نقطتان كنت أفكر فيهما منذ بداية الثورة السورية، احتمالات الموقف الأميركي، وحالة القوى السياسية السورية. كنت أعتبرهما المفصليتين في تقرير مصير الوضع في سورية، إما من خلال فاعلية إحداهما أو عبر فاعليتهما معًا. فقد كنت مقتنعًا بأن قدرة الثورة على تشكيل حالة مركزية متماسكة ضعيفة بحكم عوامل عديدة، وأصل في الحصيلة إلى شيء من التشاؤم، بعد تحليل النقطتين.
في الأولى، كنت أرى أنه لا حاجة إلى أن نتعب أذهاننا كثيرًا لاكتشاف أن أميركا ليست في وارد التدخل لمصلحة الثورة السورية. وبالطبع، ليس المقصود بالتدخل الهجوم العسكري المباشر، فهذه الدولة الكبرى يمكنها أن تقوم بأدوار مختلفة، إن أرادت، لمصلحة أي تغيير ترى أنه يتوافق مع مصالحها السياسية والاقتصادية. أما الأسباب الكامنة وراء ذلك فهي: رغبة الولايات المتحدة في ذهاب الأمور في سورية نحو المجهول، استمرار تحطيم الدولة السورية على يدي السلطة الحاكمة، النظام السياسي في سورية براغماتي ويمكن التفاهم معه، ولم يشكل حالة إرباك طوال أربعة عقود لإسرائيل؛ الإدارة الأميركية الحالية جاءت ببرنامج لسحب الجيش الأميركي من العراق وأفغانستان، وليست في وارد توريط القوات الأميركية في حرب جديدة في المنطقة، سورية تشبه العراق في تنوعها الإثني والديني، وستكون مربكة، عدم وجود مصالح أميركية اقتصادية مباشرة في سورية، وعدم وجود نقاط ارتكاز أميركية في المجتمع السوري، ولدى القوى السياسية والاقتصادية، سورية محاطة بدول هشة كلبنان والأردن، وأي تغيير في سورية يعني فوضى محيطة، يمكن أن تؤثر على جيرانها، وعلى إسرائيل.
للأسف، كان هناك اتجاهان مضللان في ما يسمى "المعارضة السورية"، سيطرا على الخطاب الإعلامي في تنافس مقيت، على الرغم من قراءتهما السياسية الخاطئة معًا، فكلاهما اعتقدا أن أميركا ستتدخل، عاجلًا أم آجلًا، وانتحلا خطابًا موازيًا لهذا الاعتقاد، إما لجهة رفض التدخل أو المطالبة به. والاتجاهان متساويان في الخفة السياسية، أحدهما شعبوي والآخر أيديولوجي، فيما كان النظام السوري متيقنًا ومطمئنًا من عدم نية أميركا في التدخل، وهذا هو السبب الرئيسي لإمعانه في العنف والجرائم ضد الشعب السوري، قبل الدعم الروسي الإيراني والميليشيات الداعمة الأخرى. فالسلوك الأميركي كان، دائمًا، بوصلة النظام السوري في سلوكه وممارساته، فمن دون قرار أميركي بإسقاطه، ستكون جميع تحركات ما يسمى "مجموعة دول أصدقاء الشعب السوري" لا قيمة لها في المآل.
"
كان النظام السوري متيقنًا ومطمئنًا من عدم نية أميركا في التدخل، وهذا هو السبب الرئيسي لإمعانه في العنف والجرائم ضد الشعب السوري
"
أما عن بنية المعارضة السورية، فقد كانت قواها مهشمة لحظة انطلاق الثورة، داخل سورية وخارجها. أما تلك الموجودة في الداخل، فتتكون من قوى هشة، منقطعة عن ممارسة السياسة منذ زمن بعيد، وليس لها امتداد في المجتمع السوري، ومنقسمة على نفسها لاعتبارات شخصية أكثر منها سياسية، ولا يوجد حوار حقيقي بينها، وتتمترس خلف شعارات بالية، بعض قواها فقير الطموح ومهتم باعتراف النظام بوطنيته، وتأقلم مع العمل في إطار معارضة النظام القائم فحسب. قوام هذه المعارضة قوى أيديولوجية، ناصرية وقومية ويسارية، تخثرت عند مرحلة معينة، وتقارب الواقع من خلال ما ورثته من شعارات، وليس عبر التعاطي مع معطياته وحقائقه.
خلال الثورة التي اجتاحت كل شيء، لم يبق من هذه المعارضة سوى شخصيات محدودة العدد، تتمترس خلف "ماركة الاسم" الذي صنعه الإعلام، ولم تصنعه الفاعلية، وقد سترت عوراتها السياسية بمصطلح "المعارضة الداخلية"، الذي كانت تكرره في كل مناسبة، وكأن هذا الأمر بحد ذاته يمنحها الحصانة والأولوية، متجاهلة أن القضية الأساسية هي الثورة وليست المعارضة، وأن مصطلح المعارضة بذاته لم تبق له أية قيمة بعد انطلاق الثورة. تدريجيًا، تحولت هذه المعارضة إلى عصبة مغلقة، بحكم إحساسها بالمظلومية إزاء المعارضة الموجودة في الخارج، ومارست نمطًا مضحكًا من التفكير "تفكير الجكارة"، ظهر في مواقفها السياسية الغريبة إزاء الحوادث، والبعض القليل الذي لا يزال مرتبطًا بها، له أسبابه الشخصية والذاتية، وليس السياسية.
انتحلت هذه المعارضة خطابًا باهتًا، ومتعاليًا على الناس، ويفترض الهزيمة سلفًا أمام النظام القائم، ولم تكن مطالبها وطموحاتها في الجوهر تتعدى ما هو مطروح من فتات من النظام، على الرغم من اضطرارها، في بعض اللحظات، إلى استخدام مواقف جذرية كلاميًا مع بعض التلاعب في المفردات، بما يبقيها في وضع آمن، على الرغم من أن النظام لا يكترث بخطابها. وتعاملت بانتهازية فاضحة مع إدراكها حاجة النظام وأصدقائه المؤقتة إليها في محاربة الذين يدعون إلى إسقاطه في الخارج، واندرجت في علاقات سياسية مع أغلب أصدقاء النظام السوري، معتقدة بسذاجة أنه يمكن لها التأثير في سياساتهم.
أما المعارضة الموجودة في الخارج، فقد انتحلت خطابًا غوغائيًا، تكمن أسبابه، أساسًا، في الجهل والفقر المعرفي وعدم الدراية السياسية، فضلًا عن محرك "الحقد" على النظام، من دون الانتباه إلى المقولة الصائبة "الحقد موجه سيىء في السياسة". وظهرت السياسة ضامرة في خطابها، الذي اقتصر على ترديد مقولات الشارع، في حالة أقرب ما تكون إلى "البلاهة السياسية"، إذ قامت بأدوارها من خلال اللعب على العواطف والصوت المرتفع والجعجعة، مستخدمة ذلك بخبث لاستبعاد الآخرين، والاستئثار بصفة تمثيل الثورة. كما أسبغت هذه المعارضة سمة "الإسلاموية" على الحراك الشعبي، وهي تعلم أن ذلك لا يتوافق مع طبيعة المجتمع السوري، واندرجت مواقفها وممارساتها في سياساتٍ خليجية، قطرية وسعودية، وظهر أنها فاقدة الإرادة والاستقلالية، فضلًا عن انغماس بعض شخصياتها في الفساد المالي.
لم تكن أي من تلك التشكيلات السياسية، منذ البداية وحتى اليوم، صادقة فيما يخص "وحدة المعارضة"، بما يشكل بوصلة سياسية رزينة للحراك الشعبي، وعدم إفساح المجال للنظام للعب على خلافات المعارضة، وتطمين الشارع السوري بإمكانية وجود كتلة سياسية قادرة على إدارة فترة انتقالية، وإيصال رسالة إلى العالم بوجود بديل مناسب للنظام مرحليًا ومؤقتاً. وظهر ذلك في لهاث الجميع وراء الإعلام، الذي لعب بالمعارضتين، داخل سورية وخارجها، وفي حملات التشهير الدائمة على مستوى الكتل السياسية والأفراد، وفي ظاهرة الأفراد الذين وضعوا أنفسهم فوق الجماعة والبلد والثورة، فقد ظهر في لحظات عدة، أن التنازع على المواقع القيادية ونسب التمثيل هو جوهر الخلاف بين جهات المعارضة قاطبة، مما يدل على قصر النفس وعدم الثقة بالذات والجهل بمسارات التاريخ، الأمر الذي منعها من إدراك أن التشكيلات السياسية كافة مؤقتة، ستتعرض لعمليات هدم وبناء متوالية، وأن ملامح البشر والقوى الفاعلة لن تتشكل إلا في ظل استقرار الوضع في سورية، وأن المستقبل سيأتي، بالتأكيد، بتشكيلات مغايرة. والأهم أنه، خلال الثورة، ظهرت لا مبدئية جميع هذه التشكيلات. واليوم، أصبح الأمر كله خارج نطاق الإقناع الفكري السياسي، فلكثيرين مصالح شخصية، أو فئوية، أو حزبية، يدافعون عنها ويتمترسون خلفها.
كنت، ولا أزال، مقتنعًا بأن هذه التشكيلات تحولت إلى عقبة حقيقية في وجه المستقبل السوري، وأنها، بوضوح، تستحق أن ترمى في المزبلة، نهجًا وسلوكًا وأداء ومواقف، فقد كان نتاجها في الداخل والخارج، بالمقياس العلمي، ما دون الصفر بدرجات كثيرة. أما "القوى السياسية" الجديدة، التي تشكلت مع الثورة، فهي ليست أكثر من فقاعاتٍ بنيت على عجل، ولا تحتوي سوى على حفنة من الأفراد، ولا يبدو عليها التماسك والقابلية للاستمرار.
هنا، يتبادر إلى الذهن مباشرة السؤال: ما الحل؟ هل نأتي بقوى وشخصيات سياسية من المريخ؟ أعتقد، في اللحظة الراهنة، أن الوضع السوري رهينة الموقف الأميركي فحسب، ولا تأثير للتراكيب (أو بالأحرى الكراكيب) المعارضة الموجودة، التي سيكون مصيرها الانحلال والاضمحلال، عاجلًا أم آجلًا. لكن، إذا أردنا أن يكون لسورية والسوريين مستقبل جديد كما نشتهي، فعلينا إدارة الظهر لهذه "الكراكيب"، والذهاب نحو بناء قوى سياسية جديدة أساسها الفكر، والسياسة المبنية على عمق ثقافي، والإدارة والتنظيم اللذان يشكلان عصب المؤسسات الحديثة الناجحة، فهذا وحده ما يمكن أن يفتح الباب لنكون مؤثرين نسبيًا فيما يخطط لسورية.
لم يخطر ببال أحد من الثوار الشباب في سوريا، عندما اندفعوا إلى المواجهة مع النظام الاستبدادي المقيم في بلادهم، ومنذ أكثر من أربعين عاماً، إن شعلة غضب في قرية من جنوبي دمشق سوف تكشف أن سوريا كلها هي أرض البراكين النائمة، كأنها عاشت حياتها بانتظار من يُوقظ جحيمها في صدْفة تاريخية، وإنْ كانت في أصلها حادثة شبه عادية.. مهما يقال نظرياً أن الثورات الحاسمة يسبقها إعداد منظّم، حتى عندما تظهر بوادرها الأولى بطريقة فُجائية، وتنتقل سريعاً إلى ساحاتها بسرعة تسابق أحياناً الضالعين في إحداثها أنفسهم، فإنها لا تلبث أن يلوح لها بعض الانتظام في جريانها، الأمر الذي يخوّل بعض المراقبين الحاليين أن يفترضوا تخطيطاً ماوراءها. فاتهام الثورات بأنها صنائع لغير أسمائها المعروفة أمر تواجهه حتى أرقى ثورات العصر الرأسمالي الحالي. ذلك أن الإقرار بأصول وأسباب تخص الثورة من داخل بنيانها، قد يتجنبه أعداؤها، ما أمكنهم من اتباع أساليب الاتهامات السوقية بالجهات أو المخططات الأجنبية أو الإقليمية.
