ضجيج وصخب إعلامي واسع حول معركة "كوباني" اجتاح وسائل الإعلام ودوائر السياسة والقرار في العالم؛ لكن في ظل تضارب واضح في فهم وتفسير مجريات الأحداث وتطوراتها في "كوباني"، ربما سيظهر بعد حين أن معركة "كوباني" مبالغ فيها بشكل يجافي الواقع وأنها ليست وسيلة سوى سلم لعبور الملف السوري باتجاهات جديدة مختلفة كليا.
بالعودة إلى حرب الخليج الثانية لا يمكن نسيان "أم قصر" تلك المدينة المهملة البعيدة عن بغداد وذات المرفأ الصغير، والتي تحولت إلى ما يشبه الأسطورة لما قيل عن صمودها في وجه قوات التحالف، وإعاقة تقدمهم صوب بغداد وكان لعاب المحللين العسكريين والسياسيين وعلى رأسهم وقتها محمد حسنين هيكل يسيل وهم يخترعون البطولات الوهمية ويحسبون الزمن الطويل الذي ستحتاجه قوات التحالف للوصول لبغداد بالقياس لنتائج معركة "أم قصر" العظيمة ويبشرون بالتالي بهزيمة منكرة ستصيب قواته التي ستنهك وتنقطع خطوط إمدادها ويموت جنودها عطشا قبل أن يصلوا لبغداد أو يستطيعوا محاصرتها وإسقاطها.
في الوقت نفسه الذي كانت تجري فيه معركة "أم قصر" الوهمية وتحظى بتغطية وتحليلات واسعة في وسائل الإعلام كانت قوات التحالف قد دخلت بغداد واحتلتها فعلا؛ منذ أن تم ذات صباح رصد تلك الدبابة الأمريكية المتوقفة فوق جسر على نهر دجلة دون أن تواجه أي مقاومة.
من المفهوم عسكريا خوض أو تاجيج معركة في مكان ما من أجل الحصول على نتائج استراتيجية بعيدة الأمد في مكان آخر أو لأهداف أخرى غير معلنة؛ ولا تهم كثيرا محدودية التأثير الناتج حتى في حال تحقيق انتصار حاسم فيها؛ وفي هذا الإطار كانت معركة "أم قصر" التي كان دورها إظهار مقاومة بطولية في مواجهة قوات التحالف وتبيان أن المعركة أمامها صعبة وطويلة، وهو الفخ الذي وقع فيه المحللون السياسيون والعسكريون وقتها.
بالعودة إلى "عين العرب" التي لم يعد الأكراد يقبلون تسميتها سوى "كوباني" في هذا الوقت الحرج ويقاتلون بشراسة من أجل ذلك رغم عدم ارتباط هذه التسمية بالثقافة الكردية أو بالتاريخ الكردي البعيد وفقط تعود لما قبل حقبة حكم البعث وآل الأسد؛ وتكاد "كوباني"، تلك المدينة الصغيرة في الشمال السوري على تخوم الحدود التركية تتحول لأسطورة في صمود القوات الكردية في وجه قوات تنظيم "داعش" من خلال الحديث الذي يدور حول المعارك الضارية وحرب الشوارع فيها والقصف الجوي المستمر لقوات التحالف على قوات داعش فيها؛ وبالطبع من يدرس جغرافيا منطقة "كوباني" بدقة يدرك مدى المبالغة والتضخيم في نقل صورة الأحداث ولكن عند البحث لمصلحة من يتم ذلك تبرز تباينات واضحة.
لا شك أن الأكراد حولوا معركة "كوباني" لمعركة قومية كردية بامتياز، وقد شاهدنا فعلا توحد صفوف الكرد سياسيا وإعلاميا في سوريا والعراق وتركيا، وحول العالم وقيامهم بنشاطات وحملات إعلامية واسعة تمجد أبطال وبطلات "كوباني" فعلى سبيل المثال قامت إحداهن بإطلاق الرصاصة الأخيرة لديها على نفسها كي لا تقع بأيدي "داعش" بينما قامت أخرى بتفجير نفسها وسط قوات "داعش".
في مقابل المشاعر القومية الكردية أججت معركة "كوباني" مشاعر وطنية سورية وقومية عربية معاكسة؛ فهي من جهة أثارت المخاوف من تقسيم البلاد التي بات الكثير من السوريين يراه يقترب أكثر فأكثر؛ ومن جهة أخرى، فإن القوميين المتشددين الأكراد ظهروا وكأنهم يريدون من "كوباني" ثأرا بل ربما انتقاما مما تعرضوا له من قمع واضطهاد على أيدي نظام البعث سواء في العراق أو في سوريا، مما سيولد مشاعر قومية معادية لدى العرب ومن الصعب تلافي ذلك في المستقبل القريب؛ فقد تجاوز الأكراد مرجعيتهم الوطنية السورية نحو القومية الكردية بشكل مباشر لأول مرالنة عبر دخول قوات البيشمركة من العراق للقتال في "كوباني"، بينما لم يتم فتح المجال والسماح بدخول بعض قوات الجيش الحر العربية الوطنية السورية للقتال مع الأكراد ضد "داعش" في الوقت الذي نشبت فيه مظاهرات عنيفة من أكراد تركيا لمطالبة الحكومة السماح لقوات "بي كي كي" المصنفة كمنظمة إرهابية للقتال في "كوباني"، مما يشي بتحول المعركة كليا بالنسبة للأكراد باتجاه قومي بحت، ومن هنا ربما يمكن فهم مخاوف العرب السوريين من عملية التقسيم التي يسعى إليها الأكراد.
ثنائية عربي –كردي ربما لن تقتصر على التعاطي الإعلامي والسياسي بعد الآن؛ ومن المرجح أن نشهد صراعات وعمليات تطهير عرقي دامية بين الطرفين، لإحكام السيطرة على الأرض، وهذا سيولد المزيد من مشاعر الكراهية التي تدفع باتجاه التنافر أكثر فأكثر بين الطرفين والقبول بحقيقة الأمر الواقع في نهاية المطاف والذي لا يمكن الخلاص منه وهو التقسيم.
باستثناء الضربات الجوية للتحالف الدولي ضد "داعش" لم تشارك أي دولة القتال في سوريا بشكل مباشر رغم وجود الكثير من الميليشيات والمقاتلين غير السوريين فيها؛ وسيكون تدخل قوات البشمركة من كردستان العراق، وفق ذلك هو التدخل الخارجي الرسمي الأول الذي تتم مباركته بل ودعمه.
لماذا أحجم التحالف الدولي ضد "داعش" عن التدخل البري معترفا بصعوبة العملية؟ وكيف تم الزج بشكل مقصود بقوات البشمركة والإيقاع بها في مستنقع من الصعب أن تخرج منه نظيفة الثياب؟ وليس أمامنا تجربة ناجحة لتدخل قوات برية دون أن يتم استنزافها وهزيمتها في النهاية، وهذا في حال افتراض أن العامل القومي بقي مسيطرا على تلك القوات الكردية دون أن تلعب المحاور الإقليمية به وتحوله لصراعات كردية داخلية.
التحالف يريد تحقيق انتصار من معركة "كوباني" مع بداية عمله، والبيشمركة والأكراد القوميون يريدون منها انتصارا قوميا يعيد إحياء الأمل لديهم بالوطن الكردي وغرب كردستان، بينما النظام يبدو سعيدا لاستنزاف القوى ولانصراف كل الأنظار باتجاه "كوباني" وتركه يضرب بعنف أكثر في الداخل السوري دون حتى تسليط الأضواء على أفعاله؛ بينما تحاول تركيا الخروج بأكثر الأرباح عبر استنزاف القوى الكردية في المعركة التي ستطول عليهم فيما بعد بلا شك، ما يضعف من قوتهم في الساحة السياسية الكردية وذلك مرهون بنتائج تدخل البشمركة على المدى البعيد.
في "كوباني" كما حصل في "أم قصر" تمت إطالة أمد المعركة بشكل مبالغ فيه رغم أنها ليست الساحة الحقيقية للمعركة؛ "كوباني" نقطة تحول وانعطاف في تطور الثورة في سوريا؛ فإما أنها ستحافظ على بعدها الوطني وتمتد لتنتشر على باقي أرجاء البلاد، وهذا يحتاج جهود المخلصين الوطنيين من كل أطياف ومكونات اشعب السوري أو تسقط في فخ الانقسام والتقسيم القومي ومن ثم الطائفي؛ وأيضا هي معركة مصيرية فعلا للأكراد، وستجل في التاريخ الكردي مهما تكن نتائجها لأنها إما ستقود لدولة كردية أو ستكون بداية النهاية لحلم عاش الأكراد بانتظاره طويلا .... بكل الأحوال "كوباني" هي البداية والمعركة ليست في "كوباني" أو من أجلها فقط بل من أجل شيء آخر بعيد هناك.
شيئاً فشيئاً، تتبلور الصورة رغم غموضها، تظهر ملامح الشرق الأوسط الجديد، مع ضبابية كثيفة ما زالت تحوم في سماء المنطقة، ربما لأن المشهد لم يكتمل بعد؛ شخصياتها تلبس زياً طائفياً، علويون ودروز يمتزجون رغم الأصوات المناهضة، يلحق بهم من خلف الحدود شيعة جنوب العراق؛ سنة سوريون وعراقيون يتحدون، يرغب مؤلف الرواية أن يصبغهم بسواد «داعش»، رغم الأنيّنِ الذي يخرج من صدورهم: لسنا إرهابيين، لسنا متطرفين، لكن هل من مجيب؟ أما الكُرد فحكايتهم حكاية، أرادهم المؤلف بداية أن يكونوا كما فعلها بهم أجداده مارك سايكس وجورج بيكو، بلا هوية، لكن المُخرج وربما المُنتج تدخل في اللحظة المناسبة، وجعل منهم أبطال الرواية.
ربما من الصعب على السوريين قبول التجربة العراقية الحالية – الطائفية وتطبيقها على الوضع السوري في ظل بقاء نظام الأسد، ولكن من يتمعن في الواقع الحالي يرى أن المشهدين متقاربين لدرجة كبيرة، فشيعة العراق تمددوا سورياً للدفاع عن نظام بشار بصلة القربى الطائفية، ولا يفصلهما عن الطائفة الدرزية سوى بعض المعارضين لنظام الأسد، وهم، أي الدروز، اختاروا الحياد في الصراع المسلح بين النظام والمعارضة، أضف لذلك أن المنطقة التي توجد فيها هذه الطوائف الثلاث متصلة ببعضها بعضا جغرافياً، وتتمحور بين جنوب العراق وسوريا، امتداداً إلى سواحل البحر المتوسط سورياً، حيث معقل الطائفة العلوية يضاف إليهم جغرافياً شيعة لبنان وإيران.
