يمكن ألا يعلم البعض سبب تهنئة قائد فيلق القدس اللواء قاسم سليماني لمرشد الثورة الإيرانية آية الله علي خامنئي بـ"تحرير" مدينة البوكمال السورية، بالتزامن مع زيارة الرئيس بشار الأسد لسوتشي ولقائه الرئيس الروسي فلادمير بوتين.
استثمار حان حصاده
وقد يسأل البعض: لماذا قام الأسد بإرسال رسالة يبارك فيها الانتصارات الذي حققها جيش النظام السوري وحلفاؤه في حلب وجبهات أخرى منذ بضعة أشهر؟ ويجب على من يريد أن يحصل على جواب لمثل هذا السؤال أن يرجع إلى بداية اندلاع الأزمة السورية. ففي حينها كان الشارع السياسي الإيراني منقسما على اتجاهين:
الاتجاه الأول كان يرفض تدخل إيران في هذه الأزمة السورية، على أساس أنها فخ يُراد به جرّ رِجل إيران وحزب الله إلى حرب استنزاف، وبعد إضعافهم فإن الأميركان والإسرائيليين سينقضون على إيران وحزب الله، وعليه فيجب على إيران محاولة إيجاد صيغة لحل الأزمة بشكل سياسي، والحفاظ على قواتها العسكرية للدفاع عن بلادها.
وبالفعل إذا ما تابعنا مجريات الأحداث في سوريا فإننا نرى أن الخارجية الإيرانية اتخذت هذا الاتجاه، وبدأت محاولات للدخول في وساطات ومفاوضات مع المعارضة، والضغط على الحكومة السورية لإعطاء تنازلات كي يتم حل الخلافات عبر المفاوضات.
أما الاتجاه الثاني فكان يطالب بدخول إيران في المعركة بكل ثقلها، على أساس أن سقوط سوريا من شأنه كسر ارتباط إيران بحزب الله في لبنان مما سيفتح المجال أمام الهجوم على إيران. وفي حين كان الاتجاه الأول يحاول فض الأزمة بشكل سياسي؛ فإن الاتجاه الثاني كان عمليا قد دخل المعركة لمساندة جيش النظام سوري بشكل غير رسمي.
واحتاج الإيرانيون حوالي عام كي يقرروا الدخول في المعركة، وكان قرار مرشد الثورة حاسما بين الاتجاهين في البلاد؛ حيث قرر أن إيران يجب أن تدخل بكل ثقلها في المعركة دعما للأسد، وبالفعل فإن كل السياسة الإيرانية تمحورت -منذ ذلك الوقت- حول حفظ نظامه من الانهيار.
وبعد حوالي أربع سنوات من الحرب في سوريا؛ كانت دمشق على حافة السقوط ومعظم الأراضي السورية تحت سلطة المعارضة، وعزا الجميع في إيران السببَ إلى أن المعارضة تمتلك أسلحة نوعية وعددا هائلا من المقاتلين، في حين أن جيش النظام وحلفاءه يفتقرون إلى هذا العدد والعتاد النوعي.
وعليه فقد قام المرشد بأخذ قرار جديد يقضي بإرسال اللواء قاسم سليماني إلى روسيا وإقناع روسيا بدخول معركة سوريا، وبالفعل استطاعت إيران إقناع الروس بدخول المستنقع السوري بعد أن كانوا مترددين في ذلك، وقاموا بتأمين العتاد والغطاء الجوي الذي يحتاجه جيش النظام وحلفاؤه، بينما قامت إيران بتوفير وتدريب المقاتلين النوعيين، فجلبتهم من أفغانستان وباكستان وإيران والعراق ولبنان إضافة إلى السوريين.
وقد أدى هذا التحالف إلى تغيير وضعية جبهات القتال، بحيث أصبح جيش النظام يستطيع اليوم أن يتباهى بأنه يسيطر على نحو 90% من المناطق الآهلة بالسكان في سوريا. وهكذا؛ فإن إصرار قاسم سليماني على أن يكون حاضرا في البوكمال ليقوم بـ"تهنئة" المرشد من داخلها؛ كان لتأكيد أن قرارات المرشد بشأن سوريا وتضحيات إيران وحلفائها على الأرض، كانت هي السبب في إنقاذ الأسد ونظامه.
حتمية الحل السياسي
ورغم أن جيش النظام يتباهى الآن بالسيطرة على معظم الأراضي السورية؛ فإن المعركة في سوريا لن تنتهي دون الوصول إلى صيغة حل سياسي للحرب مع المعارضة.
إن استمرار المفاوضات والحل السياسي على أساس مرجعية مؤتمر جنيف لن يؤمن أهداف إيران وروسيا بإبقاء بشار الأسد في السلطة، لأن أحد قرارات هذا المؤتمر قضى بتنحي بشار الأسد عن السلطة بالتزامن مع بدء الفترة الانتقالية للسلطة، وعليه فيجب العمل على إيجاد صيغة جديدة للحل السياسي في سوريا.
وفي حين كان الإيرانيون مصرّين على فرض الأمر الواقع على الأرض عسكريا، والاستمرار في مفاوضات أستانا لفرض صيغة حل سياسي؛ رأى الرئيس الروسي بوتين أنه آن الآوان لإيجاد صيغة جديدة للمفاوضات عبر مؤتمر وطني سوري شامل يُعقد في مدينة سوتشي، يخرج عنه قرار جديد للمرحلة المقبلة يغطي على قرار مؤتمر جنيف 1 ويكون أساسا جديدا للحوار بين السوريين.
وفي حين يرى الإيرانيون أنهم هم الذين أدّوْا الدور الأصلي على الأرض؛ فإن الروس يقولون إنه لولا دورهم العسكري والسياسي لما كانت هذه الإنجازات ممكنة، ولكي يُرضي الإيرانيين طرح الرئيس الروسي مشروعا لقمة سوتشي يتطابق مع المشروع الإيراني السابق الذي كان يتشكل من أربعة بنود، وهي:
1- وقف إطلاق النار في جميع الجبهات وبدء عودة المهجرين.
2- البدء في مفاوضات سورية/سورية لتشكيل حكومة ائتلافية.
3- يتسلم جيش النظام كل الأراضي السورية ويتم البدء في إعادة إعمار سوريا.
4- بعد انتهاء فترة رئاسة الأسد تقوم الحكومة الائتلافية بإجراء انتخابات تحت إشراف دولي، يحق فيها للجميع -بمن فيهم الأسد- الترشح للانتخابات، وكل من يتم انتخابه يتسلم زمام الأمور في البلاد.
وعمليا؛ فإن الهدف من المؤتمر العام للمصالحة السورية الشاملة في سوتشي هو الخروج بصيغة جديدة لهذه البنود الأربعة بشكل آخر، حيث يعتبر الروس أن الظروف الحالية مواتية لفرض هذه الصيغة.
ومما شجع موسكو وطهران على ذلك؛ أن الأتراك -الذين يُعتبرون الجار الأكبر الداعم للمعارضة السورية- الآن في حالة استياء من سياسات الولايات المتحدة، وهناك انشقاق في الجبهة المقابلة للمعارضة السورية بسبب الأزمة الخليجية الراهنة، التي أدت إلى دعم تركيا وإيران لموقف قطر.
وقد تولى الرئيس الروسي مهمة إقناع الرئيس التركي رجب طيب أردوغان بأن يضغط على المعارضة السورية المدعومة من تركيا لدخول هذا المؤتمر، في مقابل تلبية قسم من مطالب تركيا والمعارضة رغم أن الأتراك ما زالوا مصّرين على رفض حضور الأكراد في هذا المؤتمر. كما استطاع بوتين إقناع أردوغان بالتخلي عن مطالبة أنقرة باستقالة الأسد، مقابل ضمان دور فاعل لها في المرحلة المقبلة بسوريا.
وطبعا لولا أن تركيا مرتابة من سياسات واشنطن الجديدة في المنطقة وتسليحها الأكراد، بعد أن تأكد لأردوغان أن أميركا والسعودية والإمارات وإسرائيل كانوا داعمين للانقلاب العسكري ضده، ولولا الخلافات الخليجية التي بدأت بضوء أخضر أميركي، حسب تغريدات ترامب؛ لما كان سهلا إقناع أردوغان بتغيير موقفه بشأن سوريا.
