مقالات مقالات رأي بحوث ودراسات كتاب الثورة
٥ نوفمبر ٢٠١٤
مَن يدعم مَن؟ داعش والبنتاغون!

تقدمت مدينة عين العرب/ كوباني السورية على المدن الاخرى اعلاميا منذ بدا هجوم تنظيم الدولة/ داعش على حدودها وتهديدها بالغزو والاحتلال كما حصل مع غيرها من المدن التي سبقتها ولم تجن مثلها ما يعرّف بها او يعيرها مثل هذا الاهتمام. فتحولت الى اسم علم مركب، باسميها العربي والكردي، في صدر الصحف وأخبار وسائل الاعلام بكل اللغات، من خلال الهجوم عليها واستفادت منه ولكن كما بات معروفا لم يمر دون تضحيات جسيمة. فقد عانى اهلها وسيعانون من كل ما حصل لها، حتى اعلاميا. كل ذلك له اسباب كثيرة. من بينها ما تعرضه من فضائح لجهات عديدة، ارتبطت او تورطت بها او تواطأت عليها. حيث تبينت المواقف المتناقضة والصراعات الخفية بين القوى الاستعمارية والمصالح الامبريالية وشعاراتها الكاذبة. حتى اريد ان يصبح ما جرى للمدينة وسكانها عبرة لغيرها. فكل ما يعلن ويذاع لا يساوي ابدا ما تعرض له الاهالي فيها، النازحون منهم او الصامدون او المقاتلون المدافعون عنها بشجاعة وعزيمة. ولعل الاخطر في امرها هو ما تسلسل من وقائع وأحداث منذ البداية والى اليوم. فالتحالف الدولي الذي اعلن للقضاء على داعش انكشف في عين العرب/ كوباني وفضح في ممارساته وكذبه وخداعه. والأكثر فيه ما تم بينه وحليفته الرئيسية في المنطقة، تركيا، وعضويتها في حلف الناتو وتحالفاتها الاقليمية ومواقفها المتناقضة بين المشاركة مع التحالف او المخالفة له. ولعل تناقضات تصريحات الرئيس التركي رجب طيب اردوغان وأركان حكومته حول الموضوع تكشف تلك الجوانب، لاسيما حول الضغوط الواسعة من قبل الاكراد وحزب العمال الكردستاني/ PKK والاتفاقيات المبرمة والحلول السلمية والتفاوضية التي تعمل عليها بالتعاون والتنسيق مع ابرز دول التحالف الحالي.
عرّت عين العرب/ كوباني مواقف التحالف وتركيا بشكل سافر. وصعّدت من طبيعة التناقضات البينية بين الحلفاء وتركيا، وبين تركيا والأكراد، وبين الاكراد انفسهم، سواء من سكان كوباني او اقليم كردستان العراقي او الاكراد في تركيا، وبين التحالف الدولي والأكراد، وبين المجموع كله والدولة السورية، وبين كل طرف والسياسات الدولية المعلنة والسرية. حيث لا يمكن ان ينجز ما تسعى اليه التحالفات حاليا دون وضوح وتفاهم مشترك بين جميع هذه القوى والسلطات من جهة وأهداف التحالف الواسع المعلنة وتداعياتها على المنطقة من جهة اخرى. هذه اللوحة المتشعبة تعكس طبيعة الاوضاع ومآلها والخطط الموضوعة لها. اذ ان الحديث الامريكي عن سنوات لعلاجها واختلافها في تحديد مدياتها يدعو الى خلط واسع بين الهيمنة والاستئثار في احتلال المنطقة والقدرة على الاستمرار فيها بتطوير المصالح والصلات او التحالفات والأحلاف والقواعد العسكرية والثمن المكلف لكلها.
قدم داعش للتحالف الدولي وقيادته الامريكية وجناحها الحربي، البنتاغون، فرصة دسمة للعمل وتنفيذ المشاريع القديمة في تفتيت المنطقة والهيمنة عليها، واستنزاف طاقاتها وثرواتها وتهديد اجيالها ومستقبلها. الامر الذي انكشف من خلال تاريخ مسيرة داعش نفسه، والتخادم الواضح في تتبع الخطوات وحلقات الهجوم الامبريالي الشرسة في المنطقة اساسا. ففي الوقت الذي يشن فيه داعش هجماته على مدينة سورية يهاجم مدينة عراقية ايضا بقوة عسكرية كبيرة ويحرز تفوقا في كليهما رغم ادعاء التحالف الدولي وقوته العسكرية الضاربة والمتقدمة صناعيا وتكنولوجيا ورغم كل القدرات التقنية والاتصالات والإمكانات المادية والبشرية المتيسرة للخدمة ومقارعة داعش. مما يعني ان داعش تتوفر لديه خطط متواصلة وإمكانات غير قليلة، وان دوره مهم لأنه يشكل ضمنا حلقة من الحلقات المنتظمة في تدمير المنطقة وخرابها. وينفذ ما هو مطلوب في رسم خريطة جديدة للمنطقة باسمه وباسم التحالف الدولي وبدعم معلن من الثروات العربية، ومشاريع تدمير حاضر ومستقبل شعوب المنطقة.
المضحك حقيقة هو تهرب الداعمين الفعلين للجرائم المرتكبة والانتهاكات الصارخة للقوانين والأعراف الدولية في تصريحاتهم في المحافل الدولية بعدم تقديمهم أي دعم لداعش، وكأن داعش ولد من شق في ارض المنطقة وتسلح واحتل كل تلك المساحات من البلدين، العراق وسوريا، او هبط من السماء وتوفر له كل ما يحتاجه من بين ذلك. وهذا المثير للضحك فعلا يفضح من جانب اخر التورط في صناعة كهذه والعلم في امكانية ارتداده عليه، فيختلق الاعذار لنفسه قبل غيره ويحاول تخفيف الصدمة التي خطط لها من اعادة انتاجها ومواجهتها في بيته ايضا. وقد تكرر هذا من اغلب المشاركين في تلك الصناعة او المساهمين في توفير ظروفها وبيئاتها الحاضنة والمنتجة لها، سابقا او حاليا.
ماذا قدمت تصريحات التهرب منها امام الغارات الجوية التي دمرت البنى التحتية لمؤسسات البلدين، سوريا والعراق، للمصالح العربية والإسلامية؟. لقد عمل التحالف على اصدار قرار من مجلس الامن وجال وزير الخارجية الامريكي، وقاد الرئيس الامريكي اجتماعات واتصالات بناء تحالف دولي كبير يحارب داعش ليمنعه من التمدد اكثر مما هو عليه والوصول بخطورته الى اوروبا وأمريكا وحلفائها الاخرين.. فكل ما تم لحد الان لم يغير من وقائع حلقات الهجوم الاستعماري والداعشي منه والمخططات الموضوعة له. وتؤشر التراجعات والتجاذبات في المواقف والتصريحات الى ان كل ما جرى هو جزء من عملية الهجوم الامبريالي وان بداياته هذه  تقود الى النهايات المعلومة، من اعادة احتلال واختلال وتدمير وخراب عام. فهل تقبل الشعوب بها وهل تصمت عليها ام انها تعلن رفضها بكل ما لديها من قدرات وإمكانات وتعيد لها دروسها وتجربتها من جديد؟. وهو ما يظهر الان بوضوح رغم كل ما حصل وجرى. وما يفضح اللعبة الجهنمية هو ما حصل للمواد الطبية والغذائية والأسلحة التي رمتها الطائرات الامريكية على مدينة عين العرب/ كوباني لمساعدة المقاتلين فيها ضد داعش كما اعلن ووظفت له جهود اعلامية كبيرة، حيث اعترف البنتاغون بان قسما منها ذهب الى المناطق التي تخضع لسيطرة داعش، فماذا يعني هذا؟ وماذا يدل عليه؟. وأين القدرات والذكاء الغربي والتحالف وخططه الحربية؟. ورد داعش فورا بنشر يوتيوب عن استلامه حصته من المساعدة الامريكية!.

اقرأ المزيد
٥ نوفمبر ٢٠١٤
نصرالله إذ يحمل السعودية «مسؤولية فكر داعش»!!

في ترديد للخطاب الإيراني اليومي الذي يحمّل المملكة العربية السعودية المسؤولية عن إنشاء ودعم تنظيم الدولة الإسلامية، ذهب نصرالله في إحدى خطب عاشوراء إلى القول إن «الذي يتحمل المسؤولية الأولى اليوم في العالم الإسلامي عن وضع حد لانتشار هذا الفكر هو المملكة العربية السعودية»، مضيفا أنه «لا يكفي أن يؤسسوا تحالفا دوليا لتأتي جيوش العالم كي تقاتل داعش. في البداية، وهذا خطاب للكل، أغلقوا المدارس التي تخرج أتباع هذا الفكر الداعشي، وأوقفوا وأغلقوا أبواب التكفير والحكم على الناس لأنهم مشركون لأدنى الأسباب». في الخطاب الإيراني الرسمي يتردد هذا الطرح يوميا، فيما تتكفل وسائل الإعلام الإيرانية بملاحقة خبر أيّ سعودي يُقتل في صفوف تنظيم الدولة، مع أن جميع الدوائر الأجنبية والعربية تؤكد أن السعوديين ليسوا الأكثر عددا في صفوف التنظيم؛ إذ يتقدم عليهم التوانسة مثلا، وهم أبناء بلد كان متطرفا في علمانيته طوال عقود، إلى جانب قادمين من الدول الأجنبية. ليس هذا دفاعا سياسيا عن السعودية التي نختلف مع الكثير من مفردات سياستها الخارجية، لكنه دفاع عن الحقيقة التي يحاول نصرالله وجميع أركان التحالف الإيراني إنكارها ممثلة في أنهم المسؤول الأكبر عما يجري في المنطقة، وفي مقدمته تقدم تنظيم الدولة في سوريا والعراق. ربما لا يعلم نصرالله، أو لعله يعلم، ومن ورائه إيران أن الفكر المعتمد في السعودية من الناحية الرسمية، هو الفكر النقيض للفكر الذي يتبناه تنظيم الدولة، والذي يسمّى خليجيا بـ «الجامية»، أي الطرح الذي يركز على طاعة ولاة الأمر، بل اعتبار ذلك من مسائل العقيدة، ورفض إعلان أي حرب من دون إذنهم. وما من دولة نشرت هذا الفكر الأخير الذي حارب الفكر الذي يتبناه تنظيم الدولة مثل السعودية. صحيح أن المرجعية التي يتبناها الطرفان هي ذاتها، أعني الكتاب الكريم، والسنّة، «بحسب منهج السلف الصالح»، لكن النتيجة التي يصل إليها الطرفان متناقضة من الناحية السياسية. في هذا السياق ثمة نقطتان بالغتا الأهمية ينبغي أن نذكّر بهما نصرالله وعموم التحالف الإيراني، أولهما أنهم المسؤولون الحقيقيون عن إحياء فكر السلفية الجهادية الذي يتبناه عمليا تنظيم الدولة، أولا بسبب دعمهم لدموية بشار، وثانيا بسبب دعمهم لطائفية المالكي، وليتذكروا أن التنظيم كان في حالة تراجع في العراق، وليتذكروا أن أسامة بن لادن كان يقدم مما يشبه النعي لبرنامج العنف المسلح بعد الربيع العربي الذي أسماه «تحولات تاريخية»، وما أحيا هذا البرنامج هو دعم إيران لدموية بشار، وطائفية المالكي. من هنا، يمكن القول: إن تصريحات التحالف الإيراني التي تتهم السعودية هي محاولة للتهرب من مسؤوليتهم المباشرة عما جرى ويجري، وها إنهم يكررون ذات السيناريو في اليمن بدعمهم لاحتلال الحوثي، وانقلابه على ثورة شعبه، وهو الموقف الذي منح وسيمنح حاضنة شعبية للقاعدة، تماما كما منحت سياستهم حاضنة شعبية لتنظيم الدولة في العراق، وللسلفية الجهادية في سوريا. إن ما يجري هو في المقام الأول رد على غطرسة إيران، وليس نتاج أفكار، لأن الأفكار لا تصنع عنفا مسلحا، وإنما تمنحه الدافعية والمبرر لا أكثر ولا أقل. يدخلنا هذا إلى النقطة المهمة الأخرى، والتي تتمثل في سؤال يقول: إذا كانت السعودية مسؤولة عن فكر تنظيم الدولة، فمن هو المسؤول عن فكر عصائب الحق وتنظيم بدر وحزب الله- العراق؛ والميليشيات التي استخدمت أكثر أنواع العنف بشاعة ضد العرب السنّة في العراق، وحيث سمعنا لأول مرة في التاريخ عن ثقب رؤوس الناس بالـ «الدريل»، وما شابه من وسائل القتل والتعذيب الأبشع من قطع الرؤوس بالسكين؟! هنا تحديدا تبرز التعبئة المذهبية أكثر مما تبرز هناك في حالة فكر تنظيم الدولة (التكفير في الوسط الشيعي محمولا على استعادة يومية للثارات التاريخية أكثر شيوعا وإن لم يبرز إعلاميا)، مع حضورها في الحالتين، لكن العنف هنا لم يكن مبررا بأي حال، لأن العرب السنّة في العراق كانوا في حالة استضعاف بعد احتلال العراق. ونسأل نصرالله أيضا: ألم يكن حزب الدعوة العراقي الذي يعتبره واحدا من أهم مراجعه هو صاحب أول عملية انتحارية قتلت مدنيين في بيروت عام 81 ضد السفارة العراقية، والتي قتلت فيها زوجة الشاعر نزار قباني، ورثاها بقصيدته الشهيرة المعنونة باسمها «بلقيس»؟! نعيد القول: إن إيران بغرورها وغطرستها هي المسؤول الأكبر عن هذا العنف، وهذه الفوضى في المنطقة، وهي دفعت وستدفع أثمانا باهظة، ولن تصل إلى نتيجة، لأنها لن تأخذ في المنطقة أكثر ما يسمح لها حجمها، مع أن المصيبة قد طالت وستطال الجميع من دون شك. فكفاكم تزويرا للوقائع والتاريخ، ومن ضمنه ما يجري من عنف في لبنان؛ سببه الأول هو تدخل حزب الله في سوريا لصالح المجرم الذي يقتل شعبه في سوريا.