بالفعل، فإن الثورة السورية وقعت منذ أن بانت ملامحها الجذرية، أسيرةً سريعة وحتى سهلة. بين أحابيل القوى الخارجية المضادة لكل تغيير عربي مستقل. فهذه القوى دأبت على فرض رقابتها السياسية والفكرية الدائمة على تطوراتِ المرحلة الإستقلالية بعد أن اضطرت أن تجلو بجيوش احتلالها عن كامل الجغرافية العربية. فالبديل عن السيادة الغربية المباشرة، بالحديد والنار على ما كان يسمّى بمستعمرات الشرق العربي، كان في اختراع وتنويع طرق الهيمنة الشفافة، والتدخلات غير المباشرة، وتوظيف العملاء والأصدقاء في خدمة مشاريع تلك الهيمنة، وصولاً إلى قرارات الحروب المادية المعلنة على رؤوس الدول، وهي في أصلها كانت حروب الحضارة الغربية ضد منطلقات حضارية عربية جديدة، صاعدة.
ما حدث للثورات الربيعية هو أنها كسرت لأول مرة شيئاً من سلطات قانون هذه الرقابة المطلقة على إرادة شعوب المنطقة، لا يعني هذا التحوّل أن الأمة باتت حرة في قرار التمرد على المظالم الكلية المسيطرة من عصور على الحياة العامة في بلادها. لكن هو «الواقع الفاسد» نفسه الذي يكبّل الأمة ربما أمسى موشكاً على تفكك بعض مفاصله المتيبسة، إذا كان أُتيح لبعض ثورات الربيع أن تنطلق من تلقاء ذاتها _ وهذا باعتراف الغرب أحياناً _ لكن مصائرها القادمة بعد انطلاقها ستتعرض لمختلف دواخل التحريف الذاتي كما الخارجي. ونحن الآن نعيش هذه المرحلة الثانية مابعد المرحلة الأولى من فُجائيات الثورات في أقطار متعددة، إنها الحقبة المعرضة خاصة لأخبث معارك الاستيعاب. فالتعقيد الدموي الهائل الذي تتساقط فيه جماهير الحراك الثوري ناجم أساساً عن كون كل من نوعي التآمر المنظم والآخر العبثي يتخاطفان دفة التوجيه في هذه المراكب الثورية المتحدية لبحار العواصف من حولها. فالثورة لن تُترك لذاتها. وهذا شعار عملي، وتمارسه كل القوى المضادة للتغيير العام. لن تخسر الثورة رونق أهدافها الوطنية، لن يغيب وجهها الشاب الصبوح وراء الأقنعة السوداء، لن يتلفّظ بعض ألسنتها بالتعاويذ والحشرجات القروسطية، لن ترتكب جرائم السفاحين الكبار بأيدي البعض من هؤلاء المنحرفين المتسابقين في التيارات الجرمية الكبرى. كل هذا التشويه غير العفوي يهدف إلى تعرية الثورة من هيبتها المعنوية لدى جماهيرها الخاضعة لهذه الممارسات الفوضوية التي كانت الثورة تستهدفها لدى أجهزة القمع السلطوية، تكاد تنسحب ملامحها إلى وجوه المناضلين ضدها. وفي هذا المنعطف الشائن سوف تضيع الفروقات الحدية بين أهل الفكر الوطني وأركان القتلة وأدواتهم التشبيحية. ضياع الفواصل الحاسمة هذه في الميادين الحركية بين الأضداد، يصب فوائده الكارثية في الجانب السلطوي. فماذا يتبقى للثوار من مزايا إن افتقدت جماهيرهم حس الاختلاف الجذري عن رجال النظام، بين دعاة السلام والمساواة والمحبة، وبين عملاء العنف والفساد والقمع الوحشي.
السنوات الأربع من تاريخ هذا التحول الشمولي تحت اسم الربيع العربي أحدثت صدمات مروعة للأخلاق الاجتماعية السائدة، ربما لم تأت على أمثالها أية نكبات عظمى ألمّت بشعوب هذه الأمة البائسة طيلة قرون سحيقة. وهذه الصدمات لا يمكن ردها كأسباب وظروف إلى فريق معين من بين قبائل الصراع، دون التنبه دائماً إلى مؤثرات الأفرقاء الآخرين، سواء كانوا ظاهريين في المشهد أم متوارين في هوامشه. وهنا يكمن التفسير المتواتر حول سر الأحكام الجماعية المتسرعة دائماً في ادانة الكل بجريمة البعض كالقول الذي تردده أوساط غربية حاملة لعناوين علمية، في إدانة مجتمعات الثورات _ أو المقتلات بأنها مرتدة إلى طبيعتها الوحشية الأولية. هناك في دوائر هذه الأوساط من يعزو مختلف (الشرور) إلى أمثال هذه البيئات الإبتدائية المتخيلة، حتى كأنما فقد الجمهور العربي تعاطفه الآني مع انطلاقات الشباب العربي الغاضب، ما أن تحولت الوقائع البطولية الأولى للغضب الشعبي إلى أفخاخ رهيبة لابتعاث أبشع الميول التدميرية للبشرية الهمجية، وأكثر من هذا فقد اختلطت الأمور أخيراً عند أرقى المراقبين العلميين نزاهة في معظم مراكز الأبحاث والإعلام الدولي، مما زاد في صعوبة التمييز بين هذه النخب، هل هي باحثة حقاً عن أسباب هذا العصر الكارثي الدموي أم أن بعضها لا يزال طامحاً في تعميم ظواهره الرهيبة على مستقبل الإنسانية المغدورة كلها.
فالأخطار الأدهى التي علينا أن نتوقعها مع مشاهد المنافسة الحيوانية بين مجانين العقائد الدينية المنحرفة، صار لها الوزن الأكبر بالنسبة إلى حجوم الشرور التقليدية التي فجرت أخيراً عصر التمرد الشبابي ضدها. أيهما هو الأفعل في مدى السيطرة اليومية المباشرة في ميادين الممارسات القتالية، هل هو حب الحرية والعدالة حقاً، أم كراهيتهما القاتلة. ومن هم أعضاء المعسكر الرافع لألوية الحقيقة في بحران الشعارات المتحالفة مع ألفاظها القدسية، من غير جدارة أو فهم صحيح لمعانيها ومقاصدها الدنيوية قبل الدينية. فلا شك أن من اصْطَلح عليهم بأوصاف الأوساط الحاضنة، وهي مجاميع عربية وإسلامية كانت بدون حدود تقريباً، تلك التي شكلت للثورات رصيدها المعنوي الذي استقت منه قوتها وصمودها،هذه الأوساط لم تعد على الأقل واثقة بأبوتها الطبيعية لحقائق الثورة، لم تعد ترى في تضحيات الحاضر ما يفترض حتمية ما سوف تحقق دولة العدالة العربية المنشودة يوماً ما. ذلك أن أسوأ ما يضر بالثورة هو استنقاعها في التربة المضادة لها.. عندئذٍ لن تكون دائماً في منجاة عن عوامل التخريبيين الذاتي والخارجي في آن معاً.
ليس في الحال الراهنة ما يوحي بانغلاق الميادين التي تعجّ بنماذج الأوبئة تحت تسميات الجهاديات وأضرابها. فلن تسمح لبذور الخير الوليدة المبعثرة أن تنمو نموها المأمول، وهي جاثمة جميعها على صدورها، لتمر فوقها جحافل سُرّاق الأهداف الإنسانية محتفلةً بتأجيل عصر الإنسان، والعربي منه تحديداً.. إلى ما بعد أزمان الحضارات الماضية.. « والآتية بعدها.. لم لا!
تشكّل "قواعد اللعبة" إحد المفاهيم المستخدمة في عالم السياسة والاستراتيجيا. ويعبّر المفهوم عن قواعد تحكم الصراع بين طرفين أو أكثر، بحيث يبقى الصراع مضبوطاً، بخلاف الصراعات التي تحمل الطابع "الصفري" (إنهاء أحد الطرفين للآخر تماماً).
وتخضع بعض الصراعات لـ "قواعد لعبة" نتيجة توازنات في القوى، مع الحاجة إلى استمرار الصراع، أو العجز عن الوصول إلى تسوية مُرضية لطرفيه. وقد تخضع صراعات أخرى لـ "قواعد لعبة" نتيجة حاجة أحد طرفي الصراع لاستمرار الآخر، رغم قدرة الأول على هزيمة الآخر تماماً، ويكون الصراع في هذه الحالة ستاراً لتبادل مصالح غير معلن.
شهدت الأدبيات السياسية والإعلامية العبرية الكثير من الكتابات حول قواعد اللعبة التي تحكم علاقة إسرائيل بكل من سوريا وحزب الله، خلال العقد الماضي تحديداً، وذلك على وقع التطورات التي شهدها لبنان، وجنوبه، منذ مطلع ذلك العقد.
واليوم، يمكن إسقاط هذا المفهوم على الحالة السياسية – الميدانية السورية، بامتياز. إذ أن هناك "قواعد لعبة" تحكم الصراعات العديدة المُعتملة في المشهد السوري. لكن الفرق في الحالة السورية الراهنة، هو أنها تشهد تغيراً سريعاً ومستمراً لـ "قواعد اللعبة"، بصورة قد يصعب على المراقب إحصاؤها، فيما في حالة الصراع بين إسرائيل وسوريا وحزب الله في العقد الماضي، كانت "قواعد اللعبة" تتغير ببطء، كل بضع سنوات.
الفرق الثاني بين الحالتين، أن الأولى (الحالة السورية الراهنة)، تتعدد فيها الأطراف بصورة معقدة نسبياً، أما في الثانية (الصراع بين إسرائيل وسوريا وحزب الله) فكانت الأطراف أكثر وضوحاً، وهي الثلاثة المذكورة بين القوسين الأخيرين.
في الحالة السورية الراهنة، نجد أن "قواعد اللعبة" بين نظام الأسد وبين إسرائيل هي الأكثر استقراراً، مقارنة بتلك التي تربط نظام الأسد بأطراف محلية أخرى. ويبدو أن أبرز القواعد الحاكمة للصراع بين الطرفين، أن لا يقوم نظام الأسد بتزويد حليفه، حزب الله، بأية أسلحة نوعية تغير من المعادلات العسكرية الحاكمة للتوازن على جبهة جنوب لبنان، وهي قاعدة أرستها إسرائيل بالقوة، حينما استهدفت مواقع وقوافل عسكرية داخل الأراضي السورية خلال العام الماضي. القاعدة الثانية على ما يبدو، ألا تعمل إسرائيل، على تقويض حكم الأسد، وأن تقف موقف "الحياد"، كما يظهر للعيان، رغم بعض القراءات التي ترجح دور إسرائيل في الضغط على الأمريكيين لعدم استهداف الأسد.
