في عام 2012 بدأ النظام ينهار مؤسساته وجيشه، سيطر الثوار على أكثر مناطق سوريا، حرر الثوار نصف أحياء دمشق وأصبحت محاصرة بطوق يبدأ من داريا مرورا بالغوطة والقلمون. وكان دخول الثواردمشق وشيكا، باعتراف الأعداء أنفسهم.
اتجه حلفاء النظام إلى خدعة المفاوضات، فصدر بيان جنيف لعام 2012، وخطة كوفي عنان ببنودها الستة، خمسة منها يجب أن ينفذها النظام أولا وبعدها يتم تشكيل هيئة حكم بصلاحيات كاملة واستُثنِي وضع رأس النظام، وصدر قرارمجلس الأمن 2118 باعتماد الخطة، ومع ذلك ترك عنان للثوار بنودا يستطيعون البناء عليها إذا توفر للثورة قيادة سياسية كفؤة وصلبة ومؤتمنة تدير المفاوضات. رفض الثوار إعلان جنيف لعدم النص صراحة على تغيير رأس النظام أساس المشكلة.
في منتصف عام 2014 قررت المعارضة الذهاب إلى جنيف اثنين - بدون شروط - يومها جادلنا رئيس الائتلاف طويلا كي لا يذهب إلى جنيف دون شروط، وقبل تنفيذ بنود خطة عنان كما أقرها مجلس الأمن، والتي تلزم النظام بتنفيذ خمسة بنود تشمل وقف إطلاق النارفي سوريا وإطلاق سراح كل المعتقلين وإدخال المساعدات الانسانية إلى كل سوريا والسماح بالتظاهر السلمي ودخول وكالات الاعلام الدولية، وعندما يتحقق ذلك تذهب المعارضة إلى جنيف لتشكيل هيئة الحكم الانتقالي مناصفة مع النظام نفسه، وهو تنازل كبير من الثورة السورية. أصر رئيس الائتلاف ومن معه على الذهاب إلى جنيف دون شروط، وقال إن لديه وعودا بتنفيذ خطة عنان بناء على اجتماع لوزراء خارجية الدول الشقيقة الست عقد يومها في باريس.
كان واضحا أن حضور مؤتمر جنيف قبل تنفيذ خطة عنان بتسلسل دقيق سوف يضيع كل شيء، على طريقة مؤتمر الصلح في باريس بعد الحرب العالمية الأولى، ومؤتمر أوسلو القريب منا، وليس أقل.
عقد المؤتمر وطرح وفد النظام موضوع الإرهاب فقط وطرح وفد المعارضة الحل السياسي، وبعد الجلسة الأولى شكل وفد المعارضة برئاسة كبيرالمفاوضين واستمرت الاجتماعات على مدى عامين دون تحقيق شيء. وبينما يرددون أن الحل في سوريا سياسي حصرا، تنهارالبراميل والصواريخ وقنابل النابالم والغازات السامة من أربع أركان الأرض والسماء على مدن ومناطق سوريا المحررة كلها.
في منتصف عام 2015 شكلت مجموعة فصائل جيش الفتح وتحالفت كل الفصائل في إدلب وحماه، وخلال شهرين حررت إدلب كاملة من وادي الضيف إلى جسر الشغور وريف حلب ودخل جيش الفتح وفصائل ريف حماه إلى سهل الغاب وأصبح على بعد ثلاثين كيلومترا من القرداحة، ورأى العالم قوات النظام مهزومة في سهل الغاب. تكاتفت فصائل درعا والغوطة والجنوب وتقدمت فصائل الساحل وتوالت الانتصارات.
هرع قاسم سليماني إلى موسكو. وفي خريف عام 2015، دخلت روسيا إلى سوريا بجيشها وأساطيلها. وفي أول معركتين هزمت روسيا وحلفاؤها في ريف حماه وإدلب، ثم خسرت أمام ثوار حلب في معارك جنوب حلب وخان طومان، رأى الروس أن الثوار السوريون وبدون حماية جوية يموتون ولا يغادرون أرضهم.
عادت روسيا وحلفاؤها إلى خدعة المفاوضات وانتقلوا من جنيف إلى فيينا ولذلك دلالة واضحة، ودعيت إيران والقاهرة حليفتا النظام في مجلس الأمن وفي الحرب ضد الثورة السورية.
وصدر القرار 2254 الذي ألغى عمليا خطة عنان والقرار 2118 وتم تكليف السعودية بعقد مؤتمر الرياض وتكليف الأردن بتصنيف المنظمات الإرهابية في سوريا، تفكك جيش الفتح وتحالف الفصائل واستمرت المليشيات الشيعية تقاتل مع النظام بغطاء روسي وقبول أمريكي وصمت من دول إعلان فيينا.
عقد مؤتمر الرياض وشكلت هيئة خاصة للمفاوضات وشكل الوفد المفاوض مع عشرات المستشارين والناطقين، كان الاعتقاد جازما أن وفد الهيئة لن يذهب إلى جنيف قبل أن تنفذ البنود الخمسة من خطة عنان المعتمدة بالقرار 2118 كاملة، وإنه لن يكرر كارثة جنيف (2). ولكن ذهب الوفد بدون شروط وعاد بدون شيء، ولم تبدأ المفاوضات حتى الآن. أعلنت الهيئة أن لديهم كتابا من نائب الأمين العام للامم المتحدة يتعهد بتطبيق قرارات مجلس الأمن. تجاهل الأمين بان كيمون هيئة المفاوضات وأناط المهمة بنائبه لعلمه أن وفد الهيئة سيذهب إلى جنيف في كل الأحوال.
قال أعضاء هيئة المفاوضات إنهم ذهبوا بطلب من السعودية، وإن جون كيري هددهم إما أن تذهبوا وإما أن يسحقكم الروس، قالوا ذلك بعد أن غادر جون كيري منصبه.
مات جنيف (3) في جلسته الأولى، وما حدث بعدها اجتماعات مع ميستورا وسفراء الدول ودخلنا في لعبة تغيير رئيس الوفد المفاوض، ولاحقا عدم الرضا عن رئيس الوفد الجديد، وأصبح لدينا ثلاثة من كبار المفاوضين. قبلت الهيئة أن يدعو ميستورا كل الذين أرادهم كمستشارين، وقد ظهر تأثيرهم في سير عملية جنيف كلها.
في جنيف (4) تم ابتكار السلال الثلاث وليس فيها هيئة الحكم الانتقالي وطلب إضافة سلة الارهاب. لم يوافق ميستورا لأن هذا سوف يفتح أبواب جهنم كما قال. وافقت هيئة المفاوضات على سلة الإرهاب، ورئيس وفد النظام يصرح علنا أن وفود المعارضة هم عملاء وإرهابيون.
لم يتحقق شيء فلا أفرج عن المعتقلين ولا دخلت المساعدات ولم تبدأ مناقشة الحل السياسي، وفي جنيف (7) فوجئ الثوار باجتماع وفد الهيئة مع منصتي موسكو والقاهرة في لوزان، ثم وجهت الدعوة للمنصتين للاجتماع في الرياض. وكل ذلك تمهيدا لعقد اجتماع الرياض بشكله الحالي.
كانت أهم بنود القرار 2118 وحتى القرار2254 وقف إطلاق النار ومحافظة كل طرف على مواقعه في الأرض مع بدء المفاوضات، إضافة لبندي الإفراج عن المعتقلين وإدخال المساعدات وهي بنود غير تفاوضية. ولكن وفي ظل اجتماعات جنيف تم حصار الزبداني ومضايا حتى الموت، وتم خنق داريا والمعضمية وحي الوعر ووادي بردى والقلمون وتم تفريغها من كل أهلها بعد قصف وحرق وجوع حتى الموت. تم اقتلاع سكانها من بيوتهم ونقلهم إلى ادلب في حالة قهر تنوء بحملها الجبال وإحلال سكان آخرين مكانهم، وسقطت حلب. واستمرت الوفود تذهب وتعود إلى جنيف وعواصم أخرى. ولم تعد الدول الصديقة والشقيقة تعير اهتماما للهيئة والمعارضة كلها وبعد كل اجتماع معها يصرح القادة الأوروبيون والأمريكان بأنه لا يوجد بديل لبشار الأسد. إلى درجة أن بان كيمون يكرم المجرم بشار الجعفري وهو يغادر منصبه.
عندما كانت الهيئة في الرياض تحضر للقاء منصتي موسكو والقاهرة كان ماغورك ممثل الولايات المتحده يجتمع مع عشائر الرقة على الأرض السورية ولثلاثة أيام تمهيدا لما بعد داعش، ولم يتذكر أن يدعو أحدا من المعارضة. وعندما كانت الهيئة تجتمع مع منصتي موسكو والقاهرة – للتحضير للحل السياسي - كانت قوات النظام وروسيا وحزب الشيطان تجتاح البادية السورية بدباباتها وطائراتها وتستولي على دير الزور وتقترب من مليشيات إيران في البوكمال التي دخلتها أخيرا، وعلى الطرف الآخر كانت ميليشيا قسد الإرهابية بغطاء وحماية أمريكية تجتاح الرقة والحسكة وتستولي على ثروة سوريا من النفط والغاز والفوسفات وكل زراعة سوريا وأنهارها الثلاثة الفرات والخابور ودجلة. هذه المناطق التي طالما أوهموا أنها غير مفيدة، وتركوها وديعة عند إرهابيي داعش ليستلموها الآن. وقد منعت الولايات المتحدة وروسيا فصائل الجيش الحر الموجودة على تخوم البوكمال من المشاركة في تحرير مدنهم من داعش وحتى لواء الشهيد العقيد بكور السليم وعضو هيئة المفاوضات الذي اغتالته داعش هو وشقيقه لم يسمح لهم أيضا.
لو تمسكت الهيئة بالقرار 2118 وخطة عنان كما يفهمها كل خبراء ومفاوضوا العالم، لركض ممثلو الدول وراءها ولما ضاع الزمن وقتلت الفرص.
تصدت تركيا وحيدة للتدخل الروسي منذ البداية وأسقطت روسيا الطائرة التركية خارج الأراضي السورية وردت تركيا بإسقاط الطائرة الروسية في الأجواء التركية، ودعمت الثوار في الساحل والشمال السوري معتمدة على وجودها في الخندق الأول لحلف الناتو منذ نصف قرن.
غدرت الولايات المتحدة وأوروبا بتركيا وتخلى عنها الجميع، وكانت مؤامرة الانقلاب الفاشل ومعركة كوباني الوهمية لخلق مليشيا قسد الإرهابية المتحالفة مع النظام السوري. تبدلت الأوضاع والتفتت تركيا للحفاظ على أمنها القومي الذي تحيط به أخطار كبيرة. وتحولت أولوية السعودية إلى الحرب الطاحنة على حدودها في اليمن، ولاحقا انشغلت قطر بالحصار ومعالجة الأزمه مع أشقائها من دول الخليج العربي. ومع وجود الهيئة بدأت مفاوضات أستانة في ظل إشراف غير متوازن فالروس وإيران في وجه تركيا وحدها، وبدأت الوفود تتغير كحال الهيئة، مقابل وفد المجرم بشار الجعفري في جنيف وأستانة، وظهرت اتفاقيات خفض التصعيد، التي التزمت بها الفصائل، وحولته روسيا والنظام وإيران إلى مذابح في إدلب وريف حماه الشمالي والأتارب ودرعا وحصارالغوطة حتى الموت جوعا وتدمير ما بقي منها، وتكتشف الأغذية التي اؤتمنت الأمم المتحدة لإيصالها إلى الغوطة مكدسة في مستودعات جيش النظام، ولا يتحرك ضمير لصناع اتفاق القاهرة، ولا تفعل هيئة المفاوضات شيئا. وتحول خفض التصعيد إلى تصعيد خطير.
