في محن الدول، تجد أي منظومة قيادية نفسها أمام جملة من الخيارات التي يمكن حصرها في اتجاهين: تحصين الوطن أو تحصين الذات. الأول يقوم على تحصين الوطن والمواطن وتعزيز الذات القيادية والرابط بينهما؛ والثاني يتمثل بتحصين وتصليب الذات القيادية حتى ولو كان ذلك على حساب الاتجاه الأول. يستلزم الأول الصدق والشفافية في مخاطبة الرعية إضافة إلى زرع الثقة وتعزيز القوة وتزخيم المعنويات لدى المكونات الشعبية وتفعيل دورها في مواجهة الخطر الداهم وتأمين مستلزمات الصمود اقتصادياً وثقافياً ونفسياً.
في الحالة السورية، ساد المذهب الأول؛ فانحصر الهاجس بتحصين الذات السلطوية على حساب أي أمر آخر؛ حتى ولو اقتضى ذلك تدمير الوطن والمواطن، وحتى ولو استلزم الأمر مد اليد لخارج الوطن والاستعانة بأعداء الوطن والمواطن.
كان المواطن الذي لم يتمكن من التحوّل إلى عبد أو آلة مطواعة منزوعة الكيان والشخصية والكرامة هو العدو وهو المستهدف بالقتل والدمار والاعتقال والإلغاء عبر تشريده نزوحاً أو لجوءاً خارج الوطن. وكان ذلك الذي لم يكن أمامهأي خيار إلا التحوّل إلى حالة منزوعة الإنسانية تأكل وتشرب وتتوالد بالكفاف وتستظل بسطوة سلاح الرعب والخوف الذي يشهره النظام .
كان استقواء النظام باعداء الوطن؛ وكان الانتحار وبيع الوطن والمواطن مقابل بقاء الكرسي. وكان شراء الوقت على طريقة “فاوستس”.
من يقول إن النظام لا يعرف ما يفعل واهم جداً. إنه يعرف أنه مقدم على الانتحار من اجل بعض سويعات إضافية في كرسي السلطة، علّ معجزة ما تحصل وتذهب الأمور باتجاه آخر بعد أن نجا مما لا يمكن لأي نظام أن يهرب منه؛ ليس بقوة ذاتيه بل بإرادة اقتضت ان يعيش كل هذا الوقت.
لقد كُسر ذلك العقد بين الحاكم والمحكوم؛ وعلى أحدهما ان يغادر الساحة. المسالة بين خمسمائة مخلوق يمكن لطائرة واحدة أن تحتويهم جميعاً وترمي بهم خارج جغرافيا الوطن، وبين ملايين لا بد من رميهم خارج الجغرافيا وحتى التاريخ كي يعيش النظام؛ وهذه معادلة مستحيلة.
لم يقم النظام بأي إجراء يحصن الوطن وسيادته. والسيادة التي لا يتوقف عن الحديث فيها مستباحة بامتياز؛ وهو يعرف ذلك تماماً. فرجاؤه أن يُعلَم أو يُخبَر فقط بقصف طائرات الحلفاء للأراضي السورية كان أقصى ما قام به لما دعاه سيادة. إنه يعرف أن لا سيطرة له على أي معبر من معابر الحدود السورية إلا ما تمكن به حزب الله من الجانب اللبناني؛ وحتى ذلك المعبر يتم تحديه من قبل مجموعات أذاقت حزب الله الويلات.
كُسر العقد عند أول كذبة وردت على لسان هرمه وألسنة مستشاريه حول ما يجري في سورية
كُسر عندما استنفر جيشاً إلكترونيا بتدريب إيراني-لبناني ليشوّه صرخة أهل سورية بالحرية
كُسر العقد بالمطلق عندما توجه النظام بسلاح الى صدور السوريين… سلاح دفعوا ثمنه دمهم ودموعهم بذريعة استرداد أرضهم المحتلة.
كُسر عندما نُصبت أول خيمة سورية لاستقبال لاجئين سوريين في بلاد الجوار
كُسر عند اغتصاب أول معتقل أو معتقلة في سجون لا إسم لها إلا مقابر الأحياء.
كُسر عندما نقل شخص صور 11 ألف معتقل قضوا تعذيباً في تلك المقابر
كُسر العقد بالمطلق عندما استخدم أسلحة محرمة دولياً كي يُخضع من خرج على طاعته
كُسر عندما أضحى لافروف الناطق باسمه؛ وعندما كان يصف لافروف السوريين بالإرهابيين ، ولا يرف للنظام جفن.
كُسر عندما أصبح قرار قتل الإنسان السوري وتدمير حياته بيد الإيراني الذي أخذ سورية رهينة ليصافق على ملفات مستعصية تعيشها بلاده.
لا؛ لم تكسر العقد صرخة حرية خرجت من أحزمة الفقرالتي سوّرت حياة الرفاهية لسلطة ما رأت في مواطنيها إلا جراثيم وفضلات يجب أن يتم التخلّص منها.
لا؛ لم ينكسر عندما طلب شباب سورية فسحة حرية فيها نسبة ضرورية من الأوكسجين للبقاء.
أمانة لم يحافظ النظام عليها معتقداً أنه بكسرها يمكن أن يحسم الأمور ويبقى؛ وهذا أمر استحالته مثبته. وما تبقى ليس إلا استعصاء قهري انتقامي يذهب الوطن ثمناً له؛ والنظام يدرك أن هناك من يريحه ذلك، فيبقى على أمل أن يستمر جشع الآخرين وأهدافهم الإجرامية السقيمة. ويبقى الأمل في أن يضجر هؤلاء من لعبتهم الدموية أو يستشعروا امتداد اللهب إلى جنباتهم؛ وهذا قادم إن لم يشبعوا. كسر العقد لا بد أن يتبعه كسر القيد. إنها سنة الطبيعة.
لا يعدو الحراك السياسي الذي تقوم به بعض القوى ذات العلاقة بالملف السوري، أن يكون جولة تسخين لإنضاج ثمار بدأت تينع على غصون ملفات أخرى، أو نوع من غزل تفاوضي، تجريه تلك الأطراف على (قاعدة الطبل هنا والعرس في مكان آخر)، وفي هذا تأكيد على وظيفية الملف السوري في واقع العلاقات الدولية الراهن.
تكتيكية هذا الحراك تظهر بوضوح في السلوك السياسي الضّحل لأطرافه، والذي يثبت، بدرجة كبيرة، هامشية السلام السوري في إستراتيجيات الكبار، وقد ذهبت الإدارة الأميركية في مزاوداتها المكشوفة بعيداً، حينما سرّبت أنها بصدد تعديل إستراتيجيتها في الحرب على داعش، بإضافة بعد جديد لها، وهو إسقاط نظام الأسد، بوصفه يشكل مغناطيساً جاذباً للإرهاب، فما الذي فعلته واشنطن لتسند إستراتيجيتها تلك على أرض الميدان، غير المساهمة في إسناد قوة الأسد بالنيران؟، أما موسكو فقد أعلنت أنها بصدد تأليف تحالف أصدقاء دي مستورا، لدعم المبعوث الأممي في مهمته الجديدة في سورية، والتي يبدو أنها أسوأ مهام الأمم المتحدة وأكثرها تواطؤاً مع نظام القتل؟، في حين تعمل إيران على إنشاء جيش مواز لها في سورية، قوامه مئة ألف عنصر!
