مقالات مقالات رأي بحوث ودراسات كتاب الثورة
١٦ نوفمبر ٢٠١٧
رهان خاسر على النظام السوري

لا يُؤمن جانب النظام السوري أبداً، قلنا ذلك مراراً إلى منتسبي حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي في سورية (بي يي دي)، وزدنا على ذلك: "رهانكم خاسر، لأنكم، مهما قدمتم من خدمات لهذا النظام ضد الثورة السورية والسوريين، فإنه سيلتفت إليكم، ويسحقكم في أول فرصةٍ تسنح له، ولن يسمح لكم بإقامة دويلةٍ أو كانتونات (إدارة ذاتية) في الجزيرة السورية، أو في سواها من الشمال السوري، وستدعمه في ذلك مليشيات نظام الملالي الإيراني، بل وحتى الروس الذين يريدون استمالتكم إلى طرفهم. وإن كنتم تعتقدون أن الأميركيين سيحموكم إن هاجمتكم قوات النظام، فرهانكم خاسر كذلك"، لكن أعضاء الفرع السوري لحزب العمال الكردستاني في تركيا (بي كا كا) لم يُصغوا لأحدٍ ناصح لهم، بل أمعنوا في الافتراق عن ثورة السوريين، وراحوا ينسقون مع النظام، واعتقدوا أنفسهم أذكياء، حين وضعوا مقاتلي فرعهم العسكري "وحدات الحماية" تحت أوامر عسكر الولايات المتحدة الأميركية، الذين استخدموهم بنادق مأجورة في حربهم ضد تنظيم الدولة الإسلامية (داعش).

واللافت أنه، قبل أيام قليلة، وقبل أن تنتهي معارك السيطرة على قرى ريف دير الزور وبلداته، ويستكمل الروس والمليشيات الإيرانية ومليشيات النظام سيطرتهم على بلدة البوكمال، خرج رأس النظام من الجحر الذي كان يختبئ فيه، ليتوعد مليشيات ما تسمى "قوات سورية الديمقراطية" بأن حربه ستستهدف الذين يسعون إلى "تقسيم الدول وإضعافها". ولم يقوَ على مثل هذا الكلام إلا حين التقى مع علي أكبر ولايتي، كبير مستشاري مرشد نظام الملالي علي خامنئي، حيث سبق وأن تحدّث الأخير علناً من بيروت عن اقتراب معركة "تحرير الرقة"، وأن قوات النظام، وبدعم من مليشيا نظام الملالي، ستتقدم قريباً لانتزاع مدينة الرقة من "قوات سورية الديمقراطية" المنتشرة في مناطق شرق نهر الفرات، الأمر الذي ينذر بأن صراع تقاسم النفوذ في سورية ما بين الروس والإيرانيين والأميركيين وسواهم لم يكتمل بعد. وبالتالي، ستواصل هذه الدول الخائضة في الدم السوري الإمعان في التنافس على تركة "داعش" على حساب دم السوريين، وخراب ما تبقى من مدنهم وبلداتهم وقراهم.

لم يخف نظام الملالي مخططاته في الهيمنة والسيطرة على كل سورية، بل يطمح إلى أبعد من السيطرة على الرقة، حيث تشكل إدلب عنواناً مؤجلاً في سعيهم إلى القضاء على المعارضة السورية، ومؤشراً على أن الصراع في سورية لم يكتمل بعد، لكنهم يريدون من جعل السيطرة على مدينة الرقة محطة جديدة في الصراع مع الولايات المتحدة خارج حدود إيران.

ويبدو أن الفرع السوري لحزب "بي كا كا" لم يتعظ من درس إقليم كردستان العراق، حيث خاض ملالي إيران، عبر مليشيات عراقية تابعة لها وبإشراف قاسم سليماني، معركة إحباط استقلال الإقليم، مستفيدين من تلاقي المصالح بينهم وبين الأتراك، وفي ظل تخلي الولايات المتحدة عن حلفائها في إقليم كردستان العراق.
قد يراهن منتسبو حزب "بي يي دي" على تعاونهم مع مليشيات نظام الأسد منذ بداية الثورة، وتقديمهم خدمات كثيرة، حين قاموا بإرهاب الناشطين الكرد والعرب وسواهم في مناطق الشمال السوري، واتبعوا أساليب قمع عنيفة ضد جموع المحتجين المناهضين حكم آل الأسد، وحلوا محل شبيحة النظام وأجهزته الأمنية القمعية، في مقابل سماح النظام لمليشيات "وحدات الحماية" بالسيطرة على كل مناطق الشمال السوري، بل وتوسعت هذه السيطرة، لتشمل كل المناطق التي يوجد فيها الكرد والعرب والتركمان والآشوريون والسريان وسواهم، بالتنسيق مع نظام الأسد وأجهزته، وقامت المليشيات منذ عام 2014 بتقسيمها إلى ثلاثة كانتونات، وكوباني (عين العرب) وعفرين، وأرست هذه المليشيات دعائم ما يشبه دويلة، وشكلت فيها "مجلس شعب غربي كردستان"، وشكّلت أيضاً شرطة معروفة باسم "أساييش"، لعبت دوراً كبيراً في ملاحقة الناشطين الأكراد المختلفين مع ما يطرحه الحزب وتوجهاته، وممارساته التي تمخضت أيضاً عن حكومة ودستور ونظام تعليمي خاص بأجندته وتوجهاته الأوجلانية (نسبة للزعيم عبد الله أوجلان).

هذا الرهان خاسر، في نهاية الأمر، لأن معطيات الصراع في سورية ما بين الدول الخائضة في دم السوريين تفيد بأن كل ما قام به الفرع السوري لحزب العمال الكردستاني مهدد بالزوال، ولعل تكرار أي سيناريو مختلف، أو مشابه لما حدث لإقليم كردستان أخيرا، سيحبط مشروع حزب "بي يي دي"، على الرغم من اختلاف الواقع والمعطى في مناطق شمالي سورية، واختلاف تعقيد الوضع فيها.

ويراهن نظام الملالي الإيراني في سعيه إلى السيطرة على مدينة الرقة على الخلافات ما بين الساسة الروس والأميركيين في صراعهما على تقاسم تركة "داعش"، إضافة إلى رهانه على حليفه الروسي الذي دعم تمدد المليشيات الإيرانية، ونهشها ما تبقى من الجسد السوري خلال كل سنوات الحرب في سورية. لذلك، يرفع نظام الملالي نبرة أصواته في أيامنا هذه، بغية الدخول في مساومة مع الأميركيين حول الرقة وما بعدها، خصوصا وأن الروس يريدون استثمار وجودهم العسكري الاحتلالي في سورية، ولا ترضيهم سيطرة الأميركيين والمليشيات المتحالفة معها على مناطق النفط والغاز، الأمر الذي ينذر بأن مرحلة جديدة من الصراع على سورية ستبدأ.

اقرأ المزيد
١٦ نوفمبر ٢٠١٧
مقايضات بوتين السورية

غدت سورية، على ما يبدو، العقدة الأكثر تناولا في لقاءات الرئيسين، الروسي فلاديمير بوتين والأميركي دونالد ترامب. فأينما حل الرجلان، أو اجتمعا تحت مظلة دولية معينة، (طالما أن قمة بينهما باتت غير واردة مع تنامي الأدلة على تدخل روسيا في الانتخابات الرئاسية الأميركية) يخرج من جعبتيهما اتفاق بشأن سورية. وهذا لافت للانتباه، بمقدار ما يحتاج إلى تفسير. ففي الثامن من شهر يوليو/ تموز الماضي، توصل الرئيسان خلال قمة الاقتصادات العشرين الكبرى إلى اتفاق هامبورغ الذي أخرج منطقة جنوب سورية الغربي من اتفاقات خفض التصعيد التي أقرت في أستانة مطلع مايو/ أيار الماضي، ونص على وقف إطلاق النار، ونشر قوات من الشرطة العسكرية الروسية، وإبعاد المليشيات التابعة لإيران من المنطقة. وعلى هامش قمة دول آسيا والمحيط الهادئ (ابيك) في فيتنام، يوم 11 نوفمبر/ تشرين الثاني الجاري، توصل الرئيسان إلى بيان مشترك بشأن كيفية المضي في إدارة الصراع في سورية، بعد انتهاء الحرب على تنظيم الدولة الإسلامية.

وفيما بدا أن الاتفاق الأخير يؤسس لمرحلة تقاسم نفوذ بين القوتين الكبريين، لأنه ينظم الوجود العسكري الروسي والأميركي على ضفتي نهر الفرات، ويمنع حصول احتكاكٍ بين وكلائهما المحليين على الأرض، فالواضح أن جوهر اتفاقات هامبورغ في ألمانيا ودا نانغ في فيتنام (أقر تفاهم عمّان الثلاثي بخفض التصعيد في الجنوب السوري) هو التعاطي مع الوجود الإيراني في سورية، والذي بدأ يتحول بعد هزيمة "داعش" إلى العقدة الرئيسة في المسألة السورية.

وبعد أن فشلوا في احتواء إيران، ومنعها من السيطرة على الجزء الأكبر من البادية السورية، وبلوغ مدينة البوكمال التي تمثل نقطة تلاقي نفوذها في سورية والعراق، عبر عنها بجلاء التقاء مليشيات إيران على طرفي الحدود بين البلدين، بات الأميركيون يعوّلون على الروس، للقيام بهذه المهمة، لأن البديل، كما تروج واشنطن، هو انتقال الصراع الإسرائيلي- الإيراني منخفض المستوى حاليا في سورية إلى مواجهة مفتوحة، تضع روسيا أمام اختبارٍ صعب، يفرضه صدام بين "صديقين" لها هما إيران وإسرائيل التي ذكّرنا مسؤول روسي، أخيرا، بأهمية الحفاظ على أمنها، من باب أنه يعيش فيها مليون مواطن يحملون الجنسية الروسية.

كانت روسيا قد وافقت في اتفاق هامبورغ على إنشاء منطقة عازلة بعمق يتراوح بين 40 - 50 كلم، تديرها بنفسها لمنع أي احتكاكٍ بين "صديقيها" في الجنوب السوري، وهو ما عاد وأكد عليه تفاهم عمّان أخيرا، بحسب مسؤول أميركي، قال إن الاتفاق "ينص على جلاء جميع القوات الأجنبية عن جنوب غربي سورية، بما فيها القوات الإيرانية والفصائل المسلحة التابعة لها، ... وبقاء المنطقة تحت سيطرة فصائل المعارضة، حتى إتمام التسوية السياسية". وعلى الرغم من أن موسكو عادت وتبرأت من هذا "التأويل" للاتفاق، فليس هناك مجال للشك في أن للروس مصلحة حقيقية في إخراج إيران وأدواتها من سورية، بعد أن انتهت الحرب فيها، كما رأى أمين عام حزب الله أخيراً. لكن روسيا تريد خروج القوات الأميركية المتمركزة شرق سورية أيضاً. ويبدو أن موسكو بدأت تطرح هذه المقايضة على الطرفين، الأميركي والإيراني، بحيث تخلو لها الساحة السورية تماما. لذلك، يبدو من المهم الربط بين بيان دا نانغ والزيارة الخاطفة التي قام بها الرئيس بوتين إلى طهران مطلع الشهر الجاري، وشاع حينها أنها جاءت لطمأنة الإيرانيين بعد زيارة ملك السعودية موسكو. طبعاً من الصعب أن يفهم المرء كيف يمكن أن يتكبّد رئيس روسي عناء زيارة طهران لشرح أسباب استقباله رئيس دولة أخرى. ذهب بوتين إلى هناك، لاستمزاج رأي المرشد في فكرة مقايضة الانسحاب الإيراني بالانسحاب الأميركي قبل لقائه المرتقب مع ترامب في دا نانغ.

هل تقبل طهران بهذه المقايضة التي لمّح إليها أمين عام حزب الله، حسن نصرالله؟ لا يبدو هذا واضحاً على الرغم من أن الوجود العسكري الأميركي شرق سورية يهدّد النفوذ الإيراني في العراق. هل تقبل واشنطن بهذه المقايضة، للحد من النفوذ الإيراني، على الرغم من أن وجودها العسكري شرق سورية يؤمن لها تمركزاً جيو- استراتيجيا بين قوى الإقليم الكبرى؟ لا يبدو هذا واضحا أيضاً، الشيء الوحيد الواضح الآن أن الصراع على سورية لم يبلغ بعد نهايته، ولن يبلغها إلا بخروج كل القوات الأجنبية منها.

اقرأ المزيد
١٦ نوفمبر ٢٠١٧
هل سينجح الغرب في معاقبة الأسد؟

فوّت الغرب فرصة ذهبية لمعاقبة بشار الأسد، بعد إثبات جريمته ضرب الغوطة الشرقية بسلاح كيميائي في أغسطس/ آب عام 2013، قُتل فيها وتضرّر الآلاف وهم نيام، ومعظمهم أطفال ونساء. اكتفى يومها الرئيس الأميركي الفاشل، باراك أوباما، بإيحاء من روسيا، بسحب سلاح الجريمة، وهو السلاح الكيميائي (لم يتم تطبيق القرار الأممي الذي وافقت عليه روسيا، ولم يتم انتزاع كامل هذا السلاح). حينها تركوا المجرم يسرح ويمرح، بل أطالوا في عمره، واستمر وغيره في قتل السوريين.

