رغم كثافة الاتهامات المتبادلة وتناقضها بين الفصائل الموصوفة بالمعتدلة مثل جبهة ثوار سوريا وحركة حزم من جهة، وجبهة النصرة والفصائل القريبة منها من جهة أخرى، إلا أن هناك بضع وقائع مؤكدة يمكن الركون إليها لبناء قراءة متوازنة للصراع الذي انفجر بين الطرفين مؤخرا في شمال سوريا.
أول تلك الوقائع أن الطرفين كانا متأهبين لقتال بعضهما منذ زمن طويل، وأن الأصابع كانت على الزناد، فالأطراف المعتدلة المدعومة أميركيا تتوجس الريبة من الجهاديين، الذين تعتقد أنهم يتحينون الفرصة لابتلاعها وإعلان إمارة خاصة بجبهة النصرة وحلفائها على غرار دولة “داعش”، فيما يتحسب الجهاديون من أجندات محاربة الإرهاب التي لابد أن تكون قد أرفقت بالدعم الكبير الذي يتلقاه فصيل جمال معروف على وجه التحديد.
ثاني تلك الوقائع هي أن جبهة النصرة في طريقها إلى الاختصاص بمنطقة شمال غرب سوريا، وجعلها منطقة نفوذ مقصورة عليها، فهي منذ أن هزمت في شرق البلاد وطردت على يد “داعش”، بدأت بتجميع قواتها في هذه المنطقة، وعينها على جبل الزاوية، الذي يقع تحت نفوذ جبهة ثوار سوريا، وهو مكان يصلح لأن يكون قاعدة ومقر قيادة لحرب عصابات طويلة الأمد، سواء مع النظام أو مع القوى الغربية، وما هجومها الخاطف والناجح نسبياً على مدينة إدلب، ومن ثم بسط سيطرتها على عدد من البلدات والمدن في يوم واحد، سوى مؤشر على ذلك الاستعداد المسبق لخطتها، على أن هذا الحصن الطبيعي ليس كل ما يفوز به من يسيطر على شمال سوريا الغربي، فهناك أيضاً المعابر الحدودية الرسمية مع تركيا، وطرق التهريب المختلفة، وعائداتها مورد مالي لا يستهان به، إضافة إلى الكميات المهولة من السلاح المخزن لدى الفصائل المختلفة هناك، وبعضها نوعي قدم لها على خلفية كونها فصائل معتدلة، أما وقوع هذه المنطقة بمحاذاة اللاذقية وجبال العلويين وصولاً إلى البحر المتوسط، ووقوعه بين عاصمة الشمال حلب والعاصمة السورية دمشق مروراً ببوابة حماة، فيمنحها موقع حاكم ليس في الشأن السوري وحسب بل على مستوى الإقليم، ولا يمكن مقارنة أهمية تلك المنطقة بالصحارى الفارغة التي يسيطر عليها تنظيم الدولة الإسلامية على سبيل المثال.
ثالث تلك الوقائع أن الصدام حدث عندما طاردت جبهة ال ثوار سوريا بضعة عشرات من عناصرها الذين انشقوا بسلاحهم والتحقوا بجبهة النصرة، وهو مؤشر أول على ارتدادات السياسة الأميركية الأنتقائية ضد الإرهاب على حلفائها المحليين، فهي تستهدف التنظيمات المتطرفة السنية، وتدعم أو تغض النظر عن التنظيمات الشيعية المتطرفة، فالكفة الآن داخل جمهور الثورة السورية، وخاصة من المقاتلين، بدأت تتحول من التعاطف مع الجهاديين، إلى الوقوف إلى جانبهم ضد حرب الحلفاء، ومن يواليهم من السوريين.
أما رابع الوقائع فهي عزوف القوى الدولية والإقليمية المتنطعة للحرب على الارهاب عن دعم الفصائل المعتدلة بشكل جدي، رغم تحريضها الدائم لها، وتمييزها عن الآخرين بتقديم بعض الأسلحة والذخائر، لكنها كانت دون المستوى المطلوب.
وكانت الضربة القاصمة لهذه القوى، هو عدم اعتمادها كطرف سوري في الحرب التي يشنها التحالف العربي الغربي على “داعش”، وإبقائها على الحياد، بعيدة عن مجريات هذا الحدث بشكل صريح وعلني عبر عنه الجنرال جون آلن منسق عمليات التحالف عندما قال إن “هذه القوات لن يكون لها دور في الحرب الحالية، ولن ندعمها لمحاربة نظام الأسد، بل للدفاع عن نفسها، ونعدها لتشارك مع هذا النظام في صياغة الحل السياسي المستقبلي، الذي سيكون الأسد شخصيا خارجه”.
والخلاصة أن الاستراتيجية الأميركية تسعى في جانب منها إلى تقوية الفصائل الجهادية، وتأمين ما يمكن وصفه بالتغذية الراجعة لها، ويبدو أنها غسلت يديها من فكرة إسقاط نظام بشار الأسد واستبداله بالمعارضة الحالية العاجزة والضعيفة، وتركز اهتمامها، فقط، على جعل سوريا بلدا تتقاسمه قوتا أمر واقع مرفوضتان من قبلها، هما نظام الأسد والجهاديون السنَّة، وإخلاء الحلبة لهما حتى ينهكا بعضهما البعض.
وعلى نيران الحرب التي ستزداد اضطراما هناك، سيتم إنضاج عدة طبخات إقليمية في آن واحد، من إيران إلى مصر، مرورا بالعراق ولبنان وفلسطين، أما السوريون فعليهم في هذه المرحلة أن يعتبروا بلادهم منطقة عمليات عسكرية، وأن يحزموا حقائبهم ويغادروا إلى بلدان اللجوء، فالمجتمعون في مؤتمر برلين الخاص بسوريا، أعلنوا بلا مواربة أنهم يسعون لإيجاد حلول تمتد لسنوات لللاجئين السوريين، وبأعداد متزايدة!
فيما أعين العالم مفتوحة على ما يجري شمال سوريا، يتقدم الثوار في جنوبها بهدوء ويحققون انتصارات، ويعتقد كثيرون أن تغيير موازين القوى سيأتي من هناك.
سيطر ثوار سوريا، مؤخرا، في درعا بجنوب سوريا على آخر المقرات العسكرية والحواجز التي تفصلهم عن المعبر الحدودي الرئيسي مع الأردن، وباتوا على بعد مئات الأمتار عن هذا المعبر، وإن سيطروا عليه، فإن البوابات البرية السورية الواصلة بالعالم الخارجي ستصبح بيد المعارضة، ما عدا البوابات مع لبنان.
يعتبر المراقبون أن السيطرة على المعبر الرئيسي مع الأردن لن يكون مجرد حدث عسكري عابر، بل هو هدف استراتيجي من شأنه قلب الموازيـن العسكرية، لكن وضعاً إقليميا معقـدا يدفـع الثوار لعدم إحكام السيطـرة على هـذا المعبـر في الـوقت الـراهن.
ما يلفت الانتباه أن غالبية الكتائب التي شاركت في السيطرة على المنطقة الجنوبية من سوريا هم من كتائب الجيش السوري الحر، وهي كتائب شبه منضبطة -نسبيا- ولا علاقة عضوية لها بالقاعدة أو بتنظيم الدولة الإسلامية، وإن كان بعضها له علاقات جيدة بجبهة النصرة، لكنها، بالمجمل، من الكتائب القليلة التي تقوم بعملياتها العسكرية ضد النظام باسم الجيش السوري الحر، وترفع علم الثورة، وتؤكد في بياناتها على المبادئ الأساسية للثورة التي انتفض السوريون من أجلها قبل ثلاث سنوات ونصف.
يضم آخر معبر حدودي سوري مع الأردن قوات عسكرية ضخمة للنظام، ولهذا ليس من السهل السيطرة عليه، لكن قـوات النظام هناك باتت محاصرة بعد أن قطع الثوار الطريق الدولي الذي يصل العاصمة بجنوب سوريا وبكل منطقة الخليج العربي، وهذا الطريق هو الطريق الوحيد للتصدير والحركة التجارية بين لبنان وتركيا وأوروبا من جهة، ودول الخليج العربي من جهة ثانية.
لطالما اعتبر أن السيطرة على المعبر الحدودي بين سوريا والأردن هدفا غير مرحب به من قبل جميع الأطراف، فالنظام لا يريد أن يخسره، فعبره يُدخل قطع الغيار والعديد من المستوردات الأساسية غير المسموح له باستيرادها نظاميا بسبب العقوبات الأوروبية والأميركية، كما يُدرّ عليه ملايين الدولارات من حركة الدخول والخروج، فضلا عن أنه موقع استراتيجي عسكرياً ومعنوياً.
كذلك للأردن مصلحة أن لا يقع هذا المعبر بيد المعارضة، لأنه يجني ملايين الدولارات من تجارة الترانزيت عبره، كما يخشى أن تؤدي سيطرة المعارضة السورية المسلحة عليه لتدفق المقاتلين المتشددين منه ذهابا وإيابا.
أما دول الخليج العربي -حليفة المعارضة السورية- فهي تخشى إغلاق طريق الشاحنات التي تنقل البضائع من البحر المتوسط إليها، وكذا الأمر لا تريد الولايات المتحدة تشتيت أنظار العالم في الوقت الراهن عما يحدث في شمال سوريا وحربها ضد تنظيم الدولة الإسلامية هناك.
لكن بعض المراقبين يرون أن هنـاك تغييرا دراماتيكيا يحصل الآن في المنطقة الجنوبية من سوريا، ويعتقـدون بوجود قـرار دولي بأن تصبح المنطقة العازلة في جنوب سـوريا لا في شمـالهـا، وأن تنطلق أي قوات مدرّبـة للمعارضـة السـورية من جنوب سوريا لأنهـا أكثـر قـرباً مـن العـاصمة دمشـق، ولأن توريد الأسلحـة أسهـل عن طـريق الحـدود الجنوبية لسوريا، ولعدم وجود تنظيـم الدولـة الإسلاميـة هنـاك.
في واقع الحال، إذا أردنـا معرفة تطـورات الأوضاع العسكرية في سوريا علينا أن ننظر لجنوب سوريا لا لشمالها، والكثير من المسؤولين عن الملـف السـوري في دول غربية يشيرون إلى أهمية استثنائية مستقبلية لجنوب سوريا في وضع حد للأزمة رغم عدم وضوح أي مخطـط عسكري لهذا الجنوب، لكن قراءة أولية تشير إلى أن المعارضة المسلح تتقدم بهدوء وثقة في جنوب سوريا، وسيطرت على كامل الحدود مع إسرائيل، وعلى 90 بالمئة من الحدود مع الأردن، وأصبحت على بعد 40 كم عن أطراف دمشق، ولها حاضنة شعبية مؤيدة بالمطلـق، كمـا أن ممتلكاتها من الأسلحة تتطـور باستمـرار، وتُشـرف على الإدارة المحلية والإغاثة والأمن والصيـانة في البلدات والقرى التي تسيطر عليها.
سلاح الطيران السوري هو العـامل الوحيد الذي يمنع الثوار في جنـوب سـوريا من التقدّم والسيطرة على المزيـد مـن المناطـق والاقتراب أكثر فأكثر من دمشق، وهم بحاجة، فقط، لحظر جوي ليقلبوا المعادلة، ويطالبون بحظر جوي مشابه للحظر الجـوي غير المعلن المفروض على طول الحدود السورية-الإسرائيلية، التي لم تعد تشهد هجمات جوية للنظام، بعد أن أسقط الطيران الإسرائيلي الشهر الماضي طائرة حربية اقتربت من تلك المنطقة الحدودية.
نادرا ما تقوم الكتائب الثورية بجنوب سوريا بتصريحات استعراضية، أو بمبالغات فوضوية، ويقدّر تعداد مقاتليها بنحو ثلاثين ألفا، وعندما لا تستطيع السيطرة على منطقة تعترف بذلك، وعندما تُسيطر على أخرى تُعلن ذلك ببيان مختصر يحمل توقيع الجيش السوري الحر وحده، ونادراً ما يتم ذكر أسماء الكتائب المشاركة في المعارك.
يتواجد على الطريق الفاصل بين الثوار في درعا ودمشق أربع فرق عسكرية للنظام، مدججة بأسلحة ثقيلة ومدفعية وصواريخ، وتراهن المعارضة على أن النسبة الكبرى من عناصر الجيش ستنشق إن تم فرض حظر طيران وبدأت الكتائب الثورية بالزحف نحوها.