اقرأ المزيد
٥ نوفمبر ٢٠١٤
الشمال السوري بين فكي النصرة وداعش

بعد سنوات من الدعم والتسليح اللذين كانت تتلقاهما جبهة ثوار سوريا بقيادة جمال معروف، وتقدُّمها لتيار الاعتدال، بعد إعلان قائدها الشهير القاضي بتنظيم صفوف المقاتلين لمواجهة داعش، هاهي اليوم تجد نفسها في لحظة فاصلة خارج المعادلة، في لعبة توازنات إقليمية ومنازعات دولية في المنطقة التي لا تخضع لسلطة النظام.

لقد عادت جبهة النصرة إلى موئلها الأول، ريف إدلب الذي شهد انطلاقتها، مثلما كان منتجاً لأهم مؤسسات العمل المدني “المجالس المحلية”، وسبّاقاً لمواجهة شاملة مع نظام الأسد منذ انتفاضة السوريين ضد الاستبداد، عبر المجموعات المدنية والعسكرية، التي شكلت نواة الجيش السوري الحر، الذي توّج جمال معروف – لاحقاً – فيه نفسه وريثاً شرعياً..دحرته النصرة، بعد سيطرتها على جبل الزاوية وجوارها، فانفرط عقد جبهته، وانشق مقاتلوه للالتحاق بالمسيطر الجديد.

في هذا السياق، ثمة مسألتان وجبت الإشارة إليهما: أولاهما أن جبهة النصرة شملها قرار مجلس الأمن 2170 وملحقاته، ويفترض أن تتم محاربتها ضمن “استراتيجيات” التحالف الدولي لمحاربة الإرهاب، بغاية تحجيم قدراتها العسكرية، ومنع خطوط الإمداد عنها، ومنع تمددها أسوة بداعش..فكيف تمكنت النصرة من نقل عملياتها العسكرية بمثل هذه المرونة، من القلمون والحدود اللبنانية، لتخوض معارك طاحنة مع شركائها في القتال ضدّ الأسد.

وثانيهما: أنّ جبهة ثوار سوريا التي كانت تعتبر النواة الأساسية -مع حركة حزم- لقوى الاعتدال التي كان من المفترض أن يتشكل منها الجيش الوطني المقترح، وكان مهيئاً له الانخراط في إعادة التنظيم والتدريب بإشراف أميركي-إقليمي، حيث يكون الذراع البرية للتحالف الدولي ضدّ داعش قد تراجعت نفوذها وقوتها.

هزيمة جمال معروف، بهذه الصورة الدراماتيكية، لا تظهر لنا هشاشة هذة التشكيلات فحسب، بل هي تبين عن عمق الفوضى التي تنخر جسد مؤسسات المعارضة التي يفترض أن تعمل مع هذه التشكيلات على تعزيز بنيتها التنظيمية وقدرتها القتالية، فلا تبقى خارج سيطرة القرار الموحد والمركزي لقوى المعارضة، ولا تبقى مجموعات معزولة عن بعضها البعض، يسهل اصطيادها ودفعها نحو التناحر والتنازع حول أسباب صغيرة. حيث أنّ جبهة ثوار سوريا شهدت تضخيماً لقدراتها وحجمها ودورها، وقد خسرت معركة وادي الضيف أمام نظام الأسد جراء ذلك، في الوقت الذي كانت تتلقى فيه دعماً جيداً من قوى إقليمية عديدة.

لا شك أنّ الصراعات التي تعصف بالقوى المكونة للائتلاف الوطني، بشأن الاستحواذ على سلطة المعارضة وصناعة القرار وتكوين المؤسسات “قيادة الأركان – الحكومة المؤقتة”، قد عكست أثرها المباشر في الاستفادة من الفرص الإقليمية والدولية الجديدة، بما يقود إلى تقوية المعارضة السورية، من حيث “مأسسة” أجهزتها، وإعادة تنظيم ولاءاتها وتحالفاتها وأولوياتها، تأسيساً على المطامح الوطنية. ومازالت الفرصة لم تغلق بابها بعد مع استمرار الحملة العسكرية للتحالف الدولي، وحاجته إلى شريك فعلي على الأرض في سوريا. غير أنّ المعارضة بقيت متشبثة بتناحرها في ما بينها، الذي جعلت منه غير قابل للحلّ، على الرغم من توفر كل الظروف الدافعة إلى إيجاد حل كفيل بإنهاء الصراعات مفاده؛ أن تدعم الولايات المتحدة بشكل خاص، عملية بناء جيش وطني من التجمعات والتشكيلات العسكرية المتناثرة، بمرجعية سياسية وقيادة عسكرية موحدة، خاصّة في هذا الوقت الذي زاد فيه تمدد كلّ من داعش والنصرة، وكذلك تقدم النظام في عدّة محاور. مرة جديدة، تبدو فيها هيئة الأركان والمجلس العسكري، في حالة تتسم بالضعف والعجز عن القيام بدور فعّال يجنّب قواها تبديد قدراتها في غير مواجهة النظام. وهو العجز ذاته الذي أصيبت به من قبل مرتين في الرقة: الأولى ترك الرقة وقت تحريرها دون أيّ دعم أو مساندة لملئ الفراغ، مما أسهم في استباحتها من قبل أحرار الشام والنصرة، والثانية التقاعس عن تقديم الدعم والمساندة لقوى “الجيش الحر” في مواجهة تنظيم داعش، ما أدى إلى استيلاء الدولة على كامل المحافظة، ومن ثم دير الزور وريف حلب.

عموما فإنّ المعارضة السورية بمؤسساتها الأساسية (الائتلاف الوطني، الأركان والحكومة المؤقتة) تتحمل مسؤولياتها عما آلت إليه الأمور في جبل الزاوية، وتبدو هزيمة جبهة ثوار سوريا بمثابة طلقة الرحمة على ما تبقى من “الجيش الحر” الذي لم يستطع حماية نفسه وتراجعت مواجهاته مع النظام لصالح انغماسه في إدارة المناطق التي يسيطر عليها.

ومع هزيمة معروف وما يجري في “كوباني/عين العرب” تبدو أحلام المعارضة السورية في إنشاء منطقة آمنة، بعيدة المنال، فالوضع على الأرض شديد التعقيد، والمصالح الدولية والإقليمية في وادٍ، والمطمح الوطني لقوى الثورة السورية في وادٍ آخر.