واليوم، تنشّط الموقف الغربي من جديد، والذي انعكس في تصريح المندوب البريطاني، ماثيو رايكروفت، في مجلس الأمن: "نبحث في كيفية متابعة العمل بناء على تقرير لجنة التحقيق (الكيميائي) مع زملائنا في مجلس الأمن، ويجب أن نصدر قراراً تحت الفصل السابع، تنفيذاً لما كنا اتفقنا عليه" في القرار 2118 الذي صدر بموافقة روسية عام 2013، بعد هجوم الغوطة". وكانت تصريحاتٍ لمسؤولين أميركيين، بمن فيهم الرئيس دونالد ترامب، ووزير خارجيته، ريكس تيلرسون، قد تحدثت عن قرب انتهاء حكم عائلة الاسد في سورية، وأخرى عن معاقبة الأسد على استخدامه الكيميائي ضد الشعب السوري، وخصوصا في خان شيخون، بالتزامن مع دفاع روسي مستميت عن حليفهم المجرم. ويعكس ذلك كله المتغيرات الدولية والإقليمية والمحلية في المجالين، السياسي والعسكري.

ومن جانب آخر، يغرّد المبعوث الأممي، ستيفان دي ميستورا، بشأن عقد جولة جديدة من مفاوضات جنيف في نهاية نوفمبر/ تشرين الثاني الجاري. ولكن بعد أن اقترب الفيلم الداعشي (الهوليودي) المرعب من نهايته في سورية والعراق، ستبدأ فصول جديدة من مسرحية الصراع ضد الإرهاب في سورية، وستنفجر صراعاتٌ جديدة في المنطقة. ومع اقتراب العملية السياسية في سورية التي يؤيدها الجميع، على الرغم من أن كل واحد يفهمها على طريقته، سيتبيّن الخيط الأبيض من الأسود، وتتضح حقيقة التحالفات الميدانية والسياسية، والتي بعضها مزيف وغير مبدئي وغير استراتيجي.

يدور اليوم الصراع بشان إعمار سورية الذي يحتاج أكثر من مائتي مليار دولار. وإن لم يتم الاتفاق على حكم سياسي ينشئ استقراراً في سورية، فلن يغامر رجل أعمالٍ عاقلٌ واحد من الخليج أو أوروبا أو أميركا للاستثمار في سورية. والكل يتسابق ويتصارع على تقاسم الكعكة السورية، وفي طليعتهم أميركا وروسيا. وليس مصادفة أن تعلن الولايات المتحدة عن تحرير مدينة الرّقة تحت إشرافها. والآن تعلن أكبر الدول الغربية، وهي ألمانيا وفرنسا وبريطانيا، دعمها الجهود الأميركية واستعدادها للمشاركة في إعادة إعمار الرّقة، فما هي أبعاد هذه الخطوات الغربية المعلنة في أعقاب تحرير الرقة، وطرد "داعش" منها؟

يجب الانتباه إلى تصريحات المسؤولين الأميركان بشأن إعادة إعمار الرّقة، فهي رسالة إلى العالم، ويقصدون روسيا والنظام قبل كل شيء، فالأميركان يقولون إنهم يريدون إعادة إعمار ما دمّره مسلحو تنظيم داعش الإرهابي (ساهموا هم أنفسهم في تدمير الرّقة، ومعهم قوات سورية الديمقراطية "قسد" الملتبسة الأدوار)، ورسالتهم أنهم سينجزون مهمتهم حتى النهاية: حرّروا مدينة الرّقة عاصمة "داعش"، وسنعيدها إلى أحسن ما كانت عليه.

والأخطر في التصريح الأميركي بشأن إعادة إعمار الرّقة أنه رسالة موجهة إلى روسيا، تفيد بأن الدول الغربية موجودة في سورية، وستبقى من خلال إعادة الإعمار، كما هم باقون في العراق (حيث اختفى دور الروس في تحرير العراق من "داعش"). وهناك مفادٌ خطير في هذا التصريح، يوحي بإمكانية تقسيم سورية، ففي اختيار الغرب إعادة إعمار الرّقة (عاصمة داعش سابقاً) رسالة محرجة لروسيا، لكي تحذو حذوهم، وتبدأ إعادة إعمار مناطق أخرى. ولكن روسيا نفسها بحاجةٍ لأموال استثمارية، تساعد في تعزيز قوتها الاقتصادية والعسكرية، خصوصا بعد العقوبات الغربية المتجدّدة منذ 2013 ضد أهم المؤسسات الحكومية والنفطية والعسكرية الروسية، والتي تنعكس على القدرة الشرائية للمواطنين الروس، وعلى مستواهم المعيشي.

وقد تدفع التصريحات الغربية بشأن تحرير الرّقة وإعادة إعمارها، وكذلك الضغوط الدولية في مجلس الأمن، وخصوصا استخدام الفصل السابع لمعاقبة الأسد على جرائمه الكيميائية، وتورّط الروس في الدفاع عنه، وتبرئة ذمته، قد يدفع ذلك كله الروس إلى القبول بتقسيم سورية، وتقول الفرضية هنا إن الروس هم أول من سيؤيد التقسيم خيارا حتميا أمامهم، للحفاظ على مصالحهم وبقائهم الطويل في سورية.

وفي الوقت نفسه، تسعى روسيا، بشكل حثيث، إلى فعل شيء في المجال السياسي، لأنها مُقْدِمة على انتخابات رئاسية في مارس/ آذار المقبل، وكذلك تنظيم بطولة كأس العالم في كرة القدم في الصيف، لأن التدخل العسكري الروسي في سورية كلّف الروس كثيراً (تقدر قوى المعارضة الروسية تكاليفه بحوالي خمسة مليارات دولار) . كما أن روسيا تحتاج أموالا كبيرة، تحمي اقتصادها من ازدياد التضخّم، وتبعد شبح عدم الاستقرار السياسي والاقتصادي الداخلي، المتزامن مع ضغوط خارجية أميركية هائلة. وبشأن الأميركان، فهم الآن يفصحون عن رغبتهم في استمرار البقاء في سورية والعراق والمنطقة، بعكس ما أشاع كثيرون أن الولايات المتحدة تخلت عن الشرق الأوسط.

المشهد المقبل معقد بسبب وجود إيران والرغبة الأميركية بمحاربتها في كل مكان، والمتمنى أن يصدق المسؤولون الغربيون في قولهم بشأن إنهاء حكم عائلة الأسد، وهم قادرون على ذلك. وعندها ستكون روسيا أمام خيارين: أن تضطر لرفض الخيار الغربي بإزاحة الأسد، وإجراء تغيير سياسي معين، لا يضمن هيمنة الروس على النظام في سورية. عندها ستختار روسيا التقسيم خيارا حتميا، وسيقيم الروس مع حليفهم المجرم الفاشل بشار الأسد دويلة في سورية المفيدة. أو أن تقبل روسيا بالخيار الثاني، وهو إزاحة الأسد، لكي تحل مشكلة عويصة تجابهها، وهي توفير مئات مليارات الدولارات لإعادة إعمار سورية. وهناك تصريحات عربية (خليجية) وأوروبية بأن أحداً منهم لن يساهم بدولار واحد، ما لم يتم تغيير سياسي في سورية، وهذا يعني حتمية تغيير الأسد، الذي لا يمكن، بوجوده، البدء بعمل سياسي حقيقي.

وللأسف، يعمل الروس بعقلية النظام السوري نفسها، أي بطريقة مخابراتية، يعتقدون أن لملمة "مؤتمر شعوب سورية" الذي أعلن عنه الرئيس بوتين أخيرا، وقام مسؤولون عسكريون وسياسيون روس بجهود حثيثة في داخل سورية وخارجه لعقده في 7 نوفمبر/ تشرين الثاني الجاري، قبل إعلان تأجيله، يعتقدون أنه يمهد لعملية سياسية، لكن هذا المؤتمر الذي سيجري من أجله استدعاء شخصيات لها صفة عشائرية أو دينية أو قومية وقوى سياسية كلها لا تساوي شيئاً على أرض الواقع، سوى أنها مقرّبة من المخابرات السورية.

يريد الروس من السوريين العودة إلى المربع ما قبل الأول، فإن كان الحديث يدور حول حكومة وحدة وطنية، تشارك فيها المعارضة بدون أي صلاحيات، بسبب هيمنة المخابرات والأسد الذي يجب تقديمه إلى محكمة العدل الدولية، فلن يتغير شيء في سورية سوى الشكليات والشعارات التي ستعمل على إيهام السوريين والعالم بأن تغييراً ما قد حدث في سورية. وقد قام النظام، منذ بداية الثورة عام 2011، بعدة خطواتٍ، أراد إيهام العالم بأنه يقبل الحوار، ويريد حلاً سياسياً، وأدخل شخصيات محسوبة شكلياً على المعارضة في تشكيلة الحكومة. لكن الأيام أثبتت بسرعة خداع تلك الخطوات، وأنها لا يمكن أن تمس جوهر سلطة المخابرات، ومعها المحتلون.

يتم هذا المسعى الروسي، بالطبع، على غير ما خرج السوريون من أجله، في بداية الثورة، أي الحرية من قبضة الأجهزة الأمنية الأسدية، والكرامة بعد مرحلة عقود من الذل والإهانات، طاولت حتى أبسط الأمور في الحياة الشخصية للسوريين. والآن، يواجه السوريون اليوم مصيرا غامضا، لأن القوى الأخرى غير السورية، بكل أسمائها، هي التي تتحكّم بمصيرهم، في وقت تنطلق تلك القوى من مصالحها وأجنداتها الخاصة التي لها أولوية مطلقة على مصلحة سورية الموحدة والحرة والآمنة والمستقرة، في دولةٍ ليست ملكا لشخص أو عائلة أو فئة، بل دولة مواطنة، تبنى فيها مؤسسات وطنية، تخدم جميع السوريين.

اقرأ المزيد
١٦ نوفمبر ٢٠١٧
مؤتمر "الشعوب السورية" والاحتيال الدولي على السوريين

(1)
وسط الدمار والفوضى، وعلى أنقاض سورية المنهكة بفعل الآلة الحربية الروسية وجيوش المرتزقة الذين صدّرتهم إيران من دول الولي الفقيه، والقنابل الموقوتة والأوبئة المتمثلة بالمقاتلين الأجانب الذين دفعت بهم أجهزة مخابرات عديدة للتخلص من عبء وجودهم في ضواحي أوروبا لتصدّرهم إلى سورية، حيث انتهاك حقوق الإنسان وارتكاب الجرائم يمكن تبريره وتجاهله، طالما كان تحت عنوان محاربة "الإرهاب"، وعلى وقع النقض (الفيتو) الروسي التاسع في مجلس الأمن الدولي، هذه المرة ضد استمرار آلية التحقيق في جرائم استعمال النظام السلاح الكيميائي ضد أبناء الشعب السوري، ما يمثل أقذر أشكال الاصطفاف إلى جانب منظومة الإجرام في دمشق، وفي اغتصاب فاضح لكل قيم حقوق الإنسان...، على وقع ذلك كله، دعت الحكومة الروسية إلى مؤتمر "الشعوب السورية"، بعد أن تمكّنت من لي ذراع الثورة العسكري ومحاصرته، عبر اتفاق تخفيض التصعيد، مستفيدة من الوضع الدولي، وتراجع دولٍ كثيرة عن موقفها الداعم للثورة السورية، وتحولات في سياسة دول كانت تتبنّى، بشكل مطلق، دعم التغيير الديمقراطي في سورية، إضافة إلى الأزمة الخليجية التي بات الشعب السوري من أكثر الشعوب العربية تضرّراً من الاستقطاب الناجم عنها.

(2)
استفادت روسيا من التراجع الأميركي في المنطقة منذ عام 2013، والذي ساهم بدفع دول داعمة الثورة السورية إلى السعي إلى التفاهم مع روسيا، باعتبارها المؤثر الأكبر (والوحيد في نظر بعضهم) في حل المعضلة السورية، بعد أن كانت هذه الدول أعلنت استعدادها للاستمرار في دعم الثوار في مواجهتهم المفتوحة مع الاحتلالين، الإيراني والروسي، وهو ما يشكل، في نظر الروس، انتصاراً استراتيجياً مقابل النفوذ الأميركي المتراجع في المنطقة.

على الرغم من أن الروس يعلمون تماماً أنه لم تكن أي دولة قد حسمت موقفها جدياً بإيقاف التغوّل والإجرام الروسي في سورية، لكنها شكلت فرصة للتظاهر، كما لو أنهم ينتصرون على العالم كله في سورية، وهو ما يتماهى، بشكل مطلق، مع كاريزما الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، وخطابه، الأمر الذي أسس للاعتقاد الروسي بالنجاح في ترسيخ تقسيم سورية لمناطق نفوذ، الجزء الأكبر منها خاضع للإرادة الروسية بشكل مطلق، أو أنها دخلت في تفاهماتٍ مع روسيا "تحت طائلة الحرق و التدمير" بعد محادثات أستانة، كما هو حال المناطق المحرّرة الخاضعة لسيطرة الثوار، أو كما هو حال الرقة ودير الزور، بعد التفاهم الأميركي الروسي، والذي تمثل في إبعاد الجيش السوري الحر من البادية، وسيطرة النظام على أجزاء واسعة من دير الزور، والتصريح الإيراني باقتراب عملية مشتركة لجيش النظام وحلفائه على الرقة.