قد تكون "قواعد اللعبة" الحاكمة للصراع بين تنظيم الدولة الإسلامية، ونظام الأسد، هي الأكثر تغيراً، خاصةً في الأشهر الأخيرة، رغم أنها شهدت استقراراً أثار الكثير من الشكوك خلال أكثر من سنة منذ ظهور التنظيم وانتشاره. وكانت "قواعد اللعبة" بين الطرفين، قبل حزيران الماضي، تنص على عدم استهداف كل طرف للآخر، في الوقت الذي تفرغ فيه الطرفان للإجهاز على فصائل المعارضة السورية المختلفة.
لكن منذ "إعلان الخلافة" وانتشار التنظيم السريع في العراق وشمال شرق سوريا، وتنامي الإجماع الإقليمي – الدولي على خطورة تنظيم الدولة، وضرورة التصدي له، تغيرت "قواعد اللعبة" بين الطرفين. ويبدو للعيان أن تنظيم الدولة كان البادئ في تغيير تلك القواعد، حينما استهدف لأول مرة حقل الشاعر للغاز شرق حمص، في تموز الماضي، ثم تلى ذلك استهداف القواعد العسكرية المتبقية للنظام في الرقة وفي دير الزور.
لكن رغم ما سبق، ما تزال هناك الكثير من المؤشرات التي تؤكد وجود "قواعد" تحكم الصراع بين التنظيم ونظام الأسد. خاصة على صعيد إدارة ثروتي النفط والغاز. لكن التنظيم، على ما يبدو، جادٌ في تغيير تلك القواعد بسرعة، وباستمرار، بغية جذب كفة الصراع لصالحه، وهو ما يتبدى في اندفاعه مرة أخرى نحو حقل الشاعر شرق حمص.
إحدى "قواعد اللعبة" تلك التي استجدت أخيراً، حينما حيّدت ضربات التحالف الدولي، بقيادة واشنطن، جبهة النُصرة من قائمة المُستهدفين. فمنذ ضربات اليوم الأول الذي استهدف "النُصرة" إلى جانب "داعش"، لم تكرر واشنطن استهداف النُصرة مرة أخرى. ويبدو أن السرّ في ذلك يكمن في سيطرة جبهة النُصرة على معظم الشريط الحدودي مع إسرائيل، وهو ما يفسر استماتة الجبهة في تحقيق هذا الهدف. فأمن إسرائيل، على ما يبدو، كان على سبيل المقايضة، مقابل تحييد النُصرة عن ضربات التحالف.
كذلك يبدو أن هناك "قواعد للعبة" تحكم الصراع بين "داعش" و"النُصرة"، فقد تصارع التنظيمان بدموية في شمال وشرق سوريا، لكنهما يتحالفان اليوم في منطقة القلمون تحديداً. وتتحدث بعض السيناريوهات أن هذا التحالف قد يتعزز باتجاه استهداف دمشق.
نظرية "قواعد اللعبة" تستطيع أن تفسر الكثير من المعطيات التي تُوحي بوجود تنسيق غير معلن بين بعض أطراف الصراع الميداني داخل سوريا، وبين بعضها وبين أطراف إقليمية ودولية مناوئة لها علناً. لكن عدم ثبات "قواعد اللعبة" بين مختلف الأطراف، وتغيرها المستمر، بسبب تطورات الحرب الدائرة على التراب السوري، قد تجعل هذه النظرية غير قادرة على تقديم سيناريوهات مستقبلية مُرجحة، بقدر ما تقدم تفسيرات لما يحدث، آنياً، من اشتباك في مكان، وتحالف بين ذات الطرفين المُتشابكين، في مكان آخر، من سوريا.
حتى الآن لم تُفهم على وجه الدقة حقيقة "داعش"، هذا بعد مرور عام وأكثر على ظهوره، وبضعة أشهر على اجتياحه الموصل، وتمدده في العراق وسورية. فما يحيط به من مبالغات، يحجبه عن الفهم، مع أن ما يفعله كاف ليعطي فكرة وافية عنه من خلال ممارساته القاسية في الدعوة إلى الخضوع لدولة الخلافة. المشاهد الوحشية تبدو بلا أسباب مباشرة، وكأن القتل للقتل، إلا إذا اكتفينا بأهدافه بعيدة المدى في تثبيت أركان الدولة الإسلامية. فالأخبار غالباً تقتصر على ما فعله "داعش" من ذبح وإعدامات وقطع رؤوس، أحياناً بالمئات وأحياناً أخرى بالعشرات، حسب المتوافر من الضحايا، فالقتل لابد منه، بحيث يبدو "داعش" كائنا غرائبيا ينتمي إلى فصيلة مصاصي الدماء، أو وحوش الغابات، والقتلة العشوائيين. هذه الصورة يروجونها هم عن أنفسهم ايضاً في الأفلام المصورة، الهدف بث أكبر قدر من الرعب، ويعمل الاعلام العربي والغربي على تضخيمها بتكرار عرضها.
يطالب الغرب المسلمين في انحاء العالم بإدانة أي حادثة إجرامية إن كان الفاعل مسلماً، الصمت عنها يعني أنهم متواطئون معها، أو تروق لهم، فلا يكفي أن تعلن بعض الجهات الرسمية استنكارها، وهو الحاصل دائماً، وإنما يجب أن يعلن العالمين الإسلامي والعربي بما يضمه من مؤسسات وهيئات معنية على طول العالم وعرضه استنكاره على مدار الساعة، بالتبرؤ منها، أي أن تقوم هيستريا جماعية كي يصدق العالم الرفض القاطع لهذا العمل الذي يعتبر جهادياً، وكثيرا ما وضعت في دائرة الشبهات جهات لم تقم بالاستنكار الواجب.
لكن ما حصة الغرب من الجهاد، ألم يسهم في هذه الظاهرة، خاصة وأن الاعلام الغربي بات يركز في الآونة الأخيرة، على المتحولين في مجتمعاتهم إلى الإسلام، الذين ولدوا وتربوا في عائلات غير مسلمة، ومروا في مراهقتهم بالظروف المعتادة للشبان الغربيين، وربما قادتهم حياة الليل المضطربة إلى الإدمان على الكحول أو المخدرات، وسوابق في اللصوصية، وتجاوزات مترافقة بالعنف... ثم الهداية واعتناقهم للإسلام، والسفر إلى دولة الخلافة؟ ينظر إليهم الغرب على أنهم أصيبوا بعدوى الجهاد، مرضهم مستعص، وغير قابلين للشفاء، ولا عودة إلى بلدان الغرب منعاً لانتشار العدوى.
هذا في الوقت الذي طرأت فيه على الجهاد متغيرات في تركيبته، بسبب الهجرة إليه، فأصبح يضم تشكيلة واسعة من الشبان الجامعيين، بعضهم من ذوي الشهادات العالية، بتخصصات مختلفة؛ أطباء، مهندسون، أخصائيو كومبيوتر... وفي مثال البروفيسور حسن كونكاتا السفير الياباني السابق، والمتحول منذ عقود إلى الإسلام، وانضمامه إلى "داعش" بالذات، ما يحير العقل، ترى هل السبب أطروحته حول "النظرية السياسية عند ابن تيمية" في ثمانينات القرن الماضي، وجدت تعبيرها في هذا القرن في الدولة الإسلامية الناشئة؟
لا تقتصر الهجرة المعاكسة على الرجال، فقد تزايد التحاق شابات غربيات مسلمات بالجماعات الإسلامية المتطرفة، كمقاتلات أو زوجات مقاتلين. تقدر نسبتهن بنحو 10 في المائة من الغربيين المسلمين، وفاقت أعدادهن خلال العامين الأخيرين المائتين، منهن 60 بريطانية و70 فرنسية، معظمهن في العشرينيات من أعمارهن، نحو ربعهن غادرن مع أزواجهن أو أشقائهن أو آبائهن. مؤخرا دار جدل واسع في إسرائيل بشأن الفتاة الفرنسية اليهودية التي انضمت إلى "داعش"، وكانت خططت لشن هجوم إرهابي ضد والدها ووالدتها، حيث يملكان متجراً في وسط العاصمة الفرنسية باريس!!
يُشخص الغرب هجرة النسوة بمعاناتهن اضطرابات نفسية. بينما تقوم شبكات التواصل الاجتماعي الجهادي بجذبهن بتصوير الحياة في الدولة الاسلامية على أنها مثالية، بتقديم البديل الديني لعيشهن في الغرب، من خلال ترويج صور للجهاديات في أرديتهن السوداء، يطبخن، ويعتنين بأطفالهن، أو يتبادلن الأحاديث الدينية، إلى جوار صور لمقاتلات يتدربن على السلاح، أو يحملن البنادق الأوتوماتيكية، ويتزنرن بالأحزمة الناسفة.
"داعش" يعرف ما يريد سواء على أرض المعركة، أو في المطابخ والخدور، بقي على العالم أن يعرف ما الذي سيفعله إزاء ظاهرة تتنامى وتجد اقبالاً متزايداً، ويأتيها المتعاطفون معها من ارجاء العالم، ليس للسياحة، بل للقتال معها حتى الموت.
يعتقد الغرب أن "داعش" مشكلة الإسلام، على أساس أنه دين يعادي قيم الحداثة، بينما الهجرة المتزايدة إليه تعني أنه مشكلة العالم كله، وإن كان في العمق مشكلة إسلامية تعني العرب بالدرجة الأولى. طبعاً الحل إسلامي عربي، الا إذا تخلينا عنه للسياسات الغربية، ولهوليود التي بدأت في استثمار "داعش" سينمائياً، ففي صورته الحالية ما يلبي أمزجة رواد أفلام الحرب والرعب.
لماذا هذه العودة الى جنيف-1، للانطلاق في مسار الحل في سوريا؟ هل «الملعب» السوري مفتوح على الحل السياسي، حتى يكون جنيف-1 «خشبة» الخلاص؟. هل الأطراف والقوى المتقاتلة والمتواجهة مباشرة أو بالواسطة، مهيأة لبحث شروط الحل وتفاصيله؟
منذ أكثر من عامين تم «اختطاف الثورة في سوريا، وجرى إغراقها في صراعات سنّية سنّية، وسنّية شيعية أضعفت الجميع وأرهقتهم، لكن ليس بما فيه الكفاية حتى يجلسوا على طاولة جنيف-1 أو غيرها. ما زال كل طرف لديه «أجندته الخاصة» التي يعمل وفقها، ولا يبدو مستعداً لتقديم التنازلات الكافية الضرورية، لفتح مسار الحل.
أيضاً وهو من صلب المأساة السورية، لم يقدم أي طرف سواء كان داخلياً أو خارجياً، رؤيته لليوم التالي لسقوط بشار الأسد. لأول مرة في تاريخ الثورات لم يطرح برنامج سياسي تعمل الثورة وفقه. حتى ما يسمى «الدولة الاسلامية» بقيادة داعش، وايضاً النصرة لا يملكان تصوراً للدولة خارج «عمامة» الخلافة، ماذا عن الاقتصاد والتعليم (الا اذا كان تعليماً طلبانياً) يخرج النساء من عالم المعرفة، ويفرض على الرجال حفظ القرآن لا أكثر. ليس لدى «داعش» سوى «الساطور» والعودة 1400 سنة الى الوراء.
جنيف-1، في هذا الوقت بالذات ليس أكثر من قنبلة صوتية. «الحروب» القائمة داخل «البيت السني» من جهة، والسني الشيعي، والاقليمي بين تركيا وإيران، والدولي بين موسكو وواشنطن، ما زالت بحاجة الى الكثير من المعارك، حتى تقوم خطوط التماس الحقيقية تؤكد أن الجميع قد أنهكت قواه، تحت مراقبة «النسر» الأميركي.