بالانتقال إلى وسط العراق وسوريا، حيث الغالبية السُنية، التي ما كانت الحدود بينهما أن تتبدد لولا أن الراوي أراد لمَّ شملِهما بجسيم إرهابي مرتدياً عباءة الإسلام، وباتت سمة الإرهاب لديه تؤخذ من الأفلام السينمائية، ورغم مناهضة السنة أنفسهم لهذا التطرف ومحاربتهم له، ورغم أن السنة المعتدلين نالوا من تنظيم «داعش» ما لم تنله أي طائفة أُخرى سوى الأكراد، فإن ربط تنظيم «داعش» نفسه بالإسلام ووجود الحاضنة الشعبية النسبية له في تلك المناطق، جعل منه والسنة المعتدلين يجريان بالاتجاه ذاته.
اختلاط الأوراق ببعضها بعضا جعل أدهى المفكرين يعجزون عن تفسير ما يجري الآن في سوريا والعراق، أو إلى أين تتجه المنطقة، فالغرب الذي حافظ على بقاء الأسد لأربع سنوات وهو يدمر البلاد، لن يرضى بسقوطه حتى تدمير ما تبقى من سوريا، ولن تجعل الأقلية العلوية تحت رحمة المعارضة السنية، بعد أن فاقم الغرب عمداً في العداء السني الشيعي (العلوي)، تمهيداً لتقسيماتٍ جديدة في ما بعد .
أما في الشمال السوري وكذلك العراقي حيث منطقة الأكراد، فما عاناه الأكراد على مرّ العقود الماضية من مفرزات اتفاقية «سايكس بيكو» الأب، واستبداد الحكومات المركزية لهم، يبدو أنها ستنجلي مع الاتفاقية الجديدة ولنسميها «سايكس بيكو الابن»، أو الشرق الأوسط الجديد، وهو ما تنبهت إليه تركيا مبكراً، فحاولت محاربة هذه الفكرة، من خلال شرخ الموقف الكُردي، ودعم أحد الأطراف على حساب الآخر، لكن الأمر تعقد مؤخراً بالنسبة لأنقرة بعد الاتفاق الأخير بين الأطراف الكُردية في دهوك، الذي يعني بشكل أو بآخر الاتفاق بين أربيل وقنديل قطبي الخلاف الكُردي، زادته الضغوطات الأمريكية على تركيا، من خلال دعم أكراد كوباني ومدّهم بالعتاد جواً، ما دفع أردوغان الى التخبط بالأوراق المتبقية لديه، فقبل طلب إقليم كُردستان العراق بعبور قوات البيشمركَة للدفاع عن كوباني، لكن بنَفس متردد! فسلك طريقاً آخر ربما يكون أقل كارثية على عرش أنقرة، فدفع بـ 1300 عنصر من الجيش الحر للقدوم إلى كوباني، بينما ترك الحُر باقي الأراضي السورية تسقط بيد النظام و»داعش» .
على أي حال، الراوي ماضٍ باستراتيجيته في الشرق الأوسط بحبكة محكمة، منطقة شيعية تسير في ظلها العلوي والدرزي، إضافة لشيعة لبنان والعراق وإيران ومركز قرارها طهران، ومنطقة سُنية تمتد في مناطق شاسعة بين العراق وسوريا، يسيطر عليها تنظيم «داعش» الآن، ريثما يتم تسليم مفاتيحها لمن يقدم الطاعة لخادم الحرمين الشريفين، أما المنطقة الكُردية، فستمتد مؤقتاً بين العراق وسوريا وستكون حليفة مباشرة للولايات المتحدة، وعلى علاقة ودية حذرة مع أنقرة، تمهيداً لتوسعتها لتشمل الحلم الكُردي في كُردستان العظمى، التي ستضم المناطق الكُردية من العراق وسوريا وتركيا وإيران، ليصبح الكُرد وبعد عقود من الظلم والاستبداد في رواية «سايكس بيكو الأب»، أبطال رواية «سايكس بيكو الابن».
إذا القوم قالوا من فتى؟ تلك الصيحة التي أطلقها طرفة بن العبد في معلقته الشهيرة، أظنها ما زالت تتردد في مخيالنا الجمعي، وتكمن خلف معظم أزماتنا وانحداراتنا، على الرغم من مضي القرون وتغير العصور. هي الصيحة التي تنادي القبيلة بها البطل، وتبحث عن المخلص الذي يخال أنه معني وحده، فلا يكسل ولا يتبلد، ويسارع إلى نجدتها وإنقاذها من محنتها، ورد الغزو والعدوان عنها.
وإذا كان فتى القبيلة، في ذلك العصر، هو البطل الفرد والمحارب الصنديد، فهو، في عصرنا، الزعيم والقائد الملهم، والأمين العام، والأمير أو الملك، والرئيس أخيراً. فمجتمعاتنا، كما أرى، لم تنجح، حتى تاريخه، في تجاوز تلك الصيحة. وبالتالي، في تكوين آليات جماعية مستقرة، تعبّر عن العقد الاجتماعي، وتكفل لها التضامن والحماية وتوليد قيادات، تتداول المسؤولية فيما بينها بيسر وسلام. فتبرز الزعامات الجديدة، وتقود بلادها فترة، ثم تنزاح دورياً، كما يحدث في بلدان الديمقراطيات المعروفة. في المقابل، تستمر لدينا الأزمة التي كان قد كشف عنها ابن خلدون في مقدمته الشهيرة، عندما تفاجأ الأنظمة بمرض حاكم أو موته، فتشتغل ظاهرة الاستيلاء، أو اللجوء إلى التمديد، أو التوريث، أو إلى أزمة معلقة، كما هو واضح في أزمة الرئاسة اللبنانية المستمرة، أو في إعادة انتخاب الرئيس الجزائري شبه العاجز.
لا ينطبق ذلك على أنظمتنا العربية، بل على نخبنا السياسية والثورية أيضا، ولعلها للمفارقة أكثر تجسيداً له، ما يظهر جلياً في تاريخ المعارضة السورية القريب العهد. بينما يفترض بها أن تتحلى بأرفع قيم الديمقراطية، رداً على مفاسد النظام الذي ثار عليه الشعب وطالب بإسقاطه، وأولها صلاحيات الرئاسة الوراثية وشبه المطلقة! في هذا الصدد، كانت أولى شعارات الثورة السورية رافضة شعار (الأمين إلى الأبد) الذي كرسته عملية الوراثة، وتم تعديل الدستور السوري من أجله، في ربع ساعة شهيرة، فأصبح بذلك مجرد ملحق تبريري، وفقد كل تعبير عن شرعية العقد الاجتماعي.
لكن، بدلاً من أن يؤدي ذلك الرفض، بأول مؤسسات الثورة السورية، وهي المجلس الوطني، إلى قطيعة معرفية مع الماضي وتأسيس شرعية بديلة وناضجة، تنتمي إلى المستقبل، فقد أدى إلى رد فعل انفعالي، تجلّى في تحديد نظامه الداخلي فترة ثلاثة أشهر للدورة الرئاسية! ولم يكن ذلك تعبيراً عن رؤية سياسية قصيرة النفس فقط، قامت على تصور سقوط سريع للنظام، بل كان تعبيراً كاريكاتورياً عن رد فعل مؤداه: بدلاً من رئيس إلى الأبد، نريد رئيساً مؤقتاً، ومؤقتاً جداً، أي رئيساً شكلياً وعابراً، فقد صرنا ضد كل رئيس، الأمر الذي تسبب في أكبر أزمات المجلس الوطني الداخلية، عندما استقال رئيسه الأول، برهان غليون، تحت ضغط الحملة الصاخبة التي شنّتها أوساط معارضة ضد إعادة انتخابه، ولأشهر ثلاثة فقط!
لاحقاً، تكررت الظاهرة، عندما أصبح منصب الرئاسة الشغل الشاغل لحياة الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة السورية، الداخلية، فمن أجله تقوم الاصطفافات، وتنقسم الولاءات، وتشتد التدخلات، ذلك أن الرئيس ما زال الفتى المخلّص، والمنقذ الذي تنتظر منه المبادرات، وما أكثرها كانت مع أول رؤسائه! أما عند وصول رئيس جديد فيجب أن تقوم قيامة الائتلاف، أو يتهدد بالانهيار عند إعادة انتخابه، أو عند الاضطرار لانتخاب خلفه.
وبالعودة إلى التاريخ السوري، كانت ظاهرة الزعيم البطل تبدو حلاً لمشكلة النزعة الفردية إلى الزعامة لدى جميع السوريين، والتي تردد أن الرئيس السوري السابق، شكري القوتلي، حذّر منها جمال عبد الناصر، عندما انتُخب رئيساً لجمهورية الوحدة، بقوله: أسلمك أربعة ملايين زعيم سوري، الله يعينك عليهم.
"
تضمنت النزعة الفردية السورية شيئاً من حدة العنفوان والحس بالكرامة العالية للإنسان
"
ذلك الحل يحقق التصعيد الذي تشير إليه سيكولوجيا الجماعات، عندما تتعالى كاريزمية الزعيم الملهم على ميول الزعامة والترؤس عند الأفراد، وتطفو فوقها! لكن، الوقائع برهنت أن الزعيم مسار ديكتاتور، يأمر فيطاع، ويقود الجماهير بالاستناد إلى الشرعية الثورية للحزب الواحد حيناً، أو إلى موروث المستبد العادل حيناً آخر. ودائماً في سياق تاريخي، قام على غياب العقد الاجتماعي وإلغاء الحياة السياسية والمجتمع المدني، وانتهى إلى ما نشهده من انهيارات للدولة والمجتمع معاً. وفي الواقع، إن تضمنت النزعة الفردية السورية شيئاً من حدة العنفوان والحس بالكرامة العالية للإنسان، فقد كسّرت حقبة الديكتاتورية البعثية الطويلة من ذلك إلى حد كبير، واستبدلتها بالخوف من الأمن و"بيت الخالة الشهير"، فجعلت تلك الفردية منطوية على حذر وشك، وعدم اطمئنان للآخر السوري، إلا بعد تجربة وطول تمحيص، وهيهات يتوفر الأمر.
بذلك، غدت ميول الفردية والتشكيك وجهاً آخر لظاهرة طلب الزعيم والمنقذ. وفي هذا السياق، بدلاً من أن تتوجه المعارضة السورية إلى بناء قيادة للمعارضة، أو زعامتها التي تحتاج الثورة لصناعتها حقاً، على حد قول بعضهم، فقد ذهب أبرز المعارضين مذهب التشكيك بأي محاولة لذلك. وكم نتذكر مساهمة بعض الديمقراطيين بتخوين المجلس الوطني فور ظهوره، إلى درجة تسميتهم له بالمجلس اللاوطني، ومجلس اسطنبول، ومهاجمة رئيسه، وتشبيهه ببشار عند إعادة انتخابه، واتهامه بسيطرة فئوية عليه، ثم انقلابهم للتعاون مع المجلس نفسه ورجاله داخل الائتلاف الجديد، ووضعهم يدهم مع يد من كانوا يشككون بهم من قبل! وليس من طريف المفارقة ملاحظة استمرار بعضهم في منصبه اليوم، بعد مرور ضعف ما يعادل دورتهم النظامية، أو عودة بعضهم الآخر إلى فزّاعة السيطرة الفئوية عند كل فشل انتخابي!
