مقالات مقالات رأي بحوث ودراسات كتاب الثورة
١٨ نوفمبر ٢٠١٧
هراء «خبير» روسي يتحدث عن الشرق الأوسط

في الأيام الأخيرة يطرح عدد كبير من أصدقائي العرب الأسئلة عبر المراسلات بشأن كلمة يفغيني ساتانوفسكي أمام مجلس الاتحاد (مجلس الشيوخ الروسي) التي ألقاها ضمن برنامج «وقت الخبير».

يفغيني ساتانوفسكي هو رئيس معهد خاص وصغير، تحت تسمية الشرق الأوسط، وعادة ما يظهر على شاشات القنوات التلفزيونية وفي محطات الراديو. السؤال الرئيسي: إلى أي درجة يعكس يفغيني ساتانوفسكي في طرحه رأي المواطنين الروس؟ أستبق الجواب للقول: إنها شريحة صغيرة للغاية لا تكاد تذكر. لكن مع ذلك سأتطرق باختصار وبشكل عام لبعض «مصارحاته» المسرودة في كلمة هذا الخبير.

هذه الكلمة موجودة في مقطع فيديو مدته نصف ساعة، في موقع «يوتيوب» لمن يرغب في الاطلاع عليها.

أول مصارحاته هي: أنه في الشرق الأوسط نصف الدول لا وجود لها، فهذه الدول مقسمة إلى قبائل، وهي تحت سيطرة «تحالفات لقادة ميدانيين». لقد ألغى بكل بساطة نصف دول الشرق الأوسط من الوجود. نعم لدى السيد ساتانوفسكي ما يكفي من الجرأة كي يهين الجميع - أناساً كانوا أم دولاً بحد ذاتها.

أما مصارحته الثانية، فهي حول المملكة العربية السعودية: فحسب رأي هذا الشخص لا داعي لروسيا أن تقع في غرور تقاربها مع السعودية. عزاؤه الوحيد بحسب ما يتوهم به هذا الخبير، هو فقط تطابق مصالحنا في الحد من إنتاج النفط.

هنا ينتقل المتكلم إلى شمال القوقاز الروسي. وإليكم مصارحته الثالثة: 50 في المائة من الطوائف المسلمة في داغستان هي «راديكالية» أو لها «ارتباط وثيق بالراديكاليين».

أما الرابعة فهي بشأن سوريا، حيث يدعي أن تقييم القدرات القتالية للإيرانيين في هذه الدولة من قبل العسكريين الروس فيه بعض المراوغة. من غير المفهوم لماذا يأخذ ساتانوفسكي على عاتقه نقل تقييماتهم) – «الإيرانيون لا يتحركون ويعطون دور القتال للآخرين»، أما «حزب الله» فهو قوة لديها قدراتها القتالية.

المصارحة الخامسة، فهي وكما يقولون في روسيا «لا يمكن أن تدخل في أي باب»، لذلك أنا أتفهم امتعاض أصدقائي العرب من المراسلين. فهو يقول إن إسرائيل تعمل في سوريا في المناطق المحاذية لحدودها فقط، لكن في نفس الوقت لديها استخباراتها الفعالة.

في مصارحته السادسة، يقول المتكلم ما لا تعترف به إسرائيل نفسها (رغم أنها لا تنفيه). فلقد صرح بأن إسرائيل تعتبر دولة نووية منذ عام 1950، والأكثر من ذلك فإذا كان لدى باكستان ما بين 100 و120 رأساً نووياً، فإن إسرائيل – وألفت انتباهكم هنا إلى ما قاله! – تدخل ضمن الدول الثلاث الأولى في العالم التي لديها أحدث التقنيات النووية، بعد روسيا والولايات المتحدة.

فيما يلي بعض التصريحات المذهلة «بشأن الوضع الجيوسياسي في الشرق الأوسط». ما يثير دهشة المراسلين هي تنبؤات هذا الخبير. وأي تنبؤات؟ مرة أخرى باختصار شديد.
ويقول عن السلطة في الجزائر بأنهم «ينظرون بغيرة إلى تعاوننا مع المغرب في المجال العسكري والتقني».

لقد تجاهل تونس. أما ليبيا فهي ببساطة لا وجود لها. يقول السيد ساتانوفسكي إن الإيطاليين يقفون خلف السراج والفرنسيين والإمارات العربية المتحدة ومصر خلف حفتر، و«نحن نقدم له شيئا ما». ما الذي يقصده هذا المتكلم الذي يعرف كل شيء؟ فكما هو معروف، روسيا ملتزمة بالحظر المفروض على توريد «شيء ما» إلى ليبيا. أما في فزان فيتصارع الإيطاليون مع الفرنسيين للسيطرة على الحدود. فهم حسب تأكيدات المتكلم، يستخدمون شرطة الجنجويد لقطع الطريق أمام المهاجرين الأفارقة، الذين ينوون الهجرة من الصحراء إلى أوروبا عبر ليبيا. وتبلغ أعدادهم مئات الآلاف من الأشخاص. وبأي طريقة يقومون بمنعهم. يبدو الأمر سهلاً جداً: فهم يقومون بقتلهم. هذا يعني أنهم يقومون بذلك طبقاً لطلب الأوروبيين. «أما نحن فنعمل هناك - ونعرف مدى أهميتنا حسب ما يشير إليه السيد ساتانوفسكي – عبر التعاون في المجال العسكري والتقني مع حفتر. هذا هو المكان الوحيد الذي يمكن الحصول منه على نتيجة نظراً لوجود النفط هناك».

أما مصر فهي الأخرى كان لها حصة في كلمته. فهو يرى مسترسلاً في مصارحاته: «إنها على أبواب كارثة جيوسياسية ومالية.

إن أكثر ما أدهش المراسلين العرب هي أقوال السيد ساتانوفسكي بشأن القضية الفلسطينية. في المقدمة كان قد صرح بأنه يدرس هذه القضية منذ سنوات عدة، ويدعي بأنه يعرف كل شيء «من داخل النخبة الفلسطينية». وما يتبع - هو أعمق!. الدولة الفلسطينية لم تتشكل، ولا يمكن تشكيلها، ولن يشكلها أحد، لأن كل الأموال تسرق. المنفذ الوحيد - هو تحويل فلسطين إلى ما يشبه بورتوريكو، التابعة للولايات المتحدة الأميركية، أما فلسطين فستكون في هذه الحالة تابعة لإسرائيل. «حتى حماس في غزة لا تعترف بأي عملات أخرى عدا الشيقل»، بحسب ساتانوفسكي. ويشتكي ساتانوفسكي من أن الأمم المتحدة تصرف أموالاً طائلة على الفلسطينيين المهجرين وعلى السلام وغيره، والبيروقراطية أيضاً تهدر أموالاً كبيرة. فليستمروا في هذه الحرب «الدبلوماسية التي لا معنى لها».

ومن ملاحظات ساتانوفسكي أيضاً - يقول: عمل معنا الجميع في الشرق الأوسط ومن ثم «سلمونا للأميركيين». لا يجوز إعطاء القروض إلى أحد في تلك المنطقة، فهم لن يسددوها، «هذا هو المتعارف عليه عندهم».

أما عن سوريا فيقول: «نحن قمنا بسحق عدد كبير من المسلحين» - وكأنه بنفسه شارك في ذلك - «وإلا لكان لدينا في شمال القوقاز حرب إرهابية خطيرة». وفي سياق كلمته يسمي الجولان «إسرائيل» (!) فلا يكترث هذا الخبير لا بالموقف الدولي ولا بالموقف الروسي الرسمي. وعبر عن رأيه تجاه الأسد أيضاً، فقد أعلن وبشكل قطعي: أن «الأسد يثير الامتعاض لدى الجنرالات السوريين الذين يحاربون على الجبهة» (من أين له هذه المعلومات؟) ويضيف أيضاً: «ومن عندنا يتابعون هذا الأمر باهتمام» (فمن يقصد عندما يقول: من عندنا؟).

أما آستانة، ومرة أخرى يستخدم ساتانوفسكي ضمير «نحن»، نحن أخرجناها خارج إطار جنيف. بوضعه آستانة مقابل جنيف يتجاهل هذا الخبير الإعلان الرسمي للرئيس فلاديمير بوتين ووزير الخارجية سيرغي لافروف عن تمسك روسيا بالتسوية السياسية تحت رعاية الأمم المتحدة. وهو ما أكده من جديد الرئيس بوتين خلال قمة «أبيك» في فيتنام.

ومصارحته عن العراق. «مسعود بارزاني يسلم كل ما أمكن من أجل الحفاظ على السلطة». ويعلن ساتانوفسكي بشكل قاطع قائلاً: أما الإرهابيون فقد رُحلوا إلى منطقة الأنبار، التي يدعي أنها باتت مركزاً لـ«داعش»، وهم فيها سالمون ويتم نقلهم منها إلى سوريا، «لضرب القوات الروسية».
وتطرق الخبير إلى خطة العمل الشاملة المشتركة مع إيران قائلاً: «الأكيد أن ترمب سيلغي هذه الخطة في الكونغرس، وإيران سوف تصبح دولة نووية بعد عقدين، وعلينا أن نتعايش مع هذا الأمر».

ويطرح نفسه هنا سؤال آخر: هل يعقل أن كل هذا الهراء يقوله واحد من «الخبراء» الروس (هذا إذا أمكن اعتباره كذلك)، وزد على ذلك أين؟ في قاعة مجلس الاتحاد الفيدرالي (مجلس الشيوخ)؟ نعم إنه مبدأ تعدد الآراء - أحد مكاسب الديمقراطية.

لكن يبقى السؤال: ما الجهة التي يمثلها السيد ساتانوفسكي؟ ليكن أصدقائي العرب مطمئنين، مثل هذه الرؤية التي تحمل في طياتها الكراهية للعرب والإسلام لا يمكن أن تلقى دعماً في المجتمع الروسي، وإن لاقت من يدعمها فهي شريحة صغيرة للغاية. صغيرة إلى درجة لا تكاد تذكر.

اقرأ المزيد
١٨ نوفمبر ٢٠١٧
من «حكم الأسد» إلى «حكم الأسود»

ربما لا جدال في طبيعة المآلات العسكرية للحرب في سوريا، فقد صار لجماعة بشار الأسد أغلب الأرض والمدن الكبرى، ومن دون أن يضيف التطور في حرب السلاح قوة للنظام، فقد تحقق له ما تحقق، ليس بيده، ولا بقواته وحدها، بل بسبب تدخل روسيا العسكري الكثيف الذي قلب الموازين، وببركة جهد القتال البري الشرس لميليشيات إيران وحزب الله بالذات.

اختفت ممالك «داعش» أو كادت، وصارت الغلبة الحاسمة للحلف الداعم لبشار، وبيده ما قد يصل إلى سبعين في المئة من إجمالي مساحة سوريا، وحلت ما تسمى «قوات سوريا الديمقراطية ـ الكردية أساسا ـ في المرتبة الثانية، واقتنصت خمس سوريا في الشرق والشمال، وبدعم جوي وتسليح أمريكي مطلق، وفي المرتبة الثالثة تجيء تركيا، التي تحتل أجزاء واسعة من شمال سوريا على خط الحدود، ويتداخل نفوذها مع خرائط سيطرة هيئة تحرير الشام ـ النصرة سابقا ـ في إدلب بالذات، ومن دون أن يعنى ذلك رسما لخطوط فصل واضحة ونهائية، فلا تزال في الصورة قوى وجود هامشي، تخلى عنها ممولوها، وتركوها لمصائرها محاصرة، في غوطة دمشق، أو في الجنوب المتصل بالأردن، أو من حول قاعدة «التنف» الأمريكية، وكلها فصائل صغيرة، يدخل أغلبها في سيرة مناطق خفض التصعيد، وفي تفاصيل «الخريطة المبرقشة» التي انتهت إليها سوريا.