اقرأ المزيد
٥ نوفمبر ٢٠١٤
من سيناء إلى كوباني ـ عين العرب

الحرب هي سلسلة من المعارك، بعضها يجري في مناطق متعددة، وبعضها الآخر يحدث في فترات زمنية مختلفة، ولكنها كلها متصلة بمنطق واحد يربط طرفي العداء والمواجهة هو تناقض أصيل في القيم وفي المصالح وفي الأهداف. والحرب في النهاية هي اختبار يكشف المجتمعات والدول، وما لديها من صلابة وقوة وقدرة على حماية أمنها القومي، والأهم من ذلك كله مجموعة القيم التي تستخدم من أجلها القوة المسلحة. ما يجري حاليا بطول العالم العربي وعرضه هو من ناحية حرب عالمية لأن لكل من طرفيها أبعادا عالمية؛ سواء كان ذلك على جانب التحالف الدولي والإقليمي المقاتل للدفاع عن المنطقة والعالم من هول الجماعات المتطرفة والإرهابية؛ أو التحالف الدولي والإقليمي الملتف حول جماعة «داعش» أو دولة «الخلافة» والذي يأتي له المقاتلون من دول وقارات متعددة. الطرف الأول بدرجات مختلفة يعطي حق الاختيار لمواطنيه، ويجعل لمصالحهم في إطار الدولة الوطنية قيمة بقدر ما؛ الطرف الثاني لا يعرف درجات من أي نوع، لأنه يعتمد على فكرة هندسة المجتمعات في أنساق وسلوكيات كما فعلت النازية والفاشية من قبل. وضمن هذا الإطار يجري صب الإنسان، رجلا كان أو امرأة، في قالب بعينه، فملابسه محددة، وهيئته معروفة، وتحركاته منذ الصباح حتى ساعة النوم مقننة. هو لا يفكر، ومع ذلك فهو يعتقد أنه الأكثر تفوقا وعزيمة على كل من عاداه أو اختلف معه، أو كان له تفسير مختلف لنص.
المدهش أنه حتى الآن فإن التحالف الدولي والإقليمي لا يزال يرى في المعركة الدائرة أنها في مواجهة «الإرهاب»، ومن ثم فإن الأسلوب الأمثل للتعامل معها هو في الإطار العسكري للتعامل مع الإرهابيين أو بالإنجليزية Counter Terrorism. وهذه هي المدرسة التي تطورت في الفكر العسكري الأميركي حتى بلغت ذروتها وأكثر درجاتها نقاء مع تولي باراك أوباما الإدارة الأميركية عندما جنح بالمؤسسة العسكرية إلى هذا الاتجاه. ولمن يريد أن يعرف ما هو أكثر عن هذه المدرسة فإن عليه متابعة قصة القضاء على أسامة بن لادن حيث كانت هناك قوات خاصة عالية التدريب، ولديها أدوات اختراق دول وحدود دون حرص على سيادة أو مكانة، وتعتمد على معلومات واستخبارات كثيفة لتحديد الهدف بدقة، ثم قادرة على الانقضاض على الهدف وتدميره. وهكذا دارت المعركة الأميركية ضد الإرهاب خلال السنوات الماضية مع قتل قيادات «القاعدة» وتمزيق إطارها التنظيمي. مثل ذلك كان فعالا سياسيا بدرجة ما لرئيس أميركي لا يعرف عنه الصلابة العسكرية، وربما كان مفيدا في تغطية انسحاب القوات الأميركية من العراق وأفغانستان، ولكن المؤكد أنها لم تفلح في القضاء على الإرهاب بل إنه تمدد واستشرى في مناطق واسعة من العالم وخاصة في الشرق الأوسط الممتد من المغرب إلى حدود الصين، ومن تركيا حتى الصومال ونيجيريا.
وهكذا فإن الأسلوب الذي تعمل به الولايات المتحدة حاليا في التعامل مع معركة كوباني-عين العرب لا يزال يدور في فلك نفس الاستراتيجية، وكانت النتيجة أن أسابيع مرت دون حسم لأن القصف الجوي وتدعيم القوات المدافعة عن المدينة ببضع مئات من المقاتلين ليس كافيا. العجيب أن نجاح «داعش» في حصر المعركة في مدينة واحدة، أعطاه القدرة على التحرك ناحية بغداد، والتوسع في محافظة الأنبار وإعطاء جبهة النصرة التابعة لـ«القاعدة» القدرة على الاستيلاء على قرى في إدلب السورية، بينما الجماعات المؤيدة لها، والتي بايعت إبراهيم البغدادي خليفة للمسلمين في المغرب والجزائر وتونس وليبيا تحاول كل منها أن تجعل لنفسها قاعدة أرضية تتحرك منها، فإذا فشلت فإنها تحاول أن تجعل حالة البلد التي تعيش فيها بائسة ومضطربة وغير مستقرة. الهجوم الذي قامت به جماعة أنصار بيت المقدس على جنود مصريين عند نقطة كرم القواديس جنوب الشيخ زويد قرب العريش في سيناء كان جزءا من الحرب الدائرة حتى ولو شكل معركة منفصلة بلغ ضحاياها 50 بين قتيل وجريح.
المدهش أيضا أنه في الوقت الذي تحارب فيه الولايات المتحدة بمنطق محدود وضيق، فإنها لا تدرك أن «داعش» هو قمة جبل الثلج الذي يضم شبكات هائلة من التنظيمات. في الحالة المصرية على سبيل المثال فإن شبيه وحليف «داعش» هو جماعة أنصار بيت المقدس والتي تحاول أن تجعل من سيناء قاعدتها الجغرافية، ولكنها في نفس الوقت هي قمة جبل النار الذي يضم جماعات أخرى أكثرها عددا جماعة الإخوان المسلمين التي تعمل على إشاعة القلق في الجامعات المصرية وفي الشارع المصري، وبجوار هؤلاء توجد طوائف متنوعة من الجماعات الأصولية التي لكل منها تاريخ في العنف والإرهاب. هؤلاء جميعا لهم أدوار متعددة، بعضهم يلعب دور المقاتل، والآخر السياسي، والثالث وهو الأخطر يأخذ دور «المعتدل». هذا الأخير مهمته التعامل مع القوى اليسارية والليبرالية وتطويعها نفسيا وفكريا، وربما حتى تطويع الولايات المتحدة ومن ورائها الغرب كله الذي ما زال يراهن على «المعتدلين» الأصوليين، بل إنه أحيانا يراهم المقدمة الطبيعية للديمقراطية في البلدان الإسلامية. ولعل ذلك يفسر حالة الحماس الشديد التي انتابت أوباما وأقرانه إزاء نتائج الانتخابات التشريعية في تونس. الغفلة هنا مصدرها أن الأغلبية الساحقة من الإخوان المسلمين هم من «القطبيين» المنتمين إلى سيد قطب الذي كان فكره هو الأساس لكل الجماعات الإرهابية في العالم؛ ومن الجائز أن تونس نجت من هذا المصير لأنها من ناحية كانت دوما دولة مدنية عريقة، ولأن إخوانها اختلطوا بالمدنية الحديثة ومن ثم خف بعض من تشددهم وتطرفهم.
تونس هكذا قد تكون استثناء من القاعدة العامة، أما ما هو سائد بين التيارات الراديكالية المتطرفة المختلفة فهو أنها أعلنت حربا على العالم عامة، وعلى المسلمين خاصة. الحرب هنا من أجل الإخضاع لنمط من الحياة لا يليق بعالم متحضر، أو يليق بشعوب القرن الواحد والعشرين. «داعش» وأقرانه ليسوا استثناء من القاعدة العامة للحركات الأصولية التي خرجت من منابع فلسفية قوامها هندسة الحياة الإنسانية من جديد كما أسلفنا، طالما أن لديهم أصيل الاعتقاد أنهم «الجماعة الناجية من النار»، بينما غيرهم فإن مصيرهم جهنم وبئس المصير. حرب هؤلاء لا يكفي فيها «مقاومة الإرهاب»، أو ضربة جوية هنا أو هناك، أو الوقوف على أبواب مدينة محدودة المساحة والعدد لعل النصر فيها يفي بالغرض ويؤدي إلى تراجع الإرهابيين؛ الحرب هنا لا تقل في شمولها وعمقها عن الحروب العالمية التي سبقت.

اقرأ المزيد
٤ نوفمبر ٢٠١٤
واشنطن تبيع الوهم لحلفائها في الملف السوري

  أصدر البيت الأبيض خلال السنوات الماضية العديد من التصريحات التي تفيد بموافقة واشنطن على دعم المعارضة السورية المسلحة (الجيش الحر)، لكن شيئاً منها لم يتحقق فعلاً حتى الآن. بل على العكس، فقد كان الموقف الأميركي متشدداً في بداية الثورة السورية في متابعة أي عمليات تسليح نوعي تقوم/ أو قد تقوم بها بعض الدول لدعم المعارضة السورية. والحقيقة أن واشنطن كانت قد قامت مراراً -بالتعاون مع إسرائيل ودول أخرى- في إفشال وصول شحنات أسلحة إلى المعارضة السورية لاسيما خلال السنة الأولى والثانية للثورة السورية، وقد أرسلت الإدارة الأميركية مرات عديدة رسائل تتضمن تحذيرات وحتى تهديدات مباشرة لبعض الدول لتمنعها من القيام بتسليح الجيش الحر لاسيما عندما يتعلق الأمر بأسلحة من الممكن أن تمكّن هذه المعارضة من كسر تفوق النظام الجوي وتعمل على تغيير موازين القوى على الأرض لصالحها. وفي كل خطوة كان البيت الأبيض يتقرب فيها من إيران في المفاوضات النووية أو يتزايد فيها بطش النظام السوري تجاه المدنيين، كان أوباما يبيع حلفاءه في المنطقة بعض الوعود والكلام، ويجدد الحديث عن دعم المعارضة السورية المسلحة المعتدلة. بعد المجزرة الكيماوية في أغسطس 2013، سمعنا تأكيدا من البيت الأبيض على قرار تقديم دعم «غير قاتل» للمعارضة، تبيّن فيما بعد أنه عبارة عن مجموعة من الأحذية والخوذ وبعض مستلزمات الإسعاف الأولية وربما بعض وسائل الاتصال، وهي أدوات غير كافية حتى لمن يقوم برحلة صيد وليس مواجهة طائرات وصواريخ سكود وأسلحة كيماوية! ومع ذلك، فقد انتهى برنامج الدعم المزعوم هذا في ديسمبر 2013 بإغلاق الوحدة الأميركية المسؤولة عن تأمين وإيصال المساعدات للجيش الحر بسبب مشاكل في التمويل، علما أنّ المساعدات «غير القاتلة» التي أمنتها لم تتجاوز الـ15 مليون دولار فقط! في يونيو 2014، قرر أوباما طلب مبلغ 500 مليون دولار لدعم المعارضة المسلحة المعتدلة، لكن هذا المبلغ لم يصرف إلى الآن! ومع التحضير لانطلاق حملة «العزيمة الصلبة» ضد تنظيم الدولة «داعش»، عاد أوباما من جديد لاستخدام ورقة «دعم المعارضة المسلحة المعتدلة»، ووافق على برامج دعم وتسليح المعارضة المسلحة المعتدلة، وقامت عدّة دول عربية بالإضافة إلى تركيا بالتزام تنفيذ الدعم ضمن الخطة الأميركية. لكنّ الحقيقة أنّ خطوة أوباما هذه ليست سوى مناورة، فهو احتاج إلى تسويق هذا البرنامج مقابل الحصول على دعم هذه الدول للحملة من جهة، ولكي يبدو أنه يقوم بدعم المعارضة السورية في الوقت الذي يتغاضى فيه فعلاً عن نظام الأسد الذي تقوم الحملة العسكرية بتقويته عملياً على الأرض. وفيما يصرح البيت الأبيض بهذا الدعم للمعارضة المسلحة المعتدلة، يقوم موضوعيا بإفراغه من مضمونه. فعلى سبيل المثال، أنيطت مهمة بناء جيش جديد للثوار المعتدلين ضمن برنامج التدريب والتسليح الأميركي للجنرال «مايكل ناجاتا» مسؤول قيادة القوات الخاصة الأميركية، لكن البيت الأبيض لم يسمح له بالقيام بذلك عبر استغلال أو تجنيد الثوار المعتدلين الموجودين فعلياً على الأرض، مما يعني تقليص إمكانية نجاح مهمته واضطراره إلى البحث عن هؤلاء في مخيمات اللجوء في البلدان المجاورة. أكثر من ذلك، فإن برنامج التدريب والتسليح سيتضمن تدريب وتسليح 5 آلاف عنصر فقط كل سنة! (مع بقاء الفيتو على الأسلحة النوعية)، وهذا يعني أن بناء مجموعة من 15 ألف على سبيل المثال ستتطلب ثلاث سنوات، علما أن الأسد يستغل الحملة الحالية للتقدم على الأرض، ومن غير المعروف أصلا -في حال بقي الوضع على ما هو عليه الآن- إذا ما كان سيكون هناك معارضة في سوريا في ذلك الوقت أو حتى مناطق تابعة للمعارضة! وحتى إذا ما افترضنا نظريا أن التحالف نجح في تدريب وتسليح 15 ألف من هؤلاء في سنة واحدة، فإن الجنرال جون آلان منسق عمليات التحالف الدولي كان قد صرّح بشكل واضح أن «مهمّة هذه القوة لن تكون محاربة الأسد وإنما ستساعد على الوصول إلى حل سياسي»! وربما استخدامها فعليا ضد تنظيم «داعش» فقط على اعتبار أنّ الرئيس أوباما كان قد قال الشهر الماضي: إن الهدف من برنامج التدريب والتسليح هو «تقوية المعارضة لتكون أفضل موازن للتطرف»! الرئيس أوباما كان قد وعد سابقاً المعارضة السورية ومجموعة أصدقاء سوريا وحلفاءه في المنطقة بمزيد من الدعم للملف السوري لكنّه كان يفشل في كل مرّة في الإيفاء بوعوده لدرجة أن عدداً من المسؤولين الأميركيين باتوا يؤمنون تماماً بأنّ أوباما لا يريد حقيقة القيام بأي شيء لصالح المعارضة، وأن وعوده الحالية لن تؤدي إلى أي تغيير، فهي أشبه ببيع الوهم لحلفائه في المنطقة.