فهل آن أوان استخلاص الدروس حول حاجة الثورة السورية إلى قيادة؟ علماً أنه لا بد من ملاحظة الفعالية الكبيرة لثورة وسائل التواصل والإعلام وتدخلهما الكبير في هذا المجال، لا بسبب طابع الثورة العفوي، وانتشار إعلام المواطن الفرد بصورة غير مسبوقة فقط، بل بسبب استفادة إعلام النظام وحلفائه من ذلك، وتوظيفه في جهده المنظم، الذي لا شك في أنه يستهدف تحطيم صورة الثورة وقياداتها، بطبيعة الحال.
يتقدم تنظيم «داعش» بمخيلة شيطان وبإصرار مؤمن. وفيما هو يمضي في قتاله على جبهة لم تكن مرة موحدة وطويلة كما هي الآن، يتهافت عليه شبان (وشابات) من سائر أنحاء الأرض. فالأمر، والحال هذه، أكثر من فانتازيا ماضوية تخيلنا ذات مرة أنها المعنى الوحيد لـ «الخلافة».
يوم الخميس الماضي، نشرت «نيويورك تايمز» تحقيقاً كتبه ديفيد كيركباتريك عن هؤلاء الشبان الذين يفدون إلى «داعش» من تونس، البلد الأكثر تصديراً للمجاهدين ممن يقصدون سورية والعراق، على رغم أنها تعيش لحظة ثورية تستغرق البلد وتعبئ طاقاته، كما تشي باحتمالات نجاح نسبية لم تُكتب لبقية الثورات العربية. وهذا فضلاً عن أن الوضع التونسي الجديد فتح الباب لتعددية سياسية استعرضت الأحد الماضي آخر انتخاباتها النيابية التي ستتلوها انتخابات رئاسية، ما ينم عن أن ربط الإرهاب بعامل أوحد، هو هنا القمع، قد لا يكون كافياً أو دقيقاً.
على أي حال، فإن ما ستكتفي به هذه الأسطر هو نقل بعض عبارات تفوه بها شبان تونسيون أجابوا عن سؤال الصحيفة الأميركية: لماذا الحج الجهادي إلى سورية والعراق؟
«هناك الكثير من العلامات على أن النهاية (نهاية العالم) وشيكة، بحسب القرآن»، يقول أيمن، 24 سنة، الذي كان يسترخي مع أصدقائه في المقهى. وهو، مثل سواه، امتنع عن إعطاء اسمه الكامل خوفاً من مطاردة الشرطة.
بلال، عامل في مكتب، كان يجلس في مقهى آخر، هلل لـ «الدولة الإسلامية» بوصفها قاطرة مقدسة ستطيح في النهاية الحدود العربية التي رسمتها بريطانيا وفرنسا مع نهاية الحرب العالمية الأولى: «فتقسيم البلدان (عمل) أوروبي»، كما قال بلال، 27 سنة، «ونحن نريد أن نجعل المنطقة دولة إسلامية سوية، ومن سورية ستكون البداية».
مراد، 28 سنة، وهو الذي قال إنه يحمل شهادة جامعية متقدمة في التكنولوجيا إلا أنه لم يحصل على عمل إلا في البناء، سمى «الدولة الإسلامية» الأمل الوحيد بـ «العدالة الاجتماعية»، ذاك أنها ستمتص مَلَكيات الخليج الغنية بالنفط وتعيد توزيع ثرواتها، فـ «هي الطريق الوحيد لكي تعاد للناس حقوقهم الصحيحة»، كما قال، مضيفاً: «إنها واجب على كل مسلم».
وقد أصر كثيرون على أن أصدقاءهم الذين انضموا إلى «الدولة الإسلامية» أرسلوا تقارير إلى أقاربهم عبر أجهزة الإنترنت حيث يقيمون، مثلما أرسلوا أجوراً، لا بل نساء. «إنهم يعيشون أفضل منا»، كما قال وليد، 24 سنة.
وسام، 22 سنة، قال إن صديقاً غادر قبل أربعة أشهر أخبره أنه «يعيش حياة لطيفة ومريحة حقاً» في ظل «الدولة الإسلامية».
هكذا يلوح الجهاد «الداعشي» حيزاً عريضاً يتسع لكل شيء، للإيماني والخرافي والسياسي والاقتصادي، للمحافظ وصولاً إلى معانقة السلف الصالح وللثوري حتى تدمير هذا العالم ومعانقة العدم المحض، للغيري الذي لا يفكر بنفسه وللانتهازي الذي لا يفكر إلا بنفسه، للأخلاقي الذي يترادف عنده الدين والأخلاق وللسافل الذي يستخدم الدين كي يطعن به الأخلاق، وطبعاً ودائماً للشخصي بما هو وصفٌ لعلاقة الفرد مع جماعة ولمدى تكيفه مع محيط.
هكذا يصير مفهوماً أن يتوجهَ إلى سورية أشخاص يمتون بصلة يعونها إلى الإسلام، وآخرون يمتون بصلة لا يعونها إلى إسلام لا يعونه، وعلى أطراف هؤلاء وأولئك يتسع المجال لشبان لا تربطهم بالإسلام صلة!
«للأسف العراق يتفكك». العملية السياسية «توشك ان تفشل». «التعايش بين المكونات يكاد يكون منعدماً». «للأسف النزاع السنّي - الشيعي موجود». اذا لم تعتنق الدول ذات التركيبة المتنوعة مبادئ الديموقراطية والتعايش والشراكة، فإن «كل الكيانات التي اصطنعت بعد الحرب العالمية الاولى يمكن ان تتفكك وتعود الى احوالها الطبيعية». التفكك يتعمق في سورية وعودتها الى ما كانت عليه قبل اندلاع الاحداث «امر مستبعد وشديد الصعوبة».
هذا ما قاله لي في أربيل الرئيس مسعود بارزاني رئيس اقليم كردستان ونشرته «الحياة» في الخامس من ابريل (نيسان) الماضي، اي قبل شهرين من استيلاء «داعش» على الموصل وما تبعها من تسارع التفكك في العراق وسورية.
تمنيت يومها، كعربي، ان يكون المتحدث مخطئاً، لكن صحة توقعاته دفعتني الى العودة الى حديثه، خصوصاً بعد تطورين لافتين. الاول موافقة برلمان كردستان على منح رئيس الاقليم حق ارسال قوات من البيشمركة للمشاركة في الدفاع عن مدينة عين العرب (كوباني) السورية. والثاني اتفاق القوى الكردية السورية على تشكيل «مرجعية سياسية موحدة» في الادارة الكردية على الاراضي السورية.
ان يرسل اقليم كردستان مقاتلين الى سورية عبر الاراضي التركية عمل يؤكد ان سورية التي كانت لاعباً وراء حدودها تحولت بالفعل ملعباً للآخرين. واتفاق القوى الكردية السورية، المتهمة اصلاً بعلاقات مع النظام، على مرجعية سياسية موحدة يكشف قناعتها بأن عودة سورية السابقة صارت متعذرة وأن القوى الكردية تستعد لبلورة «اداراتها الذاتية» داخل الكيان السوري.
كانت ولادة اقليم كردستان العراق استناداً الى الدستور العراقي الذي أقر في 2005 حدثاً كثير الدلالات. زرت مقر الاقليم في تلك السنة وكان اول ما لفتني ان المقر والرئيس يقيمان في ظل علمين: علم العراق وعلم كردستان العراق. تساءلت يومها عما سيكون عليه شعور الكردي المقيم في سورية او تركيا او ايران حين يشاهد اكراد العراق ينتخبون رئيساً يشبههم وبرلماناً يشبههم وحكومة تشبههم.
كان واضحاً ان ولادة اقليم كردستان العراق حدث لا يعني فقط المقيمين في الاقليم المقيم على حدود تركيا وسورية وإيران. تضاعفت جاذبية الاقليم حين تمكن من ترسيخ الامن في بلد مضطرب وإطلاق ورشة ازدهار في بلد يتلوى على نار مواجهات متعددة. ربما بسبب هذه الجاذبية وخطورتها كان بارزاني يمارس اقصى درجات الحذر. ردد مراراً ان الحل للأكراد في الدول الاخرى ليس استنساخ تجربة الاقليم، بل العمل من اجل نيل حقوقهم وفقاً للأوضاع في كل بلد.
كانت جاذبية اقليم كردستان مصدر قلق للدول المجاورة. قبل سنوات، دعت السلطات السورية بارزاني الى زيارتها، لكنها اشترطت استقباله بصفته رئيساً للحزب الديموقراطي الكردستاني لا رئيساً للإقليم وهو ما رفضه. بعد اندلاع «الربيع العربي» غيّرت دمشق موقفها، لكن الزيارة لم تحصل.
لم تعد القصة قصة اقليم كردستان العراق. وغالب الظن ان بارزاني لن يكون الزعيم الوحيد الجالس تحت علمين. ها نحن نسمع ان خرائط سايكس- بيكو رُسمت على عجل وبعيداً عن مشاعر من حشروا فيها. وأن هذه الخرائط شاخت وتمزقت. وأن الحدود سقطت. وأن التعايش سقط هو الآخر. ها نحن نسمع ان الدولة الأمة فشلت. وأن البحث سيدور حول تنظيم الطلاق داخل الخرائط. وأن عصر الدولة المركزية القوية انقضى. وأن علم الدولة المركزية هو مجرد غطاء للأعلام الصغيرة الحقيقية. وأن الأحداث كشفت ان زعيم كل مكون كان يخفي تحت جلده علماً صغيراً اقرب اليه من العلم الكبير. وأن الناس يموتون من اجل العلم الصغير لا من اجل العلم الكبير.
ها نحن نسمع ان السلطات المركزية ستكون ضعيفة. وأن كل مكون سيعيش في ظل حاكم محلي يشبهه. وفي ظل حرس وطني من مذهبه. وهذا سيعني عملياً ان المواطن كما الزعيم سيعيش في ظل علمين: علم المذهب وعلم البلاد. وأن هذا الامر معمول به عملياً في العراق. وأنه المستقبل المتوقع لسورية. واليمن. وليبيا. وأن هذا الحل مستورد من التجربة اللبنانية حيث يعيش كل زعيم تحت علمين وإن أخفى احدهما وحيث لا تتفق الطوائف-الأقاليم إلا على منع قيام الدولة المركزية الصارمة.