أمام هذه الأوضاع المأساوية يجب أن يتمخض مؤتمر الرياض عن تشكيل منصة للثورة، وهي ليست مسؤولية الدول الشقيقة والصديقة بل هي مسؤولية المعارضة، مسؤوليتكم وحدكم في هيئة المفاوضات، وكيف يمكن لمن يقدم نفسه باسم منصة موسكو التي تذبح الشعب السوري، والقاهرة التي تقف مع النظام ضد الثورة في السياسة والحرب. كيف يمكن أن يمثل الثورة السورية.
كيف يمكن أن يشكل أعداء الثورة وفدها، مع أنه كان الأولى أن تحدث التغييرات في وفد النظام لأنه لم يوافق مرة واحدة على مناقشة الحل السياسي ولا هيئة الحكم الانتقالي، وكان الأولى أن يفرضوا أشخاصا في وفد النظام يقبلون الحل السياسي الذي تعلن أمريكا وروسيا وكل العالم أنه لا بديل عنه. يجب أن يكون التزامكم ببيان جنيف (1) وقرار مجلس الأمن 2118 وأنكم لن تذهبوا إلى أي جلسة مفاوضات قبل تنفيذ البنود الخمسة من خطة كوفي عنان التي أقرها مجلس الأمن بالقرار 2118، وبعدها تشكل هيئة الحكم بصلاحيات كاملة ولا قبول بوجود المجرم بشار الأسد يوما واحدا في أي مرحلة.
إننا نجد أنفسنا ملزمين بأن نذكر المؤتمرين في الرياض أنهم يتحدثون نيابة عن مليون شهيد ومليون مصاب وأكثر من مليون يتيم ونصف مليون أرملة ومليون أم ثكلى وستمائة ألف معتقل ومفقود وأربعة عشر مليون نازح ولاجئ يعيشون في الخيام وأكثر من أربع ملايين طفل سوري حرموا من التعليم وآلاف المغتصبات من أمهاتكم وبناتكم وأخواتكم، والأرض التي تحتلها روسيا وإيران وأنكم تمثلون أعظم ثورة في العالم حاربتها وطعنتها أكبرقوى العالم.
وفي حال تعذر ذلك تعالوا إلى عقد مؤتمر وطني طالما دعاكم إليه الثوار لتوحيد الهدف وتشكيل قيادة واحدة لفصائل الثورة، نعمل معها مجتمعين في الداخل والخارج. وأن تسير المفاوضات وتعزز وحدة وقوة فصائل الجيش الحر جنبا إلى جنب.
الدول التي تحتل سوريا إيران وموسكو تريد تشكيل وفد يتحدث باسم الثورة وهو ليس منها، ويقبل ببقاء المجرم بشار الأسد ليحفظ مصالحها، وبعدها تسير الأمور باتجاه المصالحة مع النظام وتبرئته من كل الجرائم، وهذا ما نحذر منه.
لقد أخذ النظام كل ما أخذه في ظل المفاوضات التي اؤتمنتم على إدارتها.
ولكنكم ضيعتم الأمانة.
تستعد موسكو لفرض إرادتها على الشعب السوري وتخييره ما بين القبول برؤيتها للحل، أو استمرار استخدام العمل العسكري ضد مَن تبقى من فصائل «الجيش الحر»، كما يحدث الآن في الغوطة الشرقية والأتارب، وكأن الروس يُطبقون في هجماتهم الأخيرة الشعار الذي أطلقه شبيحة النظام وميليشياته الطائفية بداية الثورة (الأسد أو نحرق البلد) بهدف إركاع الشعب السوري ومن تبقى من معارضة سياسية وعسكرية تحاول مقاومة الإرادة الروسية.
يحتاج الرئيس الروسي فلاديمير بوتين إلى خروج سريع من المستنقع السوري، وهو يرى أمامه فرصة تاريخية لا تتكرر تحققت، نتيجة ضبابية الموقف الأميركي العالق بين التردد والتلكؤ، يضاف إليه غياب أوروبي وعربي وصل لدرجة الاستسلام في سوريا، مواقف سمحت للروس بطرح رؤيتهم للحل، وفقاً لمصلحتهم ومصلحة حلفائهم وفي مقدمتهم إيران، فقد استطاعت طهران بفضل موسكو تكريس وجودها السياسي والعسكري وحتى الاقتصادي في سوريا، وتمكنت نتيجة العنف المفرط ضد المدنيين السوريين، من إفراغ المدن الكبرى من سكانها، ما ساعدها على القيام بأكبر عملية إفراغ ديموغرافي منذ الحرب العالمية الثانية، فقد شهدت سوريا في السنوات الأخيرة عملية إفراغ ممنهج حولت 11 مليون سوري إلى نازح أو لاجئ، وهي عملية باركها رأس النظام، ووصفها بأنها أوجدت مجتمعاً سورياً متجانساً.
ففي الطريق إلى سوتشي، يستعد الأطراف الثلاثة روسيا وإيران وتركيا إلى تثبيت الوقائع التي نشأت على الأرض، جرّاء الأعمال العسكرية، والتي تم التأكيد عليها خلال جولات آستانة التفاوضية، والتي سمحت للأتراك بالتوغل داخل الأراضي السورية، بهدف إبعاد الخطر الكردي المتصاعد على حدودها مع سوريا، الذي يشكل خطراً فعلياً على أمنها القوي، حيث ظهرت حاجة أنقرة لموسكو وطهران في تحجيم دور الفصائل الكردية المسلحة التي تقاتل بغطاء أميركي، ما تسبب في انقلاب أنقرة على ثوابتها الجيوسياسية التقليدية، وأدى فعلياً إلى أن تُقدم أنقرة لجوءً سياسياً في موسكو، وجعل موقفها ضعيفاً في التسوية الثلاثية، وبرز ذلك أكثر بعد موافقتها على إرسال مراقبين من روسيا وإيران إلى منطقة خفض التصعيد في إدلب، وإلى عدم التطرق لشكل المرحلة الانتقالية، وهو ليس دليلاً فقط على تماهيها مع الرؤية الروسية، بل إنها أسقطت تحفظاتها السابقة على الوجود الإيراني في شمال سوريا، وخصوصاً في منطقة إدلب، حيث يوجد أغلب الفصائل العسكرية السورية الموالية لها.
في المقلب الآخر يمكن القول إن روسيا سمحت لإيران أن تتصرف كدولة محاذية لسوريا، واعتبار الحدود اللبنانية السورية بداية، والسورية العراقية لاحقاً، حدوداً طبيعية لها مع سوريا، فتمكنت من خلال ميليشياتها التي لعبت دور رأس الحربة في قتال الشعب السوري من جعل سوريا ضمن مجالها الحيوي، بحيث تقود طهران اليوم أغلب العمليات الميدانية في كافة الأراضي السورية، وتساعد نظام الأسد على بسط سيطرته على مزيد من الأراضي، وتوجت عملياتها العسكرية الأخيرة في دخول البوكمال على الحدود مع العراق، التي ظهر فيها قائد «فيلق القدس» اللواء قاسم سليماني يقود العمليات العسكرية فيها، وهي تُعتبر رسالة روسية إيرانية مزدوجة لكل المطالبين بتقليص النفوذ الإيراني في سوريا، بأن مطالبكم غير واقعية وتجاوزتها الأحداث، حيث يصبح كلام وزير الخارجية الروسي الأخير سيرغي لافروف عن الدور الإيراني في سوريا، وحتى على حدودها الجنوبية مع الأردن وإسرائيل، الثابت الأكثر وضوحاً في المشهد السوري، الذي تحاول موسكو شرعنته في قمة سوتشي الثلاثية.
نجحت موسكو في تحويل خصوم الأمس إلى شركاء اليوم، واستفادت من تقاطع المصالح بينها وبين أنقرة وطهران في سوريا، وحولت العداء التاريخي بينها إلى علاقة مستقرة تحكمها المنافع المتبادلة، لكن هذه المنافع تبقى محدودة المكان والصلاحية، لذلك لن يتمكنوا من تجاوز خمسة قرون من التنافس الجاهز للتشكل، في أي لحظة يدخل فيها عامل إضافي على الخريطة السياسية أو العسكرية السورية يربك التحالف المُركب المبني على معادلة 2+1 أي (إيران وروسيا) إضافة إلى تركيا، التي تجمعها المصلحة وتفرقها النوايا.
في سوتشي قمة ثلاثية الأبعاد، تتوافق على قاسم مشترك واحد هو شرعنة تدخلهم في سوريا، ولكنهم يختلفون على كثير من التفاصيل التي تسكنها الشياطين، حيث المناعة التركية ضعيفة في تجنب شياطين طهران، بينما خيارات موسكو بعيدة حتى الآن عن فكرة احتوائها، لذلك من الممكن أن تحصل طهران في سوتشي على ما عجزت لقرون عن تحقيقه.
هل تعلمون أن كل دول أوروبا الشرقية التي كانت تنضوي تحت لواء الاتحاد السوفياتي انتقلت فعلياً من المرحلة الشيوعية إلى المرحلة الديمقراطية، باستثناء روسيا نفسها التي لم يتغير فيها سوى الاقتصاد من الاشتراكي إلى الرأسمالي المتوحش، بينما ظل النظام السياسي ديكتاتورياً؟ بعبارة أخرى، فإن وكر الشيوعية الأصلي الذي كان يتمثل بالاتحاد السوفياتي لم يفارق عهد الطغيان إلا شكلياً.
على عكس كل الدول الأوربية الشرقية التي كانت تدور في الفلك الروسي، انتقلت روسيا بعد ثورتها، أو لنقل بعد تفكك الاتحاد السوفياتي، انتقلت من الديكتاتورية الشيوعية إلى عصر المافيا، حيث حكمت المافيا هناك لفترة من الزمن ريثما يتشكل نظام جديد يحكم البلاد بعد سقوط النظام الشيوعي. وبعد طول انتظار، لم يحظ الشعب الروسي بحكم ديمقراطي على غرار بقية دول أوروبا الشرقية التي انتقلت فعلياً إلى النظام الديمقراطي الحقيقي. لا شك أن النظام الروسي الجديد راح ينافس الرأسمالية المتوحشة اقتصادياً، حيث تحولت موسكو إلى واحدة من أغلى العواصم في العالم، لكن النظام السياسي الجديد ظل نظاماً سوفياتياً بواجهة ديمقراطية زائفة. صحيح أن الدولة الروسية الجديدة تظاهرت باتباع النظام الديمقراطي والانتخابات والتعددية الحزبية وغيرها من مظاهر الديمقراطية، إلا أنها في الواقع كانت وما زالت بعيدة عن الديمقراطية الحقيقية بعد الأرض عن الشمس.