ويبدو جلياً أن روسيا ليست مستعدةً، أو جاهزة للتخلي عن بشار الأسد، على الأقل في المرحلة الراهنة، باعتباره أبرز مظاهر نفوذها وانتصارها. كيف لا وهي تستطيع الإتيان به إلى موسكو بأحد طائرات الشحن الروسية التي تنقل بواسطتها الطعام والفودكا إلى مقاتليها في حميميم، وهو ضمانة لتعزيز نفوذها، وتثبيت موقعها مقرّراً لشكل الحل في سورية. ومن أجل شرعنة النفوذ والوصاية الروسية، تسعى موسكو إلى الانقلاب على مسار جنيف، وصياغة الإطار الملزم للحل الذي ربما ينجم عن مسار جنيف، بعد أن باتت دول كثيرة مؤثرة تسلّم للرؤية الروسية للحل في سورية.

(3)
مؤتمر "الشعوب السورية" الذي كان مقرّراً في قاعدة الاحتلال الروسي العسكرية حميميم، تم تقرّر عقده في سوتشي الروسية، منعاً لإحراج الراغبين بالمشاركة، مثل معارضة المصادفة، أو من تم احتواء إرادتهم من قادة الفصائل، وأصبحوا بشكل مطلق مقيدين برغبات الجهات الداعمة.

وقد صرح مسؤول روسي في الجلسة الأولى من المفاوضات بين وفد الفصائل العسكرية الأول مع وفد الكرملين الروسي، عن رؤية بلاده لهذا المؤتمر، وهي تتمحور حول دعوة وجهاء المجتمع السوري من مختلف الطوائف وأبناء العائلات السورية العريقة وممثلي الطوائف والأعراق والقوميات المختلفة التي يتكون منها الشعب السوري، وأيضاً ممثلين عن النظام والمعارضة. ويكون الهدف الرئيس للمؤتمر هو النظر في شكل النظام السياسي لسورية، وانتخاب لجنة تأسيسية تصوغ دستوراً انتقالياً تتم بالاستناد إليه عملية انتخاب تحت إشراف دولي، حيث تتعهد روسيا والدول المشرفة على هذه الانتخابات بتطبيق نتائج الانتخابات، والتزام الجميع بها، ولن تمانع حينها روسيا، بحسب المسؤول الروسي، في رحيل الأسد بهذه الطريقة. وتحقق هذه الرؤية لروسيا مزيداً من تفتيت المعارضة السورية، كما أن بحث المؤتمر شكل النظام السياسي في سورية سيشكل الضربة القاضية للهيئة العليا للمفاوضات، لما يؤسس له بحث هذا المحور من استقطاب حاد، مستفيدة موسكو من تربص بعض الدول، وحتى تيارات منسوبة للمعارضة، بالهيئة العليا، كما سيحقق لموسكو ما سعت إليه في جنيف وأستانة، والذي يتمثل في تقديم بحث مسألة الدستور على الانتقال السياسي.

كما أن تقديم مسألة الدستور على الانتقال السياسي، والانخراط في بحث الدستور، سيحقق تجاوزاً كلياً لفكرة الانتقال السياسي باعتباره أهم خطوات الحل في سورية، لما سينتج عن بحث مسألة الدستور قبل تحقيق العدالة من صراعاتٍ قومية وطائفية وبدعم روسي إيراني، ليظهر الأسد في موقع الحل الأمثل لتجاوز صراع الطوائف والقوميات وحله.

يعد المؤتمر، وفق رؤية موسكو، الجزء الأهم من الاستراتيجية الروسية لتفتيت القرارات الدولية الناظمة للحل السياسي للقضية السورية، وفي مقدمتها بيان جنيف وقرار مجلس الأمن 2245، والتأسيس لعقبات إضافية أمام تحقيق مسار جنيف أي تقدّم، وحصر تحقيقه نتائج ملموسة بالرغبة الروسية.

تمرّ عملية التفتيت الروسية للقرارات الدولية عبر انفراد روسيا بتحديد زمان (ومكان) بحث أكثر البنود التي تهدد بقاء الأسد في السلطة، والواردة في تلك القرارات، بشكلٍ يمهد لتجاوز إنفاذ تلك البنود، وفق السياق القانوني والتراتبية المنصوص عليها، وهذا يتجلى في الفقرة 9 البند أ من بيان جنيف، وهو ينص على تشكيل هيئة حكم انتقالي، وينص في الفقرة ب على عقد مؤتمر الحوار الوطني الذي ستكون نتائجه ملزمةً، لإعادة النظر بشكل النظام الدستوري في سورية، حسب الفقرة ج من المادة نفسها.

اختارت روسيا التي تستبق بحث الجولة المقبلة من مفاوضات جنيف الدستور والانتخابات، وطرح مبعوث الأمم المتحدة، ستيفان دي ميستورا، رؤيته عن الحوار الوطني، توقيت المؤتمر بعناية، بحيث تنسجم الرؤية الروسية لمؤتمرها "للشعوب السورية" مع المناخ الذي يحيط بالجولة القادمة من مفاوضات جنيف، بحسب حديث دي ميستورا أن الجولة الثامنة من جنيف ستكون لبحث الدستور والانتخابات. وتنسجم هذه الرؤية مع مناخ التحولات في سياسة عدد من الدول المتراجعة عن دعم كفاح السوريين لإسقاط نظام الاستبداد في دمشق، ولم يعد يشكل فرقاً كبيراً لدى هذه الدول أن يبحث الدستور والانتخابات في سوتشي أم في جنيف أو حتى في موسكو نفسها.

الأهم بالنسبة لموسكو في قضية توقيت مؤتمر "الشعوب السورية"، هو مؤتمر الرياض 2، ومحاولة التأثير على مجرياته من خلال محاصرة من سيجتمع في الرياض بين ضرورة التسليم بالمظلة الروسية للحل في سورية أو محاربة مخرجات المؤتمر، إذا لم يكن يلبي التطلعات الروسية، وذلك من خلال مشروع روسي في توحيد حجاج موسكو من معارضي المصادفة الذين وافقوا على المشاركة في مؤتمر سوتشي، مع المنصات والشخصيات التي شاركت في "الرياض 2"، وفشلت في تمرير الإرادة والرغبات الروسية، ثم إبراز الجسم الجديد على أنه المنصة الأكثر تمثيلاً للمعارضة، وهو ما سيساهم في تعزيز فكرة المنصات، والإبقاء عليها مكسباً إضافياً، يبقي للروس إحدى أهم أوراقهم التي تعزز بروباغندا تشتت المعارضة وتعدد منصاتها.

(4)
بعد بيانات رفض المشاركة في المؤتمر، والتي أصدرتها هيئات ثورية وتيارات معارضة، والاعتراضات التركية على دعوة حزب الاتحاد الديمقراطي، والموقف الغربي المشكك بالمؤتمر، تم تأجيل انعقاد المؤتمر إلى أجل غير مسمى. لكن هل يعني هذا تخلي روسيا عن الفكرة؟ لم يسبق لروسيا أن تراجعت في سورية، إلا حين تصدّى الجيش السوري الحر للهجوم البري المشترك بين المليشيات الإيرانية وقوات النظام تحت غطاء جوي روسي.

عدم استعداد موسكو للتراجع مرتبط بعدم رغبة أي من أفراد المجتمع الدولي ومؤسساته الوقوف جدياً، وبشكل حاسم، في وجه روسيا، أو دعم السوريين في وقوفهم في وجهها. لذلك فإن تأجيل انعقاد المؤتمر تكتيكي، لجأت إليه موسكو إلى حين توفيرها مناخاً أكثر ملاءمة لانعقاده، وهو ما يرجّح عودة التصعيد العسكري للنظام بتغطية ودعم روسيين، في عدد من مناطق تخفيض التصعيد، في مقدمتها الغوطة الشرقية. ومن جهة ثانية، ستزيد موسكو من ضغوطها على الجانب التركي، وستفتح الباب أمام النظام والإيرانيين لعرقلة الوجود العسكري التركي في إدلب.

ليست روسيا متمسكة بعقد المؤتمر في سوتشي أو حميميم، بقدر تمسكها بتمرير أجندة مؤتمر الشعوب السورية وأغراضه وفق رؤية موسكو. وبالتالي، فإن ما تقوله موسكو: في جنيف أو أستانة أو سوتشي أو حميميم المهم، أن تفعلوا ما أريده وخططت له أنا، وهو ما يستلزم أن يكون رفض المعارضة المؤتمر هو رفض مضمونه وأهدافه، بغض النظر تحت أي عنوان، وأين سيعقد، ومن هي الدولة التي ستوجه الدعوات للمشاركة في المؤتمر.

(5)
قبل أيام فقط، وفي مهد الثورة السورية العظيمة في درعا، تداعت فعاليات حوران، وبتمويل ذاتي، ‏إلى لقاء حوران الثوري، لتأسيس هيئة سياسية ممثلة لحوران، وقبلها اجتمعت القيادات العسكرية ‏في بصرى الشام في حوران، لتأسيس قيادة عسكرية مشتركة. وتؤكد هذه اللقاءات السورية الثورية ‏قدرتنا، نحن السوريين، على الانطلاق بمشروع وطني سوري مستقل، يحافظ على مبادئ الثورة، ويستمر ‏في سعيه إلى تحقيقها على كل الصعد.‏

لا يمكن مواجهة التغول الروسي الماضي في محاولة تفتيت الموقف الثوري وقرارات الشرعية الدولية الناظمة للحل السياسي في سورية، عبر الاكتفاء بمواقف فردانية، وتنديدات على وسائل التواصل الاجتماعي، أو حتى مقالات الرأي في الصحف المنتشرة، مع ضرورة هذه الحملات. ولكن إلى جانب مبادراتنا الثورية والوطنية. لذلك، لا بد من موقف جماعي حاسم وواضح، يتداعى له حملة الهم الوطني الثوري من السوريين الذين لا يجاملون في بلدهم وثورة شعبهم صديقاً ولا عدواً، ولا حتى أعظم قوة عسكرية في هذا العالم القزم أمام تضحيات الشعب السوري العظيم.

عانت الثورة السورية، عبر سنواتها المريرة، من غياب قوة سياسية سورية ثورية، لها هدف وطني واضح. وعانت من اتساع هامش الاجتهاد السياسي، حتى باتت الخيانة وجهة نظر، كما عانت من تحول مفهوم المعارضة أحياناً إلى آراء شخصية لأفرادٍ حريصين فقط على مصالحهم المتقاطعة مع بعض الجهات الدولية.

هذه الثورة المنهكة من حربٍ تجرّد فيها أعداء الحرية وأنصار الاستبداد من الحد الأدنى من أخلاق الإنسان. ومارسوا أبشع صور التنكيل ضد شعبٍ لم يسبق لأحد في عصرنا الحديث أن قدّم مثله تضحياتٍ على مذبح الحرية والكرامة، لم يبق لها من خياراتٍ سوى أن تخوض من جديد معركة استقلال سورية، وتحريرها من الاحتلال الداخلي والاحتلالات الأجنبية. وهو ما يستدعي موجة جديدة من الكفاح والمقاومة الوطنية التي مهما بلغت تكاليفها لن تكون أكثر إيلاماً من خسارة سورية وشعبها ومستقبلها، وتفتيتها تبعاً لرغبات الاستبداد والاحتلال وقادة مذبحة العصر.

اقرأ المزيد
١٥ نوفمبر ٢٠١٧
التحدّي الروسي وبيان فيتنام السوري الباهت؟

تساير روسيا المجتمع الدولي بما يتعلق بمسار المفاوضات السورية تحت الرعاية الأممية، وفق ما ذكره البيان المشترك الذي أعد للرئيسين، الأميركي دونالد ترامب والروسي فلاديمير بوتين، إثر لقائيهما العابرين في فيتنام يوم الجمعة الماضي، إلا أن موسكو، في الوقت نفسه، لم تتراجع عن مسارها التفاوضي الجديد الذي أعلنت عنه تحت مسمّى مؤتمر الشعوب السورية، والذي كان قد دعت إلى أن يُقام في حميميم بداية، لتتراجع عن ذلك، وتحدد له مدينة سوتشي الروسية لاحقاً، وتحت مسمّى مؤتمر الحوار الوطني، ثم ليعود وزير خارجيتها، سيرغي لافروف، ليسميه من فيتنام مؤتمر السلام السوري، في خطوةٍ يمكن اعتبارها تحدّياً للذين أعلنوا عن رفض حضوره سابقاً. وهي ليست المرة الأولى التي تحاول فيها روسيا خلط الأوراق التفاوضية، تحت ما يسمى "تنويع الخيارات" التي يبدو أن هدفها تبسيط العملية التفاوضية، بقدر ما يمكن تسميته وضع المسار الرئيسي المتمثل في مفاوضات جنيف تحت ضغط التعطيل او الاستبدال، أو أن يختار المتفاوضون السير قدماً في قراءة ليس القرارات الدولية، حسب المفهوم الروسي لها، وهو الأمر الذي يفسّر لماذا مر بيان جنيف1 (2102) من دون اعتراض روسي، ولماذا صمت المجتمع الدولي أمام المسارات الجانبية التي أسستها موسكو أو رعتها، سواء الهدن المناطقية المحلية، أو جولات أستانة التفاوضية، أو الاتفاقات الثنائية مع الفصائل المسلحة، ليصل بها الحال أخيرا إلى مؤتمر سوتشي (حميميم سابقاً) وحالياً السلام السوري، في الوقت الذي تتحضر فيه أطياف المعارضة إلى اجتماع موسع في الرياض، لتشكيل وفدها الموحد إلى جولة جنيف التاسعة المزمع عقدها في 28 من نوفمبر/ تشرين الثاني الجاري.