لا شيء، باستثناءات الكلام، يوحي بتعديل تلك الأطراف سياساتها ومواقفها تجاه الحدث السوري، وبعد أربعة أعوام من الثورة، وما جرى على هامشها من مؤتمرات ومبادرات، صار الجميع يعرف، بالضبط، ما هو الجدي وما هو الفقاعة. باتت المشكلة واضحة ومعلومة ومحدّدة بدقة، ومعلوم أين تقع مفاتيح حلها، ويفترض بأي مقاربة لها أن تكون خالية من التشّوش واللّبس، وشغوفة بالهم الإنساني الذي يليق بمهنية الدبلوماسية العالمية في القرن الحادي والعشرين، بوصفها انعكاساً لمنظومة القيم العالمية، وما تنطوي عليه من احترام لحقوق الإنسان والعقل البشري عموماً.
التفسير الأقرب للواقع أن المقصود بكل هذا الحراك ملفان بعينهما، العقوبات الغربية على روسيا، والنووي الإيراني. في الأصل، كان الملف السوري استثمر هاتين الدولتين في حقل العلاقات الدولية، وطبيعي أن يجري استخدامه ورقة في أي محاولة لتحريك ملفاتهما، واليوم، تقف روسيا وإيران على عتبة إعادة صياغة علاقاتهما ضمن النظام الدولي، وهما لا يملكان أوراقاً كثيرة باستثناء الملف السوري.
" قد تكون سورية أكثر أهمية لإيران، من النواحي المادية والرمزية، لكن إيران بظروفها وواقعها الحالي ربّما يكفيها السيطرة على جزء من العراق "
ثمّة من يذهب إلى القول إن نتيجة تخفيض أسعار النفط بدأت تؤتي ثمارها، وإن البلدين سارعا إلى فتح نوافذ للحلول في سورية، بعد إدراكهما أن الأمور تعقّدت بطريقةٍ لا يمكن تحمّلها، ربّما يكون ذلك صحيحاً، لكن ذلك لا يعني أن الأمور ستجري لمصلحة الشعب السوري وثورته، ذلك أن موسكو وطهران تعتقدان أن مجرد التفاوض، بحد ذاته، يشكل تنازلاً، ثم إن هناك محددات تعلن الدولتان تأكيدها، وأنهما بصدد التمسك بها، ومنها المحافظة على نظام الأسد، ليس كما يشاع، الاحتفاظ بالمؤسسات من دون رأس النظام، على ما يحاول بعضهم استنتاجه عنوة، وبشكل تفاؤلي ساذج، هما يعتقدان أن ذلك سيكون خديعة، ولا يصلح لأن يكون أساساً للتفاوض، كيف يمكن الحفاظ على أوضاعهما في سورية؟، بالأصل ليست لكل منهما مصالح بعيدة المدى في سورية، تستحق كل هذا الصراع، ولا معنى إستراتيجياً مهماً لسورية، إلا بمقدار ما يريدانه من النظام الدولي الآن. قد تكون سورية أكثر أهمية لإيران من النواحي المادية والرمزية، لكن إيران بظروفها وواقعها الحالي ربّما يكفيها السيطرة على جزء من العراق.
ويكشف تاريخ علاقة موسكو وطهران بالأزمة السورية أنهما اشتغلا على أهداف أبعد من سورية، فالإصرار على إيصال البلد إلى هاوية الفشل والدمار ينطوي على حقيقة أن مستقبل هذا البلد لم يكن في لحظةٍ من ضمن اهتماماتهما، وبالتالي، لا يمكن فهم تحركهما الحالي سوى أنه محاولة لاستكمال هذا النهج بطرائق جديدة، أكثرها وضوحاً محاولة تصنيع معارضة سورية، يمكن من خلالها تمرير هذا النهج.
الخطورة في ذلك كله قبول جزء من المعارضة السورية الدخول في اللعبة، بذريعة الواقعية وضرورة إنقاذ الشعب السوري. الاستمرار بهذا النهج من شأنه تحويل المعنى الأساسي من الثورة السورية، بوصفها تحولاً تاريخياً، إلى مجرد تمرد لمكون أو مناطق بعينها، ولا يلغي هذه الحقيقة كون أن للنظام مؤيديه وبيئته، وطبيعي أن يكون ذلك الأمر موجوداً بعد استمرار 45 سنة في الحكم، كل الأنظمة التي حصلت ضدها ثورات كان لها مؤيدون، ولم يكن ذلك عائقاً، أو نقيصة، للثورات.
والخطورة الثانية في هذا الأمر، إمكانية انعكاسه في الحلول المزمع الوصول إليها، وهو الخطر الذي تنطوي عليه مبادرة ستيفان دي مستورا نفسها، والتي في ظاهرها تبدو محاولة في الممكن وتتبع النهج العقلاني، لكن خطورتها تكمن في إمكانية تكريسها وقائع مستقبلية، يصعب تجاوزها أو الفكاك منها، فتتحول العملية إلى دينامية لتفكيك البلد، بدل تفكيك الأزمة وإيجاد حل لها.
يدرك الجميع أن قرار التفاوض غير جدي، وأنه لا يعدو أكثر من عملية فحص فروض معينة في المختبر السوري، الأفضل عدم الانسياق وراءها والحذر منها، أي خطأ قد ترتكبه المعارضة قد يكلف سورية الكثير، ويجري البناء عليه، أو في أسوأ الأحوال يكون مساهمة في إعادة إنتاج النظام لنفسه، وخصوصاً وأن الظروف الدولية مستعدّة لتمرير هذا الخيار، والتكيّف معه.
ليس هناك أدنى شك بأن الثورة السورية واحدة من أكثر الثورات المشروعة تاريخياً، فلم يتعرض شعب في القرن العشرين للقهر والفاشية والإذلال المنظم كما تعرض الشعب السوري على أيدي النظام الأسدي الطائفي الغاشم الذي لم يشهد له التاريخ مثيلاً. وبما أن ذلك النظام بات رمزاً لكل ما هو وحشي وهمجي قذر، لم يقبل حتى بتلبية أبسط مطالب السوريين، فاستبدل قوانين الطوارئ سيئة الصيت التي ثار السوريون عليها بقانون الإرهاب الذي راح يحاكم السوريين بموجبه، ويضعهم أمام محكمة الإرهاب لمجرد التلفظ بكلمة بسيطة. كل من يفتح فمه ضد النظام أصبح حسب القانون الجديد إرهابياً وجب اعتقاله إذا كان موجوداً، أو صدر قرار بحرق منزله أو مصادرة أملاكه إذا كان خارج البلاد. لقد أصبح السوريون بعد الثورة يترحمون على قوانين الطوارئ على بشاعتها بعد "الإصلاحات" الإرهابية التي قام بها النظام بعد الثورة. وعندما أراد بشار الأسد أن يضع دستوراً جديداً للبلاد على سبيل الإصلاح المزعوم، وضع مواد جديدة تجعل حتى سلاطين القرون الوسطى يحسدونه على السلطات التي منحها لنفسه بموجب الدستور الجديد، فهو راع لكل شيء في سوريا، حتى الزبالة والزبالين والقمامة والنخاسين، لم يترك شيئاً إلا ووضعه تحت رعايته.