انظروا فقط إلى لعبة التداول على السلطة المزعومة في روسيا منذ سنوات طوال. لقد تحولت روسيا إلى لعبة في أيدي الثنائي الشهير ميدفيديف-بوتين. مرة يكون ميدفيديف رئيساً للجمهورية وبوتين رئيساً للوزراء، ومرة يكون العكس، مع الانتباه طبعاً إلى أن الحاكم الحقيقي الوحيد في روسيا هو بوتين، بينما يلعب مدفيديف دور الكومبارس الديمقراطي. ولسنا بحاجة أبداً لأي برهان كي نرى كيف أصبحت روسيا العظمى كلها مرتبطة باسم بوتين، بينما ينظر حتى الروس أنفسهم إلى ميدفيديف شريك بوتين في السلطة على أنه مجرد ديكور ديمقراطي، بينما السلطة الحقيقية للقيصر بوتين، وهو الاسم الذي تطلقه عليه وسائل الإعلام الغربية، لأنه الحاكم بأمره بقوة الجيش وأجهزة الأمن الروسية الشهيرة التي ورثت أساليب الكي جي بي من ألفها إلى يائها.
وبما أن روسيا أصبحت صاحبة الكلمة العليا في سوريا بعد احتلالها المباشر للبلاد بغطاء شرعي زائف اسمه بشار الأسد، فهي لا شك ستنقل للسوريين تجربتها "الديموخراطية" الكوميدية، بحيث ستعمل على إجراء انتخابات يفوز فيها عميلها في دمشق سواء كان بشار أم عميل آخر من نفس الطينة. ويجب أن ننوه هنا إلى أن روسيا تغلغلت عميقاً داخل المؤسستين العسكرية والأمنية السورية، وتعرف أيضاً كيف تتلاعب بأتباعها داخل المؤسستين. وبالتالي، فيما لو حصل تغيير في سوريا، فلا شك أنه سيكون على الطريقة الروسية، بحيث سيبقى الأمن والعسكر مسيطرين على البلاد بنفس الطريقة التي يدير بها بوتين روسيا "الجديدة". بعبارة أخرى، فإن الثورة السورية ستفرز واقعاً مشابهاً للواقع الذي أفرزته الثورة الروسية المسكينة التي انتقلت ظاهرياً من العهد السوفياتي الشيوعي إلى العهد الديمقراطي الزائف، بينما ظلت اليد العليا فيها عملياً للجيش والاستخبارات. ولا ننسى طبعاً أن الرئيس الروسي بوتين نفسه هو أحد رجالات المخابرات الروسية "الأشاوس". وهذا يؤكد أن روسيا شذت عن باقي ثورات أوروبا الشرقية.
وفي أحسن الأحوال، إذا ظلت روسيا ممسكة، بزمام الأمور في سوريا، فلن يحصل السوريون إلا على نسخة مشوهة من "الديموخراطية" الروسية، بحيث سيكون لدينا رئيس من فصيلة المخابرات والعسكر حاكم بأمره يتناوب على السلطة مع شخصية أخرى من وزن "الطرطور" كي يقنع العالم بأن سوريا تغيرت وأصبحت ديمقراطية، بينما هي في الواقع انتقلت من سيء إلى أسوأ. ولا شك أن "الديموخراطية" السورية ذات النكهة الروسية ستكون مناسبة جداً لإسرائيل، لأنها تطمئنها بأن الشعب السوري سيبقى تحت ربقة العسكر والمخابرات الذين حموا إسرائيل من الشعب السوري على مدى نصف قرن من الزمان.
ولعل أكثر ما يثير الضحك في التصريحات الروسية حيال الوضع السوري أن الكرملين يكرر باستمرار أن السوريين وحدهم سيقررون مصير النظام والرئيس، مع العلم أن من يقرر كل شيء في سوريا الآن هم الروس بآلتهم العسكرية الجبارة. لا أدري لماذا "يستحمر" الروس السوريين وبقية العالم بهذه التصريحات الهزلية القميئة. قال شو قال: مصير الأسد بيد السوريين. طيب، ألا تقدم روسيا كل أنواع الدعم للنظام السوري؟ ألا تستخدم كل أنواع أسلحتها الجديدة للقضاء على معارضي النظام بالحديد والنار؟ هل تركت فصيلاً معارضاً على الأرض إلا واستهدفته طائراتها؟ ألم تتدخل في سوريا بحجة محاربة داعش ثم اكتشفنا أنها جاءت حصراً لمحاربة كل من يعارض النظام؟ ألم تستخدم الفيتو في مجلس الأمن إحدى عشرة مرة لحماية النظام؟ ثم يخرج علينا الكرملين بكل صفاقة ليقول إن الشعب السوري سيقرر مصير النظام؟ وماذا كان جيشكم الروسي وطائراتكم وقواتكم تفعل في سوريا على مدى سنتين؟ هل كنتم توزعون الأزهار والحلوى على أطفال سوريا، أم كنتم تقتلون وتشردون الأكثرية في سوريا، بينما تعملون على إعادة تأهيل النظام والطوائف المتحالفة معه لتفرضوه على ما تبقى من السوريين المكلومين وعلى العالم مرة أخرى ككلاب حراسة لمصالحكم واستثماراتكم وقواعدكم الجديدة في سوريا؟ حتى الدستور السوري وضعته موسكو!
قال شو قال: مصير الأسد يقرره الشعب السوري....
ليش خليتو دور لحدا منشان يقرر أي شي في سوريا؟
تتسارع الخطوات تباعاً سياسياً بين الدول المؤثرة وصاحبة القرار في القضية السورية، مع مؤتمرات عديدة باتت تتشابك خيوطها وأهدافها رغم تعددها في سعي هذه الدول لفرض الحل السياسي على طرفي القضية ممثلين بفصائل المعارضة والنظام كلاً من قبل الطرف الدولي المتحكم بقراره.
يتزامن هذا السعي في الوقت الذي تواصل قوات الأسد بمعزل عن كل هذه الاجتماعات والحراك الدولي في سعيها للسيطرة على المزيد من الأراضي والمواقع في دير الزور والغوطة وأرياف حماة وإدلب وحلب، بعد أن باتت تفاصيل التقاسم والاتفاقيات بين الدول واضحة في استلام وتسليم رغم أنها لم توضح ذلك علانية ولكن المؤشرات على الأرض تعطي انعكاس حقيقي لاجتماعاتهم ولقاءاتهم.
إدلب اليوم في مواجهة خطر كبير قادم من الشرق، يتمثل في سعي جاد وحقيقي لقوات الأسد والميليشيات الرديفة لها للتوسع بريف حماة الشرقي باتجاه ريف إدلب، بالتزامن مع توسع لعناصر تنظيم الدولة أيضاً في المنطقة بعد تلقيه دعم واضح ومباشر من نظام الأسد الذي أوصل قواته والدعم له عبر مناطق خاضعة لسيطرته في إثريا كورقة يستخدمها لتشتيت قوة الأطراف التي تواجه التقدم وخلق حالة استنزاف كبيرة في المنطقة.
أيضاَ هناك عمليات مباغتة وجس نبض متتابعة من جبهات خناصر وريف حلب الجنوبي لتشتيت القوة المضادة أكثر وخلط الأوراق تمهيداً للعملية العسكرية المزمع تنفيذها بدعم إيراني بعد أن تنتهي ميليشياتها من معارك دير الزور وتوجهها إلى إدلب، هدفها شن عملية عسكرية للسيطرة على كامل المنطقة شرقي سكة الحديد أي من ريف حماة الشرقي حتى أبو الظهور وسنجار وصولاً لريف حلب الجنوبي وهذا ماسرب من اتفاق الخطة الروسية التركية.
قد يقول البعض أن الإعلام الثوري ساهم بشكل أو بأخر في إعطاء الدفع الإعلامي للأسد وروسيا في هذه العملية وروج لها وخلق حالة من الخوف لدى المدنيين دفع الآلاف منهم للخروج من المنطقة، إلا أن الحقيقة المرة هو أن المؤشرات على الأرض منذ بداية دخول عناصر تنظيم الدولة وقوات الأسد على خط المواجهة في أبو دالي وريف حماة الشرقي الذي تزامن مع بدء دخول القوات التركية إلى إدلب يؤكد صحة مانشر وكان لابد من النشر والتنبيه والتحذير حتى آخر دقيقة.
فالوقت بحسب مصادر كثيرة مازال مبكراً لقطع دابر هذا المشروع والمخطط لإدلب وريف حماة من خلال تشكيل غرفة عمليات عسكرية موحدة لجميع الفصائل وتوزيع المهام والجبهات للتجهيز قبل بدء العملية العسكرية الحقيقية في حال حصلت، فعمليات المناوشة والقصف الروسي على المناطق الواقعة شرقي سكة الحديد ماهو إلا بداية لتفريغ المنطقة من المدنيين أولاً ولاستنزاف قوة هيئة تحرير الشام التي تتسلم زمام العمليات هناك.
طالت الفصائل العسكرية في إدلب منها أحرار الشام وفيلق الشام انتقادات كبيرة عن سبب عدم مساندتها هيئة تحرير الشام في المعارك ضد تنظيم الدولة ونظام الأسد في ريف حماة الشرقي، وسط نداءات مستمرة لهذه الفصائل لتحريك قواتها والتوجه للمنطقة، لكن الحقيقة المرة التي يصعب فهمها اليوم هي أن تحرير الشام ساهمت بشكل كبير في خلق فجوة كبيرة بينها وبين جميع الفصائل لقاء ممارساتها تجاههم خلال المرحلة الماضية.
كذلك إن تحرير الشام منعت أي فصيل من التواجد بفعالية في منطقة الريف الشرقي وأخرجت أحرار الشام منها بقوة لما يشكل "قطاع البادية" لهيئة تحرير الشام بعد استراتيجي كبير كانت ولازالت تعطيه اهتمام وعناية خاصة، وهو من يسيطر بشكل كامل على جميع المنطقة الشرقية الممتدة من ريف حماة الشرقي حتى ريف حلب، وهو من يقاوم عمليات التقدم الحالية ويصدها بمشاركة لفصائل جيش العزة والنصر بالسلاح المضاد للدروع فقط.
طبيعة المرحلة والخطر القادم المهدد لكل إدلب وليس لتحرير الشام فحسب بل لأكثر من 100 ألف مدني هجروا من منازلهم، ولأن إيران والميليشيات لايمكن أن يوثق بها في انها لن تتعدى سكة الحديد غرباً في حال نجحت في الوصل إليها أصلاً، إلا أن هذا الخطر يتوجب على الجميع التكاتف والتعاضد لمواجهة المخطط والخطر القادم إلى إدلب من الشرق.
في مثل هذه الأيام قبل نحو نصف قرن، عقد حزب البعث (الجناح السوري) مؤتمراً قومياً استثنائياً، هو المؤتمر العاشر الاستثنائي، لمعالجة أزمة أصبحت طاحنة، كان قد تسبب فيها وزير الدفاع حافظ الأسد الذي أصبح تدريجياً، بدءاً من عام 1966، الرقم الرئيسي في معادلة موازين القوى في هذا البلد العربي، الذي ابتلي بسلسلة انقلابات عسكرية «هرسته هرساً»، بداية بانقلاب حسني الزعيم في عام 1949، وانتهاءً بانقلاب عام 1970 الذي ترتب عليه نظام لا مثيل له في استبداده، وهو هذا النظام الذي انتقل من الوالد إلى الولد، والذي أوصل سوريا إلى ما هي عليه الآن من دمار وخراب.