درجة سخونة الجبهة الجنوبية السورية تتصاعد بشكل متسارع، ويتقدم الثوار ببطء لكن دون تراجع، ويسيطرون على مراكز عسكرية صغيرة ومتوسطة، وعلى منصات رادار ودبابات وناقلات جنود ومدافع أحياناً، ويبدو أن النظام عاجز عن استعادة ما يخسره هناك، بل وربما غير قادر تماماً على أن يحتفظ بما بين يديه، ويخشى تحريك الفرق العسكرية خوفا من انشقاق جنودها الذين بغالبيتهم غير معنيين ببقاء النظام، وينتمون لمدن دمّرها ولطوائف آذاها.
إن تم السماح للمعارضة السـورية المسلحة بالسيطـرة على المعبر الأخير بين سوريا والأردن، فإن هـذا يعني أن الخطة الأميركية لتلك المنطقة قد بدأت، وستبدأ مرحلة إدخال مقاتلين مهرة مدربين، وغالبا مرحلة حظر طيـران غير معلـن من قبل الثوار أنفسهم بأسلحة نوعية تصلهم بين ليلة وضحاها، وإن بقي المعبر بيد النظام، فهذا يعني أن الخطة الأميركية مؤجّلة، أو غير مكتملة، وأن هناك فترة أخرى مـن الدمار لجنوب سوريا، ولا شك أن النظام سيستمر بتدميرها ما لم يُضرب هناك بيد من حديد.
مهما طالت سنين الغربة بالمغتربين، فإنهم يظلون يعتقدون أن غربتهم عن أوطانهم مؤقتة، ولا بد من العودة إلى مرابع الصبا والشباب يوماً ما للاستمتاع بالحياة، وكأنما أعوام الغربة جملة اعتراضية لا محل لها من الإعراب.
لاشك أنه شعور وطني جميل، لكنه أقرب إلى الكذب على النفس وتعليلها بالآمال الزائفة منه إلى الحقيقة. فكم من المغتربين قضوا نحبهم في بلاد الغربة وهم يرنون للعودة إلى قراهم وبلداتهم القديمة! وكم منهم ظل يؤجل العودة إلى مسقط الرأس حتى غزا الشيب رأسه دون أن يعود في النهاية، ودون أن يستمتع بحياة الاغتراب! وكم منهم قاسى وعانى الأمرّين، وحرم نفسه من ملذات الحياة خارج الوطن كي يوفر الدريهمات التي جمعها كي يتمتع بها بعد العودة إلى دياره، ثم طالت به الغربة، وانقضت السنون، وهو مستمر في تقتيره ومعاناته وانتظاره، على أمل التمتع مستقبلاً في ربوع الوطن، كما لو أنه قادر على تعويض الزمان!
وكم من المغتربين عادوا فعلاً بعد طول غياب، لكن لا ليستمتعوا بما جنوه من أرزاق في ديار الغربة، بل لينتقلوا إلى رحمة ربهم بعد عودتهم إلى بلادهم بقليل، وكأن الموت كان ذلك المستقبل الذي كانوا يرنون إليه! لقد رهنوا القسم الأكبر من حياتهم لمستقبل ربما يأتي، وربما لا يأتي أبداً، وهو الاحتمال الأرجح!
لقد عرفت أناساً كثيرين تركوا بلدانهم، وشدوا الرحال إلى بلاد الغربة لتحسين أحوالهم المعيشية. وكم كنت أتعجب من أولئك الذين كانوا يعيشون عيشة البؤساء لسنوات وسنوات بعيداً عن أوطانهم، رغم يسر الحال نسبياً، وذلك بحجة أن الأموال التي جمعوها في بلدان الاغتراب يجب أن لا تمسها الأيدي لأنها مرصودة للعيش والاستمتاع في الوطن. لقد شاهدت أشخاصاً يعيشون في بيوت معدمة، ولو سألتهم لماذا لا يغيرون أثاث المنزل المهترئ، فأجابوك بأننا مغتربون، وهذا البلد ليس بلدنا، فلماذا نضيّع فيه فلوسنا، وكأنهم سيعيشون أكثر من عمر وأكثر من حياة!
ولا يقتصر الأمر على المغتربين البسطاء، بل يطال أيضاً الأغنياء منهم. فكم أضحكني أحد الأثرياء قبل فترة عندما قال إنه لا يستمتع كثيراً بفيلته الفخمة وحديقته الغنــّاء في بلاد الغربة، رغم أنها قطعة من الجنة، والسبب هو أنه يوفر بهجته واستمتاعه للفيلا والحديقة اللتين سيبنيهما في بلده بعد العودة، على مبدأ أن المــُلك الذي ليس في بلدك لا هو لك ولا لولدك!! وقد عرفت مغترباً أمضى زهرة شبابه في أمريكا اللاتينية، ولما عاد إلى الوطن بنا قصراً منيفاً، لكنه فارق الحياة قبل أن ينتهي تأثيث القصر بيوم!! كم يذكــّرني بعض المغتربين الذين يؤجلون سعادتهم إلى المستقبل، كم يذكــّرونني بسذاجتي أيام الصغر، فذات مرة كنت استمع إلى أغنية كنا نحبها كثيرا أنا وأخوتي في ذلك الوقت، فلما سمعتها في الراديو ذات يوم، قمت على الفور بإطفاء الراديو حتى يأتي أشقائي ويستمعوا معي إليها، ظناً مني أن الأغنية ستبقى تنتظرنا داخل الراديو حتى نفتحه ثانية. ولما عاد أخي أسرعت إلى المذياع كي نسمع الأغنية سوية، فإذا بنشرة أخبار.
إن حال الكثير من المغتربين أشبه بحال ذلك المخلوق الذي وضعوا له على عرنين أنفه شيئاً من دسم الزبدة، فتصور أن رائحة الزبدة تأتي إليه من بعيد أمامه، فأخذ يسعى إلى مصدرها، وهو غير مدرك أنها تفوح من رأس أنفه، فيتوه في تجواله وتفتيشه، لأنه يتقصى عن شيء لا وجود له في العالم الخارجي، بل هو قريب منه. وهكذا حال المغتربين الذين يهرولون باتجاه المستقبل الذي ينتظرهم في أرض الوطن، فيتصورون أن السعادة هي أمامهم وليس حولهم.
كم كان المفكر والمؤرخ البريطاني الشهير توماس كارلايل مصيباً عندما قال: « لا يصح أبداً أن ننشغل بما يقع بعيداً عن نظرنا وعن متناول أيدينا، بل يجب أن نهتم فقط بما هو موجود بين أيدينا بالفعل».
لقد كان السير ويليام أوسلير ينصح طلابه بأن يضغطوا في رؤوسهم على زر يقوم بإغلاق باب المستقبل بإحكام، على اعتبار أن الأيام الآتية لم تولد بعد، فلماذا تشغل نفسك بها وبهمومها. إن المستقبل، حسب رأيه، هو اليوم، فليس هناك غد، وخلاص الإنسان هو الآن، الحاضر، لهذا كان ينصح طلابه بأن يدعوا الله كي يرزقهم خبز يومهم هذا. فخبز اليوم هو الخبز الوحيد الذي بوسعك تناوله.
أما الشاعر الروماني هوراس فكان يقول قبل ثلاثين عاماً قبل الميلاد: «سعيد وحده ذلك الإنسان الذي يحيا يومه ويمكنه القول بثقة: أيها الغد فلتفعل ما يحلو لك، فقد عشت يومي».
إن من أكثر الأشياء مدعاة للرثاء في الطبيعة الإنسانية أننا جميعاً نميل أحياناً للتوقف عن الحياة، ونحلم بامتلاك حديقة ورود سحرية في المستقبل- بدلاً من الاستمتاع بالزهور المتفتحة وراء نوافذنا اليوم. لماذا نكون حمقى هكذا، يتساءل ديل كارنيغي؟ أوليس الحياة في نسيج كل يوم وكل ساعة؟ إن حال بعض المغتربين لأشبه بحال ذلك المتقاعد الذي كان يؤجل الكثير من مشاريعه حتى التقاعد. وعندما يحين التقاعد ينظر إلى حياته، فإذا بها وقد افتقدها تماماً وولت وانتهت.
إن معظم الناس يندمون على ما فاتهم ويقلقون على ما يخبئه لهم المستقبل، وذلك بدلاً من الاهتمام بالحاضر والعيش فيه. ويقول دانتي في هذا السياق:» فكــّر في أن هذا اليوم الذي تحياه لن يأتي مرة أخرى. إن الحياة تنقضي وتمر بسرعة مذهلة. إننا في سباق مع الزمن. إن اليوم ملكنا وهو ملكية غالية جداً. إنها الملكية الوحيدة الأكيدة بالنسبة لنا».
لقد نظم الأديب الهندي الشهير كاليداسا قصيدة يجب على كل المغتربين وضعها على حيطان منازلهم. تقول القصيدة: «تحية للفجر، انظر لهذا اليوم! إنه الحياة، إنه روح الحياة في زمنه القصير. كل الحقائق الخاصة بوجود الإنسان: سعادة التقدم في العمر، مجد الموقف، روعة الجمال. إن الأمس هو مجرد حلم انقضى، والغد هو مجرد رؤيا، لكن إذا عشنا يومنا بصورة جيدة، فسوف نجعل من الأمس رؤيا للسعادة، وكل غد رؤيا مليئة بالأمل. فلتول اليوم اهتمامك إذن، فهكذا تؤدي تحية الفجر».
لمَ لا يسأل المغتربون عن أوطانهم السؤال التالي ويجيبون عليه، لعلهم يغيرون نظرتهم إلى الحياة في الغربة: هل أقوم بتأجيل الحياة في بلاد الاغتراب من أجل الاستمتاع بمستقبل هـُلامي في بلادي، أو من أجل التشوق إلى حديقة زهور سحرية في الأفق البعيد؟
كم أجد نفسي مجبراً على أن أردد مع عمر الخيام في رائعته (رباعيات): لا تشغل البال بماضي الزمان ولا بآتي العيش قبل الأوان، واغنم من الحاضر لذاته فليس في طبع الليالي الأمان.
تجدُّ إيران في شد الولايات المتحدة إلى جانبها في المعركة الإقليمية الواسعة، تحديدا في سوريا والعراق واليمن وغزة، وكذلك البحرين. وهذه هي المرة الأولى التي يبدل فيها الإيرانيون استراتيجيتهم بعد أن كانت في الماضي تقوم على تحييد القوة الأميركية، بتهديدها أو إخافتها، كما جربت في أفغانستان والعراق ولبنان. اليوم، تتبنى طهران سياسة التقارب مع الأميركيين، وتقدم نفسها على أنها حليف يمكن الاعتماد عليه في حسم، وليس فقط إدارة الأزمات الإقليمية، وكذلك الاتكال عليه كقوة إقليمية في تأمين المصالح الغربية الرئيسية.
وهذا التوجه انقلاب كبير في التفكير الإيراني، ويعبر عن حالة من الاعتراف بفشل السياسة القديمة التي قامت على إثارة القلاقل ضد الشيطان الأكبر، وفرض إيران قوة نووية، الآن هي تتطلع إلى اتفاق شامل مع واشنطن أبرز عناوينه النووي.
لكن لا يزال أمام النظام الإيراني مسافة ليست بالقصيرة عليه أن يسيرها حتى يتمكن من التوصل إلى اتفاق واسع يتجاوز النووي ويجعله شريكا في الأمن الإقليمي. على طهران أن تثبت أنها قادرة ميدانيا على إدارة المعارك وفرض خياراتها السياسية، سواء في مواجهة تنظيمات إرهابية مثل «داعش»، أو تمكين بغداد من فرض سلطتها على كل التراب العراقي، وهزيمة الثوار في سوريا، وإعلاء دور الحوثيين وحلفائهم في اليمن، وتحقيق الاستقرار في لبنان عبر «حزب الله»، وأخيرا ضمان سلوك جيد من قبل حليفتها حركة حماس في غزة.