اقرأ المزيد
٤ نوفمبر ٢٠١٤
سبايا «داعش» إذن!

ماذا أفرزت لنا «داعش» غير الدمار والحرب والدماء وتشويه صورة «الإسلام» بما لم تفعله أي جماعة أصولية عنيفة من قبل، ومع ذلك ينساق إعلامنا وراء ماكينة الضخ الإعلامي «الغربية» التي تتعامل مع «داعش» على طريقة نزعات الموضة وأسلوب الحياة (الهيبز، والبانك…) بحيث تتجه أغلب الطروحات الصحافية الخفيفة نحو موضوعات عن السيلفي عند المجاهدين، واستغلال الأطفال بتعليمهم ذبح الدمى، وملكة جمال «داعش» وشكواها، والآن موضة «سبايا داعش» التي تتناقلها وسائل الإعلام ومواقع التواصل الاجتماعي، ينفيها المتعاطفون مع «داعش»، وتؤكدها تقارير دولية لمنظمات إغاثية، وبينهما يتم تناقل الخبر مع كثير من النكات والتلميحات الجنسية في أسلوب يعزز هذه الخدمة الجليلة لـ«داعش» دعائيا، بحيث لو دفعت «داعش» ملايين الدولارات لأي وكالة علاقات عامة لما منحتها ذلك الحضور الطاغي للصورة والغياب التام للسياق الذي يجب أن توضع فيه «داعش». لا أحد يناقش الأفكار، وهي المحرك الأول لكل هذه التصرفات الصبيانية لمجموعات مهووسة بوهم تفرد «دولة الخلافة» بأسلوب حياة وفق نموذج تاريخي متخيل.
لكن هل مشكلة «داعش» هي تلك الجرائم البشعة التي يتم نشرها على طريقة التسويق غير المباشر؟!
بالطبع لا، فليس بعد «التكفير» واستحلال الدماء، وحفلات «الذبح» المجانية، ذنب يوازي شرعنة «العنف» وليس فقط ممارسته. صحيح أننا نعيش عالما تتصاعد فيه موجات العنف والهويات الحادة والمأزومة في كل العالم.. تجده واضحا في الزمن التسجيلي الذي نعيشه وكأنه وثائقي طويل عن فوضى لا نهاية لها.
نحن نجابه أقلية بأسلحة من شأنها توسيع نطاقها، فسلاح تكفيرهم من دون مناقشة أفكار ومبادئ هذه التنظيمات، يتيح لها لبوس دور الضحية ليس أمام الرأي العام؛ فهذا غير مهم لها، لكن أمام مجموعات واسعة من الشباب المتردد بشأن «داعش»، الذي عادة ما يتبنى الفكرة العنفية أو على الأقل تبريرها من خلال سلوك مناهضيها، وهذه نقطة ليست في صالح الطائرات من دون طيار أو حتى الهجوم المجمل على «داعش» مع الاهتمام بتفاصيل تبدو هامشية جدا مهما كانت قيمتها من حيث الإثارة الإعلامية.
ما تؤكده آخر 3 استطلاعات رأي بحسب «معهد واشنطن للديمقراطية» وتقارير صحافية أخرى، أن شعبية «داعش» والعينة البحثية شملت ألف عينة عشوائية في 3 دول هي: السعودية ومصر ولبنان، وكلها دول على تماس مع أزمة «داعش» بشكل مباشر ومفصلي، وتم اختيار مواطني هذه الدول مع استبعاد العمالة والفئات غير المؤثرة، وكانت الإجابة مفاجئة جدًا ومثيرة للاهتمام، فعدا 3 في المائة من الانطباع الإيجابي لدى المصريين، فالأغلبية الساحقة مذعورة من «داعش»، بينما لم تتجاوز هذه النسبة في بلد يتم استهدافه كل يوم بمئات الفيديوهات والتغريدات كالسعودية الـ5 في المائة، وبلغت 1 في المائة في لبنان لا سيما في أوساط السنّة.
والسؤال: كيف يمكن قراءة هذه الأرقام رغم أنها تبدو إيجابية جدا إذا ما قيست بقضايا جنائية أو جرائم، لكنها أيضا مقلقة إذا ما أخذنا في الاعتبار أن في مصر والسعودية مليون متعاطف وفي لبنان بضعة آلاف مع التنظيم، أعربوا عن ذلك بأنفسهم عدا من أضمر تعاطفه وقال «لا» أو امتنع عن الإجابة، وهذه النسب تزيد وتقل إذا ما أخذنا في الاعتبار باقي الأحزاب والتيارات المحظورة وفي مقدمتها «الإخوان»، حيث يشير التقرير إلى نسب مهولة ومرتفعة، وهو ما يعني رسالة واضحة؛ هي أن النجاحات الأمنية أو التشريعية أو حتى الاصطفاف السياسي لا يمكن أن تلغي دور إعادة بناء مفاهيم المجتمعات التي اختطفت منذ 3 عقود تحت أسماء كثيرة يجمعها سقف واحد وهو «الأصولية». بالطبع الدراسة شملت الموقف تجاه أحزاب شيعية ودول من «مربع المقاومة» الذي تقوده إيران، وفيها نسب كثيرة مفاجئة لا يتسع لها المقال.
سقف «الأصولية» إذن باق إلى أجل غير مسمى، وليست ثمة مؤشرات على برامج طويلة المدى لمعالجة مشكلة «الخطاب الأصولي» الذي لا يزال يراوح مكانه ويفاجئنا مرة بعد مرة في تغلغله وتمدده حتى إلى الشأن الرياضي، والأصولية الاجتماعية ذات المنزع الانفصالي هي بوابة الخروج من السلم الأهلي والدخول إلى أحد التنظيمات بمختلف أنواعها العنفي والانقلابي وحتى الثوري.
هناك حالة فراغ فكري ومفاهيمي كبيرة وفجوة سلوكية هائلة وغياب كبير لمعاني التسامح والاعتدال كجزء من مخلفات الفراغ السياسي والاضطرابات السريعة التي عشناها خلال سنوات الربيع التي كانت لحظة فاصلة واستثنائية لكنها لم تأتِ من فراغ إذا ما أخذناها في سياق 3 عقود من البحث عن معنى للذات والاصطدام بين السلطة السياسية والسلطات الأخرى التي تكونت سريعا بمعزل عن السلطة، وعلى رأسها «الإسلام السياسي» بما يملكه من سلطة اجتماعية هائلة من الصعب القفز عليها بمجرد حظره سياسيا أو التعامل الأمني الجاد معه، وهو ما يحيلنا إلى نظرية مهمة في علم الاجتماع السياسي عن «تعاضد الأقليات» وهو ما شاهدناه لدى الأقليات الدينية الصغيرة، وأخشى أن نراه مع تيارات أصولية متطرفة تعيش عقلية «الأقلية» وإن لم تكن كذلك على المستوى العددي.
الأكيد أن سبي «داعش» ليس إلا فصلا في مسرحية فوضوية طويلة، لكنه لا يساوي شيئا أمام سبي المجتمعات العربية والإسلامية فكريا ومفاهيميا.

اقرأ المزيد
٤ نوفمبر ٢٠١٤
الظلام الإعلامي في العراق وسوريا

صاحب سيطرة تنظيم «داعش» الوحشية على مساحات واسعة من العراق وسوريا عمليات اختطاف وقطع رؤوس للصحافيين. وعليه، أصبح دخول أي صحافي غربي للمناطق الخاضعة لسيطرة «داعش» اليوم ينطوي على مخاطرة بحياته في كل ثانية. وبذلك نجد الآن أن الولايات المتحدة تشارك في أول حرب طويلة الأمد داخل الشرق الأوسط في العصر الحديث، من دون أن يتمكن المراسلون والمصورون الأميركيون من تغطية الأحداث بصورة مباشرة ويومية. هذا بالتأكيد ليس بالأمر الجيد.
بيد أن الوضع يزداد سوءا، حيث أشارت صحيفة «التايمز» البريطانية، الأسبوع الماضي، إلى أن «داعش» أجبر أحد رهائنه البريطانيين على العمل مراسلا من ميدان القتال، خلال شريط دعائي مصوَّر من داخل مدينة كوباني السورية، حيث «توقع السقوط الوشيك للمدينة في أيدي المسلحين، رغم موجات الضربات الجوية الأميركية». ويكشف هذا الأمر أن «داعش» أصبح أكثر ذكاء في جهوده للترويج لقضيته، عبر اتباعه أساليب التغطية المستمرة للأحداث المميزة للقنوات الإخبارية.
وخلال المقطع المصور، يظهر الصحافي الرهينة وهو يقول: «مرحبا، أنا جون كانتلي، ونحن اليوم داخل مدينة كوباني على الحدود السورية - التركية. في الواقع، هذه تركيا تظهر خلفي مباشرة».
الواضح أن الوضع في طريقه نحو مزيد من السوء، حيث كتب ديلان بايرز، المراسل الإعلامي لدى صحيفة «بوليتيكو» في 23 أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، أن مكتب التحقيقات الفيدرالي (إف بي آي) بعث بمذكرة إلى مؤسسات إعلامية إخبارية يحذرها خلالها من أن تنظيم «داعش» أقر مراسلين وشخصيات إعلامية «أهدافا مشروعة لهجماته الانتقامية» ردا على الضربات الجوية التي تقودها واشنطن.
والتساؤل الآن: ما الذي نخسره في ظل غياب المراسلين عن المناطق التي يسيطر عليها «داعش»؟ الكثير. مثلا، يتعذر علينا الإجابة لأنفسنا عن تساؤلات مهمة، منها: كيف يجري النظر إلى حملة الضربات الجوية التي نشنها؟ هل تدفع هذه الحملة مقاتلي «داعش» والعراقيين من السنة المحليين نحو التقارب أكثر بعضهم من بعض أم تزيد الفجوة بينهم؟ كيف يحكم «داعش» ويدير المدارس ونظام العدالة؟ وكيف ينظر العراقيون والسوريون تحت سيطرتهم إلى أسلوب حكمهم؟ ما الذي يدفع هذا العدد الكبير من الفاشلين والمتخبطين نحو الانضمام لهذه الحركة المتشددة؟ هل نوجه إليهم الرسالة الصحيحة؟ وغير هذا الكثير من الأسئلة.
أخيرا، نشر بيل (ويليام) بيرنز نائب وزير الخارجية الأميركي، مقالا بمجلة «فورين بوليسي» يحوي نصيحته الأخيرة قبل تقاعده، للدبلوماسيين الأميركيين. وفي إطار ذلك، استشهد بمقولة إدوارد آر. مورو، عملاق «سي بي إس نيوز»، الذي نصح الدبلوماسيين الجدد بأن «الوصلة الجوهرية في سلسلة الاتصالات الدولية هي الوصلة الأخيرة، التي يتمثل السبيل الأمثل لتجاوزها في التواصل الشخصي؛ الحديث مباشرة من شخص لآخر».
وينطبق القول ذاته على المراسلين والمصورين، فرغم الأهمية المؤكدة لاستطلاعات الرأي والرسوم البيانية ورسائل «تويتر»، فإنها تبقى مجرد صورة من صور البيانات. وتُعد مسألة عقد مقابلات مع بشر آخرين للاستفسار عن آمالهم وأحلامهم ومخاوفهم وما يكرهونه، صورة أخرى من صور جمع البيانات والتحليلات - وهو النمط الذي يعتمد عليه أفضل عناصر الدبلوماسيين والصحافيين والمؤرخين، فكيف يمكنك أن تشير بالأرقام إلى حاجب مرفوع لأعلى تعبيرا عن الدهشة، أو ابتسامة تقطر ألما وسخرية، أو خوف تنضح به عينا لاجئ، أو ندم يتدفق من صوت أحد أفراد ميليشيا. أحيانا مجرد الإنصات لصمت شخص يحوي معاني تكفي مجلدات.
أخيرا، استعانت «فايس نيوز» بالمصور الصحافي الحربي مدين ديريه، الذي يعمل لدى قناة «الجزيرة»، لإنتاج فيلم وثائقي من داخل سوريا، بعنوان «الدولة الإسلامية». إلا أن جيسون مويكا، رئيس تحرير «فايس نيوز»، أوضح أمام لجنة من جامعة نيويورك، أن الفيلم تم إنتاجه «تبعا لشروط تضمن دخول المصور وخروجه ناجيا بحياته»، حسبما أفادت به «هفنغتون بوست».
من جانبي، سألت مينا العريبي، مساعدة رئيس التحرير في صحيفة «الشرق الأوسط» اللندنية، كيف تتمكن هذه الصحيفة العربية اليومية من تغطية أخبار تنظيم «داعش»..؟ وأجابتني: «لدينا مراسلونا المدعومون بقليل من المراسلين المحليين الذين يجازفون بحياتهم بتواصلهم معنا من داخل العراق. ومع ذلك، نعاني غيابا تاما للأخبار من المناطق الخاضعة لسيطرة (داعش) في سوريا، خاصة الرقة. في العراق، استخدامنا للهواتف والبريد الإلكتروني للحصول على المعلومات يخلق داخلنا قلقا على سلامة مراسلينا، الذين غالبا ما يعملون من دون أن يدروا كيف سيحصلون على أجرهم نهاية الأمر.. ورغم ذلك، فإن تغطيتنا ثرية بشبكة من العراقيين والسوريين الذين يتواصلون معنا لإطلاعنا على قصصهم، بجانب علاقاتنا مع سوريين وعراقيين وعرب آخرين تفاعلوا مع مسلحين تابعين لـ(داعش)، أو كانوا على صلة بهم عندما كانوا تحت لوائهم».
واستطردت قائلة إن الحقيقة تبقى أن «الكثير مما نعلمه يأتينا إما من مسلحي (داعش) أو من قصص يسردها مراقبون أو أشخاص لهم عائلات تعيش في أماكن خاضعة لسيطرة (داعش) ».
بالفعل، من الواضح أن «داعش» يخبرنا ما يريدنا أن نعرفه عبر «تويتر» و«فيسبوك»، بينما يخفي عنا كل ما لا يريد منا معرفته. لذا علينا الحذر حيال ما يخبرنا به أي شخص عن هذه الحرب، سواء كان أمرا سارا أو سيئا أو محايدا. من دون المراسلة الصحافية الحرة من على الأرض، علينا الاستعداد لمواجهة بعض المفاجآت. ومثلما توضح المقولة الشهيرة، فإنه «إذا لم تذهب، فأنت لا تعلم».