وليت بشار الأسد اكتفى بوضع القوانين القراقوشية للانتقام من السوريين لأنهم ثاروا عليه، بل راح يستخدم كل أنواع الأسلحة المحرمة دولياً كي يثأر من الثورة. والأنكى من ذلك أنه عمل على تحويل سوريا إلى بؤرة تجتذب كل شذاذ الآفاق إليها لإفساد الثورة وجعلها تبدو في نظر العالم مجرد فوضى وحركات إرهابية. كلنا يتذكر كيف أخرج كل المتطرفين من سجونه بعد الثورة، وزودهم بالسلاح كي يقاتلوه، ويحولوا الثورة إلى صراع دموي. وقد لاحظنا كيف كان بشار الأسد في خطاب القسم السخيف يتلذذ ويتشفى وهو يتحدث عن إفشال الثورة وتحويل سوريا إلى ساحة صراع يعبث بها القاصي والداني.
وكي يحمي بشار الأسد نفسه ونظامه قدم كل أوراق اعتماده لإيران وروسيا وإسرائيل، وتعهد بأن يكون مجرد بيدق في المخططات الروسية والإيرانية والإسرائيلية، بشرط ألا يسقط نظامه تحت أقدام السوريين، ويكون مصيره كمصير بقية الطغاة الذين قضوا تحت نعال الشعوب. لقد تحول النظام السوري إلى مجرد أداة قذرة ضد سوريا والسوريين، لا بل أصبح حراس قصره من غير السوريين، فالأمر الناهي أمنياً وعسكرياً في سوريا هي إيران وميليشياتها العراقية واللبنانية باعتراف الميليشيات الشيعية نفسها. أما روسيا فقد سلمها بشار الأسد كل ثروات الغاز والنفط من خلال عقود طويلة الأمد مدة بعضها ربع قرن من الزمان.
لقد كان النظام السوري يهدف من خلال الارتماء الكامل في الحضنين الروسي والإيراني دفع خصومه أيضاً إلى الارتماء في أحضان القوى المنافسة لإيران وروسيا في سوريا، بحيث تضيع القضية السورية، وتتحول سوريا إلى سلعة دولية يسمسرون عليها من أجل منافع سلطوية حقيرة. فعندما وجدت جماعات المعارضة السورية أن النظام بات يحتمي بمنظومة عسكرية وأمنية واقتصادية روسية إيرانية مفضوحة، لم يجدوا بداً من الارتماء في أحضان المعسكر الآخر لمواجهة النظام. وقد أصبح بعض شرائح المعارضة السورية بدورها، كالعراقية سابقاً، مضرباً للمثل في التسول والسير وراء الآخرين. لا شك أن هناك بعض الجهات العربية والأجنبية التي وقفت إلى جانب المعارضة السورية لتمكينها من مواجهة أكثر الأنظمة فاشية في القرن العشرين، وعملت الكثير على مساعدة السوريين. لكن هناك جهات كثيرة أخرى لا يهمها في سوريا سوى تحقيق مصالحها الضيقة التي لا تمت لمصالح السوريين بصلة.
ولو نظرنا إلى الخارطة السورية الآن لوجدنا أن كل طرف خارجي منخرط في الأزمة يغني على ليلاه، ولا يهمه لا سوريا ولا السوريين. هل يعلم السوريون الآن أن كل القوى المتصارعة على سوريا والمتحالفة مع النظام أو بعض فصائل المعارضة لا يهمهما الشعب السوري قيد أنملة. الكل يبحث عن مصلحته في سوريا. إيران تستخدم بشار الأسد كأداة لتوسيع إمبراطوريتها الشيعية الفارسية والوصول عبر الأسد إلى شواطئ المتوسط. وروسيا تريد الحفاظ على قواعدها البحرية في سوريا، بالإضافة إلى نهب الثروات الغازية والنفطية السورية التي أعطاها إياها الأسد مقابل الحماية والسلاح والحفاظ على طرق الغاز والنفط الدولية. وتركيا لا تريد لإيران أن تصبح على حدودها السورية، وتعمل على تأمين الشمال السوري لصالحها. وأمريكا طبعاً تريد تأمين الحليف الإستراتيجي إسرائيل من الخطر السوري واستغلال الموقع الإستراتيجي لسوريا. مع ذلك، يستمر بشار الأسد، ويستمر معارضوه في السمسرة للقوى المتكالبة على سوريا كي تنهش في الجسد السوري، وتحقق مطامعها، حتى لو أدى ذلك إلى تدمير الوطن وتهجير شعبه وتحويله إلى طعام للأسماك في عرض البحار والمحيطات.
يصعب التكهن بما يمكن أن تسفر عنه المفاوضات المتعلقة بالملف النووي الإيراني التي استضافتها مسقط. لكنّ حضور وزير الخارجية الأميركي جون كيري ووزير الخارجية الإيراني محمّد جواد ظريف إلى سلطنة عُمان يعطي فكرة عن جدّية المفاوضات التي شارك فيها الاتحاد الأوروبي والتي تبعتها مفاوضات بين إيـران ومجموعة 5+1.
على الرغم من صعوبة التكهن، بات مرجّحا التوصل إلى ما يشبه الاتفاق بين الإدارة الأميركية والنظام الإيراني في شأن الملفّ النووي وذلك قبل الرابع والعشرين من نوفمبر الجاري. ليس مستبعدا أن يؤدي التفاهم المتوقع بين الجانبين إلى تعليق جزء من العقوبات الدولية المفروضة على إيران، بدل رفعها نهائيا.
ثمة حاجة إلى صيغة تحفظ ماء الوجه للجانبين الأميركي والإيراني، علما أنّ إيران تسعى إلى الاستفادة، إلى أبعد حدود، من عقدة باراك أوباما الذي يضع التوصل إلى اتفاق معها في أولوية أولوياته.
كانت الرسالة التي وجّها الرئيس الأميركي في أكتوبر الماضي إلى “المرشد” علي خامنئي في غاية الأهمّية وذلك من زاويتين.
الأولى إثارة أوباما لموضوع “داعش” والمصلحة المشتركة الأميركية ـ الإيرانية في مواجهته، والأخرى التطمينات غير المباشرة على أنّ الحرب على “داعش” لا تعني المسّ بالنظام السوري.
تسترضي الرسالة الرغبة الإيرانية في تجاوز المفاوضات مع الولايات المتحدة الملف النووي. تريد أيضا تفاهمـات في شأن مسائل أخرى، خصوصا أنّها تعتبر نفسها منذ البداية الشريك الفعلي في الحرب الأميركية على العراق التي أدّت إلى جعل هذا البلد، أو قسما منه تحت وصايتها المباشرة.
كان على الإدارة الأميركية أن تسرّب قبل أيّام أن ثمة بداية قناعة لدى أوباما ومستشاريه بأنّ الحرب على “داعش” لا يمكن أن تنجح من دون إسقاط النظام السوري. بدت تلك التسريبات، وهي بمثابة استدراك، أقرب إلى محاولة مكشوفة من أجل تصحيح خطأ الرئيس الأميركي. بدا أوباما وكأنّه ينفي إعطاء تطمينات لإيران في شأن النظام السوري الذي يعني لها الكثير من زوايا مختلفة.
في الواقع، أظهرت الرغبة الأميركية في التوصل إلى ما يشبه اتفاقا مع إيران في شأن ملفّها النووي، أن إدارة أوباما ليست في وارد تعلّم شيء عن الشرق الأوسط وتعقيداته من جهة والاستفادة من التجارب التي مرّت بها من جهة أخرى.
قبل كلّ شيء، لا أهمّية للبرنامج النووي الإيراني إلّا من الزاوية الإسرائيلية، فضلا عن المخاطر البيئية التي يشكلها مفاعل بوشهر على الضفة العربية من الخليج. ما كشفته الأحداث أن هناك دائما رغبة إسرائيلية في التصعيد مع إيران، ضمن حدود معيّنة، من منطلق أن مثل هذا التصعيد يمكّن إسرائيل من لعب دور الضحيّة المهدّدة من نظام توعّد مرارا بإزالتها عن خريطة الشرق الأوسط.