والمعنى ببساطة، أن الحرب في سوريا لم تضع أوزارها تماما بعد، وأن الذين انتصروا عسكريا بجلاء ووضوح، ليست لديهم القدرة المطلقة بعد على صياغة وصناعة مشهد ختام، فالأهم من سيرة الحروب، هو ما يحدث بعدها، أو على مشارف نهايتها، وكسب معركة السلاح لا يعني تلقائيا كسب حرب السياسة، خاصة أن كسب السلاح في سوريا ليس كاملا ونهائيا بعد، وكل ما جرى أنه تكون توازن قوى جديد على الأرض السورية، يعطى لروسيا إلى حين فضل الكلمة الأقوى، وهو ما شجع موسكو على حصار وتهميش مسار التفاوض الدولي في جنيف، وخلق مسارات أخرى موازية، وديناميكية أكثر، أهمها مفاوضات «أستانة» الكازاخية، التي ضمت إلى رعايتها شريكين أصغرين هما إيران وتركيا، وساعدت روسيا على نسج شبكه تواصل مع كافة الفصائل المسلحة المعارضة، إضافة للنظام طبعا، مع حرص موسكو على عزل جماعات «داعش» و»النصرة» القاعدية، أيا ما كان اسمها، واستخدام ثقلها لدفع طهران وأنقره إلى درجات من التوافق، والقيام بأدوار وساطة صارت مقبولة أكثر، خاصة مع انفتاح موسكو على علاقات قوية مع مصر، وتواصل سلس مع الأردن، ومد جسور اقتصادية وتسليحية مع السعودية، وبهدف تكوين إطار إقليمي حاضن لمشاريع حل سياسي، تضعها موسكو بمعرفتها، وعلى طريقة مؤتمر «سوتشي» الذي دعت إليه، وغيرت اسمه من «مؤتمر شعوب سوريا» إلى «مؤتمر الحوار الوطني»، وجعلت له مهام المصالحة الاجتماعية والسياسية، وإنجاز دستور لسوريا ما بعد الحرب، يفكك الطبيعة المركزية لحكم دمشق، ويعطى مزايا فيدرالية لأكراد سوريا بالذات.

ولا تبدو المهمة ميسورة، ولا الطريق سالكة تماما، فلم تكن الحرب صداما بالسلاح على جبهات متباعدة، بل تدميرا شاملا للبشر والحجر، ومقتلة وحشية، سقط فيها ما يزيد عن النصف مليون سوري، مع سحق لعظام وأجساد نصف مليون آخر في الاعتقال والأسر، وتشريد وتهجير في الداخل والخارج لنصف إجمالي سكان سوريا، وتطبيع الوضع، أو الاتجاه إلى تطبيعه، ولملمة جراحه، يحتاج إلى معجزة، وإلى مئات المليارات من الدولارات، لا يقوى على توفيرها الاقتصاد الروسي متوسط الحجم، رغم كون موسكو عملاقا عسكريا وتسليحيا، وقد لا تتحمس لها الصين العملاقة اقتصاديا، ولها مع موسكو شراكة دولية نامية، فللصين أولويات، ليس من بينها إعادة إعمار سوريا على نحو حاسم، والمعنى أن خراب سوريا قد يمتد لزمن، وأن ملايين اللاجئين السوريين قد لا يعودون سريعا، خاصة في ظل أحوال التداعي والحيرة التي تبدو عليها دول الغرب الكبرى اليوم، فلم تعد أمريكا ولا بريطانيا ولا فرنسا ولا ألمانيا تطالب بالرحيل الفوري لبشار الأسد، وإن كانت تمانع إلى الآن في بقائه على رأس صيغة الوضع النهائي، ويشترط الأوروبيون انتقالا سياسيا للمساهمة في إعادة إعمار سوريا، بينما تبدو واشنطن في حالة انتظار مرتبك، فالرئيس الأمريكي ترامب صار «بطة عرجاء»، واحتمالات عزله تتزايد، والكونغرس بمجلسيه يميل إلى إحكام قبضته، ودوائر البنتاغون والمخابرات تعادي روسيا غريزيا، ولكن من دون المقدرة على شن حرب ضد روسيا النووية بالطبع، ولا على صياغة خطة متكاملة في سوريا بالذات، وهو ما يفسح المجال أكثر أمام روسيا، خاصة بعد تفاهمات موسكو مع تل أبيب الحليف الأول لواشنطن، وهو ما يجعل أمريكا أقرب إلى وضع المراقب الصامت، المراقب في السياسة، بالابتعاد عن الانخراط في خطط حكم بديل لسوريا، والمراقب على الأرض، تكتفي إلى حين بقواعد أقرب إلى نقاط ارتكاز عسكري في شرق سوريا وجنوبها، ودعم مجموعات أهمها «وحدات الشعب الكردية»، فيما لا تثق الأخيرة تماما بدوام الدعم الأمريكي إلى النهاية، خصوصا بعد تخلي واشنطن، أو بالأحرى عجزها عن فعل شيء، لمساندة ومنع انهيار أكراد العراق، بعد استفتاء الانفصال، وهو ما قد يدفع أكراد سوريا إلى خط تفاهم مع روسيا، تتبعه بالضرورة علاقات أوثق مع ما تبقى من نظام بشار الأسد بمعية الحليف الإيراني، وهو ما بدا أن جماعة بشار الأسد على استعداد لدفع ضرائبه، والتسليم بنوع من الحكم أو الإدارة الذاتية للأكراد، مقابل ضم القرى والبلدات والمدن العربية الخالصة في شرق سوريا إلى مناطق سيطرة النظام والحلفاء، وتلك تسوية قد يقبلها أكراد سوريا، ربما تجنبا لمصير مأساوي مشابه لما حل بإقليم كردستان العراق، وإن كانت التسوية ستؤدي إلى غضب مزاد من تركيا الهائجة، الخائفة من مصائر التفكك النهائي، بسبب تصاعد الطموح الكردي داخلها، وليس واضحا إلى أي مدى ستعرقل واشنطن جهد التسوية مع الأكراد، وإن كانت حيلها على قدر ملموس من الضعف، خاصة مع تزايد الضغط الإيراني في العراق وسوريا، وحرص طهران على «لي ذراع» أمريكا، ربما لردعها عن التفكير في دخول حرب شاملة معها، أو انتقال واشنطن من سياسة الحصار إلى فعل الدمار، الذي تحرض تل أبيب واشنطن عليه، فيما لم تعط واشنطن الضوء الأخضر بعد لإسرائيل، ولا تطلق يدها في شن حرب على الجبهة السورية ـ اللبنانية، تأمل أن تردع بها حزب الله، أو أن تنزع أسنانه وسلاحه، وهو ما يبدو كأمل إبليس في الجنة، غير قابل للتحقق مع توازنات الأرض الجديدة، تماما كما لم يتحقق في مرات حروب سابقة، كانت فيها قوة حزب الله أقل بمراحل مما صارت عليه الآن.

والخلاصة، أن حرب سوريا خفت أوارها، لكنها لم تنته بعد، وقد تكون قابلة للتجدد مع تدخلات عسكرية واردة من إسرائيل، فسوريا لم تعد دولة مغلقة عند حدودها، بل صارت خرائطها الداخلية نفسها، مسرحا لتوازنات حرجة، يديرها الروس بالكاد الآن، استنادا لثقل قواعدهم العسكرية البحرية والجوية الحاكمة في سوريا، ولكن من دون ضمان ألا تفلت اللعبة، وتنفجر المعارك في الداخل من جديد، بالذات في الشمال عند منطقة نفوذ تركيا و»هيئة تحرير الشام»، ومع أجواء حرب لم تنته، تصبح القسمة السياسية عسيرة، فلن تعود سوريا أبدا إلى ما كانت عليه قبل الحرب الوحشية، وقد يبقى بشار الأسد لوقت على رأس سلطة رمزية، ما دامت لروسيا كلمة الفصل، لكن «حكم الأسد» بصورته التي كنا نعرفها، مضى وقته، وقد تتحول سوريا الجديدة المرهقة المنهكة المحطمة، من «حكم الأسد» إلى «حكم الأسود»، ومع فارق ظاهر، هو أن «أسود» سوريا الجدد، ليسوا من ذوى الجنسية السورية، بل قوى انتداب عالمي وإقليمي تحكم وتتحكم من وراء أقنعة سورية، وتلك مأساة أخرى برسم الانتظار .

اقرأ المزيد
١٧ نوفمبر ٢٠١٧
إيران صوت المدافع لا صوت الحوار

في أغلب الجلسات التي تجمعني بشخصيات غربية مهتمة بالشأن السياسي وشؤون الشرق الأوسط وعندما يبدأ الحديث عن إيران ودورها التخريبي في منطقة الخليج والمنطقة العربية تبرز كلمة واحدة على لسان أولئك الأصدقاء، وهي «الحوار»، فمن وجهة نظرهم أن على العرب أن يتحاوروا مع إيران، وأن ننهي مشاكلنا كلها مع النظام الإيراني بالحوار، دون أن يقولوا حول ماذا، و.... ماذا .. وماذا نتحاور!

وما أثار انتباهي في الجلستين اللتين عقدتا حول إيران، وحول تركيا يوم أمس، خلال أعمال ملتقى أبوظبي الاستراتيجي الرابع الذي ينظمه مركز الإمارات للسياسات، هو الحديث أيضاً عن الحوار مع إيران، والتواصل مع تركيا.

فقد أشار المشاركون من إيران ومن تركيا ومختصون غربيون إلى ما سمّوه «تقصيراً» عربياً في الحوار مع جيرانهم.. وألمح أولئك وصرحوا بأن العرب اختاروا في السنوات الماضية الصراع مع جيرانهم بدل التواصل معهم، وأن النظام الإيراني استغل نقاط الضعف العربي ليتوسع في المنطقة.. وبغض النظر عن وجهة النظر الخليجية والعربية في هذا الموضوع، فإننا كدول خليجية وعربية بحاجة إلى أن نفكر في هذا الرأي الذي يتردد مراراً وتكراراً، وأن نعمل على تغييره وتصحيح هذا الاعتقاد، فمن غير الطبيعي أن نكون نحن من لا يتحاور ولا يسمع الآخر، فبلا شك إن الحوار مهم، واللقاء مهم، والاستماع إلى الآخر مهما كانت درجة الاختلاف معه في وجهات النظر والسياسات مهم.. فالإشكاليات والخلافات تحل بشكل أفضل وأسرع بالحوار.

ولكن في المقابل، ومع احترامنا لكل الآراء الغربية، فإننا لا بد أن نتساءل: هل العرب هم الذين لا يتحاورون مع الآخر، أم أن جارهم هو الذي اختار الاعتداء على جيرانه والتدخل في شؤونهم، وخلق ميليشيات طائفية في بلادهم؟

وهو الذي لا يقبل الحوار لأنه يعتقد أنه الطرف الأقوى في معادلة الصراع الحالي، فضلاً عن نظرته الفوقية واعتبار نفسه الأعلى شأناً تاريخياً وحضارياً، وبالتالي فإن الحوار مع الآخر لا يبدو مهماً بالنسبة إليه!

أما الحالة التركية، فتبدو مختلفة، فنحن بحاجة حسب المتحدثين الأتراك إلى تواصل أكثر وقنوات اتصال أكبر وجهد أكثر بكثير لتعريف - غير المؤدلجين - في الشارع التركي، بل وحتى النخبة السياسية التي تجهل الكثير من الأمور المهمة في الدول العربية.. ومن المؤسف أن نكتشف أن تركيا تحصل على معلوماتها من أفراد يتبعون دولاً وجهات ذات أجندات تتعارض مع أجندة ومصالح الدول العربية الكبيرة مثل مصر والسعودية.

فقط للتاريخ نقول إن العرب لم يرفضوا يوماً الحوار مع إيران، ولم يعتدوا عليها، بل هم من يبادر دائماً ويمد يده لإيران التي ترفض الحوار، وتدعي إعلامياً أنها تريد الحوار، وتختفي إذا ما بدأ الحوار! فكيف تقبل الحوار وصوت بنادقها ومدافعها وصواريخها يصم الآذان في العراق وسوريا واليمن ولبنان؟!

اقرأ المزيد
١٧ نوفمبر ٢٠١٧
سوريا... فشل الحلول المجتزأة

لم يكد حِبر البيان المشترك للرئيسين الأميركي دونالد ترمب والروسي فلاديمير بوتين حول مستقبل التسوية في سوريا، الذي وقعّاه على هامش قمة آبيك في فيتنام، يجف حتى أعلن الجانب الروسي رفضه (!) محاولاتِ واشنطن فرض قراءتها لبعض بنود اتفاق «خفض التوتر»، ووصفها بـ«التأويلات الأميركية الخاطئة» لمضمون التوافق الذي جرى بين عَمان وموسكو وواشنطن حول مناطق الجنوب السوري المحاذية للأردن وإسرائيل، التي تشكل أهمية استراتيجية قصوى للولايات المتحدة، باعتبار أن الخلل في التوازن العسكري في هذه المناطق سيؤدي حتماً إلى تصادم إقليمي سيدفع الأردن وإسرائيل إلى الانخراط المباشر في الصراع السوري، نظراً لرفض البلدين اقتراب ميليشيات إيرانية من حدودهما، إلا أن تل أبيب لم تنتظر لكي تختبر جدية موسكو في تعهدها إبعاد الميليشيات الإيرانية عن حدودها، وأعلنت أنها «ستبقي على ضرباتها العسكرية عبر الحدود مع سوريا لمنع أي انتهاكات من جانب القوات المتحالفة مع إيران حتى مع محاولة الولايات المتحدة وروسيا تثبيت وقف لإطلاق النار في المنطقة». وعلى ما يبدو أن موسكو حاولت التملص من تعهداتها التي التزمت بها في التفاهم الثلاثي حول جنوب سوريا، والتي تقضي، بحسب الخارجية الأميركية، إلى انسحاب جميع الميليشيات الإيرانية لمسافة تتراوح ما بين 15 إلى 20 كيلومتراً عن الحدود الدولية، والإبقاء على فصائل الجيش الحر منتشرة في هذه المناطق حتى التوصل إلى تسوية شاملة، وقد لجأت موسكو إلى التذرع بأنها لم تقدم أي التزام بهذه البنود، وأنها وعدت ببحثها مع نظام دمشق.