معركة عين العرب كوباني تحولت الى «ستالينغراد» سورية. من الضروري أن تنقذ المدينة، وأن تكون بداية لهزيمة مشروع «داعش». لكن أيضاً لو جرى الاهتمام الدولي بحلب أو غيرها من المدن السورية كما «عين العرب»، كانت سوريا على طريق الخلاص. العقدة الكبيرة في المواقف هي مستقبل بشار الأسد. واشنطن لم تحسم موقفها، من بقاء الأسد أو اقتلاعه، لذلك الحرب مستمرة.
يهاجم الأسد تركيا لأنها خرقت السيادة السورية عندما سمحت «للبشمركة» بالمرور الى «كوباني»، وهو الذي فتح كل الحدود أمام التدخل الايراني - الروسي، وهو يردد يومياً بأنه يريد الحل السياسي في وقت يتابع يومياً القصف بالبراميل المتفجرة، على المدنيين. يريد الأسد حلاً سياسياً على مقاسه وطموحاته. الأساس في هذا الحل أن يبقى الى الأبد. الباقي تفاصيل. جنيف-1 وغيره لا يعنيه أبداً، الا شعارٌ يتملق به المجتمع الدولي ويُرضي الروسي.
الحل السياسي الأسدي هو الحل بالتجزئة. تفاصيل هذا الحل تتمحور حول عقد مصالحات مع الحارات والقرى والمدن إذا أمكن، كل واحدة منها على حدة. عند الأسد لا يجوز الجمع بين حارة وجارتها أو قرية وقرية. هكذا يسهل التفاهم مع «أمراء» هذه الحارات والقرى، عبر تقديم خدمات أمنية وحتى انسانية تجعل منهم مثالاً للأهالي ولقرى أخرى نجح هذا الحل في بعض المواقع لأن الناس تعبت من الحرب.
مثل هذا الحل يؤسس لتجزئة سوريا وعدم تلاحمها. كل «أمير» أو «شيخ» حارة لن يسلم السلطة لآخر فقط يسلمها للأسد. جنيف-1 أو غيره ضد هذه التجزئة. لكن طالما لم يحسم مسألة مستقبل الأسد فإن كل شيء معلق والحرب مستمرة.
يقال في دمشق إن الوضع العسكري أصبح مريحاً للأسد. ما يقلق الأسد والأسديين الوضع الاقتصادي الذي ينزلق بسرعة في الرمال المتحركة. الليرة السورية اليوم 180 ليرة لكل دولار، بعد أن كانت 50 ليرة في بداية الحرب. الخطير بالنسبة للأسد، أن طهران وموسكو بدأتا تتعبان من مده بالمساعدات المالية. مؤخراً طلب الكثير ولم يحصل إلا على القليل. انهيار سعر النفط من جهة والعقوبات الغربية، أمسكت اليد الايرانية الروسية. المسألة مرتبطة كلها بصمود إيران وموسكو. «عقدة أخيل» القاتلة في «جسد» الأسد، تتمدد وتأكل من صموده.
على الرغم من تواصل الهجمات الجوية لقوات التحالف بقيادة الولايات المتحدة ضد تنظيم "الدولة الإسلامية" في العراق وسوريا، إلا أن التقارير الأمريكية والأوروبية تشير إلى زيادة هائلة في عدد المقاتلين الأجانب في صفوق التنظيم، وهي تقدم أرقاما لأعدادهم تقترب من حدود الخرافة والأسطورة، فقد أوردت صحيفة الـ"واشنطن بوست" نقلا عن مسؤولين أميركيين قولهم إن هناك ما يقرب من 1000 مقاتل أجنبي يعبرون الحدود إلى سوريا والعراق؛ للانضمام لتنظيم الدولة الإسلامية في الشهر، على الرغم من الغارات الجوية والضربات المتكررة التي يتعرض لها التنظيم في العراق وسوريا، والجهود التي تقوم بها الدول الغربية والمحيطة بسوريا للحد من تدفق المقاتلين.
بعيدا عن حديث الخرافات والأساطير فإن أعداد المقاتلين العرب والأجانب تقع في حدود 13000 متطوّع من 81 دولة مُختلفة، نصيب الدول الأوروبية منهم حوالي 2000 مقاتل، وقد قتل منهم حوالي 1500 مقاتل، وهذه الأرقام هي للعرب والأجانب الذين يقاتلون في صفوف الفصائل السورية المسلحة عموما، وخصوصا الفصائل الإسلامية كجبهة النصرة وكتائب المهاجرين المستقلة، وفي صفوف تنظيم الدولة الإسلامية في العراق وسوريا، أما المقاتلين العرب والأجانب الذين يقاتلون إلى جانب نظام الأسد، من المليشيات الشيعية العراقية والمليشيات الشيعية المختلطة وحزب الله اللبناني فتقارب أعدادهم 15000 مقاتل.
مع ذلك فإن "جبهة" سوريا تعتبر الأكثر جذبا للمقاتلين العرب والأجانب تاريخيا، فالجبهة الأفغانية استقطبت بين أعوام 1979-1992، حوالي 5000 مقاتل عربي وأجنبي، أما الجبهة العراقية فقد استقطبت في الفترة بين 2003-2007، حوالي 4000 مقاتل من العرب.
ويمكن تفسير زيادة أعداد المقاتلين العرب والأجانب المتطوعين للقتال في سوريا بجملة من الأسباب ومن أهمها: سهولة السفر عن طريق تركيا كونها وجهة سياحية مفضلة، ووجود شبكات دعم وإسناد محلية لديها خبرات واسعة، سهولة التجنيد عبر وسائل التواصل الاجتماعي، الصدع والانقسام السني الشيعي والتعاطف والتلاحم الهوياتي الديني، وجاذبية الجهاد الشامي بحكم الجغرافية الخلابة والمدهشة، وعامل الجذب الديني ــ التاريخي وارتباط الشام بالملاحم والفتن آخر الزمان، وهاجس فكرة الخلافة الإسلامية ومقرها التاريخي في دمشق.
العامل الأبرز يتمثل في حالة الاستقطاب السني الشيعي على أساس الهوية الدينية، وحالة الصراع السياسية بين المشاريع المختلفة في المنطقة بين المحور الإيراني والمحور التركي والمحور العربي ــ الخليجي، إذ تكّون حلف شيعي مقاتل متحد من طهران حتى الضاحية الجنوبية بمشاركة وإشراف الحرس الثوري الإيراني وعبر أذرعه الضاربة من المليشيات الشيعية في العالم وخصوصا العراقية وحزب الله اللبناني بالقتال إلى جانب الأسد، على الجانب الآخر ساند المحور العربي الخليجي والتركي انتفاضة الشعب السوري، وذلك عن طريق دعم وإسناد المقاتلين السنة وإحياء الهوية السنية ومشاعر الانتماء والتلاحم، دون إشراف مباشر وقيادة معروفة، الأمر الذي استثمرته الجهادية العالمية بتأسيس جبهة جهادية واسعة أسفرت عن ولادة جهادية ثالثة بعد أفغانستان والعراق.
لم يكن أغلب المتطوعين العرب والأجانب الذين ذهبوا للقتال في سوريا يتوافرون على انتماءات سلفية جهادية صريحة، بل ذهب أكثرهم استجابة للدعاية والتعبئة والوعظ والفتاوى التي صدرت عن مؤسسات سياسية ودينية وإعلامية رسمية وشعبية عربية خليجية، فمنذ انطلاق الثورة السورية السلمية في منتصف آذار/ مارس 2011، التي تحولت بعد 7 أشهر إلى ثورة مسلحة عقب عمليات القمع والقتل الممنهج للنظام الفاشي الأسدي، صدرت مئات الفتاوى والتصريحات الداعية لنصرة الشعب السوري والجهاد ضد نظام الأسد، ويمكن رصد عشرات المؤتمرات ومئات الفتاوى الجهادية السنية مع بدء الحراك المسلح، فعلى سبيل المثال أعلن بيان "رابطة علماء المسلمين" خلال المؤتمر الذي عقد في يونيو/حزيران 2013 تحت عنوان "دور العلماء في نصرة سورية" عن "وجوب الجهاد لنصرة إخواننا في سوريا، بالنفس والمال والسلاح، وكل أنواع الجهاد والنصرة وما من شأنه إنقاذ الشعب السوري من قبضة النظام الطائفي".
أما هيئة كبار العلماء في السعودية فقد صرحت خلال الدورة الثامنة والسبعين في 26 حزيران/ يونيو 2013 بالقول: "إن الهيئة لتؤكد على وجوب اتخاذ خطوات عملية ضد الحزب الطائفي المقيت المسمى بـ"حزب الله" ومن يقف وراءه أو يشايعه على إجرامه تردعه من هذا العدوان، فهو حزب عميل لا يرقب في مؤمن إلاً ولا ذمة".
لقد ذهب أغلب المقاتلين العرب والأجانب للقتال في سوريا استجابة للفتاوى والتعبئة الإيديولوجية، بل وبدعم وإسناد مجموعة دول "أصدقاء سوريا"، وبسبب غياب أي خطة استراتيجية باستثناء لعبة توازن القوى التي بنيَت على أسس هوياتية مذهبية طائفية، استقطبت الجماعات الجهادية معظم المقاتلين الذين باتت جبهة النصرة وجهتهم المفضلة نظرا لسمعتها القتالية وخدماتها الإنسانية، إلا أن قرار الولايات المتحدة تصنيف الجماعة على أنها منظمة إرهابية في 11 كانون الأول/ ديسمبر 2012، واعتبارها امتدادا لـتنظيم "القاعدة في العراق"، دفعها بعد الخلاف مع الفرع العراقي إلى الانضمام إلى تنظيم القاعدة فعليا في 10 نيسان/ إبريل 2013، وعلى الرغم من اعتراض الفصائل السورية المقاتلة على التصنيف، وكذلك "المجلس الوطني السوري"، الذي كان ممثلاً سياسيا للثورة آنذاك، فضلا عن عموم الشعب السوري الذي خرج مندد بالقرار، إلا أن نتائج التصنيف كانت حاسمة في نهاية الأمر، ببدء تصاعد الحديث حول الإرهاب وتراجع الحديث عن إسقاط نظام الأسد.
ومن أبرز الفصائل الجهادية التي شكلها المقاتلون العرب والأجانب: جيش المجاهدين والأنصار، وهي مجموعة تشكلت في مارس/ آذار 2013 من وحدات جهادية عديدة، وتضم المئات من المقاتلين الأجانب، أغلبهم من شمال القوقاز، وفي كانون الثاني 2014 أعلن "تحالف المهاجرين والأنصار" الذي يضم إلى جانب جند الأقصى لواء الأمة ولواء الحق في إدلب ولواء عمر، ومن أبرز المجموعات الكتيبة الخضراء، وصقور العز، وشام الإسلام، ولواء الأمة، وتعتبر "جبهة أنصار الدين" التي أعلن عن تأسيسها في 25 تموز/ يوليو 2014 من أكبر الفصائل الجهادية للمقاتلين العرب والأجانب وتتكون من ائتلاف يضم أربعة فصائل وهي: حركة شام الإسلام، جيش المهاجرين و الأنصار، حركة فجر الشام الإسلامية، الكتيبة الخضراء.