كان حافظ الأسد، الذي اتجه اتجاهاً عسكرياً لأن أوضاع أهله وعائلته لم تسمح له بالالتحاق بإحدى الجامعات اللبنانية لدراسة الطب، ضابطاً صغيراً برتبة ملازم أول عندما اتحدت سوريا ومصر في عام 1958، وأصبحت هناك «الجمهورية العربية المتحدة»، لكن أبواب المستقبل اللاحق قد انفتحت أمامه إلى أن انقلب على رفاقه في عام 1970، وأصبح رئيساً لواحدة من أهم الدول العربية، وحوَّل النظام من نظام جمهوري إلى نظام متوارث وصل إلى بشار، الذي يسعى هو بدوره لإيصاله إلى ابنه الذي يحمل اسم جده.
كانت البداية لكل هذه التطورات التي تلاحقت في هذا البلد العربي، عندما أبعد الرئيس جمال عبد الناصر عدداً من الضباط (البعثيين) في الجيش الثاني، أي الجيش السوري، من سوريا إلى مصر تحاشياً لقيامهم بانقلاب عسكري، ما داموا قد شاركوا في انقلابات عسكرية كثيرة. وهناك، أي في القاهرة، شكل خمسة من هؤلاء (ثلاثة من الطائفة العلوية، هم: المقدم محمد عمران الذي اغتيل لاحقاً في عام 1974 في طرابلس بلبنان، والرائد صلاح جديد الذي وُضع في سجن المزة بعد الانقلاب الأسدي في عام 1970 إلى أن مات وفارق الحياة خلف أبواب زنزانته المغلقة، والملازم حافظ الأسد؛ واثنان من الطائفة الإسماعيلية، هم: النقيب عبد الكريم الجندي، والنقيب أحمد المير) المجموعة التي أضيفت إليها لاحقاً بعض الأسماء العسكرية «الديكورية» اللامعة، من بينها أمين الحافظ وسليم حاطوم، والتي قامت بانقلاب الثامن من مارس (آذار) عام 1963 الذي حمل اسم «ثورة»، كانت قد سبقتها بشهر واحد «ثورة» فبراير (شباط) البعثية في العراق.
بعد ثورة «مارس» هذه أصبح صلاح جديد رئيساً للجنة الضباط العسكرية، وكان أول قرار اتخذه هو ترفيع حافظ الأسد إلى رتبة عقيد، وتسليمه سلاح الجو السوري، فجاء هذا الترفيع كخطوة ثانية على الطريق الذي أوصله إلى هذا النظام الذي لا يزال يعتبر قائماً. أما الخطوة الثالثة، فكانت أنه أصبح الرجل الأقوى في تركيبة نظام ما بعد انقلاب (فبراير) عام 1966، نظراً لاختيار جديد موقع الأمين القطري المساعد في حزب البعث وتخليه عن موقعه العسكري. وهكذا، أصبح الرئيس السوري السابق القوة التي تمسك بزمام الأمور كلها عسكرياً وسياسياً، وذلك حتى انعقاد المؤتمر القومي العاشر الاستثنائي الذي انتهى بانقلاب هذا الرجل على رفاقه في مثل هذا الشهر من عام 1970. وكان من مؤيديه في هذا المؤتمر كل من مصطفى طلاس وعبد الحليم خدام ورفعت الأسد، الذين انتهى بهم الأمر لاجئين سياسيين في الخارج، بالإضافة إلى بعض كبار الضباط الذين كان من بينهم حكمت الشهابي.
كان ذلك المؤتمر (العاشر الاستثنائي)، الذي كان الثقل الرئيسي فيه عددياً لما كان يسمى «مجموعة صلاح جديد»، قد اتخذ قراراً بإحالة كل من حافظ الأسد ومصطفى طلاس إلى التقاعد، على أن يتم تكليفهما لاحقاً بمهمات حزبية ومدنية. لكن ما كان واضحاً منذ اللحظة الأولى هو أن مصير هذا القرار الحزبي سيكون سلة المهملات، وأن سوريا باتت بانتظار انقلاب عسكري جديد يضاف إلى الانقلابات العسكرية السابقة، وأن الذين استهدفوا بأهم قرارات ذلك المؤتمر لن ينصاعوا إلى هذه القرارات، وأن الأجواء في هذا البلد أصبحت أجواء انقلابية، وأن الحكم الجديد سيكون شكلياً حكماً بعثياً، لكنه في حقيقة الأمر سيكون حكما عائلياً وراثياً، وهذا هو ما حصل بعد وفاة الأسد (الكبير) ومجيء الأسد (الصغير).
يومها، وفي تلك اللحظات الحاسمة، حيث أخذت القطاعات العسكرية تحيط بدمشق، وبدأت طائرات الـ«ميغ» الحربية تخترق جدار الصوت فوق العاصمة السورية، وبات بيت الشعر القائل: تنام جلّق بين اليأس والكمد... أما من منقذ يا حافظ الأسد.. يتردد في الجامعات والمدارس وفي المعسكرات وفي كل مكان؛ بدأت الاعتقالات ودون أي مقاومة تطال بعض أعضاء هذا المؤتمر الآنف الذكر، لكنها لم تكن قد وصلت إلى كبار المسؤولين، مثل الرئيس نور الدين الأتاسي وصلاح جديد ويوسف زعين ومحمد عيد عشاوي، وغيرهم.
وهكذا، ولأن كبار القياديين البعثيين من «العرب» كانوا - وما زالوا - يحظون ببعض الاحترام، حتى من قبل الذين استهدفتهم قرارات ذلك المؤتمر القومي العاشر الاستثنائي، فقد ذهب أحدهم، وكان ضابطاً مرموقاً في جيش بلده سُجن في هذا البلد لنحو تسعة أعوام بتهمة المشاركة في محاولة انقلابية عسكرية، للقاء حافظ الأسد في مبنى رئاسة الأركان. وهناك في هذا اللقاء، كانت جلسة عاصفة، وكان حوار صاخب امتد إلى نحو ساعتين وأكثر.
لقد قال هذا البعثي «العربي» ذو الخلفية العشائرية (البدوية) بلهجة تهديدية: «إن عليك يا رفيق (أبو سليمان)، وكان هذا هو لقب حافظ الأسد المحبب المتداول بين رفاقه القدماء، أن تلتزم بقرارات الحزب، وإلا فإن نهايتك ستكون (مزبلة التاريخ)». عندها، كما تردد في تلك الفترة التي غدت بعيدة، هوى الأسد بقبضته على الطاولة التي كانت أمامه، وقال وهو يحاول الوقوف لإنهاء تلك الجلسة: «سنرى من سيذهب إلى مزبلة التاريخ، أيها الرفيق».
بعد ذلك مباشرة بدأت عمليات اعتقال كبار القادة البعثيين وكبار المسؤولين في الحزب والدولة، وتلا ذلك البلاغ العسكري «رقم 1»، الذي كان تحت عنوان «الحركة التصحيحية»، والذي تلاه من إذاعة دمشق محافظ دير الزور الأسبق عضو القيادة القطرية اللاحق محمد حيدر، الذي انتهى بدوره لاجئاً سياسياً في الولايات المتحدة، والذي من المفترض أنه لا يزال هناك رغم كل هذه السنوات الطويلة.
لكن هذا البعثي «العربي» المشار إليه آنفا لم يُعتقل إلا لاحقاً، حيث وضع في زنزانة انفرادية لنحو ربع قرن في سجن المزة الشهير، الذي مرت عليه قوافل متلاحقة من أبناء سوريا، الذين إما أن أعمارهم قد انتهت وراء أبواب الزنازين المغلقة أو في ديار الغربة البعيدة، بعدما غادروا بلدهم طلباً للعلاج من أمراض السجون وظلامها الذي بقي متواصلاً لسنوات طويلة.
والمهم هنا، وفي النهاية، فإنه لا بد من التساؤل بعد كل هذه السنوات الطويلة عمن ذهب إلى مزبلة التاريخ يا ترى، هل هو ذلك البعثي «العربي» الذي تم إطلاق سراحه بعد أربعة وعشرين عاماً قضاها في إحدى زنازين سجن المزة الرهيب؟ لقد عاد إلى بلده، وراح يتذكر وهو يتابع كل هذه المآسي التي حلت بسوريا خلال السبعة أعوام الأخيرة حكاية «مزبلة التاريخ» هذه، وأنها لم تكن من نصيبه هو، وإنما من نصيب ذلك الذي أوصل هذا البلد العربي العظيم إلى ما وصل إليه.ش
سنوات ونحن في حرب مع ما يسمى تنظيم داعش الإرهابي... حرب استنزفت المنطقة وأدخلتها في دوامة من الفرضيات والتحاليل الغامضة، بحكم الأسرار التي رافقت ظهور هذا التنظيم ونشاطه والقوى الداعمة له. وهي حرب ألهت المنطقة عن مشاكلها الأساسية والأكثر وضوحاً، ولو أن الانشغال عنها لم يكن كاملاً.
عندما بدأت مؤشرات التمشيط النهائي لتنظيم داعش، إضافة إلى بداية تقارب فتح وحماس، مع ما يعنيه ذلك من توحيد للموقف الفلسطيني، وتجاوز ماضي التشويش بينهما، وتداعيات ذلك على الإدارة الدوليّة للقضية، بدأت بعض التحاليل السياسيّة تتحدث عن سيناريوهات الانفراج النسبي في المنطقة، وتحديداً الحد من ظاهرة الإرهاب، ومقاربة المسألة بشكل أكثر وضوحاً.
ولكن بمجرد تراجع ما أجبر المنطقة على تأجيل مواجهة المشاكل الكبرى، حتى عادت المشكلة الكبرى إلى سطح الأحداث: إيران ودورها في إرباك المنطقة ومنع استقرارها.
ولو راجعنا المشاكل الشرق الأوسطية التي حصلت في السنوات الأخيرة، لرأينا كيف أن تدخلات إيران التي تزداد بشكل تصاعدي مباشراتية، كانت عامل تهديد مفتوحاً في الزمان والجغرافيا.
واليوم هذا التهديد بدأ يتحدد على ما يبدو زمانياً وجغرافياً أكثر فأكثر، مما يعني أن المنطقة تجاوزت مرحلة التعبير عن القلق من ملف إيران النووي والأطراف الممثلة لها في المنطقة.
في الأسابيع الأخيرة وبعد حادثة الرياض الأخيرة بدأت تظهر مؤشرات جديدة، تفيد بأن القلق تجاوز القلق، وبدأ الحديث بقوة عن التهديد الإيراني وعن التدخلات الإيرانية، وهو حديث أكدته أطراف تابعة لإيران ذاتها.
ولعل لبنان هو المؤشر الأكبر عن التصعيد الإيراني في المنطقة، ونقصد بذلك استقالة حكومة سعد الحريري التي أسالت الكثير من الحبر، ولكن لم يسل الحبر في أصل المشكل اللبناني، وكيف أن لبنان مهدد وأمره مرهون بتراجع الصراع الإقليمي في المنطقة.