يكشف اختلاف المواقف الروسية وتغيرها عن طبيعتين في سلوك موسكو في سوريا، التي يقابلها في بعض الأحيان غض طرف أميركي، فحتى اللحظة يبدو الاشتباك الأميركي - الروسي محصوراً في الوجود الإيراني على حدود سوريا الجنوبية، وتبدو موسكو ومن خلفها طهران جاهزة للتفاهم حول هذا البند من الاتفاق مقابل غض قوات التحالف الطرف عن الدور الذي تلعبه إيران وميليشياتها في باقي المناطق السورية، حيث تسيطر على أجزاء كبيرة من دمشق وريفها الجنوبي وعلى طول الشريط الحدودي مع لبنان، إضافة إلى الدور الكبير الذي تقوم به ميليشيات الحشد الشعبي بغطاء جوي روسي في المناطق الشرقية، حيث معارك الكَرّ والفَرّ مستمرة للسيطرة على البوكمال، التي حال نجحت إيران في طرد «داعش» منها مرة ثانية ستكون قد حققت واحداً من أهم أهدافها الاستراتيجية بربط طهران ببيروت عبر البادية العراقية والسورية بممر آمن وصفته طهران بطريق الحرير الإيراني من بحر قزوين إلى البحر المتوسط، الذي يشكل خللاً كبيراً في موازين القوى الإقليمية، وعلى حساب مصالح الأمن القومي العربي.

نجحت موسكو في سوريا في فرض وقائع عسكرية وسياسية تتلاءم مع أهدافها بعيداً عن منطق التاريخ وثوابت الجغرافيا؛ وقائع تلغي إمكانية التغيير، خصوصاً بعدما نجحت موسكو في فرض قراءاتها للحل السياسي، حتى وإن لم يأتِ البيان المشترك في فيتنام على ذكر مسار آستانة أو مؤتمر سوتشي، فإن العودة لمسار جنيف والقرار 2254 يسلك طريقاً روسياً يفرض شروطه على السوريين الذين باتوا عاجزين عن مواجهة الإملاءات الروسية، بعد أن تخلت واشنطن عن دعمهم، وتراجع الدور العربي والأممي، فتمكنت موسكو حتى اللحظة من الانقلاب على مضمون جنيف 1 و2، واكتفت بالحديث عن القيام بإصلاحات دستورية وإجراء انتخابات حرّة نزيهة، ولكن دون التحديد إذا كانت برلمانية أم رئاسية، وقبولها بطريق فضفاضة مشاركة السوريين بالخارج في الانتخابات بإشراف أممي دون تحديد آلية لذلك، ونجحت ليس فقط في إبعاد الحديث عن مرحلة انتقالية، وعدم التطرق إلى مصير الأسد، بل إنها جعلت إمكانية ترشيحه أمراً ممكناً. هذا الموقف الروسي الصريح من الأسد والمرحلة الانتقالية هو الرد الأوضح على كلام الاستهلاك الأميركي المستمر منذ اندلاع الثورة السورية سنة 2011، الذي عاد وكرره وزير الخارجية الأميركي تيلرسون منذ أيام بأن حكم عائلة الأسد قد انتهى، ولكن تيلرسون لم يُخبر المعارضة السورية ولا الدول العربية ولا العالم عن كيفية إبعاد الأسد عن السلطة في ظل الاستسلام الأميركي أمام الشروط الروسية في سوريا.

تنشغل واشنطن في منع الاصطدام في جنوب سوريا تجنباً لاشتعال نزاع إقليمي، ولكن ما يحدث في سوريا نتيجة سلوك روسي لا يهيئ لحل سلمي للصراع، بل يدفع المنطقة إلى مزيد من التوترات جرّاء استقواء طهران بمواقف موسكو التي تدفعها إلى مزيد من الاستفزازات العسكرية والسياسية التي قد تتسبب ليس فقط باستمرار الحرب السورية، بل اندلاعها في أماكن أخرى، وهو مخالف لرغبة واشنطن التي عليها أن تُعيد ضبط ساعتها على توقيت دول المنطقة ومصالحها.

اقرأ المزيد
١٧ نوفمبر ٢٠١٧
الحرس الثوري أداة إيران في خراب الجوار

يعتقد كثيرون أن أحد أسباب بقاء نظام الملالي في إيران واستمراره، يكمن بقيامه في وقت مبكر بتأسيس الحرس الثوري ليكون رديفاً وموازياً للجيش المحترف، الذي ورثه الملالي عن نظام الشاه، وجهاز الاستخبارات الذي كان يوصف بأنه أحد أعتى الأجهزة الأمنية في المنطقة. وعكست خطوة الملالي في تأسيس الحرس الثوري رغبتهم في وجود تنظيم عسكري فاعل وقوي، يقوم على سند آيديولوجي مسيطر عليه بصورة مطلقة من جانب المرجعية الدينية، ليشكل مع محترفي العسكرية والأمن قوة الدفاع عن النظام والردع في المستويين الداخلي والخارجي.

وطوال أربعة عقود بينت تجربة الحرس الثوري بما تلقاه من اهتمام ودعم من النواة الصلبة للنظام دوره في الحفاظ على السلطة في مواجهة التحركات الشعبية وأنشطة المعارضة في الداخل، وعبر قيامه بدور يتداخل فيه الدفاع مع الهجوم في حروب إيران وصراعاتها مع محيطها الإقليمي وفي إطار استراتيجية التمدد الإيراني، التي يأخذ الحرس الثوري دوراً رئيسياً فيها.

ورغم الطابع العسكري - الأمني للحرس الثوري، فإن مهماته تعدت ما سبق إلى مهمات سياسية واقتصادية واجتماعية إضافة إلى المهمات الأمنية - الاستخبارية، مما يجعله حاضراً في كل مفاصل المجتمع الإيراني وفي سياسات إيران الخارجية، مما جعله محط اهتمام خاص من القيادة الإيرانية، وأعطاه في الوقت نفسه قدرة كبيرة وواسعة على التدخل في كل المجالات بفعالية عالية.

إن أحد أبرز تدخلات الحرس الثوري، يكمن في دوره الإقليمي باعتباره قوة صلبة في استراتيجية نظام الملالي في التمدد إلى دول الجوار. فقد كان دوره في الحرب الإيرانية العراقية بارزاً لا في مشاركة قواته فيها فحسب، بل وفي قيادته قوات الباسيج، وهي ميليشيات تطوعية، تعمل بإمرة الحرس الثوري، ومن رحم تلك العلاقة ولدت جهود الحرس الثوري في تشكيل ميليشيات وجماعات شيعية في كثير من البلدان العربية والإسلامية مع بداية الثمانينات، كان الأهم فيها تشكيل «حزب الله» اللبناني الموصوف بأنه المثال الأعلى لتنظيمات تمت إقامتها في عدد من البلدان، لم تسمح لها ظروفها الخاصة بالبروز على نحو ما صار إليه «حزب الله».

ولم يكن تشكيل الميليشيات والجماعات الموالية لإيران، هو الخط الوحيد لنشاط الحرس الثوري. بل توازى معه خط آخر، وهو ربط بعض الجماعات والتنظيمات المسلحة القائمة في بعض دول المنطقة بالحرس الثوري وبالسياسة الإيرانية، وهو خط بدأ في أواخر الثمانينات، عندما تم ربط تنظيمات مسلحة فلسطينية بينها حركتا حماس والجهاد الإسلامي بإيران، وجرى توسيع هذا الخط في العراق مع بداية التسعينات بدعم الميليشيات الشيعية، وفي كل من اليمن وسوريا بعد انطلاق ثورات الربيع العربي، فدعم الحرس الثوري الجماعة الحوثية في اليمن وأنصار الرئيس السابق علي عبد الله صالح، ووقف وقاتل إلى جانب نظام الأسد والميليشيات المحلية والوافدة التي تقاتل إلى جانبه.

إن تجارب الثمانينات والتسعينات في خلق ودعم جماعات وميليشيات مقربة من إيران برعاية الحرس الثوري، كانت في جملة حوافز دوافع نحو توليد نماذج تقارب الحرس الثوري أو تماثله في بعض البلدان، وهو ما يجري القيام به على نطاق واسع في العراق وسوريا في الأعوام الأخيرة، وبرعاية مباشرة من قاسم سليماني قائد فيلق القدس، المسؤول عن السياسات الإقليمية في الحرس الثوري. ففي العراق استطاع الحرس الثوري إضعاف مرجعية النجف وتهميشها لصالح المرجعية الشيعية الإيرانية، ووضعها وتنظيماتها في خريطة النفوذ الإيراني، قبل أن يحقق نقلته الأخيرة في تشكيل الحشد الشيعي الذي بات في بعض جوانبه قريباً من تجربة الحرس الثوري الإيراني، وقد يكون نواة لمشروع حرس ثوري في العراق على نحو ما كشف القائد السابق للحرس محسن رفيق دوست في عام 2016. وتؤكد تطورات الأعوام الماضية، وخصوصاً في نقطتين؛ أولاهما الحرب على «داعش»، وثانيهما الحرب ضد الأكراد مقدار تفاعل الحشد الشعبي مع السياسة الإيرانية في العراق، وتحوله مباشرة إلى ذراع لها.

ومما لا شك فيه، أن سوريا كانت الساحة الأكثر أهمية في نشاط الحرس الثوري في السنوات الأخيرة؛ إذ لم يقتصر دوره فيها على إرسال قوات من فيلق القدس فحسب، إنما نظم مجيء الميليشيات، التي يرعاها ويدعمها من «حزب الله» اللبناني إلى ميليشيا «زينبيون» الباكستانية وشقيقتها «فاطميون» الأفغانية، إضافة إلى ميليشيات عراقية أبرزها أبو الفضل العباس، وجميعها تقاتل تحت لواء «فيلق القدس» بقيادة قاسم سليماني الذي وسع حدود نشاط فيلقه في اتجاهات عدة بينها الإشراف على تشكيل «حزب الله» السوري الذي يتخذ من المنطقة الجنوبية قاعدة له، ودعم الميليشيات التابعة لنظام الأسد ولا سيما قوات الدفاع الوطني، وإنشاء شبكة علاقات مع أركان النظام في المستويات السياسية والعسكرية والأمنية والاقتصادية، إضافة إلى تشييع السكان السنة في المناطق التي يسيطر عليها النظام في إطار المساعي المتواصلة لتوفير حاضنة اجتماعية لنفوذ إيران في سوريا.

لقد أحكمت إيران، على نحو ما فعلت في العراق، قبضتها على نظام الأسد وشددتها في السنوات الست الماضية. وكان الحرس الثوري أداتها الرئيسية في مساعيها عبر عملية معقدة ومتشابكة، كانت واجهتها عسكرية - أمنية، لكنها في الخلفية سياسية اقتصادية واجتماعية وثقافية، تجاوزت في استهدافها النظام وأجهزته إلى المجتمع الواقع تحت سيطرة النظام.

اقرأ المزيد
١٧ نوفمبر ٢٠١٧
سفراء الخراب الإيراني

إيران بلد أزمات. هي لا تملك شيئا تصدره إلى العالم الخارجي سوى الأزمات. علاقاتها بالعالم الخارجي لا تقوم على أساس المصالح المشتركة، بل على أساس الأزمات التي يمكن استخراجها بطريقة مشتركة.

فما ينسجم مع توجهات نظامها السياسي العقائدي أن لا تكون الحياة على كوكب الأرض خالية من الأزمات العبثية والمجانية الفتاكة التي تقود إلى الموت الرخيص. لم تضع إيران يدها على مكان إلا وحل فيه الخراب وعصفت به الكوارث.