تحقيق المهمة أكبر من قدرات إيران، لكنها إن نجحت في أزمة واحدة، مثلا سوريا، ستستطيع إطفاء الأزمة في العراق، وليس صعبا عليها تقييد حركة حماس في غزة. والأرجح أن ما يقال عن تقارب أميركي إيراني يبدو صحيحا لكنه مبني على أوهام أن إيران قادرة على حسم القضايا الصعبة، بدعوى أنها أصلا طرف فيها. وفي رأيي ليس صعبا إثبات خطأ التفكير الأميركي الذي يصدق بنفوذ إيران. وحتى تفشل، ولا توهم العالم أنها مفتاح المنطقة الذهبي، وأنها في واقع الأمر ليست إلا طرفا قادرا على التخريب فقط، وفاشلا في إصلاح أي أزمة، حتى نثبت ذلك لا بد من العودة إلى المربع السوري. هذه المعركة تحتاج إلى حسم؛ والإيرانيون يدعون أنهم على وشك تحقيقه، ويقنعون التحالف الدولي، بقيادة الولايات المتحدة، بالتعاون معهم بدعم جيش النظام السوري، بالمعلومات واختيار الأهداف، لضرب الجماعات الإرهابية، وتقزيم الجيش الحر. وهنا نلاحظ أن الجانب الأميركي يستخدم عبارة إجبار الأسد على العودة إلى التفاوض! وهي عبارة مطاطة قد تعني المشروع الروسي الإيراني السابق بالاحتفاظ بنظام الأسد، والأسد رئيسا، مع بعض المناصب الوزارية للمعارضة، والمعارضة هنا نوعان؛ واحدة من اختراع الأسد نفسه مرفوضة تماما من معظم السوريين، والمعارضة الشرعية التي حضرت في مؤتمر جنيف الثاني. إجبار الأسد على التفاوض بدلا من الخروج، يصب في مصلحة إيران، بفرض نظام ملائم لها، يمكنها لاحقا من الهيمنة على العراق ولبنان، وتصبح الدولة شبه الوحيدة التي تملك ضمانات سلامة أمن إسرائيل، وصاحبة كلمة مهمة في اتفاق سلام إقليمي مقبل.
من المهم استيعاب كل المشهد وليس مجرد معاركه المتفرقة، نحن أمام تفكير جديد وانقلاب في السياسة الإيرانية، ونتعامل مع رئيس أميركي، فعلا، مصاب برهاب مشاكل الشرق الأوسط ويريد تحاشيها، ويعتقد أن العرب يعيشون مرحلة خمول، خاصة مع غياب دولهم الكبرى. وربما صار الرئيس باراك أوباما مستعدا لأي صفقة مريحة، لهذا تنازل كثيرا لإيران من خمسمائة جهاز طرد مركزي إلى 3 أضعاف هذا الرقم، ومستعد لرفع العقوبات عن إيران دون المرور على الكونغرس، بما يُبين رغبته الشديدة في التوصل إلى اتفاق سريع. ونحن ندرك أنه سيحصل على نصر إعلامي، بأنه إنجاز تاريخي لكنه اتفاق سيطلق عنان نظام إيران، الذي هو مصدر شرور المنطقة منذ عام 1979. وسيكتشف الأميركيون لاحقا أنهم مكنوا الفوضى والقوى الشريرة من كل المنطقة!
على المعسكر العربي أن يفكر جديا في خطورة تبعات ما يحدث. هذه ليست مؤامرة بل لعبة شطرنج، وسوريا حجر أساسي فيها، وهي في نظري منطقة الضعف في الاستراتيجية الإيرانية التي يصعب عليها النجاح فيها، رغم كل ما تدعيه. فسوريا، بخلاف العراق، 80 في المائة من سكانها ضد أي نظام موالٍ لإيران، برئاسة الأسد أو غيره. والنظام لا يحكم اليوم سوى أقل من ثلث البلاد. والجيش الحر، رغم ما أصابه من تهشيم، نفذه بجدارة تنظيما داعش وجبهة النصرة، يبقى المعسكر القتالي الوحيد المؤهل للتطوير والحكم لاحقا، ويمثل مكونات الشعب السوري بأطيافه. بدعمه، ودفعه، ستضطر الولايات المتحدة للتعامل معه، وسيفشل مشروع إيران بالسيطرة على دمشق، وستضعف تلقائيا في لبنان والعراق. لكن، وبكل أسف، لاحظنا تراجع الدعم للجيش الحر إلا من الوعود الأميركية، التي، حتى وإن ثبت تحقيقها لاحقا، ستكون مشروطة على «الحر» بالقبول بصفقة حكم جائرة في دمشق، أي ستضعف «الحر» ولن تخدم أهدافه؛ سيكون مجرد كتيبة عسكرية في المشروع الإيراني الأميركي لسوريا الجديدة.
وهنا على الدول العربية التي تحاول شق الائتلاف والجيش الحر، وكذلك تركيا، أن تدرك أنها ترتكب خطأ سياسيا جسيما، والنتيجة ستمكن الإيرانيين من دمشق، كما مكنوا «حزب الله» من بيروت في سنوات العقد الماضي، والتي يدفع ثمنها اللبنانيون والعرب إلى اليوم بكل أسف. لقد ضربتم الاعتدال اللبناني قبل 10 سنوات، والآن تضربون المعارضة السورية المدنية المعتدلة.
العالم كله وعلى رأسه الأمم المتحدة وأمينها العام بان غي مون أُستنفر لمواجهة خطر أبيولا المزعوم الذي لم يقتل سوى أميركياً واحداً حتى الآن.. تحركت الدول وشركات الطيران والمطارات وشركات الأدوية أولاً وأخيراً إذ إنها الهدف الأول والأخير ربما من وراء هذه الحملة المستعجلة وبدأت التقارير تتحدث عن إنتاج عقار لهذا المرض، لكن لن يكون ولوجه السوق قبل نهاية العام المقبل، ورُصدت المليارات لمواجهة خطر أبيولا، لم ينس العالم كله ظهور مرض انفلونزا الدجاج قبل سنوات المفاجئ تماماً كاختفائه؟!!.
ربما غدا اسم أبيولا خلال أيام على لسان الغربيين وغيرهم أشهر من طاعون الأسد الذي فتك بشعبه وبجواره وبالعالم كله على مدى سنوات، لم يأبه أحد طوال سنوات الدم والقتل والخراب التي ألمت بالشام وأهلها بتجريد حملة عالمية لمواجهته وحصره على الأقل في الشام قبل أن يتمدد إلى لبنان وتركيا والعراق وغيرها، لكن العالم كله جرّد حملة بموازنة خرافية قدر أمدها وزير الدفاع الأميركي السابق ليون بانيتا بثلاثين عاماً لمواجهة تنظيم الدولة الذي لم يفعل عشر ما فعله طاغية الشام من قتل لربع مليون شخص وجرح مليون وتدمير أكثر من مليوني مسكن بنسبة تقدر بـ 60% من سوريا، وفوق هذا تشريد أكثر من 10 ملايين شخص، واجهه العالم بحشد 60 دولة لكن للفتك بتنظيم الدولة وليس بالطاعون وبأصل المرض وإنما بعرضه، وتسارع صدور القرارات الدولية المؤيدة لتدميره، واختفت معها كل أصوات الفيتو رغم أن القرار 2170 ينص على وقف تدفق كل المليشيات إلى الشام والعراق ولكن ما دامت المليشيات الإيرانية من أهل البيت فلا تثريب ولا قصف عليها..
طاعون الأسد الذي هشم النسيج المجتمعي لسوريا، امتد ليفتك بالعراقيين وبالأتراك أيضاً عبر التحريض عليهم وجرهم إلى مواجهة مع العالم كله من خلال سيده الحصري إيران، وسبقه زحف الطاعون الأسدي على لبنان، فيحق للبنانيين أن يدعموا ويساندوا ويجاهروا بالوقوف إلى جانب الإجرام الأسدي؟ ولكن حين يقرر بعضهم الوقوف إلى جانب الثورة والثوار، والسوريين حتى ولو بدعمهم في إبقائهم على قيد الحياة من خلال استقبالهم كمهاجرين أو تمرير بعض المساعدات الإنسانية لهم فهذه جريمة يجب أن يعاقب عليها صاحبها، بل وتستدعي دخول الجيش على الخط لصالح حزب الله الذي أسر البلد كله لمشروع الأسد، وعطل انتخاب رئيس للجمهورية على مدى أربع عشرة جلسة برلمانية، وضرب بعرض الحائط قرارات دولية ووطنية في نزع سلاحه ورفضه الانسحاب من سوريا حيث ورط فيها لبنان كله وخالف بذلك الإجماع اللبناني ..
أي الطاعونين أخطر وأي الطاعونين سيلحقان أفدح الضرر بالانسانية كلها وبأرضيتها الأخلاقية التي صمتت على هولوكوست السوريين لسنوات إما بالوقوف إلى جانب الأسد كحال إيران وروسيا والصين والعراق ولبنان وغيرهم، أو بالوقوف ضد الثورة والسوريين من خلال حرمانهم من أبسط حقوقهم في الحصول على مضادات جوية يحمون بها مدنهم التي تُدك يومياً على مرأى ومسمع من العالم كله، وللتاريخ لو أن السوريين حصلوا على المضادات الجوية منذ اليوم الأول لما رأى العالم اليوم دمار مدن السوريين فألجأتهم إلى الهجرة، ولكنه الحقد العالمي على الشام، فإن كان السوريون سيتذكرون الفيتو الروسي الواقف جداراً صلداً لدعم الأسد، فإنهم سيتذكرون كذلك الفيتو الأميركي بحرمانهم من المضادات الجوية..
أخيراً كعادة القوى العالمية في حرف المسار من الأسد إلى أبيولا، فقد نجحت بحرف الأنظار عن الأسد إلى تنظيم الدولة "داعش" وعين العرب ـ كوباني، وكأن الوضع السوري قد استتب واستقر ولم يعد للعالم ما يُشغله سوى عين العرب وكوباني، في حين الكل يعلم أن حزب الاتحاد الديمقراطي هو الوليد الشرعي لحزب العمال الكردستاني التركي والذي كان يُمسك بالوضع في عين العرب قبل هجمات تنظيم الدولة، هو الحزب المتحالف للعظم مع نظام الأسد، وبالتالي ما يفعله التحالف الدولي ليس فقط حرفاً للبوصلة من قتال الأسد إلى قتال تنظيم الدولة، وإنما للأسف اصطفاف كامل إلى جانب حلفاء الأسد وإنقاذهم، وإلا فلم عدم القبول بالشروط التركية المتمثلة في مقاتلة التحالف للأسد أسوة بقتال تنظيم الدولة، إن كانت ادعاءات أكثر من 114 دولة تدعي الصداقة للثورة وللسوريين ضد الأسد؟!...
باختصار ... خذوا كل من يُسمون بأصدقاء الشعب السوري الذين قُدر عددهم بأكثر من 114 دولة وأعطوا السوريين صديقاً واحداً كصديق النظام السوري مثل إيران وروسيا وسترون العجائب في سرعة سقوط نظام الاستبداد..
الوقائع تقول، بصوت مسموع، إن الطريق لإفساد الثورات العربية يبدأ من المعسكر الأميركي الصهيوني، ويمر بجامعة الدول العربية، ولا ينتهي عند جنرالات الانقلابات العسكرية.
عد بالذاكرة إلى الوراء، ستكتشف أن أول مسمار دق في نعش الثورة السورية -التي لا تزال تقاوم- جاء من ذلك المبنى الكئيب في ميدان التحرير بالقاهرة، مقر الجامعة، التي أخذت على عاتقها، منذ البداية، مهمة تحويل الثورة الشعبية إلى عملية إصلاحية، ومحاولة إذابة المد الثوري الهادر في حمض كبريتيك المفاوضات .
والحاصل أننا بصدد حقيقة ملموسة تقول إن الأمين العام للجامعة العربية، نبيل العربي، ظهر منحازاً لانقلاب السيسي، المحمول فوق ظهر ثورة مضادة في مصر، للإجهاز على ربيع يناير، ومن ثم من السذاجة توقع مسار مغاير حال دخول الجامعة على خط الثورة السورية هذه الأيام.