ويضع طرح هذا المؤتمر، "الحوار الوطني السوري" أو "السلام"، في المنتجع الروسي سوتشي على البحر الأسود، أمام جملةٍ من التساؤلات غير البريئة، كما يضع تهاون المجتمع الدولي مع هذه المخططات الروسية، والانسياق بدعمها من خلال تقديمها من الوسيط الأممي، ستيفان دي ميستورا، شريكا في تمييع العملية التفاوضية، وتفريعها باتجاهاتٍ متعدّدةٍ لن تفضي في النهاية إلى حل سياسي، هدفه دعم قيام نظام ديمقراطي في سورية، وإتاحة الحياة الآمنة والكريمة لكل السوريين، وفق مبدأ المواطنة المتساوية، والتنوع الذي يثريها، ويغتني بحقوقها الجمعية، كما الفردية، فلماذا تنادي موسكو بمؤتمر للشعوب السورية (الحوار الوطني أو السلام)، قبيل انعقاد مؤتمر للمعارضة السورية، على الرغم من أنها كانت داعمة لمؤتمر الرياض1 للمعارضة السورية، في اجتماعات فيينا (2015)، وكانت وراء الدعوة إلى مؤتمر الرياض 2 لضم المنصات القريبة منها، فهل تستبق موسكو نتائج ما سيفضي عنه مؤتمر المعارضة الموسع، أم أنها أسست للخلافات المحتملة التي ستنشأ في الرياض2؟

لعل نجاح روسيا بتمزيق جهود المعارضة بين مساري أستانة وجنيف، زرع الأمل لديها، بأنها تستطيع ان تمضي في آلية توسيع حصتها من المعارضة على حساب الدول الأخرى، فاتفاقات خفض التصعيد، والاتفاقات المنفردة (الجنوب السوري والغوطة) التي تحاول من خلالها موسكو تمكين المجالس المحلية من إدارة شؤون المناطق التابعة لضمانتها، واحتكار صندوق الغنائم في هذه المناطق، لتوزيعها على الفصائل وفق مبدأ "من يطع يغنم" (من الشرطية). ومن هنا، كانت جرأتها في طرح مسار جديد لاختبار ما أنجزته سابقاً في أستانة على صعيدين: محلي سوري، وخارجي دولي، أي الفصائل المشاركة في اتفاقيات خفض التصعيد "وما في حكمها"، ومدى "مرونتها" في التعاطي مع المقترحات الروسية من جهة، والدول التي تساوقت معها في تنفيذ أجندتها، ومدى تفاعلها مع الحلول الروسية، متناسيةً أن لهذه الدول مصالح مشتركة معها، وفي الوقت نفسه، خلافات قائمة تمسّ سياسة الدول ذاتها.

وعلى ما تقدم، المعارضة السورية، والدول الصديقة لها، أمام بالون اختبار روسي ليس أكثر، فيما إذا كانوا قد عقدوا العزم كلياً على التسليم بالحلول الروسية، وبالتالي القبول بالخلطة الجديدة للأوراق، وإعادة توزيع الكراسي بين المؤيدين للنظام والمعارضين، في جلسةٍ دائرية تجمعهم في سوتشي للبدء بحوار مباشر، تستطيع موسكو أن تفرضه على النظام الذي يستعين بكثيرٍ من القوى المدعوة إلى هذا الحوار الهادئ، على البحر الهائج الذي يصل أوروبا الشرقية بآسيا، ويتصل بالبحر المتوسط عبر مضيق البوسفور وبحر مرمرة، أي أن كل الدول التي تريدها روسيا حاضرةً في الحل، كما في جغرافيا سوتشي، وبعيداً عن "جنيف".

تثبت الوقائع الماضية للحراك الروسي خطأ المعارضة وحجم أوهامها، حين تتعامل مع منتجات "أفكار لافروف وبوتين" من مبدأ أنها آنيّة، وتزول نتائجها مع الزمن، كما حدث حين دعمت قيام معارضات قريبة منها، أو ابتدعت فكرة المصالحات المحلية، أو أسست لمسار أستانة، وقبلها جميعها حين جلست إلى طاولة المباحثات الدولية، وأقرت بيان جنيف1، ومن ثم أعلنت عن قراءتها له المخالفة كل القراءات الدولية، لتعود وتفرضها من خلال مباحثات اجتماعي فيينا، ومن بعدها مسار جنيف الذي يتكئ اليوم على قرار مجلس الأمن 2254، الذي هو أصلا بالطبعة الروسية لبيان جنيف1.

متابعة روسيا تحضيراتها لمؤتمر يجمع المكونات السورية في حوار مباشر، كما تصرّح، على الرغم من عدم تحديد موعده، يصب اليوم في إطار التحدّي المباشر للجهود الأممية، واعتبار أن أي حل يمر فقط عبر قناتها ومن خلالها، تاركةً مساراتها التي أنشأتها (أستانة والاتفاقات الثنائية)، وفي مقدمتها اتفاق الجنوب ووسائل تنفيذه، مجرّد طعم تليّن فيها الموقف الأميركي المتراخي، ما دون أمن إسرائيل على الحدود الجنوبية السورية، وهو ما أظهره بيان فيتنام الباهت الذي لم يأت بجديد، إلا ما يتعلق بتأكيد الولايات المتحدة أن اهتمامها حالياً ليس إتمام التفاوض من أجل الحل السياسي الشامل، وإنما يتعلق بالجنوب السوري، وما بعده يأتي لاحقا وعلى مهل، ما لا يعطي التفاؤل بما ستحدثه جولة جنيف 9 ومناقشاتها بشأن التغيير الدستوري والانتخابات التي لم تمنع روسيا من التصريح مجدّداً عن سوتشي، على الرغم من أن البيان ينص على دعم المفاوضات في جنيف.

اقرأ المزيد
١٤ نوفمبر ٢٠١٧
روسيا أمام خيارات صعبة بشأن سورية

 لم تقبل روسيا بالفشل في سورية، ولا يبدو أنها مستعدّة للتعلم منه. وها هي تسعى من جديد إلى إحياء مقترحها لعقد ما تسميه مؤتمر سلام سوري موسع في مدينة سوتشي الروسية، لتحقيق ما عجزت عن تحقيقه من قبل في مؤتمر أستانة الذي كانت قد اختلقته من العدم، للالتفاف على مؤتمر جنيف، ومرجعية القرارات الدولية التي تقف وراءه. وكانت أطراف عديدة في المعارضة قد أعلنت رفضها المشاركة فيه، والسير وراء موسكو، في محاولاتها تقزيم مطالب الشعب، وتحويلها إلى طلبات مشاركة منصات المعارضة الهزيلة في الحكم، إلى جانب ما تسميها روسيا الحكومة الشرعية، أي بشار الأسد.

إذا كان هدف موسكو تحقيق السلام بالفعل، كما تسمي المؤتمر، فليس هناك وسيلة لذلك أسرع وأسهل من تطبيق قرارات الأمم المتحدة التي تنص على الانتقال السياسي، وتشكيل حكم تمثيلي لا طائفي. وهذا ما يجعل الأسد بالضرورة خارجه، فهو حكم استبدادي لا تمثيلي، ونموذج للهمجية وممارسة الطائفية البغيضة والمدمرة. أما شرعية الحكم الذي مثل انقلابا دائما على الدستور، بدأ بانقلابٍ عسكريٍّ وتمديد ذاتي خلال نصف قرن، عن طريق الأبناء والأحفاد، وتسلط الأجهزة الأمنية والمجازر المتكرّرة، وتأبيد الأحكام العرفية وقانون الطوارئ، فلا يمكن أن تستقيم إلا إذا كانت جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية التي وثقتها تقارير منظمات حقوق الإنسان ضد نظام الأسد ورئيسه، يمكن أن تشكل مصدرا لشرعية بديلة.

يستطيع الروس أن يفرضوا مؤتمر سلام، يختارون أعضاءه على مزاجهم، بالتنسيق مع الدول الحليفة لهم وغير الحليفة. وفي إمكانهم أيضا أن يعثروا على "المعارضين" القابلين إعادة شرعنة نظام الأسد وحكومته، لكنهم لن يستطيعوا أن يعيدوا الشرعية إلى حكم القتل على الهوية. ولديهم بالتأكيد جميع الوسائل العسكرية، الروسية والإيرانية والعراقية، وربما غيرها، لحماية حكم الأسد ورجالاته، كما فعلوا حتى الآن، لكنهم لن يستطيعوا إقتاع أحد، بما في ذلك رجال الحكم أنفسهم، الذين دمروا وطنهم، وراهنوا على قوى الاحتلال الأجنبي، للحفاظ على سلطتهم، وتحولوا إلى دمى يستخدمها الاحتلال، وارتكبوا من الجرائم ما يخرج أصحابه من الإنسانية، بأن نظام الأسد يحظى بقبول السوريين واحترامهم وتأييدهم، وبالتالي بالشرعية، ولا أن يقنعوا أحدا بأن الحكم الذي قسم الشعب، وزجّه في الحرب الأهلية، هو النظام الوحيد القادر على إعادة توحيده وقيادته في معركة المصالحة والسلام والإعمار الوطني. يمكن لروسيا أن تنجح في إعادة إدخال الأسد في قلوب السوريين، بمن فيهم قلوب من خدعوا به، في البداية، من أنصاره وحاضنته الشعبية فقط عندما يتمكّن الجمل من الدخول في خرم إبرة.

ما تقوم به روسيا، في محاولاتها للالتفاف على الحل الوحيد الممكن، الذي نصّت عليه قرارات الأمم المتحدة، وفي مقدمها بيان جنيف الذي ليس له سوى مضمون واحد، وهدف وحيد هو تلبية مطالب الشعب السوري في الانتقال من نظام استبدادي دموي، أدّى إلى الانفجار والثورة والحرب الأهلية، إلى نظامٍ يمثل الشعب، ويخضع لإرادته، ويعيد السيادة إليه في بلد حولته عائلة الأسد وأتباعها إلى مزرعةٍ عبودية، أقول إن ما تقوم به روسيا هو عملية فاشلة وسياسة وخيمة العواقب. فهي بمقدار ما تعطل التسوية، وتؤجلها إلى زمنٍ غير مسمى، تساهم في تفاقم حالة التعفّن في الوضع التراجيدي أصلا، وفي تعميق مشاعر الإحباط والضغينة والحقد وتكريس انقسام البلاد والرأي العام وتكريسه، وقتل أي أملٍ في المصالحة الوطنية، وبالتالي في سلام أهلي قريب. ولن تستطيع، مهما فعلت، أن تلوي إرادة الشعب السوري الذي ثار على الحكم الاستبدادي، والتمييز الطائفي معا، وتلغي تطلعاته المشروعة، وتحول مضمون العملية السياسية من عملية تغيير النظام وإقامة نظام بديل إلى إعادة الشرعية لنظام الأسد المتهالك والمهترئ، أخلاقيا وسياسيا وعسكريا معا، عن طريق إقناع المعارضة بالالتحاق به، أو التفاهم معه حول بعض المناصب السياسية التي يعادل القبول بها من المعارضين، في نظر الشعب خيانة وطنية وإنسانية وتبرعا بتمكين الأسد من خلط الأوراق والتهرّب من المسؤولية والفرار من العدالة، في ما ارتكبه من الجرائم ضد الإنسانية.

يمكن للروس أن يفاوضوا على مصالحهم في سورية، وربما مصالح حلفائهم. وهذا ممكنٌ ومشروع. لكنهم لا يمكن أن يفرضوا على السوريين، لضمان هذه المصالح، نظاما همجيا واحتلالا أجنبيا إيرانيا رسميا تسبب، حتى الآن، بموت ما لا يقل عن مليون إنسان، من دون الحديث عن ملايين المعاقين والميتمين والمشردين واللاجئين. بمعنى آخر، لا يمكن أن تكون الضمانة المطلوبة لهذه المصالح والتحالفات الروسية إعدام أمل السوريين ومستقبلهم، وفرض الأمر الواقع عليهم، والقضاء على سورية، دولة ووطنا، واستعباد شعبها إلى الأبد.

