طفرت دمعةٌ من عيني زينة يازجي، على شاشة تلفزيون دبي، لما حدّثها المعارض السوري، ميشيل كيلو، في مقابلةٍ معه قبل عامين، عن لقائه، أثناء توقيفه في فرع التحقيق العسكري في دمشق، طفلاً في الخامسة من عمره، وُلد في الحبس، (ويقيم) في الزنزانة مع أمه. اصطحب حارس (يبدو أنه رجل طيّب) ميشيل كيلو إليهما، دردش مع الأم، وعرف منها أنها معتقلةٌ "رهينة"، حتى يسلّم زوجها الهارب (الإخواني) نفسه. ودَّ أن يسلي الطفل ويُبهجه، فحكى له حدوتةً عن عصفورٍ على شجرة. غير أن الطفل فاجأه بأنه لا يعرف ما هي الشجرة ولا ما هو العصفور، فليس في معجمه، ولا خياله، مثل هذه المسميات، وهو الذي رأى (النور؟) في الحبس، فلم تصادف عيناه أشجاراً أو عصافير.
ليس صحيحاً، إذن، أن العدو الصهيوني وحده يحوز مأثرة أسر أمهاتٍ حوامل، يلدن في السجون ومستشفياتها، ويُبقي مواليدهن محابيس معهن سنوات. فهذا ديدنٌ معهودٌ، يقيم عليه نظام آل الأسد، وورثه من يحكمون السوريين، الآن، بغاز السارين والبراميل المتفجرة، من عهد الأسد الأب. وقد أكد خبرٌ شديد العادية، قبل أيام، أن الأمر من "الثوابت" المتمسّك بها، وموجزه أن الطبيبة، ماريا بهجت شعبو، تم احتجازها عند عودتها من بيروت، لدى الأمن السياسي في ريف دمشق، ثم نُقلت إلى الإدارة العامة للاستخبارات، قبل أن يُطلق سراحها بعد أن "استضيفت" تسعة أيام. جاء الخبر على أن ماريا وُلدت في السجن في 1988، عندما كانت والدتها سجينةً سياسية، وقضت سنة ونصف السنة فيه. وبعد خروجها، قام والدها بتربيتها، حتى الإفراج عن والدتها بعد سنتين ونصف السنة، ثم اعتقل والدها عشرة أعوام.
عديدون مثل ماريا السورية أبصروا الدنيا في سجون إسرائيل، ثمة أخوّة خاصةٌ تجمعها بهم. وأَن تصير طبيبةً في شبابها، فذلك يعني أن إرادةً قويةً لديها جعلتها تتجاوز الدرامية الجارحة في حياتها، ونظنّها الإرادة نفسها، سيقاوم بها الفتى الفلسطيني، نور غانم، الأسى الغافي في نفسه، وهو الذي عاش أولى سنوات طفولته في سجنٍ إسرائيلي. أُسرت والدته وهي حامل فيه، وولدته في غضون احتجازها، كما سمر صبُح التي سيقت إلى الولادة مقيدةً، ووضعت طفلتها، براء، بعمليةٍ قيصريةٍ تحت حراسة مشددة، وبقيت المولودة مع أمها في السجن مدة غير قصيرة. أما ميرفت طه، فقد وضعت مولودها، وائل، في زنزانةٍ كانت تحتجز فيها. ومن حكايات مثل هذا الشجى الإنساني الأليم، أن عطاف عليان طلبت ابنتها، وكانت في عمر الثمانية شهور، لتكون معها في الحبس الإسرائيلي المقيت.
ليس في وسع الإنسان عندما يُطالع هذه الأسماء، وكثيراً غيرها لم توثقها الصحافة، أن يكون شعوره كما برود أهل الإكوادور بشأن حادث سير في غينيا بيساو. فالألم الإنساني الذي ينطق به ما أصاب تلك النسوة السوريات والفلسطينيات باهظ، ويوجع الروح. تتآخى حكاية العصفور والشجرة مع متوالية الحبس عند ماريا بهجت شعبو، ومع زوبعةِ أسئلةٍ تنفتح واقعيتها السحرية على تفاصيل مروعة، تثيرها مواجع تلك الأمهات الفلسطينيات، وهن يُشاهدن أطفالهن يتحسّسون الدنيا في زنازين مغلقة ووراء قضبان، ولا تُصادف مداركهم غير عالمٍ من الفظاظة. ولقائلٍ أن يرى أن المشترك الثقيل بين المحنتيْن، الفلسطينية والسورية، (يُثري؟) مدونة الألم فيهما بمقاطع بالغة الحرارة، ما يستنفر وجاهة في دعوة أهل السينما والدراما وكتاب الرواية والقصة والمسرح إلى أن يجترحوا من هذه التجارب التي يعصى كثير منها على التخيّل أعمالاً فنية وإبداعية، ستكون لافتة إذا قيّضت لها مواهب وأدمغة وكفاءات خلاقة.. أصاب شيخنا الراحل، هاني فحص، لمّا قال قدامنا، مرة، في منتدى بالقاهرة، إنه لا فرق بين النظامين السوري والصهيوني.
يسعى جهده لإقناعك بالتالي: «عدد متزايد من المراقبين السوريين والعرب على امتداد الشرق الأوسط لديهم نظرة مختلفة إلى قرار [الرئيس الأمريكي باراك] أوباما، بمهاجمة أخطر أعداء الأسد، ‘الدولة الإسلامية’ في قواعدها شمال سوريا. والإدراك السائد هو أنّ الولايات المتحدة قد بدّلت مواقفها، وأنّ الأسد، وقد عزّز مواقعه بسبب هذا التبدّل في الرؤية، لم يعد الهدف الرئيسي للولايات المتحدة، المتمثل في تغيير النظام». والمرء يتساءل، أوّلاً: من هم، حقاً، أولئك «المراقبون السوريون والعرب»؛ وأين، ومتى، راقبوا وتوصلوا إلى خلاصة دراماتيكية مثل هذه؟ وثانياً، متى كان «تغيير النظام»، وليس «تنحّي الأسد» مثلاً، هو هدف البيت الأبيض الرئيسي؛ وكيف، ومتى، تمّ الإعلان عن هذا التغيير، وبلسان مَن؟
هذا نموذج أوّل على (بعض، وليس حتى معظم) طرائق سايمون تيسدول، المعلّق في صحيفة الـ»غارديان» البريطانية؛ كلما شاء التعليق على شأن سوري ما، صغير أو كبير، أسوة بشؤون الشرق الأوسط عامة، بوصفها ميدان اختصاصه المعلَن. نموذج ثان، هو محض تنويع على روحية الافتراض التلفيقي في المقام الأوّل، يسير هكذا: «القيادة العسكرية الأمريكية تقاتل الآن في الخنادق ذاتها مع الجنرالات السوريين في حرب على الإرهاب داخل سوريا، هكذا نشرت صحيفة في دمشق، نقلاً عن دبلوماسي سوري (…) لكن مزاعم رجال الدعاية للنظام ليست كلها خالية من الحقيقة. لقد فتحت الولايات المتحدة خطوط اتصال غير مباشرة مع دمشق في الأسابيع الأخيرة. صحيح أنها لم تطلب الإذن لتنفيذ الضربات الجوية، لكنها قامت مسبقاً بإبلاغ سفير الأسد في الولايات المتحدة حول بدء الهجمات».
أهذا هو، حقاً، طراز القتال معاً «في الخنادق ذاتها»؟ ومتى، في الأساس، كان جنرالات النظام قد قاتلوا «داعش» في بلدة كوباني، أو ـ في المرحلة الراهنة، التي يقصدها تيسدول، تحديداً ـ على أية جبهة قصف جوّي أمريكي؟ وما الجدوى، في أوّل المطاف ونهايته، من مساءلة خلاصات تيسدول هذه، إذا كان تفسيره لتردد أوباما، في تنفيذ ضربات جوية ضدّ نظام الأسد، آب (أغسطس) 2013، بعد لجوء النظام إلى استخدام السلاح الكيماوي في الغوطة، تفسيراً عجيباً منفرداً ومغلوطاً أيضاً: «كان أوباما مستعداً، وإنْ مكرهاً، لمهاجمة الأسد في ربيع 2013، ولم يمنعه من التنفيذ إلا التصويت ضدّ الحرب في البرلمان البريطاني». هل كان تصويت مجلس العموم البريطاني هو العائق، حقاً؟ ثمّ هل كان مشروع الضربات في ربيع 2013، أم في صيفه؟
بذلك فإنّ تيسدول أحد «كبار» ذلك النوع الخاصّ من الكتّاب والمعلّقين الغربيين الذين ابتُلينا بهم، نحن العرب؛ والذين ينقلبون، أو نقلبهم نحن عن طريق بعض عباقرتنا أبناء جلدتنا، إلى خبراء فطاحل فصحاء، لا يُشقّ لهم غبار في تشخيص أمراضنا السياسية والاجتماعية والثقافية والنفسية؛ وذلك بالرغم من اعتمادهم، شبه الكليّ، على معرفة بائسة، جاهزة وسطحية، قائمة إجمالاً على الكليشيهات، وعلى هذه وحدها حصراً أحياناً. وشرّ البلية أنّ بعض هؤلاء يصفّي حساباته المحلية، العقائدية غالباً، على حساب ما هو جوهريّ، كما حين يرتئي يساري بريطاني أو أمريكي أو فرنسيّ أنّ العاجل هو مناهضة الولايات المتحدة؛ وأنّ انتقاد النظام السوري، حتى في ما يخصّ ملفات جلية لا تقبل الالتباس، مثل جرائم الحرب وارتكاب المجازر وممارسة العقاب الجماعي وانتهاج سياسة الأرض المحروقة… ليست كافية لإدانة النظام، أو تصبّ المياه في طواحين الإمبريالية!