يتباهى كبار سياسييها بأن لهم أذرعا في أنحاء عديدة من العالم العربي، وأن نفوذهم وصل إلى البحر المتوسط والبحر الأحمر وأن هناك أربع عواصم عربية صارت في قبضتهم. شيء من هذا الكلام المؤلم صحيح.

فإيران التي فشلت في بسط سيادتها على الخليج العربي، وهو حلمها القديم أيام إمبراطورية الشاه المتغطرس، نجحت اليوم في اختراق عدد من البلدان العربية من خلال الجماعات الموالية العميلة لها، ساعدتها في ذلك حالة الفوضى التي يعيشها العالم العربي بدءا من حرب الخليج الأولى يوم احتل العراق الكويت عام 1990، وانتهاء بحرب سوريا التي بدأت عام 2011 وساهمت إيران في إذكاء نارها لتستمر حتى يومنا هذا.

تمكن الإيرانيون من الهيمنة على العراق عن طريق الأحزاب والميليشيات الدينية الموالية لهم والتي تأتمر بأوامرهم. استطاعوا أن يهيمنوا على الحياة السياسية ويضعفوا الثقة بالنظام السياسي في لبنان عن طريق حزب الله الذي هو صنيعتهم، وفي اليمن كان الحوثيون عبارة عن دمى تحركها أصابع طهران متى تشاء.

أما في سوريا فلم يجد الإيرانيون لهم منفذا إلا حين تخلى عنها العرب وعزفوا عن مساعدتها في محاولتها الخروج من مأزقها السياسي.

كل بلد من البلدان الأربعة هو حاضنة أزمات. لذلك كان من اليسير على إيران أن تتسلل بخفة إليه. ولو أن النظام السياسي العربي التفت إلى الخطر الذي يشكله وجود جماعات موالية لإيران في وقت مبكر لما كنا اليوم نسمع زعيق سفراء الخراب الإيراني من أمثال حسن نصرالله وعبدالملك الحوثي ونوري المالكي.

فخر إيران، في حقيقته، يكمن في شعورها بأنها استطاعت أن تحطم أربع دول عربية وهي تشعر بالضيق لأنها لم تلحق البحرين بقائمة الدول العربية المنكوبة، بعد أن تمكنت حكومة البحرين بمساعدة دول مجلس التعاون الخليجي من وأد الفتنة في جحرها.

ولقد أثبتت التجربة البحرينية أن التعامل بحزم وصرامة وبلغة القانون هو الوسيلة الوحيدة لحرمان إيران من تنصيب سفراء خرابها في المنطقة. فالأمر لا يتعلق بالديمقراطية وحرية التعبير والاختلاف والتنوع، بل بجريمة يمكن أن تتسع لتبتلع البلاد كلها.

فبماذا انتفع العراق بسقوط النظام الدكتاتوري السابق؟ إلى أين انتهت الحرية باللبنانيين؟ ما الذي جناه اليمنيون من سقوط نظام علي عبدالله صالح؟ وأي درس ذلك الذي استخلصه السوريون من عجزهم عن إقامة جسور للحوار الوطني في ما بينهم؟

ليس هناك سوى الخراب الإيراني الذي صار سفراؤه يغردون على هواهم باعتبارهم أبطالا. كلما فتح واحد من أولئك السفراء فمه صرنا نتعرف على صوت النظام الإيراني، فهم عبارة عن ماكينات محشوة بتعاليم الولي الفقيه.

حسن نصرالله الذي نصبوه بطلا على جزء من اللبنانيين بعد حرب عام 2000 ما هو إلا واحد من خدم الولي الفقيه الذي لا يمكن أن ينظر إلى العرب إلا بعين الكراهية. إنه خادم صغير لم يتم استبداله إلا لأنه لا يترك مناسبة إلا ويعبر من خلالها عن طاعته لولي نعمته. لم يتمكن الإيرانيون من تدمير جزء من العالم العربي إلا من خلال عملائهم في المنطقة. بيادق إيران أكثر خطرا منها.

اقرأ المزيد
١٦ نوفمبر ٢٠١٧
رهان خاسر على النظام السوري

لا يُؤمن جانب النظام السوري أبداً، قلنا ذلك مراراً إلى منتسبي حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي في سورية (بي يي دي)، وزدنا على ذلك: "رهانكم خاسر، لأنكم، مهما قدمتم من خدمات لهذا النظام ضد الثورة السورية والسوريين، فإنه سيلتفت إليكم، ويسحقكم في أول فرصةٍ تسنح له، ولن يسمح لكم بإقامة دويلةٍ أو كانتونات (إدارة ذاتية) في الجزيرة السورية، أو في سواها من الشمال السوري، وستدعمه في ذلك مليشيات نظام الملالي الإيراني، بل وحتى الروس الذين يريدون استمالتكم إلى طرفهم. وإن كنتم تعتقدون أن الأميركيين سيحموكم إن هاجمتكم قوات النظام، فرهانكم خاسر كذلك"، لكن أعضاء الفرع السوري لحزب العمال الكردستاني في تركيا (بي كا كا) لم يُصغوا لأحدٍ ناصح لهم، بل أمعنوا في الافتراق عن ثورة السوريين، وراحوا ينسقون مع النظام، واعتقدوا أنفسهم أذكياء، حين وضعوا مقاتلي فرعهم العسكري "وحدات الحماية" تحت أوامر عسكر الولايات المتحدة الأميركية، الذين استخدموهم بنادق مأجورة في حربهم ضد تنظيم الدولة الإسلامية (داعش).

واللافت أنه، قبل أيام قليلة، وقبل أن تنتهي معارك السيطرة على قرى ريف دير الزور وبلداته، ويستكمل الروس والمليشيات الإيرانية ومليشيات النظام سيطرتهم على بلدة البوكمال، خرج رأس النظام من الجحر الذي كان يختبئ فيه، ليتوعد مليشيات ما تسمى "قوات سورية الديمقراطية" بأن حربه ستستهدف الذين يسعون إلى "تقسيم الدول وإضعافها". ولم يقوَ على مثل هذا الكلام إلا حين التقى مع علي أكبر ولايتي، كبير مستشاري مرشد نظام الملالي علي خامنئي، حيث سبق وأن تحدّث الأخير علناً من بيروت عن اقتراب معركة "تحرير الرقة"، وأن قوات النظام، وبدعم من مليشيا نظام الملالي، ستتقدم قريباً لانتزاع مدينة الرقة من "قوات سورية الديمقراطية" المنتشرة في مناطق شرق نهر الفرات، الأمر الذي ينذر بأن صراع تقاسم النفوذ في سورية ما بين الروس والإيرانيين والأميركيين وسواهم لم يكتمل بعد. وبالتالي، ستواصل هذه الدول الخائضة في الدم السوري الإمعان في التنافس على تركة "داعش" على حساب دم السوريين، وخراب ما تبقى من مدنهم وبلداتهم وقراهم.

لم يخف نظام الملالي مخططاته في الهيمنة والسيطرة على كل سورية، بل يطمح إلى أبعد من السيطرة على الرقة، حيث تشكل إدلب عنواناً مؤجلاً في سعيهم إلى القضاء على المعارضة السورية، ومؤشراً على أن الصراع في سورية لم يكتمل بعد، لكنهم يريدون من جعل السيطرة على مدينة الرقة محطة جديدة في الصراع مع الولايات المتحدة خارج حدود إيران.

ويبدو أن الفرع السوري لحزب "بي كا كا" لم يتعظ من درس إقليم كردستان العراق، حيث خاض ملالي إيران، عبر مليشيات عراقية تابعة لها وبإشراف قاسم سليماني، معركة إحباط استقلال الإقليم، مستفيدين من تلاقي المصالح بينهم وبين الأتراك، وفي ظل تخلي الولايات المتحدة عن حلفائها في إقليم كردستان العراق.
قد يراهن منتسبو حزب "بي يي دي" على تعاونهم مع مليشيات نظام الأسد منذ بداية الثورة، وتقديمهم خدمات كثيرة، حين قاموا بإرهاب الناشطين الكرد والعرب وسواهم في مناطق الشمال السوري، واتبعوا أساليب قمع عنيفة ضد جموع المحتجين المناهضين حكم آل الأسد، وحلوا محل شبيحة النظام وأجهزته الأمنية القمعية، في مقابل سماح النظام لمليشيات "وحدات الحماية" بالسيطرة على كل مناطق الشمال السوري، بل وتوسعت هذه السيطرة، لتشمل كل المناطق التي يوجد فيها الكرد والعرب والتركمان والآشوريون والسريان وسواهم، بالتنسيق مع نظام الأسد وأجهزته، وقامت المليشيات منذ عام 2014 بتقسيمها إلى ثلاثة كانتونات، وكوباني (عين العرب) وعفرين، وأرست هذه المليشيات دعائم ما يشبه دويلة، وشكلت فيها "مجلس شعب غربي كردستان"، وشكّلت أيضاً شرطة معروفة باسم "أساييش"، لعبت دوراً كبيراً في ملاحقة الناشطين الأكراد المختلفين مع ما يطرحه الحزب وتوجهاته، وممارساته التي تمخضت أيضاً عن حكومة ودستور ونظام تعليمي خاص بأجندته وتوجهاته الأوجلانية (نسبة للزعيم عبد الله أوجلان).

هذا الرهان خاسر، في نهاية الأمر، لأن معطيات الصراع في سورية ما بين الدول الخائضة في دم السوريين تفيد بأن كل ما قام به الفرع السوري لحزب العمال الكردستاني مهدد بالزوال، ولعل تكرار أي سيناريو مختلف، أو مشابه لما حدث لإقليم كردستان أخيرا، سيحبط مشروع حزب "بي يي دي"، على الرغم من اختلاف الواقع والمعطى في مناطق شمالي سورية، واختلاف تعقيد الوضع فيها.

ويراهن نظام الملالي الإيراني في سعيه إلى السيطرة على مدينة الرقة على الخلافات ما بين الساسة الروس والأميركيين في صراعهما على تقاسم تركة "داعش"، إضافة إلى رهانه على حليفه الروسي الذي دعم تمدد المليشيات الإيرانية، ونهشها ما تبقى من الجسد السوري خلال كل سنوات الحرب في سورية. لذلك، يرفع نظام الملالي نبرة أصواته في أيامنا هذه، بغية الدخول في مساومة مع الأميركيين حول الرقة وما بعدها، خصوصا وأن الروس يريدون استثمار وجودهم العسكري الاحتلالي في سورية، ولا ترضيهم سيطرة الأميركيين والمليشيات المتحالفة معها على مناطق النفط والغاز، الأمر الذي ينذر بأن مرحلة جديدة من الصراع على سورية ستبدأ.

اقرأ المزيد
١٦ نوفمبر ٢٠١٧
مقايضات بوتين السورية

غدت سورية، على ما يبدو، العقدة الأكثر تناولا في لقاءات الرئيسين، الروسي فلاديمير بوتين والأميركي دونالد ترامب. فأينما حل الرجلان، أو اجتمعا تحت مظلة دولية معينة، (طالما أن قمة بينهما باتت غير واردة مع تنامي الأدلة على تدخل روسيا في الانتخابات الرئاسية الأميركية) يخرج من جعبتيهما اتفاق بشأن سورية. وهذا لافت للانتباه، بمقدار ما يحتاج إلى تفسير. ففي الثامن من شهر يوليو/ تموز الماضي، توصل الرئيسان خلال قمة الاقتصادات العشرين الكبرى إلى اتفاق هامبورغ الذي أخرج منطقة جنوب سورية الغربي من اتفاقات خفض التصعيد التي أقرت في أستانة مطلع مايو/ أيار الماضي، ونص على وقف إطلاق النار، ونشر قوات من الشرطة العسكرية الروسية، وإبعاد المليشيات التابعة لإيران من المنطقة. وعلى هامش قمة دول آسيا والمحيط الهادئ (ابيك) في فيتنام، يوم 11 نوفمبر/ تشرين الثاني الجاري، توصل الرئيسان إلى بيان مشترك بشأن كيفية المضي في إدارة الصراع في سورية، بعد انتهاء الحرب على تنظيم الدولة الإسلامية.

وفيما بدا أن الاتفاق الأخير يؤسس لمرحلة تقاسم نفوذ بين القوتين الكبريين، لأنه ينظم الوجود العسكري الروسي والأميركي على ضفتي نهر الفرات، ويمنع حصول احتكاكٍ بين وكلائهما المحليين على الأرض، فالواضح أن جوهر اتفاقات هامبورغ في ألمانيا ودا نانغ في فيتنام (أقر تفاهم عمّان الثلاثي بخفض التصعيد في الجنوب السوري) هو التعاطي مع الوجود الإيراني في سورية، والذي بدأ يتحول بعد هزيمة "داعش" إلى العقدة الرئيسة في المسألة السورية.