يسمح التصعيد المتبادل مع إيران لإسرائيل بممارسة هوايتها المفضّلة. تتمثّل هذه الهواية في اللجوء إلى إرهاب الدولة من دون حسيب أو رقيب وفي تكريس الاحتلال للضفة الغربية، بما في ذلك القدس الشرقية ومنع الشعب الفلسطيني من ممارسة حقوقه المشروعة بصفة كونه شعبا من شعوب المنطقة.
ما ترفض إدارة أوباما استيعابه بأيّ شكل أن المشكلة مع إيران ليست مشكلة الملفّ النووي وذلك على الرغم من أنّ حصولها على القنبلة النووية يوما سيدخل المنطقة في سباق تسلحّ في غاية الخطورة.
المشكلة مع إيران في مكان آخر. تكمن هذه المشكلة، بالنسبة إلى من يدّعي أنّه في صدد محاربة “داعش”، في أنّ السياسات التي تمارسها طهران تلعب الدور الأهمّ في نموّ “داعش” وما شابهه من تنظيمات إرهابية.
لم تهبط “داعش” من السماء. تمدّد التنظيم الإرهابي في العراق الذي ولد فيه أصلا قبل انتقاله إلى سوريا ومنها إلى العراق مجددا، بفضل السياسة الإيرانية القائمة على الاستثمار في الغرائز المذهبية. صحيح أنّ ما يحرّك إيران والشعب الإيراني هو الانتماء القومي، الفارسي تحديدا، لكنّ الصحيح أيضا أن السياسة الإيرانية في المنطقة، تقوم أساسا على الاستثمار في المذهبية. هذا ما يحصل في البحرين والعراق وسوريا ولبنان واليمن على سبيل المثال وليس الحصر.
ما كان لـ“داعش” أن يجد حاضنة سنّية له في العراق لولا الممارسات الطائفية والمذهبية والعنصرية لحكومة نوري المالكي التي كانت في موقع التابع لإيران، خصوصا منذ العام 2010. ما كان لـ“داعش” أن يتمدّد في سوريا، لولا تشجيع النظام السوري له في البداية من أجل ابتزاز الأميركيين في العراق ثم من أجل تصوير الثورة الشعبية في سوريا بأنّها ثورة تقف خلفها مجموعة من “الإرهابيين” بينهم عدد كبير من العرب وغير العرب.
هل في سوريا مقاتلون عرب وأجانب، من أهل السنّة، في جانب الثوّار فقط… أم أنّ من بدأ بالاعتماد على مقاتلين شيعة مستوردين من لبنان والعراق وأفغانستان هو النظام المدعوم من إيران؟
من الواضح أن الاتفاق، أيّ اتفاق في شأن الملفّ النووي الإيراني يلبي الرغبة المشتركة لدى طهران وإدارة أوباما في التوصل إلى البدء في طي صفحة الماضي القريب الذي بدأ مع الثورة الإيرانية في العام 1979.
إيران تبحث بكل بساطة، عن اتفاق يسمح لها بالتنفسّ اقتصاديا في وقت يشتدّ الصراع الداخلي فيها. أمّا إدارة أوباما فهي تطمح إلى تحقيق ما يعتبره الرئيس الأميركي أقرب إلى حلم له، فهو إيراني الهوى، ربّما تحت تأثير مستشارته فاليري جاريت، ولا يرى إلّا “داعش” السنّية، فيما يتجاهل “الدواعش” الشيعية كلّيا.
هل سيحلّ الاتفاق، الأقرب إلى شبه اتفاق، أيّ مشكلة في الشرق الأوسط؟ الجواب لا وألف لا… في غياب التغيير الجذري في تعاطي الحكومة العراقية، التي لا تزال تعمل في ظلّ الأخ الأكبر الإيراني، مع المكونات الأخرى في البلد، خصوصا مع أهل السنّة والأكراد. لن يحلّ أي مشكلة قبل بدء واشنطن في انتهاج سياسة مختلفة في مواجهة النظام في سوريا. كلّ ما تبقى تمرير للوقت وبحث أميركي عن غطاء للسياسات التوسعية التي تنتهجها طهران في المنطقة. وهذا يحصل في وقت لا يمكن الاستخفاف بالتجاذبات الداخلية في إيران التي ستواجه من دون رفع العقوبات أوضاعا اقتصادية صعبة، خصوصا في حال استمرّ هبوط سعر النفط…
بعد جدل استمر لما يقرب من أسبوع حول إصابته أو مقتله، وبعد أن احتفى التحالف الإيراني بذلك بينما كان الأمريكان يتواضعون في توقعاتهم، خرج أبو بكر البغدادي، أمير "الدولة الإسلامية في العراق والشام"، أو "الخليفة" كما يراه أنصاره لكي يخاطب أولئك الأنصار، ويخاطب العالم أجمع؛ أولا ليؤكد على أنه بخير، وثانيا ليعيد ترتيب أولوياته وحروبه، ويعلن التمدد وفتح جبهات جديدة.
صحيح أن كلمة البغدادي كانت مسجلة بالصوت فقط، إلا أن نبرة التحدي كانت واضحة فيها، ومعها نبرة الثقة التي تلهم الأتباع بكل تأكيد، وهم كانوا في أشد الحاجة إليها بعد أن تشككوا في خبر إصابته، بخاصة أن الكثير من الحسابات المشهورة لديهم لم تكن تنفي ذلك بشكل واضح، بل كان بعضها يتحدث بنبرة تشي بأن الإصابة حقيقية.
أيا يكن الأمر، فقد خرج الرجل مؤكدا على أنه لم يُصب بأذى، مع أن الصوت لا ينفي الإصابة بالضرورة، لكن الصوت القوي قد يشير إلى شيء من ذلك، ثم شرع يوزع القناعات والتعليمات.
من أكثر ما يمكن التوقف عنده في التسجيل هو القناعة التي لا شك فيها لدى البغدادي بأنه منصور لا محالة، وأنه لن يتوقف حتى يفتح روما حسب قوله، وهي روحية في المواقف كانت ولا تزال جزءا لا يتجزأ من خطاب الدولة الحالم إلى حد كبير برأي كثيرين، والذي يراه أتباعها واقعيا في المقابل.
أعلن البغدادي أن كل الضربات التي تلقاها مقاتلوه لم تسفر عن نتيجة تذكر، وأن الدولة باتت أقوى مما كانت عليه. وفي حين يصعب أخذ هذا الكلام خارج سياق الدعاية، لأن الضربات كانت مؤثرة بعض الشيء، بخاصة في الجبهة العراقية، فضلا عن تعطيلها للحسم في معركة عين العرب، إلا أن المؤكد في المقابل أن الحملة الدولية لم تسفر عن نتيجة كبيرة تتجاوز الإضعاف بعض الشيء، مع العلم أن تدفق المقاتلين على الدولة لم يتوقف، ذلك أن جماعة تحاربها أمريكا وحلفاؤها، وتحاربها إيران أيضا لا يمكن إلا أن تكسب بعض التعاطف في الأوساط الشعبية رغم كل الاستطلاعات، ويكفي أن يُقارن المزاج الشعبي الإسلامي حيالها قبل الحملة الدولية بما بعدها، أو بالأسابيع الأخيرة كي ندرك أن هناك تحولا في اتجاه بعض التعاطف معها.