وجه آخر للبليّة أن يتنطح معلّق غربي لهذه الملفات تحديداً، فيكتب عنها ليحشد من الأغلاط والمغالطات ما يُخجل ويُضحك في آن؛ ويتكىء، في التوصّل إلى خلاصاتها، على مصادر معلومات و»مراقبين» محليين لا تقلّ معرفتهم بؤساً، وأحياناً: خبثاً وضلالة وتضليلاً، عن المعرفة البائسة الأمّ التي منها يغرف صاحبنا المعلّق الغربي. وبالطبع، من حقّ أمثال تيسدول التشاور حول موضوعاته مع مَن يشاء، شريطة أن لا يقتصر التشاور على مصدر متعاطف مع السلطة، منتسب إلى مؤسسات شبه سلطوية، إذا لم يكن ممالئاً للسلطة صراحة وعلانية. وفي كلّ حال، وخاصة حين تُطلق أحكام عامة دراماتيكية من طراز قتال أمريكا مع النظام في الخنادق ذاتها؛ ألا يتوجب أن تكون الاشتراطات المهنية، في التحقق من المعلومة وتمحيصها وتدقيقها، أشدّ صرامة ورصانة؟
وليست حال تيسدول هذه جديدة على تراثه في قراءة المشهد السوري، حتى حين كانت عناصره أقلّ تعقيداً بكثير، وكان اصطفاف قواه أوضح من أن توقع المراقب، شبه الحصيف، في أخطاء شنيعة. على سبيل المثال، ذات يوم غير بعيد، اعتبر تيسدول أنّ «جبهة الخلاص الوطني»، التي كانت قد تشكلت أساساً من جماعة الإخوان المسلمين السورية ونائب الأسد السابق عبد الحليم خدام، هي «في الكمون وعلى المدى البعيد أكثر إشكالية» لنظام الأسد من تقرير الأمم المتحدة حول اغتيال رفيق الحريري؛ وأنّ تلك الجبهة كانت «أوّل معارضة منظمة وذات مغزى ضدّ النظام، منذ أربعة عقود»! تلك الخلاصة كانت جهلاً فاضحاً بطبيعة تقييم الشارع السوري، ثمّ المعارضة، لرجل مثل خدّام، ظلّ طيلة عقود أحد أكبر تجسيدات الفساد والاستبداد في سلطة «الحركة التصحيحية»، حافظ الأسد ومن بعده وريثه.
وكان الجهل يشمل، أيضاً، ضحالة مذهلة في معرفة طبيعة هوامش الحركة السياسية والعقائدية التي كانت جماعة الإخوان المسلمين تملكها في الشارع السوري؛ يوم تشكيل الجبهة، ولكن أيضاً خلال العقود التي أعقبت اندلاع مواجهات العنف بين الجماعة والنظام منذ أواخر السبعينيات عموماً. وبدا تيسدول أقرب إلى الغريب تماماً عن حقيقة كبرى، بسيطة وبيّنة، كانت تشير إلى أنّ لقاء الإخوان ـ خدّام لم يمثّل فريقاً معارضاً عريض الأطياف والشرائح، بقدر تمثيله لأطراف متمفصلة مذهبياً، وعاجزة استطراداً عن استقطاب فئات أخرى من أبناء المجتمع السوري (كما فعل «إعلان دمشق» مثلاً). ولأنّ الاخطاء الشنيعة، من حيث الوقائع والتواريخ، لا تغيب البتة عن تحليلات قاصرة مثل هذه؛ فقد تحدّث تيسدول عن «مؤتمر جبهة الخلاص الأوّل» في لندن لكنه في واقع الأمر كان الثاني للجبهة، بعد الأوّل الذي عُقد في بروكسيل.
الخطأ السياسي، في المقابل، قاد تيسدول إلى اعتبار الجبهة «صيغة تعاون غير مسبوق» بين زعيمين للمعارضة، علمانيّ وديني؛ لكنّ خدّام لم يكن زعيم معارضة، بادىء ذي بدء، ومن السخف تصنيفه كزعيم لمعارضة أخرى غير معارضته العائلية ـ على غرار اقتصاده العائلي! ـ المؤلفة من أبنائه وبعض أزلامه في أفضل التقديرات. كما أنه ليس علمانياً، ولم يكن في أيّ يوم، كيفما قلّب المرء هذا المصطلح أو أقامه وأقعده؛ بالقدر الذي لا يجوز فيه اعتبار علي صدر الدين البيانوني، المراقب العام لجماعة الإخوان المسلمين يومذاك، «زعيماً دينياً». كان مثيراً للسخرية، أيضاً، اكتشاف تيسدول الأرخميدي، بصدد التعاون بين العلمانيين والإسلاميين، لأنّ الجماعة كانت صاحبة مبادرة إلى عقد مؤتمر في لندن، صيف 2002، ضمّ إسلاميين إخوانيين وإسلاميين غير إخوانيين، إلى ماركسيين ويساريين وقوميين وليبراليين.
أحدث خلاصات تيسدول، على طريقة «ختامها مسك» ربما، هي هذه: «ثمن النصر على الدولة الإسلامية قد يكون انتصار الأسد في سوريا». ويأتيك، بعدها، مَنْ يطلب الحكمة من «محلل» كهذا، لا يجهل ويتجاهل، فحسب؛ بل يُجهّل عن سابق قصد وتصميم، فيردّ من جانبه: ألا لا يجهلنْ أحد علينا!
النقاش جميل وأجمل منه أن نخرج بنتائج مفيدة ومنصفة .
من حق كل منا أن يجتهد لكن ليس من حقه أن يسفه اجتهادات الآخرين ، قد يخطئ البعض في اجتهاد ما لكن ذلك لا يبيح الطعن في الدين ولا العقل .
كنت أتحاشى الدخول في كثير من النقاشات مخافة الانجرار الى متاهات الجدال العقيم ، كلام كثير يمكن أن يقال في البحث عن مخرج ولا بد أن يقال بعضه ، جميل التحليق في سماء المثل والمبادئ لكن لا بد من الهبوط الى حقائق الواقع التي يجهلها كثيرون .
الإغراق في بعض التفاصيل لا ينبغي أن يكون على حساب رؤية المشهد الكلي ومن جميع جوانبه ، غياب بعض جوانب المشهد لا بد أن يؤثر على القراءة والرؤية والموقف وربما يقود الى أخطاء كارثية ، كل ما يمكن أن نتهم به الآخرين من عدم الفهم أو التهور أو التخبط أو العاطفية يمكن أن نتهم به ولسنا معصومين .
دعوني أقول شيئا بعد قرابة سنتين من زيارات الداخل وربما يستغرب البعض مني هذا الكلام أو يسارع آخرون لاتهامي ليس هذا المهم لأن مأساتنا أكبر بكثير مما نظن- أقول: إذا نجح معاذ الخطيب في حل يوقف شلال الدماء فهذا مكسب بحد ذاته واذا فشل فلن يتحمل أحد فشله .
الكلام السابق كبير وخطير ولذلك لا بد من توضيح بعض الحيثيات منها ما يرجع الى المشهد الكلي ومنها ما يرجع الى تفاصيل وحيثيات الواقع المؤلم الذي يعيب البعض على معاذ نجاحه في تصويره
أما المشهد الكلي فقد آن لنا أن ندرك أن معركتنا لم تعد معركة شعب مع نظام أو سفاح بل هي لعبة أمم أصغر وأضعف اللاعبين فيها هو الشعب السوري ، هذا الشعب منقسم على نفسه فقسم كبير منه لا يبالي وقسم مع النظام وقسم ثار ضد النظام ومن هؤلاء من ندم على ثورته ومنهم من ألقى السلاح ومنهم من تعب واستراح والقلة القليلة التي لا زالت تحمل السلاح ليست على قلب رجل واحد بل تتناوشهم الاجتهادات والمناهج المتناقضة أو المتضادة وحتى أصحاب الفكر الواحد ليسوا على وئام .