وبعد أن فشلوا في احتواء إيران، ومنعها من السيطرة على الجزء الأكبر من البادية السورية، وبلوغ مدينة البوكمال التي تمثل نقطة تلاقي نفوذها في سورية والعراق، عبر عنها بجلاء التقاء مليشيات إيران على طرفي الحدود بين البلدين، بات الأميركيون يعوّلون على الروس، للقيام بهذه المهمة، لأن البديل، كما تروج واشنطن، هو انتقال الصراع الإسرائيلي- الإيراني منخفض المستوى حاليا في سورية إلى مواجهة مفتوحة، تضع روسيا أمام اختبارٍ صعب، يفرضه صدام بين "صديقين" لها هما إيران وإسرائيل التي ذكّرنا مسؤول روسي، أخيرا، بأهمية الحفاظ على أمنها، من باب أنه يعيش فيها مليون مواطن يحملون الجنسية الروسية.

كانت روسيا قد وافقت في اتفاق هامبورغ على إنشاء منطقة عازلة بعمق يتراوح بين 40 - 50 كلم، تديرها بنفسها لمنع أي احتكاكٍ بين "صديقيها" في الجنوب السوري، وهو ما عاد وأكد عليه تفاهم عمّان أخيرا، بحسب مسؤول أميركي، قال إن الاتفاق "ينص على جلاء جميع القوات الأجنبية عن جنوب غربي سورية، بما فيها القوات الإيرانية والفصائل المسلحة التابعة لها، ... وبقاء المنطقة تحت سيطرة فصائل المعارضة، حتى إتمام التسوية السياسية". وعلى الرغم من أن موسكو عادت وتبرأت من هذا "التأويل" للاتفاق، فليس هناك مجال للشك في أن للروس مصلحة حقيقية في إخراج إيران وأدواتها من سورية، بعد أن انتهت الحرب فيها، كما رأى أمين عام حزب الله أخيراً. لكن روسيا تريد خروج القوات الأميركية المتمركزة شرق سورية أيضاً. ويبدو أن موسكو بدأت تطرح هذه المقايضة على الطرفين، الأميركي والإيراني، بحيث تخلو لها الساحة السورية تماما. لذلك، يبدو من المهم الربط بين بيان دا نانغ والزيارة الخاطفة التي قام بها الرئيس بوتين إلى طهران مطلع الشهر الجاري، وشاع حينها أنها جاءت لطمأنة الإيرانيين بعد زيارة ملك السعودية موسكو. طبعاً من الصعب أن يفهم المرء كيف يمكن أن يتكبّد رئيس روسي عناء زيارة طهران لشرح أسباب استقباله رئيس دولة أخرى. ذهب بوتين إلى هناك، لاستمزاج رأي المرشد في فكرة مقايضة الانسحاب الإيراني بالانسحاب الأميركي قبل لقائه المرتقب مع ترامب في دا نانغ.

هل تقبل طهران بهذه المقايضة التي لمّح إليها أمين عام حزب الله، حسن نصرالله؟ لا يبدو هذا واضحاً على الرغم من أن الوجود العسكري الأميركي شرق سورية يهدّد النفوذ الإيراني في العراق. هل تقبل واشنطن بهذه المقايضة، للحد من النفوذ الإيراني، على الرغم من أن وجودها العسكري شرق سورية يؤمن لها تمركزاً جيو- استراتيجيا بين قوى الإقليم الكبرى؟ لا يبدو هذا واضحا أيضاً، الشيء الوحيد الواضح الآن أن الصراع على سورية لم يبلغ بعد نهايته، ولن يبلغها إلا بخروج كل القوات الأجنبية منها.

اقرأ المزيد
١٦ نوفمبر ٢٠١٧
هل سينجح الغرب في معاقبة الأسد؟

فوّت الغرب فرصة ذهبية لمعاقبة بشار الأسد، بعد إثبات جريمته ضرب الغوطة الشرقية بسلاح كيميائي في أغسطس/ آب عام 2013، قُتل فيها وتضرّر الآلاف وهم نيام، ومعظمهم أطفال ونساء. اكتفى يومها الرئيس الأميركي الفاشل، باراك أوباما، بإيحاء من روسيا، بسحب سلاح الجريمة، وهو السلاح الكيميائي (لم يتم تطبيق القرار الأممي الذي وافقت عليه روسيا، ولم يتم انتزاع كامل هذا السلاح). حينها تركوا المجرم يسرح ويمرح، بل أطالوا في عمره، واستمر وغيره في قتل السوريين.

واليوم، تنشّط الموقف الغربي من جديد، والذي انعكس في تصريح المندوب البريطاني، ماثيو رايكروفت، في مجلس الأمن: "نبحث في كيفية متابعة العمل بناء على تقرير لجنة التحقيق (الكيميائي) مع زملائنا في مجلس الأمن، ويجب أن نصدر قراراً تحت الفصل السابع، تنفيذاً لما كنا اتفقنا عليه" في القرار 2118 الذي صدر بموافقة روسية عام 2013، بعد هجوم الغوطة". وكانت تصريحاتٍ لمسؤولين أميركيين، بمن فيهم الرئيس دونالد ترامب، ووزير خارجيته، ريكس تيلرسون، قد تحدثت عن قرب انتهاء حكم عائلة الاسد في سورية، وأخرى عن معاقبة الأسد على استخدامه الكيميائي ضد الشعب السوري، وخصوصا في خان شيخون، بالتزامن مع دفاع روسي مستميت عن حليفهم المجرم. ويعكس ذلك كله المتغيرات الدولية والإقليمية والمحلية في المجالين، السياسي والعسكري.

ومن جانب آخر، يغرّد المبعوث الأممي، ستيفان دي ميستورا، بشأن عقد جولة جديدة من مفاوضات جنيف في نهاية نوفمبر/ تشرين الثاني الجاري. ولكن بعد أن اقترب الفيلم الداعشي (الهوليودي) المرعب من نهايته في سورية والعراق، ستبدأ فصول جديدة من مسرحية الصراع ضد الإرهاب في سورية، وستنفجر صراعاتٌ جديدة في المنطقة. ومع اقتراب العملية السياسية في سورية التي يؤيدها الجميع، على الرغم من أن كل واحد يفهمها على طريقته، سيتبيّن الخيط الأبيض من الأسود، وتتضح حقيقة التحالفات الميدانية والسياسية، والتي بعضها مزيف وغير مبدئي وغير استراتيجي.

يدور اليوم الصراع بشان إعمار سورية الذي يحتاج أكثر من مائتي مليار دولار. وإن لم يتم الاتفاق على حكم سياسي ينشئ استقراراً في سورية، فلن يغامر رجل أعمالٍ عاقلٌ واحد من الخليج أو أوروبا أو أميركا للاستثمار في سورية. والكل يتسابق ويتصارع على تقاسم الكعكة السورية، وفي طليعتهم أميركا وروسيا. وليس مصادفة أن تعلن الولايات المتحدة عن تحرير مدينة الرّقة تحت إشرافها. والآن تعلن أكبر الدول الغربية، وهي ألمانيا وفرنسا وبريطانيا، دعمها الجهود الأميركية واستعدادها للمشاركة في إعادة إعمار الرّقة، فما هي أبعاد هذه الخطوات الغربية المعلنة في أعقاب تحرير الرقة، وطرد "داعش" منها؟

يجب الانتباه إلى تصريحات المسؤولين الأميركان بشأن إعادة إعمار الرّقة، فهي رسالة إلى العالم، ويقصدون روسيا والنظام قبل كل شيء، فالأميركان يقولون إنهم يريدون إعادة إعمار ما دمّره مسلحو تنظيم داعش الإرهابي (ساهموا هم أنفسهم في تدمير الرّقة، ومعهم قوات سورية الديمقراطية "قسد" الملتبسة الأدوار)، ورسالتهم أنهم سينجزون مهمتهم حتى النهاية: حرّروا مدينة الرّقة عاصمة "داعش"، وسنعيدها إلى أحسن ما كانت عليه.

والأخطر في التصريح الأميركي بشأن إعادة إعمار الرّقة أنه رسالة موجهة إلى روسيا، تفيد بأن الدول الغربية موجودة في سورية، وستبقى من خلال إعادة الإعمار، كما هم باقون في العراق (حيث اختفى دور الروس في تحرير العراق من "داعش"). وهناك مفادٌ خطير في هذا التصريح، يوحي بإمكانية تقسيم سورية، ففي اختيار الغرب إعادة إعمار الرّقة (عاصمة داعش سابقاً) رسالة محرجة لروسيا، لكي تحذو حذوهم، وتبدأ إعادة إعمار مناطق أخرى. ولكن روسيا نفسها بحاجةٍ لأموال استثمارية، تساعد في تعزيز قوتها الاقتصادية والعسكرية، خصوصا بعد العقوبات الغربية المتجدّدة منذ 2013 ضد أهم المؤسسات الحكومية والنفطية والعسكرية الروسية، والتي تنعكس على القدرة الشرائية للمواطنين الروس، وعلى مستواهم المعيشي.

وقد تدفع التصريحات الغربية بشأن تحرير الرّقة وإعادة إعمارها، وكذلك الضغوط الدولية في مجلس الأمن، وخصوصا استخدام الفصل السابع لمعاقبة الأسد على جرائمه الكيميائية، وتورّط الروس في الدفاع عنه، وتبرئة ذمته، قد يدفع ذلك كله الروس إلى القبول بتقسيم سورية، وتقول الفرضية هنا إن الروس هم أول من سيؤيد التقسيم خيارا حتميا أمامهم، للحفاظ على مصالحهم وبقائهم الطويل في سورية.

وفي الوقت نفسه، تسعى روسيا، بشكل حثيث، إلى فعل شيء في المجال السياسي، لأنها مُقْدِمة على انتخابات رئاسية في مارس/ آذار المقبل، وكذلك تنظيم بطولة كأس العالم في كرة القدم في الصيف، لأن التدخل العسكري الروسي في سورية كلّف الروس كثيراً (تقدر قوى المعارضة الروسية تكاليفه بحوالي خمسة مليارات دولار) . كما أن روسيا تحتاج أموالا كبيرة، تحمي اقتصادها من ازدياد التضخّم، وتبعد شبح عدم الاستقرار السياسي والاقتصادي الداخلي، المتزامن مع ضغوط خارجية أميركية هائلة. وبشأن الأميركان، فهم الآن يفصحون عن رغبتهم في استمرار البقاء في سورية والعراق والمنطقة، بعكس ما أشاع كثيرون أن الولايات المتحدة تخلت عن الشرق الأوسط.

المشهد المقبل معقد بسبب وجود إيران والرغبة الأميركية بمحاربتها في كل مكان، والمتمنى أن يصدق المسؤولون الغربيون في قولهم بشأن إنهاء حكم عائلة الأسد، وهم قادرون على ذلك. وعندها ستكون روسيا أمام خيارين: أن تضطر لرفض الخيار الغربي بإزاحة الأسد، وإجراء تغيير سياسي معين، لا يضمن هيمنة الروس على النظام في سورية. عندها ستختار روسيا التقسيم خيارا حتميا، وسيقيم الروس مع حليفهم المجرم الفاشل بشار الأسد دويلة في سورية المفيدة. أو أن تقبل روسيا بالخيار الثاني، وهو إزاحة الأسد، لكي تحل مشكلة عويصة تجابهها، وهي توفير مئات مليارات الدولارات لإعادة إعمار سورية. وهناك تصريحات عربية (خليجية) وأوروبية بأن أحداً منهم لن يساهم بدولار واحد، ما لم يتم تغيير سياسي في سورية، وهذا يعني حتمية تغيير الأسد، الذي لا يمكن، بوجوده، البدء بعمل سياسي حقيقي.

وللأسف، يعمل الروس بعقلية النظام السوري نفسها، أي بطريقة مخابراتية، يعتقدون أن لملمة "مؤتمر شعوب سورية" الذي أعلن عنه الرئيس بوتين أخيرا، وقام مسؤولون عسكريون وسياسيون روس بجهود حثيثة في داخل سورية وخارجه لعقده في 7 نوفمبر/ تشرين الثاني الجاري، قبل إعلان تأجيله، يعتقدون أنه يمهد لعملية سياسية، لكن هذا المؤتمر الذي سيجري من أجله استدعاء شخصيات لها صفة عشائرية أو دينية أو قومية وقوى سياسية كلها لا تساوي شيئاً على أرض الواقع، سوى أنها مقرّبة من المخابرات السورية.