والمحزن في هذا الأمر غلبة الأجندة الخارجية على الأجندة الداخلية في لبنان، بشكل يجعل سلامه واستقراره تحت رهن أجندة غير لبنانية.
وإلى حد الآن لا تزال إيران خارج الصورة. تتدخل من خارج الصورة وتزعزع المنطقة غير المستقرة أصلاً من خارج الصورة، وهي تتحرك من خلف الصورة بقوة.
ربما الدرس الذي تعلمته إيران من حربها الضروس الدامية المنهكة مع العراق أيام صدام حسين، هو ألا تحارب وجهاً لوجه. رسمت استراتيجية جديدة لمشروعها وطموحها: استراتيجية عدم الظهور في الصورة.
الجديد الآن هو وجود مؤشرات على أن ما يحدث في المنطقة من استفزازات وارتفاع نسق الصراع، وتنامي المباشراتية قد يُجبر إيران على الظهور في الصورة، خاصة إذا ما تم تشديد الخناق على المحور الإيراني، وتم حل ما سمي بأزمة الخليج بشكل حكيم وواع. إن الأزمة الراهنة وبالنظر إلى التغييرات الحاصلة في الأزمة السورية ومشكلة قطر، ناهيك عن واقع تقسيم السلطة والثروة في العراق، وأثر المذهبية في ذلك... كل هذا يكشف عن احتمالات حصول إعصار قوي في منطقة الشرق الأوسط، والأمر تجاوز مجرد القلق بكثير.
وفي الحقيقة مرحلة القلق كانت قبل اندلاع ما سمي الثورات، حيث توجهت الاهتمامات والأولويات منذ ثورة تونس في 14 يناير (كانون الثاني) 2011 إلى الحراك العام الذي عرفته بلدان أخرى، وتداعيات ذلك على المنطقة والبلدان العربية بشكل عام.
لذلك فإن اجتماع وزراء الخارجية العرب الذي انعقد هذا الأسبوع، يبدو لنا من حيث البيان يعمل على التهدئة، ومحاولة فرملة التصعيد الإيراني، الذي يعمل خارج حدوده في خدمة أجندته. ويمكن اعتبار هدوء لهجة البيان التي لم تتجاوز التنديد والتهديد النسبي كمحاولة لاستبعاد السيناريو الأسوأ في لغة السياسة.
وكل هذا حسب اعتقادنا يشجع التدخلات والاستفزازات الإيرانية على مزيد التوغل، ولا بد من وجود موقف حاسم ضد هذه التدخلات والاستفزازات.
أما الظاهرة الأخطر فهي تتمثل في غياب معالجات إعلامية موضوعية ومهنية حول الصراع الإيراني العربي في المنطقة، وهو ما أثر سلبا على الرأي العام العربي، الذي يعرف تشويشاً مقصوداً في مجال قراءة الصراع وفهمه. ولعل اهتمام القنوات الإخبارية باستقالة حكومة سعد الحريري من خلال التركيز على زيارته للمملكة العربية السعودية خير دليل على ما وصفناه بالتشويش المقصود.
إن تصاعد التوترات بين إيران والدول العربية المجاورة ينسحب بوضوح على التصعيد الواضح لأنشطة طهران داخل العالمين العربي الإسلامي، تنفيذاً لاستراتيجية توسعية كتبها دستور «ثورة 1979 - 1980» تحت غطاء نشر «الثورة الإسلامية»، لا خدمة الشعوب الإسلامية؛ بل على حسابها، ولا حباً للشيعة؛ بل استخدام الدين الحنيف لصالح تحقيق السيطرة الشاملة على العالمين العربي الإسلامي.
الحروب في سوريا والعراق واليمن قد وفّرت للنظام الإيراني مسرح عمليات أكبر. وبتمويل وتوجيه الميليشيات العميلة في كل من هذه الأماكن، بدأت طهران بالفعل في إعادة إنتاج نموذج «حزب الله» الذي لطالما كان له تأثير على السياسة والمجتمع في لبنان. ونتيجة لذلك، تزداد وتيرة العنف الطائفي، في حين يواصل النظام الإيراني سعيه لتحقيق هدفه المنشود منذ وقت طويل، المتمثل في تكريس خلافة مذهبية متطرفة تمتدّ إلى المنطقة العربية الإسلامية.
وللجزيرة العربية مبررات قوية في مواجهة التهديد الإيراني المتزايد. وفي هذا الإطار، تم تشكيل ائتلاف عربي مهمته الرئيسية دفع النفوذ الإيراني في اليمن ثم في الجزيرة كلها.
وفي حقيقة الأمر، يبدأ نفوذ النظام الإيراني وفروعه الكثيرة من داخل إيران، وهو المكان الذي يجب أن يقتلع منه، ومن جذوره.
ومن المؤكد أن شعوباً أخرى قد عانت أيضاً على أيدي نظام توسعي وعملاء إرهابيين مسؤولين عن أعمال الذبح والتخريب، مثل تفجير أبراج الخبر في عام 1996. ولكن المعارضين للنظام داخل إيران قد تعرضوا لعمليات قتل منظم وبأعداد كبيرة منذ إنشاء «الجمهورية الإسلامية».
وحاول مؤسس «الجمهورية الإسلامية» الخميني في عام 1988 القضاء على جميع قوى المعارضة النشطة، وأصدر فتوى تدعو إلى إعدام كل من بقي له ولاء للمعارضة الرئيسية «مجاهدين خلق». وبذلك تم إحضار ما قُدّر بثلاثين ألف سجين سياسي أمام «لجان الموت» في جميع أنحاء البلاد لاستجوابهم حول انتماءاتهم السياسية، ليحكم عليهم بالشنق.
لا أحد في العالم لديه عطش لتحقيق العدالة في إيران أكثر من عائلات وأصدقاء ضحايا مجزرة 1988. ولذلك ليس هناك من هو أكثر التزاماً بين أبناء الشعب الإيراني منهم بالعمل من أجل قضية تغيير النظام. فقد أصبحت مجزرة السجناء السياسيين قضية رأي عام للشعب الإيراني، لا سيما منذ ظهور التسجيل الصوتي في السنة الماضية لوريث الخميني آنذاك حسين علي منتظري، الذي قال فيه لأعضاء «لجنة الموت» في طهران: «أنتم ارتكبتم أبشع جريمة في تاريخ (الجمهورية الإسلامية)».
معروف أن كل طرف كان ضحية لـ«الجمهورية الإسلامية» يجب أن يكون حليفاً في دحر هذا النظام. وهذا ينطبق بشكل خاص على أبناء الشعب الإيراني الذي يتصدر الصفوف الأمامية في المعركة لوقف النشاط القمعي والمدمر داخل إيران وخارجها. فينبغي على أولئك الذين سيشاركون في هذه المعركة؛ سواء من الولايات المتحدة أو من الدول العربية، أن يبدأوا بالتعبير عن تضامنهم مع الشعب الإيراني والاعتراف بمقاومته الرئيسية المتمثلة في «المجلس الوطني للمقاومة الإيرانية». ولا توجد طريقة أفضل للقيام بذلك أكثر من السعي إلى تحقيق العدالة على الساحة الدولية.
لم يواجه أي شخص اتهامات، ولم يتم حتى التحقيق رسمياً مع أي كان حول دوره في مجزرة عام 1988، على الرغم من أن - تقريباً - جميع المسؤولين الرئيسيين لا يزالون على قيد الحياة اليوم، ويشغلون مناصب عليا في «الجمهورية الإسلامية».
ولم تترك المنظمات غير الحكومية، مثل منظمة العفو الدولية ومنظمة مراقبة حقوق الإنسان المعروفة باسم «هيومان رايتس ووتش» و«الفيدرالية الدولية لحقوق الإنسان»، وكذلك كبار المختصين الدوليين في مجال القانون الدولي، أي مجال للشك في أن الإعدامات الجماعية عام 1988، تمثل جريمة ضد الإنسانية، من النوع الذي كان ينبغي أن تضعه الأمم المتحدة والدول الأوروبية والولايات المتحدة والدول المجاورة لإيران في دائرة اهتمامها الخاص.
لدول الجزيرة مبررات قوية في مواجهة النظام الإيراني وعملائه في المنطقة، خصوصاً عندما يقترب هؤلاء من حدودها. لكن هناك مبررات أكثر وضوحاً عند مواجهة انتهاكات صارخة لحقوق الإنسان في إيران. وقد أصبحت مجزرة عام 1988 بالفعل صرخة حشد للناشطين والمنشقين الإيرانيين. وينبغي أن تتعالى أصواتهم في الساحة الدولية، لتصبح صرخة حشد في جميع أنحاء المعمورة لجميع البلدان الملتزمة بوقف تدخلات إيران الشيطانية في جميع البلدان العربية الإسلامية.
في الوقت الذي تحتفل فيه إدارة ترمب باتفاق جديد يرمي إلى تجميد ميدان القتال في جنوب سوريا، يستعد نظام الأسد وإيران للمرحلة التالية من الحرب طويلة الأمد القائمة، التي سيحاولان خلالها غزو باقي أرجاء البلاد. أما مسألة ما إذا كانت إيران سيحالفها النجاح في ذلك أم لا، فتعتمد بدرجة كبيرة على ما إذا كانت الولايات المتحدة من ناحيتها ستقر بوجود مثل هذه الاستراتيجية من الأساس، ثم تعمل على التصدي لها، أم لا.
في الوقت الراهن، تدفع طهران بآلاف المقاتلين إلى داخل الأراضي التي سيطرت عليها حديثاً وتعكف على بناء قواعد عسكرية لها. ورغم أن القوات المدعومة من واشنطن تسيطر على أراضي شرق الفرات في جنوب شرقي سوريا، إضافة إلى مساحات على امتداد الحدود مع إسرائيل والأردن في الجنوب الغربي، أعلنت طهران عزمها معاونة بشار الأسد في استعادة السيطرة على كامل أراضي سوريا.
من ناحية أخرى، شوهد قائد الحرس الثوري الإيراني، الجنرال قاسم سليماني، في الفترة الأخيرة في مدينة دير الزور الواقعة شرق سوريا، الأمر الذي يكشف الأهمية الكبيرة التي توليها إيران للسيطرة على المناطق الغنية بالنفط المجاورة للمدينة. كما شوهد سليماني قرب بوكمال، التي تقع قرب الحدود من مدينة القائم العراقية، وتشكل الجزء الأخير من الجسر البري الذي تسعى إيران لإقامته بين طهران وبيروت.
من ناحية أخرى، جرى الترويج للاتفاق الذي أبرمه الرئيس ترمب مع نظيره الروسي فلاديمير بوتين في آسيا، باعتباره سبيلاً لضمان أن الأراضي المحررة تظل خارج سيطرة الأسد، وتوفير مخرج أمام المقاتلين الأجانب. ومع هذا، أعلن وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف أن موسكو ليست لديها نية للضغط على إيران لسحب قواتها من سوريا.
إذن ما الذي يمكننا عمله؟ خرجت قوة عمل رفيعة المستوى من مسؤولين دبلوماسيين وعسكريين أميركيين سابقين بمجموعة من المقترحات، بخصوص كيف يمكن لترمب منع إيران من السيطرة على الجزء المتبقي من سوريا المحررة، وإنجاز وعده باحتواء النفوذ الإيراني بالمنطقة.