من يحملون السلاح لا يجدونه وإن وجدوه فهم مضطرون في كثير من الحالات أن يأخذوه ممن يملي شروطه لتعود اللعبة من جديد وتستمر هكذا دواليك .
لا أقول هذا تشاؤما أو تثبيطا ولكنه الواقع الذي أراه ، يعجبني فيمن يحمل هم الشعب السوري أن يكون قد عاش مأساته على حقيقتها ولم يكتف بالمشاهدة عبر التلفاز ، يعجبني أن يزور أريافنا وقرانا وأن يرى بعينيه آثار الدمار ، أن يعيش بين الناس وأن يشاهدهم وهم يهرعون ويهلعون وترتعد فرائصهم حينما يسمعون أزيز الطائرات أو دوي محركاتها فوق ، رؤوسهم وهي تروح وتجيء لتلقي عليهم ببراميل الموت كل آن وحين ولا يملكون الا الاستسلام لأمر الله وحكمته ، يعجبني أن يزور مخيمات التشرد والنزوح وأن يعي مدلول هذه الكلمات على حقيقتها ، أن يتجول بين خيامها الممزقة المرقعة ،أن يسير بينها ويدوس في الأوحال .
لست أتلاعب بالألفاظ والله ولست أخاطب العواطف على حساب خطاب العقول
يعجبني أن يشاهد الناقد والمحلل وجوه الأطفال والبائسين من أبناء شعبنا في تلك المخيمات أقصد مخيمات الداخل ، أن يقرأ في وجوههم كل شيء أو أي شيء ، أن يدرك أن جيلا من أبنائنا يتعرض للضياع والتجهيل بل والفساد والانحراف وأن هذا لا ينعم بما ينعم به أبناؤنا فيما نسميه الشتات ويراه المشردون جنات النعيم ، ويؤلمني أن نتحدث أو ننتقد من بعيد ونحن على أرائكنا وبين أبنائنا ، قد نتألم لكننا لا نعيش الألم بحق ، ونريد لغيرنا أن يتحمل المزيد من الآلام ونحن لا نقدم له أكثر من الكلام
أنا لا أدعو الى الاستسلام معاذ الله
لكن أن نعذر من يسعى لتخفيف الآلام
قرأت الشرح المطول للخطيب ولم أستطع أن ألمس شيئاً جدياً سوى تساؤلات، فلمَ لم تدع روسيا إن كانت صادقة الائتلاف -على علاته- طالما أنه الممثل الحالي المتوافق عليه دولياً؟ واكتفت بدعوة "شخصيات" ليس لها تمثيل حقيقي على الأرض؟ ولا ننسى أن الخطيب كان رئيساً للائتلاف -على علاته- واستقال عدة مرات وتراجع عدة مرات،
قال الخطيب أن لديه قوتين ناعمة، وهذه فهمناها، وخشنة وهذه لم نفهمها حيث روّج أن إيران تود الانسحاب واعتبر ذلك مسلّمةً وأنه عنصر قوة في يده لا في يد القوى الكبرى وخاصة بوجود ملف نووي عالق بينهم.
أعتقد أن الزيارة سواءاً كانت بدعوة روسية أو بناءاً على طلب هؤلاء الأشخاص لا تصب إلا في تكريس الانقسام وتعزيزه بين من يدعون تمثيل الشعب السوري. ومن البديهي أن يسمع المبادر في أي لقاء ذات الكلام الوردي حتى لو كان اللقاء مع حكومة الملالي في طهران، تماماً كدساتير الأحزاب فجميعها طوباوية.
آمل أن أكون مخطئاً لكني أرى أن تحركات الخطيب ومن وراءه لها وجهين الأول خاص بهذه الفئة وتسعى لاستقطاب ذلك الجزء من السوريين الغير منتمين أو من تزعزع انتمائهم، وهذا أمر متوقع النتائج فليس كل السوريين منخرطون في العمل المسلح والكثيرون يريدون "سلتهم بلا عنب"، والوجه الآخر دولي يهدف لاستخدام الخطيب ومن معه كبالون اختبار لتحرك قادم باتجاه مؤتمر ماراثوني جديد.
ما يقوم به الخطيب ومن وراءه ألا يشبه ما جرى ويجري في الداخل حيث توجد فصائل كبرى ثم نسمع في صباح اليوم التالي عن تشكيل فصيل جديد من عدة أشخاص يرفض أن ينضوي تحت لواء أحد قائلاً (أنا غير)؟
السؤال الأكبر، هل نتوقع من روسيا الخير وهي التي تشارك في قتلنا منذ البدية أم نسي الوفد العتيد أن سيرجي لافروف هو المروج الأكبر لإجرام بشار.
ألا ترون أن العودة للشعب السوري والتحدث معه أجدى بكثير من التوجه لعواصم تسببت بمقتل عشرات الآلاف من شعبنا من طهران مروراً بموسكو ووصولاً لواشنطن.
فالرسول عليه الصلاة والسلام وصحبه رضوان الله عليهم وفرنسيو القرن الثامن عشر جميعه لم يكن لديهم تنسيقيات ولم يستجدوا الدعم من أحد بل اعتمدوا على الإنسان الذي آمنوا به وآمن بأفكارهم.
يقول موفد الأمم المتحدة الى سورية دي ميستورا ان خطته لتحقيق وقف اطلاق نار جزئي في حلب تهدف الى تحويل كل الجهود نحو المعركة ضد «داعش»، لكن من الواضح انه يتجاهل عمداً حقيقة ان الجيش النظامي السوري لم يخض أي معركة فعلية مع التنظيم المتطرف، وأن كل المواجهات بينهما كانت عبارة عن «تسلم وتسليم» لمواقع نظامية، وخصوصاً حقول النفط والغاز التي باتت توفر التمويل والوقود لقوات البغدادي.
وفي هذا السياق، قد يتساءل البعض كيف ينفذ الطيران الاميركي والحليف ضرباته في سورية من دون ان يصطدم ولو عرضاً بطائرات النظام التي تواصل غاراتها اليومية على مختلف المناطق السورية، ولماذا ترفض الولايات المتحدة بشدة فرض منطقة حظر جوي فوق بعض المناطق السورية لحماية المدنيين؟
الواقع ان طيران النظام لا يتقاطع اطلاقاً مع طيران التحالف، لأنه لا يستهدف مناطق انتشار «داعش» بل المدن والقرى الخاضعة لسيطرة «الجيش السوري الحر»، على رغم تلاصقهما، في تنسيق مسبق غير معلن لاقتسام الأجواء السورية وفق مبدأ «لكل عدوه»، فيما تشكو المعارضة السورية من تجاهل الاميركيين لها تماماً، مؤكدة ان معرفة رجالها بالمعطيات على الارض يمكن ان تشكل عاملاً ايجابياً وتساعد طيران التحالف في تحقيق اهدافه بدقة اكبر، على رغم اقتناعها بأن الغارات الجوية وحدها لا تكفي.
اما الاميركيون فلا يريدون ان يغضب اي حظر جوي الايرانيين الذين لم يعد امامهم سوى الطائرات لنقل الاسلحة والذخائر الى قوات حليفهم حاكم دمشق، بعدما انعدم الخيار البري نتيجة المعارك في شمال العراق، وتقلصت كثيراً فرص الخيار البحري بسبب انتشار السفن الحربية الكثيف قبالة السواحل اللبنانية والسورية.
والسبب في حرص واشنطن المتزايد على عدم تعكير مزاج طهران، ليس ناجماً فقط عن رغبتها في الخروج باتفاق ينقذ ماء وجه باراك اوباما وسياسته الخارجية في العامين الاخيرين من ولايته، بل لأن الاميركيين وقعوا مجدداً في الفخ الايراني في العراق. فبعد خروج الجيش الاميركي من بلاد الرافدين أزالت الولايات المتحدة عن كاهلها عبئاً كان يجعل من جنودها رهائن لدى الايرانيين، وأحست بأنها باتت قادرة على التعامل مع الملف النووي الايراني بحرية اكبر، وان بإمكانها الابقاء على نظام العقوبات الاقتصادية الى حين قبول خامنئي بشروطها.
