام خيار صعب. التدخل الروسي لإنقاذ «السلطة الشرعية» ثمنه ترتيبات واسعة لوجود عسكري روسي دائم في سورية.
إضافة إلى أن موسكو أرادت فرض رؤيتها الخاصة لمسار الصراع الميداني. حتى لو تعارض أحياناً، كما ظهر لاحقاً في أكثر من موقع، مع خطط النظام والحليف الإيراني.
وعلى رغم أن العملية العسكرية الروسية أنجزت «غالبية أهدافها» في سورية وفق الكرملين، فإن الأسد بدا في زيارته الثانية أمام خيارات صعبة أيضاً. وعبارات الشكر التي ردّدها خلال لقائه «الجنرالات الذين أنقذوا سورية» لا تغطّي حقيقة انحسار نفوذه ودرجة تأثيره في تطورات الأحداث إلى أضيق مساحة منذ اندلاع الأزمة في سورية، إلى درجة أن تعليقات الخبراء ووسائل الإعلام الروسية قلما تذكر اسم الرئيس السوري عند الإشارة إلى «المنتصرين».
وتوقيت ترتيب الزيارة عشية القمة الحاسمة لرؤساء البلدان الضامنة وقف النار في سورية، عكس استعجال موسكو رسم ملامح المرحلة المقبلة التي سيكون عنوانها الأساسي الإعلان عن انتهاء الجزء النشط من العمليات العسكرية في سورية والانتقال إلى مسار سياسي.
المطلوب من الأسد إعلان موقف واضح يؤيد الترتيبات الروسية لعقد مؤتمر الحوار السوري، ويؤكد الاستعداد للتعامل في شكل إيجابي مع نتائجه. وهذا يوفر لموسكو مساحة أوسع للتأثير في إيران باعتبارها الطرف القادر على وضع عراقيل أمام التوجه الروسي.
في المقابل، لا تمانع موسكو في تقديم ضمانات بتقليص تأثير «اللاعبين الخارجيين» في مسار المفاوضات السورية- السورية. كما أنها ستواصل الضغط لتأجيل طرح ملف مصير الأسد خلال المرحلة الانتقالية.
والاستعجال الروسي لدفع الترتيبات المقبلة على رغم التعقيدات الكبرى التي تواجهها له أسباب داخلية ضاغطة. إذ يحتاج الكرملين بشدة وهو يستعد لإطلاق حملة الانتخابات الرئاسية المقبلة إلى الإعلان قبل حلول نهاية العام عن نصر حاسم على الاٍرهاب، وتقديم إنجازات كبرى تبرّر للناخب الروسي قرار التدخل في سورية.
لكن العقبات التي تسعى موسكو إلى تجاوزها وهي تضع ترتيبات المرحلة المقبلة، لا تقتصر على ضمان انخراط النظام في المسار المرسوم، إذ تبدو المهمة الأصعب الحفاظ على توازن العلاقات مع الشريكين التركي والإيراني. كما أن غياب التنسيق مع واشنطن يزيد من تعقيدات المسار الروسي للتسوية. ناهيك بغموض الفكرة التي تسعى موسكو إلى تثبيتها حول «تكامل» مسارَي جنيف وسوتشي. بهذا المعنى، فإن الطرف السوري بمكوّنَيه الموالي والمعارض بات الحلقة الأسهل في المعادلة الروسية مهما بدت هذه العبارة غريبة. إذ لم تخفِ روسيا وهي تستقبل الأسد بهذه الطريقة وهذا التوقيت، ارتياحها لما وصفته: ابتعاد «العناصر المتشدّدة» في المعارضة السورية عن تشكيلة الوفد المفاوض. المعضلة التي تواجه موسكو باتت تقتصر وفقاً لقناعة نخب روسية على آليات إدارة توازنات المرحلة المقبلة مع الأطراف الإقليمية والدولية.
في الشكل تبدو تركيا وروسيا وإيران في تحالف واحد، لعل الهدف منه هو كيفية إبعاد الولايات المتحدة عن الأزمة السورية عبر مسار إقليمي، انطلق من آستانة على أن يتوج في سوتشي، لكن في الجوهر ثمة تناقضات عميقة في رؤية كل طرف إزاء مستقبل الصراع في سورية، ولعل هذا التناقض استدعى قمة سوتشي ومن ثم مؤتمر سوتشي (للحوار الوطني السوري) لتحديد أدوار كل طرف في مرحلة ما بعد «داعش» وشكل الحل السياسي.