وذكر التقرير الصادر عن المعهد اليهودي للأمن الوطني للولايات المتحدة أنه «على نحو عاجل للغاية... يتحتم على الولايات المتحدة فرض عوائق حقيقية أمام المساعي الإيرانية لضمان تحقيق نظام الأسد النصر الكامل داخل سوريا. ويتسم عامل الوقت هنا بأهمية محورية».
أولاً: يتعين على الولايات المتحدة إعلان سياسة واضحة إزاء سوريا، تقضي على الشكوك حول أن مشاركة واشنطن ستتراجع الآن مع هزيمة تنظيم داعش. وينبغي أن تعلن السياسة بوضوح أن الوجود العسكري الأميركي مستمر براً وجواً لضمان عدم معاودة «داعش» في الظهور، وكذلك عدم إعادة بشار سيطرته على كامل البلاد، علاوة على تحقيق الأمن وإعادة الإعمار.
ثانياً: يجب أن تزيد إدارة ترمب مساعداتها إلى المجتمعات السنية التي كانت محظوظة بما يكفي لأن تعيش خارج حكم الأسد، ومعاونة الجماعات المحلية المدعومة من قبل واشنطن في السيطرة على الأراضي الاستراتيجية في جنوب شرقي سوريا. ويمكن أن توفر هذه الأراضي للمجتمعات المحلية فوائد اقتصادية الآن، ونفوذاً سياسياً في المستقبل.
ثالثاً: ينبغي أن تعمل الولايات المتحدة مع حلفائها الإقليميين لمنع إيران من نقل أسلحة وقوات إلى سوريا. ويتطلب ذلك اعتراض الشحنات بحراً، وضمان سيطرة قوات مدعومة أميركياً على المدن الحدودية المحورية داخل سوريا والعراق. ومن شأن مثل هذه الخطوات كبح جماح العدوان الإيراني، من دون إثارة صراع مسلح مع طهران.
من جانبه، قال جنرال القوات الجوية المتقاعد تشارلو والد، الذي ترأس قوة العمل سالفة الذكر: «نحن بحاجة لتقويض قدرة إيران على بناء هلال من النفوذ. ويتعين علينا الاستمرار في بناء تحالف مع الدول التي تشاركنا توجهاتنا».
من جهته، كان ترمب محقاً عندما أوضح أنه واجه ظروفاً سيئة داخل سوريا. الواضح أن سياسة إدارة أوباما القائمة على توجيه دعم فاتر للمسلحين السوريين، والجهود الدبلوماسية التي اعتمدت على الأماني أكثر من الحقائق، أسفرتا عن الموقف القائم على الأرض اليوم. إلا أنه يتعين على ترمب تجنب تكرار أخطاء باراك أوباما.
وفي هذا الصدد، أكد السفير السابق لدى تركيا، إريك إلدمان، الذي يتقاسم رئاسة قوة العمل، أنه «أمامنا جميع أنواع البطاقات التي يمكننا اللعب بها واستغلالها هنا، إذا امتلكنا الحكمة والذكاء اللازمين».
في الواقع، ليست ثمة رغبة داخل الولايات المتحدة للدفع بقوات عسكرية لأمد طويل داخل سوريا، لكن الدروس المستفادة من الانسحاب الأميركي من العراق عام 2011 لا تزال حية بأذهان القيادات العسكرية. من جهته، تعهد وزير الدفاع، جيمس ماتيس، الأسبوع الماضي بأن القوات الأميركية ستبقى لمنع ظهور «داعش جديد» وحتى انطلاق العملية السياسية، لكنه لم يذكر أن الولايات المتحدة ستتصدى للعدوان الإيراني.
الحقيقة أن مصالح الأمن الوطني الأميركي واضحة، ذلك أن السيطرة الإيرانية على المدى الطويل على الأراضي السورية التي تحررت من قبضتي النظام و«داعش»، ستثير مزيداً من القلاقل وتغذي التطرف وتطيل أمد الأزمة.
من ناحيته، قال معاذ مصطفى، المدير التنفيذي للمنظمة السورية للطوارئ: «لعب التحالف الذي تقوده الولايات المتحدة والقوات المتحالفة معه على الأرض دوراً محورياً في هزيمة داعش، لكن تحرير السوريين من قبضة التنظيم وتركهم في قبضة إيران، لن يسفر سوى عن إطالة أمد حالة التحول الراديكالي التي تشهدها البلاد».
وأضاف: «كثيراً ما يقال لنا إنه ليس ثمة حل عسكري للأزمة السورية، وهذا صحيح. إلا أن الصحيح كذلك أنه من المتعذر إقرار حل دبلوماسي طالما استمرت إيران والأسد في مساعيهما نحو إحراز نصر عسكري والإفلات به».
من الواضح تماماً منذ بدايات الثورة السورية أن النظام كان ينفذ في سوريا نفس المخطط الذي نفذه الروس في الشيشان، فكما قام الروس بتسوية العاصمة الشيشانية غروزني بالأرض، كان النظام يحوّل كل المدن والقرى التي ثارت ضده إلى ركام، ويسويها بالأرض. ولطالما سمعنا جنرالات النظام يهددون أي منطقة تثور ضدهم بتحويلها إلى مزرعة بطاطا. وكما هو واضح، فإن روسيا لم تكتف بإعطاء النظام الوصفة العسكرية للقضاء على الثورة، ولم تكتف أيضاً بمساعدته بكل جبروتها العسكري كي ينفذها على ما يرام، بل ها هي الآن تحاول أن تطبق التجربة الشيشانية السياسية في سوريا، بحيث لن يحصل السوريون بعد كل تضحياتهم إلا على قاديروف سوري نسبة إلى الرئيس الشيشاني الذي عينه الروس رئيساً مطيعاً للشيشان بعد تسوية الشيشان بالأرض.
مغفل من يعتقد أن روسيا ستجلب الديمقراطية للسوريين، بل ستنقل تجربتها "الديموخراطية" إلى سوريا. هل تعلمون أن كل دول أوروبا الشرقية التي كانت تنضوي تحت لواء الاتحاد السوفياتي انتقلت فعلياً من المرحلة الشيوعية إلى المرحلة الديمقراطية، باستثناء روسيا نفسها التي لم يتغير فيها سوى الاقتصاد من الاشتراكي إلى الرأسمالي المتوحش، بينما ظل النظام السياسي ديكتاتورياً؟ بعبارة أخرى، فإن وكر الشيوعية الأصلي الذي كان يتمثل بالاتحاد السوفياتي لم يفارق عهد الطغيان إلا شكلياً.
على عكس كل الدول الأوربية الشرقية التي كانت تدور في الفلك الروسي، انتقلت روسيا بعد ثورتها، أو لنقل بعد تفكك الاتحاد السوفياتي، انتقلت من الديكتاتورية الشيوعية إلى عصر المافيا، حيث حكمت المافيا هناك لفترة من الزمن ريثما يتشكل نظام جديد يحكم البلاد بعد سقوط النظام الشيوعي. وبعد طول انتظار، لم يحظ الشعب الروسي بحكم ديمقراطي على غرار بقية دول أوروبا الشرقية التي انتقلت فعلياً إلى النظام الديمقراطي الحقيقي. لا شك أن النظام الروسي الجديد راح ينافس الرأسمالية المتوحشة اقتصادياً، حيث تحولت موسكو إلى واحدة من أغلى العواصم في العالم، لكن النظام السياسي الجديد ظل نظاماً سوفياتياً بواجهة ديمقراطية زائفة. صحيح أن الدولة الروسية الجديدة تظاهرت باتباع النظام الديمقراطي والانتخابات والتعددية الحزبية وغيرها من مظاهر الديمقراطية، إلا أنها في الواقع كانت وما زالت بعيدة عن الديمقراطية الحقيقية بعد الأرض عن الشمس.
انظروا فقط إلى لعبة التداول على السلطة المزعومة في روسيا منذ سنوات طوال. لقد تحولت روسيا إلى لعبة في أيدي الثنائي الشهير ميدفيديف-بوتين. مرة يكون ميدفيديف رئيساً للجمهورية وبوتين رئيساً للوزراء، ومرة يكون العكس، مع الانتباه طبعاً إلى أن الحاكم الحقيقي الوحيد في روسيا هو بوتين، بينما يلعب مدفيديف دور الكومبارس الديمقراطي. ولسنا بحاجة أبداً لأي برهان كي نرى كيف أصبحت روسيا العظمى كلها مرتبطة باسم بوتين، بينما ينظر حتى الروس أنفسهم إلى ميدفيديف شريك بوتين في السلطة على أنه مجرد ديكور ديمقراطي، بينما السلطة الحقيقية للقيصر بوتين، وهو الاسم الذي تطلقه عليه وسائل الإعلام الغربية، لأنه الحاكم بأمره بقوة الجيش وأجهزة الأمن الروسية الشهيرة التي ورثت أساليب الكي جي بي من ألفها إلى يائها.
وبما أن روسيا أصبحت صاحبة الكلمة العليا في سوريا بعد احتلالها المباشر للبلاد بغطاء شرعي زائف اسمه بشار الأسد، فهي لا شك ستنقل للسوريين تجربتها "الديموخراطية" الكوميدية، بحيث ستعمل على إجراء انتخابات يفوز فيها عميلها في دمشق سواء كان بشار أم عميل آخر من نفس الطينة. ويجب أن ننوه هنا إلى أن روسيا تغلغلت عميقاً داخل المؤسستين العسكرية والأمنية السورية، وتعرف أيضاً كيف تتلاعب بأتباعها داخل المؤسستين. وبالتالي، فيما لو حصل تغيير في سوريا، فلا شك أنه سيكون على الطريقة الروسية، بحيث سيبقى الأمن والعسكر مسيطرين على البلاد بنفس الطريقة التي يدير بها بوتين روسيا "الجديدة". بعبارة أخرى، فإن الثورة السورية ستفرز واقعاً مشابهاً للواقع الذي أفرزته الثورة الروسية المسكينة التي انتقلت ظاهرياً من العهد السوفياتي الشيوعي إلى العهد الديمقراطي الزائف، بينما ظلت اليد العليا فيها عملياً للجيش والاستخبارات. ولا ننسى طبعاً أن الرئيس الروسي بوتين نفسه هو أحد رجالات المخابرات الروسية "الأشاوس". وهذا يؤكد أن روسيا شذت عن باقي ثورات أوروبا الشرقية.
وفي أحسن الأحوال، إذا ظلت روسيا ممسكة، بزمام الأمور في سوريا، فلن يحصل السوريون إلا على نسخة مشوهة من "الديموخراطية" الروسية، بحيث سيكون لدينا رئيس من فصيلة المخابرات والعسكر حاكم بأمره يتناوب على السلطة مع شخصية أخرى من وزن "الطرطور" كي يقنع العالم بأن سوريا تغيرت وأصبحت ديمقراطية، بينما هي في الواقع انتقلت من سيء إلى أسوأ. ولا شك أن "الديموخراطية" السورية ذات النكهة الروسية ستكون مناسبة جداً لإسرائيل، لأنها تطمئنها بأن الشعب السوري سيبقى تحت ربقة العسكر والمخابرات الذين حموا إسرائيل من الشعب السوري على مدى نصف قرن من الزمان.