اقرأ المزيد
٤ نوفمبر ٢٠١٤
عن أميركا المتحالفة مع "داعش"

منذ ظهر تنظيم الدولة الإسلامية في العراق، قبل انتقاله إلى الشام، والحديث عن عمالة هذا التنظيم لأميركا تتزايد، بل أصبحت لدى بعضهم أمراً مسلماً به، لا يحتاج نقاشاً. ثم جاء التطور الذي حصل، مؤخراً، عندما اعترفت أميركا بأنها ألقت أسلحة نوعية بالخطأ على مسلحي "داعش" في عين العرب "كوباني"، بدلاً من إلقائها على مسلحي الكرد، ليؤكد ما يذهب إليه المؤمنون بنظرية المؤامرة حتى النخاع.

وقبل ذلك طبعا، كانت علامات الاستفهام الكبيرة التي تركها هذا التنظيم في علاقته مع النظام السوري، خصوصاً بعد أن تحول التنظيم إلى قتال بقية الفصائل السورية المسلحة، تاركاً قتال النظام السوري، ما خلا بعض المواجهات والضربات التي شنها التنظيم، هنا أو هناك.

لا يخلو الحديث عن عمالة تنظيم الدولة الإسلامية لأميركا من تبسيط وتسطيح للأمور، فهو يعطيك تفسيراً جاهزاً لظواهر عديدة، ربما لا يريد بعضهم أن يقرأها جيداً، كما أنه يعفي أصحاب هذا الرأي من عناء البحث عن الأسباب التي دفعت المنطقة إلى هذا المنحدر الخطير.

وفي خلفية مشهد العلاقة بين الدولة الإسلامية وبقية خصومها، لا بد من التذكير بأن التنظيم لم ينشأ من فراغ، ولم تكن أفكاره وليدة اللحظة، فهو قديم قدم التطرف لدى الإنسان، بغض النظر عن دينه ومذهبه. وهو تطرف يبقى، في النهاية، حبيس الصدور حتى تأتيه ما يمكن أن نسميها اللحظة الفارقة التي تحول هذا المكنون إلى أفعال إجرامية.

في العراق، وعندما بدأت القاعدة تصول وتجول، أيام زعيمها أبومصعب الزرقاوي، كان التنظيم يكبر، ويحقق الانتصار تلو الانتصار. فلم تذكر أدبيات المقاومة العراقية تنظيماً كانت له سطوة وقسوة في ضرب القوات المحتلة، كما تنظيم القاعدة، والذي أراه دوماً الأب الشرعي لتنظيم الدولة.

في تلك الفترة، نجح النظام السوري في اختراق التنظيم، من خلال ضباط مخابراتٍ، تم تجنيدهم وإرسالهم إلى العراق، ليكونوا أعضاء ضمن التنظيم. بعضهم وصل إلى مراكز قيادية. غير أن ذلك لا يعني بأي حال أن يكون التنظيم ذراعاً للنظام السوري، وهنا يجب أن نفرق بين العمالة والاختراق.
"
بعد أن نجحت الشعوب في ثوراتها، قادت أميركا، وبالتعاون مع أنظمة عربية أخرى، ما بات يعرف بالثورة المضادة على إرادة الشعوب العربية
"

وبالنسبة لأميركا، مما يجب أن نذكره، هنا، أنها دولة قادرة على انتهاز اللحظة والفرصة، فهي لا تتوانى، في أحيان كثيرة، عن تقوية عدوها، من أجل أن تعطي لنفسها الحق، مستقبلاً، ليس لضربه وحسب، وإنما، أيضاً، لتحقيق أهدافها.

عندما اندلعت الثورات العربية، لم توفر أميركا فرصة في دعم هذه الثورات، فهي لا تريد أن تظهر بمظهر الرافض لإرادة الشعوب، علما أن الجميع كان يعرف جيداً أن هذه الأنظمة العربية المهترئة، ما كان لها أن تبقى وتصمد، لولا الدعم الأميركي. ثم، وبعد أن نجحت الشعوب في ثوراتها، قادت أميركا، وبالتعاون مع أنظمة عربية أخرى، ما بات يعرف بالثورة المضادة على إرادة الشعوب العربية، حتى وصل الحال إلى ما نحن عليه اليوم.

وفي سورية، ظل الصراخ الأميركي المندد بأفعال النظام الأسدي يعلو ويعلو، حتى وصلنا إلى خط أوباما الأحمر، يوم أن استخدم الأسد أسلحته الكيماوية ضد شعبه، من دون أن تهتز واحة الديمقراطية والإنسانية، واشنطن وبيتها الأبيض، واكتفت بالتنديد والتهديد والوعيد.

اليوم، وجدت أميركا ضالتها في "داعش"، فلقد كانت أميركا ومراكزها المختصة بالاستراتيجيات تعرف أن سياسات نوري المالكي الطائفية في العراق ستقود إلى انفجار الوضع، وكانت هناك دراسات وتقارير، بعضها ميداني، حذر من احتمال سقوط مدنٍ عراقيةٍ بيد هذا التنظيم المتطرف، غير أن واشنطن تجاهلت ذلك كله، فكبر هذا التنظيم، حتى احتل مدناً عراقية كاملة.

مخطئ من يعتقد أن الولايات المتحدة لا تعرف ماذا تريد، ولا أين تذهب باستراتيجيتها، فهي التي غضت الطرف، ذات يوم، عن مليشيات الحقد التي كبرت في إيران، عندما رأت أن هناك مقاومة عراقية سنية، فجعلت أبناء الشعب الواحد يتطاحنون في وقت كانت قواتها تتفرج.

وأميركا من رأت كيف أن "داعش" كانت تكبر، بفعل سياسة التهميش والإقصاء التي مارسها رئيس الحكومة السابق، نوري المالكي، وأيضاً، بفعل الموت الأحمر الذي سلطه الأسد على شعب سورية. وذلك كله انتظاراً للحظة المناسبة، وهو ما حصل. فكان أن ساهمت "داعش" في أن تبدأ أميركا بإعادة صفوفها، استعداداً للعودة إلى العراق الذي خرجت منه مجروحة الكرامة بخسائر بشرية بلغت خمسة آلاف قتيل، وفقاً لإحصائيات وزارة الدفاع الأميركية، بالإضافة إلى نحو ثلاثة تريليونات دولار، خسائر مالية مقدرة عن سنواتها التي قضتها في احتلال العراق.

علينا أن نقنع شعوبنا بأن زمن العملاء انتهى. فيكفي أن تكون غبياً لتقدم لعدوك أفضل الخدمات، ويكفي أن تكون فاقداً للرؤية لتقدم لعدوك كل سبل الانتصار عليك.

نحتاج، اليوم، أن نتخلص من عقدة المؤامرة، إلا بحدود، لأنها حتماً موجودة، ولكن وجودها بالطريقة التي نحن نقررها. فكلما امتلكنا وعياً قادراً على المواجهة قللنا من فرضيات هذه النظرية، والعكس صحيح أيضا.