لا يمكن للسلام أن يتحقق في سورية عن طريق تحويل العملية السياسية التي لا تزال مستمرة، منذ ست سنوات، وصدرت فيها عشرات التقارير الأممية إلى عملية إعادة إعتبار للأسد وحكومته ونظامه الدموي. التمسّك بهذا الهدف يعني ببساطة أن موسكو لا تسعى إلى حل، حتى على قاعدة التسوية، وإنما تريد إنزال الهزيمة السياسية الكاملة بالشعب السوري، وإجباره على الخضوع والاستسلام، وتقبيل أحذية قتلته، والضرب عرض الحائط بأي مبادئ أخلاقية أو قانونية، والاستمرار في إنكار السياسة، وإلغائها في المجتمع، وتنصيب الحذاء العسكري رمزا للسيادة "الوطنية"، كما فعل أنصار الأسد الذين خلدوا ذاكرته بنصبٍ كبير في مدينة اللاذقية. والنتيجة الحتمية لذلك القضاء على أي أمل بعودة الحياة الاجتماعية الطبيعية واستعادة العلاقة الوطنية.

الروس في طريق خاطئ، وعليهم أن يغيروا من توجهاتهم وخططهم. واستمرارهم على هذا المنحى، وتجاهلهم تطلعات الشعب السوري، واستهتارهم بها، والتمسّك بإرضاء نظام الأسد وبعض مستوزري المعارضة، سوف يجهض جميع جهودهم، ويحرمهم من إمكانية ريادة الحل والتوصل إلى تسوية قابلة للحياة وذات صدقية، مما هم في أمس الحاجة إليه، لصيانة مواقعهم وتثبيت مكاسبهم السياسية، وضمان الإبقاء على نفوذهم في سورية، وربما صداقة الشعب السوري لهم في المستقبل بعد الخروج من المحنة. وفي المقابل، سيضاعف فشلهم نقمة السوريين الذين سوف يحمّلونهم النصيب الأكبر من المسؤولية في استمرار المحنة التي يعيشونها منذ ست سنوات، بسبب تعطليهم مجلس الأمن، وإنقاذهم المشروع الإيراني الاستعماري، وتمسكهم بنظام الإبادة الجماعية. لأن الكارثة التي سيقود إليها هذا التعطيل ستكون أكبر أثرا، وأبعد مدى من كارثة الحرب الداخلية نفسها، بالنسبة للعالم أجمع، عندما سيدرك ملايين الأطفال والشبان الذين دمرت حياتهم، وهجروا من بيوتهم وبلدهم، وحرموا للأبد من التعليم والعمل والمستقبل، واختبروا حياة المخيمات والتشرد والبؤس والضياع، سنوات طويلة، أن الموت أرحم من الحياة، وأن الانتقام أسرع، تحققا من وعود السلام، وأن الاقتصاص للدم المستباح أسهل منالا من العدالة الغائبة.

روسيا أمام خيارات حاسمة وصعبة. إما أن تقطع مع المشروع الايراني الرامي إلى تمديد أجل الحرب إلى ما لا نهاية، حتى يتمكّن من تكريس مكاسب استراتيجية، استثنائية، لا يوجد أي أساس ممكن لا قانوني ولا أخلاقي ولا سياسي لبقائها بالسلام. وتضغط بجدية من أجل وضع حد للحرب ودفع الأمور في اتجاه الحل السياسي، أو تترك نفسها تنجر وراء مشاريع طهران الإمبراطورية، التي لا يمكن الحفاظ عليها من دون الاستمرار في الحرب، والمضي أكثر في تمزيق النسيج الوطني السوري، وفرض وقائع جديدة على الأرض، وتحويل لا رجعة عنه في البنية الديمغرافية والجيوسياسية. وفي النهاية احتواء الدولة السورية أو ابتلاعها، كما حصل مع العراق ولبنان.
لا يعني هذا بالضرورة إلغاء التحالف مع طهران بالضرورة، ولا يحتاجه. إنما يعني الاختيار بين أن تكون روسيا الكلب، أو ذنب الكلب بحسب التعبير الذي استخدمه مسؤول روسي كبير، للإشارة إلى علاقة روسيا بالأسد ونظامه. مع اعتقادي أن إيران هي التي نجحت، في النهاية، في نصب فخ لروسيا، أو أن روسيا وقعت في الفخ الذي نصبته لنفسها، عندما اعتقدت أنها تستخدم التحالف مع طهران، لتعزز مواقعها في سورية، وأنها تستطيع، في اللحظة المناسبة، المساومة على النفوذ الايراني، في مقابل المكاسب الجيوسياسية والاقتصادية والسياسية التي ستجنيها في المشرق كله. واليوم جاءت، كما يبدو، ساعة الحقيقة لحسم مسألة لمن الهيمنة، أو الكلمة الأخيرة، في تقرير مصير الحل السياسي أو العسكري في سورية.

اقرأ المزيد
١٤ نوفمبر ٢٠١٧
واشنطن وأذرع إيران في المنطقة

في طريقه إلى فنلندا للاجتماع بقيادات 12 دولة أوروبية والتداول في شأن غايات روسيا من تحركاتها في أوروبا الشرقية «سابقاً»، أدلى وزير الدفاع الأميركي جيمس ماتيس بتصريح لافت للصحافيين حيث قال: «أؤيد المفاوضات الرامية إلى إنهاء الحروب الدائرة في سورية منذ ست سنوات بما فيها إنهاء تنظيم داعش». وتابع: «لقد عبّر وزير الخارجية تيلرسون للمبعوث الأممي عن الملف السوري، ستيفان دي ميستورا، وبقوة، عن الموقف الأميركي من محادثات السلام في آستانا التي تدعمها موسكو، وأوضح الوزير تيلرسون كيفية الانتقال من آستانا، والعودة إلى جنيف، حيث واشنطن تشارك الأمم المتحدة في عملية المفاوضات وتدعم الدفع بها قُدماً».

العارف بالتقاليد السياسية الأميركية يدرك أن وزير الدفاع الأميركي، المعيّن في البنتاغون مباشرةً من الرئيس الأميركي، عادة ما يكون مدنياً وليس عسكرياً. إلا أن الرئيس ترامب اختار لهذا المنصب جنرالاً مخضرماً في الحياة العسكرية، صرف نفسه لها حتى أُطلق عليه لقب «الراهب المحارب»، وهو الرجل الستيني الأعزب الذي اختار البيت العسكري عائلة له. فالمؤسسة الجمهورية التي تؤمن بالحسم العسكري عندما يستحيل العمل السياسي أو الديبلوماسي، في حل أزمة معقّدة ومتعدّدة الأوجه والذرائع كالحالة السورية، اختار رأسها هذه المرة أن يدعم الديبلوماسية الأممية لإيجاد مخارج سياسية للحرب السورية، لا سيما أن تنظيم «داعش» الإرهابي قد شارف على الاندحار والسقوط تماماً في العراق وسورية بعد أن انهارت عاصمتاه على التوالي، في الموصل ثم في الرقة، وقتل من قتل من أفراده وفرَّ من فرّ.

اختار ماتيس أن يدعم المسار السياسي في جنيف للمضي في محادثات السلام السورية التي من المفترض أن تستأنف في 28 تشرين الثاني (نوفمبر) الجاري بعد توقف طال أشهراً ثلاثة، وكذلك إثر فشل محادثات آستانة في جولتها السابعة أمام تمسك المعارضة بشرط خروج الميليشيات الإيرانية من الأرض السورية بتشكيلاتها كافة: العراقية والإيرانية والأخرى العابرة للقارات، حيث استقدمت إيران ودربت أجانب ضمن مجموعات طائفية مقاتلة كفرقة «فاطميون» وفرقة «زينبيون». وقد سبق أن اعترفت طهران بأنها جنّدت الفرقة الأولى من السجناء الأفغان الذين أفرجت عنهم شرط القتال في سورية، بينما شكلت الثانية من باكستانيين شيعة يسكنون إيران.

وبينما يرتفع إمكان التصادم الميداني بين القوات الروسية والأميركية على الأرض السورية بعد تراجع «داعش»، حيث كل طرف يساند طرفاً معادياً، تتريث الولايات المتحدة التي تدعم المعارضة في التصعيد الميداني في مواجهة روسيا داعمة النظام، ولتتحوّل إلى المعركة السياسية في جنيف كما نقلتُ أعلاه على لسان وزير الدفاع الأميركي. كما ارتأت واشنطن أن تدعم مساعي المملكة العربية السعودية لإقامة حوار سوري وطني شامل يجمع فرق المعارضة بطيفها الواسع للتوجه إلى جولة جنيف 8 بوفد وطني مهني صاحب كفاءات عالية أُطلق عليه اجتهاداً «وفد كسر العظم»، حيث من المفترض أن يكون قادراً على الأداء التفاوضي بأعلى مراتبه الديبلوماسية والسياسية والإجرائية بهدف تحصيل حقوق الشعب السوري سياسياً فيما لم نحصّله ميدانياً للأسف بسبب الدخول الروسي الرسمي والإيراني الميليشياوي المباشر لإنقاذ منظومة حكم الاستبداد في سورية.

أما عن التغلغل الإيراني في سورية، وإذ ينفد صبر الولايات المتحدة بعد أن بلغ السيل الزبى لجهة تدخلات طهران في المنطقة، وانتشار أذرعها العصبوية الطائفية مهددة الأمن والاستقرار أينما وصلت مخالبها وقد عاثت فساداً بحشدها الشعبي في العراق، وبـ «حزب الله» ومشتقاته في لبنان وسورية، وبحوثييها في اليمن، بل غدت تهدد سلامة الملاحة الدولية في باب المندب، وتستهدف بصواريخها المدنيين في عاصمة كبرى مثل الرياض، فإن واشنطن تعدّ لها العدة على المستويات الرئاسية والتشريعية والحكومية دونما استثناء. فتغريدات الرئيس ترامب وموقفه من الاتفاق النووي المعزَّز بتهديدات عالية اللهجة لطهران إذا ما استمرت في تفريخ الميليشيات المتطرفة وغامرت في طموحها النووي العسكري الرامي إلى تهديد أمن جيرانها واستقرار المنطقة، وإدراج وزارة الخزانة الأميركية حديثاً الحرس الثوري الإيراني على قائمتها للعقوبات، وكذا إحالة الاتفاق النووي مع إيران إلى الكونغرس لبحث إمكان انسحاب الولايات المتحدة منه، وتصريح الناطق الرسمي باسم البنتاغون، الميجور آدريان رانكين غالوي، إثر إطلاق «البروكسي» الحوثي في اليمن صاروخاً باليستياً إيرانياً باتجاه مطار الرياض الدولي المدني، إذ أفاد بأن: «واشنطن ترتبط بعلاقات دفاعية قوية مع المملكة وهي تؤيد المواقف السعودية التي تكشف دور إيران الشرير في اليمن»، كل هذه الحيثيات مجتمعة ترتبط عضوياً بانفراج سياسي في سورية يتأسس في مؤتمر ترعاه الرياض في 22 و23 الشهر الجاري، وبحملة تطهير للشر الحوثي البديل في اليمن يقودها التحالف العربي، وبتوجّه أميركي لِلَجْم الحشد الطائفي ومفرزاته في صفوف الجيش العراقي، وذلك في ربط وحل متزامن بين الرياض وواشنطن لخيوط العقدة الإيرانية التي أينعت رؤوسها وحان قطافها.

اقرأ المزيد
١٤ نوفمبر ٢٠١٧
الأكراد وقد صاروا قتلة الحسين بن علي!

امتد الشعور الانتصاري ليشمل الأكراد هذه المرة. انتصر «الحشد الشعبي» وما يوازيه على الموصل وقبلها على حلب وبيروت، وها هو اليوم ينتصر على الأكراد. وفي الزيارة الأربعينية شهدنا ندبياتٍ ضمت أهل الشمال إلى الظلامة الحسينية. صار الجماعة من «ظلمة أهل البيت». المسألة لم تأخذ أكثر من أيام قليلة انتقلوا فيها من كونهم حلفاء في عراق ما بعد صدام، إلى شياطين الروضة الحسينية. ورئيس الحكومة العراقي حيدر العبادي صار بطلاً ليس لأنه «هزم داعش في الموصل»، بل لأنه «هزم الأكراد في كركوك». لم يحتج الأمر إلى أكثر من أيام قليلة، جرى خلالها تبديل الأقنعة وتحويل هوية الشيطان. الأمر مخيف فعلاً، ليس فقط لأن الإيرانيين قرروا أبلسة الأكراد فكان لهم ما أرادوا، بل بسبب سهولة الاستجابة والجهوزية الشعبية لتلبية المهمة. الوقت القصير الذي استغرقته كتابة ندبيات وأراجيز وتمثيلها في مشاهد «كربلائية» خلال الزيارة الأربعينية. الاستعداد المتواصل لتوظيف الظلامة في مشهد راهن وفي جعله امتداداً لها. والغريب أن الظلامة الأصلية تنطوي على مرارة الخيبة والخذلان، فيما الانتصار لا يتسع لغير الانتشاء. فكيف يمكن لمنتصر أن يبكي؟ وكيف تمت المواءمة بين نشوة «النصر» ومرارة الفقد والخذلان.

إنه الشرط السياسي الراهن. لا بأس من اللعب في الظلامة في سبيله. اللحظة تقتضي أن ينضم الأكراد إلى قتلة الحسين، فلا ضير من ضمهم. لا خوف على الرواية، فلطالما جرى توظيفها. ألم يبحث «مؤرخو» الثورة في إيران على أصل ساساني لأمهات الأئمة. جرى ذلك بكل سلاسة ومن دون معوقات. فالثورات لا تشترط تدقيقاً، ولا تحاسب على أخطاء في سرد الرواية. أي شيء ينسجم مع مقولاتها يمكن لها أن تضمه من دون أن يرف لها جفن.