فرض مرجعية سوتشي
ورغم أن الأسد يدعم بالطبع الموقف الرامي إلى فرض الأمر الواقع على الأرض، وإجبار المعارضة على القبول بشروط "المنتصر"؛ فقد استطاع بوتين بدعوته الأسد إلى سوتشي إقناعه بأن عملية الحل السلمي لا يمكن أن تتم دون تقديم تنازلات، وأن الحل العسكري مكلف وصعب جدا، ولا يمكن أن تكون نتيجته دائمة أو حسب المرجو.
وعليه؛ فيجب أن يقبل بما سيتم تقريره في قمة سوتشي الثلاثية، وإذا كانت لديه ملاحظات فإن بوتين سيطرحها لأنه يجب ألا تفوت الفرصة السانحة في هذه اللحظة التي تتخبط فيها الولايات المتحدة في مشاريعها تجاه سوريا.
وفي النهاية؛ يمكن القول إن إيران وروسيا وتركيا تسعيان إلى إيجاد صيغة جديدة للحل السياسي في سوريا، في ظل غياب أي مشروع للحل السياسي من قبل الطرف المقابل ومشروعهم يتمحور على:
"رغم أن الأسد يدعم بالطبع الموقف الرامي إلى فرض الأمر الواقع على الأرض، وإجبار المعارضة على القبول بشروط "المنتصر"؛ فقد استطاع بوتين بدعوته الأسد إلى سوتشي إقناعه بأن عملية الحل السلمي لا يمكن أن تتم دون تقديم تنازلات، وأن الحل العسكري مكلف وصعب جدا، ولا يمكن أن تكون نتيجته دائمة أو حسب المرجو. وعليه؛ فيجب أن يقبل بما سيتم تقريره في قمة سوتشي الثلاثية"
1- توسيع مناطق وقف الأعمال العدائية كي تشمل كل الأراضي السورية.
2- إجراء مفاوضات شاملة بين الحكومة السورية والمعارضة والمجموعات التي لا تُعتبر "إرهابية"، ويمكن أن يتم تغيير بعض بنود الدستور السوري لتأمين متطلبات المرحلة المقبلة في سوريا.
3- بدء عودة المهجرين وإعادة إعمار سوريا.
4- تشكيل حكومة ائتلافية جديدة تضم وزراء من المعارضة، ويقوم الأسد بتفويض بعض صلاحياته التنفيذية إلى الحكومة الجديدة.
5- يتم إصدار عفو شامل من قبل الأسد، ويقوم جيش النظام -تحت إشراف الحكومة الجديدة- بالانتشار في كل الأراضي السورية، وتنضوي جميع المجموعات المسلحة المعارضة تحت إمرة هذا الجيش أو يتم حلها.
6- تقوم الحكومة الجديدة بالتحضير لإجراء انتخابات جديدة في سوريا بعد انتهاء دورة رئاسة الأسد الفعلية، ويحق للجميع أن يترشحوا فيها بمن فيهم الأسد نفسه، وتكون هذه الانتخابات تحت إشراف دولي (ليست منفذة من قبل الأمم المتحدة).
7- يتسلم الرئيس المنتخَب الحكم في سوريا.
وحسب مشروع إيران وروسيا وتركيا؛ فإنه يمكن إضافة أو حذف أو تغيير بعض هذه البنود، وفق ما يُتفق عليه في مؤتمر سوتشي السوري، على أن تقوم البلدان الثلاثة بضمان تنفيذ الاتفاق. وأي مجموعة لا تشارك في هذا المشروع ستواجه إمكانية الضرب عسكريا من قِبل جيش النظام بدعم من الدول الثلاث.
وطبقا لمشروع خطة البلدان الثلاثة؛ فإن مؤتمر سوتشي سيُصبح هو محور المباحثات في مؤتمر جنيف بدل القرارات السابقة لمؤتمر جنيف، وخاصة تلك التي تقضي برحيل الأسد وإيجاد حكومة انتقالية، لأنهما نقتطان ترفضهما موسكو وطهران، وأي مشروع آخر يتم طرحه لحل الأزمة السورية يتم رفضه. وفي النهاية؛ يمكن القول إن مستقبل سوريا بات مرهوناً اليوم بشد الحبل بين سوتشي وجنيف.
تمخضت النداءات التي أطلقتها عدة جهات ذات طابع "جهادي"، إطلاق سراح عدد من المعتقلين من قيادات تنظيم القاعدة من بينهم "أبو جليبيب الأردني"، بعد أيام قليلة على اعتقالهم، في خطوة تشي إلى أن ما حدث داخل البيت الجهادي يمكن حله بأبخس الأثمان وبعض البيانات.
لا يمكن وسم تصرف هيئة تحرير الشام بأنه إيجابي، كما لا يجوز حقاً اعتبار الهيئة شيء منفصل أو مغاير لجبهة النصرة، بل هي امتداد لذات الفكر القاتل لكل مخالف، والرحب والواسع والممتص لكل موالي لهذا الفكر ولو شذ قليلاً لكنها يبقى ابن العائلة الذي يمكن تقويمه.
أبو عبد الله الخولي القيادي في حركة حزم التي أنهتها جبهة النصرة، لاحقته عشرات البيانات و المطالبات، التي كان مصيرها الإهمال و الاندثار، الضابط المنشق أسامة الخضر الذي أعدمته هيئة تحرير الشام بتهمة التخابر مع الأعداء، عشرات الأمثلة التي تضج بها الذاكرة ولا مكان لسردها تجعل النظرة لما يحدث في أكبر المساحات المحررة في سوريا، عبارة عن مرتع لقلة تمارس النظام والقتل والتغيب، بشكل مريب، يقابلها اللين و"الصلح أحسن" مع المعاندات الداخلية فيما بينها.
ليت لمعتقلي سجن العقاب وغيره من سجون هيئة تحرير الشام، يد في الدعوة القاعدية أو يملكون تاريخاً غامضاً كقيادات القاعدة أو منظري الفكر السلفي، لكان مكانهم الآن في بيوتهم معززين مكرمين، مصاني الكرامة محفوظي الشأن، ويراقبهم الجميع منعاً لأي اعتداء عليهم.
التاريخ الذي ينسج الآن بشكل لا يمكن إخراجه عن دائرة "القذارة"، يفتح آلاف التساؤلات عن الشخوص لتي تتحكم في المشهد في المناطق المحررة، تقتل وتبطش وتعتقل وتغيب في سجون غائبة عن الخريطة، وتمارس الود والنصح والمحاباة مع آخرين لا ميزة لهم إلا صلة قربى مع قيادات قاعدية، إن كان لهم مد فيما فعلته القاعدة منذ نشأتها وحتى وردوها لسوريا.
كان وقع الصدمة على السوريين كبيراً عندما طلب منهم الحضور إلى مؤتمر الرياض 2 بوصفهم "منصاتٍ"، تتبع دولا إقليمية أو صديقة، فالهدف من المؤتمر توحيد المعارضة السورية، بهدف ضمان توحيد قوى الثورة السورية لتحقيق الانتقال السياسي، من نظام دكتاتوري عائلي أمعن في القتل إلى نظامٍ يعبر عن السوريين ويستحقهم، يؤمن بقوتهم وقدرتهم على تحقيق الاستقرار السياسي وبناء النظام الديمقراطي وتحقيق النمو الاقتصادي، لكن ما جرى هو العكس. خضع الذين قبلوا المشاركة في المؤتمر إلى مبدأ محاصصة "المنصّات"، بما تحمله من إهانة لوطنيتهم وقواهم وقدراتهم العقلية في إدارة الانتقال السياسي من دون وصي أو وكيل. وقد طوى المؤتمر صفحة مؤلمة في تاريخ المعارضة السورية، بنسبتها إلى منصّاتٍ، وليس إلى السوريين، بوصفهم رجالاً ونساء يؤمنون بالتغيير، ويسعون إلى خروج سورية من محنتها العظيمة اليوم، وبدل أن تكون الأولوية لمشاركة السوريين في الداخل، ممثلين عن المجالس المحلية، أو في الخارج ممثلين عن اللاجئين المنتشرين في العالم، مثّلت السوريين "منصاتٌ" تتبع لدول لم تكن يوماً داعمة للثورة السورية أو الانتقال السياسي، فما المعنى إذا من إدخالهم إلى صفوف الثورة وقواها.