لم يجامل وزير الخارجية الأميركي، جون كيري، أحداً في كلمته في افتتاح مؤتمر جنيف الثاني في مونترو، في 22 فبراير/كانون ثاني 2014 "وهكذا، ففي الوقت الذي لا مكان فيه لمرتكبي هذا العنف (ويعني بشار الأسد)، فإنه لا يمكن أن يكون أيضا مكان لآلاف المتطرفين العنيفين الذين ينشرون أيديولوجيتهم البغيضة، ويفاقمون معاناة الشعب السوري". كان هذا الكلام واضحاً جداً أن الولايات المتحدة الاميركية تبحث عن مكون ثالث، ليرسم مستقبل سورية. وهذا ما يلتقي، بوضوح، بما جاء في نص البند أ من الفقرة التاسعة من وثيقة جنيف لعام 2012: "إقامة هيئة حكم انتقالية، باستطاعتها أن تهيئ بيئة محايدة، تتحرك في ظلها العملية الانتقالية، وتمارس فيها هيئة الحكم الانتقالية كامل السلطات التنفيذية. ويمكن أن تضم أعضاء من الحكومة الحالية والمعارضة ومن المجموعات الأخرى. ويجب أن تشكل على أساس الموافقة المتبادلة". وفي العلوم القانونية، يعلم الجميع أن لفظ يمكن لا يعني الوجوب، بل إمكانية حدوث الشيء. وهنا، لابد من تفسير ما هي المجموعات الأخرى التي يمكن أن تتشكل منها هيئة الحكم الانتقالي، فهذه المجموعات ليست من النظام، وليست من المعارضة.
هذان الغموض والالتباس سيسمحان للولايات المتحدة بحركة كثيرة، فإذا كان موقفها من النظام يمكن اعتباره واضحاً، فإن موقفها من المعارضة هو الأكثر التباساً، فهي دائما تتحدث عن معارضة معتدلة، وفي أحيان كثيرة، يبدي مسؤولوها شكوكهم بوجود مثل هذه المعارضة.
تشكك الولايات المتحدة، والتي تتعامل مع "الائتلاف الوطني"، باعتباره الجسم الرئيس للمعارضة، بين الفينة والأخرى، بمدى تمثيلية هذا الائتلاف، بل لقد حثته بأكثر من مناسبة على ضرورة أن يبرم اتفاقاً مع قوى المعارضة الأخرى، والمقصود بها هنا هيئة التنسيق الوطني، وهو أمر كان يرغب به الموفد الدولي السابق، الأخضر الإبراهيمي، حيث أكد، أكثر من مرة، أنه لا يمكن عقد مفاوضات مع النظام، إلا بمعارضة وازنة ومقنعة، وتمثل جزءاً مهما من الشعب السوري. ولكن، على الرغم من هذه التحفظات، تمت الدعوات في مؤتمر جنيف، ورضخ الإبراهيمي للرغبة الأميركية في عقد هذا المؤتمر، من دون توفير شروط النجاح له، الأمر الذي أدى به، في النهاية، إلى الاستقالة، وترك هذه المهمة لإدراكه أن الولايات المتحدة لم تكن جادة في توفير متطلبات نجاح المؤتمر.
ومن المفارقات العجيبة، الآن، أن واشنطن التي مازالت تبحث، منذ أول الثورة السورية، عن معارضة معتدلة تتعامل معها، وجدت ضالتها، أخيراً، في صالح مسلم، والذي يعتبر بشكل ما الذراع العسكري الوحيد لهيئة التنسيق الوطني، فالولايات المتحدة الأميركية التي كانت تتحفظ، دائماً، على دعم المعارضة المسلحة، بذريعة منع وصول السلاح إلى الأيدي الخطأ، تتخلى عن كل هذه التحفظات، وتلقي بالسلاح جواً على قوات صالح مسلم في عين العرب، ليصل جزء منها إلى الأيدي الخطأ (داعش) من دون أن يرف لها جفن.
ولا يمكن فصل هذا المشهد عن اللقاءات التي تمت بين حزب صالح مسلم ومسؤولين أميركيين، في باريس في الثاني عشر من أكتوبر/تشرين أول الجاري، ولا يمكن فصل هذا، أيضاً، عن تصريحات رئيس هيئة التنسيق، حسن عبد العظيم، بعد لقائه المبعوث الأممي إلى سورية، ستيفان ديمستورا، في الحادي عشر من سبتمبر/أيلول الماضي، حيث استخدم عبد العظيم مصطلح ضرورة وجود معارضة وازنة ومقنعة، تبدأ بالتفاوض حول مرحلة انتقالية، بل إنه أضاف أن المعارضة المسلحة التي تقبل بالحل السياسي يمكن أن تكون ممثلة في أي عملية سياسية، مع العلم أن هيئة التنسيق كانت تدين عسكرة الثورة، وتدين جميع الفصائل المعارضة التي تحمل السلاح.
"
حضور الائتلاف القاصر في المشهد السوري الداخلي يعززه قصور الحضور في اجتماعات الائتلاف الذي يترافق عادة مع تفكير سحري، وهمي منفصل عن الواقع
"
إن تفاهم الأطراف الكردية الذي تم في دهوك في الثاني والعشرين من الشهر الجاري، والذي تضمن تشكيل قيادة سياسية عليا مشتركة بين حزب صالح مسلم والمجلس الوطني الكردي، أحد المكونات الرئيسية في الائتلاف الوطني، يوضح بدقة أن جزءاً من هيئة التنسيق (حزب الاتحاد الديمقراطي) بات في تحالف واحد مع جزء من الائتلاف (المجلس الوطني الكردي)، وسيكون لهذا التحالف الجديد قوات عسكرية مشتركة. هنا يصبح مفهوماً جداً تقارب الولايات المتحدة مع صالح مسلم. فهذا التقارب لا يمكن عزله عن محاولة واشنطن بإنتاج معارضة معتدلة (كما تطلب) تشكل أساساً للحل السياسي الذي يتم تجهيز المشهدين، المحلي والإقليمي، له في الوقت الراهن. وسيكون قوام المعارضة العسكرية المعتدلة قوات مشتركة بين صالح مسلم من هيئة التنسيق والمجلس الوطني الكردي من "الائتلاف"، إضافة إلى عدد من أبناء العشائر العربية في المنطقة الشرقية، يمكن الوثوق بهم على حد تعبير السياسيين الأميركيين.
وهذا ما عبر عنه المبعوث الرئاسي الأميركي الخاص للتحالف الدولي لمحاربة داعش، الجنرال جون ألن، حيث صرح لمحطة سي إن إن، في الأول من أكتوبر/تشرين أول الجاري، إن "نيتنا بناء قوات موثوق منها، وقوات مدقق فيها، وقوات ذات مصداقية"، وأضاف أن هدف هذه القوات هو فقط محاربة داعش، وليس أي شيء آخر، حيث قال، في اللقاء نفسه، إن الأسد ليس أحد خياراتنا، وأنه في نهاية المطاف سيكون هناك محصلة سياسية.
لقد ساهم الائتلاف الوطني السوري، بتياراته السياسية وبأعضائه، في الوصول إلى هذه النتيجة التي تريدها الولايات المتحدة، فقد أثبت الائتلاف للجميع أنه غير قادر على أن يكون شريكاً للعالم، بسبب العبث السياسي الذي يمارسه، والذي يصل، أحياناً، إلى العبث البوهيمي الذي لا يمكن فهمه وتحليله والوقوف على أسبابه، فحضور الائتلاف القاصر في المشهد السوري الداخلي يعززه قصور الحضور في اجتماعات الائتلاف الذي يترافق عادة مع تفكير سحري، وهمي منفصل عن الواقع، وغير قادر على رؤية حركة الأحداث المحيطة به. وذلك كله جعل من الائتلاف جسماً أشبه بالميت سريرياً الذي يرجو الجميع له أن يسلم الروح، ليتخلص من عذاباته، من دون أن يقدم أحد على إطلاق رصاصة الرحمة على رأسه.
ويبدو أن عوامل التدمير الذاتي، والتي بلغت مداها داخل الائتلاف، إضافة إلى عدم قدرة أعضاء الائتلاف على قراءة الواقع، وإدراك حجم التوازنات الإقليمية والدولية في القضية السورية. وذلك كله سيؤدي إلى أن يتحول الائتلاف إلى ذكرى في حياة السوريين، ولن يكون هذا اليوم بعيداً في ظل غياب الائتلاف، عنصراً فعالاً وشريكاً يمكن الركون إليه في العملية السياسية، ولن يتبقى من المشهد المعارض في سورية سوى هيئة التنسيق، والتي يمكن تأهيلها، وتلميع طروحاتها "المعتدلة" بقليل من الجهد، ولا سيما وأن عملية التعاون العملي والفعلي معها قد بدأت بالتعاطي الجدي مع ذراعها العسكري، قوات صالح مسلم، والذي سنراه يوما ما يجلس على الطاولة نفسها، مقابل جميل حسن، ليقرروا مصير سورية. لن يكون هذا المشهد بعيداً جداً. لكن، هذه المرة سيكون برعاية أميركية، وبمباركة دولية وإقليمية. يومها سيقول الائتلاف الوطني "ليتنا كنا معهم لفزنا فوزاً عظيما".
لا أعرف لماذا "كلفني" أحد مواقع التواصل الاجتماعي بتأسيس ائتلاف جديد للمعارضة السورية. ولا أدري من أين استقى معلومته، الخاطئة جملةً وتفصيلاً، والعارية تماماً عن الصحة. ربما كان سبب قراءته الخاطئة إعلاني في اجتماع هيئته العامة الأخير العزوف عن حضور جلساته، من الآن فصاعداً، في حال تواصات مشاحنات أعضائه، فاعتقد محرر الموقع أنني خرجت من الائتلاف، لأنني سأشكل بديلا له! أو ربما شجعت مواقفي النقدية من سياسات الائتلاف وتركيبته الاعتقاد بأنني أريد تأسيس غيره. أخيراً، ربما كانت لدى من فبرك الخبر رغبة شخصية في وجود ائتلاف جديد، يقوم على أنقاض الحالي، وأراد تكليفي بتشكيله، من دون أخذ رأيي أو استشارتي.
ليس من المعقول أن يشكل أحد ائتلافاً جديداً، لمجرد أن موقفه نقدي من ائتلاف قائم، فالأمور ليست هكذا، ولا يجوز أن تكون مزاجية، أو إرادية. ومن يعرف عدد الدول التي تدخلت في تشكيل الائتلاف الحالي الذي يساوي تقريباً عدد أعضائه، يعلم أنها لن تسمح لأحد بإقامة بديل له، خصوصاً إن كان يريد مثلي استعادة قرار السوريين المستقل، أو يسعى إلى علاقاتٍ تتسم بالندية مع الأطراف الخارجية المتحكمة بالمعضلة السورية، التي تتولى إدارتها بكل عناية وحرص. كما أنه ليس باستطاعة أي فرد تشكيل ائتلافٍ مستقلٍ، يعيش من معونات وأعطياتٍ ومنح خارجية، ويخضع لإرادات عربية وأجنبية متناقضة، حتى إذا امتلك قدرات سوبرمانية وخارقة. ومن يعرف بنية مؤسسات الثورة السياسية والعسكرية، وتعقيدات الساحة السورية، ونوعية بعض قادتها، يدرك أن إصلاح الائتلاف لا يكفي وحده لانتشالنا من ورطتنا، وتحريرنا من غفلتنا، ويفهم أن بقاء الائتلاف الحالي على بنيته يجعل الائتلاف البديل أسير واقع هش ومأزوم، يحتم فشله.