الرشاقة في الانتقال من حليف إلى حليف، ومن عدو إلى عدو، يدفع إلى شعور بأن لا شيء حقيقياً في منطقتنا. لا شيء صلباً ولا شيء أصلياً. حتى المودة بصفتها شعوراً عابراً، عمرها قصير جداً. من يسمع مفوّهي «الحشد الشعبي» يتحدثون على شاشات التلفزيون عن عدوهم الجديد يصيبه ذعر. أين كانت مختبئة كل هذه المشاعر؟ هل يكفي حدث الاستفتاء لانتفاخها على نحو ما انتفخت؟ المسألة لا تكمن في أن جهة قررت أن الأكراد أعداء، بل في سرعة الاستجابة وفي حجمها. إذاً لا شيء حقيقياً. لا المودة ولا الظلامة. هذا تماماً ما يجب دفعه ومنعه. أي أن يُصاب العدل الذي تنطوي عليه أي حكاية. أن يكون سهلاً ومطواعاً وقابلاً للتوظيف بالسهولة التي توظف فيها الأغاني والأراجيز وقصائد شعراء البلاط.

ثمة مأزق يواجه الظلامة اليوم، فالحسين بطل ولم يسع إلى انتصار. هو بطل لأنه كذلك، لأن كربلاء واقعة انكسار إيجابي، وفيها تمت أيقنة الهزيمة بصفتها ظلامة. أما الزاحفون المنتصرون إلى الزيارة الأربعينية اليوم فلم يكترثوا إلى أنهم يقتلون الحكاية، وأنهم في صدد تجاوزها ووضعها وراءهم. هذا تماماً ما تنطوي عليه السهولة في ضم الأكراد إلى قتلة الحسين. فمن يكون في طريقه إلى تجاوز الحكاية لن يكون حريصاً على صلابتها. يمكن استعمالها في أي واقعة، ويمكن حجبها عن الكثير من الوقائع التي يشهدها العراق اليوم ويشهدها الإقليم.

ما يجري ليس ابتذالاً للظلامة، بل تجاوزاً نهائياً لها. كان يمكن لهذه المهمة أن تكون تقدّمية، لكنها اليوم عملية استبدال للظلامة بـ «الانتصار»، وعملية استعاضة عن قيم الترفع عن الانتصار بقيم الثأر وتوليد الضغينة وإنتاج ظلامات موازية.

العبادي سينجح في الانتخابات لأنه «هزم الأكراد». سينافس نوري المالكي في ظل هذه الحقيقة. ألم يكن الأكراد على حق حينما صوتوا بـ «لا للعراق» في استفتائهم؟ كان خطأ مسعود بارزاني في توقيته، أما وجهة التصويت، فمن الصعب أن تكون غير ذلك، في ظل قناعة الشيعة العرب المستجدة في أنهم «قتلة الحسين»، وفي ظل طغيان الشعور «الوحدوي» القاتل للسنة العرب.

اقرأ المزيد
١٤ نوفمبر ٢٠١٧
الحرب الشاملة تحتاج إلى «إجازة» روسية - أميركية

سقطت «القبة الحديد» التي كانت تظــــلل لبنان طوال السنوات الست الماضية. بات في قلب الصراع الإقليمي. بل في الصف الأمامي تتنازعه مشاريع إقليمية ودولية يخوض أصحابها مواجهات بالوكالة أو مباشرة في معظم الخريطة العربية. أُعيد زجـــه في خط المواجهة. فيما يكثر الحديث عن حرب واسعة يتجاوز مسرحها البلد الصغير إلى سورية والعراق. لعلها تعيد تحريك عجلة الديبلوماسية التي تعاني استعصاء ومآزق عدة، على وقع المدافع والصواريخ. بين ليلة وضحاها وجد لبنان نفســــه بلا غطاء، على رغم ما يبديه سياسيّوه من حرص على الوحدة والأمن والاستقرار. بات على خط النار كأنه مقبل على حرب كبرى. فهنا حدوده مع إسرائيل من جهة، وهناك كيفما نظر تبدو إيران في كل مكان، من جنوبه إلى خارج حدوده شمالاً وشرقاً من الجولان إلى العراق حيث تتزاحم قوى كبرى وأقوام من شتى المذاهب والطوائف. ما يثير المخاوف من اندلاع هذه الحرب سيل من التصريحات والتهديدات، هذا الاهتمام الدولي الواسع بالتداعيات التي خلفتها استقالة سعد الحريري من رئاسة الوزراء. فيما كانت بيروت تستعد للتعامل مع العقوبات التي فرضها الكونغرس الأميركي وبعض الدول الخليجية على «حزب الله»، في إطار استراتيجية لمواجهة الجمهورية الإسلامية. الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش عبّر عن قلقه إزاء التوترات المتصاعدة. وحذر من «صراع جديد في المنطقة»، لأنه «يمكن أن يسبب تبعات مدمرة». ووزير الخارجية الأميركي ريكس تليرسون حذر كل الجهات داخل لبنان وخارجه من استخدام هذا البلد «ساحة لصراعاتهم بالوكالة».

المخاطر تثقل على لبنان وأهل المنطقة كلها، في ضوء تعثر كل المساعي الدولية الناشطة هنا وهناك، من ليبيا إلى العراق. والحروب الأهلية لم تحط رحالها بعد. أما أن تنزلق دول المشرق عموماً إلى مواجهة واسعة تنطلق من لبنان أو من الجولان، أو من كردستان وغيرها، فاحتمال وارد إذا أخطأ بعض الأطراف في حساباته، أو إذا وقع محظور بالمصادفة أدى إلى إشعال الشرارة الأولى. حتى الآن لا يبدو أن الوكلاء المحليين تعبوا. وحتى الآن لم تتوافر ظروف دولية لا بد منها لإعطاء ضوء أخضر لمثل هذه المغامرة الكبيرة. هناك جدال مستمر بين الديبلوماسية والجنرالات لم يرس على قرار بالذهاب إلى حرب حاسمة. في إسرائيل، تتحدث دوائر إعلامية عن ميل لدى ساستها، خصوصاً رئيس الوزراء بنيامين نتانياهو ووزير دفاعه أفيغدور ليبرمان، لانتهاز الفرصة من أجل تحقيق جملة أهداف يتعلق بعضها بالوضع السياسي الداخلي الذي يربك أقطاب اليمين الإسرائيلي، وكذلك بالاستعدادات الأميركية لإعادة إطلاق العملية السلمية مع الفلسطينيين. ويتعلق بعضها الآخر بالرغبة في الثأر من «حزب الله» والحؤول دون ترسيخ إيران أقدامها في سورية. لكن النخبة العسكرية لا تميل إلى مثل هذا الخيار. وترى أن قرار وقف النار بعد حرب تموز 2006 علق المواجهة بين الطرفين بحراسة دولية توفرها قوات أممية من أكثر من عشرين دولة، ولا حاجة إلى إسقاط القرار 1701.

بل إن القيادة العسكرية في إسرائيل تحرك غاراتها منذ اندلاع الأزمة في سورية على مخازن أسلحة أو قوافل إيرانية تنقل عتاداً إلى «حزب الله». ولا تلقى هذه الغارات أي ردود تذكر. ولا تخفي إيران انزعاجها الشديد من هذا التفاهم بين موسكو وتل أبيب، والذي يتيح بموجبه لإسرائيل مواصلة عملياتها في المسرح السوري. ولا تملك سوى الإصرار على الدفع بميليشياتها نحو حدود الجولان المحتل لعلها تسقط وعد وزير الدفاع الروسي سيرغي شويغو نظيره الإسرائيلي بتوسيع المنطقة العازلة لإبعاد هذه الميليشيات عن حدود الجولان المحتل. ومن نافل القول إن الدولة العبرية جنت وتجني مكاسب لم تحلم بها جرّاء تدمير الجيوش العربية وتعميم الحروب الأهلية في المنطقة. ولا يمكنها في ظل وجود روسيا في بلاد الشام أن تغامر بحرب قد تستفزها. خصوصاً أن موسكو لا تزال تراهن على تفاهم مع إدارة الرئيس دونالد ترامب ينتهي برفع العقوبات الاقتصادية المفروضة عليها بعد ضمها شبه جزيرة القرم. وهي الآن تحاول أن تستغل موقفها من أزمة كوريا الشمالية والمأزق الذي تواجهه واشنطن حيال هذه الأزمة، من أجل المقايضة أيضاً. ولا شك في أن البيت الأبيض يعوّل بل يشدد على تفاهم مع موسكو وبكين أولاً من أجل تسوية الأزمة مع بيونغ يانغ.

أبعد من ذلك، لا يسمح الكرملين بضرب حليفه الإيراني وميليشياته التي عوّل عليها كثيراً في الميدان السوري. ولا يزال يحتاج إليها لترسيخ مشروعه في بلاد الشام والمنطقة... إلا إذا غالت طهران أو المتشددون فيها وذهبوا بعيداً في تقويض مساعيه للتسوية السياسية ووقف الحرب في سورية. وليس سراً أن الرئيس بوتين الذي أبرم اتفاقات نفطية خلال زيارته طهران أول الشهر الجاري بنحو ثلاثين مليار دولار، يدرك أن هذه الاتفاقات لا تنعكس بالضرورة تفاهماً تاماً في الشؤون أو القضايا السياسية. ويضيره بالتأكيد أن يسمع مستشار المرشد الأعلى علي أكبر ولايتي وهو يتوعد خلال زيارته قوات إيرانية وميليشيات موالية في حلب بتحرير المناطق الشرقية من سورية وغربها، في إشارة أولى إلى الرقة التي حررتها «قوات سورية الديموقراطية» بدعم من قوات التحالف الدولي الذي تقوده الولايات المتحدة. ويكرر الطرفان الروسي والأميركي أنهما متمسكان بالتنسيق لئلا يقع صدام بين الأطراف التي يدعمها كل منهما، وفي إشارة ثانية إلى إدلب التي يشملها اتفاق «خفض التوتر»، وهو اتفاق قضى بانتشار قوات للنظام وحلفائه شرق المحافظة جنوب حلب، فيما تنتشر قوات تركية في المدينة وأريافها. وتواصل هذه القوات فرض الهدوء في هذه المنطقة بالتنسيق مع موسكو التي تغض الطرف عن الترتيبات التي تقوم بها أنقرة لتذويب عناصر «جبهة النصرة». كأن المسؤول الإيراني يعبر صراحة عن اعتراض بلاده على قيام هذه المناطق، تماماً مثل النظام في دمشق. ويقود هذا التوجّه ببساطة إلى إعاقة الرئيس بوتين الذي يستعجل ترسيخ الهدنة في سورية، عبر مساري آستانة وسوتشي وغيرهما. ويتمسك بمناطق خفض التوتر والمصالحات التي أبرمها قادته العسكريون مع فصائل محلية في مناطق عدة. فما يستعجله فعلاً هو فرض رؤيته للتسوية السياسية تمهيداً لخفض مستوى انخراطه العسكري. فهو يخشى الغرق في المستنقع، لإدراكه أن الحرب في سورية لن يخرج فيها طرف منتصر وآخر مهزوم.

وإذا كانت الجمهورية الإسلامية تعاند وتعارض هذه الرؤية وتخشى في المحصلة أن يقوم تفاهم بين موسكو وواشنطن تكون فيه الخاسر الأكبر، فإن الكرملين ينتظر بفارغ الصبر مثل هذا التفاهم مع إدارة ترامب مستخدماً «إنجازاته» على الأرض السورية. وقد سعى ولا يزال يسعى إلى توسيع دائرة اتفاقاته مع دول إقليمية، من تركيا إلى السعودية ومصر لتبقى له وليس لطهران اليد الطولى. وهو يعرف تعقيدات أي حرب على إدلب وحدود تركيا، مثلما يعرف صعوبة المواجهة مع «قوات سورية الديموقراطية» التي تملك أكثر من سبعين ألف مقاتل أشرفت قوات أميركية على تدريبهم وتسليحهم وأبلوا بلاء حسناً في محاربة «داعش».

ويترقب الروس بحذر ما سترسو عليه سياسة إدارة ترامب في سورية والعراق أيضاً. وهم يدركون أن الولايات المتحدة قادرة على أداء دور معرقل لمشروع التسوية الروسية لأزمة سورية. بل يمكنها بعد انخراطها في ربط الأزمات من بيروت إلى بغداد، أن تعيق كل ما تسعى الجمهورية الإسلامية إلى ترسيخه. لقد حققت هذه مزيداً من المكاسب وسعت إلى ملء الفراغ بعد سقوط الموصل. ثم بعد سقوط مشروع الاستفتاء في كردستان وما انتهى إليه الوضع في كركوك والمناطق المتنازع عليها. وإذا كانت هذه التطورات عززت شهية الإيرانيين نحو مزيد من الهيمنة والسيطرة، فإنها في المقابل فاقمت مخاوف أميركا وتركيا أيضاً من تحول كردستان كلها «محمية إيرانية». وتملك واشنطن وحلفاؤها التقليديون في المنطقة الكثير من الأوراق، ويمكنهم أن يقلبوا الطاولة بوجه الجميع. لذلك تخشى طهران أن تصل موسكو إلى مرحلة لا تعود فيها بحاجة إلى مساعدتها الميدانية في سورية، خصوصاً إذا تقدمت نحو تفاهم مع إدارة ترامب يخفف أعباءها العسكرية في بلاد الشام. بالطبع لا يرغب الكرملين في ضرب الجمهورية الإسلامية. ولا حتى الولايات المتحدة مستعدة لحرب واسعة معها. كل ما تصبو إليه الدولتان الكبيرتان هو دفعها إلى داخل حدودها. وفي هذا مصلحة لروسيا بلا شك. فطهران تنافسها في أفغانستان وآسيا الوسطى والقوقاز وأمكنة أخرى أيضاً.