في نهاية المطاف تحول المتطوعون للقتال في سوريا إلى "إرهابيين"، وباتوا يشكلون خطرا فعليا، فالسياسات الخاطئة دفعتهم في النهاية إلى تنظيم "الدولة الإسلامية" الأشد عنفا والأكثر تشددا، وأصبحوا الأهداف المفضلة لغارات قوات التحالف، وذريعة لسلسلة من الإجراءات القانونية المتعلقة بـالحرب على "الإرهاب"، إذ أزالت المملكة المتحدة المواد المخصصة للتجنيد عن شبكة الإنترنت، كما تنفق وزارة الخارجية والكومنولث المال على برنامج تواصل اجتماعي هدفه ردع المواطنين البريطانيين عن السفر إلى سوريا للمشاركة في القتال، وأطلقت فرنسا برنامجاً جديداً لمكافحة التطرف في تشرين الأول/ أكتوبر 2013، وأعلنت مؤخراً عن توسيع البرنامج ليضم عشرين إجراءً إضافياً، من بينها خطة لمنع القاصرين من مغادرة فرنسا دون موافقة أولياء أمورهم؛ وتشديد الرقابة على المواقع الإسلامية التي تجند المقاتلين، وحظرت ألمانيا ثلاث منظمات سلفية مختلفة لتوفيرها شبكات التجنيد للجماعات التي تقاتل في سوريا، ومنعت هولندا عدداً من المقاتلين المحددين من العودة إلى ديارهم واستخدمت أصفاد القدمين لتعقّب أولئك الذين عادوا من سوريا كما جرّمت استعدادات السفر إلى سوريا للمشاركة في الجهاد، وقامت بعض الدول كأستراليا بسحب جوازات السفر من المواطنين لمنعهم من الالتحاق بالقتال في سوريا أو من العودة إلى ديارهم وشرعت قوانين مثل سحب الجوازات أو منعهم من العودة، وهناك من اقترح محاكمتهم بتهمة الخيانة العظمى.
في العالم العربي كانت النتائج كارثية فالدول التي عملت على دعم وإسناد المتطوعين وأصدرت الفتاوى بوجوب الجهاد، اتخذت سلسلة من الإجراءات والقوانين الصارمة المتعلقة بــ "الإرهاب"، وبات الحديث عن الديمقراطية والإصلاح شيئا من الماضي، فقد وسعت حكومة الانقلاب العسكري في مصر مفهوم "الإرهاب" ليطال حركات الإسلام السياسي وممثله الأبرز جماعة "الإخوان المسلمون"، حيث قرر مجلس وزراء الانقلاب في مصر بتاريخ 25 كانون أول/ ديسمبر 2013 اعتبار جماعة الإخوان المسلمين جماعة إرهابية وتنظيمها تنظيمًا إرهابيًا. كما طالت تهمة الإرهاب في مصر حركة حماس، فقد أصدرت محكمة القاهرة للأمور المستعجلة يوم الثلاثاء 4 آذار/ مارس 2014 قرارا بالتحفظ على مقرات حركة حماس وحظر أنشطتها، استنادا إلى دعوى أن حركة حماس تحولت من حركة مقاومة إلى منظمة "إرهابية"، نظرا لارتباط الحركة بعلاقات مع جماعة الإخوان المسلمين في مصر.
كما أعادت دول عربية عديدة النظر في قوانين "الإرهاب" بحيث تضمنت عملية "الالتحاق أو حتى محاولة الالتحاق بأي جماعة مسلحة أو تنظيمات إرهابية أو تجنيد أو محاولة تجنيد أشخاص للالتحاق بها وتدريبهم لهذه الغاية سواء داخل هذه البلدان أو خارجها"، ففي السعودية صدر قانون جديد باسم "قانون الإرهاب" بتاريخ 31 كانون الثاني/ يناير 2014، ودخل حيز التنفيذ في 1 شباط/ فبراير 20.14، وهو نسخة مشددة عن مسودة قانون الإرهاب لعام 2011، وفي الأردن أحالت الحكومة الأردنية إلى مجلس النواب في 4 آذار/ مارس 2014 قانونا معدلا لقانون لمكافحة الإرهاب، أعادت فيه تعريف الإرهاب الوارد في القانون الأصلي رقم 55 لسنة 2006.
لقد ساهمت السياسات الدولية والإقليمية والوطنية في خلق حالة من رهاب المقاتلين العرب والأجانب، فأغلب المتطوعين للقتال في سوريا ذهبوا بناءً على دعم وإسناد حكوماتهم وفتاوى مؤسساتهم الدينية الرسمية بوجوب جهاد نظام الأسد "الطائفي الفاشي"، لكنها سرعان ما حولتهم إلى "إرهابيين" دون تمييز، وحالت دون إعادة إدماجهم، ودفعتهم إلى إحراق مراكبهم وتمزيق جوازات سفرهم والكفر بأوطانهم، فالمقاتلون العرب والأجانب أصبحوا اليوم رأس حربة تنظيم "الدولة الإسلامية"، وهم أشد بأسا وأكثر بطشا، ومع غياب الديمقراطية والإصلاح والحريات وشيوع الاستبداد والفساد والإصرار على المقاربات العسكرية والأمنية، فإن المنطقة توشك على الانفجار.
يمثل الواقع السوري، إحدى أهم الساحات التي شغلت العالم في السنوات الأربع الماضية في المستويات السياسية، وتبدو خلاصة الانشغالات اليوم كما يقدمها رجال السياسة والإعلام بمؤسساته وأجهزته في ثلاثة مستويات متراتبة؛ أولها المستوى الدولي، وثانيها المستوى الإقليمي، وثالثها المستوى المحلي، وفي كل واحد من المستويات تفاصيل وحيثيات، تبين بعضا من الاختلافات، التي تحمل تقاربات واختلافات في الطروحات حول الواقع السوري.
ويركز الانشغال الدولي حول سوريا بصورة أساسية على موضوع الحرب على الإرهاب، انطلاقا من تنامي نفوذ الجماعات الدينية المتطرفة ولا سيما تنظيم داعش وجبهة النصرة في بلاد الشام، وهو الأمر الذي ولد في مواجهته التحالف الدولي ضد الإرهاب، قبل أن يطلق الأخير هجماته الصاروخية والجوية على مواقع مختلفة في سوريا ولا سيما في شمال وشرق البلاد بهدف تدمير مقرات ومعسكرات «داعش» وأخواتها من النصرة وخلية خراسان. وفي غمرة الاهتمام بموضوع الحرب على الإرهاب، تتم مقاربات محدودة في علاقات الأطراف الإقليمية والسورية بموضوع الحرب على الإرهاب وخاصة فيما يتعلق بموقف نظام الأسد والمعارضة السورية في شقيها السياسي والعسكري.
وبالتوازي مع الموقف الدولي في النظر للوضع السوري، يبدو الموقف الإقليمي في انشغالاته بموضوع الحرب على الإرهاب وتنظيماته، وهذا موقف أكثرية الدول القريبة أو المحيطة بسوريا، وإن كان ثمة تمايزات، فإنها تكاد تكون قليلة في موقف قلة من الدول مثل إيران التي تربط الحرب على الإرهاب بضم نظام الأسد إلى تلك الحرب بخلاف جارتها تركيا، التي ترى أن الحرب على الإرهاب ينبغي أن تشمل نظام الأسد، فيما تبدي مصر تحفظا مكتوما على فكرة أن تؤدي الحرب على الإرهاب إلى إسقاط لنظام الأسد بالقوة من خلال تلك الحرب.
وبطبيعة الحال فإن الواقع السوري، يتضمن طيفا واسعا ومتناقضا في انشغالات أطرافه بما يجري في سوريا وبصددها من سياسات ومواقف. فنظام الأسد يركز من جهة على الحرب على الإرهاب وجماعاته وضرورة صيرورته شريكا في تلك الحرب كطريق لاستعادة شرعيته ومكانته الإقليمية والدولية، لكنه في الجهة الأخرى يركز في حربه الدموية على تغيير ميزان القوى على الأرض عبر هجمات في مختلف جبهات الصراع ضد قوى المعارضة العسكرية من الجنوب في درعا والقنيطرة إلى ريف دمشق، وجبهة حماه الغربية إلى حلب في الشمال محاولا استعادة سيطرته على المدينة عبر حصارها.
أما المعارضة السورية بالشقين السياسي والعسكري فمشغولة بالبحث عن مكانة لها في الحرب الدولية على الإرهاب وما يمكن أن تتمخض عنه من نتائج على القضية السورية والمعارضة سواء في شقها السياسي على نحو ما عليه حال الائتلاف الوطني السوري أو في الشق العسكري كما في حال التشكيلات العسكرية للمعارضة ومنها جبهة ثوار سوريا وحركة حزم وغيرها، دون أن يمنع ما تقدم انشغال تلك الأطراف بموضوعات ذات اهتمام خاص مرتبطة بالتطورات الراهنة، كما في انشغال الائتلاف الوطني بمشاكله الداخلية ومنها موضوع الصراعات بين كتله وفي تشكيل الحكومة السورية المؤقتة، ووحدة تنسيق الدعم، والأوضاع التنظيمية داخل الائتلاف، ومثل ذلك انشغالات التشكيلات العسكرية بالصراعات والتناحرات فيما بينها كما هو الصراع على تشكيل المجلس العسكري الأعلى الذي حله رئيس الائتلاف قبل أكثر من شهرين والمجلس العسكري الأعلى الذي تشكل بمبادرة من رئيس الحكومة السورية المؤقتة بمساعدة بعض الأطراف في الائتلاف الوطني السوري في محاولة للتأثير على نتائج اختيار رئيس الحكومة المؤقتة في اجتماعات الائتلاف الأخيرة.
أما انشغالات جماعات التطرف السوري وفي مقدمتها تنظيما «داعش» والنصرة، فإن انشغالها الأساسي مركز على تمددها وخاصة في المجال العسكري، حيث تواصل «داعش» حربها للسيطرة على عين العرب (كوباني) في حرب ضروس ضد القوات الكردية الـpyd وقوات الجيش الحر، التي انضمت إليها للدفاع عن المدينة الصغيرة، فيما تقوم قوات جبهة النصرة بالتمدد في مدينة إدلب ومحيطها في حرب مزدوجة ضد قوات النظام بمدينة إدلب من جهة وفي مواجهة قوات جبهة ثوار سوريا المصنفة في عداد الجيش الحر.الفصا
وسط انشغال الأطراف المختلفة الدولية والإقليمية والمحلية بالموضوع الرئيسي وهو الحرب على الإرهاب وتنظيماته، والانشغالات التفصيلية للأطراف السورية، يبدو أن الجميع يركزون على إدارة الأزمة السورية ومتابعتها بدل الذهاب إلى حل القضية السورية سواء في التوجه إلى حلها سياسيا أو عسكريا، أو توظيف الجهد العسكري للضغط على النظام من أجل الذهاب إلى حل سياسي، وهو الأمر الذي يضمن إذا تم تحقيقه تجاوز الأهم في الانشغالات الراهنة سواء كانت رئيسية أو تفصيلية، لأن من شأن التوجه إلى حل للقضية السورية، تحقيق سلام في سوريا وحولها أو التمهيد له، وتوفير بيئة أفضل للانتقال نحو نظام جديد، لا يكون فيه مكان للتطرف وللإرهاب سواء كان من جانب النظام أو الجماعات المتطرفة، ووضع سوريا والسوريين على عتبة استعادة حياتهم ومسارهم نحو الحرية والعدالة والمساواة.
ومما لا شك فيه أن الأخطاء والخطايا القائمة في التعامل مع القضية السورية من قبل الأطراف المنخرطة فيها أو القريبة منها، ينبغي وضع حد لها، ليس من أجل وقف مسار الدم والدمار في سوريا فقط، بل لأن تداعيات القضية السورية الإقليمية والدولية، يمكن أن تزداد وتتزايد على طريقة كرة الثلج المتسارعة في منحدر حاد لا قرار له لتأخذ العالم من القريب إلى الأبعد إلى تطورات يصعب معالجتها.