تكمن مشكلة الائتلاف في امتناعه عن بذل أي جهد جدي، أو منظم، لتغيير وضعه الذاتي، وبالتالي أوضاعه الموضوعية، أو التأثير عليها. في ظل وضع قائم محتجز ومتخلف، وحال موضوعية مليئة بالعيوب، لا يمكن إصلاح أي تنظيم من دون مبادرة قيادته أو موافقتها. لكن مشكلة الائتلاف تكمن هنا بالذات: في رفض قيادته إصلاحه وإفادتها من عيوبه التي تدفعها إلى تعميق انقساماته، كي لا يصير أداة أو حاضنة أي تغيير. في وضع هذه حاله، يصير إقدام أي شخص على مجرد التفكير بتأسيس ائتلاف جديد ضرباً من رغبة عبثية شديدة الإيذاء، حتى إن كان غبياً إلى حدٍ يتجاهل معه دور الخارج المقرر في إدامة بنيته الراهنة، الكابحة للإصلاح والتغيير، وإسهام قياداته وكتله في المحافظة على عيوبه وأخطائه، علماً أن أي إصلاح مستقل سيقضي، تماماً، على موارد الائتلاف المالية، وبالتالي، على فرص تأسيسه واستمراره في وجه خارج جعل من المحال استقلاله، أو انفكاكه عنه، أو تحصينه، من دون تدخلاته في كل كبيرة وصغيرة من شؤونه، وإدارته بالوكالة في أحسن الأحوال، كما في الحد من رغبته في القرار الوطني المستقل، وقدرته على إحرازه، ما دام مجرد سعيه إلى أمر كهذا يفضي إلى حرمانه من لقمة العيش وطلقات البندقية.
هذا التعقيد تعززه مصالح تشد أطرافاً في الائتلاف إلى هذه الجهات، وأطرافاً أخرى إلى تلك، وتؤكده علاقاتها مع داعميها المتصارعين، فلا يعقل أن أكون أحمق إلى الحد الذي أقدم معه على تأسيس ائتلاف جديد، أعرف أن قيامه استحالة، وأنه سيضر بشعبنا الذي يريد الوضوح، ولا يحتاج إلى مزيد من البلبلة والضياع، بينما تفلت قضيته أكثر فأكثر من يديه.
واحدة من الانتقادات التي يتم توجيهها للثورة السورية، أو بالأصح للقيادات السياسية المعارضة، والنخب الفكرية والإعلامية، هي العجز عن جعل الغرب يشعر بأن تأييده ثورتهم يحمل فائدة سياسية ومعنوية وقيمة أخلاقية له، حتى أن مثقفين سوريين طالبوا بإيجاد أساليب إبداعية جديدة، غير طريقة عرض المظالم، بالصورة والكلمة التي ثبت عدم جدواها لتسويق قضية السوريين في الغرب، وذهب وزير الخارجية العراقي السابق، هوشيار زيباري، إلى أن الأكراد كانوا أكثر براعة من السوريين، حينما أقنعوا الغرب بعدالة قضيتهم ومسارعته لنجدتهم.
ومع أهمية هذا الأمر، فإن ثورات الشعوب، في الغالب، ليست مطالبة بتحقيقه. وفي الغالب، الثورات مثل الدول، عندما تكتمل أركانها: امتدادها على رقعة واسعة من الجغرافيا الوطنية، واشتمالها على أكثرية شعبية، يصبح الاعتراف بها أمراً واقعاً، وأكثر من ذلك، تصبح حماية الشعب الذي يمثلها حقاً بحكم القانون الدولي وقانون الحماية الإنسانية. ولا شك أن مجرد شعور السوريين بأن تأييدهم مشروط بقدرتهم على إقناع الغرب (بماذا؟) بحد ذاته أمر مربك، فهو يعني وضع قضيتهم في إطار جملة تفضيلاتٍ، قد يقبلها أو يرفضها، وتضع الغرب في موقع المتطلّب الذي يشترط إنتاج ثورة بتعبيرات ومظاهر محدّدة، وقد يطالب بإجراء تعديلات معينة، تتناسب وذوقه وثقافته التي هي، في النهاية، نتاج بيئته الخاصة، الأمر الذي يخرج الثورات عن سياقها الطبيعي، بوصفها تعبيراً عن مظالم شعب وتطلعاته إلى العيش بكرامة، والأهم هويته الوطنية والقومية، ويضعها في إطار المنتجات السلعية التي تراعي شروط تقبّل المستهلك الغربي لها.
في المقابل، صمم هذا الغرب نفسه موقفاً قبلياً من الثورة السورية، وجعل أمر اختراقه صعباً، إن لم يكن مستحيلاً. رفض سردية الحدث كما قدمته الثورة، وكان ينتظر الطرف الآخر حتى يجهز سردية موازية، حتى لو كانت من نوع تحقيقات سيمور هيرش البائسة، أو على شاكلة روايات بثينة شعبان الخرافية، أو ينتظر أحداثاً هنا وهناك، كان يقدّر حدوثها سلفاً، نتيجة قراءته تطورات الحالة، ليثبت أن ما يحصل هو جملة من الحوادث المتناقضة في سباق صراعي، وليدعّم موقفه القبلي بأن لا مصلحة له بالدخول في هذه المعمعة.
لكن، أيضاً، وللإنصاف، تبيّن أن الرأي العام الغربي لم يكن يعرف عن سورية، على الرغم من وجود مئات البعثات الدبلوماسية والملحقيات الثقافية بين الطرفين، سوى ما كان يصدّره له إعلام شركات العلاقات العامة، والتي كانت تركز على بزّة بشار الأسد والسنة والنصف الدراسية التي قضاها في لندن ونمط حياة زوجته التي أطلق عليها لقب "وردة الصحراء"، أما باقي سورية فهي قبائل بدوية، ذات ثقافة مختلفة وطبيعة غيرية، شعب له بنى وتشكيلات اجتماعية واقتصادية وثقافة مختلفة. وقلة المعرفة تشمل الأقليات أيضاً، ولم يكن التعاطف معها إلا بسبب نمطية الصورة الوحشية عن الأكثرية.
"من الواضح أن صدر الغرب لم يعد يتسع لمحاولات الشعوب التحررية، ولم تعد مراكز أبحاثه ومنابره الإعلامية مهتمة بالحديث عن هموم الشعوب وآمالها وتطلعاتها"
ثمة رأي آخر، يرى أن القضية أعقد من ذلك بكثير، ولا يمكن مقارنتها بتأييد الغرب بعض المكونات في المنطقة، ومسارعته لنجدتهم، ذلك أن القضية السورية، وتحديداً وضع الأكثرية فيها، تقع على خط الاشتباك العربي والإسلامي مع الغرب، سواء لجهة صدع العلاقات مع إسرائيل، حيث يتم احتساب المكون الأكثري في سورية في كفة الجهة المعادية وغير المعروفة توجهاتها في المستقبل، وما يمكن أن تكون عليه (لعلّ إيران كانت الأكثر وضوحاً عندما أكدت أن إسقاط الأسد سيؤثر على أمن إسرائيل)، أو لجهة موقف الغرب من الإسلام "الجهادي"، والذي يعتبره عربياً سنياً، أو حتى لجهة موقف تياراتٍ يمينية ممّا يعتبره أسلمة الغرب بسبب كثافة الهجرة الإسلامية، وتلك محدّدات وضعها الغرب تجاه موقفه من القضايا العربية عامة.
بكل الأحوال، يقول المنطق إن السوريين لا يحتاجون حرتقاتٍ إعلامية وسياسية، لإقناع الغرب للوقوف معهم ومساعدتهم، إنْ لم يكن بسبب تعرضهم لعدوان إقليمي ودولي واضح، فلأن الغرب مؤسس النظام الدولي الحديث، ويحق له تقرير ما لا يحق لأحد غيره، وهذا الأمر مسجّل ضمن وثائق قانونية دولية (ميثاق الأمم المتحدة)، كما أنه حصل على المزايا التي تجعله بهذه المكانة نتيجة التزامه "المفترض" تجاه قضايا بعينها، وفي مقدمتها حماية حقوق الإنسان، بغضّ البصر عن انتمائه، في الحرية والكرامة. لكن، من الواضح أن صدر الغرب لم يعد يتسع لمحاولات الشعوب التحررية، ولم تعد مراكز أبحاثه ومنابره الإعلامية مهتمة بالحديث عن هموم الشعوب وآمالها وتطلعاتها، في وقت يبدو فيه الحديث عن بدائية الشعوب وتوجهات الإرهاب و"مستقبلات" المنطقة أكثر إغراء. لذا، كان الحديث المشوّق أكثر هو عن جيواستراتيجية الصراع، وإخفاء البعد الإنساني فيها.
لا داعي لأن يجهد السوريون أنفسهم لإثبات أن ثورتهم مفيدة للغرب. الإشكالية أن الغرب اقتنع أن لا شيء مفيداً يأتي من الشرق، وبالتالي، لم يعد ممكناً اختراق هذه القناعة. إنهم يبحثون عن كل ما يثبّتها، لا يفنّدها، لكن، أيضاً، لا بد من التأكيد على مسألة جوهرية، هي أن ثورة السوريين وتضحياتهم وضعت العالم في مأزق، فهو وإن بدا غير راغب بمساعدتهم، لكنه في الوقت نفسه عاجز عن تجاوز رغبتهم في الانتقال إلى الحرية. هذه التضحيات صنعت تلك المعادلة، وفرضت نفسها واقعاً على السياسات الدولية والرأي العام العالمي، وإن طال مشوار الألم.
شكلت الحرب على تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) في العراق وسوريا، مدخلا لانفتاح الولايات المتحدة على حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي الذي يعد الفرع السوري لحزب العمال الكردستاني المصنف في لائحة الإرهاب.
فقد أظهرت معارك سنجار ضد تنظيم داعش بعد سيطرته على الموصل، ومن ثم معركة كوباني عين العرب شمالي سوريا الخبرة الكبيرة لمقاتلي وحدات حماية الشعب (الجناح العسكري للحزب) في الميدان، وبالتالي أهمية دور هذه الوحدات في الحرب ضد داعش كحليف عملي ومجرب يمكن الوثوق به.
ويمكن فهم أو تفسير سبب الانفتاح الأميركي التدريجي على حزب الاتحاد الديمقراطي واللقاء الذي أجراه المسؤول الأميركي المكلف بالملف السوري السفير دانيال روبنشتاين مع مسؤولين من الحزب في باريس، ومن قبل اللقاء الذي جرى بين جنرال أميركي وقياديين من الحزب المذكور في سنجار بالعراق، قبل أن تقوم الطائرات الأميركية أخيرا بنقل أسلحة وذخائر من إقليم كردستان إلى المقاتلين الكرد في كوباني في معركة متبادلة الأدوار والفوائد، على الرغم من أن مثل هذه العلاقة ستشكل تحديا للتعاون الأميركي التركي في الحرب ضد داعش، بل ولمستقبل العلاقة المتينة بين البلدين لأسباب لها علاقة بالقضية الكردية والموقف منها.