والمدقق في الخبر الذي نشره موقعنا، أمس، عن منع السلطات المصرية دخول الأمين العام لائتلاف الثورة السورية، نصر الحريري، وعضو هيئته السياسية، خالد الناصر، وإعادتهما على الطائرة ذاتها التي حملتهما إلى مطار القاهرة، مع السماح لرئيس الائتلاف، السيد هادي البحرة، بالمرور، بناء على دعوة من الجامعة العربية، سيكون أمام احتمالين لا ثالث لهما: الأول إن القاهرة ليست مجرد دولة مقر للجامعة، بل صاحبة ولاية ووصاية عليها، تفرض عليها أن تستقبل هذا وتمنع ذاك. والاحتمال الثاني أن يكون المنع تم بناء على رغبة الجامعة العربية، وأنها طلبت من السلطات المصرية إغلاق الباب في وجه الضيفين وإعادتهما إلى حيث أتيا.
إن الخلط بين الجامعة العربية والحكومة المصرية بلغ حداً جعل الناس في التباس شديد، بشأن ذهاب وفد الائتلاف السوري للقاهرة، فمن ناحية، تروج وسائل إعلام تابعة لانقلاب السيسي أن مبادرة مصرية مطروحة للحل في سورية، ومن ناحية أخرى، تؤكد مصادر الائتلاف، مثل الدكتور أحمد طعمة، رئيس الحكومة المؤقتة، إن الزيارة كانت بدعوة من الجامعة العربية.
ومن المهم، هنا، التذكير بتصريحات نقلتها وكالة أنباء الأناضول، منذ فترة، عن السيد هيثم المالح، رئيس اللجنة القانونية في الائتلاف السوري، والتي قال فيها إن الائتلاف "لديه معلومات حول قيام القيادة المصرية بالتحري عن بعض الشخصيات المعارضة" السورية من أجل "إعداد مبادرة" لحل الأزمة"
وتقول لنا التجربة العملية إن السلطة المصرية تضطلع بدور الوكيل الحصري لإجهاض الربيع العربي ودفنه، كما فعلت في القاهرة، وتحاول أن تفعل الآن في ليبيا، وتشارك بالصمت على الانقلاب الطائفي في اليمن، وكل ذلك بتنسيق وتعاون مع الجامعة العربية التي تخلى أمينها العام، في لحظةٍ، عن دوره كلاعب إقليمي، إلى لاعب محلي في فريق السيسي.
في التجربة الليبية، لم يقف دور مصر الانقلابية بالتعاون مع الجامعة عند حدود الرعاية عن بعد، بل صار معلوماً من الاستراتيجية بالضرورة أن التدخل المصري في الحرب ضد الثورة الليبية تجاوز الإمداد بالمعدات والذخائر لجحافل الثورة المضادة، وقطع شوطاً أبعد من توجيه ضربات جوية مكثفة، إلى الانخراط في القتال على الأرض، من خلال إرسال قوات بشرية، تحارب في صفوف الثورة المضادة.
وبناء على ما سبق، لا بد أن يعي الأشقاء في الثورة السورية خطورة الاستجابة لمبادرات ملغومة من السلطة في مصر، تهدف إلى صناعة مشهد مماثل لما يدور على الأرض في ليبيا، وتبحث عن "حفاترة"، للقيام بمهمة قتل ثورةٍ قدمت أكثر من مائة وعشرين ألفا من الشهداء حتى الآن.
ينبغي القول، منذ البدء، إن داعش والتحالف الدولي خيار واحد متبلور ومكتمل الأركان، وقطعاً ليس لنا أن نختار بينهما، ففي اللحظة التي نختار أحدهما نكون قد اخترنا وجهاً من وجهي عملة واحدة، تلزمنا، شئنا أم أبينا، أن نرى الوجه الآخر لها، ونرضى بتداوله بيننا. هو خيارواحد يجمع بين التخلف والإقصاء وتفتيت المنطقة والاتجاه نحو إحلال التفسير المشوه للمذهب مكان الدين الواحد، وتقسيم الوطن وأبنائه دويلاتٍ بحجم المِلل التي تتقاتل والنحل التي تتوالد. ويسمح بنهب مواردها، وتجفيف ينابيعها وسيادة الديكتاتورية والطائفية والاستبداد فيها. وجهان للعملة نفسها، كل منهما يمد الآخر بأسباب قوته واستمراره في طغيانه، ويدفع الآخرين نحو الاستقطاب باتجاه قطبين في عملية كيميائية بسيطة، من دون وجود أحدهما لا تكتمل المعادلة، ولا تتم.
هما طرف واحد، نعم. ليس لأن داعش صناعة أميركية، كما يحلو لبعضهم أن يبسط الأمور ويشرحها. وقد قيل عنها، قبل ذلك، إنها من صناعة مخابرات الأسد وغيرها من الأجهزة الأمنية، أو أنها حظيت بتمويل وتوجيه من بعض دول الخليج. قد تتمكن أطراف من توجيه داعش، وجرها عبر سياساتها إلى المربع الذي تريد، أو المعركة التي تختار. وهو شيء معروف في علم السياسة والحرب، أن تتمكن من دفع خصمك إلى الزاوية التي تريده أن يكون فيها.
داعش هي صنيعة الاستبداد وأنظمته، ونتاج للطائفية والمذهبية، وإقصاء الآخر وتهميشه، وغياب العقل وانحراف الرؤية عن العدو الرئيسي. هي صنيعة تلك السياسات التي بدأت بشعار إقصاء البعث في العراق، وطالت أكثر من مليون ونصف المليون مواطن، وحل الجيش العراقي الوطني الذي أصبح خيرة ضباطه وجنوده في صفوفها. ثم امتدت سياسات الإقصاء لتطال أقساماً كبيرة من الشعب، ضمن منظور طائفي غريب عن أمتنا ووحدتها. داعش صنيعة حرب أهلية في سورية طالت الأخضر واليابس، في أكبر كارثة عربية منذ نكبة فلسطين وأهلها. في هذه الحرب الأهلية المجنونة، حلت الكوابيس مكان الحلم بالحرية وبغد أفضل وبوطن حر. في هذه الأجواء، نمت داعش وازدادت قوة، وستنمو أكثر في ظل القصف الجوي والصاروخي الأميركي.
يقول التحالف (60 دولة) إنه يحتاج بين ثلاث إلى ست سنوات لإضعاف داعش، إضعافها فقط، ثم يحتاج إلى عدد غير معلوم من السنين للقضاء عليها، هي وصفة لحرب مفتوحة مستمرة، لا أفق لها في منطقتنا. وقد تمتد لتشمل أجزاء أكبر من حلمنا الذي يئن بين التحالف وداعش. تصرفات داعش وذبحها وسبيها مبرر لاستمرار الهجمة على منطقتنا، ليس للقضاء على داعش، والتي إذا تم القضاء عليها يختفي مبرر وجود التحالف، وتبحث الشعوب ساعتها عن خياراتها، وإنما لحماية الاستبداد، وتقسيم المقسم وتفتيته، وترسيخ الكيان الصهيوني جزءاً أساسياً من منظومة المنطقة، وتحالفات أنظمتها، وامتصاص ما تبقى من خيراتها ومواردها.
داعش ستنمو تحت ضربات التحالف التي تأتيها من السماء، وتمنحها مبرراً لوجودها، من دون أن تنال منه، وستفرخ دواعش أخرى، وتمتد لتحارب خصوماً صنعتهم هي بأيديها. وهي، حتى الآن، لم تقاتل سوى ملتها، ولم تحتل أرضاً، خصوصاً في سورية، إلا وكان يسيطر عليها حلفاء الأمس وأعداء اليوم. وفي نهجها أن من لم يبايع خليفتها هو عدو لها، وحكمه حكم المرتد، وقتاله أولى من قتال الأعداء. أعداء التحالف ليسوا أصدقاءها، وليست معنية بصداقتهم أو بكسبهم. هي مشروع لقتال في جبهتنا الداخلية، بل، وفي حاضنتها الأولى التي تشكلت بفعل الإقصاء الطائفي والمذهبي والحرب الأهلية. ترتد عليها لتقسم المذهب، وتفتت الطوائف، وتمزق نسيج الأمة، المتوحد بكل أديانها وطوائفها وقومياتها ومذاهبها.
"حتى الآن، لم تقاتل داعش سوى ملتها، ولم تحتل أرضاً، خصوصاً في سورية، إلا وكان يسيطر عليها حلفاء الأمس وأعداء اليوم"
نحن أمام إعادة تشكيل لمنطقتنا، بل ولهويتنا الحضارية، ولحاضرنا ولمستقبلنا، يتفق عليه ضمناً الدواعش والتحالف، ويكمل كل منهما دور الآخر، في تحالف تاريخي بين الاستبداد والقهر والاستعمار والتخلف. ويقود الأمة بأسرها إلى كارثةٍ محققةٍ، قد تفضي إلى انتهائها كأمة ذات حضارة وتاريخ مستمرين نحو مستقبل مجهول عواقبه. وهنا، ثمة سؤال يتفجر في الذهن، هل هذا هو قدرنا ومصيرنا؟ أم أن ثمة خيار آخر لنهوض الأمة، وتطلعها نحو مستقبل يزخر بالحرية والوحدة والأمان؟
في ظني ويقيني أن ثمة خياراً ثانياً لا بديل عنه، وقد يكون وحيداً أمام كل المتطلعين إلى رؤية وطنهم على امتداده حراً سيداً موحداً، وله مكانته الطبيعية بين الأمم. ينطلق هذا الخيار من ضرورة وحدة كل القوى الحية في وطننا العربي، على اختلاف مشاربها السياسية ومنابعها الفكرية، على قاعدة محاربة الاستبداد والفساد وحق الشعوب في الحرية، والتخلص من التبعية للأجنبي، ومساواة مواطنيها على اختلاف أصولهم وطوائفهم ومذاهبهم، ومحاربة الإقصاء والمغالبة والتأكيد على أن أمتنا ما زالت في مرحلة التحرر الوطني والبناء، ما يستدعي تشكيل جبهات وطنية عريضة في شتى المناحي، من أجل تحقيق الأهداف المشتركة، وتغليب التناقضات الرئيسة، دوماً، على الثانوية منها. هذه الأهداف لا يمكن أن تتحقق، أو تتحد الأمة وقواها حولها، إلا إذا كانت فلسطين ومحاربة الكيان الصهيوني فيها والنفوذ الإمبريالي في منطقتنا في القلب منها، وأساساً متيناً لانطلاقها، باعتبارها قضية عربية جامعة، توحد ولا تفرق، وتمنع العدو من التوغل في عمق أمتنا، وتضع أمامها عدوها الحقيقي لمقاتلته، وتوجيه كل أسلحتها نحوه، بدلاً من الأهداف الوهمية الزائفة التي تغرر بشباب الأمة، وتمعن فيها اقتتالاً وتفتيتاً وتقسيماً.
هذا هدف جمعي للأمة بأسرها، إن أرادت الإفلات من واقعها المرير، والتخلص من ثنائية داعش والتحالف، والتقدم خطوات نحو الأمام، وهو، بلا شك، يحتاج إلى برامج وسياسات ورؤى وأهداف أكثر تفصيلاً، قد يكون موضوعها في حلقات ودراسات وأنشطة أخرى نساهم فيها جميعاً.
في مسعى منها لحشد أكبر عدد ممكن من الحلفاء الإقليميين السنة ضمن التحالف الدولي لمحاربة "داعش" (تنظيم الدولة الإسلامية) ومن شايعه، لم تتورع واشنطن عن توجيه رسائل طمأنة بشأن عدم إشراك نظام الأسد في هذا التحالف أو حتى السماح له بالاستفادة من العمليات والإجراءات التي سيضطلع بها للقضاء على "داعش" وأعوانه في العراق وسوريا.
تطمينات أميركية
وفي هذا الإطار، أكد مسؤول بإدارة أوباما أن بلاده لن تعمل مع نظام الأسد، لملاحقة "داعش"، لأنه ليس لديه أي شرعية لدى السنة، واستبعد المسؤول تمكن النظام السوري من ملء الفراغ بالمناطق التي سيتم إنهاء وجود الإرهابيين فيها، نظرا لأنها ذات أغلبية سنية، على حد تعبيره، لافتا إلى أن المعارضة السورية المعتدلة هي التي ستتولى ملأ هذا الفراغ، حال تراجع قوة "داعش" بهذه المناطق.
في غضون ذلك، أكدت مصادر غربية مسؤولة أن دولا عربية حصلت على ضمانات خطية من واشنطن بأن النظام الأسدي لن يستفيد من الحرب على "داعش" ولن يسمح له بالتقدم لملء الفراغ الناجم عن قصف مواقعه، وهو الأمر الذي أعاد الرئيس الفرنسي فرانسوا هولاند تأكيده للمعارضة السورية في نيويورك.