عبّر مؤتمر الرياض عن أزمة عميقة في المعارضة السورية التي استمرأت تقديم التنازلات،
بغرض تحقيق محاصصةٍ أبعد ما تكون عن تحقيق أهداف الثورة وتطلعاتها. وأدخلت منصات لم تحمل يوماً روح الثورة أو حلمها، بل كانت دوماً تحتفظ بعدائها للثورة وحلمها في بناء سورية ديمقراطية لكل السوريين، فلم يكن هناك أي مبرّر أو معنى لإدخال هذه الشخصيات إلى وفد يدّعي أنه يمثل الثورة، وجد السوريون في ذلك إمعاناً في إذلالهم، ومنعم من الحق في إدارة شؤونهم. ولذلك تبدو اليوم الحاجة ملحةً لتوحيد قوى الثورة السورية على أسس وطنية وديمقراطية جديدة تمنع الانتهازيين والوصوليين من الحديث باسم الثورة التي لم يؤمنوا يوماً بها أو سعوا إلى تحقيق أهدافها.
وعلى ذلك، سنقوم بالإعداد لمؤتمر وطني جامع، يهدف إلى توحيد قوى الثورة السورية مجتمعةً، لأن هذا العمل مستمر ودائم، تحتاجه سورية اليوم، وسوف تحتاجه أكثر وأكثر في المستقبل، لضمان الأجندة الوطنية، ولضمان تحقيق الانتقال السياسي لنظام ديمقراطي حقيقي، يعبر عن كل السوريين. وهنا أربع نقاط رئيسية تعد بمثابة الأجندة للمؤتمر المقبل:
أولا، الحديث عن الواقعية السياسية لا يعني بأي حال القبول ببشار الأسد، فالثورة السورية انطلقت على الرغم من إدراكها تاريخ النظام السوري الطويل في القتل والتهجير. ولذلك، يجب ألا يتم التنازل أبداً عن ضمان تحقيق الانتقال السياسي الكامل، والذي يجب أن يبدأ بحق السوريين في اختيار نظامهم السياسي الجديد، عبر الانتخابات الحرة والنزيهة، يشارك فيها كل اللاجئين السوريين أينما كانوا، وضمان دستور ديمقراطي. وكل السوريين مدركون أن العقبة الرئيسية أمام تحقيق ذلك وجود دكتاتور مريض، يضحّي بكل السوريين من أجل شخصه ورغباته، مهما كانت تكلفة ذلك على سورية وطنا، وعلى السوريين شعبا.
ثانيا، حتى لو افترضنا أن نظام الأسد ينتصر على الأرض عسكرياً، فالحاجة إلى قوة سياسية موحدة من المعارضة تبقى أولوية لمحاصرته دوليا بكل الوسائل، والعمل بكل الطرق القانونية والسياسية الدولية من أجل جلبه للعدالة الدولية، ومحاسبته على الجرائم التي ارتكبها بحق الشعب السوري. وبالتالي، فالعمل على توحيد جهود المعارضة عمل نبيل ودائم، لأنه الطريق الوحيد لضمان تحقيق الثورة السورية أهدافها.
ثالثاً، بعد سبع سنوات من الثورة، تشكلت عدة مؤسسات للمعارضة السورية من المجلس الوطني و"الائتلاف" وحتى الهيئة العليا للمفاوضات، ويعود جزء كبير من عدم قدرتها على التأثير والتمثيل إلى سياسة القتل الجماعي المستمر التي قتلت أكثر من نصف مليون سوري، وشرّدت أكثر من تسعة ملايين آخرين، ما يجعل مسألة إدارة الأزمة الإنسانية فوق قدرات أية مؤسسة، دولية كانت أم وطنية. ولكن، في الوقت نفسه، تتحمل المعارضة السورية خطأ إغلاقها التمثيل الدينامي للسوريين، ما أبعد الوطنيين شيئاً فشيئاً، وفتح الباب للوصوليين أكثر فأكثر لادّعاء تمثيل المعارضة والحديث باسمها. ولذلك تبدو اليوم الحاجة ملحةً لإعادة كل الأصوات التي آمنت يوماً بالثورة، وبحلمها في بناء نظام جديد للانخراط في جهد توحيد قوى الثورة على أسس جديدة ومختلفة، وبدون إملاءات إقليمية أو دولية، لكي تبقى صوتا للثورة.
أخيراً، ندرك تعددية الأصوات داخل قوى الثورة، وهو من مصادر قوتها، فقد كانت حرية التعبير دوما أحد أهداف الثورة. وبالتالي، يجب أن تفسح المبادرة الجديدة الرأي للتعددية. لكن مع الإيمان أن هناك حداً أدنى من المبادئ التي لا يمكن للثورة ولقواها التنازل عنها، وهو ما من شأنه أن ينعكس في طريقة تنظيم المؤتمر المقبل. وفي الوقت نفسه، تدرك قوى الثورة أن هناك قوى إقليمية ودولية كثيرة ساعدت الثورة وناصرتها في مرحلة من المراحل، لكن هذا لا يبرّر لقوى الثورة أن تخضع لأجندتها، أو سياستها، فالتحولات الإقليمية والدولية تتغير باستمرار. ولذلك، من مصلحة قوى الثورة أن تحافظ على استقلالها وسيادتها، نابعة من إيمانها بأهداف الثورة وبوصلتها.
وصل الوفد "التفاوضي" لبشار الأسد إلى جنيف متأخرا أكثر من أربع وعشرين ساعة عن الموعد الذي حدّدته الأمم المتحدة لوصوله. واعتبرت هذه الخطوة نجاحا للمساعي الدولية التي أقنعته بالقدوم، على الرغم من أن رئيس الوفد المذكور، بشار الجعفري، رفض طلب المبعوث الأممي، استيفان دي ميستورا، بالانخراط في مفاوضات مباشرة مع وفد المعارضة، ورفض البقاء في جنيف لإعطاء التفاوض مدى زمنيا كافيا، ورفض جدول الأعمال الذي قدّمته الأمم المتحدة، وذاك الذي اقترحته المعارضة. مع ذلك، احتفلت وسائل الإعلام الغربية بما سمته "بدء المفاوضات العملية في جنيف"، ولم تقل، هي أو أي أحد من الرسميين الدوليين، إن الوفد الأسدي عطل المفاوضات قبل قدومه إلى جنيف، وقدم إليها ليستمر في تعطيلها، وإن سلوك نظامه يلغي عمليا القرارات الدولية التي رسمت خريطة طريق واضحة للحل السياسي الدولي، بنصوصٍ لا تحتمل تفسيرات متعدّدة، أو مجافية لمعناها النصي، وللآليات التي تقترحها لبلوغ السلام.
لم يدن أحد إلى اليوم سلوك الأسد الذي يعطل مؤسسات النظام الدولي الشرعية، ويتعامل معها بقدر من الازدراء، يشبه الذي أبدته الهتلرية تجاه "عصبة الأمم"، قبل الحرب العالمية الثانية. وبدل أن يقابل الجعفري والعصابة التي ترافقه بالرفض والاستهجان، نرى دي ميستورا يرسم ابتسامةً سعادةٍ عريضةٍ على وجهه، ويمد يده إلى مسافة عشرة أمتار، ليتشرف بمصافحة الجعفري وعصابته الملطخة أيديها بدماء مئات آلاف السوريين. إذا كان قتلةٌ يُعاملون بهذا الحرص، بربكم لماذا يتنازلون، وينصاعون للقرارات الدولية، ويقلعون عن قتل السوريين، الذين لم يطبق أي قرار من سبعةٍ قيل إنها اتخذت لضمان حقهم في لقمة خبز، ومقعد دراسي، وحبة دواء، وسقف آمن، وحقهم في الحياة الذي يعتبره حتى دستور الولايات المتحدة الأميركية مقدّسا! أعلن الروس أن الاتفاقيات ستعيد، أخيرا، الأمن والسلام ورغيف الخبز والسقف الآمن إلى أهالي الغوطة الشرقية، وأن شرطتهم العسكرية ستضمن أن يوقف النظام قصفها ومهاجمتها، لكن الأسد الذي وقع الاتفاقية بأريحية كان على مذهب آخر، فلم يوقف القصف دقيقة، وبعد أن كان يهاجم الغوطة من محور واحد، بدأ يهاجمها بعد "التهدئة" من ثلاثة محاور، ويستخدم ضدها قنابل يكاد غبار انفجاراتها يصل إلى أنوف شاغلي مبنى الأمم المتحدة في نيويورك.