فجأة خرج «داعش» من تحت عباءة نظام بشار الاسد ودخل العراق الذي اختفى جيشه من أمامه، وبدأ في قطع رؤوس الرهائن الغربيين وتهديد الاميركيين والعالم بعمليات إرهابية في عقر دارهم. ووجد أوباما الخاضع لضغوط داخلية (زادت الآن بعد خسارته مجلسي الكونغرس)، والمتعرض لانتقادات مستمرة لانسحابه المتسرع من العراق، فرصة لاستعادة بعض شعبيته المنهارة امام الجمهوريين، فعاد الى العراق ولو بقوات أصغر يؤكد ان مهمتها استشارية. لكن تحقيق اي انجاز هناك يحتاجه بشدة، يتطلب تعاون ايران التي استعادت بذلك قوتها في المفاوضات على ملفها النووي، وعاودت تعنتها فيه، مثلما أظهرت جلسات مسقط قبل يومين، وجددت شروطها التي تشمل الإقرار بنفوذها الإقليمي، وفي مقدمها تعويم نظام الاسد وحمايته من السقوط.
وسيتضح في الاسابيع المقبلة ان اقتراح دي ميستورا يصب، قصداً او من غير قصد، في الاتجاه نفسه.
تساؤلات كثيرة يطرحها بعض المتابعين للأحداث الدائرة في محافظة ادلب بين فصائل الجيش الحر من جهة وتنظيم قاعدة الجهاد متمثلة بجبهة النصرة وجند الاقصى من جهة ثانية ومشاركة لأحرار الشام في استئصال الفصائل الكبرى التابعة للجيش الحر والمدعومة امريكيا وعربياً.
تبدأ التساؤلات بعد نجاح جبهة النصرة وجند الاقصى في فرض سيطرتها الكاملة على مقرات كل من جبهة ثوار سوريا في جبل الزاوية وحركة حزم في خان السبل واحرار الزاوية في بلدة الرامي، وبعد محاصرة مناطقهم بأرتال مدججة لا يمكن الوقوف في طريقها لأي فصيل كان، الا ان التساؤل هو كيف استطاعت قيادات هذه الفصائل الكبرى ولاسيما من الصف الاول والثاني الفرار والخروج من تحت الحصار المفروض عليهم ووصولهم حتى الاراضي التركية بسلام مع العلم ان جبهة النصرة وجند الاقصى هي من تبسط سيطرتها على الريف الشمالي لإدلب حتى الحدود التركية.
الا يدفعنا هذا للتساؤل مطولا ما هو الهدف من تجميع قيادات كل هذه الفصائل في منطقة واحدة خارج الحدود وكيف سمحت جبهة النصرة لهم بالفرار رغم حرصها على محاسبتهم بتهم وجهت إليهم منها جرائم بحق الشعب السوري حسب وصف النصرة.
الا يجعلنا هذا الامر نتأكد من وجود مخطط كبير وراء هذه العملية الكبيرة، ولاسيما ان هذه الفصائل لم تصمد ابدا امام جبهة النصرة وجند الاقصى مع انه كان بمقدورها ان تقاوم اكثر والا تسلم اسلحتها كاملة لهم دون معارك.
الا يشكل خروج قيادات الجيش الحر من كل الفصائل واجتماعهم في تركيا مع الابقاء على عناصرهم في الداخل منزوعي السلاح دون ان يتعرض لهم اي فصيل، عن وجود نوايا كبيرة لدمج هذه القيادات في تنظيم واحد تحت مسميات عديدة منها جيش دفاع وطني او جيش انقاذ وطني واغراقهم بالأموال والسلاح وبدأ التحضير لإعادة تحرير المحرر الذي توالى على تحريره الكثير من الفصائل الكبرى.
لم يعد يخفى على أحد أنه بعد ثلاث أعوام و نصف من الثورة بأن الساحة في الشام تحولت لأرض صراع بين مشاريع مختلفة اقليمية كانت ام دولية او حتى محلية ، تصادمت هذه المشاريع على ارض الشام بين مشروع روسي ايراني وجد في النظام ضالته و بين مشروع امريكي لا يريد من المنطقة إلا نفطها و مشروع اقليمي تقوده أجهزة المخابرات تائه بين هذا و ذاك و مشاريع تبلورت على الأرض يظهر فيها بوضوح المشروع الكردي و المشروع البارز للدولة الإسلامية و كل هائم بالحفاظ على مشروع و الشعب السوري وحده من يطحن بين هذه المشاريع .
لعلنا اليوم نقف و نسأل .. مع وضوح المشاريع و الأهداف لجل الفصائل المتقاتلة على الأرض بمشاريعها الخاصة أم بتنفيذها لمشاريع اخرى ، أين هو مشروع جبهة النصرة اليوم ؟
منذ ظهور جبهة النصرة على المشهد في الشام كان مشروعها الوحيد هو ما أعلنته من نصرة للمستضعفين في سوريا بوجه النظام الذي بدأت مجازره تجوب البلاد ، نال حينها مشروع جبهة النصرة القبول العام و بدأت تفرض وجودها بشكل قوي على مختلف الجبهات . استمر هذا المشروع بالنمو وصولا لبدايات العام 2013 و مع إعلان دولة العراق الإسلامية بأن جبهة النصرة فصيل تابع لها و الاندماج في الدولة الاسلامية في العراق و الشام ، بدأت ملامح المشروع بالاختلاف فحاولت جبهة النصرة تدارك الأمر برفض هذه الوصاية و إحالة القضية للظواهري و بقية القصة معروفة لدى الجميع .
منذ ذلك الوقت مرت جبهة النصرة بانتكاسات متتالية على مستوى المشروع المعلن ، فاعترف اميرها الجولاني بأن احد اهم اوراق جبهة النصرة قد احترق في غير وقته و ظهرت النصرة على الأرض بتناقضات كبيرة في مشروعها فتجدها تحارب جبهة ثوار سوريا شمالا و تتحالف معها جنوبا و تقاتل الدولة الاسلامية شرقا و تتحالف معها في القلمون و تختفي بشكل بارز في الغوطة أمام جيش الإسلام و في حلب أمام الجبهة الإسلامية ، حتى على مستوى القادة أصبحت سيطرة الجولاني على كامل المساحة أمرا صعبا ، فيظهر أبو ماريا القحطاني بمشروع لا يحمل إلا عنوان محاربة الدولة الإسلامية في الوقت الذي يظهر فيه أبو مالك الشامي بمشروع يتضمن التحالف مع الدولة لمحاربة النظام و حزب الله اللبناني ، كما يظهر المحيسني بمشروع يحمل دمج المهاجرين مع الأنصار بكافة تفاصيل الثورة نجد الشيخ ابو الليث التبوكي بمشروع يحمل فصل المهاجرين عن الأنصار بشكل كامل و بكافة التفاصيل .
فماذا حدث في جبهة النصرة ؟
في الحقيقة يبدو أن اقحام جبهة النصرة في معركة ضد الدولة الإسلامية قد أصاب مشروعها في مقتل ، فأصبحت النصرة كمن يبحث عن إنقاذ مشروع قد ضاع فعلا و بين البحث عن مشروع جديد ، فيجب ألا نغفل بأن النصرة تعرضت لانتكاسة كبيرة بخسارتها للامداد و الدعم القادم من العراق و الذي كانت توفره لها دولة العراق الإسلامية بل إن هذا الدعم تحول إلى صف محاربة النصرة ، و تعرضت لانتكاسة بالدعم المعنوي فبعد أن هدد أميرها الجولاني الدولة الإسلامية بجيش من المؤيدين في العراق و بفرض قوى في دير الزور ظهر كلا الأمرين على الأرض عكس ما أعلنه الجولاني فلا مدد العراق وصل و انحازت النصرة أمام تمدد الدولة من دير الزور نحو درعا و ادلب ، هنا حاولت جبهة النصرة الهروب بمشروعها نحو الأمام بتمهيدها لإعلان الإمارة الإسلامية ، الإمارة التي تعرضت هي الأخرى للموت قبل أن ترى النور ، و حتى أن النصرة تعرضت لضربة ببعض المبادئ التي كانت تعلنها فتجدها اليوم مجبرة على التحالف مع مشاريع تقودها اجهزة المخابرات من أجل الحفاظ على وجودها على الأرض و لعل هذا يظهر بوضوح في المنطقة الجنوبية .
الحقيقة التي أصبحنا أمامها على الأرض اليوم ، بأن مشروع جبهة النصرة الوحيد حاليا هو مشروع الحفاظ على النصرة و إنقاذ ما يمكن إنقاذه ، أمام تمدد لكافة المشاريع الأخرى على الأرض .