توقع البغدادي أن يتورط الأمريكان أكثر فأكثر، وينزلوا على الأرض، وهذا ما يبدو واضحا، وهو (أي البغدادي) ذكر إرسال 1500 جندي أمريكي جندي إلى العراق، ولم يذكر قول الجنرال ديمبسي (جاء تصريحه بعد التسجيل) أن واشنطن تدرس إرسال جنود للعمل إلى جانب القوات البرية، وإن سمَّاهم خبراء كحال السابقين.
على أن البعد الأهم في التسجيل، والذي كان الدافع الأكبر لإصداره كما يبدو، إلى جانب تأكيد عدم الإصابة، هو إعلان توسع الدولة نحو مناطق أخرى، لاسيما أن ذلك يمنح الدولة مزيدا من الحضور في ظل عزوف العلماء والدعاة عن إعلان تأييدها، بل ميل الغالبية الساحقة منهم إلى رفض منهجها، بما في ذلك عدد من رموز السلفية الجهادية.
لقد أراد بإعلان قبول تلك البيعات الجديدة التأكيد على أن زمن تنظيم القاعدة قد ولى، وأن هذا زمن الدولة، ولذلك أعلن قبول البيعات الجديدة من مجموعات في اليمن والسعودية والمغرب وليبيا وسيناء. أما الأكثر إثارة في هذا السياق فهو المتمثل في التركيز بشكل واضح على السعودية، وهو ما استوقف عمليا معظم وسائل الإعلام.
هنا تحدث عن المملكة بوصفها "رأس الأفعى"، وهو الوصف الذي كان من نصيب أمريكا في خطاب القاعدة، مع أن دور السعودية في التحالف، بل دور عموم الدول العربية لا يتجاوز تشريع الحرب، وهو ما ذكره البغدادي نفسه في بداية التسجيل، والغريب أن هذا الهجوم على السعودية يأتي في ظل هجوم إيراني عليها بوصفها من يقف خلف تنظيم الدولة!!
والحال أن من غير المنطقي التعاطي مع كلام البغدادي عن المملكة باستخفاف، ذلك أن إمكانية استجابة بعض الشبان لأمره باستهداف الدولة والشيعة يبقى واردا، وإن صبّ ذلك في صالح إيران من جهة أخرى، لكن البغدادي يرى نفسه في حرب مع الجميع (يهود وصليبيّون وملحدون ومرتدون).
هي حرب طويلة في واقع الحال، والسبب أن الظروف الموضوعية التي أنتجتها لم تتغير، فالقتل الدموي من قبل بشار مستمر، والإقصاء في العراق كذلك، وها هو اليمن يضيف إلى المعركة بُعدا جديدا. وإذا كان البغدادي حالما في تأكيده على الانتصار النهائي وصولا إلى روما، فإن الآخرين سيكونون حالمين إذا اعتقدوا أن الحسم سيكون قريبا أيضا.
في قمة العشرين في بريزبن جلس القيصر مجروحاً. انقضى زمن القبل والعناقات الحارة وتوزيع شهادات حسن السلوك. تغيّر موقع الرجل، وتغيّرت صورته. استقبله الزعماء الغربيون بالشكوك. أجلسوه في موقع المتهم. ولولا اللياقات الديبلوماسية لقالوا له: انظر دم الأوكرانيين على أصابعك. ولدى هؤلاء دم الأوكرانيين شيء ودم السوريين شيء آخر، وهو معني بالوليمتين.
كان موقفه صعباً. لم يعد باستطاعته التنديد بالتفرد الأميركي، وإلقاء اللوم على القيادة الأحادية للعالم، والتذكير بما ارتكبه الأميركيون في العراق، وما فعله «الأطلسي» في ليبيا. لم يعد بريئاً. صار متهماً. يعرف قسوة ما يقال عنه، وأن سلوكه أعاد إطلاق سموم الحرب الباردة، وأن سياسته تتسم بالشراهة والبلطجة، وأن هاجسه ترهيب الدول المحيطة بروسيا، وأنه يستخدم سلاح النفط والغاز وزعزعة الاستقرار لتركيعها. ويهدد القارة العجوز بسلاح الصقيع.
لم يكن الجو مواتياً في القمة. ثم أن الأرقام لا تكذب. العقوبات الغربية أوجعت الاقتصاد الروسي. الروبل يتقلص أمام الدولار، وانخفاض سعر النفط ليس خبراً ساراً. غادر القيصر قبل اختتام القمة. تذرّع بحاجته إلى النوم. أغلب الظن أنه يحتاج إلى مراجعة السياسة الثأرية التي يقودها «الرفيق» سيرغي لافروف.
المشكلة ليست فقط في أوكرانيا. إذا نظر إلى الشرق الأوسط لن يشعر بالارتياح. هذا هو المشهد في العراق وسورية. طائرة أميركية في الجو والجنرال قاسم سليماني على الأرض. يزرع لافروف فيحصد سليماني. ليس بسيطاً أن يستجير العراقيون بسلاح الجو الأميركي، أي بالمحتل السابق الذي احتفلوا سابقاً بخروجه. وليس بسيطاً أن تصبح الأجواء السورية في عهدة الطائرات الأميركية.
المشكلة ليست فقط في أوكرانيا. ماذا لو توصّل الأميركيون والإيرانيون إلى اتفاق؟ ماذا لو فتح الباب لتكون إيران الشريك الأكبر لـ «الشيطان الأكبر» في هذا الجزء من العالم، حيث كانت لروسيا تحالفات ومعاهدات واتفاقات؟ ومَنْ هو المنافس الحقيقي لروسيا في هذه المنطقة، أميركا أم إيران؟
نجحت روسيا في منع أميركا من التستر بقرار دولي لإطاحة النظام السوري. أظهرت قدرتها على العرقلة، لكنها أضاعت فرصة إظهار قدرتها على الحل. أعطت النظام السوري مزيداً من الوقت. كان أفضل لو ساعدته على التقدم نحو الحل. براعات لافروف ساهمت في توفير فرصة إطلالة «داعش». عمّقت النزاع السوري والحرب المذهبية وهزّت الوضع العراقي إلى حد الاستغاثة بالأميركيين. هكذا ولد المشهد الحالي: طائرة أميركية في الفضاء والجنرال سليماني على الأرض.
واضح الآن أن موسكو تريد العودة إلى تحريك الملف السوري. أميركا تقيم الآن في عقر دارها السورية. لا يحمل باراك أوباما برنامجاً لإسقاط نظام الرئيس بشار الأسد. لا يريد إحراج إيران أو استثارتها. لكن واشنطن تجمع الأوراق وتستعد لتدريب «المعارضة المعتدلة» لتشديد الضغوط حين تجيء الساعة. ربما لهذا السبب أعادت روسيا فتح الأبواب. ثمة من يتحدث عن «موسكو-1» لإطلاق الحل في سورية. لم يتضح حتى الآن ما إذا كانت لذلك علاقة ببيان جنيف وما إذا كانت روسيا ستوفر الأرضية لانعقاد «جنيف 3» وعلى أي أساس.
تعاطت روسيا مع الأزمة السورية بوصفها فرصة لاستنزاف هيبة الولايات المتحدة. فرصة لغسل الإهانة التي لحقت بروسيا وسلاحها في ليبيا. اعتبرتها أيضاً فرصة لاستنزاف «المجاهدين». فليذهبوا للموت في سورية بدل أن يتخندقوا في الشيشان وداغستان. لكن اللعبة أفلتت من الأيدي الروسية بعد ظهور «داعش» وأخواته.