بعد قرابة الأعوام الثلاثة من عمر الثورة السورية، التي فشلت الإدارة الأميركية في التعامل معها جديا، وبعد التدخل الأميركي - الدولي الآن ضد «داعش»، كشف تقرير أممي عن أن عدد المقاتلين الأجانب المتدفقين إلى سوريا والعراق ارتفع ليبلغ نحو 15 ألف مقاتل من 80 بلدا.
والقصة لا تقف عند هذا الحد، حيث تم الكشف عن مذكرة سرية كتبها وزير الدفاع الأميركي للبيت الأبيض، ينتقد فيها استراتيجية بلاده في سوريا، مطالبا بوضع استراتيجية أكثر وضوحا للتعامل مع بشار الأسد، هذا عدا عن الكشف عن أن الضربات الموجهة لـ«داعش» قد تساعد الأسد، وبشكل مؤقت، كما ذكر.
وعليه، فمتى ستعترف الإدارة الأميركية بفشلها في سوريا؟ ومتى تعترف بأن هذا الفشل قد شكل قنبلة موقوتة من شأنها أن تنفجر في وجه 80 بلدا حول العالم، ويكفي التذكير هنا بأن لدى بريطانيا وحدها أكثر من 500 مقاتل بسوريا؟ واعتراف إدارة أوباما بالفشل لا يعني فقط الإقرار بذلك، بل ضرورة أن يصار إلى وضع استراتيجية حقيقية، والإقدام على مواقف فعالة على الأرض، خصوصا أن كل وعود الإدارة الأميركية، وتصريحاتها، حيال الأزمة السورية باتت موضع تندر، ودليل فشل.
في كل فصول الأزمة السورية، ومع اشتداد المراحل، كان يقال في واشنطن إن الخشية هي أن الوقت قد فات لفعل شيء ما بسوريا، لكن ثبت فشل ذلك، حيث اتضح أن كل يوم يمضي دون التعامل الجاد مع الأزمة السورية هو ما يؤدي إلى تعقيدها أكثر، ويتطلب من الغرب، وتحديدا أميركا، القيام بأمر أصعب مما مضى. ولذا فإن الانتظار والتبرير أمر غير مجدٍ، بل هو دليل فشل صارخ. إدارة أوباما جربت كل الأعذار الواهية بسوريا: لامت الحلفاء، ثم اعتذرت.. لامت المعارضة المعتدلة، أي الجيش الحر، ثم عادت تقول إنها ستدعمه.. هددت بالتدخل إذا قام الأسد بتجاوز الخطوط الحمراء، وتجاوزها، ولم تفعل إدارة أوباما شيئا. والحقيقة أن إدارة أوباما جربت كل شيء بسوريا إلا الأفعال، فمتى تقر هذه الإدارة بفشلها الذريع والخطير؟
اليوم يشير التقرير الأممي إلى زيادة تدفق الإرهابيين إلى سوريا، والأخطر أن التقرير الذي أعدته لجنة مراقبة نشاط «القاعدة» في مجلس الأمن الدولي يقول إنه منذ عام 2010 بات عدد الإرهابيين الأجانب بسوريا والعراق «يزيد بعدة مرات عن عدد المقاتلين الأجانب الذين تم إحصاؤهم بين عامي 1990 و2010»! فما الذي تنتظره إدارة أوباما بعد هذه المعلومات المؤكدة أيضا من الاستخبارات الأميركية؟ متى تعلن هذه الإدارة فشلها وتشرع بإقرار خطة فاعلة على الأرض تبدأ بدعم حقيقي للجيش الحر، ومواز لضرباتها على «داعش»؟ فمن دون ذلك فإن كل ما تفعله إدارة أوباما بحربها على «داعش» هو خدمة للتنظيم المتطرف، وجبهة النصرة، وبشار الأسد، فمتى تواجه إدارة أوباما الحقائق، وتكف عن اللعب بمصير سوريا، والمنطقة ككل؟
جرت الانتخابات البرلمانية في تونس بنجاح مشهود. وبذلك، تم عبور المرحلة الثانية من الانتقال إلى الديمقراطية، بعد مرحلة إقرار الدستور الذي أسس لمشاركة جميع ألوان الطيف السياسي والمجتمعي، وقبيل المرحلة الثالثة الخاصة بانتخابات الرئاسة، وهذه حدد الدستور وظائفها، فخلصها من تاريخها السيء الصيت محلياً وعربياً، وأعادها إلى رمزية تمثيل الوطن وسيادة الدولة.
وقد شهدت المرحلة الانتقالية، التي استمرت حوالي أربع سنوات، صعوبات ومنعرجات، لم تخل من مثيلاتها بلدان أخرى. لكنها أثمرت، أيضا، تجربة غنية من مشاركات المجتمع المدني والسياسي، تمثّلت في حوارات وممارسات ووثائق كثيرة ستبقى مرجعاً لكل دارس. في هذا المجال، تميز على الخصوص، نضج مسار حركة النهضة وقيادتها التي تمكنت من تجاوز مأزق جماعات الإسلام السياسي الأخرى في العالم العربي، عندما تخّلت عن فكرة الاستئثار بالسلطة والحاكمية، وتقبلت واقعياً فكرة المشاركة والاعتراف بالتعددية. وليس أدل على ذلك من مباركتها نجاح حزب نداء تونس، وتقدمه عليها في الانتخابات. في المقابل، تمكنت الحركة العلمانية من تجاوز نخبويتها، وسارت على طريق تغليب البرامج السياسية والاجتماعية على العقائد والأفكار المغلقة، فقبلت شراكة حزب النهضة، ورفضت إقصاء الآخرين، وتجلى ذلك بإعلان حزب نداء تونس، الفائز الرئيس في الانتخابات، أنه لن ينفرد بتشكيل الحكومة، على الرغم من حيازته المرتبة الأولى.
هذا المسار الناجح، لا شك أنه استند إلى خصوصية التجربة التونسية، وتاريخ دولتها بعد الاستقلال، الذي كرّس مدنية الدولة، والحريات الأساسية، فبقي تأثيرهما قوياً، على الرغم من لواحق استبداد زعيم الاستقلال، الحبيب بورقيبة، وخلفه زين العابدين. وإذا كانت تونس أوّل بلد افتتح الربيع العربي، فها هي تمضي بصورة جليّة، في مسار الديمقراطية المزدهر، بينما ما زالت باقي بلدان الربيع العربي تتعثر، وقد دخل بعضها مسار الحرب الأهلية من دون آفاق منظورة.
ويمكن المضي طويلاً في ملاحظة الفروق بين تجربة المسار التونسي ومسار البلدان الأخرى، ومتابعة تحليل عواملها المختلفة، كالنفط والموقع والمكانة والأدوار الإقليمية والدولية وتدخلاتها إلخ. لكن، ما تلفت النظر بين ذلك كله العوامل الذاتية التي كان لها، في رأينا، الدور الحاسم في نجاح مسار الثورة التونسية، وفي تعثر باقي ثورات الربيع العربي، ومنها خصوصاً الثورتيْن المصرية والسورية. وهو دور يتعلق بالبشر الفاعلين، بوعي ونضج الحركة السياسية، بالممكنات التاريخية، بين كل ما يجري الحديث عنه من عوامل موضوعية وذاتية وحتمياتّ.
"
تمكّنت الحركة العلمانيّة من تجاوز نخبويتها، وسارت على طريق تغليب البرامج السياسيّة والاجتماعيّة على العقائد والأفكار المغلقة، فقبلت شراكة حزب النهضة
"
ذلك أن ما قامت به حركة النهضة لم تقم به جماعة الإخوان المسلمين في مصر، بل قامت بعكسه بالضبط. وذلك تمثّل في توجه "الإخوان" إلى الاستئثار بجميع السلطات، من البرلمان إلى الرئاسة إلى القضاء، على عكس ما كانت قد أعلنته في بداية الثورة، ثم تراجعت عملياً عنه. وبغض النظر عن نجاحها في انتخابات الرئاسة والشرعية وممارساتها، فقد أثار ذلك مخاوف الآخرين من الإقصاء، وعلى صورة تلك المخاوف أو أوهامها، تأسس حلف مضاد ومماثل في إقصائيته، تطورت معه الأزمة التي أدت بالثورة والمجتمع المصري إلى تعثّر وصراع مستمرين.
أما في سورية، فمنذ البدء، رفض النظام فكرة المشاركة وتقبل الآخر، الذي عبّر عنه الحراك السلمي في معظم أرجاء البلاد، وما طالب به الخارجون إلى المظاهرات بعد صمت طويل. وحقاً، كانت لسورية خصوصيتها هي الأخرى في هذا المجال، فهي لم تكن تملك تراث الدولة المدنية، ولا حرياتها الأساسية، بل استندت، طويلاً، إلى قاعدتي الحزب القائد والوراثة الأبوية. ومع دعم الحليف الإيراني الذي اعتبر النظام السوري قلعته الأمامية، والحليف الروسي الجديد الذي وجدها فرصة للعودة إلى المسرح الدولي، لم يكتف النظام برفض المشاركة، بل ذهب، في ذلك، إلى حده الأقصى، في محاولة لإلغاء الآخر، أو إسقاط الشعب، كما ورد في صياغة ساخرة، لكنها شديدة التعبير. وذلك، حين استخدم القوة الفائقة والعنف غير المسبوق في قتل شعبه وتدمير بلداته، كما عمد إلى تهجير الملايين، وتغيير البنية السكانية في مدن ومناطق مختلفة من سورية.
سيتحدث كثيرون عن حتميات ما حدث، وسينشغل المؤرخون والباحثون بالأسئلة عن ضروراته ولزومه، على الرغم، من درس تونس الراهن الذي يشير إلى نجاح البشر الفاعلين في صناعة الممكن تاريخياً، وانشغال ساستهم بما ينفع الناس، بدلاً من تمترس آخرين، أنظمة وأحزاباً ورجالاً، خلف عقائد وممارسات، أحالها التاريخ إلى متحفه. وستزداد الأسئلة مرارة عن سورية، حين نتابع نتائج رفض المشاركة والاعتراف بالآخر، وتحولها على يدي النظام وصنوه الداعشي، إلى إرهاب يعصف بحياة السوريين وأحوالهم تحت سمع العالم وبصره.
يتساءل اللبنانيون، بكثير من الخوف والقلق، عن المصير الغامض الذي يواجهه الوطن الصغير، وسط المتغيرات التي تعصف بمستقبل دول المنطقة.
ومثلهم يتساءل أيضاً الأردنيون الذين رمتهم الأحداث في عين العاصفة منذ صدامات «أيلول الأسود». أي منذ باشر الأمين العام لـ «الجبهة الشعبية» الدكتور جورج حبش عمليات التحدي لسلطة الملك حسين. وكان ذلك في 6 أيلول (سبتمبر) 1970 يوم اختطف أنصاره أربع طائرات مدنية واحتجزوا مئات الرهائن. وقد توقع حبش في حينه إسقاط النظام الأردني والاستيلاء على الحكم.
والثابت أن الملك الراحل كان ينتظر تلك المواجهة، بدليل أنه شكل حكومة عسكرية برئاسة وصفي التل استهدفت كل المنظمات الفلسطينية بما فيها «فتح» وجماعة ياسر عرفات.
ولما استخدم الجيش الأردني السلاح الثقيل ضد تلك المنظمات، طلب الفدائيون الدعم العسكري من سورية. وأحدث ذلك المطلب خلافاً صامتاً بين حافظ الأسد ومنافسه على القيادة صلاح جديد، الأمر الذي انعكس بشكل سلبي على ساحة المعركة المحتدمة في الأردن.