يريد الروس من السوريين العودة إلى المربع ما قبل الأول، فإن كان الحديث يدور حول حكومة وحدة وطنية، تشارك فيها المعارضة بدون أي صلاحيات، بسبب هيمنة المخابرات والأسد الذي يجب تقديمه إلى محكمة العدل الدولية، فلن يتغير شيء في سورية سوى الشكليات والشعارات التي ستعمل على إيهام السوريين والعالم بأن تغييراً ما قد حدث في سورية. وقد قام النظام، منذ بداية الثورة عام 2011، بعدة خطواتٍ، أراد إيهام العالم بأنه يقبل الحوار، ويريد حلاً سياسياً، وأدخل شخصيات محسوبة شكلياً على المعارضة في تشكيلة الحكومة. لكن الأيام أثبتت بسرعة خداع تلك الخطوات، وأنها لا يمكن أن تمس جوهر سلطة المخابرات، ومعها المحتلون.

يتم هذا المسعى الروسي، بالطبع، على غير ما خرج السوريون من أجله، في بداية الثورة، أي الحرية من قبضة الأجهزة الأمنية الأسدية، والكرامة بعد مرحلة عقود من الذل والإهانات، طاولت حتى أبسط الأمور في الحياة الشخصية للسوريين. والآن، يواجه السوريون اليوم مصيرا غامضا، لأن القوى الأخرى غير السورية، بكل أسمائها، هي التي تتحكّم بمصيرهم، في وقت تنطلق تلك القوى من مصالحها وأجنداتها الخاصة التي لها أولوية مطلقة على مصلحة سورية الموحدة والحرة والآمنة والمستقرة، في دولةٍ ليست ملكا لشخص أو عائلة أو فئة، بل دولة مواطنة، تبنى فيها مؤسسات وطنية، تخدم جميع السوريين.

اقرأ المزيد
١٦ نوفمبر ٢٠١٧
مؤتمر "الشعوب السورية" والاحتيال الدولي على السوريين

(1)
وسط الدمار والفوضى، وعلى أنقاض سورية المنهكة بفعل الآلة الحربية الروسية وجيوش المرتزقة الذين صدّرتهم إيران من دول الولي الفقيه، والقنابل الموقوتة والأوبئة المتمثلة بالمقاتلين الأجانب الذين دفعت بهم أجهزة مخابرات عديدة للتخلص من عبء وجودهم في ضواحي أوروبا لتصدّرهم إلى سورية، حيث انتهاك حقوق الإنسان وارتكاب الجرائم يمكن تبريره وتجاهله، طالما كان تحت عنوان محاربة "الإرهاب"، وعلى وقع النقض (الفيتو) الروسي التاسع في مجلس الأمن الدولي، هذه المرة ضد استمرار آلية التحقيق في جرائم استعمال النظام السلاح الكيميائي ضد أبناء الشعب السوري، ما يمثل أقذر أشكال الاصطفاف إلى جانب منظومة الإجرام في دمشق، وفي اغتصاب فاضح لكل قيم حقوق الإنسان...، على وقع ذلك كله، دعت الحكومة الروسية إلى مؤتمر "الشعوب السورية"، بعد أن تمكّنت من لي ذراع الثورة العسكري ومحاصرته، عبر اتفاق تخفيض التصعيد، مستفيدة من الوضع الدولي، وتراجع دولٍ كثيرة عن موقفها الداعم للثورة السورية، وتحولات في سياسة دول كانت تتبنّى، بشكل مطلق، دعم التغيير الديمقراطي في سورية، إضافة إلى الأزمة الخليجية التي بات الشعب السوري من أكثر الشعوب العربية تضرّراً من الاستقطاب الناجم عنها.

(2)
استفادت روسيا من التراجع الأميركي في المنطقة منذ عام 2013، والذي ساهم بدفع دول داعمة الثورة السورية إلى السعي إلى التفاهم مع روسيا، باعتبارها المؤثر الأكبر (والوحيد في نظر بعضهم) في حل المعضلة السورية، بعد أن كانت هذه الدول أعلنت استعدادها للاستمرار في دعم الثوار في مواجهتهم المفتوحة مع الاحتلالين، الإيراني والروسي، وهو ما يشكل، في نظر الروس، انتصاراً استراتيجياً مقابل النفوذ الأميركي المتراجع في المنطقة.

على الرغم من أن الروس يعلمون تماماً أنه لم تكن أي دولة قد حسمت موقفها جدياً بإيقاف التغوّل والإجرام الروسي في سورية، لكنها شكلت فرصة للتظاهر، كما لو أنهم ينتصرون على العالم كله في سورية، وهو ما يتماهى، بشكل مطلق، مع كاريزما الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، وخطابه، الأمر الذي أسس للاعتقاد الروسي بالنجاح في ترسيخ تقسيم سورية لمناطق نفوذ، الجزء الأكبر منها خاضع للإرادة الروسية بشكل مطلق، أو أنها دخلت في تفاهماتٍ مع روسيا "تحت طائلة الحرق و التدمير" بعد محادثات أستانة، كما هو حال المناطق المحرّرة الخاضعة لسيطرة الثوار، أو كما هو حال الرقة ودير الزور، بعد التفاهم الأميركي الروسي، والذي تمثل في إبعاد الجيش السوري الحر من البادية، وسيطرة النظام على أجزاء واسعة من دير الزور، والتصريح الإيراني باقتراب عملية مشتركة لجيش النظام وحلفائه على الرقة.

ويبدو جلياً أن روسيا ليست مستعدةً، أو جاهزة للتخلي عن بشار الأسد، على الأقل في المرحلة الراهنة، باعتباره أبرز مظاهر نفوذها وانتصارها. كيف لا وهي تستطيع الإتيان به إلى موسكو بأحد طائرات الشحن الروسية التي تنقل بواسطتها الطعام والفودكا إلى مقاتليها في حميميم، وهو ضمانة لتعزيز نفوذها، وتثبيت موقعها مقرّراً لشكل الحل في سورية. ومن أجل شرعنة النفوذ والوصاية الروسية، تسعى موسكو إلى الانقلاب على مسار جنيف، وصياغة الإطار الملزم للحل الذي ربما ينجم عن مسار جنيف، بعد أن باتت دول كثيرة مؤثرة تسلّم للرؤية الروسية للحل في سورية.

(3)
مؤتمر "الشعوب السورية" الذي كان مقرّراً في قاعدة الاحتلال الروسي العسكرية حميميم، تم تقرّر عقده في سوتشي الروسية، منعاً لإحراج الراغبين بالمشاركة، مثل معارضة المصادفة، أو من تم احتواء إرادتهم من قادة الفصائل، وأصبحوا بشكل مطلق مقيدين برغبات الجهات الداعمة.

وقد صرح مسؤول روسي في الجلسة الأولى من المفاوضات بين وفد الفصائل العسكرية الأول مع وفد الكرملين الروسي، عن رؤية بلاده لهذا المؤتمر، وهي تتمحور حول دعوة وجهاء المجتمع السوري من مختلف الطوائف وأبناء العائلات السورية العريقة وممثلي الطوائف والأعراق والقوميات المختلفة التي يتكون منها الشعب السوري، وأيضاً ممثلين عن النظام والمعارضة. ويكون الهدف الرئيس للمؤتمر هو النظر في شكل النظام السياسي لسورية، وانتخاب لجنة تأسيسية تصوغ دستوراً انتقالياً تتم بالاستناد إليه عملية انتخاب تحت إشراف دولي، حيث تتعهد روسيا والدول المشرفة على هذه الانتخابات بتطبيق نتائج الانتخابات، والتزام الجميع بها، ولن تمانع حينها روسيا، بحسب المسؤول الروسي، في رحيل الأسد بهذه الطريقة. وتحقق هذه الرؤية لروسيا مزيداً من تفتيت المعارضة السورية، كما أن بحث المؤتمر شكل النظام السياسي في سورية سيشكل الضربة القاضية للهيئة العليا للمفاوضات، لما يؤسس له بحث هذا المحور من استقطاب حاد، مستفيدة موسكو من تربص بعض الدول، وحتى تيارات منسوبة للمعارضة، بالهيئة العليا، كما سيحقق لموسكو ما سعت إليه في جنيف وأستانة، والذي يتمثل في تقديم بحث مسألة الدستور على الانتقال السياسي.

كما أن تقديم مسألة الدستور على الانتقال السياسي، والانخراط في بحث الدستور، سيحقق تجاوزاً كلياً لفكرة الانتقال السياسي باعتباره أهم خطوات الحل في سورية، لما سينتج عن بحث مسألة الدستور قبل تحقيق العدالة من صراعاتٍ قومية وطائفية وبدعم روسي إيراني، ليظهر الأسد في موقع الحل الأمثل لتجاوز صراع الطوائف والقوميات وحله.

يعد المؤتمر، وفق رؤية موسكو، الجزء الأهم من الاستراتيجية الروسية لتفتيت القرارات الدولية الناظمة للحل السياسي للقضية السورية، وفي مقدمتها بيان جنيف وقرار مجلس الأمن 2245، والتأسيس لعقبات إضافية أمام تحقيق مسار جنيف أي تقدّم، وحصر تحقيقه نتائج ملموسة بالرغبة الروسية.

تمرّ عملية التفتيت الروسية للقرارات الدولية عبر انفراد روسيا بتحديد زمان (ومكان) بحث أكثر البنود التي تهدد بقاء الأسد في السلطة، والواردة في تلك القرارات، بشكلٍ يمهد لتجاوز إنفاذ تلك البنود، وفق السياق القانوني والتراتبية المنصوص عليها، وهذا يتجلى في الفقرة 9 البند أ من بيان جنيف، وهو ينص على تشكيل هيئة حكم انتقالي، وينص في الفقرة ب على عقد مؤتمر الحوار الوطني الذي ستكون نتائجه ملزمةً، لإعادة النظر بشكل النظام الدستوري في سورية، حسب الفقرة ج من المادة نفسها.

اختارت روسيا التي تستبق بحث الجولة المقبلة من مفاوضات جنيف الدستور والانتخابات، وطرح مبعوث الأمم المتحدة، ستيفان دي ميستورا، رؤيته عن الحوار الوطني، توقيت المؤتمر بعناية، بحيث تنسجم الرؤية الروسية لمؤتمرها "للشعوب السورية" مع المناخ الذي يحيط بالجولة القادمة من مفاوضات جنيف، بحسب حديث دي ميستورا أن الجولة الثامنة من جنيف ستكون لبحث الدستور والانتخابات. وتنسجم هذه الرؤية مع مناخ التحولات في سياسة عدد من الدول المتراجعة عن دعم كفاح السوريين لإسقاط نظام الاستبداد في دمشق، ولم يعد يشكل فرقاً كبيراً لدى هذه الدول أن يبحث الدستور والانتخابات في سوتشي أم في جنيف أو حتى في موسكو نفسها.

الأهم بالنسبة لموسكو في قضية توقيت مؤتمر "الشعوب السورية"، هو مؤتمر الرياض 2، ومحاولة التأثير على مجرياته من خلال محاصرة من سيجتمع في الرياض بين ضرورة التسليم بالمظلة الروسية للحل في سورية أو محاربة مخرجات المؤتمر، إذا لم يكن يلبي التطلعات الروسية، وذلك من خلال مشروع روسي في توحيد حجاج موسكو من معارضي المصادفة الذين وافقوا على المشاركة في مؤتمر سوتشي، مع المنصات والشخصيات التي شاركت في "الرياض 2"، وفشلت في تمرير الإرادة والرغبات الروسية، ثم إبراز الجسم الجديد على أنه المنصة الأكثر تمثيلاً للمعارضة، وهو ما سيساهم في تعزيز فكرة المنصات، والإبقاء عليها مكسباً إضافياً، يبقي للروس إحدى أهم أوراقهم التي تعزز بروباغندا تشتت المعارضة وتعدد منصاتها.

(4)
بعد بيانات رفض المشاركة في المؤتمر، والتي أصدرتها هيئات ثورية وتيارات معارضة، والاعتراضات التركية على دعوة حزب الاتحاد الديمقراطي، والموقف الغربي المشكك بالمؤتمر، تم تأجيل انعقاد المؤتمر إلى أجل غير مسمى. لكن هل يعني هذا تخلي روسيا عن الفكرة؟ لم يسبق لروسيا أن تراجعت في سورية، إلا حين تصدّى الجيش السوري الحر للهجوم البري المشترك بين المليشيات الإيرانية وقوات النظام تحت غطاء جوي روسي.