في تطلع موسكو إلى هندسة الحل السياسي تواجه عقبة كبيرة بعد دعوتها حزب الاتحاد الديموقراطي الكردي لحضور مؤتمر سوتشي، إذ أظهرت هذه الدعوة خلافاً روسياً – تركياً، على شكل اختبار حقيقي للعلاقة بينهما، وقد كان لافتاً قبل فترة قول ميخائيل بوغدانوف إن هؤلاء الأكراد مواطنون سوريون وليسوا إتراكاً، وذلك رداً على إعلان تركيا رفضها حضور حزب الاتحاد الذي تصنفه تركيا إرهابياً بوصفه الجناح السوري لحزب العمال الكردستاني، وهو ما فجر جدلاً بين البلدين على شكل تصريحات متبادلة، بين تأكيد تركيا رفضها مشاركة الحزب المذكور في أي مؤتمر دولي وبين تأكيد موسكو على ضرورة أوسع مشاركة في مؤتمر سوتشي بما في ذلك هذا الحزب، ولعل تمسك تركيا بموقفها هذا له علاقة بقدرتها على إفشال هذا المؤتمر أو على الأقل إفراغه من تحقيق هدفه مسبقاً، نظراً إلى تأثيرها القوي على فصائل المعارضة السياسية (الائتلاف) والعسكرية (فصائل الجيش الحر) حيث يشكل حضور هذه الفصائل قيمة أساسية للمؤتمر، وقد أعلنت رفضها حضور المؤتمر بوصفه يعيد إحياء النظام ويجري خارج رعاية الأمم المتحدة ومرجعية جنيف والقرار الدولي رقم 2254.
الجدل الروسي – التركي بشأن مشاركة الأكراد أدى حتى الآن إلى تأجيل مؤتمر سوتشي أكثر من مرة، واللافت هنا هو أن إعلان التأجيل يأتي غالباً من أنقرة وليس من موسكو صاحبة الدعوة إلى عقده، وهو ما يجعل من مشاركة الأكراد عقدة سوتشي خلال القمة الروسية التركية الإيرانية، وبالتالي السؤال عن كيفية حل هذه العقدة.
الثابت أن روسيا وتركيا تشعران بلحظة ذهبية في علاقاتهما، فالأولى تشعر بأهمية استثمار التوتر في العلاقات الأميركية- التركية لإبعاد تركيا عن المنظومة الغربية وجلبها إلى حضن الدب الروسي أولا، وثانياً لأسباب اقتصادية لها علاقة بصفقات النفط والغاز والسلاح وبناء مفاعلات نووية، فيما تركيا المنزعجة جدا من الدعم الأميركي للأكراد في شمال شرق سورية تريد من وراء التقارب مع موسكو توجيه رسالة للغرب بشقيه الأميركي والأوروبي أن لديها خيارات أخرى، وأنها لن تقبل بتهديد أمنها القومي حتى لو اقتضى الأمر انقلاباً على خياراتها التقليدية. في الواقع، إذا كان الدعم الأميركي لأكراد سورية أصبح مساراً صدامياً مع تركيا، فإن الأمر مختلف بالنسبة إلى العامل الروسي، إذ تدرك تركيا ومنذ انقلابها على شعار إسقاط النظام صعوبة أي تحرك من دون أخذ هذا العامل بعين الاعتبار، فعلى الأقل جرت عملية «درع الفرات» في 24 آب (أغسطس) من العام الماضي في هذا الإطار، كما أن العملية التركية المستمرة في إدلب جاءت في إطار تفاهمات آستانة، ولعل هذا المسار يضع نفسه على طاولة سوتشي لحل العقدة الكردية، والسؤال هنا: هل سيكون ثمن موافقة تركيا على مشاركة الأكراد في سوتشي موافقة روسيا على عملية تركية في عفرين لضرب نفوذ حزب الاتحاد الديموقراطي ووحدات حماية الشعب؟ أم أن «القيصر» الروسي يعرف كيف ينزع صولجان السلطان المرفوع في وجه الأكراد؟ ربما لدى «القيصر» الكثير من الحجج لإقناع «السلطان» بذلك، ولعل أهمها أن فك التحالف بين الأكراد والإدارة الأميركية يمر عبر احتضانهم ودفعهم إلى الحوار مع النظام الذي لم تعد أنقرة تطالب بإسقاطه، بل ربما يكون ثمن قفز روسيا فوق مشاركة الأكراد في سوتشي عبر إلغائه مقابل قبول تركيا التعايش مع النظام شرط تهميش الأكراد وربما التحرك معاً ضدهم على غرار ما حصل في كركوك عقب الاستفتاء الكردي.