أغلب الظن أن لا خلاف على أن هذه «اللحظة التاريخية» المريضة، فعلا، لم تمر بها الأمة العربية إلا عندما ألغت دورها وأيضا وجودها السلطنة العثمانية على مدى أكثر من 4 قرون متلاحقة، وقبل ذلك عندما تحولت الخلافة العباسية إلى مجرد قصور فارهة تعج بـ«الحريم» والشعراء والمرتزقة، وإلى خلفاء لا حول لهم ولا قوة وصل بهم الضعف ووصلت بهم الدونية إلى حد أن ضباطهم كانوا لا يتورعون عن فقء عيونهم وحلق ذقونهم وإلقائهم في السجون إلى جانب المجرمين والسراق وشذاذ الآفاق الذين كان يؤتى بهم من كل حدب وصوب.
حتى في فترة الاستعمار الغربي التي استمرت فعليا حتى عام 1967، فإن حال العرب كأمة لم تكن كهذه الحال المأساوية التي تمر بها الآن، والتي إن لم يتحول كل هذا الذي يجري فيها إلى ربيع فعلي مزهر، فإن القادم سيكون أعظم، وإن هذه الدول التي ترفع أعلاما زاهية وتعزف أناشيد وطنية تشنف الآذان سوف تتضاعف عشرات المرات، وسوف تلد كل واحدة منها الكثير من الدويلات المذهبية والطائفية والعرقية «الميكروسكوبية» وعلى غرار ما كانت عليه دويلات الطوائف الأندلسية التي كانت أفرزتها لحظة تاريخية مريضة بعد انهيار الدولة الأموية العظيمة.
والمشكلة التي يواجهها العرب الآن هي أن إيران، التي من المفترض أنها «شقيقة» ويربطها بالأمة العربية تاريخ طويل ومصالح مشتركة، تستهدفهم وجودا ودورا ومكانة، وتكرههم وتزدريهم كأمة، وهذا لا يقتصر على الاستهداف السياسي الذي زادته ثورة عام 1979، الثورة الخمينية، وطأة وقسوة، وإنما يتعداه إلى الاحتقار الثقافي.. نعم إلى الاحتقار الثقافي، الذي تطفح به الصحف والكتب والمنشورات الإيرانية، والذي يشارك فيه كتاب وشعراء مشهورون ومعروفون من غير الجائز أن يصلوا إلى كل هذا المستوى من الانحطاط الأخلاقي والنزعة العنصرية التي تجاوزت كل الحدود.
ربما لا يعرف كثيرون أن عقدة العقد في هذه المفاوضات «الماراثونية» التي تجريها إيران مع الاتحاد الأوروبي ومع الولايات المتحدة هي أن الإيرانيين يطالبون بإطلاق أيديهم في هذه المنطقة وعلى أساس أن العرب بكل دولهم هامشيون، وأنهم أمة زائدة لا يستطيعون الدفاع لا عن أنفسهم ولا عن حلفائهم، وأن مكانتهم في الحاضر كما هي في الماضي مجرد مكانة وهمية، وأنه لا يعتمد عليهم، ولذلك فإنه، كما يقول الإيرانيون، إذا أراد الغرب ضمان استقرار هذه المنطقة، وضمان أمن فعلي لإسرائيل، وأيضا ضمان مصالحه، فإن عليه أن يضع يده في يد «جمهورية إيران الإسلامية» الدولة ذات العمق الحضاري الذي يعود لألوف السنين، الذي يتمثل في «إنجازات» الفرس الكونية «العظيمة»!
إن هذا هو ما تصر عليه إيران في مفاوضاتها مع الأميركيين والأوروبيين التي عنوانها «القدرات النووية الإيرانية وحقيقتها»، هذه الحقيقة المرة، فالإيرانيون يقدمون أنفسهم لمفاوضيهم هؤلاء، وهذا معلن وقاله عدد من المسؤولين الإيرانيين، على أساس أن 4 عواصم عربية، هي بغداد ودمشق وبيروت وصنعاء، باتت تدور في فلك طهران، وعلى أساس أن القرار في العراق وفي سوريا هو قرار الولي الفقيه، وعلى أساس أن حدود دولتهم: «جمهورية إيران الإسلامية» قد وصلت إلى شواطئ البحر الأبيض المتوسط عبر الجنوب اللبناني وعبر دويلة «حماس» في غزة، وقبل هذا كله عبر دولة بشار الأسد، وأيضا على أساس أنهم، أي الإيرانيين، بعد التحكم في «مضيق هرمز» غدوا يتحكمون في «باب المندب»، وأنه قد يأتي، وقريبا، ذلك اليوم، كما يقولون، الذي سيتحكمون فيه بقناة السويس إذا استطاع الإخوان المسلمون العودة لحكمهم في مصر. وهم في حقيقة الأمر لن يستعيدوه ما دام أن الحكم الحالي بكل هذه القوة وما دام أن الشعب المصري قد جربهم، ومن غير الممكن أن يجربهم مرة ثانية.
ثم وربما أن البعض، بعض العرب، لا يعرف أن إيران كانت رفعت في عام 1993 شعار «لقاء الحضارات الأساسية» في هذه المنطقة امتدادا إلى الشرق الأقصى، أي الحضارة الفارسية والحضارة الأردية (الهندية والباكستانية) والحضارة الصينية، وأنها، إيران، كانت قد أرسلت وفدا إلى نيودلهي وبكين وكراتشي للتبشير بهذه الفكرة التي أحبطها في حقيقة الأمر الباكستانيون الذين أصروا على أن هناك حضارة إسلامية، وأنه لا يجوز تجاوز العرب الذين هم مكون رئيسي في هذه الحضارة الإسلامية.
إن هذه مسألة، وأما المسألة الخطيرة الأخرى، فهي أن «إيران الثورة» فعلت ما لم يفكر فيه حتى شاه إيران (الراحل) محمد رضا بهلوي لا من قريب ولا من بعيد، وهو السعي الدؤوب واتباع كل الأساليب لانتزاع العروبة من قلوب الشيعة العرب وتحويلهم إلى مجرد جاليات فارسية في دولهم ودول آبائهم وأجدادهم. وحقيقة إن هذا الذي نراه الآن في العراق وفي سوريا وفي لبنان وفي اليمن وحيث يوجد أتباع المذهب الشيعي الشريف، الذي كان يعتبر المذهب الإسلامي الخامس بعد مذاهب المالكية والحنفية والحنابلة والشافعية، يؤكد أن الإيرانيين، والمقصود هنا هو النظام وليس الشعب الإيراني الشقيق، ماضون في مخططهم هذا الذي لم يعد خافيا إلا على من لا يريد أن يعترف بهذه الحقيقة المرة.
لقد نقل عن رئيس الوزراء العراقي السابق نوري المالكي قوله، قبل إزاحته عن موقعه السابق بأيام، أن هدفه هو تدمير الجامعة العربية، ولقد سمعنا حتى من هذا الرجل الطيب حيدر العبادي، الذي بالإمكان مواصلة الرهان عليه والرهان قبل ذلك على آية الله العظمى علي السيستاني، أنه يرفض مشاركة أي طيران حربي عربي في الدور الذي يلعبه سلاح جو «التحالف» وفي مقدمته سلاح الجو الأميركي في الأجواء العراقية، وهذا يدل على أن القرار العراقي لا يزال قرارا إيرانيا وعلى غرار ما هو عليه الوضع في سوريا وفي اليمن.. وفي لبنان أيضا إن أردتم.
إنه لا جدال إطلاقا في أن الإيرانيين قد حققوا في السنوات الأخيرة اختراقا استراتيجيا كبيرا في منطقتنا العربية، وأنهم بالإضافة إلى كل ما فعلوه عسكريا وسياسيا واستخباريا، وبالإضافة إلى السعي الدؤوب لتحويل الشيعة العرب بصورة عامة إلى جاليات فارسية، قد تمكنوا أيضا من احتواء، وبالترغيب والترهيب، مذاهب لا علاقة لها تاريخيا بالمذهب الجعفري الاثني عشري مثل «العلويين» في سوريا وفي تركيا، و«الإسماعيليين» السوريين، و«الزيديين» اليمنيين، وهذا في حقيقة الأمر يعتبر أيضا اختراقا كبيرا للعرب والأمة العربية.