هواجس المعارضة
غير أن مثل هذه التطمينات والضمانات الأميركية للحلفاء الإقليميين السنة بعدم السماح للأسد باستثمار الحرب على "داعش" لتحقيق مآربه، لم تكن لتحول دون استبداد طوفان من الهواجس والشكوك بالمعارضة السورية.
"التطمينات والضمانات الأميركية للحلفاء الإقليميين السنة بعدم السماح للأسد باستثمار الحرب على "داعش" لتحقيق مآربه، لم تكن لتحول دون استبداد طوفان من الهواجس والشكوك بالمعارضة السورية"
فمن جهة، ما برحت تلك التطمينات والضمانات تفتقر لأية ترتيبات محددة أو إجراءات واضحة لتنفيذها على أرض الواقع، فرغم تأكيد مسؤول في الإدارة الأميركية لصحيفة "النيويورك تايمز" الأميركية أن بلاده لا تنوي تسهيل الأمور للأسد لاستعادة السيطرة على المناطق التي يخليها الإرهابيون، فإنه شدد على أنه ليست هناك خطط محددة حتى الآن لمنع نظام الأسد من تحقيق ذلك، كما لا توجد نيات أميركية واضحة لمواجهة قواته إذا ما أقدمت على خطوة من هذا النوع.
وفى حين أبى أوباما الانتفاض لإسقاط نظام الأسد رغم تجاوزه الخط الأحمر نهاية أغسطس/آب عام 2013 عندما استخدم الغاز السام ضد المدنيين في الغوطة بريف دمشق، ما أسفر عن مقتل 1400 مدنى سوري، ومضى الرئيس الأميركي في تجاهل طلب من السيناتورين الأميركيين ليندسي غراهام وجون ماكين، بضرورة التحرك لضرب نظام الأسد، جاء التحرك الدولي متأخرا وهزيلا ضد "داعش"، متلافيا التعرض لأية أهداف تخص النظام السوري، رغم أنه مسؤول عن ظهور التنظيمات الإرهابية ومقتل أكثر من 170 ألف مواطن سوري وتشريد الملايين في دول الجوار وأوروبا.
وكان من شأن اختزال الأزمة برمتها في "داعش" وحده أن أفسد ما تبقى من إرادة سياسية غربية للإطاحة بنظام الأسد، خصوصا مع إصرار أوباما وحلفائه على رفض المطلب التركي بأن تشمل الحرب على "داعش" إسقاط الأسد باعتباره السبب الرئيس لظهور التنظيم وغيره من التنظيمات الإرهابية وتوسعها.
وقد كشف نائب الرئيس الأمريكي جوزيف بايدن عن عمق الخلاف بهذا الخصوص عندما اتهم حلفاء إقليميين كالسعودية وتركيا والإمارات، بأنهم المسؤولون قبل إيران والنظام السوري، عن تفشي التنظيمات الإرهابية في سوريا (رغم اعتذاره لاحقا عن تلك التصريحات).
ومن جانبها، لا تعول المعارضة السورية كثيرا على غارات التحالف الدولي، حيث ندد رياض الأسعد، أحد مؤسسي الجيش الحر، بتلك الغارات معتبرا أنها تجهز على المدنيين وقوات المعارضة، إذ تستهدف الغارات الليلية منها في محافظتي إدلب وحلب الشماليتين كتائب إسلامية تقاتل الأسد ضمن صفوف الجيش الحر، وحذر من إمكانية استفادة قوات الأسد منها عبر استعادة ما فقدته من الأراضي خلال العامين الماضيين، علاوة على ملء الفراغ الذى سيتمخض عن سقوط "داعش "، الأمر الذى يجعل من التحالف الدولي في نظر الشعب السوري منقذا لنظام الأسد.
ولكم تعددت الإشارات التي تضفي غموضا على الموقف الأميركي إزاء الأسد، فمن رفض التدخل عسكريا لإسقاطه رغم فداحة جرائمه، مرورا بشائعات التنسيق معه في حرب "داعش".
ومع بدء الغارات الجوية أعلنت الخارجية السورية أن الوزير وليد المعلم تلقى قبل بدء الضربات بساعات قليلة رسالة من نظيره الأميركي جون كيري عن طريق وزير خارجية العراق قال فيها إن واشنطن وحلفاءها سيقصفون تنظيم الدولة في سوريا، كما نقلت وكالة "رويترز" عن سفير سوريا لدى الأمم المتحدة بشار الجعفري قوله إن سفيرة واشنطن لدى المنظمة الدولية سامانثا باور أبلغته بضربات جوية وشيكة ضد تنظيم الدولة في سوريا.
ورغم أن واشنطن قد نفت ذلك بشدة، فإنها عادت واعترفت لاحقا بأنها أخطرت النظام السوري سابقا باعتزامها توجيه ضربات لـ"داعش" بغية تحذيره فقط من مغبة التعرض للمقاتلات الأميركية.
وفى كلمته أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة الشهر الماضي، أطلق أوباما قذيفة من العيار الثقيل حينما أبدى عدم ممانعته اضطلاع قوات الأسد بمهمة ملء الفراغ الناجم عن سقوط "داعش" وأنصاره، مشددا على أن حل الأزمة السورية سياسي بامتياز.
كما أكدت مصادر أميركية عقب ذلك موافقة واشنطن على أن يكون الجيش والنظام السوريين شركاء مستقبليين لدى الوصول إلى الحل السياسي حتى أنها طالبت بعدم قصف مواقع النظام أو المراكز والأهداف العسكرية بالمناطق الخاضعة لسيطرته، وهوما تزامن مع إشادة قيادات عسكرية أميركية بعدم تعرض الدفاعات الجوية السورية للطيران الحربى الدولي الذى يوجه الضربات لـ"داعش".
"اختزال الأزمة برمتها في "داعش" وحده أفسد ما تبقى من إرادة سياسية غربية للإطاحة بنظام الأسد، خصوصا مع إصرار أوباما وحلفائه على رفض المطلب التركي بأن تشمل الحرب على "داعش" إسقاط الأسد باعتباره السبب الرئيس لظهور التنظيم "
ورغم موافقته المتأخرة على برنامج لتدريب وتجهيز آلاف من المعارضة السورية المعتدلة بالسعودية وتركيا، وتخصيص إدارته نصف بليون دولار لهذا الغرض على مدى عام كامل، لم يبد أوباما أية التزامات فيما يخص التسليح، ما يشي بأن أوباما يرى أن "داعش" أكثر خطرا على بلاده والعالم أجمع من النظام السوري وروسيا وإيران وميليشياتها الشيعية المنتشرة في ربوع العراق وسوريا بل وغالبية دول المنطقة.
وفى حين يرى الأتراك أنه لا يمكن منع النظام السوري من استثمار الحرب على "داعش" من دون تحييد سلاحه الجوي عبر فرض منطقة آمنة وحظر جوى بشمال سوريا، لا تزال إدارة أوباما مصرة على تجاهل هذا المطلب، رغم أن هناك قرارا أمميا لمجلس الأمن الدولي، بالإجماع، برقم 2178، تحت بند الفصل السابع، يمهد لذلك إذ يقضي بالتصدي للمجموعات الإرهابية بسوريا، كـ"داعش" وجبهة النصرة وحزب الله، وكافة الميليشيات الشيعية التي تقاتل دفاعا عن الأسد.
رهانات الأسد
لعل الأسد يركن في مساعيه للاستفادة من الحرب على "داعش" إلى عدة اعتبارات أهمها: أن تفاقم خطر التنظيم وإعلانه دولة خلافة إسلامية تمتد إلى فلسطين يغذى مخاوف إسرائيل وحلفائها الغربيين، وهنا تكمن أهمية استبقاء نظامه بوصفه حام لإسرائيل وضامن لبقائها.
فمع بدء الثورة السورية، أعلن رامي مخلوف -ابن خالة بشار الأسد- بأنه إذا اهتز أمن النظام الأسدي فإن إسرائيل لن تنعم بالأمن، وبعد ثلاثة أعوام كرر مساعد وزير خارجية إيران للشؤون العربية والأفريقية حسين أمير عبد اللهيان ذات التصريح بكلمات أخرى، حيث حذر قبل أيام من أن "أي عمل خبيث وأسلوب خاص بذريعة مكافحة "داعش" والذي من شأنه أن يؤدي إلى تغيير جذري في سوريا سيرتب على التحالف وأميركا والصهاينة عواقب وخيمة"، الأمر الذى يطوى بين ثناياه إقرارا إيرانيا، بأن الأسد وإيران يلعبان دورا محوريا في ضمان أمن إسرائيل بغض النظر عن خطاب "الممانعة" و"المقاومة" الذى طالما تشدقا به.
ويحاول الأسد كذلك الاستفادة من استمرار انتصارات "داعش" العسكرية في العراق وسوريا، وتزايد أعداد مقاتليه محليا ودوليا رغم ما يخسره في المعارك، ورسوخ حكمه وسيادته في المدن والبلدات التي يسيطر عليها مع قبول سكان الكثير منها العيش في ظل حكمه، رغم ملاحقته من قوى التحالف الدولي والقوات الحكومية السورية المدعومة من روسيا وإيران إضافة للمجموعات المسلحة الكردية وغير الكردية، من أجل إفزاع المجتمع الدولي من مخاطر التنظيم وتهديداته وصرف أنظار العالم عن جرائم الأسد.
وبينما يستند رفض واشنطن للتنسيق مع الأسد في الحرب على "داعش" إلى تطلع لأنْ تشكل المعارضة السورية المعتدلة "بديلا" للأسد وأن تملأ الفراغ المترتب على سقوط "داعش" وأن تدفع الإستراتيجية الأميركية في مرحلة لاحقة إلى تشكيل حكومة وحدة وطنية تضم جميع المكونات الطائفية والعرقية والسياسية السورية، أسوة بالنموذج العراقي وفق معادلة "لا غالب ولا مغلوب"، تطل برأسها تحديات تحول دون تنفيذ هذا السيناريو أبرزها: تشكيك دوائر أميركية في توفر عناصر المعارضة السورية المعتدلة التي يمكن الاعتماد على قدراتها والوثوق بولاءاتها وتوجهاتها.
وفيما يشكل ضعف المعارضة السورية وانقسامها تحديا أمام توفير "القوة الثالثة" التي اقترحتها تركيا كفصيل ثالث ما بين "داعش" وقوات الأسد، لا يزال الدعم الروسي والإيراني للأخير مستمرا، كما تلوح روسيا والصين بمعارضة إقامة منطقة عازلة أو "آمنة" على الحدود السورية التركية، الأمر الذى يدفع أوباما للاعتماد على بدائل أخرى كأكراد سوريا والعراق أو ربما استبقاء الأسد نفسه باعتباره أفضل الخيارات السيئة المتاحة أمام واشنطن.
"فيما يشكل ضعف المعارضة السورية وانقسامها تحديا أمام توفير "القوة الثالثة" التي اقترحتها تركيا، لا يزال الدعم الروسي والإيراني للأسد مستمرا، كما تلوح روسيا والصين بمعارضة إقامة منطقة عازلة أو "آمنة" على الحدود السورية التركية"
وفى خضم تلك الحسابات المعقدة، تسنى للأسد انتزاع مكاسب عديدة من الحرب على "داعش"، فإلى جانب الترويج لأن سقوطه سيهدد أمن إسرائيل ويعطل مساعي التقارب الأميركية الإيرانية ويفخخ المنطقة برمتها، تساعد هذه الحرب على إنجاح إستراتيجيته القائمة على تفنيد ادعاءات خصومه ومعارضيه بأنه مصدر كل الشرور، إضافة إلى التخلص من أي معارضة معتدلة لحكمه عبر وصمها بالإرهاب، وإقناع العالم بأنه لا يواجه ثورة شعبية وإنما إرهابا إسلاميا يشكل عدوا مشتركا له وللغرب في آن، ومن ثم هرع الأسد لإعلان دعمه لأي جهد دولي يصب في محاربة الإرهاب مهما كانت مسمياته سواء "داعش" أو "جبهة النصرة" أو غيرهما.