الحرب الواسعة في المنطقة لها حسابات أكثر تعقيداً من حرب الوكلاء. وقد تبدو بعيدة ما لم تتوافر لها شروط وظروف تنجم عن عجز مطلق للديبلوماسية. قد تصير حاجة لا مفر منها إذا حل التفاهم بين الدول الكبرى وعاندت الدول الساعية إلى الهيمنة على المنطقة العربية. مثل هذا التفاهم يفتح الطريق إلى عمل عسكري كبير في الإقليم.

اقرأ المزيد
١٣ نوفمبر ٢٠١٧
المتباكون على استقالة الحريري

يرفض اللبنانيون عادة مواجهة مشكلاتهم وأزماتهم الداخلية ويحاولون تحميل الخارج مسؤولية هذه الأزمات. لذلك لا يُعتبر بحثهم عن أسباب الأزمة الحكومية الحالية خارج الحدود أمراً جديداً. فقد أصبح الجدل القائم في لبنان اليوم يدور حول شكليات استقالة الرئيس سعد الحريري والمكان الذي أعلنت منه، بدل أن يكون الجدل الحقيقي وموضوع النقاش الداخلي حول الدوافع التي أدت إلى الوضع الذي نحن فيه، والذي دفع بالحريري أن يضطر إلى التخلي عن مسؤولية رئاسة الحكومة بالطريقة التي قام بها.

في إطار تحميل الآخرين مسؤولية أزمات اللبنانيين، أطلقوا على الحرب الأهلية التي اقتتلوا فيها لعقد ونصف من الزمن «حرب الآخرين»، لتبرئة ضمائرهم مما ارتكبت أيديهم من قتل وتخريب ودمار بحق بلدهم. وفي محاولة للهرب من مواجهة مشاكلهم، أغمضوا عيونهم عن السلاح الفلسطيني الذي كان يهيمن على القرار السياسي، حتى وصل بهم الأمر إلى تشريع لهذا الوجود في ما سمي آنذاك «فتح لاند» في جنوب لبنان، وبقيت بنود «اتفاق القاهرة» سرية، ووافق عليه مجلس النواب اللبناني من غير أن يطلع على مضمونه، في فضيحة لم تحصل في أي بلد من بلدان العالم، متقدماً كان أم متخلفاً.

اليوم يستسلم اللبنانيون، أو معظمهم، أمام هيمنة «حزب الله» السياسية والأمنية على بلدهم، معتبرين أن ليس في يدهم حيلة، ويقنعون أنفسهم أن من الطبيعي أن يكون في البلد الواحد جيشان، أحدهما يصفه رئيس الجمهورية بغير القادر على حماية البلاد، و «جيش» آخر يقول الرئيس عون إنه يجب أن يبقى محتفظاً بسلاحه إلى أن تحل أزمة الشرق الأوسط، وما قد يتوافر من أزمات دولية أخرى. أما الخنوع السياسي والإعلامي أمام دور «حزب الله» فلا مثيل له في أي بلد يحرص على سيادته، وعلى كرامة مؤسساته. خنوع يصل إلى حد عبادة الشخص، من غير أن يشعر من يخضعون لهذه الهيمنة أنهم لا يسيئون فقط إلى مواقعهم السياسية والإعلامية، بل يعترفون من خلال سلوكهم بحجم النفوذ الذي بات يمارسه هذا الحزب على كل ما في البلد، بسلاح التخويف من العواقب، التي بات يدركها ويخاف منها الجميع.

وبالعودة إلى الأزمة الحكومية الحالية، يكفي القول بعيداً من الشعارات الكاذبة التي تدعي الحرص على رئيس الحكومة المستقيل، إنه لو قام من يطلقون هذه الشعارات باحترام بنود التسوية السياسية التي ارتضى الحريري بموجبها أن يوافق على انتخاب ميشال عون رئيساً للجمهورية، لما كانوا في حاجة اليوم إلى ادعاء الدفاع عن مركز رئاسة الحكومة، وكأنهم أكثر الناس حرصاً على كرامة هذا المركز، او في حاجة إلى المطالبة بعودة الحريري إلى هذا الموقع، لاستكمال مهزلة التسوية التي دفع ثمنها الحريري من رصيده السياسي ومن قاعدته الشعبية.

كان الحريري رئيساً للحكومة، صحيح. ولكن ألم تكن هناك حكومتان داخل هذه الحكومة؟ واحدة تأخذ القرارات داخل مجلس الوزراء وأخرى يديرها «حزب الله» بالتكافل والتضامن مع رئيس الجمهورية، تأخذ القرارات في الخارج، وتدير سياسة لبنان الخارجية على هواها، وتدفع العرب إلى استعداء لبنان، بفعل التهديدات المستمرة وشبه اليومية على الشاشات لأنظمتهم، والاستهزاء العنصري بشعوبهم؟ ألم يكن هناك جيشان ولا يزال، واحد يحارب الإرهاب ببسالة على الحدود، وآخر يعقد الصفقات مع الإرهابيين ويُخرجهم من جحورهم بالباصات المكيفة «مكافأة» لهم على ذبح الجنود اللبنانيين؟

هؤلاء أنفسهم، الحريصون اليوم على كرامة موقع رئاسة الحكومة هم الذين سحبوا هذه الرئاسة من يد سعد الحريري، فيما كان مجتمعاً بالرئيس الأميركي باراك أوباما، من غير أن يشعروا آنذاك بأي حرج حيال إهانة موقع رئاسة الحكومة. وهؤلاء أنفسهم هم الذين استخفوا بمشاعر رئيس الحكومة وما ومن يمثل في الموقع الذي هو فيه، عندما لم يتركوا باباً لم يحاولوا فتحه باتجاه النظام السوري القاتل، فيما كان سعد الحريري يدعوهم، ليس إلى انتقاد هذا النظام كما يُفترض بأي صاحب حس إنساني أن يفعل، بل على الأقل أن يلتزموا بالشروط التي تم الاتفاق عليها، وإبعاد لبنان عن التورط في موقف إلى جانب هذا النظام، بشكل معادٍ لمشاعر ومواقف أكثرية القادة والشعوب العربية.

... ويتساءلون بعد كل هذا عن أسباب استقالة سعد الحريري!

اقرأ المزيد
١٣ نوفمبر ٢٠١٧
عون ونصرالله واستقالة الحريري

في خطابين متتاليين في أقل من أسبوع وظف الأمين العام لحزب الله حسن نصر الله، كل مهاراته الخطابية لحرف انتباه اللبنانيين عن القضية الرئيسة التي فرضت استقالة رئيس الحكومة سعد الحريري. يريد أن يجعل من عودة الرئيس المستقيل القضية الرئيسة، وليس حقيقة أنه هو تحديداً من قوّض التسوية التي على أساسها قدم الحريري تنازلاً كبيراً بترشيح ميشال عون رئيساً للجمهورية وأن يتولى هو رئاسة الحكومة. كانت تسوية، أو هكذا يُفترض، لحماية الدولة ولإخراج لبنان من أتون الصراعات الإقليمية، خصوصاً الحرب الأهلية السورية، بعد شغور رئاسي استمر أكثر من سنتين. وهو شغور فرضته إيران من خلال الحزب دعماً للجنرال عون بعدم قبول أي مرشح آخر للرئاسة، بما في ذلك النائب سليمان فرنجية (صديق عائلة الأسد وحليف آخر لحزب الله) الذي سبق للحريري أن رشحه في تنازل آخر.

استمرت تنازلات رئيس الحكومة بعد انطلاق العهد الجديد بما في ذلك الموافقة على إقالة كل القضاة اللبنانيين الذين دعموا المحكمة الدولية الخاصة باغتيال والده، رفيق الحريري. كان نصر الله يصر على إقالة هؤلاء القضاة منذ رئاسة نجيب ميقاتي مروراً برئاسة تمام سلام. لماذا؟ لأن حزبه هو المتهم الرئيس في هذه المحكمة.

المفارقة أن سعد الحريري، وريث المغدور، هو من وافق على إقالة القضاة. حتى هذا لم يشفع لرئيس حكومة العهد الجديد. تنازلات الحريري بالنسبة إلى الحزب ليست تضحيات لانتشال الدولة من الانهيار، والحفاظ على هويتها العربية. هي تنازلات من طرف ضعيف لطرف منتصر في صراع ترى إيران أننا لم نقترب من خواتيمه بعد. مأزق لبنان، ومعه كل العرب أن حزب الله ذراع إيرانية في هذا الصراع. وهذا ما يردده نصر الله نفسه في مطولاته الخطابية من أنه، ومعه الحزب، يعمل تحت راية «ولاية الفقيه»، وأنه فخور بذلك. الأسوأ من ذلك أن الحزب عضو في الحكومة التي يستخدمها لتشريع دوره الإقليمي في خدمة إيران، وللتغطية على أنه بات دولة داخل الدولة بجيشه وإعلامه ومخابراته وشبكة اتصالاته، وبموازنته لتمويل كل ذلك التي تأتيه من إيران، كما يقول نصر الله. مبعث السخرية أن كل ذلك داخل دولة لا تنفك عن القول بأنها تنأى بنفسها عن صراعات المنطقة. والنتيجة التسوية في نظر الحزب وأمينه العام هي غطاء لبناني للاستمرار في دوره الإقليمي كذراع إيرانية في المنطقة. انهيار التسوية باستقالة الحريري لم يرفع هذا الغطاء وحسب. بل كشف أن تواطؤ نصر الله مع عون على التسوية هو الذي أدى إلى انهيارها. من هنا سارع نصر الله بخطابيه المذكورين لأخذ انتباه اللبنانيين إلى مكان آخر. إلى ضرورة عودة الحريري، والعودة إلى إسطوانة إسرائيل والمقاومة. الحديث عن تحييد لبنان كان بالنسبة إلى الأمين العام ولا يزال مجرد حديث يتلهى به الضعفاء.

منذ البداية كان قبول الحريري بالتسوية مغامرة. صحيح أن المغامرة جزء من فن الممكن، لكن مع أطراف وقوى وطنية، أو طبيعية. حزب الله ليس كذلك. هو طرف مدجج بسلاح غير شرعي يأتي من خارج لبنان وبأموال ليست لبنانية. الأكثر من ذلك أن مرجعيته الأيديولوجية ليست لبنانية ولا عربية. وبالتالي فهو قابل ومستعد لأي عمل غير شرعي، بما في ذلك انتهاك تسوية تقوم عليها الحكومة. والتجارب مع الحزب منذ ما قبل 2005 وحتى الآن تصب في الاتجاه نفسه. وهذا طبيعي تماماً. فحسابات الحزب ومصالحه وارتهاناته ليست لبنانية، بل تقع خارج لبنان.

موقف نصر الله بعد الاستقالة طبيعي ومتوقع، خصوصاً أن استقالة الحريري رفعت غطاء كان يظن أنه ضمنه لخمس سنوات مقبلة. ما قد يبدو للبعض ليس طبيعياً هو موقف الرئيس عون الذي انشغل هو الآخر بعودة الرئيس المستقيل، ومحاولة توجيه تهم مبطنة للسعودية، من دون أن يبدي أي اهتمام بسبب الاستقالة وخطورته ودوره هو في هذا السبب. والحقيقة أن موقف عون طبيعي هو الآخر. فالذي فرضه رئيساً للدولة هو سلاح الحزب قبل تنازلات الحريري. خطأ الحريري أنه قدم بـ «التسوية» غطاء لهذا السلاح. لكن هناك فرقاً مهماً. عون قبِل أن يوفر برئاسته الغطاء المسيحي الذي يحتاجه الحزب، في حين أن الحريري أكد باستقالته أنه لا يرضى أن يظل رهينة لهذا الدور.

موقف الجنرال من الأزمة التي فجرتها الاستقالة يؤكد المؤكد. كان له موقف من شعار المقاومة الذي يرفعه الحزب. في حديث له عن مزارع شبعا مع صحيفة الأهرام المصرية في 21 نيسان (أبريل)، 2005 يقول إن أصل هذه المشكلة مع سورية وليس مع إسرائيل. ثم يضيف في شكل لافت أن القول: «إن مزارع شبعا لبنانية ويجب إبقاء السلاح لتحريرها ذريعة سقطت».