إن هذا هو واقع الحال، وهو واقع مؤلم وخطير، ولذلك فإن كل هذا الاستهداف للعرب؛ أمة، ودورا تاريخيا، ومكانة في هذه المنطقة، وحضارة، وحيث يقال، وهذا ليس مؤكدا، أن «صديقنا العزيز» رجب طيب إردوغان يشارك فيه ولكن ليس بالمستوى المكشوف الذي وصل إليه الإيرانيون، يفرض على كل من لديهم وجدان عربي حي وغيور أن يتحركوا بسرعة قبل خراب البصرة، كما يقال، لتدارك الأمور ووضع حد لكل هذا الذي يجري الذي إن هو استمر، فإنه سيعني الطامة الكبرى، وأنه سيعني تحول هذا القرن الحادي والعشرين كله إلى لحظة عربية مريضة.. إن المطلوب هو التكاتف الجدي للتخلص من هذا النظام الذي تحكم إيران باسمه في سوريا، وهو إعادة التوازن الإيجابي إلى العراق وبسرعة، وهو تقزيم دور «حزب الله» في لبنان، وهو التصدي لتحالف الحوثيين مع علي عبد الله صالح، والحفاظ على وحدة الشعب اليمني ووحدة اليمن التي بات يهددها خطر العودة للانقسام و«التشطير» فعلا وبصورة جدية.. إننا بتنا بحاجة إلى وقفة عربية جدية وجادة، وإننا بتنا بأمس الحاجة إلى بروز كتلة طليعية تضع هذه الأمة على بر الأمان وعلى طريق النهوض قبل الانهيار!
مع تزايد الإهتمام السوري والدولي بمقاومة كوباني وصمودها البطولي في وجه إرهاب دولة البغدادي، وطرح بعض كتائب الجيش الحر فكرة إرسال قواتها للدفاع عن كوباني، ودخول قوات البيشمركة عبر الاراضي التركية، أعلنت جبهة النصرة حربها على الكتائب المعتدلة التي تمثل الثورة والثوار كحركة حزم و جبهة ثوار سوريا..، مستغلة فرصة انشغال العالم و على وجه الخصوص التحالف الدولي في تحديد قدرات داعش، للانقضاض على هذه الكتائب المعتدلة في كل من جبل الزاوية الاستراتيجي، و خان السبل ، و استطاعة النصرة مع جند الاقصى وأحرار الشام من الإستيلاء على غالبية المنطقة، والتي تعتبر عقدة المنطقة الغربية و الشمالية الغربية الجويوعسكرية.
جبهة الجولاني ( النصرة ) التي تعتبر فصيل تابع للقاعدة رسميا، دافع عنها قسم كبير من المعارضين السوريين و بعض التشكيلات العسكرية، على اعتبارها أحد أركان المعارضة العسكرية الرئيسية ضد نظام بشار الأسد، كشفت عن وجهها الحقيقي في ظل إنشاء تحالف عسكري عريض على الأرض انطلاقاً من كوباني لتشمل العراق و الشمال السوري، و بدأت في كسر اتفاق الهدنة بينها و بين الفصائل المعتدلة، مبادرة الى الهجوم على المقرات، و توسيع رقعة الولايات و السيطرة على العقدة الاستراتيجية.
الجولاني تلميذ البغدادي السجين السابق لدى النظام، أحدث إطلاق سراحه مع البغدادي شكوكاً كبيرة، وضعتهم امام اتهامات واضحة، واسألة كثيرة. برفض الجولاني مبايعة البغدادي كان اعلان انشقاق النصرة عن داعش، والتي كانت الاولى منها ناجحة في اظهار المرونة في التعامل مع المعارضة، و الشدة مع النظام، الا ان النظام كان يحتفظ به كورقة بديلة في حال فشل داعش، و ان لم يكن الانشقاق جدياً، فالخريجان من سجون الأسد والمالكي يتلقون الاوامر من القيادة الشيعية –العلوية، المسيّر الفعلي للقاعدة وداعش..! في ظل اختفاء طال أمده لأيمن الظواهري الذي لم تبدر عنه أي تصاريح لا بشأن انتصارات دولة البغدادي على حساب النصرة-القاعدة، ولا بشأن انكساراتها في كوردستان العراق وكوباني، ولا حتى بشأن الاقتتال الدائر بين (المسلمين ) أنفسهم في جبل الزاوية !! .
بعد ملحمة كوباني الكوردية، مفخرة حلب الشهباء، بدأت جبل الزاوية معقل ثورة القائد إبراهيم هنانو برفع لواء التصدي للتنظيم (جبهة النصرة و جند الاقصى و حلفاءهم) في الطرف الآخر من ساحة القتال المحتدمة، و هنا تستحق جبل الزاوية بجدارة أن تكون " كوبانية " إدلب، ملحمة التصدي و الصمود الادلبية. بشكلٍ متزامن تتعرض الآن الكوبانيتان الى هجوم شرس و مرّكز من المنظمات الإرهابية صنيعة نظام بشار ومخابراته، بعدما أزعجه تقدم القوى العسكرية المعارضة في المنطقتين و باتت وبالاً عليه.
على كافة القوى السياسية والعسكرية التي تؤمن بالثورة السورية وأهدافها أن تدافع عن " كوبانية " جبل الزاوية لدحر الإرهاب والإرهابيين عنها ، والتصدي لجبهة النصرة و حلفائها، ذلك الخنجر المسنون على خاصرة الثورة السورية، والعمل على تدويل النضال والمقاومة فيها كما هي الحال في كوبانية حلب، لتمتد ضربات التحالف إليها، لأن جبهة النصرة وداعش وجهان لعملة واحدة صنعها النظام.
كمان ان على الثوار ألا ينخدعوا بجبهة النصرة و حلفائها كما انخدعوا بداعش وينتبهوا إلى الاعيبها ومخططاتها التي لن تخدم سوى النظام، لذلك يتطلب من المعارضة التي تسعى لإسقاط الطاغية و بناء دولة العدالة والحرية و الديمقراطية أن تحدد موقفها بجلاء، وأن تطالب التحالف الدولي بضرب هذه التنظيمات و راس الافعى المتمثل بالنظام مع عملياتها التي تخص فقط داعش، فثالوث الإرهاب في سوريا والمنطقة - النظام السوري، داعش جبهة النصرة- خطير عالمي، لا يهدد فقط العراق و الشام.
يمكن تحديد ملامح بدأ المخطط الارهابي القاعدي بالنقاط التالية:
1- اعتداء النصرة على مقرات حزم ذات السمعة الجيدة، التي توجه كل طاقاتها ضد النظام السوري
2- انسحابهم من جبهات القتال في كل من حلب ومورك و ترك ثغرة ادت الى تغول النظام و تقدمه
3- اعتقال شخصيات وقيادات في ادلب لها تاريخ نضالي !
4- رفضت وساطة لواء الحق الذي يعتبر احد الفصائل المقربة من النصرة.!
هذه النقاط توضح فكرة وجود اصرار و مخطط لاقامة امارات موازية لداعش، و تحولي المنطقة الى ولايات لا تخدم سوى النظام السوري...
في حال سيطرة جبهة النصرة على ادلب وأعلنت إمارة ادلب التابعة للقاعدة فهذا سيشكل قوة للقاعدة في المنطقة اكبر من قاعدتها في افغانستان حيث ستكون في موقع استراتيجي لا يستهان به.!
النقاط التي عملت عليها جبهة النصرة، لتدعيم موقفها و ترسيخ قواعدها في المنطقة، خدما لمصلحتها و مصلحة الداعم لمشروعها:
- الحاضنة الشعبية حيث ان النصرة حافظت على علاقة جيدة مع المواطنين و لم تعمل كما فعلت داعش!
- تحالفات النصرة : جند الاقصى - جيش المهاجرين والانصار - جيش الخلافة،
- تأثير كبير على الجبهة الاسلامية عن طريق حركة احرار الشام الاسلامية
- تحييد فصائل مثل جيش المجاهدين و فيلق الشام و التي قررتا الابتعاد.
- سيطرتها على معبر أطمة و بالتالي قطعت امداد جيش الحر
ان نجح التحالف الدولي في الحد و لو جزئيا من قدرات داعش، و لعب دور اساسي في انقاذ كوباني الشهباء من السقوط، عليه ايضا نجدة كوباني الادلبية، قبل فوات الاوان و ارتفاع تكلفة دحر القاعدة من سوريا
يتكرر الحديث، أخيراً، عن حوارات ومشاريع للتوصل إلى حل في سورية، وعادت موسكو لكي تمسك الملف، بعد أن فلت منها. حيث زار وفد معارض موسكو، وتوافق جون كيري ولافروف على العودة إلى مسار جنيف، كما أن الحوار الأميركي الإيراني يتناول الحل في سورية. وكان التسريب يمرر حلولاً متناقضة، من توافق على استمرار الأسد في المرحلة الانتقالية، حتى قبول إيران وروسيا إزاحته. لكن، أيضاً، تتعزَّز الأوهام لدى السلطة بأنها قادرة على الحسم، ولا تحتاج، بالتالي، إلى حل. وتلعب إيران بالورقة السورية في سياق الحوار الذي يجري بينها وبين أميركا، بعد أن باتت هي الممسك بالقرار في سورية، وتفعل ذلك لتحقيق مصالحها على ضوء الضغط الأميركي عليها بالعقوبات التي طالت البنك المركزي، وجعلتها لا تستطيع الحصول على أموال النفط، وبالتالي، أن تعيش في أزمةٍ، تدفعها إلى الوصول إلى حل، على رغم أنها لا زالت لا تقبل أي حل، بل تريد أن يجري الاعتراف بدورها الإقليمي، وبتأثيرها في العراق على الأقل، وفي سورية إنْ استطاعت.