ميدانيا، نجح الأسد في استغلال الغارات لتكثيف عدوانه على المدنيين العزل توخيا لتغيير مجريات المعارك على الأرض مع المعارضة لمصلحته، حيث ذكرت صحيفة "واشنطن بوست" الأميركية أنه بدأ يزيد من ضرباته الجوية ضد معاقل الجيش الحر كما بدأ ينجح في استعادة بعض المواقع التي فقدها في السابق، ما من شأنه أن يساعده على تقليص الانتقادات اللاذعة من جانب أتباعه جراء فقدان أراضي أو مقتل جنود نظاميين أو أسرهم من قبل المعارضة المسلحة.
وفى مسعى منه لخلط الأوراق توطئة لافتعال فرصة للتصالح مع المجتمع الدولي، عمد نظام الأسد إلى الترويج لوجود تنسيق بينه وبين التحالف الدولي لمحاربة "داعش"، حيث أوردت صحيفة "الوطن" السورية الموالية للأسد أن "القيادة العسكرية الأميركية باتت في خندق واحد مع قيادة الجيش السوري في الحرب على الإرهاب داخل سوريا وعلى حدودها الشرقية والجنوبية الشرقية، حتى لو رفضت واشنطن ودمشق مثل هذا التشبيه، لأنه يتعارض مع توجهات رأيهما العام، إلا أنه واقعي وحقيقي".
وأضافت الصحيفة أن "الجيش السوري سيستفيد حتما من الضربات الجوية الأميركية، خاصة أنه الأقوى على الأرض ولديه قدرة ومرونة في التحرك الميداني، وهو الذي سيقيم نتائج الضربات الجوية الأميركية وما إذا كانت حققت هدفها أم لا".
نشأت الدولة الحديثة في المشرق العربي، كما حصل في معظم بلدان العالم، بذرة، أو مشروعاً استقطب اهتمام النخب الجديدة، التي حرر تفكيرها وتطلعاتها انحطاط الامبرطورية. ودفع الطموح إلى ملاقاة العصر في قيم الحرية والكرامة الإنسانية، التي بثتها الثورات السياسية في أوروبا، النخب الجديدة إلى جعل الدولة الحديثة مركز استثمارها الرئيسي، السياسي والفكري والمادي. ومن خلال هذا الاستثمار في الدولة، وبواسطتها، تجاوزت المجتمعات هيمنة الولاء الطائفي والعشائري والمناطقي التقليدية، ودخلت في مناخ المواطنة وفكرة العدل والمساواة والقانون. لكن، الدولة وعملية التحرر السياسي للأفراد لا تقوم في الفراغ، وإنما داخل بيئة إقليمية ودولية، وليس من الممكن فهم المصير، الذي آل إليه مشروع الدولة الحديثة في المشرق العربي، من دون فهم هذه البيئة الإقليمية، وما وضعته في طريق بناء دولة المواطنة الحديثة من عقبات ومصاعب، كان لها النصيب الأكبر في إجهاض المشروع بأكمله، والتراجع عنه نحو مناخات قروسطية، بالمعنى الحرفي للكلمة.
شكل موقع المشرق العربي الجيوسياسي، كنقطة تقاطع بين القارات الثلاث وحضاراتها، مركز جذب دائم للامبرطوريات الكبرى، منذ أقدم العصور. وباستثناء الحقبة التي أصبح فيها مركزا لامبرطورية مستقلة، في إثر الفتوح الإسلامية، كان المشرق عرضة لغزوات واجتياحات متقاطعة من الشرق والغرب والشمال والجنوب، على مر التاريخ. وقد تضاعفت أهميته الاستراتيجية أكثر، مع تشكل الامبرطوريات الاستعمارية منذ القرن الثامن عشر، والتنازع الذي رافقها على الممرات ومناطق النفوذ. لكن، تحولت السيطرة عليه إلى هدف أول للدول الكبرى في العصر الحديث، بعد شق قناة السويس طريقاً مائية استراتيجية، ثم اكتشاف النفط بكميات كبيرة في الجزيرة العربية، وبعد ذلك الإعلان أحادي الجانب عن قيام إسرائيل، بعد انتصار الغرب في الحرب العالمية الثانية. وبعد تفكك الامبرطورية العثمانية، وبالنظر إلى حالة التخلف السياسي والاقتصادي والاجتماعي الكبير، الذي عاشته الشعوب العربية في فترة احتضار هذه الامبراطورية الطويل، لم يكن من الصعب تحويل المشرق إلى منطقة تقاسم للنفوذ الدولي، الواسع والعلني، حتى تطابقت خريطة تشكيل دوله الحديثة مع خريطة توزيع مناطق النفوذ هذه، من قبل أصحابها أنفسهم، وربطها بالأحلاف الأجنبية. وهذا ما جسّدته على أفضل وجه الاتفاقية المسماة سايكس بيكو، والتي لا تزال تشرط مسيرة تطور الدولة في المنطقة حتى اليوم، وتثير ضدها تساؤلات واعتراضات كثيرة.
توازنات قوى ومصالح
"ليس من الممكن فهم المصير، الذي آل إليه مشروع الدولة الحديثة في المشرق العربي، من دون فهم البيئة الإقليمية، وما وضعته في طريق بناء دولة المواطنة الحديثة من عقبات ومصاعب"
هكذا تشكلت المنطقة في سياق جيوستراتيجي، جسّد توازنات قوى ومصالح، ليست لها علاقة كبيرة بشعوبها أو بالديناميات الداخلية أو الإقليمية، وخضعت لشروط جيوسياسية، تعزز، بشكل متزايد، افتقارها البنيوي إلى الحد الأدنى من الاستقلال عن قرارات الدول الخارجية الكبرى وصراعاتها. وستكون لهذه البنية الجيوسياسية الإقليمية آثار ونتائج كثيرة وخطيرة في تطور المنطقة، وتشكل دولها وتحالفاتها، وفي تبذير طاقاتها في النزاعات والحروب التي صارت مزمنة فيها.
تمس أولى هذه النتائج الدولة نفسها، وتشير إلى ولادة هذه الدولة، كدولة منقوصة السيادة، أي لا تملك قرارها، ولا تستطيع، بالتالي، أن تكون ممثلة في قراراتها لإرادة شعبها، وأن تستجيب لطموحاته وتطلعاته وآماله، إلا في حدود ما تسمح لها به الهوامش الضيقة والمحدودة، التي تتيحها لها اللعبة الدولية. وهنا تكمن أول بذور سوء التفاهم، ثم القطيعة المتزايدة بين الحكومات، مهما كانت اتجاهاتها السياسية والأيديولوجية، والشعوب، في تلك المنطقة، حتى كادت تهمة الخيانة لصالح الغرب تصبح السمة الغالبة على انتقاد الرأي العام حكوماته ومحور المعارضة السياسية، حتى مجيء الثورات العربية الأخيرة، كما أصبح العداء للغرب جوهر الفكرة التحررية الوطنية والاجتماعية على حد سواء. وفي هذه البنية الإقليمية، يكمن، أيضاً، عجز النخب الوطنية عن بناء سلطة شرعية، مستمدة من مشاركة الشعب وتأييده، فأصل مطلب السيادة للدولة هو ضمان سيادة الشعب، أي استقلال قراره عن مصادر التدخل الخارجية. ولذلك، كان شعار الدولة الحرة، أي ذات السيادة، مرتبطا بشعار الشعب الحر، فلا شعبَ حرٌّ في دولة منقوصة السيادة، ولا سيادة لدولةٍ لا يقف وراءها شعب حر قادر ومستعد، دائماً، للدفاع عنها. ولا يفسر الديكتاتورية الطويلة، التي سيطرت على المشرق العربي، إلا استبدال السلطة الشرعية القائمة على الولاء الشعبي، بسلطة الأمر الواقع، المحمية بالتحالفات الأجنبية.
هذه العاهة البنيوية والولادية في جيوسياسة الدولة المشرقية سوف تصبح مرضاً عضالاً، ومتزايد الخطورة، مع قيام الدولة الإسرائيلية، فقد أسقطت أجندة الغرب، للحفاظ على أمن إسرائيل واستقرارها ومكاسبها الترابية وضمان التفوق الاستراتيجي الساحق لها، كوسيلة ردع دائم للدول العربية عن مهاجمتها، وتقويض إسرائيل بالحروب والهجمات المتكررة والدائمة لصدقية الدول العربية وإفشالها، ورقة التوت الصغيرة عن عورة هذه الدولة، وحطمت هيبتها كسلطة سيدة في الداخل، وشجعت حركات التمرد والرفض والاحتجاج عليها.
"أصبح العداء للغرب جوهر الفكرة التحررية الوطنية والاجتماعية على حد سواء"
والنتيجة الثانية تمس الإقليم ككل، وتشير إلى غياب فرص تطور العلاقات الإيجابية بين الدول، وبناء أسس السلام والتفاهم داخل المنطقة، والتقدم بها نحو حياة إقليمية سلمية ومشجعة على الاستقرار والتعاون والاستثمار، فقد بقيت منطقة المشرق محرومة من أية اتفاقات، أو معاهدات جماعية، حتى الآن. وباستثناء الاتفاقات الثنائية، لا يوجد أي إطار، حتى للتشاور، في ما بين الدول المتعددة والمتعادية، فارتباط سياسات دول الإقليم بمحاور وحمايات وتكتلات خارجية يقوض فرص بناء أجندة مشتركة إقليمية، كما أن الدول منقوصة السيادة تعجز عن التعامل بندّية وبناء علاقات تفاهم وتعاون إيجابية مع أقرانها من الدول المحيطة بها. وهذا ما يفسر جمود حقل العلاقات الدولية في المنطقة، وتثبته على الصيغ والتحالفات والمحاور التقليدية، القائمة على الإلحاق وشراء الولاءات، وفشل كل محاولات تغييره الداخلية، وهو ما تسعى النخب الحاكمة إلى التغطية عليه بتشييء مفهوم السيادة، وتحويله إلى شعارٍ، لا علاقة له بواقع الحال، الذي يشير إلى تراجع مستمر في قدرة هذه الدول جميعاً على التحكم بقرارها ومصيرها، وبالتالي، افتقارها المتزايد إلى المقدرة والسيادة.
ديكتاتوريات وتوترات
في هذه البنية الجيوسياسية شبه الاستعمارية، التي تحكم عمل الدولة المشرقية السايكس بيكية، نجد الجذور الطبيعية لتطور النظم الديكتاتورية من جهة، وتفاقم النزاعات والتوترات والحروب المستمر بين دول المنطقة، وإخفاقها في التوصل إلى أية آلية لتشكيل جماعة مشرقية متعاونة ومتضامنة، كما حصل في أوروبا وغيرها، سواء في إطار الفكرة العربية أو الفكرة الإقليمية المتجاوزة لها، من جهة أخرى. وفيها، أيضاً، نجد بذور الحرب الأهلية، التي ستفجر الدول من الداخل بعد نصف قرن، والحرب الإقليمية، التي سيفجرها غياب الاتفاقات الدولية الإقليمية، وسعي الدول القوية إلى التوسع على الطريقة البسماركية، لدمج البلدان الصغيرة، وإلحاقها بها، لتوسيع هامش مبادرتها تجاه الدول الكبرى، والحلول محلها في الهيمنة الإقليمية وبسط النظام. وفيها تكمن أسباب تكلس النخب والزعامات والمشيخات وتنامي المافيات المحلية المتنازعة، والمتنافسة على الزعامة والمجد، وحالة الاستنقاع الشاملة السياسية والاقتصادية والفكرية والدينية، التي عرفتها المنطقة برمتها.
"ارتباط سياسات دول الإقليم بمحاور وحمايات وتكتلات خارجية يقوض فرص بناء أجندة مشتركة إقليمية"
والنتيجة الثالثة لهذه البنية الجيوسياسية الإقليمية، وتقويض فرص التفاهم داخل دول المنطقة وفي ما بينها، هي الحرب الدائمة الناجمة عن عدم الاستقرار، الذي تعيشه الدول والشعوب معاً، نتيجة الضغوط الداخلية والخارجية المتزايدة وتقاطعها وتعارضها، وانعدام فرص التنمية وغياب أطر التشاور والتعاون، والتوتر المستمر في علاقات الدول، وغياب الثقة المتبادلة، والبحث عن الحمايات الخارجية أو نزوع الدول إلى السيطرة. وفي النهاية، إخضاع أولويات الحكومات والدول معاً، وارتهانهما لمسائل الأمن، وتعظيم الإنفاق على الجيوش والأسلحة. والواقع تغطي آليات القمع الداخلي والنزاع الخارجي على افتقار الدول إلى أجندة وطنية، تجمع بين مصالح الأطراف المختلفة من مجتمعاتها وتوحد قرارها، كما تغطي على افتقار المنطقة عموما إلى أجندة إقليمية، توحد مصالح دولها، وتضمنها في مواجهة التكتلات الدولية الأخرى.