عدم استعداد موسكو للتراجع مرتبط بعدم رغبة أي من أفراد المجتمع الدولي ومؤسساته الوقوف جدياً، وبشكل حاسم، في وجه روسيا، أو دعم السوريين في وقوفهم في وجهها. لذلك فإن تأجيل انعقاد المؤتمر تكتيكي، لجأت إليه موسكو إلى حين توفيرها مناخاً أكثر ملاءمة لانعقاده، وهو ما يرجّح عودة التصعيد العسكري للنظام بتغطية ودعم روسيين، في عدد من مناطق تخفيض التصعيد، في مقدمتها الغوطة الشرقية. ومن جهة ثانية، ستزيد موسكو من ضغوطها على الجانب التركي، وستفتح الباب أمام النظام والإيرانيين لعرقلة الوجود العسكري التركي في إدلب.

ليست روسيا متمسكة بعقد المؤتمر في سوتشي أو حميميم، بقدر تمسكها بتمرير أجندة مؤتمر الشعوب السورية وأغراضه وفق رؤية موسكو. وبالتالي، فإن ما تقوله موسكو: في جنيف أو أستانة أو سوتشي أو حميميم المهم، أن تفعلوا ما أريده وخططت له أنا، وهو ما يستلزم أن يكون رفض المعارضة المؤتمر هو رفض مضمونه وأهدافه، بغض النظر تحت أي عنوان، وأين سيعقد، ومن هي الدولة التي ستوجه الدعوات للمشاركة في المؤتمر.

(5)
قبل أيام فقط، وفي مهد الثورة السورية العظيمة في درعا، تداعت فعاليات حوران، وبتمويل ذاتي، ‏إلى لقاء حوران الثوري، لتأسيس هيئة سياسية ممثلة لحوران، وقبلها اجتمعت القيادات العسكرية ‏في بصرى الشام في حوران، لتأسيس قيادة عسكرية مشتركة. وتؤكد هذه اللقاءات السورية الثورية ‏قدرتنا، نحن السوريين، على الانطلاق بمشروع وطني سوري مستقل، يحافظ على مبادئ الثورة، ويستمر ‏في سعيه إلى تحقيقها على كل الصعد.‏

لا يمكن مواجهة التغول الروسي الماضي في محاولة تفتيت الموقف الثوري وقرارات الشرعية الدولية الناظمة للحل السياسي في سورية، عبر الاكتفاء بمواقف فردانية، وتنديدات على وسائل التواصل الاجتماعي، أو حتى مقالات الرأي في الصحف المنتشرة، مع ضرورة هذه الحملات. ولكن إلى جانب مبادراتنا الثورية والوطنية. لذلك، لا بد من موقف جماعي حاسم وواضح، يتداعى له حملة الهم الوطني الثوري من السوريين الذين لا يجاملون في بلدهم وثورة شعبهم صديقاً ولا عدواً، ولا حتى أعظم قوة عسكرية في هذا العالم القزم أمام تضحيات الشعب السوري العظيم.

عانت الثورة السورية، عبر سنواتها المريرة، من غياب قوة سياسية سورية ثورية، لها هدف وطني واضح. وعانت من اتساع هامش الاجتهاد السياسي، حتى باتت الخيانة وجهة نظر، كما عانت من تحول مفهوم المعارضة أحياناً إلى آراء شخصية لأفرادٍ حريصين فقط على مصالحهم المتقاطعة مع بعض الجهات الدولية.

هذه الثورة المنهكة من حربٍ تجرّد فيها أعداء الحرية وأنصار الاستبداد من الحد الأدنى من أخلاق الإنسان. ومارسوا أبشع صور التنكيل ضد شعبٍ لم يسبق لأحد في عصرنا الحديث أن قدّم مثله تضحياتٍ على مذبح الحرية والكرامة، لم يبق لها من خياراتٍ سوى أن تخوض من جديد معركة استقلال سورية، وتحريرها من الاحتلال الداخلي والاحتلالات الأجنبية. وهو ما يستدعي موجة جديدة من الكفاح والمقاومة الوطنية التي مهما بلغت تكاليفها لن تكون أكثر إيلاماً من خسارة سورية وشعبها ومستقبلها، وتفتيتها تبعاً لرغبات الاستبداد والاحتلال وقادة مذبحة العصر.

اقرأ المزيد
١٥ نوفمبر ٢٠١٧
التحدّي الروسي وبيان فيتنام السوري الباهت؟

تساير روسيا المجتمع الدولي بما يتعلق بمسار المفاوضات السورية تحت الرعاية الأممية، وفق ما ذكره البيان المشترك الذي أعد للرئيسين، الأميركي دونالد ترامب والروسي فلاديمير بوتين، إثر لقائيهما العابرين في فيتنام يوم الجمعة الماضي، إلا أن موسكو، في الوقت نفسه، لم تتراجع عن مسارها التفاوضي الجديد الذي أعلنت عنه تحت مسمّى مؤتمر الشعوب السورية، والذي كان قد دعت إلى أن يُقام في حميميم بداية، لتتراجع عن ذلك، وتحدد له مدينة سوتشي الروسية لاحقاً، وتحت مسمّى مؤتمر الحوار الوطني، ثم ليعود وزير خارجيتها، سيرغي لافروف، ليسميه من فيتنام مؤتمر السلام السوري، في خطوةٍ يمكن اعتبارها تحدّياً للذين أعلنوا عن رفض حضوره سابقاً. وهي ليست المرة الأولى التي تحاول فيها روسيا خلط الأوراق التفاوضية، تحت ما يسمى "تنويع الخيارات" التي يبدو أن هدفها تبسيط العملية التفاوضية، بقدر ما يمكن تسميته وضع المسار الرئيسي المتمثل في مفاوضات جنيف تحت ضغط التعطيل او الاستبدال، أو أن يختار المتفاوضون السير قدماً في قراءة ليس القرارات الدولية، حسب المفهوم الروسي لها، وهو الأمر الذي يفسّر لماذا مر بيان جنيف1 (2102) من دون اعتراض روسي، ولماذا صمت المجتمع الدولي أمام المسارات الجانبية التي أسستها موسكو أو رعتها، سواء الهدن المناطقية المحلية، أو جولات أستانة التفاوضية، أو الاتفاقات الثنائية مع الفصائل المسلحة، ليصل بها الحال أخيرا إلى مؤتمر سوتشي (حميميم سابقاً) وحالياً السلام السوري، في الوقت الذي تتحضر فيه أطياف المعارضة إلى اجتماع موسع في الرياض، لتشكيل وفدها الموحد إلى جولة جنيف التاسعة المزمع عقدها في 28 من نوفمبر/ تشرين الثاني الجاري.

ويضع طرح هذا المؤتمر، "الحوار الوطني السوري" أو "السلام"، في المنتجع الروسي سوتشي على البحر الأسود، أمام جملةٍ من التساؤلات غير البريئة، كما يضع تهاون المجتمع الدولي مع هذه المخططات الروسية، والانسياق بدعمها من خلال تقديمها من الوسيط الأممي، ستيفان دي ميستورا، شريكا في تمييع العملية التفاوضية، وتفريعها باتجاهاتٍ متعدّدةٍ لن تفضي في النهاية إلى حل سياسي، هدفه دعم قيام نظام ديمقراطي في سورية، وإتاحة الحياة الآمنة والكريمة لكل السوريين، وفق مبدأ المواطنة المتساوية، والتنوع الذي يثريها، ويغتني بحقوقها الجمعية، كما الفردية، فلماذا تنادي موسكو بمؤتمر للشعوب السورية (الحوار الوطني أو السلام)، قبيل انعقاد مؤتمر للمعارضة السورية، على الرغم من أنها كانت داعمة لمؤتمر الرياض1 للمعارضة السورية، في اجتماعات فيينا (2015)، وكانت وراء الدعوة إلى مؤتمر الرياض 2 لضم المنصات القريبة منها، فهل تستبق موسكو نتائج ما سيفضي عنه مؤتمر المعارضة الموسع، أم أنها أسست للخلافات المحتملة التي ستنشأ في الرياض2؟

لعل نجاح روسيا بتمزيق جهود المعارضة بين مساري أستانة وجنيف، زرع الأمل لديها، بأنها تستطيع ان تمضي في آلية توسيع حصتها من المعارضة على حساب الدول الأخرى، فاتفاقات خفض التصعيد، والاتفاقات المنفردة (الجنوب السوري والغوطة) التي تحاول من خلالها موسكو تمكين المجالس المحلية من إدارة شؤون المناطق التابعة لضمانتها، واحتكار صندوق الغنائم في هذه المناطق، لتوزيعها على الفصائل وفق مبدأ "من يطع يغنم" (من الشرطية). ومن هنا، كانت جرأتها في طرح مسار جديد لاختبار ما أنجزته سابقاً في أستانة على صعيدين: محلي سوري، وخارجي دولي، أي الفصائل المشاركة في اتفاقيات خفض التصعيد "وما في حكمها"، ومدى "مرونتها" في التعاطي مع المقترحات الروسية من جهة، والدول التي تساوقت معها في تنفيذ أجندتها، ومدى تفاعلها مع الحلول الروسية، متناسيةً أن لهذه الدول مصالح مشتركة معها، وفي الوقت نفسه، خلافات قائمة تمسّ سياسة الدول ذاتها.

وعلى ما تقدم، المعارضة السورية، والدول الصديقة لها، أمام بالون اختبار روسي ليس أكثر، فيما إذا كانوا قد عقدوا العزم كلياً على التسليم بالحلول الروسية، وبالتالي القبول بالخلطة الجديدة للأوراق، وإعادة توزيع الكراسي بين المؤيدين للنظام والمعارضين، في جلسةٍ دائرية تجمعهم في سوتشي للبدء بحوار مباشر، تستطيع موسكو أن تفرضه على النظام الذي يستعين بكثيرٍ من القوى المدعوة إلى هذا الحوار الهادئ، على البحر الهائج الذي يصل أوروبا الشرقية بآسيا، ويتصل بالبحر المتوسط عبر مضيق البوسفور وبحر مرمرة، أي أن كل الدول التي تريدها روسيا حاضرةً في الحل، كما في جغرافيا سوتشي، وبعيداً عن "جنيف".

تثبت الوقائع الماضية للحراك الروسي خطأ المعارضة وحجم أوهامها، حين تتعامل مع منتجات "أفكار لافروف وبوتين" من مبدأ أنها آنيّة، وتزول نتائجها مع الزمن، كما حدث حين دعمت قيام معارضات قريبة منها، أو ابتدعت فكرة المصالحات المحلية، أو أسست لمسار أستانة، وقبلها جميعها حين جلست إلى طاولة المباحثات الدولية، وأقرت بيان جنيف1، ومن ثم أعلنت عن قراءتها له المخالفة كل القراءات الدولية، لتعود وتفرضها من خلال مباحثات اجتماعي فيينا، ومن بعدها مسار جنيف الذي يتكئ اليوم على قرار مجلس الأمن 2254، الذي هو أصلا بالطبعة الروسية لبيان جنيف1.

متابعة روسيا تحضيراتها لمؤتمر يجمع المكونات السورية في حوار مباشر، كما تصرّح، على الرغم من عدم تحديد موعده، يصب اليوم في إطار التحدّي المباشر للجهود الأممية، واعتبار أن أي حل يمر فقط عبر قناتها ومن خلالها، تاركةً مساراتها التي أنشأتها (أستانة والاتفاقات الثنائية)، وفي مقدمتها اتفاق الجنوب ووسائل تنفيذه، مجرّد طعم تليّن فيها الموقف الأميركي المتراخي، ما دون أمن إسرائيل على الحدود الجنوبية السورية، وهو ما أظهره بيان فيتنام الباهت الذي لم يأت بجديد، إلا ما يتعلق بتأكيد الولايات المتحدة أن اهتمامها حالياً ليس إتمام التفاوض من أجل الحل السياسي الشامل، وإنما يتعلق بالجنوب السوري، وما بعده يأتي لاحقا وعلى مهل، ما لا يعطي التفاؤل بما ستحدثه جولة جنيف 9 ومناقشاتها بشأن التغيير الدستوري والانتخابات التي لم تمنع روسيا من التصريح مجدّداً عن سوتشي، على الرغم من أن البيان ينص على دعم المفاوضات في جنيف.