ماذا ستقول روسيا لوليد المعلم الذي يستعد لزيارتها في الأسبوع الأخير من الشهر الجاري؟ وماذا ستقول للمعارضين؟ هل ستستخدم الملف السوري لاستعادة صورة الشريك المسؤول والمقبول، أم ستتابع سياسة حافة الهاوية فتتكرس سورية فيتنام جديدة لكثيرين؟
من حق بوتين أن يستدعي لافروف ويطرح عليه سؤالاً صريحاً: ماذا فعلتَ في سورية أو ماذا فعلنا هناك. ومن حق أي حاكم انخرطت بلاده في الأزمة السورية أن يطرح السؤال ذاته على وزير خارجيته. شهد الحريق السوري رقماً قياسياً من الأخطاء المكلفة في القراءة والتقدير. استمرار الأخطاء لا ينذر فقط بقتل مزيد من السوريين، بل يُنذِر أيضاً بقتل سورية مع كل ما يعنيه ذلك لحلفائها وللمنطقة.
قرأنا وسمعنا مرارا وجود ازدواجية معايير في النظام العالمي، فما هي ازدواجية المعايير؟ يقال إنها تطبيق قاعدة أو مبدأ على نحو غير منصف وبصورة مختلفة على أفراد أو مجموعات متباينة.
ويضم الفولكلور الإيراني مقولة شائعة تحمل قدرا كبيرا من الدعابة: «حبا في الله، أعطونا سقفا واحدا بمناخين مختلفين!».
وتدور قصة هذه المقولة حول امرأة متقدمة في العمر تتخذ موقفين متباينين تماما كأم وكحماة، تبعا للمواقف التي تواجهها. في الصيف، كانت هي وابنها وزوجة ابنها ينامون على أحد جوانب سقف المنزل، بينما كانت ابنتها وزوجها ينامان على جانب آخر من السقف. ورأت زوج ابنتها يعانق زوجته بحنان، فصاحت قائلة: «يا أنت! الطقس شديد الحرارة، هل تريد قتل ابنتي؟!».
في المقابل، كان ابنها يغط في نوم عميق، بينما تجلس زوجته على طرف الفراش تطالع كتابا، فقالت لها: «أترين كيف أن الطقس بارد؟ لماذا لا تضمين زوجك إليك؟!».
ودعوني أطرح عليكم بعض الأمثلة الأخرى عن ازدواجية المعايير.
داخل إيران، ينطوي الدستور على معايير مزدوجة وتمييز بين السنة والشيعة، بين الرجال والنساء، والمسلمين وغير المسلمين. مثلا، يجب أن يكون أي مرشح لمنصب الرئاسة رجلا وشيعيا، ما يعني أن جميع سنة ونساء إيران محرومون من الترشح للرئاسة.
كما أن هناك معايير مزدوجة في السياسة الأميركية تجاه البرنامج النووي الإيراني، حيث تهدد الولايات المتحدة إيران، مؤكدة أن جميع الخيارات مطروحة، نظرا لإمكانية أن تصنع طهران قنبلة نووية في المستقبل. في المقابل، عندما يتعلق الأمر بالرؤوس الحربية النووية الإسرائيلية، نجد واشنطن تتعامل مع القضية في صمت شديد، ولا نسمع كلمة من مسؤول منها حيال الأمر.
وخلال هذا المقال، أود التركيز على نمط آخر من ازدواجية المعايير، ويتعلق بقتل الأكراد بمدينة كوباني السورية على أيدي «داعش»، وقتل المسلمين في ميانمار.
لا شك أن تركيز وسائل الإعلام على كوباني، ودعمها للأكراد وتنديدها بـ«داعش» كان من المواقف العظيمة، بيد أن هناك قضية أخرى مشابهة تتجاهلها وسائل الإعلام، وتتعلق بقرابة مليون من الروهينغا يعيشون في بورما، تبعا لإحصاءات الأمم المتحدة، ويعتبرون حاليا إحدى أكثر الأقليات المضطهدة في العالم، حيث اضطر الكثيرون منهم إلى الفرار إلى «غيتوهات» ومعسكرات لاجئين في بنغلاديش المجاورة ولمناطق على الحدود بين تايلاند وبورما. وما يزال أكثر من 100 ألف من الروهينغا يعيشون في بورما داخل معسكرات مخصصة للمشردين، وتمنعهم السلطات من مغادرتها. بينما يعيش المسلمون الآخرون، الذين تتراوح أعدادهم بين 8 و10 ملايين نسمة، في رعب بالغ داخل ميانمار. ويعيش الكثير من المسلمين داخل معسكرات احتجاز. وكل أسبوع، ترد إلينا أنباء عن تعرضهم لمذبحة. وللأسف تدعم حكومة بورما هذا القتل الوحشي للمسلمين.
وتكشف النتائج التي توصلت إليها الأمم المتحدة عن تفاقم العنف ضد الروهينغا في ميانمار، والذين تقدر أعدادهم بـ1.3 مليون نسمة، وحرموا من المواطنة في ظل القوانين الوطنية.
وتأتي أعمال القتل بمثابة اختبار لحكومة ميانمار، التي لم تفعل شيئا يذكر لكبح جماح البوذيين الراديكاليين، رغم سعيها لإقرار إصلاحات اقتصادية وسياسية واسعة للتغلب على ما فعله القادة العسكريون الذين سبقوها في الحكم. وقد أيدت الحكومة قيودا صارمة فرضتها السلطات المحلية على حرية المسلمين في التنقل وحرمتهم من الخدمات الأساسية داخل ولاية راخين، التي يتركز بها أغلب أبناء الروهينغا.
منذ 2012، تم حشد الكثير من الروهينغا، وهم مجموعة تتعرض منذ أمد بعيد داخل ميانمار ذات الأغلبية البوذية، داخل معسكرات بائسة لا يسمح لهم بمغادرتها، ولو للعمل. أما من سمح لهم بالبقاء داخل القرى فيعيشون تحت رحمة السلطات المحلية، التي يستوحي الكثير من مسؤوليها سياساتهم من جماعة بوذية متطرفة استغل رهبانها الحريات الجديدة في البلاد للتنقل بمختلف أرجاء ميانمار للتحريض على كراهية المسلمين.
اللافت أن أون سا سو تشي، الحاصلة على جائزة نوبل وزعيمة المعارضة، نادرا ما تتعرض داخل بلادها لسؤال حول التمييز ضد الروهينغا، لأن هذا الأمر مقبول على نطاق واسع هناك. والصادم أن الزعيمة السياسية التي عانت من الإقامة الجبرية على امتداد قرابة عقدين وتترأس الآن الاتحاد الوطني للديمقراطية في بورما، تلتزم الصمت التام حيال ما يجري للروهينغا.
بمرور الوقت، تنتقل أعمال التطهير العرقي في بورما من سيئ لأسوأ. وفي تلك الأثناء، التزمت سا سو تشي والقيادات البوذية الأخرى الصمت التام وامتنعوا عن التعليق على هذه الكارثة.
والغريب أن أعمال القتل تلك تحدث على أيدي بوذيين، بينما التعاليم البوذية تحرم قتل الحيوان. وتحرم مبادئ البوذية على أتباعها إلحاق إصابة أو أذى بأي حيوان أو إنسان. وتلتزم التعاليم البوذية بنبذ العنف في التعامل مع جميع الكائنات الحية، باعتبار أنهم يحملون بداخلهم نفحة من طاقة روحانية مقدسة. وبالتالي فإن إيذاء كائن آخر يعني إيذاء الإنسان لنفسه.