انهيارات وتدخلات متضاربة
والآن، مع انفجار الأزمة الإقليمية، الناجم عن اندلاع ثورات الربيع العربي، وسعي إيران إلى فك الحصار، الذي فرضه الغرب عليها، عن طريق تطويق الدول المشرقية واجتياحها وتكوين امبرطورية تابعة لها في المشرق، ومعانقة قوى الثورة المضادة في المنطقة وخارجها، وغياب أية أرضية قانونية وسياسية لتنظيم العلاقات بين دول الإقليم، وتضارب التدخلات والمصالح الوطنية والدولية، تشهد المنطقة انهيارات الدولة المشرقية، وتفكيك الإجماعات الوطنية داخل الدول، واستتباع جماعاتها وأحزابها ومكوناتها، وتحويل الانقسامات والتوترات الكامنة فيها إلى نزاعات وحروب ومواجهات، من كل الأنواع، مع استحالة حلها، لوجود القرار الحقيقي بين أيدٍ خارجية، وغياب التفاهم الدولي في الوقت نفسه. وفي كل يوم، تغرق المنطقة أكثر، وتصبح الدول نهباً للميليشيات المسلحة، وربما تجاوزت قوة هذه الأخيرة، في حالاتٍ كثيرة، الجيوش الرسمية، كما هو الوضع، اليوم، في دول عديدة في المنطقة في لبنان والعراق وسورية واليمن، إن لم تتحول الجيوش نفسها إلى ميليشيا تابعة للطغم الحاكمة.
"تغطي آليات القمع الداخلي والنزاع الخارجي على افتقار الدول إلى أجندة وطنية، تجمع بين مصالح الأطراف المختلفة من مجتمعاتها وتوحد قرارها"
هكذا قوضت هشاشة المنطقة الجيوسياسية واختراقها من القوى الخارجية، وحرمانها من بناء أرضية للمشاورات الإقليمية، أسس قيام دولة وطنية تعبر عن إرادة شعبها، وتنظم شؤونه وتقود مسيرته على طريق الخروج من بؤس الماضي وقرون الانحطاط الطويلة نحو آفاق الحرية والكرامة والأمن والسلام والتنمية والتعاون الدولي والإقليمي. وفي المقابل، شجع ضعف الدولة وفقدانها السيادة، وعجزها عن حماية شعبها، وردّ العدوان عنه، وغياب القدرة على بناء سلطة شرعية، وأجندة وطنية تعكس الحد الأدنى من الإجماع الوطني أو العقد الاجتماعي، وتعذر إقامة حياة قانونية سليمة فيها، توجه النخب والحركات السياسية نحو الحكم الاستثنائي وتعليق الدستور، ودمر الأسس، التي لا تقوم من دونها دولة، ولا تستقر بانعدامها أية حياة سياسية وطنية طبيعية، فأصبحت عاجزة عن النمو إلى دولة أمة فعلية، وعن تحقيق فكرتها في ما يخص علاقتها بالشعب الخاضع لها، وعلاقتها بالدول المحيطة بها، وتحولت، شيئاً فشيئاً، إلى مركز لمجموعة مصالح خصوصية، تستخدم فكرة الدولة وشعار الوطنية وحماية القانون أدوات في تحقيق سيطرتها الأحادية على المجتمع والتحكم في مصيره وشروط حياته، لحسابها الخاص، وفي سبيل حفاظها على مواقعها ومصالحها.
تحولت الدولة إلى إمارة، والإمارة إلى مزرعة، تحكمها العلاقات الشخصية والأهلية، وتتحكم بها المصالح الخصوصية.
وما حصل، بمناسبة ما سميناه الربيع العربي، هو هجوم الناس، الملوعين والمحرومين من الدولة ورعايتها والمحبطين من سوء أدائها على كل الأصعدة، على هذه الدولة المزرعة، ومحاولتهم انتزاع ملكيتها من مغتصبيها، وفي ما وراء ذلك انتزاع قرار المنطقة الجماعي من يد الدول الأجنبية، التي صادرته في العقود الطويلة الماضية.
استباحة الشعوب
والخلاصة، في منطقة مستباحة دولياً، لا تخضع لقانون سوى القوة، مفتوحة لكل الغزوات وحركات الاستيطان والتدخلات والاعتداءات والحروب الخارجية، لا يمكن لمشروع دولة حرة أن يتحقق، ولا لممارسة سياسة تحرير للشعوب أن تقوم. الاستباحة الدولية للمنطقة، هي الأرضية المؤسسة لاستباحة النخب والطغم الحاكمة للدول والشعوب، وغطاؤها في الوقت نفسه. لذلك، لن يكون من الممكن إعادة بناء الدولة، التي هي الإطار القانوني والسياسي الأنجع، في الوقت الراهن، لتنظيم المجتمعات، وتثمير جهود أبنائها وطاقاتهم وتلبية مطالبهم الأخلاقية والروحية والمادية، من دون إعادة بناء شروط الحياة القانونية والسياسية في المنطقة برمتها. ولن يتحقق ذلك من دون التوصل إلى اتفاقات ومعاهدات جماعية، تنظم شؤون الإقليم وتربط مصيره بقرار دوله ومجتمعاته وتفاهمهم، وتضع حدّاً للتدخلات الأجنبية، وسياسات الدكتاتورية البغيضة ومشاريع الهيمنة الإقليمية معاً، وفي السياق ذاته للصراعات والنزاعات والمظالم، التي أصبحت الخبز اليومي لأهل المنطقة، أفراداً وشعوبا.
الأربعاء المقبل يجتمع البرلمان اللبناني من أجل إقرار التمديد لنوابه حتى حزيران (يونيو) عام 2017، في خطوة لا تعني سوى تمديد عملية تعليق الحياة السياسية اللبنانية، التي لم تكن تتمتع بالحيوية أصلاً وكانت تتسم بالكثير من الهشاشة والزبائنية.
إنه تمديد لشكل من أشكال ربط لبنان بالأزمة السورية والصراع الدائر في المنطقة بكل تعقيداته وألوانه وتشعباته، بما فيها الحرب على الإرهاب التي بشرنا من يقود حملتها، الرئيس الأميركي باراك أوباما، بأنها ستستمر سنوات.
وبصرف النظر عن الأسباب الموجبة لهذا التمديد للنواب الذي يتيح لهم التربع لثماني سنوات على مقاعدهم من دون عناء اجتذاب الناخبين وتمثيل مصالحهم للحصول على أصواتهم، فإن ذريعة صعوبة إجراء هذه الانتخابات بفعل الأوضاع الأمنية، على صحتها، لا تحول دون الاستنتاج أن هذه الخطوة تأتي في سياق تعطيل العملية السياسية اللبنانية، مهما قيل عن أن نتائج الانتخابات إذا حصلت ستأتي بالطاقم السياسي نفسه تقريباً.
لكن الأدهى في هذا التمديد أنه حتى إشعار آخر امتداد للفراغ الرئاسي اللبناني القائم منذ 5 اشهر ونيّف، على رغم ادعاء من يبررون التمديد بأن مدته ستكون مشروطة بإجراء الانتخابات الرئاسية اللبنانية.
وعلى رغم وجود تفاهم لبناني داخلي يستند إلى تفاهم دولي وإقليمي على رعاية الحد الأدنى من الاستقرار في الأزمة اللبنانية عند الحد الذي بلغته من الاحتقان المذهبي والركود الاقتصادي والصراع على التأثير في موقع القرار الرسمي بين قوى إقليمية عدة، فإن تلاقي مصالح الدول على منع انفجار لبنان مثلما هو حاصل في محيطه، لا يعني أن التمديد للفراغ الرئاسي وللبرلمان يعني تجميد التدهور في أوضاعه الأمنية والاقتصادية والسياسية، وفي تناقضاته المذهبية، وفي النزف الذي يعانيه نتيجة أزمة النازحين السوريين، والتي تضاعف المعضلات المذكورة كافة يوماً بعد يوم.
وإذا كانت الحجة الأمنية للتمديد للبرلمان تعني تجميد إمكان حصول انفجار في الوضع اللبناني الشديد التعقيد، فإن تمديد الفراغ الرئاسي اللبناني وتعليق الحياة السياسية اللبنانية لا يقودان سوى الى تأجيل الانفجار الذي شهدت مدينة طرابلس نهاية الأسبوع الماضي نموذجاً عنه، حتى لو لم يكن انفجاراً شبيهاً بالحروب الأهلية التي تشهدها سورية والعراق واليمن وليبيا. وأقصى ما يمكن أن تفعله الرعاية الدولية الإقليمية للحد الأدنى من الاستقرار في البلد الصغير، هو تقسيط الانفجارات الأمنية التي يمكن أن يشهدها، والتي لا بد من أن تتكرر طالما استمر ربطه بالأزمة السورية. وهو الربط الذي يعتمده «حزب الله» عبر تدخل قواته في بلاد الشام، ويفاقم من خلاله التداخل بين الساحتين المفتوحتين إحداهما على الأخرى، عبر الحدود المشرعة بينهما.
أقصى ما يمكن توقعه من التمديد المنتظر للبرلمان اللبناني، كمؤشر لاستمرار ربط لبنان بالأزمة السورية على وقع تدخل «حزب الله» فيها واندفاع «داعش» و «النصرة» نحو أراضيه، هو ذلك الافتراض بأن التقاء الأضداد على التمديد وتجنب الخضات الأمنية أثناء عمليات الاقتراع، قد يكون عاملاً مساعداً على البحث بين الفرقاء المختلفين عن اسم توافقي لرئاسة الجمهورية، ما يجعله خاضعاً لما تفرضه سياسة الحزب ربط لبنان بسورية.
إلا أن هذا الافتراض يواجه صعوبات تحول دونها المعادلة القائمة حالياً، فمثلما يكابر الحزب في رفض مراجعة سياسته، وفي اعتبار نفسه منتصراً بحجة منعه سقوط الأسد، على رغم ثبات الموقف الدولي- العربي على الدعوة الى حل سياسي انتقالي ينتهي بتغييره، ومثلما تضع قيادته رأسها في الرمال برفضها الاعتراف بأن تدخلها العسكري في سورية فتح الباب على تدخل المجموعات المسلحة في لبنان، فإن الحزب لا يعطي أي إشارة الى أنه يقبل برئيس حيادي، بل يصر على رئيس ينسجم مع استراتيجيته وما تتطلبه الخطط الإيرانية حيال الإقليم. فهل يمكن رئيساً توافقياً مفترضاً أن يقبل بمتطلبات إيران أن يشن الحزب هجوماً كالذي شنه السيد حسن نصرالله على السعودية؟ في هذه الحال، يفضل الحزب إبقاء الرئاسة فارغة، فأي رئيس، مهما كان حيادياً يصعب عليه تغطية تدخل الحزب في سورية...
منذ أن انطلقت ثورة الحرية والكرامة في سوريا، وما يسمى المجتمع الدولي عاجز عن اتخاذ أي خطوة لإنقاذ الشعب السوري من محنته التي تتفاقم يوما بعد يوم.
تتوافد أعداد كبيرة من مقاتلي إيران التي تقود حربها الطائفية في سوريا تحت تسميات متعددة من حماية المراقد إلى محاربة التكفيريين، وبتسميات متعددة، حشدت لها ثمانية وعشرين فصيلا شيعيا من أفغان وباكستانيين وحوثيين، والذين يتمددون في هذه الأيام في اليمن بإيعاز من قم إلى فصائل عراقية، وأخرى من حزب الله بزعامة حسن نصر الله، والمجتمع الدولي بما فيه الدول العربية صاحبة المصلحة، ساكت عما يجري في سوريا من تدمير لبنية الدولة وتصفية لشبابها وشاباتها، بل وخيرة أبنائها الذين لا يزالون صامدين في وجه القتلة الذين احتشدوا مع نظام الإجرام في دمشق.