مع ذلك، لا ترى موسكو ما يجري، ونسيت أنها ضامن خفض التصعيد، ولم تخجل من تقديم اقتراحٍ بعقد هدنةٍ تدوم يومين، ولم يحمرّ وجهها وهي تشطب ضمانتها اتفاقية عقدت بمشاركتها، أعلنت مقدمتها انضواءها في إطار وثيقة جنيف وقرار مجلس الأمن 2118، وأنها بالتالي اتفاقية دولية ترعاها الأمم المتحدة ومجلس أمنها، وتعتبر جزءا من عملية السلام. نسيت موسكو هذا، وها هو الكرملين يبدي امتنانه، لأن وفد النظام وصل إلى جنيف، لكي يعطل التفاوض، والأسد قبل هدنة في منطقة خفض تصعيد وتوتر، كان الرئيس فلاديمير بوتين قد دقّ على صدره، وتعهد أن يمنع القتال فيها. وغدا، ستنتهي الهدنة التي ألغت الاتفاقية، وستقصف الغوطة من جديد وسيقتل أطفالها الذين ارتفعت نسبة المهدّدين بالموت جوعا منهم إلى 12%، بعد أن كانت قرابة 2% قبل التهدئة.
إذا كانت موسكو قد اقترحت الهدنة، وهي تعلم أنها تلغي اتفاقية وقف التصعيد التي كانت عرّابها، لماذا يتقيّد النظام بهما: الهدنة اليوم والاتفاقية أبدا؟ ولماذا يتنازل الأسد عن حقه المضمون، روسيا ودوليا، بمواصلة حربه ضد السوريين، وبإفشال عملية تفاوض دولية من أجل السلام، واتفاقية دولية قالت موسكو إنها لخفض التصعيد، وها هي تقترح إلغاءها؟ وهل تناست أنها اتفاقيه دولية وتخدم السلام؟ ثم، ألا يلاحظ العالم التلازم بين النتائج التي ستترتب على هدنةٍ روسيةٍ تلغي اتفاقية روسية؟ ألا يلاحظ ما تفعله عصابة السياسيين الأسدية التي تعطل التفاوض على حل سياسي استجابة لقرارات دولية، واستقبلت، على الرغم من ذلك، بترحاب أممي، مكافأة لها على قبولها تحمل مشقات السفر بالطائرة إلى جنيف، في الوقت الذي قرّرته، وللفترة الضرورية للتعبير عن تأفّفها من العالم، واحتقارها مؤسساته وقراراته؟
قال بوتين قبل أسبوعين: جميع مستلزمات السلام صارت متوفرة.. والدليل ما يفعله النظام في جنيف والغوطة، بدعم روسي وصمت دولي.
يتفاءل الرؤساء اللبنانيون بالصيغة التي يُنتظر أن ينتهوا إليها الأسبوع المقبل لينأوا بلبنان عن أزمة كبيرة مع المملكة العربية السعودية، إذا أفضت إلى ابتعاد «حزب الله» عن التدخل في الحرب الدائرة في اليمن، فتكون مخرجاً لعودة رئيس الحكومة سعد الحريري عن استقالته.
ومع أن كُثُراً يشكّون في أن ينأى الحزب بنفسه عن تلك الحرب، ويخشون من أن يكون أي إعلان بهذا المعنى شكلياً، ويقتصر على وعد بتحويل الحملات الإعلامية العنيفة للسيد حسن نصرالله إلى «انتقادات»، فإن المتفائلين بتلك الصيغة يستندون إلى جهود دول كبرى في هذا المجال، لا سيما روسيا وفرنسا مع إيران، لإنجاح انكفاء الحزب عن اليمن. لدى المشككين بإمكان ابتعاد الحزب الكثير من الحجج: نصرالله سبق أن افتخر قبل زهاء سنة بأن «أعظم ما قمتُ به» هو هجومه على السعودية في اليمن، وأنه «أعظم من حرب تموز» ضد العدو الإسرائيلي. فطهران أوكلت إلى نصرالله منذ زهاء عقدين من الزمن، بناء الجسم الحوثي على الصعد كافة، العقائدية والدينية والسياسية والتنظيمية والتدريبية والعسكرية... كجسر تدخل في اليمن السعيد. وحين قررت الرياض مواجهة التمدّد الإيراني على حدودها في 26 آذار (مارس) 2015، لم يكن من تفسير لعنف حملة نصرالله غير المسبوقة ضد السعودية عند العارفين، سوى أنه صُدِم بفعل المسّ بـ «طفله» الحوثي. ويتساءل المشككون بإمكان انتزاع تنازل انكفاء الحزب في اليمن، عن مدى واقعية ذلك إذا لم تحصل طهران على الثمن المقابل.
أما المتفائلون بانكفاء الحزب فلا يعيرون أهمية للجهود المحلية، ويراهنون على العواصم الكبرى التي حرّكتها صدمة استقالة الحريري من الرياض، لأن الأخيرة طفح الكيل معها من استخدام طهران التنظيم اللبناني لاستهدافها. لهذه الدول مصالح كبرى مع السعودية، في المدى الإقليمي الأوسع، سواء في المجال النفطي، أو في التعاون معها لإدارة أزمات سورية والعراق وليبيا، وهي مصالح تعلو على مصالحها مع طهران واضطرارها إلى مراعاة سلوكها في لبنان وغيره. وإذا كانت الكلمة السحرية وراء الإخراج الذي أدى إلى عودة الحريري إلى بيروت كي يتريث في تقديم الاستقالة كانت «الحفاظ على الاستقرار في لبنان»، فلأن هذه الدول لا تريد اهتزاز «ستاتيكو» البلد الصغير في وقت تسعى إلى معادلة جديدة في إدارة الأزمة السورية بكل تعقيداتها. خلفيات الاستقالة أكبر من لبنان، ومعالجتها أكبر منه أيضاً، والأرنب الذي سيخرج من قبعة لبنانية دولي الهوية، وتمرير الوقت ربما يسمح بعدم ظهور الفريق المعني خاضعاً للضغوط.
في انتظار معرفة ما إذا كان الأرنب الذي سيظهر الأسبوع المقبل متلائماً مع المطالب العربية من لبنان، والتأكد من أن البلد لن يتعرض لمزيد من الضغوط لأن فريقاً فيه ينفذ أجندة إيرانية ضد دول الخليج والسعودية، يبقى السؤال عما إذا كان النأي بالنفس عن اليمن سيحمي لبنان من تداعيات تدخل الحزب في ساحات أخرى، وتحديداً في سورية. بين المسؤولين اللبنانيين من يأمل بانكفاء الحزب من سورية لأن الحرب على «داعش» شارفت على نهايتها، فيعيد نشر مقاتليه داخلها على الحدود مع لبنان.
إلا أن النأي بالنفس عن بلاد الشام مستحيل وفق قول الرئيس نبيه بري، وحتى المتفائلين يتركون معالجة انخراط الحزب في المحرقة السورية للترتيبات الدولية التي نشهد بعض فصولها في جنيف-8، والمرشحة لأن تفشل لمصلحة دورة جديدة من العنف، كالقصف الإجرامي الذي شهدته الغوطة الشرقية قبل أيام. والوقائع تخالف التمنيات. ومقابل اتهامات موسكو واشنطن بأن تعاونها معها غير بنّاء على المسرح السوري، تتهم الأخيرة الجانب الروسي بأنه لم يفِ بوعده إبعاد الميليشيات الإيرانية و «حزب الله» عن المنطقة الجنوبية في إطار اتفاق خفض التصعيد فيها، بينما لا تأخذ إسرائيل بتطمينات فلاديمير بوتين وسيرغي لافروف حيال ضمان أمنها، لأن «الحرس الثوري» يبني قواعد عسكرية في منطقة الكسوة (ريف دمشق) المؤدية إلى القنيطرة ودرعا، ويتجول مقاتلوه وعناصر «حزب الله» بلباس الجيش السوري، كما يقول الإسرائيليون. والأردن لم يفتح معبر نصيب (الذي يستفيد منه لبنان في تصدير منتجاته) على رغم وعده بذلك، طالما أن الإيرانيين ما زالوا في مناطق قريبة. والمعارضة في الجنوب وحّدت فصائلها تحسّباً لاندلاع القتال مجدداً. والإنذارات الإسرائيلية بتوجيه ضربات عسكرية حيال تزويد الحزب أسلحة من مصانع صواريخ إيرانية في سورية تتوالى. فما الضمانة بأن عملاً عسكرياً إسرائيلياً لن يُقحم لبنان في المواجهة إذا لم يكن هناك نأي بالنفس عن سورية؟
هل شعر أحدكم يوماً بخوف كاد يوقف قلبه عن العمل؟ هل شعرتم بتهديد يتربص بكم خلف الأبواب؟ هل ارتعدت فرائصكم يوماً عندما يطرق بابكم، أو عندما تظنون أن أحداً يناديكم في الشارع؟ نحن كنا نعيش هذه الحالات مجتمعة يومياً في سورية.