أتذكر أنني في أعقاب تدمير تماثيل بوذا في باميان، ذهبت لكيوتو في اليابان، وكان الراهب موريموتو هو مضيفي. وأخبرني أنه بعد تدمير التماثيل دخل في فترة صيام طويلة، وصلى من أجل من دمروا التماثيل، وكان يهمس لنفسه أنهم لا يعرفون من هو بوذا.
اليوم وبعد المذابح التي تعرض لها المسلمون من دون أن يأبه لهم العالم، أستطيع القول إن البوذيين في بورما للأسف بدلوا صورة بوذا والبوذيين في العالم. ولك أن تتخيل بوذيا يقتل طفلا بساطور. إن هذا أسوأ مما فعله «داعش» في كوباني.
فرض تنظيم "داعش" نفسه ظاهرةً تستحق دراسة وتأملاً كثيرين، بعد توسعه في العراق وسورية، وبات المحللون والمراقبون يكثرون الحديث عن أسباب نشوئه، وطبيعة تمويله، والأيديولوجيا التي يتبناها، وتأثيرها في سلوكه، وجاذبيته بالنسبة للمقاتلين الشباب، الذين يأتون إليه من شتى أنحاء العالم. من جملة الأمور التي يدور النقاش حولها بخصوص "داعش"، وجود حواضن شعبية له من عدمها في بعض البلدان، ومنها دول الخليج، والأسباب التي جعلت التنظيم يتمتع بحواضن شعبية في مناطق من العراق وسورية. يتعجب مراقبون ومحللون من رواج الفكر الوهابي في تلك المناطق، فهم يعتبرون أن الحواضن الشعبية لداعش موجودة في السعودية والخليج، حيث تنبع الأفكار السلفية الوهابية، وتتغذى بالتعليم الديني. أما في العراق وسورية وغيرها من البلدان العربية، فلا وجود لتربية سلفية منهجية، تصنع حاضنة شعبية لتنظيم مثل "داعش".
مشكلة هذا التحليل أنه يركز على عوامل فكرية وعقائدية، فيصل إلى استنتاجات خاطئة، بخصوص الحاضنة الشعبية. لم تتكون الحاضنة الشعبية لداعش في العراق وسورية، وفي الأماكن التي بايع فيها جهاديون البغدادي، لأسباب عقائدية، بل تكونت هذه البيئة لأسباب سياسية واقتصادية، بالدرجة الأولى، وأصبحت بيئة خصبة لنمو تنظيمات مثل "داعش". وهو تنظيم مثل باقي الجماعات خارج الدولة، يتوسع في حالة انهيار سلطة الدولة المركزية، أو ضعف قبضتها على الأطراف، إذ تحل هذه الجماعات محل الدولة، إما في تقديم بعض الخدمات، أو توفير الأمن والحماية لمكونات أهلية بعينها، في مقابل مكونات أخرى، أو في مقابل النظام السياسي الذي يتحول إلى طرف في الصراع الأهلي، وتصبح لهذه الجماعات حواضن شعبية، بسبب الخدمات أو الحماية، أو تمثيل هويتها في الصراع مع الجماعات الأخرى.
ينطبق هذا الكلام على تنظيمات أخرى، غير "داعش"، وهو ما يجعل محللين يتساءلون عن سر نجاح "داعش" في إيجاد حواضن شعبية، على الرغم من وجود جماعات أقل حدة وتشدداً منه؟ والجواب يكمن في التساؤل نفسه، فراديكالية "داعش" تضمن له المزايدة على خصومه من التنظيمات المختلفة، في تمثيل مكونات شعبية تشعر بالقهر والتهميش السياسي والاقتصادي، أو تعيش صراع هوية حادا مع مكونات أخرى، فداعش يُعَدُّ تعبيراً عن حالة الغضب والانتقام في ظروف حربٍ مستعرة. لا تؤمن الحواضن الشعبية لداعش بالأفكار السلفية، وهي لم تنشأ على الإيمان بها، لا في العراق ولا في سورية، ولم تكن المناهج الدراسية التي درسها هؤلاء تحوي أفكاراً حول التوحيد الصحيح، أو الولاء والبراء، لكنهم على استعداد لاحتضان داعش، في ظل الظروف السياسية والاقتصادية الحالية، وهو أمر قد يتبدل بعد مدة.
قصور التفسيرات الدينية والعقائدية لوجود حواضن شعبية لداعش يصل إلى الحديث عن الحواضن الشعبية لداعش في السعودية والخليج، إذ تكثر التكهنات بوجود حاضنة شعبية لداعش في السعودية، لأسباب متصلة بالمناهج الدينية، ونشوء الوهابية هناك. لا يراعي هذا التحليل وجود حواضن شعبية في العراق وسورية، لم تصل إليها المناهج الدينية الوهابية إلا مع داعش، وهي احتضنت داعش، من دون أن تكون سلفية، كما أن هذا التحليل لا ينتبه إلى وجود نسخ من الوهابية في السعودية، تختلف عن النسخة الداعشية التي تعود إلى منابع الوهابية الأصلية، وتقتفي سيرة الحركة الوهابية في تأسيسها، لكن الأهم أن التعامي عن العوامل السياسية والاقتصادية لا يُمكِّن من فهم الأوضاع الاجتماعية جيداً.
" تكثر التكهنات بوجود حاضنة شعبية لداعش في السعودية، لأسباب متصلة بالمناهج الدينية، ونشوء الوهابية هناك "
في عام 2003، قامت خلايا القاعدة بسلسلة عمليات داخل السعودية، استهدفت مجمعات سكنية وعاملين أجانب في الشركات والمؤسسات، ومقر الأمن العام، وكانت نتيجة هذه العمليات عكسية على التنظيم، فالذين كانوا معجبين به، إثر هجوم "11 سبتمبر"، تغير موقفهم، لأنه بدأ يعمل في بيئتهم، ويهز استقرارها، وفي هذه البيئة، الدولة قوية، وهناك استقرار أمني واقتصادي، لا يجعل للقاعدة والتنظيمات المشابهة لها فرصة كبيرة لإيجاد حاضنة شعبية. وهكذا، أصبح اليمن مقر تنظيم القاعدة في جزيرة العرب، فهناك يمكن للتنظيم إيجاد بيئة حاضنة، في ظل ضعف الدولة وغياب الاستقرار بشكل عام. هذه التجربة مهمة لأخذها بالاعتبار، في أي حديث عن وجود حاضنة شعبية لداعش. فهذا التنظيم، مثل تنظيمات أخرى، تنمو في ظروف الحرب والصراع، ووجود حالة من الاستقرار، تقلص تمدد هذا التنظيم، فهو يحتاج إلى بيئة تشعر بالتهميش والقهر، ليكون ممثلاً لها ضمن الصراع.
إن فهم أسباب وجود تعاطف شعبي مع داعش في بعض المناطق من العالم العربي، مهم لمعالجة المسألة بشكل ناجح. وإذا كان المطلوب عزل هذا التنظيم عن أي قواعد شعبية، فإن هذا لا يتحقق عبر تثقيف الناس ضد أفكار داعش الوهابية، أو بصناعة تحالفات دولية بقيادة أميركية تحاربه، بل بإيجاد صياغات وطنية جديدة، تنجز توافقات بين المكونات المختلفة، على قاعدة بناء دولة المواطنة، ومعالجة التهميش السياسي والاقتصادي لبعض المكونات الشعبية، والخروج من الوصاية الأميركية والغربية، وتحقيق استقلال القرار، لأن داعش تعزز شرعيتها عبر الحديث عن استقلاليتها، وتمثيلها تطلعات الناس في مواجهة الهيمنة الغربية على المنطقة العربية ومقدراتها.