دلالات الانفتاح
"أظهرت معارك سنجار ضد تنظيم داعش بعد سيطرته على الموصل، ومن ثم معركة كوباني عين العرب الخبرة الكبيرة لمقاتلي وحدات حماية الشعب في الميدان، وبالتالي أهمية هذه الوحدات في الحرب على داعش كحليف عملي يمكن الوثوق به"
دون شك، الكرد الذين يعيشون في محيط إقليمي يفتقر إلى الثقة والإيجابية، يطمحون إلى نوع من الحماية الدولية في ظل مخاوفهم الدفينة بسبب ما تعرضوا له تاريخيا من حروب على الوجود وإقصاء للهوية، كما يتطلعون إلى الحصول على أسلحة متطورة في إطار الصراعات والحروب الجارية في المنطقة، فضلا عن طموح قديم في الحصول على اعتراف دولي بحقوقهم القومية وصولا إلى تحقيق حلمهم في دولة مستقلة.
في المقابل تدرك واشنطن أهمية تحول الكرد إلى لاعب إقليمي في المنطقة على وقع التطورات العاصفة، وبالتالي أهمية استثمار دور هذا اللاعب في الحرب ضد داعش خاصة لجهة وجود قوى مجربة على الأرض قادرة على المواجهة والقتال.
ولعل ما زاد من أهمية الدور الكردي هنا، هو الجغرافية الكردية المجاورة للدولة الإسلامية، إذ تبدو ملاصقة لها شرقا وشمالا، بما تشكل ضمانة لمنع توسع نفوذها في منطقة جغرافية حساسة متخمة بالنفط والغاز، ولها مكانة خاصة في الإستراتيجية الأميركية تجاه المنطقة.
وعليه، فان توقيت الانفتاح الأميركي على كرد سوريا يحمل معه طابع الحاجة الأمنية لدورهم أكثر من الانطلاق من موقف مبدئي أخلاقي داعم لحقوق الشعب الكردي وتطلعاته، خاصة وأن الطرف الكردي المقصود بهذا الانفتاح (حزب الاتحاد الديمقراطي بزعامة صالح مسلم) كان حتى وقت قريب موضع شبهة أميركية لجهة علاقته بالنظام السوري وحزب العمال الكردستاني، وبالتالي يمكن القول إن الانفتاح الأميركي يحمل طابع الاختبار لمسار التعاون في الميدان، وهذا في الأساس يشكل الملعب الحقيقي لوحدات حماية الشعب الكردي التي أثبتت جدارتها في معركة كوباني ومن قبل في معارك رأس العين (سريه كانيه) وجزعة وتل حميس ومعبر ربيعة (تل كوجر) على الحدود السورية العراقية.
لكن الثابت أن التطلع الكردي في شأن العلاقة مع الإدارة الأميركية يتجاوز التنسيق والتعاون العسكريين ضد داعش إلى دعم قضيتهم سياسيا، فمشروع الإدارة الذاتية التي أعلنها حزب الاتحاد الديمقراطي قبل أكثر من سنة يحتاج إلى الدعم والاعتراف.
كما أن الحزب ينشد من الانفتاح عليه الاعتراف به ممثلا للحركة الكردية في سوريا في ظل الانقسام والخلافات بينه وبين أحزاب المجلس الوطني الكردستاني التي انضمت إلى الائتلاف الوطني السوري، حيث يتخذ المجلس من أربيل مرجعية له، فيما التنافس بين الحزب الديمقراطي الكردستاني بزعامة مسعود البارزاني وحزب العمال الكردستاني بزعامة عبد الله أوجلان يخيم بظلاله على الساحة الكردية السورية ويمنع حتى الآن تشكيل مرجعية حقيقية لكرد سوريا على الرغم من توقيع الجانبين على أكثر من اتفاق بهذا الخصوص.
لكن بغض النظر عن هذه الإشكاليات فإن الانفتاح الأميركي على حزب الاتحاد الديمقراطي ودعمه بالسلاح يحمل معه عهدا جديدا لهذا الحزب ويفتح الباب على مصراعيه أمام التعاون الغربي معه، وهو ما سيترك تداعيات محلية وإقليمية، خاصة وأن الحزب له امتدادات قوية خارج سوريا.
في التداعيات والعلاقة مع تركيا
إذا كان الهدف الأميركي من وراء الانفتاح والعلاقة مع حزب الاتحاد الديمقراطي هو محاربة داعش، فهذا يعني الدخول في مسار طويل يكتنفه الكثير من الاختبارات والانعطافات، وما يترتب على كل ذلك من متطلبات سياسية وفقا لخصوصية كل مرحلة.
فواشنطن تتطلع إلى تشكيل جبهة واسعة من القوى التي تصفها بالمعتدلة لمحاربة داعش، ومثل هذا الأمر يطرح تحديات كبيرة على الجميع، خاصة وأن العلاقة بين حزب الاتحاد الديمقراطي وقوى المعارضة السورية والمجموعات المسلحة بما في ذلك الجيش الحر ليست على ما يرام على الرغم من التعاون الذي ظهر مع فصائل من الجيش الحر في كوباني بعد تشكيل مجموعة بركان الفرات.
وعليه، يمكن القول إن ثمة تداعيات كثيرة تنتظر الانفتاح الأميركي الكردي على شكل إعادة تشكيل لمرجعيات سياسية وتحالفات ومواقف من القضايا المطروحة، لعل أهمها:
"الانفتاح الأميركي على كرد سوريا ودعمهم بالسلاح لم يكن ليحصل لولا وصول الحوار الأميركي التركي إلى طريق مسدود، وفشل واشنطن في إقناع تركيا بالانخراط في تحالفها وفقا للإستراتيجية الأميركية"
1- على الصعيد الكردي السوري: الاعتراف بتجربة حزب الاتحاد الديمقراطي كتجربة ناجعة قادرة على تحقيق المكاسب، وهذا يعني أن على أحزاب المجلس الوطني -التي ظلت تناكف هذا الحزب وترفض التعاون معه- التفكير بطريقة إيجابية مع تجربته، في مقابل أن يثبت حزب الاتحاد أنه ليس بيدقا بيد أحد.
2- فتح باب التعاون واسعا مع القوى والمجموعات التي تصفها واشنطن بالمعتدلة، وصولا إلى تشكيل تحالفات وجبهات مشتركة بين الأكراد وهذه القوى والمجموعات في إطار الحرب ضد داعش وربما استعدادا لمرحلة ما بعد داعش، أي كيفية إيجاد حل نهائي للأزمة السورية، سواء بتسوية سياسية أم بحرب لإسقاط النظام.
3- أن الدعم الأميركي لمعركة كوباني انطلاقا من أربيل أظهر مدى الترابط الكردي. رغم الانقسام والحدود الجغرافية، فثمة شعور قوي في كل من أربيل وديار بكر بأن سقوط كوباني يعني سقوط الجانبين وشرعيتهما السياسية، وعليه رغم الخلاف مع حزب الاتحاد الديمقراطي سارعت أربيل إلى إرسال أسلحة له، فيما ضغطت ديار بكر بكل الاتجاهات وألهبت المدن الكردية والتركية غضبا وضغطا على أردوغان الذي يخوض حرب أولويات مع واشنطن.
في الواقع، ينبغي النظر إلى أن الانفتاح الأميركي على كرد سوريا ودعمهم بالسلاح لم يكن ليحصل لولا وصول الحوار الأميركي التركي بشأن محاربة داعش إلى طريق مسدود، وفشل الولايات المتحدة في إقناع تركيا بالانخراط في تحالفها وفقا للإستراتيجية الأميركية.
وليس غريبا أن توقيت إيصال إمداد الكرد بالسلاح جاء بعد ساعات من إعلان أردوغان رفضه تسليح الكرد في كوباني ووصفه حزب الاتحاد الديمقراطي بالإرهابي.
ولأجل ذلك فإن قضية تسليح كرد سوريا ستترك تداعيات كبيرة على العلاقات التركية الأميركية حيث تحس أنقرة بأن الهدف من وراء ذلك هو قطع الطريق أمام شرط إقامة منطقة عازلة.
وعليه فإن ثمة تحديات ستتفاقم في الأيام المقبلة على جبهة العلاقات بين البلدين، بالنسبة لواشنطن في كيفية التوفيق بين دعمها الكرد والحفاظ على العلاقة المتينة مع تركيا، فيما بالنسبة للأخيرة في كيفية المواءمة بين مصالحها والمشاركة في التحالف الدولي ضد داعش للحفاظ على علاقاتها مع واشنطن من جهة والحد من التداعيات الخطرة على أمنها من جهة ثانية.
وفي جميع الأحوال تجد تركيا نفسها وكأنها بين حدي سكين، إما دعم الصعود الكردي من بوابة محاربة إرهاب داعش أو مواجهة غضبهم الذي يتعاظم في كل مكان، وفي الحالتين تجد نفسها أمام قضية تزحف إلى داخل البيت التركي.
أولوية أمنية أم قضية شعب؟
في التاريخ، ثمة إشكاليات كبيرة في علاقة الغرب بالكرد الذين كانوا في الكثير من المحطات التاريخية ضحية لهذه العلاقة على مذبح المصالح والاعتبارات.
ولعل من أبرز هذه المحطات فشل الثورة الكردية في العراق عام 1974 عقب تخلي شاه إيران وأميركا عن دعم الكرد في مواجهة الجيش العراقي الذي سرعان ما زحف إلى مدنهم وجبالهم، وقتها لم تنفع كل نداءات ومناشدات البارزاني الأب للإدارة الأميركية بالتدخل لإنقاذهم، بل جاء جواب وزير الخارجية الأميركي آنذاك هنري كيسنجر صادما وبمثابة خيانة للكرد، عندما رد برسالة مقتضبة على مناشدات البارزاني بالقول "إنهم كانوا يقومون بواجبهم، وعلى الأكراد أن يميزوا بين النشاط الاستخباري والعمل التبشيري".
ورغم أن المحطات اللاحقة وتحديدا بعد عام 1991 شهدت تحسنا في العلاقة الأميركية مع كرد العراق فإن ما قاله كينسجر يبقى حاضرا في جوهر السياسة الأميركية تجاه الكرد وقضيتهم، ويعود سبب ذلك إلى طريقة التعاطي الأميركي مع هذه القضية.
ففي الوقت الذي كانت تبدي كل التعاطف مع كرد العراق وتقدم الدعم لهم تجاهلت نهائيا أكراد تركيا وإيران وسوريا، بل وضعت حزب العمال الكردستاني على لائحة المنظمات الإرهابية وساعدت مع الموساد على اعتقال زعيمه عبد الله أوجلان في كينيا قبل تسليمه إلى السلطات التركية عام 1999.