المداهمات الأمنية التي كان وما زال يتعـــرض لها السكان، وإن بنسبة أقل من السابــق، هاجس يعيشه معظمنا، بخاصة إذا كان لديـــه أي نشاط مدني أو إعلامي، أو كـــان مهجـــراً من منطقة ساخنة دمرت على رؤوس أبنائها، لأن الناشطين السلميين والعلماء والأطباء والطلبة والفنانين والمعارضين السياسيين السلميين والمدنيين كانوا أكثر المستهدفين من جانــب النظام منذ بداية الثورة، قتلاً واعتقالاً وملاحقة، مقابل الإفراج عن المجرمين والمحكومين من المتطرفين والذين رأيناهم لاحقاً أمراء وقادة فصائل متطرفة، لتشكيل بديل مفترض للنظام يخيفون به موالاتهم قبل معارضتهم، ومبرراً لقتل المدنيين وتهجيرهم بحجة محاربة الإرهاب.
هذا الشعور المرعب والقاتل يذكّرني دائماً بأكثر من 250 ألف معتقل في سجون الطاغية، يعيشون هكذا في كل ثانية من حياتهم. وسائل التعذيب التي كشفت عنها التقارير الدولية وشهادات الناجين من الموت في المعتقلات و55 ألف صورة مسربة لـ11 ألف معتقل استشهدوا تحت التعذيب، أكدت صحتها لجنة دولية من القانونيين المتخصصــين، وأثبتت المجموعة الخاصة بدعم قيصر والمركز الأوروبي للحقوق الدستورية وحقوق الإنسان وضوح آثار التعذيب والقتل الممنهج الذي يتبعه نظام الأسد على الجثث في المعتقلات، من دون أن تحـــرك ساكناً لدى المجتمع الدولي الذي سقط أخلاقياً وإنسانياً أمام نزف الدم السوري وانتهاك أبسط حقوقه الإنسانية. لم يكتف المجتمع الدولي بالصمت عن جرائم تعذيب المعتقلين التي كانت ممنهجة من النظام لبث الرعب في نفوس الناشطين، وثنيهم عن الاستمرار في ثورتهم، بل تؤجل الدول المحتلة لسورية مناقشتها في آستانة شهوراً، وتأتي في ذيل أي مفاوضات دولية خاصة بسورية، ويتخذ المجتمع الدولي الفيتو الروسي مبرراً لعدم إحالة ملف المعتقلين ومحاكمة الجناة إلى محكمة الجنايات الدولية، وهذا ما يعطي الضوء الأخضر والوقت لنظام الأسد للتخلص من أعداد أخرى من المعتقلين.
العتب ليس على المحتلين، بل على الجهات السورية المفاوضة التي تقبل بتأجيل موضوع يجب أن يكون في أولويات أي مفاوضات للضغط على نظام الأسد للإفراج عن المعتقلين والمختطفين والكشف عن المفقودين.
لا شك في أن الصورة الجماعية التي أُخذت لـ "أردوغان-بوتين-روحاني" خلال اجتماع "سوتشي" تمثل رمزاً سياسياً في غاية الأهمية، إذ تسعى روسيا لرسم شكل المرحلة السياسية من خلال اجتماع سوتشي بعد أن أنهت تصميم الساحة والمشهد العسكري في سوريا من خلال "أستانة"، ولكل من روسيا وإيران أسباب قوية للبدء بنفيذ هذه المرحلة السياسية على أرض الواقع، إذ تسعى الأخيرتان لتحقيق مكاسبها من خلال مرحلة سياسية بعد أن أجبرت المعارضة السورية على التراجع من الساحة وبالتالي بقاء نظام الأسد على عرش السلطة.
تركيا تريد أن تمر الأزمة السورية في إطار سياسي، إذ أدت الخسائر الإنسانية والسياسية التي تسببت بها الأزمة السورية إلى تقلّص مجال تأثير تركيا في سوريا، أصبح لتركيا جدول أعمال وحيد وهو وضع حزب الاتحاد الديمقراطي أو أكراد سوريا بشكل عام، إن استطاعت أنقرة الحصول على بعض الامتيازات في المنطقة فإنها ستكون جاهزة لإعادة النظر في سياستها تجاه المعارضة والنظام معا، أي أن هناك توافق بين آراء جميع الأطراف في خصوص تنفيذ المرحلة السياسية في سوريا ولكن ضمن تبريرات مختلفة، إنّ المسألة الأساسية ليست حول ضرورة تنفيذ المرحلة السياسية من أجل حل الأزمة السورية، إن حل الأزمة في سوريا يتطلب مرحلة سياسية بالتأكيد، لكن جوهر المسألة يتعلق بما تستند إليه المرحلة السياسية وما تحتوي عليه، كما أن الإعاقة التي زادت بسبب اجتماع سوتشي فيما يخص المرحلة السياسية مرتبطة بهذا الأمر أيضاً، إذ تم إنشاء جدول أعمال اجتماع سوتشي بناء على قراءة روسيا للمرحلة السياسية، أي إننا نتحدث عن مرحلة تركّز على الإصلاح الدستوري والتوجه إلى الانتخابات من خلال إلغاء الانتقال السياسي واستبعاد احتمال رحيل الأسد، إذ لا يمكن توقع رحيل الأسد بعد بقائه على عرش السلطة بعد مرور 7 سنوات من الحرب الأهلية.
نظراً إلى بنية اجتماع سوتشي فإن ما حدث خلاله لا يمثل حلاً للأزمة السورية في إطار عملية سياسية، بل يشكل محاولةً من قبل روسيا وإيران بهدف إقناع المعارضة السورية ببقاء نظام الأسد من خلال حملة إعلامية خطيرة ضمن اجتماع سوتشي، إن وجود تركيا في هذا الاجتماع يحمل أهمية بالغة ولكن مع تنازلات بسيطة وسطحية، إذ تمثل مشاركة تركيا مصدر المشروعية للرئيس لهذه المرحلة، لا يمكن لروسيا وإيران أن تبدأ بمرحلة سياسية لوحدها، حتى وإن استطاعت البدء بذلك فلن تحقق أي نتائج ملموسة لأنها لن تتمكن من شمل المعارضة السورية ضمن هذه المرحلة.
ومن أهم مؤشرات نجاح اجتماع سوتشي هو إجراء هذا الاجتماع من خلال ربطه بمؤتمر جنيف، لأن التسوية السياسية في سوريا لا تبدو واقعية من دون أمريكا وأوروبا ومشاركة إقليمية أوسع، كما أن لوجود تركيا أيضاً أهمية كبيرة في هذا الصدد، إذ سيسهل التكامل بين سوتشي وجنيف القبول الدولي لهذه المرحلة.
كان من الضروري إعادة تشكيل تركيبة وطلبات المجموعات المعارضة المشاركة من أجل تسهيل سير أمور مثل هذه المرحلة السياسية، بعبارة أخرى تمت إعادة تصميم مجموعات المعارضة بنسبة كبيرة، إذ شهدنا مسبقاً على استهتار المعارضة بأهدافها وبنيتها، كما حدث انخفاض كبير في أعداد الأشخاص والمجموعات التي تحمل أهدافاً واقعية، بدلاً من ذلك تم تغيير طبيعة المعارضة بشكل ملموس من خلال مشاركة عناصر جديدة من القاهرة وموسكو، على سبيل المثال أصبح "حسن عبد العظيم" أحد أعضاء لجنة التنسيق الوطنية في دمشق ضمن قائمة الأسماء المعارضة، لأن الاستهتار الذي حدث في بنية المعارضة أدى إلى انخفاض كبير في نسبة المطالب، إذ لا يمكن لمعارضة مستهترة إلى هذه الدرجة المطالبة بتغيير النظام أو رحيل الأسد أو الانتقال السياسي، وعند اجتماع النظام والمعارضة من أجل المفاوضات سيجلس النظام في طرف والمعارضة التي لا تنظر إلى بنية النظام بجدية في الطرف الآخر.