اقرأ المزيد
٤ نوفمبر ٢٠١٤
لماذا أصبح البيشمركة هم عين العرب؟

سؤال غير بريء: لماذا يخيل لمن يتابع وقائع ما يحدث في منطقتنا أن «الوطن العربي» خال من السكان، ولا توجد فيه سوى داعش والأكراد التحالف «الطائر»؛ وبالطبع إسرائيل. يقال أن عدد سكان كردستان العراق –والله أعلم- حوالي خمسة ملايين نسمة، مقابل 36 مليونا في كامل العراق و 24 مليونا في سوريا، بينما يزيد سكان العالم العربي بأكمله على 367 مليونا (اللهم زد وبارك). ولكن قوات البيشمركة هي التي تدافع عن العراق ضد داعش، وهي التي تهب اليوم للدفاع عن عين العرب في سوريا أيضاً.
ليس هذا فقط، فكردستان العراق تكاد تنفرد في الهلال الخصيب بقدر من بالاستقرار والحكم الرشيد وشيء من التنمية رغم قطع المالكي الأموال عنها، وتوفر ملاذاً آمناً لمن شردهم نظام المالكي، أو «البغدادي» وبقية ميليشيات المنطقة. وهذا يعني أن الأكراد هم موضع ثقة الجميع. فالغرب يسلحهم، وتركيا ترتضيهم وتأمنهم على حدودها، والمشرد يأوي إليهم. أي ضاقت الأرض من المحيط إلى الخليج بالناس إلا كردستان.
فأين ذهب الآخرون؟ لماذا كانت داعش وحدها هي التي أنقذت سنة العراق وأنزلت سفاح العراق الدموي من صياصيه؟ أين جيوش العرب حين شرد نصف سكان سوريا وذبح أطفالها ونساؤها؟ (نسكت هنا عن غزة والأقصى وحرماته تجنباً للإحراج).
ليس هذا الخذلان من قلة، فالأعداد ما شاء الله، ملايين بعدد أيام السنة. وليس الأمر من قلة السلاح، لأن الدول العربية تمتلك أحدث الأسلحة، وهي من الأكثر انفاقاً على التسلح، حيث جاءت السعودية الرابعة عالمياً في 2013، منفقة 67 مليار دولار. وبذلك سبقت بريطانيا وفرنسا وألمانيا، ولم يسبقها إلا العمالقة: أمريكا والصين وروسيا. وقدر معهد استكهولم للسلم ما أنفق على السلاح في المنطقة بمائة وخمسين مليار دولار العام الماضي، وهو رقم متحفظ. فما هو السبب في أن الكل يقاتل على أرض العرب ما عدا العرب؟ لماذا تعجز دول بكاملها في الدفاع عن أرضها وشعوبها، فتستنجد بالخارج أو تقف متفرجة والبلاد تدمر؟
هناك بالطبع إجابة أولية واضحة، وهي أن الأنظمة هي التي تقتل وتدمر، والحاجة هي لمن يدافع عن الشعوب ضد هذه الجيوش التي ترى أن الشعوب هي العدو. وفي الحقيقة فإن الأنظمة لا تتخذ لأنفسها جيوشاً حقيقية، لأن عدتها الأساس هي أجهزة المخابرات التي تحصي على الشعب أنفاسه، وتراقب كذلك الجيوش، حتى لا تصاب –والعياذ بالله- بداء الوطنية والغيرة على الشعب. أما الانفاق الأكبر فإنه يوجه إلى أجهزة المخابرات والشرطة، التي تدرب باستمرار وتجهز لملاقاة «العدو»، وهو الشعب الأعزل.
وهناك بالطبع كثير من الوجاهة في هذا القول. يكفي أن نشهد أكبر جيشين عربيين، وهما الجيش المصري والجيش السوري، يخوضان اليوم أكثر حروبهما شراسة. أنظروا إلى هذه الشجاعة وهذه البسالة وهذا الإقدام! فهذه أطول حرب تخوضها سوريا منذ أيام نور الدين زنكي ومصر منذ أيام محمد علي. ولكنها حرب على الشعب في البلدين. ولو أن طلقة واحدة أطلقت من إسرائيل على أي من الجيشين، لما توقف قادته إلا عند الحدود.
ولكن هناك أمور أعمق من ذلك. فهناك جانبان للقضية: جانب الجناة وجانب الضحايا. صحيح أن طبيعة الأنظمة القائمة هي طبيعة استعمارية. فهي أنظمة أقليات، ترفض حق الشعوب في الحياة الكريمة والسيادة على اوطانها. ولكن السؤال هو لماذا تبقى رغم رفض الشعوب التي طردت الاستعمار من أوطانها، وبذلت في سبيل ذلك الغالي والنفيس؟ وقد شهدنا كذلك كيف انتفضت الشعوب في هبة الربيع العربي فاقتلعت أنظمة الاستعمار الجديد من جذورها. ولكن تلك الأنظمة عادت من جديد، وليس بدون سند من بعض قطاعات الشعب.
هذا يشير إلى إشكالات في أوساط المدافعين عن الشعوب، فوق شراسة الأنظمة، وما تجده من دعم أجنبي. وهنا يصلح النموذج الكردي مرة أخرى مثالاً لتفسير هذه الظاهرة. فقبل أن يدخل الأسد الابن المنافسة، لم يكن هناك نظام أشرس من نظام البعث العراقي الصدامي، ولا أفظع من جرائمه في حق فئة معارضة كما حدث في حق أكراد العراق، بما في ذلك القتل الجماعي بالأسلحة الكيميائية وغيرها، والشروع الفعلي في الإبادة الجماعية. وكان الأكراد في معظم تلك الفترة معزولين تماماً، حتى أن الهجوم الكيميائي ضد حلبجة لم يثر أي ردة فعل دولية، ولم يحظ بأي تغطية تذكر في الإعلام العربي، ناهيك عن الإدانة. أما حملة الأنفال سيئة الذكر فلم تنشر تفاصيلها إلا بعد غزو الكويت وانكشاف النظام العراقي.
ولكنا مع ذلك لم نسمع زعماء الأكراد يتباكون كما نسمع من ثوار سوريا اليوم، على تخلي العالم عنهم، ولم ينتظروا أن تأتي تحالفات دولية لتشكل نيابة عنهم قيادة للشعب الكردي وجيشاً «حراً» صنع في الخارج. صحيح أن المقاومة الكردية لم تسلم من الانشقاقات والاختراقات الدولية، ولم يتنزه زعماؤها عن الاقتتال وارتكاب الفظائع في حق أفراد شعبهم. ولكن يبقى أن الحركة الكردية نجحت في تحقيق الصمود، واستخدمت مزيجاً فاعلاً من النضال المسلح والبناء السياسي والحنكة الدبلوماسية لتحقيق تطلعات الشعب الكردي وبناء نظام سياسي ناجح حمى الشعب الكردي في هذه الأيام المضطربة، بل وبسط الحماية على آخرين من ضحايا أمواج الفتن المتلاطمة.
وإذا كانت هناك دروس للشعوب العربية من هذا النجاح الكردي، خاصة الشعوب المكلومة في مصر وسوريا وليبيا، فإنها: أولاً، إن المسؤولية الأساسية في تحرير الشعوب تقع عليها، ولن تتولى قوى خارجية تحرير الشعوب منة واريحية. ثانياً، ضرورة توحد القوى الثورية، وهذه مسؤولية الحركات الأقوى التي ينبغي أن تقدم التنازلات وتبسط جناحها على الجميع. ثالثاً، لا بد من تبني خط الاعتدال والحكمة مع الداخل والخارج. وأخيراً، بل أولاً، الاعتماد على الذات وتبني استراتيجيات تتناسب مع هذا المبدأ.
وقد يكون الدعم الخارجي في نهاية المطاف ضرورياً لنجاح الثورات، ولكن الدعم لن يأتي في ظل الانقسامات، وتكاثر عشرات الميليشيات والتطرف في سوريا وليبيا. بل لا بد من عمل استباقي في كلا البلدين لإنشاء جيش موحد، بإرادة وطنية محلية، وتبني خطاب واقعي معتدل يلقى القبول محلياً وعالمياً. وبالنسبة لمصر واليمن (وفلسطين أيضاً)، فإن الوحدة المطلوبة هي وحدة كل الفصائل السياسية والتفافها حول برنامج سياسي واحد.
وخلاصة القول إنه لا فائدة من تحميل الغير مسؤولية إنقاذ الشعوب، لأنه كما أن هناك قابلية للاستعمار، هناك كذلك قابلية للوقوع في قبضة الاستبداد. وما لم تحرر الشعوب نفسها من الخنوع والخضوع، وتفرز قياداتها الفاعلة وتنظم صفوفها، فلن ينقذها بطل قادم من الخارج. ولكي تحرر الشعوب نفسها لا بد من أن تتحمل القيادات السياسية مسؤوليتها، في الالتحام مع الشعوب، والوجود الميداني في ساحات النضال، وتقديم التنازلات.
وإذا كان البعض يتعجب كيف تحقق كردستان بمواردها المحدود وسكانها القليلين، ما حققته إسرائيل من قبل، في حين فشل كل العرب، فلا بد من أن ننظر إلى نموذج تونس، حيث ضربت الحركة الإسلامية هناك المثل وقدم القيادة السياسية الحكيمة، فحافظت على الاستقرار والاستقلال والكرامة. فإذا قلنا إن المشكلة هي أن العرب رعايا في أوطانهم بينما الآخرون مواطنون، فإن أصل المشكلة هو ركون العرب إلى وضع الرعايا وعجز القيادات الوطنية عن تنظيم المقاومة الفاعلة ضد الاستعمار الداخلي والخارجي، وتحول «المقاومة» إلى مشكلة بدلاً من أن تكون الحل، كما شاهدنا ونشاهد في فلسطين ولبنان وسوريا والعراق ومصر وليبيا.

اقرأ المزيد
٤ نوفمبر ٢٠١٤
حتى لو قتلنا أبوبكر البغدادي.. من يخمد نار الغضب السني في الشرق الأوسط؟

لندن، بريطانيا (CNN) -- هناك احتمال كبير بأن يكون هناك في مركز القرار الأمريكي بواشنطن من خرج بخطة تقترح قتل زعيم تنظيم الدولة الإسلامية "داعش" في سياق محاولات القضاء على التنظيم، ومن ثم قتل كبار قادته.
ليس لدي شك من أن الفكرة طرحت على مائدة البحث على أساس أنها عملية غير مكلفة وتمثل بديلا ناجحا عن إرسال قوات لغزو العراق وسوريا، ولكن إذا كان داعش فعلا النموذج الأكثر تطورا لتنظيم القاعدة فلا يمكننا سوى تذكر أن اغتيال زعيم ذلك التنظيم، أسامة بن لادن، رتّب الكثير من النتائج المتضاربة وترك الكثير من الدروس والعبر للإدارة الأمريكية.