"النظرة الأميركية للكرد لا تنطلق من قضية شعب حرم من حقوقه التاريخية أسوة بالعرب والترك والفرس، وإنما من أنهم يشكلون عنصرا بشريا أمنيا يمكن اللجوء إليه كلما استدعت الحاجة في منطقة حيوية تتجاذبها الصراعات القومية والدينية والنفطية"
ويعني ذلك كله أن النظرة الأميركية للكرد لا تنطلق من قضية شعب حرم من حقوقه التاريخية أسوة بالعرب والترك والفرس بسبب الاتفاقيات الدولية التي عقدت عقب الحرب العالمية الأولى (سايكس بيكو - لوزان) وإنما من أن الكرد يشكلون عنصرا بشريا أمنيا يمكن اللجوء إليه كلما استدعت الحاجة في منطقة حيوية تتجاذبها الصراعات القومية والدينية والنفطية، بمعنى اعتبار الكرد أولوية أمنية يمكن استخدامها في الظرف المناسب ضد هذا الطرف أو ذاك وليس النظر إليهم كقضية شعب وأرض.
وكانت القاعدة الذهبية في هذه المعادلة حتى وقت قريب هي وضع دول المنطقة أمام واقع القضية الكردية بتشابكاتها المعقدة، وعندما تحقق واشنطن مصالحها، فإن الكرد غالبا ما يكونوا ضحية هذه السياسة نفسها. ما سبق لا يقلل من أهمية العلاقة الأميركية بإقليم كردستان والتي وصلت إلى مرحلة من التحالف، لكنه لا ينبغي أيضا التقليل من الدور السلبي للقراءة الأميركية المجتزأة للقضية الكردية، عندما تظهر هذه القراءة الوجه الإنساني للقضية هنا، وتصر على وصفها بالإرهابي هناك، وتتجاهلها بشكل كامل في مكان ثالث.
وفي التوقيت فإن انقلاب الصورة تجاه حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي يحمل الكثير من الدلالة الأمنية المستمدة من الحاجة الأميركية وليس من القراءة السياسية الداعمة لقضية الكرد كقضية شعب وحقوق.
القراءة الأميركية المجتزأة لا تتحمل الولايات المتحدة وحدها السبب فيها، وإنما الكرد أيضا، فهم إما نظروا إليها (أميركا) بصفتها الإمبريالية والاستعمار ويجب تاليا محاربتها حتى لو من ديار بكر كما كان حال حزب العمال الكردستاني، أو النظر إليها والتعامل معها بصفتها قوة ضاربة في كل زمان ومكان ومن دون حساب كما كان حال أربيل، وفي الحالتين كثيرا ما كان الكرد ضحية.
ففي الحالة الأولى تحولوا إلى إرهابيين يمكن قصفهم من الجو في معاقلهم الجبلية، وفي الحالة الثانية تحولوا بنظر الكثير من العروبيين والإسلاميين إلى عملاء للإمبريالية والصهيونية يعملون لتقسيم العراق والمنطقة.
إنها المعضلة الكردية الصعبة على الرغم من أن الحرب ضد داعش أظهرت الكثير من الأهمية الإستراتيجية للكرد وما يترتب على هذه الأهمية من رؤية جديدة للتعاطي مع قضيتهم.
تكشف التطورات الميدانية للحرب في سوريا عن تصاعد في الحرب المزدوجة التي يشنها نظام الأسد من جهة، وجماعات التطرف من جهة أخرى، على السوريين، فيما يتابع التحالف الدولي عمليات القصف الجوي والصاروخي في إطار الحرب على الإرهاب وجماعاته، وجميعها مؤشرات على تدهور متزايد في الوضع السوري، ولا سيما في الجانبين السياسي والأمني وتداعياتهما الاجتماعية والمعيشية، التي تؤدي إلى مزيد من القتلى والجرحى والمهجرين والتدمير.
وتتركز هجمات قوات النظام ضد قوات المعارضة المسلحة وعلى المناطق السكنية في 4 جبهات أساسية؛ جبهة الجنوب في درعا والقنيطرة، وجبهة ريف دمشق، وجبهة الوسط السوري في حمص وحماه، وجبهة الشمال التي تتركز في حلب ومحيطها القريب، وتندرج الأهداف العامة لهذه الهجمات في إطار استراتيجية نظام الأسد الأمنية والعسكرية، وهي استنزاف قوات المعارضة المسلحة، وتدمير المناطق الخارجة عن سيطرته، وإلحاق أكبر الخسائر بسكانها، تمهيدا للسيطرة عليها سياسيا.
وبخلاف الأهداف العامة لهجمات النظام على الجبهات الـ4، فإن ثمة أهدافا تتعلق بالهجمات على كل جبهة، فالهدف الخاص لهجمات جبهة الجنوب يتركز في أمرين اثنين؛ أولهما إحباط مساعي تشكيلات المعارضة للتمدد باتجاه معبر نصيب مع الأردن، ومنع تمددها باتجاه المناطق المحاصرة في ريف دمشق الجنوبي والغربي، الأمر الذي يهدد النواة الأمنية العسكرية الصلبة للنظام في دمشق، فيما الهدف الخاص للهجمات في ريف دمشق يتمثل في إعادة سيطرة النظام على مدن وقرى الغوطة، وإحكام القبضة على القلمون، مما سيوسع حيز السيطرة حول دمشق، ويجعل قلب النظام بعيدا عن التهديدات التي يمثلها وجود تشكيلات المعارضة العسكرية في الغوطة والقلمون.
ولا يخرج الهدف الخاص لهجمات النظام في الوسط، ولا سيما على جبهة حماه في مورك ومحيطها، عن رغبة انتقامية للنظام لخسائره في المنطقة بعد أن سيطرت قوات المعارضة عليها، وطردت قوات النظام منها، وأمنت الطريق بين المنطقة الوسطى والشمال باتجاه إدلب وحلب، حيث هجمات النظام هدفها إعادة السيطرة على حلب من جهة، وإشغال قوات المعارضة فيها عن المشاركة في القتال ضد «داعش» بشكل خاص بعد اندلاع المعارك في عين العرب - كوباني، حيث يستمر هجوم ميليشيات «داعش» منذ أسابيع.
أما الشق الآخر في الحرب المضادة المشتعلة في سوريا، فتمثله الهجمات التي يقوم بها تنظيم داعش، والتي يبدو أبرز فصولها في الهجوم على عين العرب - كوباني، دون أن يكون الوحيد. ففي وسط صمت تجري هجمات أخرى تقوم بها «داعش» في ريف حلب الشرقي لتدمير قوى المعارضة المسلحة هناك، واستعادة السيطرة على مناطق طردت «داعش» منها في الأشهر الأولى من العام الحالي، وبالتزامن مع الهجمات المسلحة للتنظيم، تتواصل محاولات تمدده الدعوي والسياسي في مناطق كثيرة، ومنها ريف دمشق والمنطقة الجنوبية، حيث تتشكل تنظيمات مسلحة صغيرة وخلايا نائمة لـ«داعش».
وسط تلك الحرب المضادة بما تتركه من نتائج كارثية على أكثر من صعيد ومستوى على السوريين، تبدو هجمات التحالف الدولي، وسياسات التحالف الدولي بشأن الحرب على الإرهاب محدودة الأثر، بل يمكن القول إن أثرها سلبي بصورة عامة، ليس لأنها لا تستهدف النظام وقواته، وهو هدف كان ينبغي أن يكون في جملة أهدافها، بل لأن القوى والتشكيلات العسكرية التي تقاوم النظام وجماعات التطرف، لا يتم التنسيق معها ولا دعمها بصورة حقيقية في المستويين السياسي والعسكري.
ففي المستوى السياسي ما زال النظام خارج معادلة الحرب على الإرهاب، فيما توالت تصريحات أميركية ركزت على أن الهدف الرئيس للعمليات ضد «داعش» هو الدفاع عن المناطق التي يهاجمها الأخير، وليس الهجوم على مناطق سيطرته وتحريرها من سيطرة التطرف والإرهاب. وفي المستوى العسكري، لم يقدم للتشكيلات المعارضة العربية والكردية مساعدات من شأنها التأثير على سير المعارك، والمثال الأبرز على ذلك معركة عين العرب - كوباني، بل إن قوات التحالف قصرت في توجيه ضربات عسكرية لميليشيات «داعش» على هذه الجبهة، رغم سهولة القيام بمثل هذا الإجراء.
خلاصة الأمر أن الحرب الجارية حاليا في سوريا لن تؤدي إلى تغييرات جوهرية في موازين القوى القائمة، بحيث يتعزز المعسكر المضاد للإرهاب المزدوج، للوقوف ضد النظام وجماعات الإرهاب والتطرف، ويتم عمليا إضعاف متزايد لمناهضي الإرهاب من الناحيتين السياسية والعسكرية. وإذا كان الهدف، كما يقال في العلن، محاربة الإرهاب والتطرف، فالمطلوب إعادة النظر فيما يتم اعتماده من سياسيات، وما يجري القيام به من خطوات، المطلوب فعلا أن تشمل الحرب ضد الإرهاب حربا على النظام، وأن يتم تقديم دعم حقيقي وفعال للقوى المناهضة للإرهاب، سواء في قتالها ضد ميليشيات «داعش» وأخواتها، أو في قتالها ضد قوات نظام الأسد.
الحرب هي ممارسة للسياسة، لكن بأسلوب مختلف، مخضب بالدم. تقول القاعدة الذهبية: يجب أن يكون لكل حرب هدف سياسي واضح تسعى إلى تحقيقه. الحرب التي ليس لها هدف، أو أن هذا الهدف ليس واضحاً وضوح الدم والتضحية، هي حرب غبية، وعرضة للفشل. ترى ما هو الهدف السياسي للحرب الدائرة حالياً على «داعش»؟ لا أحد يملك إجابة عن السؤال، أو أنه يملك إجابة لكنه لا يفصح عنها. حتى الرئيس الأميركي باراك أوباما، وهو الذي يقود التحالف في هذه الحرب، إما أنه لا يملك إجابة، وإما أنه يريد الاحتفاظ بالإجابة لنفسه. هناك سؤال آخر، هل كل أعضاء التحالف في هذه الحرب على بينة من هذا الموضوع؟ المفترض أنهم كذلك. وإذا كانوا جميعهم يعرفون الإجابة، وهذا المتوقع، فلماذا لا يفصح أحد منهم عنها؟
سيقال إن الأمر واضح وضوح الشمس: الحرب على «داعش» هي جزء من الحرب على الإرهاب. وفي هذا الإطار هي حرب على تنظيم إرهابي متوحش، يجب وجوباً القضاء عليه. وهذا بحد ذاته هدف جليل يستحق التضحية من أجله. هذا القول صحيح تماماً لو أن الأمور ستتوقف عند هذا الحد. لا شك في أن الحرب على الإرهاب مشروعة. ولعلنا نتذكر أنها بدأت بعد أحداث أيلول (سبتمبر) الشنيعة عام 2001. آنذاك لم يكن هناك تنظيم إرهابي باسم الإسلام إلا تنظيم «القاعدة» في أفغانستان. لكن بعد 13 عاماً على هذه الحرب، تكاثرت التنظيمات الإرهابية التي ترفع شعار الإسلام إلى حد أنه يستحيل الآن حصرها. ضعف تنظيم «القاعدة» بشكل ملاحظ في هذه الحرب. لكنه لم يهزم. لا يزال هذا التنظيم موجوداً في المشهد، بل خرجت منه تنظيمات أكثر خطورة أبرزها تنظيم «الدولة الإسلامية». بعبارة أخرى، بدلاً من أن تقضي الحرب على تنظيم «القاعدة»، وتحاصر الظاهرة الإرهابية، تسببت في تفشي هذه الظاهرة، وتكاثر تنظيماتها. وهذا دليل قاطع على أن الحرب على الإرهاب هي حرب فاشلة حتى الآن.