في حال عدم إيجاد حل للقضايا والمطالب التي تسببت في ظهور الأزمة السورية فإن الحل السياسي المذكور في خصوص سوريا يعتبر محاولة حل وليس حل شامل، إذ تحولت هذا المرحلة إلى دبلوماسية تهدف إلى إقناع المعارضة بالتنازل والقبول ببقاء النظام والأسد، إن ما يحدث الآن لا يمثل حلاً سياسياً للأزمة السورية، بل نشهد على محاولة الأطراف للحد من التزاماتها فيما يخص الأزمة، ومن الواضح أن مثل هذا الحل السياسي قد يؤدي إلى إبعاد الأزمة أو إخفاءها لفترة معينة ولكن من المؤكد أنه سيزيد في عمقها أيضاً.
في سبتمبر/ أيلول الماضي، كتبت في هذه الزاوية "نحن على أعتاب مرحلة سوف تُنتزع فيها السيطرة على الخريطة السياسية السورية، من تنظيمات كوحدات حماية الشعب وداعش وتحرير الشام".
هذه المرحلة بدأت رسميًّا قبل أيام مع المحادثة الهاتفية بين الرئيس الأمريكي دونالد ترامب ونظيره التركي رجب طيب أردوغان.
عقب المحادثة أعلن البيت الأبيض أنه سيقطع تسليح وحدات حماية الشعب، ذراع حزب العمال الكردستاني في سوريا. وتتداول الكواليس أن الصقور في إدارة ترامب عانوا صعوبة كبيرة في اتخاذ القرار، وعلى الأخص مستشار الأمن القومي هربرت مكماستر.
تشير هذه الخطوة قبل كل إلى أن الحماية الروسية الأمريكية لوحدات حماية الشعب في طريقها إلى الزوال. ويبدو أن مشروع البنتاغون بشأن "شمال سوريا" هو الآخر ينهار، بعد "مشروع روجاوة".
فالاستراتيجية الجديدة لن تقتصر على قطع التسليح فقط، والرئيس الأمريكي يريد إعادة الأراضي التي استولت عليها وحدات حماية الشعب إلى دمشق. ولهذا تشعر الوحدات والأوساط الداعمة لها بقلق شديد.
رسالة ترامب إلى أردوغان حول قطع دعمه لوحدات حماية الشعب كان لها أصداء واسعة في الإعلام العالمي. فهيئة لإذاعة البريطانية تحدثت عن "تحول كبير في قرار ترامب"، فيما قالت سي إن إن "مع انتهاء داعش ينتهي تسليح وحدات حماية الشعب".
وقالت نيويورك تايمز إن "القرار سيخفض التوتر الأمريكي التركي"، بينما أشارت ووردبرس وروسيا اليوم إلى "خيانة تعرضت لها وحدات حماية الشعب".
بدورها كتبت هاآرتس الإسرائيلية أن "ترامب أسعد تركيا، ووجه ضربة كبيرة لطموحات وحدات حماية الشعب".
وفي الواقع، فإن ميسر جيفورد، وهو بريطاني قاتل إلى جانب وحدات حماية الشعب، قال قبل بدء عملية الرقة إن على الأكراد ألا يثقوا كثيرًا بالولايات المتحدة، مشيرًا أن الاتفاق المؤقت ذو الأهداف التكتيكية يوشك على الانتهاء.
ولا شك أن قرار ترامب يعني الانسحاب من سوريا، بيد أن وزير الدفاع جيمس ماتيس يؤكد على إبقاء بلاده ألفي جندي في سوريا بهدف الحصول على تنازلات من الأسد إلى حين انتهاء مفاوضات جنيف، وعلى مواصلة استخدامها وحدات حماية الشعب.
وكان بعض المسؤولين الأمريكين أكدوا أنهم يخططون لكسر نفوذ طهران ودمشق في المناطق الخاضعة لسيطرة وحدات حماية الشعب. غير أن الجميع يعلمون أن ترامب يعمل على بعض المشاريع التي ترمي للانسحاب من سوريا حتى عام 2019.
أفضل من حلل قرار ترامب هو السفير السابق في أنقرة جيمس جيفري، الذي قال: "انتهت الحرب التقليدية مع داعش، ونعمل الآن من أجل إنجاح استراتيجية أكبر. لكننا لن ننجح دون تركيا. إذا أردنا البقاء في سوريا علينا إصلاح علاقاتنا مع تركيا".
بطبيعة الحال، كان من الصعب جدًّا على الولايات المتحدة أن تثبت أقدمها في سوريا، وهي تخاصم تركيا أقوى بلد في المنطقة.
وفي هذا السياق، قرار ترامب بشأن وحدات حماية الشعب هو بمثابة رفع العلم الأبيض بالنسبة للولايات المتحدة، ورمي المنشفة في سوريا بالنسبة للبنتاغون بعد وكالة الاستخبارات المركزية.
هناك رأي سائد في المؤسسات الأمريكية المختصة بشؤون المنطقة يشير إلى أن وزير الخارجية ريكس تيلرسون لن يدلي من الآن فصاعدًا بتصريحات من قبيل "لا نفكر بمستقبل للأسد أو نظامه في سوريا".
وتقول مصادر واشنطن إن هناك توجيهات من البيت الأبيض، وعلى الأخص مستشار الأمن القومي هربرت مكماستر، للمسؤولين بعدم الإدلاء بتصريحات غير قابلة للتطبيق بشأن الأسد، وذلك عقب الاتفاق المبدئي الذي توصل إليه ترامب وبوتين بخصوص عملية الحل السياسي حول مستقبل سوريا.
وتقول المصادر إن الروس حصلوا على تنازل من الولايات المتحدة بتخفيف حدة خطابها حول مستقبل نظام الأسد على المدى الطويل، مقابل إقناع رئيس النظام بقيول حكم ذاتي ضمن كيان فيدرالي، للمكون الكردي الذي تهتم به الولايات المتحدة في سوريا.1
العمل جارٍ على خطة جديدة
اتخذت الولايات المتحدة مواقف واقعية من الوضع الجديد في سوريا، لكنها وإن خففت من حدة خطابها حاليًّا بخصوص الأسد إلا أنها تعمل على خطة أخرى بعيدة الأمد.
وبحسب ما ذكرته لي مصادري في هذا الخصوص فإن الخطة على النحو التالي:
- قد تكون روسيا وإيران أخذتا زمام المبادرة بشأن مستقبل سوريا السياسي إلا أن أهم قضية في المنطقة على المديين المتوسط والبعيد ستكون عملية إعادة إعمار سوريا.
- إعادة الإعمار مسألة تتطلب موارد ومبالغ ضخمة جدًّا، وهذا ما سيكون مستحيلًا على روسيا وإيران بمفردهما القيام به من دون الولايات المتحدة وحلفائها في المنطقة.
- لن ترضى الولايات المتحدة والغرب وحلفاؤهما في المنطقة أبدًا بضخ الأموال من أجل إعادة إعمار سوريا في حال وجود نظام الأسد في الحكم.
بمعنى أن رحيل الأسد سيكون شرطًا من أجل سماح الولايات المتحدة وحلفاءها بضخ الموارد والإمكانيات اللازمة لعملية إعادة الإعمار.
- كما ترون، تعتقد الولايات المتحدة، التي تبدو فقدت المبادرة السياسية في المنطقة لصالح روسيا، أنها قادرة على استعادة زمام المبادرة في المستقبل بفضل القوة الاقتصادية.
الحملة الإيرانية المضادة
تحدثت في مقالة سابقة عن مساعٍ إيرانية لفتح طريق من طهران يمر عبر العراق وسوريا ليصل إلى البحر المتوسط. نظرًا لموضوع المقالة لم أتحدث عن أهمية الطريق المذكور سوى على الصعيدين العسكري والاستراتيجي.
غير أن مختصين يعرفون المنطقة جيدًا يقولون إن إيران قد تستخدم هذا الطريق في توفير الموارد من إيران والعراق إلى سوريا.
بمعنى أن إيران تخطط للعب دور مؤثر جدًّا في عملية إعادة إعمار سوريا من خلال استخدام الطريق المذكور بشكل فعال.
وتقول مصادر واشنطن إنه بينما تجري التحضيرات للعب بورقة الاقتصاد، ينبغي على تركيا، التي تملك خبرة وإمكانيات واسعة وموقعًا استراتيجيًّا يتيح لها القيام بالعمل بيسر، متابعة التطورات من هذا المنظور على وجه الخصوص.