اقرأ المزيد
١٤ نوفمبر ٢٠١٧
روسيا أمام خيارات صعبة بشأن سورية

 لم تقبل روسيا بالفشل في سورية، ولا يبدو أنها مستعدّة للتعلم منه. وها هي تسعى من جديد إلى إحياء مقترحها لعقد ما تسميه مؤتمر سلام سوري موسع في مدينة سوتشي الروسية، لتحقيق ما عجزت عن تحقيقه من قبل في مؤتمر أستانة الذي كانت قد اختلقته من العدم، للالتفاف على مؤتمر جنيف، ومرجعية القرارات الدولية التي تقف وراءه. وكانت أطراف عديدة في المعارضة قد أعلنت رفضها المشاركة فيه، والسير وراء موسكو، في محاولاتها تقزيم مطالب الشعب، وتحويلها إلى طلبات مشاركة منصات المعارضة الهزيلة في الحكم، إلى جانب ما تسميها روسيا الحكومة الشرعية، أي بشار الأسد.

إذا كان هدف موسكو تحقيق السلام بالفعل، كما تسمي المؤتمر، فليس هناك وسيلة لذلك أسرع وأسهل من تطبيق قرارات الأمم المتحدة التي تنص على الانتقال السياسي، وتشكيل حكم تمثيلي لا طائفي. وهذا ما يجعل الأسد بالضرورة خارجه، فهو حكم استبدادي لا تمثيلي، ونموذج للهمجية وممارسة الطائفية البغيضة والمدمرة. أما شرعية الحكم الذي مثل انقلابا دائما على الدستور، بدأ بانقلابٍ عسكريٍّ وتمديد ذاتي خلال نصف قرن، عن طريق الأبناء والأحفاد، وتسلط الأجهزة الأمنية والمجازر المتكرّرة، وتأبيد الأحكام العرفية وقانون الطوارئ، فلا يمكن أن تستقيم إلا إذا كانت جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية التي وثقتها تقارير منظمات حقوق الإنسان ضد نظام الأسد ورئيسه، يمكن أن تشكل مصدرا لشرعية بديلة.

يستطيع الروس أن يفرضوا مؤتمر سلام، يختارون أعضاءه على مزاجهم، بالتنسيق مع الدول الحليفة لهم وغير الحليفة. وفي إمكانهم أيضا أن يعثروا على "المعارضين" القابلين إعادة شرعنة نظام الأسد وحكومته، لكنهم لن يستطيعوا أن يعيدوا الشرعية إلى حكم القتل على الهوية. ولديهم بالتأكيد جميع الوسائل العسكرية، الروسية والإيرانية والعراقية، وربما غيرها، لحماية حكم الأسد ورجالاته، كما فعلوا حتى الآن، لكنهم لن يستطيعوا إقتاع أحد، بما في ذلك رجال الحكم أنفسهم، الذين دمروا وطنهم، وراهنوا على قوى الاحتلال الأجنبي، للحفاظ على سلطتهم، وتحولوا إلى دمى يستخدمها الاحتلال، وارتكبوا من الجرائم ما يخرج أصحابه من الإنسانية، بأن نظام الأسد يحظى بقبول السوريين واحترامهم وتأييدهم، وبالتالي بالشرعية، ولا أن يقنعوا أحدا بأن الحكم الذي قسم الشعب، وزجّه في الحرب الأهلية، هو النظام الوحيد القادر على إعادة توحيده وقيادته في معركة المصالحة والسلام والإعمار الوطني. يمكن لروسيا أن تنجح في إعادة إدخال الأسد في قلوب السوريين، بمن فيهم قلوب من خدعوا به، في البداية، من أنصاره وحاضنته الشعبية فقط عندما يتمكّن الجمل من الدخول في خرم إبرة.

ما تقوم به روسيا، في محاولاتها للالتفاف على الحل الوحيد الممكن، الذي نصّت عليه قرارات الأمم المتحدة، وفي مقدمها بيان جنيف الذي ليس له سوى مضمون واحد، وهدف وحيد هو تلبية مطالب الشعب السوري في الانتقال من نظام استبدادي دموي، أدّى إلى الانفجار والثورة والحرب الأهلية، إلى نظامٍ يمثل الشعب، ويخضع لإرادته، ويعيد السيادة إليه في بلد حولته عائلة الأسد وأتباعها إلى مزرعةٍ عبودية، أقول إن ما تقوم به روسيا هو عملية فاشلة وسياسة وخيمة العواقب. فهي بمقدار ما تعطل التسوية، وتؤجلها إلى زمنٍ غير مسمى، تساهم في تفاقم حالة التعفّن في الوضع التراجيدي أصلا، وفي تعميق مشاعر الإحباط والضغينة والحقد وتكريس انقسام البلاد والرأي العام وتكريسه، وقتل أي أملٍ في المصالحة الوطنية، وبالتالي في سلام أهلي قريب. ولن تستطيع، مهما فعلت، أن تلوي إرادة الشعب السوري الذي ثار على الحكم الاستبدادي، والتمييز الطائفي معا، وتلغي تطلعاته المشروعة، وتحول مضمون العملية السياسية من عملية تغيير النظام وإقامة نظام بديل إلى إعادة الشرعية لنظام الأسد المتهالك والمهترئ، أخلاقيا وسياسيا وعسكريا معا، عن طريق إقناع المعارضة بالالتحاق به، أو التفاهم معه حول بعض المناصب السياسية التي يعادل القبول بها من المعارضين، في نظر الشعب خيانة وطنية وإنسانية وتبرعا بتمكين الأسد من خلط الأوراق والتهرّب من المسؤولية والفرار من العدالة، في ما ارتكبه من الجرائم ضد الإنسانية.

يمكن للروس أن يفاوضوا على مصالحهم في سورية، وربما مصالح حلفائهم. وهذا ممكنٌ ومشروع. لكنهم لا يمكن أن يفرضوا على السوريين، لضمان هذه المصالح، نظاما همجيا واحتلالا أجنبيا إيرانيا رسميا تسبب، حتى الآن، بموت ما لا يقل عن مليون إنسان، من دون الحديث عن ملايين المعاقين والميتمين والمشردين واللاجئين. بمعنى آخر، لا يمكن أن تكون الضمانة المطلوبة لهذه المصالح والتحالفات الروسية إعدام أمل السوريين ومستقبلهم، وفرض الأمر الواقع عليهم، والقضاء على سورية، دولة ووطنا، واستعباد شعبها إلى الأبد.

لا يمكن للسلام أن يتحقق في سورية عن طريق تحويل العملية السياسية التي لا تزال مستمرة، منذ ست سنوات، وصدرت فيها عشرات التقارير الأممية إلى عملية إعادة إعتبار للأسد وحكومته ونظامه الدموي. التمسّك بهذا الهدف يعني ببساطة أن موسكو لا تسعى إلى حل، حتى على قاعدة التسوية، وإنما تريد إنزال الهزيمة السياسية الكاملة بالشعب السوري، وإجباره على الخضوع والاستسلام، وتقبيل أحذية قتلته، والضرب عرض الحائط بأي مبادئ أخلاقية أو قانونية، والاستمرار في إنكار السياسة، وإلغائها في المجتمع، وتنصيب الحذاء العسكري رمزا للسيادة "الوطنية"، كما فعل أنصار الأسد الذين خلدوا ذاكرته بنصبٍ كبير في مدينة اللاذقية. والنتيجة الحتمية لذلك القضاء على أي أمل بعودة الحياة الاجتماعية الطبيعية واستعادة العلاقة الوطنية.

الروس في طريق خاطئ، وعليهم أن يغيروا من توجهاتهم وخططهم. واستمرارهم على هذا المنحى، وتجاهلهم تطلعات الشعب السوري، واستهتارهم بها، والتمسّك بإرضاء نظام الأسد وبعض مستوزري المعارضة، سوف يجهض جميع جهودهم، ويحرمهم من إمكانية ريادة الحل والتوصل إلى تسوية قابلة للحياة وذات صدقية، مما هم في أمس الحاجة إليه، لصيانة مواقعهم وتثبيت مكاسبهم السياسية، وضمان الإبقاء على نفوذهم في سورية، وربما صداقة الشعب السوري لهم في المستقبل بعد الخروج من المحنة. وفي المقابل، سيضاعف فشلهم نقمة السوريين الذين سوف يحمّلونهم النصيب الأكبر من المسؤولية في استمرار المحنة التي يعيشونها منذ ست سنوات، بسبب تعطليهم مجلس الأمن، وإنقاذهم المشروع الإيراني الاستعماري، وتمسكهم بنظام الإبادة الجماعية. لأن الكارثة التي سيقود إليها هذا التعطيل ستكون أكبر أثرا، وأبعد مدى من كارثة الحرب الداخلية نفسها، بالنسبة للعالم أجمع، عندما سيدرك ملايين الأطفال والشبان الذين دمرت حياتهم، وهجروا من بيوتهم وبلدهم، وحرموا للأبد من التعليم والعمل والمستقبل، واختبروا حياة المخيمات والتشرد والبؤس والضياع، سنوات طويلة، أن الموت أرحم من الحياة، وأن الانتقام أسرع، تحققا من وعود السلام، وأن الاقتصاص للدم المستباح أسهل منالا من العدالة الغائبة.

روسيا أمام خيارات حاسمة وصعبة. إما أن تقطع مع المشروع الايراني الرامي إلى تمديد أجل الحرب إلى ما لا نهاية، حتى يتمكّن من تكريس مكاسب استراتيجية، استثنائية، لا يوجد أي أساس ممكن لا قانوني ولا أخلاقي ولا سياسي لبقائها بالسلام. وتضغط بجدية من أجل وضع حد للحرب ودفع الأمور في اتجاه الحل السياسي، أو تترك نفسها تنجر وراء مشاريع طهران الإمبراطورية، التي لا يمكن الحفاظ عليها من دون الاستمرار في الحرب، والمضي أكثر في تمزيق النسيج الوطني السوري، وفرض وقائع جديدة على الأرض، وتحويل لا رجعة عنه في البنية الديمغرافية والجيوسياسية. وفي النهاية احتواء الدولة السورية أو ابتلاعها، كما حصل مع العراق ولبنان.
لا يعني هذا بالضرورة إلغاء التحالف مع طهران بالضرورة، ولا يحتاجه. إنما يعني الاختيار بين أن تكون روسيا الكلب، أو ذنب الكلب بحسب التعبير الذي استخدمه مسؤول روسي كبير، للإشارة إلى علاقة روسيا بالأسد ونظامه. مع اعتقادي أن إيران هي التي نجحت، في النهاية، في نصب فخ لروسيا، أو أن روسيا وقعت في الفخ الذي نصبته لنفسها، عندما اعتقدت أنها تستخدم التحالف مع طهران، لتعزز مواقعها في سورية، وأنها تستطيع، في اللحظة المناسبة، المساومة على النفوذ الايراني، في مقابل المكاسب الجيوسياسية والاقتصادية والسياسية التي ستجنيها في المشرق كله. واليوم جاءت، كما يبدو، ساعة الحقيقة لحسم مسألة لمن الهيمنة، أو الكلمة الأخيرة، في تقرير مصير الحل السياسي أو العسكري في سورية.

اقرأ المزيد

مقالات

عرض المزيد >
● مقالات رأي
٢٤ يناير ٢٠٢٥
دور الإعلام في محاربة الإفلات من العقاب في سوريا
فضل عبد الغني - مؤسس ومدير الشبكة السورية لحقوق الإنسان
● مقالات رأي
١٦ يناير ٢٠٢٥
من "الجـ ـولاني" إلى "الشرع" .. تحوّلاتٌ كثيرة وقائدٌ واحد
أحمد أبازيد كاتب سوري
● مقالات رأي
٩ يناير ٢٠٢٥
في معركة الكلمة والهوية ... فكرة "الناشط الإعلامي الثوري" في مواجهة "المــكوعيـن"
Ahmed Elreslan (أحمد نور)
● مقالات رأي
٨ يناير ٢٠٢٥
عن «الشرعية» في مرحلة التحول السوري إعادة تشكيل السلطة في مرحلة ما بعد الأسد
مقال بقلم: نور الخطيب
● مقالات رأي
٨ ديسمبر ٢٠٢٤
لم يكن حلماً بل هدفاً راسخاً .. ثورتنا مستمرة لصون مكتسباتها وبناء سوريا الحرة
Ahmed Elreslan  (أحمد نور)
● مقالات رأي
٦ ديسمبر ٢٠٢٤
حتى لاتضيع مكاسب ثورتنا ... رسالتي إلى أحرار سوريا عامة 
Ahmed Elreslan  (أحمد نور)
● مقالات رأي
١٣ سبتمبر ٢٠٢٤
"إدلب الخضراء"... "ثورة لكل السوريين" بكل أطيافهم لا مشاريع "أحمد زيدان" الإقصائية
ولاء زيدان