ومن أجل بضعة أشخاص يحملون الجنسية الغربية قتلوا على يد «داعش»، حشدت الولايات المتحدة تحالفها لمحاربة ما يسمى الإرهاب، ونسيت أنها هي الصانعة له، والداعمة على مر السنين، حيث دعمت الأنظمة الاستبدادية في منطقتنا العربية منذ مطالع الاستقلال ولا تزال، كما تعرف الولايات المتحدة أن «حزب الله» مصنف على قائمة الإرهاب وهو يصول ويجول في سوريا ولم تحرك ساكنا حول تدخله، وحتى لم تشر ولو من قبيل التهديد السياسي حول ما يمارسه في سوريا من قتل للشعب السوري، وأخص النساء والأطفال.
وصرح الكثير من المسؤولين الأميركيين بأن الحرب على الإرهاب قد تطول ولا تحسم قريبا، ما يعني أن على السوريين، وخصوصا منهم من هام على وجهه في سوريا وخارجها من لاجئين وسواهم، والذين يعانون أسوأ الأوضاع وسوء المعاملة، وخصوصا في بعض الدول العربية التي تعمد لتسليم بعضهم إلى النظام، وإغلاق حدود دول عربية أخرى في وجه السوريين الهاربين من الموت والدمار، وكل ذلك يعني أن علينا الانتظار ربما سنوات طوالا حتى يستكمل تدمير البشر والحجر والشجر، وحتى يفكر إخوتنا العرب والمسلمون ثم المجتمع الدولي بحل هذه المعضلة التي لا حل لها على المدى القريب أو في المنظور القريب، فالمعضلة في سوريا، ليست التدخل الإيراني بفصائله المتعددة ولا التطرف الكردي المتمثل بحزب العمال الكردستاني فرع سوريا (pyd) ولا في موقف روسيا الداعم والمساند لإرهاب عصابة (الأسد وطهران) وإنما فقط وجود منظمات إرهابية مبدئيا (داعش والنصرة).
لماذا لا نرى حلا ولو من خلال هذين التنظيمين لعلنا نخرج بحل يؤدي لحقن دماء السوريين وتوفير القصف اليومي.
أليس بالإمكان أن يجلس العقلاء من جميع الأطراف على مائدة الحوار لإيجاد حل ليخرج السوريين من عنق الزجاجة ويوفر الكثير من الدماء والدمار، ولنا فيما فعله أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، رضي الله عنه، حين تفاوض مع خوارج ذلك العصر.
إنني أضع هذه الرؤية أمام الجميع، وأرجو أن نتحرك نحن السوريين لأن نأخذ زمام المبادرة وننقذ بلدنا من مزيد من الدمار تحت شعار: تعالوا إلى كلمة سواء.
لأن الكرد في العراق وفي سوريا وفي تركيا قد احتلوا واجهة الأحداث في هذه الدول الثلاث وأيضا في المنطقة، بعدما فرضت «داعش» نفسها كعامل رئيسي ليس في هذه المنطقة فقط وإنما في العالم كله، فإن مسألة إقامة دولة قومية كردية إنْ في هذه البلدان الثلاثة، ومعها إيران أيضًا، أو في واحدة منها فقط، قد كثُر الحديث عنها في الأيام الأخيرة، وإن فكرة إنشائها وإقامتها قد أصبحت مطروحة ومتداولة على نطاق واسع في بعض الدول العربية وحتى في أوروبا والولايات المتحدة الأميركية.
ولعل ما تجب الإشارة إليه ونحن بصدد الحديث عن هذه المسألة الهامة، التي يجب فتح ملفها والحديث عنها بجدية الآن، هو أن الكرد، هذا الشعب العظيم، قد دفعوا ثمن معادلات ما بعد الحرب العالمية الأولى والحرب العالمية الثانية وحُرموا من أن تكون لهم دولتهم القومية أو دولهم القُطْرية على غرار كل هذه الدول العربية التي تجاوز عددها عشرين دولة، والتي استند إنشاء بعضها إلى تقسيمات اتفاقية سايكس - بيكو سيئة الصيت والسمعة.
لقد كان أمرا طبيعيا أن يندمج الأكراد مثلهم مثل أشقائهم العرب والأتراك والإيرانيين، وأيضا «الأمازيغ»، في نسيج الدولة الإسلامية الشاملة، إنْ في زمن الخلافة الأموية وإن في زمن الخلافة العباسية وأيضا إنْ في زمن الخلافة الفاطمية ولاحقًا في زمن السلطنة التركية والدولة الصفوية، لكن عندما بدأ عصر القوميات بعد الحرب العالمية الأولى والحرب العالمية الثانية وبعد إقامة شعوب هذه المنطقة لدولها الوطنية والقُطْرية فإنه ظلم ما بعده ظلم أن يُحرم هذا الشعب الكردي من حقه في أن تكون له دولته المستقلة التي تشكل حاضنة لثقافته، والتي تعبر عن وجوده الفعلي على خريطة الكرة الأرضية، وتضع حدًّا لتشرده وتشتته وذوبانه حتى في المناطق التي من المفترض أنها أجزاء من وطنه التاريخي.
لقد حُرم العرب من أن تكون لهم دولتهم القومية الواحدة الموحدة بعد انهيار السلطنة العثمانية في الحرب العالمية الأولى، لكنهم وفي كل الأحوال قد تمكنوا من أن تكون لهم لاحقًا دولهم القُطْرية والوطنية في الإطار العربي العام وفي إطار هذه الجامعة العربية، وبخاصة بعد استكمال استقلال بعض أقطارهم التي تأخر استقلالها حتى بدايات ونهايات ستينات القرن الماضي، لكن الأشقاء الكرد والأشقاء الفلسطينيين قد حُرموا مما حصل عليه أشقاؤهم أو انتزعوه انتزاعا، والحقيقة أننا إذا أردنا أن نكون منصفين فإنه علينا أن نعلن وعلى رؤوس الأشهاد أن هذه المرحلة من تاريخ هذه المنطقة يجب أن تكون بالضرورة مرحلة قيام الدولة الفلسطينية المستقلة ومرحلة تقرير المصير للشعب الكردي الذي عانى كثيرًا والذي غُيبت هويته الوطنية والقومية على مدى نحو قرن بأكمله.
لقد كانت المرة الوحيدة التي شعر فيها الكرد بأن لهم دولة، مثل دول العالم كله، عندما - بمساندة الاتحاد السوفياتي في زمن جوزيف ستالين - تم إنشاء ما سمي «جمهورية مهاباد» في عام 1946 التي لم تدُم إلاّ أحد عشر شهرًا، والتي كان رئيسها قاضي محمد الذي أعدم لاحقًا بقرار من الشاه الإيراني رضا بهلوي، وكان وزير دفاعها الملاّ مصطفى بارزاني الذي استطاع الانسحاب بمقاتليه بأعجوبة ليكمل مسيرة شعبه النضالية في العراق، وليحقق بالتالي كل هذا الذي تحقق في كردستان العراقية في عهد نجله مسعود بارزاني الذي كان ولا يزال القائد الطليعي لهذه المسيرة الطويلة التي أخطر ما فيها أنها باتت تواجه كل هذه التحديات الصعبة التي تواجهها الآن.
إن ما تجب الإشارة إليه ونحن بصدد الحديث عن هذه المسألة الهامة أن الزعيم القومي للكرد في كل مناطق وجودهم وانتشارهم مسعود بارزاني لم يفكر فعليًّا في إعلان إقليم شمال العراق دولة مستقلة إلاّ في عهد نوري المالكي، غير الميمون، حيث اضطر، في ضوء ممارسات رئيس الوزراء العراقي الأسبق التي لا تستطيع احتمالها حتى رواسي الجبال، إلى التلويح بإجراء استفتاءٍ عام للشعب الكردي في هذا الإقليم ليقول رأيه بهذا الأمر الذي في نهاية المطاف سيتحقق لا محالة، فالتاريخ يسير إلى الأمام وليس إلى الخلف، وهذه الفرصة التاريخية التي باتت تلوح الآن من المفترض أن يتم استغلالها لأن عدم استغلال فرص التاريخ وفي اللحظة المناسبة قد يحولها إلى كوارث سيطول أمدها، وبخاصة بالنسبة إلى شعب لم يعد يشبهه على وجه الأرض إلاّ الشعب الفلسطيني الذي قدم تضحيات لم تقدمها بعض الشعوب التي مرت بهذه التجربة القاسية.
ومرة أخرى: هل لحظة أنْ يكون للشعب الكردي، الموزع بين أربع دول رئيسية، إيران والعراق وسوريا وتركيا، دولته القومية أو دولته الوطنية قد حانت بالفعل؟ ثم هل لعبة الأمم ستُنصف هذا الشعب العظيم هذه المرة وستنصف الشعب الفلسطيني أيضا وستسفر كل هذه المتغيرات التي تشهدها هذه المنطقة عن تحقيق ما لم يتحقق لا بعد الحرب العالمية الأولى ولا بعد الحرب العالمية الثانية ولا بعد كفاح السنوات الطويلة الذي كانت محرقة «حلبجة» في عام 1988 إحدى محطاته الرئيسية المرعبة؟!
إن المعروف أن الولايات المتحدة، التي تقود هذا التحالف العالمي تحت راية مواجهة الإرهاب وتنظيم «داعش»، والتي هي في حقيقة الأمر تسعى لإقامة كتلة كونية لمناهضة إمبراطورية فلاديمير بوتين وقَطْع الطريق على مسيرة الصين التصاعدية، قد عارضت الاستفتاء الآنف الذكر الذي لوح به الزعيم مسعود بارزاني، وإن المعروف أيضا أن إيران لا يمكن أن توافق على قيام دولة كردية لا عندها ولا في شمال العراق ولا في تركيا ولا - بالطبع - في سوريا، وهذا هو موقف الأتراك الذين يرون أن قيام دولة كهذه سيؤدي إلى تمزُّق دولتهم أكثر من ذلك التمزق الذي حلّ بها في الحرب العالمية الأولى!!
إنّ هذا هو واقع الحال، وهو واقع لا يجوز أن يستسلم الأكراد له وأن يضيّعوا هذه اللحظة التاريخية السانحة.. إنها فرصة يجب التقاطها، وهنا فإنه ما يجب أن يقال للعرب كلهم: أليس من الأفضل يا ترى أن تساهم الدول العربية كلها وفي مقدمتها العراق في إنشاء دولة هذا الشعب الشقيق الذي يجب أن يبقى شقيقًا وصديقًا وإلاّ فإن أي دولة كردية ستقوم في المستقبل ستكون بمثابة شوكة في الخاصرة العربية؟!
لقد قال رئيس الاتحاد الديمقراطي الكردي (السوري)، التابع لحزب العمال الكردستاني - التركي بقيادة عبد الله أوجلان، الذي يعتبر مواليًا لنظام بشار الأسد: «إن الأكراد قد تخلوا عن حلم الدولة»... فهل هذا صحيح؟.. ثم باسم مَن يتحدث السيد صالح مسلم محمد؟!
كان عبد الله أوجلان، المعتقل الآن في جزيرة إمرالي القريبة من المدينة التاريخية الجميلة إسطنبول، يسعى وربما لا يزال يسعى لإخضاع كل الأقاليم الكردية، بما فيها إقليم شمال العراق، لتطلعاته وتوجهاته، والمعروف أنه قد حاول ومِن سجنه تحويل هذا الإقليم إلى قاعدة خلفية للحرب التي كان يشنها حزبه، حزب العمال الكردستاني - التركي، على تركيا. لكن مسعود بارزاني المعروف بواقعيته واعتداله ودقة حساباته قد تصدى لهذه المحاولة وبالقوة في بعض الأحيان لأنه كان قد بدأ هذه النهضة الهائلة في أربيل وفي السليمانية وفي دهوك وفي باقي المدن والمناطق الكردستانية – العراقية، ولا يجوز قطع الطريق عليها وتدميرها، ولأنه لم يكن مستعدًّا وهو لا يزال غير مستعدّ لمواجهة عسكرية مع دولة رئيسية هي تركيا هو في أمسّ الحاجة إليها، وبخاصة في هذه المرحلة الدقيقة والصعبة والحاسمة، ولأنه أيضا دأب على اتباع سياسة تدرُّجية ومراحلية ولا يمكن أنْ يقبل بحرقها بالاستجابة لنزوات ومغامرات انتحارية، لا هذا الوقت هو وقتها ولا هذا الزمان هو زمانها.