على ما يبدو أن المؤشرات الإقليمية والدولية عن إمكانية التوصل إلى حلّ سياسي للأزمة السورية، خصوصاً بعد قمة سوتشي الثلاثية بين روسيا وإيران وتركيا، واجتماع المعارضة السورية في عاصمة المملكة العربية السعودية، المعروف بمؤتمر «الرياض 2» الذي رحبت الولايات المتحدة والدول الأوروبية بمقرراته، بدأت تواجه مجموعة عراقيل جدّية قد تطيح بمسارات التسوية، وتؤدي إلى عودة المفاوضات بين النظام والمعارضة إلى نقطة البداية.
وكان من المفترض أن يلتزم النظام السوري والدول الداعمة له الموجودة ميدانياً في سوريا بالتعهدات السياسية والعسكرية التي توصلت إليها في اجتماعات آستانة، وخلال اللقاءات الثنائية، إضافة إلى ما تم الاتفاق عليه في قمة سوتشي الثلاثية؛ لكن على ما يبدو أن موسكو بصفتها عرّابة الحل السوري، غير معنية جدّياً بتنفيذ التزاماتها؛ ذلك من خلال قيام طائراتها إلى جانب طائرات النظام بضرب فصائل الجيش الحرّ في الغوطة الشرقية، في أوضح اختراق لاتفاقية خفض التوتر، الأمر الذي يمكن اعتباره محاولة روسية للتملص من جزء من تعهداتها، كما يمكن وضعها في خانة الرد على المعارضة وبعض الفاعلين الدوليين الذين من خلال مواقفهم الرافضة لجزء كبير من بنود مؤتمر سوتشي، أرغموها على تأجيله إلى شهر فبراير (شباط) عام 2018.
في المقابل لم تتأخر موسكو في الرد على ما يمكن وصفه بعرقلة مسار سوتشي، بعد أن أعلنت صحيفة «الوطن» السورية، التابعة لنظام الأسد، في عددها الصادر الاثنين الفائت، عن إرجاء وفد النظام السوري موعد سفره إلى مفاوضات جنيف إلى موعد يُحدد لاحقاً، دون إيضاح الأسباب (وفد النظام السوري يصل اليوم إلى جنيف - المحرر)، كما أن الصحيفة كشفت عمّا وصفته سخط نظام الأسد مما ورد في بيان المعارضة في مؤتمر «الرياض 2» الذي أكدت فيه أن «سقف المفاوضات رحيل النظام السوري».
في الشكل والمضمون، يبدو أن مسار جنيف ومسار سوتشي يسيران بشكل متواز، ما يجعل فكرة التقائهما مستبعدة، وهذا يدعو إلى استبعاد إمكانية الحل أو استعجاله، والسبب بات واضحاً، أن كل طرف يجد مصلحته في تغليب المسار الذي يرعى مصالحه، والذي يتطلب إفشال المسار الآخر أو تقويضه، وهذا ما حاول الرئيسان الأميركي دونالد ترمب، ونظيره الفرنسي إيمانويل ماكرون تأكيده، خلال محادثة هاتفية جرت بينهما نهار الاثنين، أكدا خلالها أن محادثات جنيف هي المنتدى الشرعي الوحيد لحل النزاع السوري.
موقف الرئيسين الفرنسي والأميركي رسالة واضحة، ليس لموسكو فقط؛ بل لطهران وأنقرة، بأن مسار جنيف وحده يحظى بغطاء الشرعية الدولية والأمم المتحدة، وهو المخول اتخاذ القرارات والإجراءات من أجل إنهاء الصراع السوري، وفقاً لمقررات «جنيف 1»، والقرار الأممي 2254، اللذين أصبحت بنودهما تتضارب مع مصالح المحور الروسي، الذي يسعى من خلال مؤتمر سوتشي إلى فرض رؤيته للحل، المبنية على التمسك بإجراء إصلاح للدستور فقط، وتشكيل حكومة مصالحة وطنية تحت سقف النظام، وهو ما يمكن اعتباره شروطاً مسبقة يحاول نظام الأسد فرضها، ليس فقط على جولة المفاوضات الجديدة في جنيف؛ بل في كافة المسارات التفاوضية، لذلك يجد النظام وداعموه أن خيار سوتشي هو المخرج الوحيد للالتفاف على مقررات الشرعية الدولية، وذلك من خلال ربط سوتشي بالقمة الثلاثية التي جمعت الرؤساء بوتين وروحاني وإردوغان، واعتبارها الغطاء الذي يُمَكن النظام من الاستمرار في تعنته.
حتى اللحظة، نجحت المعارضة السورية في إفراغ مؤتمر سوتشي - إذا عقد أصلاً - من محتواه، وحولته إلى حوار بين النظام والنظام، وتمكنت واشنطن مع من تبقى لها من حلفاء في المنطقة من اعتباره مساراً روسياً إيرانياً أضيفت له تركيا نتيجة سوء علاقتها مع واشنطن والدول الأوروبية، وفي المقابل تحاول موسكو من موقع الأقوى مؤقتاً في المعادلة السورية فرض شروطها على مسار جنيف؛ لكي تصبح بنوده تتطابق مع أهدافها الطويلة الأمد في سوريا، وهدفها انتزاع رعاية حصرية للحل السوري من الولايات المتحدة والمجتمع الدولي، بالطرق السياسية أو العسكرية التي تستخدمها الآن ضد المدنيين في الغوطة، بهدف تعطيل لقاء «جنيف 8». ورغم سيادتها على الملف السوري، فإنها تواجه عجزاً في احتواء التمكن الإيراني في سوريا، وقلقاً دائماً من التقلبات التركية المرتبطة بتحولات الملف الكردي، لذلك تحاول استثمار فرصتها الاستثنائية التي مكنتها من وضع طهران وأنقرة في خندق واحد، ولكن لفترة محدودة لا يبدو أنها قابلة للتمديد، نتيجة تراكم الخلافات مع واشنطن التي بدأت تلمح إلى مسار آخر في العلاقة معها في سوريا، مبني على عدد من الشروط السورية الداخلية والإقليمية الكفيلة بإنهاء فكرة سوتشي، وإعادة جنيف إلى المربع الأول.
غَضِبَ وفد بقايا السلطة الأسدية إلى مؤتمر جنيف لأنّ المعارضة تحدّثت في بيان الرياض عن رحيل "الزمرة الأسدية" كشرط واجب لأي حل سوري.. ثم لأنّ نصر الحريري جدّد التمسّك بذلك الشرط في بداية المرحلة الانتقالية المفترض أن ينطلق البحث الجدّي فيها أخيراً في موازاة إتمام مراسم القضاء على الإرهاب الداعشي ميدانياً وجغرافياً وتنظيمياً..
والواقع أن الأسد "غاضب مبدئياً" وأساساً، لأنّه مُجبر على الذهاب إلى جنيف! وهو الذي كان وَعَدَ بالذهاب إلى إدلب والرقّة! وإكمال "تحرير" سوريا "حتى آخر شبر فيها" من الإرهابيين والتكفيريين! ولأنّه مع رعاته الإيرانيين، تعامل منذ بداية المشوار مع قصة "الحل السياسي" باعتبارها تقطيعاً للوقت بانتظار نضوج "مقوّمات" الحل العسكري على الأرض.. ولا شيء آخر.
في مطلع تشرين الثاني الجاري جاء علي أكبر ولايتي مستشار المرشد الإيراني إلى دمشق وأكد من مقر الأسد أنّ المعركة لتحرير إدلب "ستنطلق في غضون أيام".. ومثله فعلت بثينة شعبان! وقبلهما فعَلَ الرئيس السابق بنفسه!. لكن مرّت الأيام وحملت معها لبثينة ورَبْعها "الخبر اليقين" بأنّ صاحب القرار الأول في سوريا، أي فلاديمير بوتين يرى الأمور بطريقة مختلفة! ويعتبر أن لا "حل" عسكرياً ممكناً أو مُتاحاً. وإن العملية السياسية لا بدّ أن تنطلق استناداً إلى تراكمات جنيف والاتصالات الثنائية المباشرة مع الأميركيين وغيرهم في المنطقة! وكما استناداً إلى "المصالح الروسية العليا" الأكبر والأبعد مدى والأهم من "المحور الإيراني" وحساباته ومصالحه!
.. وبعد ذلك، يمكن ذلك المحور أن يضع أناشيده وأهازيجه الانتصارية في طنجرة ضغط ويضيف عليها بعض المياه، ثم يتركها على النار لتنضج تماماً وبعدها يستطيع أن يشرب منها قدر ما يشاء! وهو العطشان الدائم إلى طعم "الإنجازات" و"الإنتصارات" الإلهية والوضعية على حدّ سواء!