وعلى رغم ذلك الخلاف المستحكِم بين أقوى شخصيتَيْن عسكريتين علويتين في دمشق، فقد قرر حافظ الأسد السيطرة على مدينة إربد في شمال الأردن. وكان الهدف من وراء تلك الخطوة إقامة منطقة آمنة يلجأ اليها الفدائيون لعلها تساعدهم على التفاوض مع الملك حسين. وفي الوقت ذاته، أمر بإرسال رتل من الدبابات لمحاصرة الأردن، ومنع حكومة وصفي التل من استكمال خطة المطاردة التي دفعت عدداً من الفدائيين للهرب الى اسرائيل.
في العشرين من أيلول، اتصل العاهل الأردني بإدارة الرئيس ريتشارد نيكسون طالباً منها المساعدة. وكان طلبه بصورة استغاثة لأن موسكو حاولت استخدام حليفتها سورية لإسقاط النظام الاردني. واستغل هنري كيسنجر، مستشار الأمن القومي في إدارة نيكسون، التدخل السوفياتي ليطلب من اسرائيل التدخل بطيرانها الحربي، ومنع تقدم الدبابات السورية باتجاه الأردن.
وبعد اشتباكات عنيفة دامت يومين، فقدت خلالها دمشق عدداً كبيراً من الدبابات، أمر حافظ الأسد قواته بالانسحاب. خصوصاً بعدما رفض تنفيذ اقتراح صلاح جديد بضرورة إرسال مساندة جوية، رداً على هجمات الطيران الأردني والاسرائيلي.
واستغل صلاح جديد عصيان وزير الدفاع (حافظ الأسد)، ليقابله بالدعوة الى مؤتمر طارئ للقيادة القومية، بغرض محاسبته. وجاء رد الأسد مفاجئاً بحيث إنه قابل تلك الدعوة بإعلان الحركة التصحيحية (16 تشرين الثاني /نوفمبر 1970)، فأمر باعتقال صلاح جديد وجميع أعضاء القيادة البعثية آنذاك. وبقي جديد في سجن المزّة مدة 23 سنة، الى أن توفي في 19 آب (اغسطس) 1993.
بعد انقضاء أكثر من سبع سنوات على فرار منظمة التحرير الى لبنان، عقد آرييل شارون مؤتمراً صحافياً أعلن فيه شعار المرحلة المقبلة بأن «الأردن هو فلسطين». وهاجم في ذلك المؤتمر غولدا مائير، واتهمها بارتكاب خطأ تاريخي كونها انحازت الى الملك حسين أثناء نزاعه مع ياسر عرفات، لاعتقادها بأن «الخيار الأردني سيجنّب اسرائيل الحاجة الى مواجهة القضية الفلسطينية».
وتحاشياً لتكرار ذلك الخطأ، اقترح شارون اعتماد سياسة مناقضة لسياسة مائير حيال عمّان. أي الامتناع عن مساعدة الأردن ضد مهددي النظام في حال تعرّض لأزمة وجود. وقال، في معرض الدفاع عن موقفه، إن استيلاء الفلسطينيين على الحكم في الأردن عام 1970، كان يمكن أن يوفر على اسرائيل ممانعتها الخفية لقيام دولة فلسطينية مستقلة في الضفة الغربية وغزة.
والثابت في هذا السياق، أن رئيس وزراء اسرائيل بنيامين نتانياهو تبنى خيار شارون، وقرر توسيع عملية الاستيطان في القدس المحتلة، على رغم اعتراض إدارة اوباما.
وترى مصادر عربية في واشنطن أن التلاسن بين جماعة اوباما وجماعة نتانياهو ليس أكثر من مسرحية متَّفق عليها بغرض تحرير الرئيس الاميركي من التبعات المترتبة عليه تجاه السلطة الفلسطينية.
ويتوقع الرئيس محمود عباس استمرار التمثيلية المفتَعلة طوال مدة السنتين المتبقيتَين من حكم اوباما، الأمر الذي يوفر لإسرائيل الوقت الكافي لابتلاع القدس الشرقية وزيادة حجم التوسع الاستيطاني.
وقد نبّه العاهل الأردني الملك عبدالله الثاني الى أخطار التصعيد الاسرائيلي، وحذر من انعكاساته السلبية على اتفاق وادي عربة للسلام بين الأردن واسرائيل.
ويتردد في عمّان أن اسرائيل قد تستغل التظاهرات والاضرابات التي يدعو اليها زعماء التيارات السلفية الجهادية في عمّان والمدن الأخرى، لزيادة حملات التحريض. لهذه الأسباب وسواها، أبلغ العاهل الأردني كتلة التجمع الديموقراطي أن بلاده لن تدخل على خطوط الاشتباك البري مع قوات تنظيم «الدولة الاسلامية». وكان ذلك التبليغ بمثابة إعلان موقف سياسي واضح بأن الأردن لن يعطي اسرائيل الذريعة المطلوبة لاستغلال الخلافات الداخلية من أجل تسويق مشروع شارون الذي تبناه نتانياهو: «الأردن هو فلسطين».
بالعودة الى مخاوف اللبنانيين وقلقهم من أن تكون أحداث عرسال وطرابلس مقدمة لإعلان انفصال المتمردين، فإن الجيش اللبناني حسم هذا الموضوع، وألغى فكرة إقامة إمارات متطرفة. ويرى أهل طرابلس أن مدينتهم ألفت هذه الأساليب المتطرفة خلال الحرب الأهلية. وقد برز في حينه الشيخ سعيد شعبان الذي أعلن إمارته بدعم من ايران. ثم ظهر في الفترة ذاتها أمير الميناء هاشم منقارة، وأمير باب التبانة أبو عربي.
وفي عام 1986 قرر الجيش السوري وضع حد لهذه الظواهر السياسية النافرة التي روَّعت عاصمة الشمال بأعمالها الاستفزازية. تماماً مثلما فعل الجيش اللبناني الأسبوع الماضي.
وتبيّن من التحقيق مع المتهم أحمد ميقاتي أن كل المتمردين كانوا يحاولون تقليد «داعش». والمَثل على ذلك أن ميقاتي كان يسعى الى احتلال قرى مصايف آل كرامي، أي عاصون وسير الضنيّة وبقاعصفرين، تمهيداً لاعلانها ملاذاً آمناً للمسلحين. كما تبيّن أيضاً أن شادي المولوي وأسامة منصور كانا على علم مسبق بخطة ميقاتي، ودعوته الى ربط القلمون السورية بالساحل اللبناني. وذكر في التحقيق أن هذه الخطة مستوحاة من قيادة «داعش» التي تريد استكمال السيطرة على سورية، والقطاع اللبناني الملاصق لحدودها بدءاً من عرسال حتى طرابلس.
بعض المنظرين اللبنانيين يعتمد في قراءة مستقبل الوطن الصغير على اللاءات التي حملها السفير الاميركي دين براون الى الرئيس حافظ الأسد. وأهم ما جاء في تلك اللاءات الثلاث المحافظة على النظام اللبناني كثمن للقبول بدخول القوات السورية عام 1976. ومثلما اشترطت اسرائيل في ذلك الحين منع إقامة كوبا عربية في جنوب لبنان... يمكن أيضاً أن تكرر الشرط ذاته مع «حزب الله». مع فارق أساسي هو أن «حزب الله» ليس جسماً غريباً مثل منظمة التحرير، وأن موقفه المعادي لإسرائيل ينطلق من قرار جماعي تضمنته وثيقة الطائف. لهذه الأسباب وسواها يبقى قرار المحافظة على سلامة النظام اللبناني رهناً بمشيئة اللبنانيين وحدهم.
ومن أجل إعادة تثبيت هذا الموقف، قامت فعاليات من منطقتي البقاع وبعلبك بصوغ «وثيقة شرف» تدعو الى نبذ العصبيات والعنف... وتحذر من عدو جديد تكفيري ووحشي لا يتردد في ذبح الناس وتدمير تاريخهم وحاضرهم ومستقبلهم.
ويبدو أن هذه المسكنات لم تقنع المبعوث الدولي ستيفان دي ميستورا، الذي أكد للمسؤولين في بيروت أن الاستقرار اللبناني هو أولوية بالنسبة الى الأمم المتحدة والمجتمع الدولي. وهذا ما كرره مبعوث الأمين العام للأمم المتحدة، تيري رود لارسن، الذي وصف عملية نزع سلاح «حزب الله» بأنها أصبحت أكثر تعقيداً بسبب وجود «داعش» وجبهة النصرة. وقال إن وجود هذه المنظمات قد يدفع المواطنين الى حرب أهلية أخرى، الأمر الذي يشجع على دعم دور الجيش كونه يمثل قوة الاستقرار الحيادية الوحيدة في لبنان.
وترى مصادر سياسية أن هذا الاستقرار يعتمد في بعض جوانبه على تطور العلاقات الايرانية - الاميركية، بحيث يؤثر ذلك في موقف «حزب الله» ومدى تعاونه مع الدولة. خصوصاً أن زعماء 14 آذار ينتقدون سياسة الحزب، لأنه، في نظرهم، يمثل الجمهورية الايرانية لا الجمهورية اللبنانية، وأن اداءه السياسي والعسكري كثيراً ما يُحرِج الحكومة التي يشترك فيها. وهم يطرحون موضوع مساندته العسكرية للنظام السوري، حليف ايران لا حليف لبنان. وبسبب ذلك التحالف نشبت معارك في لبنان بتأثير الحرب الأهلية في سورية.
مصادر مؤثرة في «حزب الله» تتوقع خروج بشار الأسد من أزمته الداخلية والخارجية. وهي ترى أنه يسيطر على ما نسبته 25 في المئة من مساحة الدولة الأصلية. أي على دولة العلويين ومدن الساحل والممر الاستراتيجي الذي يربط دمشق باللاذقية. ولكن هذا التصور لا يعفي مسؤولية الأسد عن مقتل 180 ألف نسمة، بينهم شريحة كبيرة من الجيش النظامي. كما لا يعفيه من تشريد خمسة ملايين مواطن، موزعين بين تركيا والأردن ولبنان والعراق وكردستان وبعض العواصم الاوروبية.
ويعتبر الوزير رشيد درباس أن حصة لبنان من النازحين تشكل عبئاً مالياً واجتماعياً وتربوياً وإنسانياً يصعب تحمله من دون مساندة خارجية، عربية أكانت أم أجنبية. ولقد فوجئ أثناء زيارته لمخيم الزعتري في الأردن بأن سجلات النازحين السوريين تضم معلومات واسعة عن كل فرد، وأن تحركاتهم تخضع لمراقبة متواصلة.
يروي الشاعر سعيد عقل - أطال الله في عمره - حكاية صديقه الراحل ايليا أبو جودة، يوم دخل المستشفى في سويسرا لإجراء عملية في عينه. ولما حدد له الطبيب المختص موعد العملية بعد أسبوعين، قرر البقاء في الفندق في جنيف. ولكنه فوجئ بزيارة موظف الأمن الداخلي الذي أبلغه بضرورة مغادرة البلاد، لأن وجوده أصبح غير قانوني... ولأن هذا الوجود يخضع لـ «كوتا» المغتربين التي لا يجوز أن تزيد على واحد ونصف في المئة.
ومنعاً للإزعاج، طلب أبو جودة من فرع البنك الذي يخصه في جنيف دفع ضمانة تتعدى الأربعة ملايين دولار. وكان جواب الموظف حاسماً، بأن ضبط ميزان الدخول الى سويسرا لا يخضع للصفقات المالية... بل لقواعد النظام المحلي!