لا شك في أن نقل أميركا للصراع "ضد داعش" إلى سورية لا يرتبط بداعش بذاتها، بل يرتبط بالتأثير في الورقة السورية خلال الحوار مع إيران، وهذا ما يطرح ما قد تقرره هي، هل هو الموافقة على السيطرة الإيرانية على النظام السوري، أو الوصول إلى توافق مشابه لما حدث في العراق، أي بتقاسم التأثير في السلطة، أو القبول بعودة التأثير الروسي ضمن ترتيب العلاقة الأميركية الروسية بعد أن تصدعت، بعد أزمة أوكرانيا.
وفي المعارضة، يبدو أن حسم أن الائتلاف الوطني ممثل للثورة تراجع أميركياً، وأن السياق يسير نحو إشراك أطراف معارضة أخرى، أو إشراك هذه بالتشارك مع الائتلاف، بما في ذلك أطراف كانت أقرب إلى السلطة، مثل جبهة التحرير والتغيير. وبالتالي، نشهد سيولة في أدوار المعارضة، وتفاعلاً مع مجموعات متعددة، من دون التفاعل الجدي مع الائتلاف.
هل يمكن أن يتحقق حلٌّ باستمرار وجود الأسد؟ هذا ما لعبت وتلعب عليه روسيا وإيران، وقد تقبل به أطرف في المعارضة مخرجاً من الوضع المرعب الذي باتت تعيشه سورية. لكن، ربما يكون ذلك ممكناً في الشهر الأول من الثورة، لكنه لم يعد ممكناً بعد ذلك، خصوصاً بعد جرائم السلطة ووحشيتها، والقتل والتدمير والنهب والسلطة الذي قامت به. ربما حتى "الموالاة" لم تعد تشعر بأنها قادرة على قبول استمرار الأسد، بعد الفظاعة التي طالتها من الشبيحة، وبعد خسائرها البشرية. وفي وضعٍ يشهد تعدد الكتائب المسلحة، ووجود قوى سلفية بشعة، ليس من الممكن أن يقبل المسلحون الذين يقاتلون السلطة حلاً لا يحقق إنهاء سلطة بشار الأسد. كذلك، يمكن أن يقول الأمر نفسه لاجئون كثيرون فقدوا أبناءهم.
بالتالي، يجب أن يكون واضحاً أن الحل يقوم فقط على إنهاء سلطة بشار الأسد و"الحاشية" التي بشّعت ونهبت، وقررت، منذ البدء، "القتال إلى النهاية". وهذا يفترض تقدّم أطراف أخرى في السلطة لكي تفكّ هذه العقدة، أو أن تقوم بذلك، بالتوافق مع قوى إقليمية مؤثرة، أي لإيران وروسيا. فهذا هو المدخل لحلّ ممكن، يمكن أن يقود إلى إنهاء الصراع الدموي، ومحاصرة القوى "الجهادية"، وتهميش القوى الأصولية التي لا يمكن أن يكون لها دور في سورية المستقبل. وهذا المستقبل يمكن أن يصير أمراً واقعاً، فقط بإنهاء سلطة بشار الأسد، وتشكيل هيئة انتقالية من قوى في السلطة والمعارضة. على الرغم من أن هذا الحل ليس الأخير، فالصراع سيستمر، وإنْ بشكل آخر من أجل بديل حقيقي، يفرضه الشعب الذي تآمرت كل القوى الإمبريالية والإقليمية والمعارضة، من أجل تدمير طموحه للتحرر والتطور.
لا يترك الرئيس الأميركي، باراك أوباما، فرصة للتعبير عن عدم رغبته في التورط في القضية السورية، إلا واستغلها. وفي آخر مقابلة له مع محطة "سي بي إن" الأميركية، لم يخطئ المسار، فأكد ما كان قد ردده، في الشهر الماضي، ست أو سبع مرات على الأقل، أن التزامه في الشرق الأوسط اليوم يتعلق بالحرب ضد الإرهاب، وليس له علاقة بنظام الأسد، وأن حل الأزمة السورية لا يمكن أن يكون عسكرياً، وإنما من خلال تسوية سياسية. مضيفاً، هذه المرة، جملة معبّرة، ومثيرة للقلق في الوقت نفسه، هي: أن هذه المسألة "بعيدة المدى"، ما يعني أننا لا ينبغي أن نتوقع حتى ممارسته الضغط للتوصل إلى مثل هذه التسوية، وما على السوريين إلا التحلي بالهدوء والصبر، وتحمّل البراميل المتفجرة.
يريد أوباما من هذه التصريحات أن يبرهن على أنه صادق مع نفسه، ولا يقبل أن يغشّ السوريين، أو يعطيهم وعوداً كاذبة لا يمكنه الوفاء بها. والحال أن الولايات المتحدة لم تكفّ عن الإخلال بوعودها والتزاماتها في السنوات الثلاث والنصف الماضية من عمر الثورة السورية، تجاه المعارضة وتجاه الشعب السوري وتجاه العالم وتجاه الضمير الإنساني، فقد كانت قد التزمت، قبل مؤتمر جنيف وبعده، تجاه المعارضة، بتغيير موازين القوى العسكرية على الأرض، لدفع الأسد إلى قبول التفاوض الجدي على تطبيق بيان جنيف، ولم تقدم شيئاً يذكر في هذا المجال. وها هي تقبل أن تستقيل نهائياً من الموضوع، وتترك الأمر للمبعوث الدولي، دي ميستورا، ليرتب مسائل الهُدن المحلية التي تكمل ما قامت به ميليشيات الدفاع الوطني السورية، لتفكيك المقاومة، وتقسيم صفوفها وعزلها عن بعض.
وأخلّت الولايات المتحدة بالتزاماتها تجاه الشعب السوري، عندما تركته فريسة للقنابل والصواريخ والمدفعية الثقيلة، على عكس ما كانت تفرضه عليها العهود الدولية التي وقّعت عليها من التزام بحماية الشعوب المعرّضة للمجازر، أو جرائم الإبادة الجماعية، وهو ما يحصل أمام أعين العالم أجمع في سورية، منذ أكثر من ثلاث سنوات.
وأخلّت بالتزاماتها تجاه العالم، عندما لحست الخط الأحمر الذي رسمته لاستخدام السلاح الكيماوي، في حملات قمع سياسية، وسجلت سابقة في تاريخ البشر السياسي، تتعلق بتطبيع استخدام السلاح الكيماوي، للقضاء على الاحتجاجات السياسية. وهي تخون، كل يوم، تعهداتها الدولية القانونية والسياسية، عندما تقبل الوقوف مكتوفة الأيدي إزاء مذبحة يوميةٍ، تنقل صورها وسائل الإعلام والقنوات الفضائية، من دون أن تحرك ساكناً، أو تتحرك لوقفها، بذرائع واهية لا تقوم على برهان. وهي تتحدى المنطق والضمير الإنساني، عندما يردد قادتها، كل يوم وفي كل مناسبة، أنه لا حل للمذابح الشنيعة التي يرتكبها الأسد وميليشياته إلا بقبول الضحية بتقبيل أيدي جلاديها، والجلوس معهم على طاولة مفاوضاتٍ، ليس هدفها تغيير النظام القاتل، وإنما مشاركته الحكم.