لماذا فشلت؟ ليس لأنها حرب غير مشروعة. على العكس، في الأصل والمبدأ هي كذلك، وتحظى بدعم واسع. لكنها فشلت لأنها حرب غبية. ومعالم الغباء في المرحلة الأفغانية أن الهدف السياسي لهذه الحرب كان ولا يزال هدفاً أميركياً أكثر منه أفغانياً. حصل هذا لأن الإرهاب آنذاك كان في معظمه موجهاً للخارج، وتحديداً للولايات المتحدة. من هنا لم تحظَ الحرب (التي لا تزال عملياً مستمرة) بدعم كبير خارج نطاق شريحة من النخبة تلتقي مع الأميركيين. ولا يزال الجدل مستمراً في واشنطن حول جدوى سحب القوات الأميركية كلياً من أفغانستان في العام المقبل.
وقد تعزز الرأي القائل بضرورة إبقاء بعض القوات هناك على خلفية ما حصل بعد سحب هذه القوات من العراق في ايلول (سبتمبر) 2010. والحقيقة أن الاحتلال الأميركي لهذا البلد بما استند إليه من كذب في مبرراته وأهدافه، وطريقة إدارته، وتواطؤ غير معلن مع إيران، وبما نجم عن كل ذلك من حرب أهلية مدمرة، دفع بما يسمى الحرب على الإرهاب إلى ذروة الغباء حتى بالمعايير الأميركية. لاحظ في هذا السياق ما قاله وزير الدفاع الأميركي السابق روبرت غيتس يوم الاحتفال بسحب القوات عندما قال في مدينة الرمادي، عاصمة محافظة الانبار، بحسب صحيفة «النيويورك تايمز» (الأول من ايلول 2010) بأن «التاريخ هو الذي سيحكم ما إذا كانت حربنا هنا التي استمرت لسبعة أعوام (ما بين 2003 و2010) تستحق كلفتها». والواضح الآن أن التاريخ لم ينتظر كثيراً لإصدار حكمه. فمحافظة الانبار التي تحدث منها غيت هي التي سيسيطر عليها تنظيم «الدولة الإسلامية» بعد سحب القوات الأميركية بثلاثة أعوام. أي أن الحرب الأميركية على الإرهاب فشلت مرة أخرى في العراق. والأغرب أن إدارة أوباما تكرر الأداء نفسه بإعلانها الحرب على «داعش». تتجاهل هذه الإدارة أن الإرهاب الذي انطلق من العراق يختلف عن الإرهاب في أفغانستان من حيث أنه موجه في الأساس للداخل، الداخل العراقي، والسوري، بل والإقليمي. وأن الطائفية الداخلية هي الجذر الأول والأخطر لهذا الإرهاب.
يتبدى غباء هذه الحرب في أمور كثيرة تلقي عليها ظلال شك كثيرة. الأول أن الخلافات بين أطراف التحالف في هذه الحرب كثيرة لا تسمح بمواجهتها ومناقشتها علناً. وحتى عندما ظهر الخلاف مع تركيا بدت إدارة أوباما مرتبكة. تريد أنقرة استراتيجية واضحة ومتكاملة، وترفض واشنطن ذلك، وهي عاصمة الاستراتيجيات. على خلفية ذلك يأتي الأمر الثاني، وهو أن المجهول عن الحرب على «داعش» أكثر من المعلوم عنها. لا أحد يعرف لماذا «داعش» وليس بقية الميليشيات. لماذا محاربة تنظيم واحد عوضاً عن محاربة الطائفية التي أفرزت التنظيم. ولا أحد يعرف لماذا هزت وحشية «داعش» ضمير أوباما، ولم تهزه وحشية النظام السوري التي قتلت أكثر من 250 ألفاً، وشردت أكثر من 10 ملايين بين منافي الداخل والخارج، ودمرت معظم المدن السورية؟ ثم لا أحد يعرف لماذا ستأخذ الحرب أعواماً على تنظيم لا يتجاوز حجمه 30 ألف مقاتل، في مواجهة أكثر من 20 دولة. والمجهول الأخطر في هذه الحرب أنه لا أحد يعرف ماذا بعد هزيمة «داعش». ما هي الخطوة التي يجب أن تلي ذلك؟ تقول تركيا إن أحد أهداف الحرب يجب أن يكون إسقاط النظام السوري. وأميركا ترفض ذلك. نتيجة هذا السجال، وذاك الغموض، تبقى الحرب على «داعش» من دون استراتيجية سياسية، ومن دون هدف سياسي واضح.
سيقال إن هذا ليس غباء، وإنما سياسة متعمدة. ربما هذا صحيح. لكن حتى السياسة تتسم أحياناً بأخطاء غبية بشكل مدمر. السؤال هنا: لماذا يصر أوباما على حصر الحرب على «داعش»؟ أول ما يلفت هنا أن الرئيس الأميركي يتجاهل تماماً، عن قناعة أو انتهازية سياسية لا فرق، أن إيران توظف الميليشيات الشيعية العربية كأداة مركزية في سياستها الإقليمية. والأغرب من ذلك صمت الأطراف العربية في التحالف عن هذا الموضوع أيضاً. وقد تعاظم دور هذه الأداة بعد الاحتلال الأميركي للعراق مباشرة. ومن هنا تكاثر عدد الميليشيات في العراق منذ العام 2003، وبعد الثورة السورية. بل إن هذه الميليشيات هي المسؤولة بشكل أساسي عن بقاء النظام السوري حتى الآن. من هذه الزاوية، تركيز أوباما على «داعش»، هو تركيز على طرف واحد من معادلة الطائفية، هو الطرف السنّي. أي أنه يقبل، أو لا يعترض، على توظيف إيران للميليشيات الإرهابية في الصراع الدائر في المنطقة. من الناحية الأخرى، يرفض ظهور ميليشيات سنّية كرد فعل طبيعي على سياسة إيران. وهنا مكمن الغباء، أو الخبث السياسي في هذه الحرب. فهي حرب تصب حتى الآن في مصلحة إيران، التي فجرت الصراع الطائفي في المنطقة، وهي طرف رئيسي في الحرب الأهلية في كل من العراق وسورية. لماذا يحق لإيران توظيف الطائفية، ولا يحق لـ «داعش» وأخواتها فعل الشيء نفسه؟ تشير أحاديث أوباما وخطواته السياسية أنه يستخدم الحرب الأهلية في كل من العراق وسورية كورقة في مفاوضاته مع الإيرانيين. كأنه يقول للعرب: عليكم بضبط ميليشياتكم، وجعلها تحت مظلة شرعية الدولة، وبالتالي توحيد وضبط مرجعيتها لإحداث التوازن مع إيران. وفي حال تم قبول امتلاك إيران لسلاح نووي، فعليكم امتلاك السلاح نفسه لترسيخ هذا التوازن. إذا كان هذا ما يقول حقاً، فليس هناك ما يؤشر إلى أن الطرف الآخر يصغي لما يقال له.
مهما يكن، يبدو أن الرئيس الأميركي يجعل من آلام الشعبين العراقي والسوري رهينة لمراهناته وأخطائه السياسية. وإذا استمرت هذه الحرب على هذا النحو ستتآكل شرعيتها لمصلحة التنظيمات التي تستهدفها. وما يتداوله الإعلام، خاصة الإعلام الغربي، عن جاذبية «داعش» له علاقة بذلك. تصور لو أن قيادة هذا التنظيم أكثر ذكاء، وعناية بعلاقاتها العامة، وتخلت عن وحشيتها مع مخالفيها، مسلمين وغير مسلمين، كيف ستكون شعبيتها في العالم العربي؟ يوحي هذا السؤال بأن ما يحفظ لحرب أوباما على «داعش» شيئا من المشروعية هو وحشية هذا التنظيم، ليس إلا. على الرئيس أن يسأل نفسه هذا السؤال: إذا كان فشل الحرب على «القاعدة» خلّف مئات التنظيمات الإرهابية. ترى كم عدد التنظيمات الإرهابية التي سيخلفها فشل الحرب على «داعش»؟
شاع في الآونة الأخير خبراً مفاده أن "تنظيم الدولة " قد إستخدم غاز الكلور في العراق ضد الجيش العراقي .
صحيح أنه لم يتم تأكيد الخبر سواء من الأمم المتحدة أو من وزير الخارجية الأميركي , ولكنهم أعلنوا أنهم وجدوا بعض الإشارات التي " ربما " تدل على استخدام هذا السلاح الكيماوي ضد الجيش في العراق .
الناطق الإعلامي باسم بان كي مون وإجابته على سؤال عن صحة هذه " الإشاعة " قال : إننا لانملك أي دليل على قيام تنظيم الدولة باستخدام غاز الكلور في العراق , ولكننا قرأنا بعض التقارير "الغير مؤكدة" .
وبدوره قال جون كيري وزير الخارجية الأمريكي إن الإدراة الأمريكية قد ورد لها تقارير عن إستخدام " تنظيم الدولة " لغاز الكلور , وأن إدارته تحقق في الموضوع ولا تستطيع تأكيد أو نفي الخبر . وفي جميع الأحوال فإنه لاتوجد أية أدلة قاطعة عن هذا الإستخدام .
المؤشرات تدل على أن " تنظيم الدولة " يواجه حاليا أقوى المعارك ويخسر كثيرا من مقاتليه في عين العرب " كوباني " ولم يستخدم غاز الكلور وينهي هذه المقاومة ويبسط سيطرته عليها ويضع الجميع في مأزق وفي موقف محرج !
الخوف كل الخوف أن يكون نشر هذه الإشاعات " الأخبار " هي مجرد خطوة أولية في طريق تبرئة نظام الأسد وتحضيره لعملية إعادة تأهيل قد تحتاج الكثير من الخطط والعمل من قبل من يتحكمون في القرار الدولي .