في تحقيقات تلفزيونية عن اللاجئين السوريين، ثمة أمر يتكرر. نساء يخفضن رؤوسهن أو يغطين وجوههن أو ينسحبن بسرعة من أمام جولات العدسات التلفزيونية المتطفلة. بعض الرجال يفعل أيضاً...
حرمة الأموات في الصراعات، وهنا الصراع السوري تحديداً، انتهكتها الشاشات فماذا عن حرمة الأحياء؟ هل يسأل الصحافيون النسوة والرجال الذين يبدو بعضهم أيضاً شديد الحرج من ظهوره بهذه الصورة، عن إمكان تصويرهم قبل القيام بذلك، أو أنهم يعتبرون أنهم يؤدون لهم خدمة بعرضهم على العالم ليتفرج على مأساتهم ويتعاطف معها؟
مع كل الصور التي تظهر الفظائع والأفراد في سورية بأوضاع غير إنسانية، بات الدفاع عن حق الفرد بالخصوصية أمراً ضرورياً. مجموعة «أبو نضارة» السينمائية السورية تدافع اليوم عن «حق الصورة» كأحد الحقوق الإنسانية.
المجموعة التي تبث أسبوعياً فيلماً على الشبكة يتمحور حول الحرية والكرامة لكل السوريين وتلقي الضوء عبر شهادات أفراد على كل جوانب الصراع السوري، فازت أخيراً بجائزة تمنحها الحكومة الهولندية للمبدعين في مجال الدفاع عن حقوق الإنسان، فهي «عبر لغة السينما تكشف الصراع على الصعيد الإنساني وتدافع عن حق السوريين في صورة كريمة».
المجموعة ترغب عبر الصورة بخلق صلات بين سورية وبقية العالم خارج إطار الحرب السياسية. وتصف المؤسسات الإعلامية بأنها «منفلتة العقال»، فالحق بالصورة نتعرض اليوم لانتهاكات متزايدة مع «تطور وسائل الاتصال وضرورات الإعلام» مما يسيء في شكل خاص للمواطنين غير القادرين على مواجهة كل من يعبث بصورتهم أو يستغلها. وقد وجهت رسائل للإعلام العربي والغربي بهذا الخصوص. وفي مقالة نشرتها أخيراً صحيفة «لوموند»، تلوم المجموعة التلفزيونات الأوروبية التي لم تنظر كما يجب للمجتمع السوري منذ بداية انتفاضته وبدلاً من إعطاء «صورة» لشعب يأمل بديموقراطية استسلمت لصور «الثائر» النمطية ثم استبدلتها بعد تعقد الأوضاع بمفهوم «الشرق المعقد»، مفضلة تأكيدات الماضي على محنة الواقع. لقد حُصر السوري في صورة معينة وحرم من كرامته وأذل على الشاشات وساهم ذلك في أن يبدو قابلاً للتصديق في عيون المشاهدين ما يحصل اليوم من «إعلان للخلافة»، كما أدى إلى تعرف «مذلولين» من فرنسا وبريطانيا على أنفسهم في إخوتهم السوريين المنذلين ونخوتهم للذهاب لنجدتهم.
إن صورة السوري في الإعلام عموماً، تنتهك من خلال عرض صور أجسادهم المعذبة على شاشات العالم من دون موافقتهم الأمر الذي يسيء لكرامتهم كما للإنسانية جمعاء بحيث بات من الضروري التأكيد على حق الإنسان في صور كريمة مهما كانت الظروف. إن صعوبات العمل الصحافي، بخاصة في سورية، وسرد ما يجري يجب ألا يمنع المحطات من احترام مبادئ الكرامة الإنسانية والتعامل بحدود متطلبات الأخبار ونشر الصور.
إن الحقب التاريخية يصعب تمييزها قبل أن تنتهي. فلم يصبح عصر النهضة معروفا بعصر النهضة إلا في وقت لاحق. ويصدق نفس القول على العصور المظلمة (أو القرون الوسطى) التي سبقت عصر النهضة، أو أي عصور أخرى. والسبب بسيط: فمن المستحيل أن نعرف ما إذا كان أحد التطورات الواعدة أو المثيرة للقلق يأتي منفردا أو يمثل بداية اتجاه دائم.
بيد أنني أزعم -رغم ذلك- أننا نشهد اليوم نهاية حقبة من تاريخ العالم وبزوغ فجر حقبة أخرى جديدة. لقد مر ربع قرن من الزمان منذ سقط سور برلين ونهاية أربعين سنة من الحرب الباردة. ثم أعقب ذلك عصر التفوق الأميركي، والازدهار المتزايد الذي تحقق لكثيرين، وظهور عدد كبير من المجتمعات والأنظمة السياسية المنفتحة نسبيا، وانتشار السلام، بما في ذلك التعاون الملموس بين القوى الكبرى. والآن، انتهى ذلك العصر أيضا، لكي تبدأ حقبة جديدة أقل خضوعا للنظام وأقل سلمية.
الشرق الأوسط الآن يعيش المراحل المبكرة من النسخة المعاصرة من حرب الثلاثين عاما، حيث من المحتم أن تعمل الولاءات السياسية والدينية على تأجيج صراعات مطولة ووحشية أحيانا داخل وعبر الحدود الوطنية. ومع سلوكها في أوكرانيا وأماكن أخرى، تتحدى روسيا ما كان يُعَد نظاما أوروبيا مستقرا في الأغلب والذي تأسس على المبدأ القانوني الذي يقضي بعدم إمكانية الاستحواذ على الأرض بالقوة العسكرية.
ومن جانبها، ظلت آسيا في سلام في الأغلب الأعم. ولكنه سلام غير مستقر، سلام قد يتلاشى في أي لحظة نظرا لعدد كبير من المطالبات التي لم يبت فيها بالسيادة على بعض الأراضي والمناطق المختلفة، وهو ما من شأنه أن يثير النزعات القومية، فضلا عن الافتقار إلى الترتيبات الثنائية أو الإقليمية القوية بالقدر الكافي لمنع المواجهات أو تهدئتها.
ومن ناحية أخرى، فإن الجهود العالمية الرامية إلى إبطاء تغير المناخ، وتعزيز التجارة، ووضع قواعد جديدة للعصر الرقمي، ومنع أو احتواء تفشي الأمراض المعدية، غير كافية.
الواقع أن بعض الأسباب وراء حدوث كل هذا تعكس تغيرات جوهرية في العالم، بما في ذلك انتشار وتفتت القوة إلى عدد متزايد من الدول والكيانات الفاعلة غير التابعة لدولة بعينها، والتي تتراوح بين المنظمات الإرهابية والمليشيات المسلحة إلى الشركات الكبرى والمنظمات غير الحكومية.
ولن تكون إدارة الانبعاثات الغازية المسببة للانحباس الحراري العالمي والتدفقات العالمية من المخدرات والأسلحة والإرهابيين ومسببات الأمراض بالمهمة السهلة حتى في ظل أفضل الظروف، وتزداد المهمة صعوبة وتعقيدا بسبب الافتقار إلى الإجماع بشأن ما ينبغي القيام به من عمل والافتقار إلى الإرادة اللازمة للعمل حتى في حالة التوافق عليه.
وهناك أسباب أخرى وراء الفوضى العالمية المتنامية تتعلق بالولايات المتحدة. فكانت حرب العراق في عام 2003 سببا في تفاقم التوترات بين السُنّة والشيعة وإزالة حاجز بالغ الأهمية أمام الطموحات الإيرانية.
وفي وقت أقرب إلى الحاضر، دعت الولايات المتحدة إلى تغيير النظام في سوريا، ولكنها بعد ذلك لم تفعل إلا أقل القليل لتحقيق تلك الغاية، حتى بعد استخدام القوات الحكومية للأسلحة الكيميائية بشكل متكرر، في تجاهل للتحذيرات الأميركية. وكانت النتيجة نشوء الفراغ الذي شغله تنظيم الدولة الإسلامية في المنطقة.
وفي آسيا، فَصَّلَت الولايات المتحدة سياسة جديدة من المشاركة المتزايدة (أو ما أسمته تحويل "المحور" الإستراتيجي إلى المنطقة)، ولكن ما فعلته بعد ذلك لم يكن كافيا لتحويل ذلك الأمر إلى حقيقة واقعة.
وكانت نتيجة هذه الأحداث وغيرها نشوء شكوك واسعة النطاق حول مصداقية الولايات المتحدة وجدارتها بالثقة. ونتيجة لهذا، بدأ عدد متزايد من الحكومات وغيرها من الكيانات في التصرف بشكل مستقل.
وهناك أيضا تفسيرات محلية لتنامي حالة عدم الاستقرار العالمية. فالشرق الأوسط يعاني من قدر كبير من عدم التسامح ونقص كبير في الوفاق، سواء بشأن الحدود بين الحكومة والمجتمع أو الدور الذي يلعبه الدين داخلها. ومن ناحية أخرى، لا تفعل البلدان في المنطقة وبالقرب منها إلا أقل القليل لمنع صعود التطرف أو مكافحته متى ظهر وأينما ظهر.
وتبدو روسيا بقيادة فلاديمير بوتين عازمة على استخدام الترهيب والقوة لاستعادة الأجزاء المفقودة من إمبراطوريتها. وتفتقر أوروبا بشكل متزايد إلى السبل أو العقلية اللازمة للاضطلاع بدور عالمي كبير. وتتسامح حكومات عديدة في آسيا مع النزعات القومية أو حتى تشجعها بدلا من إعداد الشعوب لتنازلات وتسويات صعبة ولكنها ضرورية مع الجيران.
ليس المقصود من كل هذا أن أزعم أننا مقبلون على عصور مظلمة. فالترابط المتبادل يعمل بمثابة المكابح لما يمكن أن تفعله الحكومات دون أن تلحق الأذى بنفسها. فقد تعافى الاقتصاد العالمي بعض الشيء بعد أن بلغ أدنى مستوياته قبل ستة أعوام. وأوروبا مستقرة في الأغلب الأعم، كما هي حال أميركا اللاتينية وقسم متزايد من أفريقيا.
وهناك أيضا إمكانية صد ودحر الفوضى الجديدة. فقد تسفر المفاوضات الدولية عن نتيجة من شأنها أن تجعل إيران بعيدة بالقدر الكافي عن القدرة على إنتاج الأسلحة النووية، وهو ما من شأنه أن يبدد الشعور لدى جيرانها بالحاجة إلى مهاجمتها أو العمل على إنتاج أسلحة مماثلة.
ومن الممكن اتخاذ خطوات لإضعاف تنظيم الدولة الإسلامية عسكريا، والحد من تدفق المجندين والدولارات إليه، ودعم بعض الكيانات التي يستهدفها التنظيم. وقد تدفع العقوبات وانخفاض أسعار النفط روسيا إلى قبول التسوية بشأن أوكرانيا. وقد تختار الحكومات الآسيوية اتخاذ الترتيبات الإقليمية الكفيلة بدعم السلام.
ولكن من المرجح أن يكون ما قد يمكن إنجازه محدودا بفِعل السياسة الداخلية للبلدان المختلفة، وغياب الإجماع الدولي، وانحسار نفوذ الولايات المتحدة، التي لا تستطيع أي دولة أخرى أن تحل محلها، والتي قد ترغب قِلة من البلدان حتى في دعمها في تعزيز النظام.
والنتيجة هي عالم أقل سلاما وأقل ازدهارا وأقل براعة في التصدي للتحديات التي يواجهها مقارنة بحال العالم في حقبة ما بعد الحرب الباردة.