"
لم تكفّ الولايات المتحدة عن الإخلال بوعودها والتزاماتها في السنوات الثلاث والنصف الماضية من عمر الثورة السورية
"
في كل خطاباته وتصريحاته، حرص الرئيس الأميركي، في السنوات الثلاث والنصف الدموية الماضية، على تطمين الأسد وترطيب خواطره، والتأكيد له بأنه لن يكون هناك أي تدخل أميركي أو دولي، كما لو كان هدفه إطلاق يديه، وتشجيعه على الخروج عن كل قيد أو معيار أخلاقي، أو سياسي، في الفتك بشعبه وتدمير بلده. وحتى بعد تكرار الأسد استخدام السلاح الكيماوي، على الرغم من افتراض تدميره، تعامت الإدارة الأميركية عن كل الخروق، واكتفت بالتذكير بها في المناسبات. وتذرّعت بالخوف من سقوط الأسلحة في يد الإرهاب، لكي ترفض تقديم السلاح إلى المعارضة الديمقراطية، فكان لها الدور الأكبر في نمو القوى المتطرفة، وتحويل الإرهاب إلى القوة الرئيسية في سورية والمشرق كله. وأصرّت على أنه لا حل إلا سياسياً للحفاظ على الدولة ومؤسساتها، فكانت النتيجة دعم خيار الأسد في الحسم العسكري، وتمديد أجل الصراع، وترك الأسد يحقق حلمه في الانتقام وتدمير البلاد، كما لم يحصل لبلد من قبل. وبدل الحفاظ على الدولة ومؤسساتها، تم تقويضها من الداخل، قبل أن تحتلها الميليشيات الممولة والمسلحة والموجهة من طهران، كما تم تحويل جيشها نفسه إلى ميليشيات متنافسة ومتنازعة على نهب الأفراد والجماعات. ومع ذلك، وبعد كل ذلك، لا يكفّ الرئيس أوباما، بمناسبة ومن دون مناسبة، عن تذكيرنا بأنه لن يتدخل، ولا يقبل التدخل، ولا يؤمن بالتدخل، لثني الأسد عن جرائمه، أو ممارسة أي ضغط عسكري، أو سياسي، على مَن يقف وراءه، ويدعمه بالمال والسلاح والرجال. كان دائماً يضعه على المستوى نفسه من المسؤولية عن الحرب والدمار مع خصومه، وربما أصبح اليوم يفضّله عليهم.
لا يمكن أن يكون كل هذا التهاون مع الأسد نتيجة خطأ في الحسابات أو التقديرات، أو بسبب مخاوف مشروعة من التورط في حروب خارجية، قررت الإدارة الأميركية الخروج منها، أو ثمرة الخوف من الالتزام تجاه الشعب السوري وقضيته المعقدة، كما يقال. بالعكس، يبدو مع مرور الزمن أكثر فأكثر، أنه نتيجة التزام عميق، لكن ليس بدعم الشعب السوري، وإنما بعدم التعرّض للأسد مهما كان الحال. والسؤال يتعلق فقط بالجهة التي اتخذ الرئيس الأميركي تجاهها هذا الالتزام: هل هي إسرائيل أم إيران، أم كلاهما معاً؟ يقول المتنبي: وَمِن نَكَدِ الدُّنيا عَلى الحُرِّ أَن يَرى عَدُواً لَهُ ما مِن صَداقَتِهِ بُدُّ.
بين يدي الرئيس الأميركي، باراك أوباما، قصة ملفتة وواضحة، لكنه لا يجيد تسويقها، ويعمد، كلما سنحت له الفرصة، إلى إضفاء مزيد من الغموض والتعقيد عليها، غير عابئ بنصيحة غابرييل غارسيا ماركيز للمبتدئين، أن يتمرّنوا على إضفاء مزيد من الوضوح على ما يريدون تسويقه، وليس مزيداً من الغموض والتعقيد.
هو يعرف، وقد عرف باكراً، أن "غزو العراق سيسعر لهيب الحرائق في الشرق الأوسط، ويشجع أسوأ الدوافع في العالم العربي، ويقوي ذراع مجندي القاعدة"، بحسب ما ذكر في كتابه "جرأة الأمل"، هو لا يريد أن يقر بما تنبأ به، كما لا يريد أن يلقي بالمسؤولية في ظهور "تنظيم الدولة" على سياسات أسلافه، وخصوصاً جورج بوش الذي زعم أن لديه تفويضا من السماء لغزو بلد آمن ومستقر، وارتكابه، وجنوده من "ذوي القبعات الزرق"، فظائع ترقى لأن تكون "جرائم حرب وإبادة"، وقد أثبتوا أنهم "داعشيون"، قبل أن يظهر "داعش". هو لا يريد، أيضاً، أن يتعلم من نصائح جيرانه اللاتينيين، ولا من تجربته في "البيت الأبيض" المليئة بالعثرات، وهو على وشك أن يخلفها وراءه، وفي نفسه شيء من حتى!
أوباما لم يستطع تسويق خطته للقضاء على داعش، على الرغم من أنه جيّش أكثر من ستين دولة، بصمت بأباهيمها على تحالف يخفي من الأسرار أكثر مما يعلن، وقد ظل مترددا في الكشف عن الأهداف السياسية لخطته، طرح أهدافاً غامضة، ألمَح إلى أنه لا يريد دوراً لإيران، ثم بعث رسالة "غزل" إلى خامنئي، يدعوه فيها إلى شراكة إيرانية-أميركية في مواجهة "داعش"، أرسل 300 عسكري إلى العراق، لتقديم المشورة والتدريب فقط، زاعما أنه لن يرسل قوات قتالية برية، لكنه زاد عدد جنوده إلى أكثر من ثلاثة آلاف، مزودين بمعدات ثقيلة ومتوسطة، وأسلحة مختلفة، ومعدات اتصال، ووحدات دعم لوجستي، ومروحيات قتالية وطائرات نقل، سيحتلون خمس قواعد رئيسية، قصفت طائراته مدناً عراقية، قتلت مدنيين وأحرقت بيوتا، وهجّرت عشرات الألوف، ولم يزل "داعش" حيا! أفشلت قواته خطة لداعش في السيطرة على مطار بغداد، بحسب أحد مساعديه، وآخر نفى الواقعة جملة وتفصيلاً، ثالث انتقد ضعف كفاءة القوات العسكرية العراقية، ورابع أشاد بانتصاراتها! البنتاغون قدر تكلفة الحرب بنحو ثمانية ملايين دولار يومياً، وستبلغ عدة أضعاف عند نشر قوات برية، وخبراء قالوا إن العرب الذين يؤدون دور "الكومبارس" سيدفعون الجزء الأكبر منها، كالعادة!
" البنتاغون قدر تكلفة الحرب بنحو ثمانية ملايين دولار يومياً، وستبلغ عدة أضعاف عند نشر قوات برية "
أنابت صحيفة "نيويورك تايمز" نفسها عن أوباما، وحدّدت هدف خطته بـ"كسر احتلال داعش مناطق في شمال العراق وغربه، والتأسيس لسيطرة حكومية على مدينة الموصل والمراكز السكانية الأخرى، فضلاً عن طرق البلاد الرئيسية، وحدودها مع سورية"، لاحظ "كسر" الاحتلال وليس إنهاءه، و"التأسيس" لسيطرةٍ، وليس ضمان السيطرة. وذكرت أن الخطة تتضمن أيضا "تشكيل قوة مهام خاصة، بقيادة الجنرال جيمس تيري الذي يشرف على القوات المسلحة الأميركية في الشرق الأوسط، من مقر قاعدته في الكويت، وسوف يكون له مقر ثانوي في بغداد، للإشراف على مئات المستشارين والمدربين الأميركيين"، و"سوف تمتد رقعة وجود القوات الأميركية من بغداد وأربيل إلى مناطق أخرى، لتشمل قاعدة عين الأسد الجوية في محافظة الأنبار غرباً، وإلى التاجي شمالي بغداد".
الأخطر، والأخطر يأتينا من أميركا دائماً، أن الخطة تبشرنا بأن "بعض جيوب المقاومة ستبقى"، و"الحرب ستكون طويلة"، وربما لعقود أخرى، وهذا يعني أن علينا أن نستسلم لحكم بالاحتلال المؤبد لبلداننا، وأن نسلم بالقبول بخارطة جديدة للمنطقة، تعطي للقياصرة الكبار ما يريدونه، ولا تترك لعباد الله سوى الفتات!
إنها أشبه بفيلم هوليودي طويل، يكون جاهزاً للعرض، بحسب الصحيفة، نهاية عام 2015، لإعادة العراق إلى المربع الأول الذي ألقي فيه في التاسع من أبريل/نيسان 2003، ولوضع العالم كله تحت مرمى النيران، وآنذاك، ربما يستعيد أوباما في قرارة نفسه وصيته "إذا أردنا أن نجعل أميركا أكثر أماناً وأمناً، فعلينا أن نساعد في جعل العالم أكثر أمنا وأمانا"، لكننا نخشى أن تكون فرصته في تطبيق وصيته قد ضاعت منه إلى الأبد!
آنذاك، أيضا، سوف نكون أمام سيناريو جديد، يصنعه خلف أوباما المنتظر الذي سيكون جمهورياً على أكثر التوقعات، وسوف نشاهد نحن كيف يتغير العالم حولنا، وسوف نضحك كثيراً لرؤية الدمى التي صنعت بطريقة فنية ذكية في مطابخ المخابرات، وهي تتهاوى أمامنا، لتحل محلها دمى جديدة، بمقاسات وميزات أكثر تطوراً، وهذا ما يجعلنا حذرين دائما، فليس كل من يضحك أخيراً، يضحك كثيراً!