"جنيف – 8" ليس نهاية المطاف بل بدايته. ومساره لن يكون قصير الأجل بل طويلاً.. لكنه في ذاته يدلّ على تكسّر أوهام الحلّ العسكري، بقدر ما يدلّ على تكسّر أوهام الأسد بإعادة عقارب الزمن إلى ما قبل آذار 2011، وبقدر ما يكسّر أوهام إيران بالقدرة على فرض إرادتها الذاتية على واقع شديد التعقيد والتنوّع، بل بقدر ما يفتح الباب على فصل جديد أساسه تقزيم "نفوذها" بما يعنيه ذلك من "خروج" ميليشياتها و"عودة" السوريين إلى أرضهم!
والأنكى من ذلك، أنّ جنيف تنسف ما حاولت إيران وحواشيها وعاملها في دمشق أن ترسّخه وتظهره كحقيقة مفادها أنّ لا فرق بين عموم المعارضة والإرهاب! وإن هزيمة "داعش" تعني "إنتصاراً" لها ولـ"محور المقاومة"! وإن الأسد باقٍ ولو حتى على كومة حطام، في حين أنّ مَن طَالَبَ برحيله، رحل ولن يعود! والحق الحق يقال، إنه لو تُرِكَ جُلّ الأمر لإيران ومحورها "المقاوم" لحصل ذلك كله وأكثر منه..، لكن "قد خاب من إفترى"!
ثمّ الأمرُّ من ذلك، بالنسبة إلى إيران وحواشيها، هو أنّ المعارضة لا تزال "في مكانها" وتعود إلى أصل الموضوع وفصله وفيصله وترى أنّ لا حلّ فعليّاً وواقعياً وعملياً في "ظلّ" بقاء الأسد! وإن هناك في المنطقة والعالم من يشاطرها الرأي! وإن روسيا "تعرف" ذلك وتستمر في الدفع إلى جنيف.. برغم البديهة القائلة، بأنّ المعرفة لا تعني الموافقة العاجلة والتامّة، في كل حال!
لم يخطئ مَن افترض أنّ نهاية "داعش" ستعني بداية نهاية ما تبقى من سلطة الأسد، وفتح ملف "النفوذ" الإيراني الخارجي.. و"جنيف – 8" خطوة أولى على ذلك الطريق وليس خارجه!
أبلغ الرئيس الأمريكي دونالد ترامب؛ رئيس الجمهورية التركي رجب طيب أردوغان، في اتصال هاتفي جرى بينهما يوم الجمعة الماضي، أنه أصدر تعليمات بعدم تقديم أسلحة إلى وحدات حماية الشعب الكردي التي تسيطر على ما يسمى "قوات سوريا الديمقراطية". وأدَّت هذه المكالمة الهاتفية إلى ارتياح في أنقرة، إلا أن التصريحات الغامضة التي جاءت من الولايات المتحدة أفسدت أجواء الارتياح، وأثارت علامات استفهام حول حقيقة الموقف الأمريكي من تسليح وحدات حماية الشعب الكردي.
المتحدثة باسم البيت الأبيض، سارة هاكابي ساندرز، وفي ردها على سؤال لأحد الصحفيين خلال الموجز الصحفي اليومي، أشارت إلى أن واشنطن ستقلص تسليح شركائها في محاربة تنظيم داعش الإرهابي في سوريا؛ عقب انتهاء العمليات العسكرية هناك، إلا أنها استدركت قائلة: "لكن هذا لا يعني وقف الدعم الكامل لهذه المجموعات"، في إشارة إلى مليشيات وحدات حماية الشعب الكردي. كما أعلنت وزارة الدفاع الأمريكية، بعد المكالمة الهاتفية التي جرت بين الرئيسين التركي والأمريكي، أنها تنظر في المساعدات التي تقدمها لوحدات حماية الشعب الكردي، مشيرة إلى أنها ستواصل دعم تلك المليشيات التابعة لحزب العمال الكردستاني.
العلاقات التركية الأمريكية تدهورت في الآونة الأخيرة بشكل غير مسبوق؛ لأسباب عديدة، ويأتي على رأسها الدعم السخي الذي تقدمه الولايات المتحدة إلى وحدات حماية الشعب الكردي، الفرع السوري لحزب العمال الكردستاني، وتجاهل واشنطن تحذيرات أنقرة حول احتمال استخدام المنظمة الإرهابية تلك الأسلحة الخفيفة والثقيلة في الأراضي التركية. كما أن الأتراك يرون أن سياسة واشنطن في سوريا ترمي إلى تمزيق هذا البلد العربي، وتقسيمه إلى دويلات، وإقامة حزام على الحدود التركية السورية؛ يمتد من شمال العراق إلى البحر الأبيض، ويسيطر عليه حزب العمال الكردستاني.
المليشيات الكردية قامت بتوسيع نفوذها في شمال سوريا تحت الغطاء الأمريكي؛ الذي حصلت عليه بحجة محاربة تنظيم داعش الإرهابي، كما أن واشنطن بررت تسليح تلك المليشيات بأنه أمر مؤقت حتى تنتهي الحرب على داعش، وينتهي وجود التنظيم الإرهابي في سوريا. إلا أن الخريطة الجديدة التي بدأت تتشكل في شمال سوريا؛ عززت شكوك أنقرة ومخاوفها، في ظل عدم التزام الولايات المتحدة بوعودها السابقة.
الإدارة الأمريكية في عهد أوباما وعدت أنقرة بأن وحدات حماية الشعب الكردي لن تعبر الفرات نحو الغرب. وبعد أن عبرت تلك المليشيات نهر الفرات للسيطرة على مزيد من الأراضي ومواصلة تمددها، قالت واشنطن، لطمأنة تركيا، إن وحدات حماية الشعب الكردي ستنسحب إلى شرق الفرات بعد تحرير منبج من عناصر تنظيم داعش. إلا أن كل تلك الوعود تبخرت، ولم تلتزم واشنطن بأي واحد منها، لا في عهد أوباما ولا في عهد ترامب، وليس هناك ما يضمن أن الإدارة الأمريكية سوف تفي بوعدها هذه المرة.
سياسة واشنطن؛ هذه خلقت لدى أنقرة شعورا بأن هناك خطرا يكبر يوما بعد يوم في شمال سوريا، ويهدد أمن تركيا ومستقبلها ووحدة أراضيها، ولا بد من مواجهته وإزالته مهما كان الثمن. وهذا الشعور دفع تركيا إلى تعديل سياستها الخارجية، والتقارب مع موسكو وطهران، كما أنها قررت شراء صواريخ "أس 400" من روسيا؛ لتعزيز دفاعها الجوي، بعد أن خذلها حلف شمال الأطلسي في وقت كانت تركيا فيه بأمس الحاجة إلى مساندته. ولكن هذا التغيير في سياسة أنقرة أزعج واشنطن؛ التي بدأت تمارس سياسة العصا والجزرة لدفع تركيا إلى التراجع عن خطوة التقارب مع روسيا وإيران.
وفي خضم هذه التطورات، صرح وزير الخارجية الأمريكي، ريكس تيلرسون، بأن بلاده تنتظر من تركيا أن تجعل الدفاع المشترك لحلف شمال الأطلسي من أولوياتها. وقال في كلمة ألقاها الثلاثاء، في ندوة نظمها مركز ويلسون سنتر للفكر والأبحاث في العاصمة الأمريكية، إن تركيا تعتبر من أهم حلفاء حلف شمال الأطلسي، وعليها القيام بواجباتها على أكمل وجه، مضيفا أن إيران وروسيا لن تستطيعا أن تقدّما لتركيا المنافع السياسية والاقتصادية؛ بقدر المنافع التي تجنيها الأخيرة من المجتمع الغربي.
إن كانت الولايات المتحدة تعتبر تركيا من أهم حلفائها في حلف شمال الأطلسي، وتنتظر منها القيام بواجباتها، فإن تركيا بدورها تنتظر من واشنطن الكف عن دعم المنظمات الإرهابية التي تهدد أمنها القومي والالتزام بوعودها، كما أن الأتراك يتساءلون في ظل التصريحات المتضاربة التي تصل إليهم من واشنطن، ويقولون: "من نصدق؛ ترامب؟ أم البنتاغون؟ أم الحقائق التي نشاهدها على أرض الواقع؟".