ولعل أكثر ما يثير الضحك في التصريحات الروسية حيال الوضع السوري أن الكرملين يكرر باستمرار أن السوريين وحدهم سيقررون مصير النظام والرئيس، مع العلم أن من يقرر كل شيء في سوريا الآن هم الروس بآلتهم العسكرية الجبارة. لا أدري لماذا يستحمر الروس السوريين وبقية العالم بهذه التصريحات الهزلية القميئة.
قال شو قال: مصير الأسد بيد السوريين. طيب، ألا تقدم روسيا كل أنواع الدعم للنظام السوري؟ ألا تستخدم كل أنواع أسلحتها الجديدة للقضاء على معارضي النظام بالحديد والنار؟ هل تركت فصيلاً معارضاً على الأرض إلا واستهدفته طائراتها؟ ألم تتدخل في سوريا بحجة محاربة داعش ثم اكتشفنا أنها جاءت حصراً لمحاربة كل من يعارض النظام؟ ألم تستخدم الفيتو في مجلس الأمن إحدى عشرة مرة لحماية النظام؟ ثم يخرج علينا الكرملين بكل صفاقة ليقول إن الشعب السوري سيقرر مصير النظام؟ وماذا كان جيشكم الروسي وطائراتكم وقواتكم تفعل في سوريا على مدى سنتين؟ هل كنتم توزعون الأزهار والحلوى على أطفال سوريا، أم كنتم تقتلون وتشردون الأكثرية في سوريا، بينما تعملون على إعادة تأهيل النظام والطوائف المتحالفة معه لتفرضوه على ما تبقى من السوريين المكلومين وعلى العالم مرة أخرى ككلاب حراسة لمصالحكم واستثماراتكم وقواعدكم الجديدة في سوريا؟ حتى الدستور السوري وضعته موسكو!
قال شو قال: مصير الأسد يقرره الشعب السوري.. هل ترك الروس أصلاً أي شيء للسوريين كي يقرروه بأنفسهم، أم إنهم فرضوا عليهم تطبيق التجربة الشيشانية الهمجية بحذافيراها؟
أسفر سقوط معاقل «داعش» الرئيسية في سوريا عن ظهور تحديات تتعلق بضرورة إيلاء موسكو مزيداً من التركيز على العملية السياسية الرامية إلى تسوية الصراع السوري، الأمر الذي يعني بدوره تهيئة المرحلة المقبلة لعقد حوار موسع بين الأطراف المتنازعة، إذ يرغب الكرملين في أن يحصد وكلاؤه مزيداً من الزخم السياسي، وبأكثر مما قد يحصل عليه خصومهم.
بدت التحركات الدبلوماسية الروسية، خلال الثلاثين يوماً الماضية، فيما يتعلق بالقضية السورية، محمومة بصورة ملحوظة. من ناحية، أدلى الرئيسان الروسي فلاديمير بوتين والأميركي دونالد ترمب ببيان مشترك في قمة في دانانغ (فيتنام) في 11 نوفمبر (تشرين الثاني) الحالي، بشأن الصراع السوري، أكدا فيه أن التسوية السياسية هي المسار الوحيد للصراع القائم، وأكدا أيضاً على احترام عملية جنيف، فضلاً عن مبادئ قرار مجلس الأمن الدولي رقم 2254. ومن ناحية أخرى، وبعد مرور عدة أيام، وجه وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف اتهاماً صريحاً إلى أعضاء الأمم المتحدة، بعدم القيام بما يجب في شأن تسوية الصراع السوري، مضيفاً أنه ينبغي على روسيا، وبمعاونة اللاعبين الإقليميين في إيران وتركيا، منح دفعة جديدة لعملية المصالحة السياسية في سوريا.
وأثار هذا الموقف، بدوره، على الفور تساؤلاً مهماً بين المحللين السياسيين، بشأن مصلحة روسيا في المحافظة على عملية جنيف، إذ رأى بعضهم أن الكرملين يسعى لتقويض أهمية محادثات جنيف ومحاولة استبدال عملية آستانة بها، والتي تهيمن عليها بالأساس القوى الإقليمية التي تعد موالية لموسكو بصورة من الصور. ومع ذلك، وعندما يتعلق الأمر باللاعبين الإقليميين، قد يبدو الموقف الروسي غير متسق: بدلاً من المضي قدماً في محادثات آستانة، قررت موسكو عقد اجتماع الحوار الوطني السوري. وفي الوقت الذي تغازل فيه موسكو الأكراد السوريين، فإنها تعمل في الوقت ذاته على بناء مزيد من التعاون مع تركيا وإيران. وهكذا، التقى الرئيس الروسي، خلال الشهر الحالي، بنظيريه التركي والإيراني مرتين متتاليتين (بما في ذلك اجتماع 22 نوفمبر الحالي). وأخيرا، كانت روسيا تتشاور مع إسرائيل حال العمل على إنشاء مناطق خفض التصعيد في جنوب وغرب سوريا.
ومع ذلك أيضاً، وفي 14 نوفمبر، وصف وزير الخارجية الروسي الوجود العسكري الإيراني في سوريا بـ«المشروع»، وجاءت ردود فعله سلبية حيال البيانات الصادرة عن المسؤولين الأميركيين والمعنية بضمان موسكو لانسحاب القوات الإيرانية من الأراضي السورية، إلى مسافة قريبة من الحدود مع إسرائيل.
وعلى الرغم مما تقدم، وإن وضعنا الأمر في الحسبان، فإن التحركات الدبلوماسية الروسية توحي بمزيد من المنطقية والمساومة عن الخطوات المتخذة من بعض القوى الغربية. أولاً وقبل كل شيء، أن روسيا تتفهم أهمية اللحظة الراهنة في الصراع السوري، وأن المرحلة العسكرية النشطة لذلك الصراع قد قاربت على الانقضاء. فلقد لحقت الهزيمة الفادحة بتنظيم داعش الإرهابي (إلا أن ذلك لا يعني نهاية التنظيم بالكامل) ولقد حان الوقت للبدء في بناء سوريا الجديدة على أنقاض الدولة القديمة الممزقة. ويدرك الكرملين أنه إن رغب في المحافظة على الوجود الروسي في سوريا لما بعد الصراع، فلا بد من أن يتصدر قيادة هذه العملية.
ومع ذلك، من غير المنتظر أن تلعب محادثات جنيف دور نقطة البداية الجيدة في العملية السياسية الجديدة، فهناك كثير من القوى الضالعة فيها بغية التوصل إلى توافق فوري حيال كافة القضايا ذات الصلة. وبدلاً من ذلك، يمكن لعملية جنيف أن تلعب دور المرحلة الأخيرة من العملية السياسية، والمعنية بصياغة واعتماد الدستور الجديد وتشكيل وجه الحكومة السورية الجديدة.
قبل مناقشة القضايا ذات الاهتمام العالمي، لا بد من مواصلة تنفيذ وقف إطلاق النار على المستوى الإقليمي في البلاد، والعمل على بناء الحكومة المحلية، والعودة إلى الحياة الطبيعية التي يمكن للأطراف المتناحرة التعايش في ظلها بعضهم مع بعض. ولا يمكن تحقيق ذلك إلا من خلال سلسلة من المفاوضات بين مختلف القوى الفاعلة على الأرض. وهذا بدوره يزيد من أهمية محادثات آستانة. من أجل ذلك، تولي موسكو في الوقت الراهن مزيداً من تركيز جهودها الدبلوماسية للعمل مع البلدان التي تملك الكلمة في الواقع السوري.
وهكذا أكدت القيادة الروسية دعم تشكيل جماعة معارضة وموحدة لتمثيل القوى المناهضة لرئيس النظام بشار الأسد في اجتماع جنيف المنتظر. وفي الأثناء ذاتها، كثف الكرملين من المشاورات مع طهران وأنقرة، بغية مناقشة الموقف بشأن عفرين وإدلب، ومستقبل مناطق خفض التصعيد هناك. كما تولي موسكو اهتماماً منفصلاً إزاء تهدئة المخاوف الإيرانية والتركية، بشأن ولاء موسكو لالتزامات الشركاء، على سبيل المثال اجتماع الرئيس الروسي بنظيره الأميركي، والاجتماعات المتكررة بين المسؤولين الروس والإسرائيليين، فضلاً عن الصمت الروسي بشأن الاستفتاء على استقلال إقليم كردستان العراق، وهي القضايا التي أثارت قدراً من المخاوف لدى طهران بأن روسيا تسعى للتخلي عن إيران في الواقع السوري.
وكان هذا هو السبب وراء بيان وزير الخارجية الروسي لمحاولة طمأنة طهران. كما أن روسيا قد علقت مؤقتاً التحضيرات لانعقاد مؤتمر الحوار الوطني السوري، الذي كان محاولة من جانبها لزيادة زخم المعارضة شبه الرسمية، وضم الجانب الكردي إلى مائدة الحوار، وبالتالي، تعزيز مواقف جماعات المعارضة الموالية لموسكو في محادثات جنيف. أيضاً، عمدت موسكو إلى تأجيل مؤتمر الحوار الوطني السوري، في محاولة منها لتهدئة المخاوف التركية بشأن مشاركة الأحزاب الكردية فيه، باعتبارها قوى مستقلة.
أما بالنسبة للغرب، فلا يثير الجانب الأوروبي أو الأميركي جُل اهتمام موسكو في المرحلة الراهنة. فإما أنهما لا يبديان كثيراً من الاهتمام اللازم بمزيد من الانخراط في الشؤون السورية، أو لا يملكون كثيراً من النفوذ والتأثير على الواقع السوري. وخلال اجتماع الرئيس بوتين بالرئيس ترمب في فيتنام، حصلت موسكو على أقصى ما تحتاجه من واشنطن، إذ حصلت على ضمانات بأن تعترف الولايات المتحدة ببشار الأسد، والتزامها بمبادئ وحدة وسلامة الأراضي السورية، واحترامها لمبادئ خفض التصعيد، ودعمها لعملية جنيف.
وفي المقابل، اتسق الموقف الروسي مع نظيره الأميركي الذي يضع مكافحة الإرهاب على رأس أولوياته القصوى، إذ أكدت روسيا في البيان المشترك على اهتمامها بقتال «داعش»، جنباً إلى جنب مع الولايات المتحدة وحتى الانتصار النهائي. ومع ذلك، حتى هذا البيان المشترك كان يصب في صالح الكرملين. بعد سقوط معاقل «داعش» الرئيسية في سوريا، قد ينشأ التشكيك في مشروعية الوجود العسكري الروسي في البلاد.
ومن الناحية الرسمية، جاءت القوات الروسية إلى سوريا لمكافحة الإرهاب وقتال الإرهابيين، أما الآن، فإن التنظيم الإرهابي الرئيسي (وإن لم يكن الوحيد) قد نالته الهزيمة العسكرية الفادحة. وأشار الإعلان الأميركي الروسي المشترك، ضمنياً، بشأن ضرورة مواصلة الحرب ضد الإرهابيين، إلى أن الحرب ضد الإرهاب في سوريا لم تنته بعد، وهذا بدوره «يشرعن» لمزيد من وجود القوات الروسية في البلاد.