الحقيقية هي أن الاغتيال عملية شديدة التعقيد وقد تترك تداعيات سلبية بحيث تتحول إلى دواء أخطر من المرض نفسه، خاصة إذا كنا نستخدم هذا الدواء دون أن يكون لدينا صورة واضحة عن المرض الذي نحاول معالجته.
قد نشعر بالراحة عندما نصف داعش بأنه تنظيم دموي ووحشي، وأنه سيسقط بشكل تلقائي بسبب تعطشه الفائق للعنف والدماء، ولكن رغم استخدام التنظيم للعمليات الإرهابية على نطاق واسع إلا أن وصف "الإرهاب" لا يجب أن يحجب عنا فهم الصورة الكاملة، وهي أن داعش تنظيم يعبر بشكل واضح عن طائفة إسلامية مستاءة، هي التيار السنيّ المتشدد، فالسنة يرون أنهم يتعرضون للكثير من الخسائر السياسية، وإذا لم يتحركوا للرد فإن الخسائر ستكون أكثر فداحة.
وبالفعل، فإن السنة – ورغم أنهم يشكلون الغالبية الساحقة من المسلمين – إلا أنهم خسروا الكثير في الأعوام الماضية، فغزو العراق حرم السنة بذلك البلد من ثرواتهم وسلطتهم، وما فاقم المشكلة بالنسبة لهم قيام أمريكا بتسليم السلطة بعد ذلك إلى حكومة طائفية شيعية كانت مصممة على الانتقام منهم.
أما في سوريا، فيواصل النظام الحاكم الذي تسيطر عليه الأقلية العلوية قتل وذبح أعداد كبيرة من معارضيه السنة، وفي اليمن، قام فصيل شيعي آخر، هو التيار الحوثي، بالاستيلاء على العاصمة صنعاء.
الغارات التي تنفذها الطائرات الأمريكية على تنظيم القاعدة وحركة طالبان في باكستان، وهذا لا يجب أن يحول دون تمكننا من رؤية أن هناك أقلية سنيّة – ولكنها عددها ينمو باضطراد – ترى بتلك التنظيمات أقرب خيار متوفر لديها للمقاومة. حتى في مصر السنيّة بالكامل، يحاول الجيش سحق جماعة الإخوان المسلمين، القلب النابض للإسلام السياسي السني.
ليس هناك بالتأكيد مؤامرة أمريكية ضد الإسلام السني، ولكن المشكلة هي أن داعش مزروع في وسط طائفة ترى أن الكيل قد طفح، يمكن للبعض أن يصف الأمر بأنه "انتفاضة سنيّة" أو "تفجر غضب"، ولكن بخلاف الانتفاضة الفلسطينية ضد السلطات الإسرائيلية، فإن موجة الغضب السنيّة تنذر بأنها ستكون أكثر تدميرا وقوة، الإسلام السني الصاعد سيسير بسرعة كبيرة للاصطدام بنظيره الشيعي، لتتفجر إمكانية اندلاع حرب لمئة سنة.
ورغم أن معظم السنة لا يشاركون داعش رؤيتها الجهادية التي تؤمن بنهاية العالم، إلا أن التعايش مع الشيعة يبدو كخيار يفقد جاذبيته بالنسبة إليهم يوما بعد بوم، فقبل سنة، عندما بدأ داعش بالتمدد بين العراق وسوريا، سألت عددا من قادة القبائل ورجال الجيش العراقي السابق بحقبة صدام حسين عن سبب عدم تدخلهم لمقاتلة التنظيم، وكان جوابهم أنهم على استعداد للتحالف مع أي جهة، بما في ذلك مجانين داعش، من أجل طرد حكومة بغداد الشيعية من مناطق السنة.
وقال بعضهم إن الانفصال عن العراق خيار جدي، بل إن بعضهم وصل إلى حد القول بأنه يتطلع إلى الانضمام إلى السنة في سوريا وتشكيل دولة موحدة، أما بالنسبة للجهاديين وداعش، فإنهم سيتصدون لهم عندما يحين الوقت لذلك.
قد تبدو الاستعانة بالجهاديين أمرا شديد الخطوة بالنسبة لنا، ولكنه يظهر مدى عمق الهوة غير القابلة للردم بين السنة والشيعة. باستطاعتنا عسكريا تدمير داعش والقضاء على قادته، ولكن الغضب السني سيبقى موجودا، وستظهر شخصيات أخرى لتتصدر المشهد.
لقد أسس اتفاق سايكس بيكو عام 1916 الحدود الحالية في الشرق الأوسط، عبر خطوط رسمها بشكل سري مسؤولون فرنسيون وبريطانيون، وهذه الحدود ليس لديها أي صلة على الإطلاق بالوقائع الديمغرافية والثقافية، ما يثير التساؤل حول مدى وجود مصلحة لدينا في حماية هذه الحدود عبر شن حروب ليس لها نهاية أو عبر عمليات الاغتيال السياسي.
الحقيقة أننا نعيش ما يمكن يشبه فترات النزع الأخير للإمبراطورية العثمانية، وإذا كان الأمر كذلك، فإن عمليات الاغتيال وقتل الشخصيات المؤثرة من خلال الضربات الجوية لن يقودنا إلى شيء.

اقرأ المزيد
٣ نوفمبر ٢٠١٤
تعددت الوجوه... و«الدواعش» واحد!

كلما ألمحت إلى بوادر أمل وإشعاع نور في نهاية النفق العربي المظلم جاء من يحتج ويحدثني عن اليأس والكآبة ونهاية العرب، إن لم يكن موتهم. وكلما كنت اؤكد ان المؤمن لا ييأس وان الفرج لا بد ان يأتي ان عاجلاً أو آجلا حتى ولو جاء متأخراً بعد مخاض عسير كان يبادرني إخوان لي بالإنكار والجزم بأن الأبواب موصدة والنوافذ مسدودة.

 وكلما قلت ان المنطق يدفعنا إلى القول انه ما من حرب إلا وتنتهي الى سلام وما من مشكلة إلا ولها حل، وما من أزمة إلا ويأتي يوم يتم فيه إيجاد حلول لها وتسويات، يجيبني أعضاء نادي التيئيس وحزب المتشائمين بالرد بأن حروبنا ليست كحروب الآخرين مثل كلماتنا وشتائمنا التي هي ليست كالكلمات الطبيعية لأنها تجرح وتسيل دماء غزيرة وتفتح جروحاً لا تندمل ولا تترك مجالاً للصلح ولا تساعد في ان ننسى ونسامح وعلى الأقل نسامح ولا ننسى!

ومع أنني لا أحب أن أزرع الورود والأزهار والرياحين في حقول الألغام، ولا أحبذ سياسة المعالجة بالمسكنات والمهدئات ولا توزيع الأوهام الكاذبة وتفسير الأحلام الوردية، فإنني أرفض الاستسلام لليأس لأن المؤمن لا ييأس، ولهذا أحاول تقديم صورة واقعية عن الأوضاع والتطورات بالاستناد الى الوقائع والحتمية التاريخية والدروس المستقاة من تجاربنا وتجارب الآخرين عبر العصور.

ومن هنا، أكاد أجزم بأن الأمل بالله عز وجل كبير ومؤكد لأن الأمور وصلت الى مرحلة الحسم والفصل واتخاذ القرارات الصعبة والبحث عن الحلول المؤلمة سلباً أو إيجاباً ان لم تحدث في وقت قريب على المدى المنظور فإنها تبقى ماثلة للمقاربة خلال أشهر مقبلة لتحديد مسار المنطقة ومصير أهلها.

وعلى رغم السحب الداكنة والعواصف المرتقبة، تلوح في الأفق ملامح مفترق طرق من منطلق المواقف والحسابات الداخلية والعربية والإقليمية والدولية، لا سيما بعد دخول «داعش وأخواتها» على الخط وبدء حرب التحالف الدولي ضد الاٍرهاب واقتناع  الأطراف بأن البديل عن التسويات انهيار كامل لكل المعادلات والجنوح نحو هاوية نار جهنم تحرق الجميع وسط انقسام ظاهر بين متشائم ومتفائل ومتشائل! بل ان أحد الأصدقاء جزم سلفاً بأن الحل مستحيل، مستخدماً عبارة الزعيم المصري الراحل سعد زغلول التي قالها لزوجته المرحومة صفية بعدما أحس بقرب أجله: «غطيني يا صفية ما فيش فايدة»! ورد عليه صديق آخر بسخرية مؤلمة تعبّر عن الواقع: حتى الغطاء (اللحاف) غير متوافر هذه الأيام حتى يغطي المساكين الذين يعيشون في العراء تتقاذفهم عواصف الشتاء وتجمدهم ثلوجه ويكويهم لهيب حرارة شمس الصيف الحارقة.

وبعيداً من التحليل والتنظير والتنجيم، لا يمكن لوم من ينظر إلى الأوضاع العربية الراهنة بنظارة سوداء لا يرى من خلالها بصيص أمل بعد ٤ سنوات عجاف من الدمار والقتل والمذابح والتهجير وإثارة الفتن والأحقاد والتعصب وكل ما في أوبئة الطائفية والمذهبية والعنصرية من موبقات. فكيف يمكن لنا ان ندعو إلى التفاؤل ونحن نشهد مذابح وجرائم يندى لها جبين الإنسانية وتلصق بالإسلام والمسلمين زوراً وبهتاناً؟ وكيف نروّج لأمل زائف ونحن نسمع جهابذة التحالف الدولي وهم يتحدثون عن حرب قد تدوم ١٠ سنوات أو ربماً ٤٠ سنة؟ وكيف نطالب بالتخلي عن اليأس ونحن نرى دولاً تنهار وكأنها مجرد علب كرتونية تتهاوى عند أول هبة ريح؟ وكيف نطمئن ونحن نشاهد جيوشاً جرارة تندحر وتستسلم وكأنها دمى خشبية؟ وكيف يرتاح  المواطن العربي وهو يصدم بشباب وشابات في عمر الورود يجنحون الى العنف والتطرف والإرهاب؟ وكيف لا ييأس من تصم أذنيه صرخات الأطفال وأنين النساء والسبايا وهن يبعن في سوق النخاسة في القرن الحادي والعشرين؟

وكيف لا يصاب المرء بالغم والقرف عندما يتحدث البعض عن خلافة مزعومة أو دولة لا كيان لها ولا قرار وعن حروب  عبثية تزهق الأرواح وتأكل الأخضر واليابس وتدمر البشر والحجر وتقطع الرؤوس وتصلب الصبية، مع أن الدين الاسلامي وكل شرائع وقوانين العالم تحرم معاقبة من لم يبلغ سن الرشد لأنه فاقد الأهلية ولا بد من الانتظار حتى يملكها؟

وكيف يقبل أي إنسان، مهما كان دينه ومعتقده ان يأتي من يهدم الكيان المبني على أساس التعايش والوحدة الوطنية والتسامح والسلام عبر العصور ويضطهد «الآخر» لا لذنب ارتكبه، بل لمجرد كونه ينتمي الى دين آخر من الأديان السماوية؟

كل هذه الأسئلة تطرح اليوم في كل بيت ومحفل من دون ان تؤثر على السياق العام، وهو الوصول الى هدف تحديد أصل العلة وسبب البلاء ومعرفة أبعاد وخفايا وأسباب الوصول الى ما وصلنا اليه من انحدار ديني وأخلاقي ووطني وممارسة شتى أشكال العنف والتمادي في ارتكاب المذابح بكل دم بارد وبلا رادع من ضمير.

أحد الزملاء البريطانيين حاول ان يخفف عني وأنا أحمل أثقال هذه الأسئلة المرة قائلاً: لا تحزن يا صديقي، فأنتم  تمرون الآن بالمراحل التي مررنا بها في عصور الظلام وتعيشون الصور الرهيبة ذاتها وتعانون من الممارسات المرعبة أيام محاكم التفتيش يوم إعدام الناس حرقاً بالنار على أساس تهمة ظالمة بممارسة السحر او الكفر، إضافة الى هيمنة الكنيسة على كل مناحي الحياة ومقاليد الأمور في أوروبا، وبعدما دفعت شعوبها أثماناً باهظة جراء القمع والاضطهاد وشن الحروب بدءاً من الحروب الصليبية وحروب الدول وصولاً الى الحروب الكونية توصلت الى عبر ودروس أثمرت عن تنفيذ مبادئ سيادة القانون وحقوق الانسان والحريّة والديموقراطية ومبدأ «أَعْط ما لقيصر لقيصر وما لله لله».

صدمني هذا التشبيه المفزع وآثار قلقي وأنا استعرض ما قرأت وما سمعت عن تلك الحقبة السوداء، وعدت الى دراسة أعدها الزميل محمد قواص (مجلة «الحصاد») عنها وعن المظالم التي ارتكبت خلالها ومنها على سبيل المثال لا الحصر:

- تحول من اتخذ الدين سبيلاً للهيمنة الى طواغيت ومحترفين سياسيين ومستبدين تحت ستار الإكليروس وبيع صكوك الغفران وتكفير من لا يتفق مع مواقفهم.

- وقوف الكنيسة ضد العلم وهيمنتها على الفكر وتشكيل محاكم التفتيش واتهام العلماء بالهرطقة مثل:

- اكورنيكوس الذي نشر عام ١٥٤٣ كتاباً عن حركة الأجرام السماوية، فحرمت الكنيسة هذا الكتاب.

- غرادانو صنع التلسكوب فعذب عذاباً شديداً وعمره سبعون سنة، وتوفي عام ١٦٢٤.

- يبينوا صاحب مدرسة النقد التاريخي وكان مصيره الموت مشلولاً.