في حديث آخر إلى صحيفة «القدس العربي» قبل 11 سنة، وتحديداً في 21 تشرين الثاني (نوفمبر) 2006، سئل عون عما الذي سيفعله لنزع سلاح حزب الله في حال أصبح رئيساً للدولة. أجاب بالنص: «سأحمّل الدولة مسؤولية الدفاع عن البلد وتأمين الهدوء على الحدود، ودمج الأسلحة في النظام الدفاعي للجيش». بعدما أصبح رئيساً قال: «إن لبنان في حاجة إلى الحزب وسلاحه لأن الجيش اللبناني لا يزال ضعيفاً». أي أن السلاح الذي لم يكن شرعياً بات في نظر الرئيس كذلك عام 2017. قال ذلك من الخارج، أثناء زيارته مصر. ويعرف الجنرال أكثر من غيره أن موقفه المستجد من سلاح الحزب لم يكن جزءاً من تفاهمه مع الحريري. هذا تحديداً ما يؤكده صهره، جبران باسيل الذي أصبح وزيراً للخارجية في حديثه إلى صحيفة الأخبار اللبنانية في 22 تشرين الأول (أكتوبر) 2016. يقول: «تفاهمنا طاول كل شيء، ولكنه بقي في إطاره العام من دون أن يأخذ أي طابع، لا مكتوباً ولا تفصيلياً بتنفيذيته». أي أن التفاهم مع الحريري شمل سلاح الحزب، إلا أنه كان شفهياً، وعاماً (ليس تفصيلياً)، وليس مكتوباً، أي ليس ملزماً. وهذه صيغة تضمر نية المراوغة لأنها تعطي كل طرف في التفاهم حرية التصرف، وحرية التبرير. الحاكم الأساسي في هذه الحال هو ميزان القوة بين أطراف التفاهم. وبما أن سلاح الحزب إلى جانب الجنرال، رأى أنه يملك خيار فرض واقع السلاح وفرض شرعيته على رئيس الحكومة، بعدما بدأ العهد الجديد بالإقلاع.

في المحصلة انهارت التسوية لأنها لم تكن كذلك. كانت مجرد تفاهمات شفهية وعامة، وليست ملزمة. وكانت انتهازية أيضاً. قبل بها كل طرف بناء على فهمه هو بمعزل عن الطرف الآخر، وبناء على حاجته السياسية هو، وليس بناء على فهم وطني مشترك ومكتوب وملزم لكل الأطراف. من الواضح طبعاً أن الحريري غامر بقبول تسوية مثل هذه وهو يعرف أولاً أنه الطرف الأضعف، وثانياً أن عون بات مرتهناً للحزب لأنه أوصله للرئاسة، ثالثاً أنه بالتجربة منذ 2005 لا يمكن الوثوق بالتزام الحزب، ورابعاً أن مرجعية الحزب في كل الأحوال ليست لبنانية، ومن ثم فإن قراره، على رغم جعجعات نصرالله، ليس بيده تماماً. والواضح أيضاً أن الجنرال ومعه الحزب تعاملوا مع قبول الحريري على أنه تنازل مجاني، وبالتالي لا يلزمهم بشيء. هذه هي المشكلة الكبيرة التي يحاول الجنرال ونصر الله الهروب منها إلى الأمام. الآن بات على الرئيس عون تحمل تبعات حلمه الرئاسي، وتسويق أن داعمه الرئيس في تحقيق حلمه هذا ميليشيا متهمة بالإرهاب، وتبعيتها ليست له ولا للدولة التي يقف على سدتها، وإنما تقع في مكان خارج حدود هذه الدولة.

 

اقرأ المزيد
١٣ نوفمبر ٢٠١٧
أن تكون التسوية في سورية مخرجاً لتهدئة التوتر الإقليمي

المعتاد في الأزمات الدولية الممتدة كحالة الأزمة السورية، أنها تزداد تعقيداً كلما زاد التعقد الدولي والإقليمي حولها، كما أن التصعيد فيها يؤدي إلى مزيد من تعقد البيئة ومستويات الصراع المحيط بها. والواضح أن المشهد الإقليمي يزداد تعقيداً وصعوبة، ومِن مظاهر ذلك؛ الصاروخ الباليستي الذي اعترضته السعودية بعد توجيهه نحوها مِن الأراضي اليمنية، والاتهام السعودي الصريح لإيران وحزب الله بالوقوف خلف هذه الخطوة بما تتضمنه من تصعيد عسكري خطير، واستقالة رئيس الوزراء اللبناني سعد الحريري، وجملة المشهد الإقليمي المعقد، والذي يمكن أن يؤدي إلى تداعيات سلبية على قوس الأزمات التي تتلخص في أن بؤرة الصراع في المنطقة تنتقل من التركيز على الحرب مع «داعش» التي كانت سمة المرحلة الأخيرة؛ إلى شكل آخر أكثر حدة من مواجهة محورها إيران وحزب الله.

وسبق أن أشرتُ إلى أن الأزمة السورية أخذت منحنى جديداً بعد أن قامت الولايات المتحدة بإعادة تمركزها في هذه الأزمة بكلفة قليلة من خلال توظيف المئات مِن القوات الأميركية الخاصة الذين أسبغوا حصانة على قوات سورية الديموقراطية الكردية؛ معتمدين على عنصر الردع المتبادل بين واشنطن وموسكو، تاركة الأخيرة في موقف تجميد إعلان النصر النهائي والقبول بأحد أمرين؛ إما تسوية شاملة تراعي هذا التوازن الجديد وتقبل بدور لواشنطن، أو تقبل هي والحكومة السورية وحلفاؤهما بإنهاء للأزمة بتسوية المنتصر؛ مع وجود كيان كردي مدعوم أميركياً على جزء من الأراضي السورية بتداعيات ذلك التي قد تشمل إقامة قاعدة عسكرية أميركية؛ أياً كان حجمها، بما يرسخ أمراً واقعاً غير محدد المدى.

ومِن الواضح أن واشنطن بدأت التحضير لأجواء مشاركتها في تسوية المسألة السورية، وهو ما يتضح مِن إعلان وزير الدفاع الأميركي جيمس ماتيس؛ أخيراً، دعمه إيجاد حل ديبلوماسي للنزاع السوري وأن واشنطن تتطلع ومعها حلفاؤها إلى ما بعد القضاء على «داعش». وكان وزير الخارجية الأميركي ريكس تيلرسون حدّد سقف الموقف الأميركي في ضرورة إنهاء حكم الرئيس الأسد وعائلته– ومعنى ذلك ببساطة أن واشنطن مستعدة لقبول نفوذ ودور روسي مسيطر على الساحة السورية مقابل حفظ ماء وجهها مِن خلال إنهاء حكم الرئيس الأسد، وليس إنهاء النظام السوري الحاكم، ما يطرح السؤال حول مدى إمكانية تقبل موسكو لهذا السيناريو. وهنا نشير إلى أنه باسترجاع تطورات الموقف الروسي سنجد أنه مرَّ بتطورات عدة، ففي بعض المراحل التي شهدت التراجع الشديد للنظام السوري؛ كانت روسيا مستعدة لهذا السيناريو، فهناك تلميحات روسية إلى تطلع موسكو لإنهاء الأزمة مِن دون إصرار على استمرار الحكم أو الرئيس الحالي. ثم تراجعت موسكو بعد تدخلها الكثيف في أعقاب السيطرة الواسعة للأطراف المتطرفة على مساحات شاسعة من الأراضي السورية، والتراجع التدريجي للأطراف الإقليمية والدولية عن دعم هذه القوى المتطرفة. ونعود إلى ما بدأنا به من أنه مع تزايد الاحتقان الإقليمي ومع تأخر الاتفاق على تسوية شاملة في سورية، وأن يكون هذا الشمول متضمناً الأبعاد كافة التي تهملها مسارات التسوية الحالية، وعلى رأسها إعادة الإعمار وخطة للعودة الكاملة المشرفة للاجئين السوريين مِن دون أي تهديدات، وأن تنجح هذه التسوية في التعامل مع واشنطن وأطراف إقليمية. من دون هذا؛ يزداد خطر انتقال الاحتقان والتوتر إلى الساحة السورية بمستويات عنف جديدة، قد تزيد اشتعال المنطقة.

على أن ما نطرحه هنا هو أن مثل هذا الاحتمال بالغ الخطورة ويستدعي الكثير من الحذر والتفكير غير التقليدي، فالساحة السورية مدجّجة بالسلاح، وعلى أراضيها قوات أميركية وروسية؛ أياً كان حجمها، فضلاً عن قوات لأطراف إقليمية، فقصف مواقع لحزب الله قد يصيب مواقع إيرانية وربما روسية، وحتى لو كان هذا مستبعداً مع التكنولوجيا الحديثة، فالأخطاء ممكنة والحسابات يجب أن تكون دقيقة للغاية، وينبغي ألا نفتح الصراع على منعطفات تصعب السيطرة عليها، وتهدد مَن تبقى مِن الشعب السوري في أراضيه وليس فقط تهدد بتأخير عودة النازحين السوريين إلى ديارهم، فضلاً عن تهديد استقرار المنطقة وأمنها. مِن هنا؛ تأتي ضرورة تطبيق قواعد التفكير الرشيد والبحث عن مخرَج، وفي الواقع ليس مِن طرفٍ سوى روسيا قادر على وضع حد لهذا التوتر، بشرط التحرك الرشيد والسريع. ومفتاح هذا هو ضرورة البحث عما ينهي احتقان المنطقة، وهو عودة إيران تدريجاً إلى حدودها، بل والعمل انطلاقاً مِن ذلك على ذلك، لإعادة بناء علاقات أكثر صحية في المنطقة. وهنا، فإن تسوية الأزمة السورية قد تكون البداية الأسهل في ظل سيطرة روسيا الواضحة على أوراق الأزمة السورية، بإنتاج تسوية شاملة ومنطقية تنقذ الشعب السوري وتنهي معاناته التي طالت وكأن العالم اعتادها مثلما اعتاد معاناة الشعب الفلسطيني. تلك التسوية ينبغي أن تشمل استيعاب فصائل القوى السياسية غير المتطرفة في سورية؛ وتتضمن انتخابات بإشراف دولي يكفل السماح بالكثير من المراجعات، وإعادة دمشق إلى المنظومة الإقليمية والدولية، بالتزامن مع جهود إعادة إعمار سورية، وعودة منظَّمة ومدروسة للاجئين. أما كيف تصبح هذه التسوية وسيلة لإنهاء الاحتقان الإقليمي، فذلك بأن تتضمن خروج إيران وتركيا والميليشيات الأجنبية، والولايات المتحدة، وإكمال سيطرة الجيش السوري على أراضي البلاد، وبخاصة أن المجتمع الدولي قبل نفوذاً روسياً في سورية؛ أحسب أن موسكو ستديره في شكل بالغ الدقة والحذر، وأنه مع اكتمال عودة الدولة السورية لأوضاعها الطبيعية ستقتصر هذه العلاقة على التسهيلات البحرية والمكانة التي ستتمتع بها روسيا؛ ليس فقط في سورية بل إقليمياً، سواء مع حلفائها التقليديين أو مع أطراف المنطقة الأخرى، إذ ستكون قد تمكنت من نزع تدريجي لفتيل التوتر. نعم؛ هو أمر بالغ الصعوبة، خروج إيران وحزب الله من سورية، ولكنه خيار عقلاني قد يتيح فرصة لمقاربات أكثر هدوءاً في المنطقة، وسيتيح بدء توقف سياسات الامتداد الإيراني والانتقال إلى مقاربات جديدة للحوار والبحث عن تعايش إقليمي واحتواء التوتر. وتستطيع روسيا إن تجاوبت الأطراف بلغة العقل والرشادة، أن تقدم ضمانات تحمي المنطقة والعالم من انزلاق إلى منحدرات شديدة الخطورة ومليئة بعدم التيقن. وتحسباً لاحتجاج مَن سيبدي القلق على السيادة السورية، فعليه أن يتذكر أنه لا وجود لها الآن، بل ربما يسمح هذا بترتيبات جادة نحو استعادتها.

اقرأ المزيد

مقالات

عرض المزيد >
● مقالات رأي
١٣ أغسطس ٢٠٢٥
ازدواجية الصراخ والصمت: استهداف مسجد السويداء لم يُغضب منتقدي مشهد الإعدام في المستشفى
أحمد ابازيد
● مقالات رأي
٣١ يوليو ٢٠٢٥
تغير موازين القوى في سوريا: ما بعد الأسد وبداية مرحلة السيادة الوطنية
ربيع الشاطر
● مقالات رأي
١٨ يوليو ٢٠٢٥
دعوة لتصحيح مسار الانتقال السياسي في سوريا عبر تعزيز الجبهة الداخلية
فضل عبد الغني مدير الشبكة السورية لحقوق الإنسان
● مقالات رأي
٣٠ يونيو ٢٠٢٥
أبناء بلا وطن: متى تعترف سوريا بحق الأم في نقل الجنسية..؟
سيرين المصطفى
● مقالات رأي
٢٥ يونيو ٢٠٢٥
محاسبة مجرمي سوريا ودرس من فرانكفورت
فضل عبد الغني
● مقالات رأي
٢٥ يونيو ٢٠٢٥
استهداف دور العبادة في الحرب السورية: الأثر العميق في الذاكرة والوجدان
سيرين المصطفى
● مقالات رأي
١٧ يونيو ٢٠٢٥
فادي صقر وإفلات المجرمين من العقاب في سوريا
فضل عبد الغني