وإجمالا للقول، إن لم تشهد المقاربات الأميركية حيال الصراع السوري أي تغيرات، فقد ترغب موسكو في التحادث مع الجانب الأميركي بشأن المستقبل السوري لما بعد القضايا محل النقاش في فيتنام، عندما يتعلق الأمر، بصورته المباشرة، بالتحضيرات الفنية للاجتماع المقبل في جنيف.
يكفي أن يفتح وزراء الخارجية العرب خريطة العالم الذي ينتمون إليه ليتأكدوا أن اجتماعهم الطارئ في القاهرة أمس، كان مبرراً وضرورياً. فالحديث عن «التدخلات الإيرانية» ليس تهمة عابرة تفتقر إلى الأدلة. والإصرار على مناقشتها لا يدخل أبداً في باب التحرش أو التصعيد. إنه محاولة لبلورة إرادة عربية موحدة حيال التعامل مع واقع يومي ضاغط يعيشه العرب في مجموعة دول وخرائط. ولا يقتصر الأمر على الدول التي تتحرك الميليشيات المدعومة إيرانياً على أراضيها، ذلك أن مفاعيل مسلسل التدخلات تمس موازين القوى على امتداد المنطقة.
اللافت في هذه التدخلات هو أن طهران لا تحاول أن تنفيها. الصاروخ الذي استهدف الرياض يحمل توقيعاً صريحاً، ولا يحمل الحوثيون فيه غير صفة المنصة التي استخدمت في إطلاقه. وصور الجنرال قاسم سليماني يتحرك وسط المسلحين وبين دول الهلال لا تترك مجالاً للشك. وحديث جنرالات «الحرس الثوري» عن السيطرة على أربع عواصم عربية ليس مجرد هفوات أو مبالغات. وكلام الرئيس حسن روحاني نفسه عن المعبر الإيراني الإلزامي على مستوى المنطقة يستكمل الصورة.
«التدخلات الإيرانية» ليست حدثاً جديداً. سياسة «تصدير الثورة» هي بالدرجة الأولى إشهار لحق التدخل في شؤون الدول الأخرى. جديد التدخلات هو اتساع حجمها وتزايد خطورتها وعلانيتها، وما تحاول إحداثه من تغييرات عميقة في المسارح التي تستهدفها. تغييرات سياسية. وانقلابات في موازين القوى بين المكونات. وتغييرات ديموغرافية لضمان تكريس الملامح الجديدة.
«التدخلات الإيرانية» ليست جديدة. لكنها اتخذت بعد الدور الإيراني الصريح في اليمن منحى أكثر خطورة. الجديد في المقابل هو شعور الدول المستهدفة بأنها لم تعد قادرة على إرجاء تسمية الأشياء بأسمائها وتحويل هذه التدخلات بنداً ثابتاً في اللقاءات العربية والمحادثات مع القوى الدولية. الجديد أيضاً هو وجود إدارة أميركية لا تنام على حرير الاتفاق النووي الذي كان إنجازه هاجساً لازم باراك أوباما. فالإدارة الحالية أدرجت بند «التدخلات الإيرانية» في صلب علاقتها مع المنطقة ودولها وأزماتها.
وجديد «التدخلات الإيرانية» هو أن طهران لم تتعامل مع الاتفاق النووي كفرصة للعودة إلى احترام القوانين والمواثيق الدولية. يمكن القول إن ما حصل هو العكس تماماً. فبعد توقيع الاتفاق رفعت طهران وتيرة تدخلاتها في المنطقة وكأنها اعتبرت الاتفاق فرصة لا بدّ من اغتنامها وتوظيفها في خدمة مشروع «الانقلاب الكبير». وهكذا بدا المشهد غير مسبوق. إسقاط لحصانة الخرائط. وانتهاك للقوانين الدولية. وتحويل ميليشيات حليفة إلى جيوش صغيرة جوّالة تسقط أنظمة، وتمنع إسقاط أخرى بغض النظر عن مشاعر أهل تلك الخرائط المخترقة أو معظمهم. وزاد الأمر خطورة تشكيل ميليشيات صاروخية تستكمل الانتهاكات التي تمارسها الميليشيات باندفاعاتها البرية.
وجديد «التدخلات الإيرانية» هو أن مناقشتها جاءت بعد انحسار خطر تنظيم داعش الإرهابي. فقد أعاد انحسار هذا الخطر تسليط الضوء على حقيقة مفادها أن زعزعة الاستقرار لم تبدأ مع إطلالة «داعش» ولن تنتهي بانحسارها. وثمة من يعتقد أن سياسة زعزعة الاستقرار الإيرانية ذات العمق المذهبي كانت السبب في تصدع الوحدة الوطنية في أكثر من قطر عربي وأن «داعش» أطل من خلال هذه التصدعات.
ولأن المنطقة هي أيضاً منطقة ثروات وممرات حيوية للاقتصاد العالمي، تصاعد القلق الدولي من البصمات الإيرانية على الصواريخ والميليشيات معاً. فعشية اجتماع القاهرة تحادث دونالد ترمب وإيمانويل ماكرون حول وضع الشرق الأوسط. وقال البيت الأبيض إن الرئيسين «اتفقا على ضرورة العمل مع الحلفاء لمواجهة أنشطة حزب الله وإيران المزعزعة للاستقرار في المنطقة».
بلغت التدخلات الإيرانية حداً غير مسبوق. هذا الواقع أحرج حتى الدول التي تستعذب الإقامة في المناطق الرمادية، وتفضل علاج الجروح العربية بالعبارات العامة المكررة. صار من الصعب على أي وزير عربي العثور على تبرير للسلوك الإيراني أو على ذرائع لمنحه أسباباً تخفيفية. الصاروخ الإيراني على الرياض ومضمون استقالة رئيس الوزراء اللبناني سعد الحريري قدما أدلة جديدة لمن لا يزال يبحث عن أدلة.
يفسر تصاعد التدخلات اللهجة التي استخدمها الأمين العام للجامعة العربية أحمد أبو الغيط في افتتاح الاجتماع. ويفسر أيضاً اللهجة الحازمة التي استخدمها وزير الخارجية السعودي عادل الجبير. لقد اتُهمت إيران في الاجتماع بانتهاج سياسات طائفية وتأسيس ميليشيات تابعة لها على الأرض العربية والتدخل في الشؤون الداخلية. وهذه الاتهامات كلها ترشح بند التدخلات لانتزاع الموقع الأول في جدول أعمال اللقاءات الإقليمية والدولية. ولا مبالغة في القول إن الموقف من هذه التدخلات سيكون عاملاً مؤثراً في العلاقات العربية - العربية وكذلك في العلاقات العربية - الدولية.
ثلاثة أطراف يجب أن تتوقف عند نتائج الاجتماع الطارئ لوزراء الخارجية العرب. الأول هو إيران التي أدان المجتمعون سلوكها. والسؤال هو هل تريد أن تتعايش مع جيرانها العرب في الإقليم أم أنها تصر على محاولة إخضاعهم؟ إذا تمسكت بالخيار الثاني فهذا يعني أن رياح المواجهة ستشتد، وأن إيران ستواجه حالة من العزلة. الطرف الثاني هو «حزب الله» الذي يتحتم عليه أن يتبصر فيما طرأ على صورته لدى معظم العرب. لم تعد لهذه الصورة علاقة بالمقاومة ضد إسرائيل، بل صار ينظر إليه باعتباره منظمة إرهابية انطلاقاً من دوره في الانقلاب الإيراني. الطرف الثالث الرئيس ميشال عون الذي سيكون الخاسر الأكبر من استقالة سعد الحريري. لا معنى لوجود عون في قصر الرئاسة، وهو قائد سابق للجيش، إن لم يوظف موقعه ورصيده في الدفاع عن الحد الضروري من فكرة الدولة ومقومات وجودها والدفاع عن مصالح اللبنانيين.
ما لم تتخذ إيران قراراً سريعاً بوقف هجومها الشامل في الإقليم، فإن بند «التدخلات الإيرانية» سيكون عنوان المواجهة المقبلة وعنوان الاصطفافات. وسيكون البند نفسه عنوان التحرك في اتجاه مجلس الأمن، وسيترك بصماته على أوضاع الساحات المشتعلة وتلك المرشحة للاشتعال.
هل المشكلة مع إيران محصورة بالسعودية؟ ربما يبدو السؤال غريباً للبعض. غير أن واقع الحال الذي نراه في أغلب الإعلام العربي يوحي بذلك.
الأغرب أنه لا يوجد غزو إيراني مباشر وظاهر للسعودية. أصلا هذه مغامرة انتحارية. لكن الموجود هو غزو لليمن والعراق وسوريا. وشبه احتلال وحكم وصاية على لبنان، من خلال الوكيل المحلي حزب الله.
ما يوجد في السعودية هو نشاط إيراني تخريبي على شكل خلايا إرهابية في القطيف والأحساء شرق البلاد. ودعم خبيث تحت الأرض لشبكات «القاعدة»، تلاميذ أسامة بن لادن والظواهري. وما خبر إقامة أبناء أسامة وبناته في كنف الحرس الثوري بإيران عنا ببعيد. على سبيل المثال العابر فقط.
من حذر من الهلال الشيعي قبل عدة سنوات هو ملك الأردن عبد الله الثاني. ومن غضب من مشاريع التشييع على النهج الخميني في داخل البلاد، هي دول مثل الجزائر وتونس والمغرب والسودان والسنغال. ومن قطع العلاقات قبل الجميع مع النظام الخميني هي دولة مصر. و البلاد التي تم فيها تفجير موكب رأس الدولة، وخطف طائرات الناقل الوطني هي الكويت.
لم يحصل للسعودية شيء من هذا من طرف الجمهورية الخمينية. نعم حصل لها من بركات الخمينية جرائم أخرى. حتى قبل الحرب الحوثية باليمن. مثل جريمة الحرس الثوري بحج 1987. وتفجيرات المنطقة الشرقية من الثمانينات إلى تفجير أبراج الخبر 1996. وأشياء أخرى من هذا القبيل.
القصد من هذا السرد هو تسجيل الاستغراب والاندهاش من هذا التبلد، الذي تراه السعودية من كثرة عربية إعلامية متكاثرة - واستثني هنا وسائل الإعلام الإماراتية والبحرينية انسجاماً مع مواقف الدولتين - عن حصر المشكلة العربية مع إيران بالسعودية ما عدا. ندع العبقري اللبناني جبران باسيل جانباً وهو يخبرنا عن «أنو شو خص لبنان بمشكلة السعودية مع إيران»، لأن كلام العبقري جبران يدخل ضمن مضحكات المتنبي المبكيات!
نتحدث عن البقية. فخطر المشروع الخميني لن يوفر أحداً اليوم أو غداً. إنه مشروع انقلابي مستمر بلا توقف ضد الكل. وما جرى في أفريقيا السوداء خير دليل على هذا الشره الخميني المعولم.
بكلمة... هذه ليست معركة السعودية وحدها يا سادة. بل معركة كل العرب والمسلمين. بل أقول الإنسانية جمعاء ضد نظام خرافي استباحي. صانع للفتن. ومن لم يخض المعركة اليوم بشروطه سيؤكل على مائدة اللئام.
إذن فالبيان الوزاري العربي الأخير حول أن الوقت حان لتخليص المنطقة من الخطر الإيراني. يجب أن يتجاوز سقف الكلام لميدان العمل.