وهناك مئات الأمثلة عن تعذيب  وتكفير وحرق العلماء والمفكرين والنساء وحتى الأطفال قبل ان تغلق أوروبا هذه الصفحة السوداء وتستقبل عصر النهضة.

ولكن هل كتب علينا أن ننتظر كل هذا الوقت، أي أكثر من ٥٠٠ سنة حتى ننعم بالسلام ونحلم بغد مشرق ونطمئن على مستقبل أبنائنا وأحفادنا؟ يجب ألا نستسلم لهذا الكابوس المرعب لأن الأمل معقود على الأجيال الصاعدة وانفتاحها على روح العصر والإنجازات العلمية وبذل الجهد والمثابرة على العمل والعطاء والتضحية ونبذ التطرّف والعنف من دون ان تتخلى عن إيمانها الصادق بمبادئ دين المحبة والتسامح، دين الوسطية والاعتدال ودين المودة والرحمة.

ومع هذا، فإن علينا أن نعترف بأن ما نمر به من تجارب مريرة اليوم ليس ابن ساعته، بل جاء نتيجة تراكم الحوادث والمآسي وتوالي عمليات العنف والقمع والقتل والارهاب خلال العقود المنصرمة، وما ترتكبه «داعش» وأخواتها من أعمال مستنكرة مارست مثله وأكثر دول وفئات وأحزاب وطوائف حتى حق على الجميع القول: تعددت الوجوه و»الدواعش» واحد؟

ففي السنوات القليلة الماضية، ارتكبت جرائم تفوق ما ارتكب خلال قرون: مئات الآلاف من القتلى والجرحى، ملايين اللاجئين والنازحين والمهجرين قسراً، عشرات المدن دمرت عن بكرة أبيها على رؤوس أهاليها، مئات الآلاف من المعتقلين والمفقودين وإعدام الآلاف من الرجال والنساء وحتى الأطفال، من دون ان يجنح أي طرف للسلم أو يرفع بيده غصن زيتون ويقبل بالحوار والاعتراف بالواقع المرير وبوجوب وقف نزيف الدم وحجب دماء الأبرياء.

تعنت وعناد ومكابرة وإنكار للحقيقة والواقع وإصرار على المضي في الغي مهما كان الثمن والتشبه بشمشون ومقولاته الشهيرة عندما هدم الهيكل: «عليّ وعلى أعدائي». ورفض البحث عن الحل الوسط المعمول به في كل الحروب والأزمات والمفاوضات ومجالس الحوار.

أما التاريخ ، فـ»الدواعش» فيه كثر بأشكال ومزاعم وادعاءات مختلفة ودعاوى مزورة لا داعي لفتح سجلاتها السوداء ونبش القبور في هذه العجالة، بل يكفي الإشارة العاجلة الى بعض  صورها:

الحرب الأهلية اللبنانية وخسائرها البشرية والمادية، وحروب السودان بين أهل الشمال وأهل الجنوب والتي انتهت بالانفصال، الى دارفور التي قتل فيها مئات الآلاف من المسلمين العرب والمسلمين الأفارقة، الى حروب اليمن القديمة والجديدة بين الجنوب والشمال، وصولاً الى الحرب الأهلية بين القبائل والحوثيين والتي تتقاطع مع حرب السلطة و»القاعدة» وحرب «القاعدة» والحوثيين، وحرب الصومال الطويلة والدامية بين شمال وجنوب وشرق وغرب، وهي مستمرة «بنجاح منقطع النظير» وتحصد أرواح مئات الآلاف، من دون أن نتجاهل حروب العراق وصراعاته الطائفية والمذهبية والعرقية وحروب سورية وأحداث العنف في مصر وتونس والجزائر مع مئات عمليات التفجير والاغتيالات والتخريب التي جرت على هامش هذه الحروب وفي أوقات استراحات المحاربين.

أما إسرائيل، فالحديث عنها يطول، هي التي قامت على مداميك العنف والمنظمات الإرهابية وما زالت تعيشها بكل أشكالها وصورها المشينة والسوداء، بل هي أول «الدواعش» التي ولدت من العنف وعلى العنف تعيش، مهما صبغت وجهها بالمزاعم ووضعت من أقنعة،  فهي ممثل الاٍرهاب الحصري والوحيد في مواجهة الشعب الفلسطيني والشعوب العربية.

إنها وجوه متعددة ابتلينا بها، ولن نضع أيدينا على قلوبنا ونتنفس الصعداء مع نسيم أمل إلا بالعودة الى هذه الوقائع وتحديد أسباب انتشار العنف وتفاقم جرائمه والاعتراف بأنه بات جزءاً من حياتنا وفكرنا وواقعنا وان الحل يجب ان يبدأ بالمصارحة التامة والتخلي عن التكاذب بعيداً من الحساسيات والخوف من قول كلمة حق وتجنيب النفس الخضوع في مواجهة قوى التكفير العاملة على قمع قوى التفكير.

وعندما نبدأ بأنفسنا يمكن لنا ان نجيب على كل الاسئلة المطروحة ونرفع راية الدعوة الى التفاؤل ونبذ التشاؤم ونزع صواعق اليأس لتنير دروبنا شعلة الأمل!

اقرأ المزيد
٣ نوفمبر ٢٠١٤
سوريون وعراقيون في الأردن

في السنين العشر التي تلت حرب الخليج الثانية، كان يصعب أن تجلس في مقهى في وسط عمَّان القديم، ولا تجد أديباً أو فناناً تشكيلياً عراقياً هناك، كما كان يصعب أن تختلف إلى الندوات الثقافية العَمَّانية ولا تجد عراقيين على المنبر، أو بين الجمهور. أنا، مثلاً، من الذين يعتبرون وجود الفنانين التشكيليين العراقيين، الرواد والشبان، خلال ذلك العقد نقطة انعطاف في الحركة التشكيلية الأردنية، اتجاهات ومرافق وسوقاً، بحيث يؤرخ للتشكيل الأردني انطلاقاً منها.
لم يحدث شيء مشابه مع اللجوء السوري الكثيف إلى الأردن، فالنسبة العظمى من اللاجئين هم من فلاحي وفقراء المناطق الجنوبية (حوران، الجولان)، أو بعض أثرياء الشام. كان للمثقفين السوريين الذين غادروا بلادهم وجهات أخرى، بيروت (أساسا)، تركيا، مصر، الإمارات، وبعض الدول الأوروبية التي قبلت بفتح حدودها لعدد ضئيل من لاجئي حرب النظام على شعبه. كل دولة من الجوار السوري تلقت قسطاً من موجات النزوح السوري، وكان النازحون إلى هذه الدول (لبنان، الأردن، تركيا، وإلى حد ما العراق) من المناطق المحاذية لها، أو القريبة منها جغرافياً.
هكذا كان أسهل على مثقفي المدن السورية: دمشق، حمص، حلب، مثلاً، الفارين من جمهورية الشبيحة والبراميل أن يتجهوا إلى لبنان وتركيا، فيما اتجه بعض مثقفي المناطق الكردية إلى أربيل. لم يكن للمثقفين العراقيين هذه الخيارات. كانت لهم وجهتان على نحو خاص: عمّان ودمشق، بيد أن معظم المثقفين العراقيين فضّلوا عمّان على دمشق، لأسباب سياسية ونفسية، فهم لن يهربوا من حرب دوليةٍ، ونظام بعثي متشدد، إلى نظام بعثي آخر، حتى وإن بدا، ظاهراً، أخفَّ وطأة من "بعث" بلادهم!
لم يستقر المثقفون العراقيون الذين جاءوا بعيد حرب الخليج الثانية (1991) طويلاً في الأردن، فقد كانت عمان لهم محطة انتظار، تطول أو تقصر، إلى وجهةٍ أخرى، غربية تحديداً. لكن، تلك الإقامة التي يمكن لي حصرها في العقد الذي أعقب الحرب على العراق كانت مثمرة جداً للحركة التشكيلية في الأردن، فلم يبق واحد من رواد الحركة التشكيلية العراقية، تقريباً، لم يتخذ من عمان مستقراً بعض الوقت، أو كل الوقت، مثل المرحوم رافع الناصري.
سوريو عمّان ليسوا من هذا النوع. إنهم، غالباً، عمال أو مهنيون يُقبِلون على أي عمل يحصلون عليه، وبأي أجر كذلك، تجدهم في المطاعم ومحال بيع الملابس وأسواق التحف والفضيات، في فنادق الدرجة الثالثة في وسط البلد. أتحدث، بالطبع، عن الذين فضلوا أن يعيلوا أنفسهم بعيداً عن مخيمات اللجوء التي لا يستطيعون، إن سُجّلوا فيها، أن يبرحوها إلا بإذن. لا أعرف، الآن، نوع الأثر الذي ستتركه موجة اللجوء السوري الكبيرة على الأردن (تتجاوز مليوناً ونصف المليون) سوى ما هو ملحوظ من ضغط شديد على البنى التحتية والمرافق العامة، والتذمر بين أوساط الأردنيين الذين بالكاد يتمكنون من تدبير أمور معيشهم اليومي، في ظل وضع اقتصادي شبه متدهور في البلاد، وما رافق النزوح السوري الكبير من ارتفاع في أسعار بعض السلع، وصاروخي في أجرة المساكن.
ولكن، من الواضح أن هناك أثراً اجتماعياً بدأت آثاره تلوح بسرعة، وربما بفداحة، في محافظات الأردن الشمالية، يتمثّل في تفضيل شريحةٍ لا بأس بها من طالبي الزواج (ومجدِّدي الفراش!) في تلك المناطق، السوريات على الأردنيات.
السبب الأبرز في خسارة الفتيات الأردنيات هذه "المنافسة" يتعلق، كما فهمت من بعض أقاربي في مدينة المفرق، التي استقرت فيها الموجة الأعظم من اللجوء السوري، بـ "انخفاض" مهور السوريات في مقابل مهور بنات البلد.
لا يزال الزواج في بلادنا سوقاً.
و"الأسعار" هي محركُ هذه "السوق"!

اقرأ المزيد

مقالات

عرض المزيد >
● مقالات رأي
٢٤ يناير ٢٠٢٥
دور الإعلام في محاربة الإفلات من العقاب في سوريا
فضل عبد الغني - مؤسس ومدير الشبكة السورية لحقوق الإنسان
● مقالات رأي
١٦ يناير ٢٠٢٥
من "الجـ ـولاني" إلى "الشرع" .. تحوّلاتٌ كثيرة وقائدٌ واحد
أحمد أبازيد كاتب سوري
● مقالات رأي
٩ يناير ٢٠٢٥
في معركة الكلمة والهوية ... فكرة "الناشط الإعلامي الثوري" في مواجهة "المــكوعيـن"
Ahmed Elreslan (أحمد نور)
● مقالات رأي
٨ يناير ٢٠٢٥
عن «الشرعية» في مرحلة التحول السوري إعادة تشكيل السلطة في مرحلة ما بعد الأسد
مقال بقلم: نور الخطيب
● مقالات رأي
٨ ديسمبر ٢٠٢٤
لم يكن حلماً بل هدفاً راسخاً .. ثورتنا مستمرة لصون مكتسباتها وبناء سوريا الحرة
Ahmed Elreslan  (أحمد نور)
● مقالات رأي
٦ ديسمبر ٢٠٢٤
حتى لاتضيع مكاسب ثورتنا ... رسالتي إلى أحرار سوريا عامة 
Ahmed Elreslan  (أحمد نور)
● مقالات رأي
١٣ سبتمبر ٢٠٢٤
"إدلب الخضراء"... "ثورة لكل السوريين" بكل أطيافهم لا مشاريع "أحمد زيدان" الإقصائية
ولاء زيدان