وإذا كان هناك من توافق روسي– أميركي حول الأزمة السورية، فبالتأكيد هو توافق غير كامل، بل هناك توافقات جزئية، تتفهم واشنطن بعضها، لكن حليفها الاستراتيجي الإسرائيلي لا يستطيع إغماض العين عن العديد منها، لا سيما تلك التي تتعلق بتواجد القوات الإيرانية وقوات حزب الله والميليشيات الطائفية الأخرى، القريبة قليلاً أو بعيداً من حدود الجولان.
فكل ما تسعى إليه روسيا اليوم سواء عبر استراتيجيتها العسكرية أو عبر تسويتها السياسية، أو بناء توافقات وتوازنات جديدة إقليمياً ودولياً، لا يتعدى تلك المحاولة المحمومة لإعادة إنتاج نظام الأسد مرة أخرى، والاحتفاظ به ذخراً لروسيا البوتينية وهي تستعيد بعض مجد غابر، في زمن يغادر فيه الأميركيون مواقع عظمتهم الامبراطورية فعلياً، مستبدلين إياها بنوع من جنون العظمة.
على أن غياب الثقة المتبادلة بين روسيا والمعارضة السورية، ستبقى تطرح العديد من علامات الاستفهام، وتعمق من شروخ التسوية الممكنة، المتنقلة بين استانة وسوتشي وجنيف، حتى أن مؤتمر الحوار الوطني الذي سوف يكون بديلا لـ «مؤتمر الشعوب السورية» الذي طرحته موسكو وتراجعت عنه قبلاً، لن يكون من اليسير انعقاده في ظل الخلافات والتباينات القائمة بين أطراف المعارضة نفسها، وبين الأطراف الراعية الإقليمية والدولية، طالما أن مهمة التسوية الروسية تناور في اتجاهات تعيد انتاج وترسيخ سلطة النظام الأسدي، وكأن شيئا لم يكن منذ سنوات الأزمة الأولى، سوى القتل المجاني من دون حساب أو عقاب.
من جنيف إلى سوتشي، تستمر المعارضات على حالها، ويستمر النظام في ظل حماته وداعميه على حال التواكل من قبل حلفائه لضمان استمراره وتواصل استبداده، وذلك خدمة لمصالحهم ولمصالحه في النهاية، فيما يستمر حال الانقسام الإقليمي والدولي، بانحياز كل طرف لمصالحه الخاصة، بعيداً من مصالح الآخرين، بينما التسوية الروسية تحاول التوصل إلى منطقة في الوسط تتيح لكل الأطراف الاجتماع تحت الخيمة الروسية، فهل تستطيع موسكو جمع الأكراد وتركيا والنظام وبعض المعارضة، وهل يمكن للإسرائيليين بلوغ الرضا عما يسعى إليه الروس من إبقاء شراكتهم مع الإيرانيين وميليشياتهم الطائفية قريباً من الجولان وفي سورية عموماً؟ وإلى أي حد يستمر التنسيق الروسي – الأميركي في تجاهل المطالب الإسرائيلية؟ وما مدى تأثير كل ذلك على تسوية الأزمة السورية بترتيباتها الروسية؟
هذا هو مربط الفرس، فهل يستطيع اجتماع قمة سوتشي أن ينجح في تفعيل مفاوضات مباشرة وفعلية بين النظام والمعارضة السورية، وبالتالي تقديم العون اللازم للتسوية الروسية التي تحاولها موسكو، في غياب العديد من قوى المعارضة السياسية، فهل تنجح؟