حين أعلن الزعيم الدرزي وليد جنبلاط أن «جبهة النصرة ليست منظمة إرهابية»، اعتقد البعض أن الأمر لا يتعدى لحظة المزاج السيئ الذي كان يشعر به القائد السابق للحركة الوطنية اللبنانية في ذلك الوقت، حتى وصل الأمر إلى اتهامه بمحاولة إنقاذ أو حماية طائفته من أتون الحرب السورية التي باتت نيرانها تهدد البيت اللبناني بشكل جدي، نتيجة لمشاركة «حزب الله» بفعالية أكثر في تأجيج هذه الحرب.
وكلام جنبلاط، وما تبعه من جولات في العرقوب (20 أيلول 2014) وحاصبيا وشبعا، جاء ليؤكد أن استشعاره للخطر كان في محله حول منطقة العرقوب التي تقع في جنوب لبنان وتضم قرى شبعا، كفر شوبا، الهبارية، كفر حمام وراشيا الفخار وتعتبر إحدى المناطق ذات الأغلبية السنية في جنوب لبنان إلى جانب قرى حاصبيا ذات الأغلبية الدرزية.
إذن المنطقة تتمتع بموزاييك طائفي مثالي، إلى جانب التنوع السياسي الذي ورثته من خلال كونها مركز ثقل المقاومة الفلسطينية، ومنها انطلقت الحركة الوطنية، والمقاومة الوطنية اللبنانية سابقا.
أما الآن فقد تغيرت الخارطة الجيوسياسية للمنطقة، واختلفت الأدوار، فحزب الله هو القوة المهيمنة على امتداد الجنوب اللبناني، تشاركه بعض الأحزاب الموالية للنظام السوري كالحزب الديموقراطي والحزب السوري القومي الاجتماعي.
وفي الجهة المقابلة في الجولان والقنيطرة، الجبهة التي كانت تنعم بالهدوء والاستقرار طوال فترة سيطرة النظام السوري عليها أصبحت الآن في كنف جبهة «النصرة» والجيش الحر، ومقاتلي المعارضة، إلى جانب إسرائيل التي تراقب عن كثب ما يجري.
وحزب الله بدوره يراقب إنما بحذر أكبر، فهذه الجبهة تختلف عن شقيقتها في عرسال، والنظام السوري لا يملك فيها أي قوات تذكر، وطيران النظام يفقد فعاليته أمام «الخطوط الحمر» التي قد تضعها إسرائيل في تلك المنطقة في حال كبر حجم المواجهات.
وللنظام السوري بدوره أساليبه، فبعد انهزام قواته في تلك الجبهة عمد إلى الزجّ بالطائفة الدرزية السورية في المنطقة، في مواجهة مع جبهة النصرة وقوات المعارضة في عدد من البلدات في جبل الشيخ من الجانب السوري مما ترك أثرا في قرى حاصبيا والعرقوب وصولا إلى العمق الدرزي في جبل لبنان، ولا سيما بعد سقوط 27 مقاتلا وعشرات الجرحى من الدروز السوريين.
بالطبع هناك بعض الدروز اللبنانيين الموالين للنظام السوري من خلال قيادتهم التي ارتبطت بهذا النظام في زمن الوصاية، وهم أقلية بالنسبة إلى النسيج الدرزي الوطني الواسع، قد تغريهم إعادة اعتبارهم من قبل النظام السوري، من خلال البحث عن ثقب يخرجون عبره مجدداً إلى المشهد السياسي في لبنان.
والزعيم الدرزي وليد جنبلاط يعرف حقا تكاليف الحرب، والأثمان الباهظة التي يمكن أن يدفعها أي طرف درزي يحاول الوقوف مع النظام ضد الثورة في سوريا. ومن هنا تأتي ثوابت موقفه السياسي تجاه الحدث السوري ووقوفه إلى جانب الثورة وإيمانه المطلق بحتمية انتصارها.
وحين يدعو جنبلاط دروز سوريا إلى تحديد موقفهم من الثورة السورية: «لقد آن الأوان لاتخاذ القرار الجريء بالخروج من عباءة النظام الآيل إلى السقوط عاجلاً أم آجلاً والالتحاق بالثورة التي من الأساس رفعت شعارات الحرية والكرامة والتغيير وهي شعارات محقة ومشروعة لكل أبناء الشعب السوري”.
هو يدرك أيّ منزلق قد يودي بطائفته على امتداد سوريا ولبنان، وهو يدرك أيضاً أن النظام السوري مازال يراهن على الأقليات في سوريا ولبنان والدفع بها نحو حربه المجنونة، وضرب كل أشكال التعايش بين طوائف المنطقة .
كان جنبلاط واضحاً في كلامه المكتوب بافتتاحية جريدة “الأنباء” الناطقة باسم الحزب التقدمي الاشتراكي، وهو كلام لم يقله نتيجة ردة فعل سياسية على موقف ما. فالكلام يلزم صاحبه في محطة تاريخية يدرك جنبلاط أهميتها تجاه الثورة السورية، ففي لبنان من يعتقد أو استشهد من أجل فكرة أنه لا مستقبل للبنان، بما يمكن أن يشكله من تعايش في ظل وجود النظام السوري الحالي .
وبالتأكيد لن يكون دروز سوريا وفلسطين ولبنان، الطائفة الثانية التي قد تحمل البندقية في مواجهة حركة التغيير في سوريا. وما حدث في جبل الشيخ والعرقوب، ليس سوى «بروفة» لاستحداث جبهة جديدة قد تشكل إغراءً لـ«حزب الله» في تأمين المزيد من الغطاء الميداني لوجوده على الأراضي السورية تحت شعار محاربة “العدو الإسرائيلي”.
في حين أن وحدات من «حزب الله» تعمل في البقاعين الشمالي والغربي، على «تجنيد» شبان مسيحيين ومسلمين سنة ودروز، وتعرض عليهم التدريب والتسليح لمواجهة خطر «داعش» وأخواتها. والعنوان المرفوع «مصيرنا واحد وعلينا التصدي معا». وهو شعار يعتقدون أنه أكثر جاذبية من التصدي للعدو الإسرائيلي. ولا يقتصر الأمر على لبنان، ففي سوريا أيضا تجنيد لمسيحيين وعلويين ودروز، لكن تسمية «سرايا المقاومة» تغيب. هناك تطوع مباشر مع الحرس الثوري الإيراني برواتب شهرية تتراوح بين 1500 و2500 دولار.
أمام هذا البذخ الهائل من النظام الإيراني، والتجييش المتصاعد للأقليات بقيادة «حزب الله»، تحت مسميات عديدة، هل يمكن لكلام الزعيم الدرزي وليد جنبلاط أن يجد طريقه إلى «العقلاء» من أبناء الطائفة الدرزية، والسير بحتمية التاريخ، أن الطغاة سيسقطون عاجلاً أم آجلاً.
بعد مرحلة طويلة من المعاناة مع خيار قومي أخضع بعض الشعب العربي لحكومات مارست عليه ضروباً شتى من الاضطهاد والعسف، ندخل، اليوم، إلى مرحلة من المعاناة مع خيار مذهبي/ طائفي، يشترك مع النزعة القومية التي عرفناها، خلال نيّفٍ ونصف قرن، في نقطتين رئيستين هما: أدلجته التي تجعله يرى الواقع، عبرها وبدلالتها، وعداؤه للإنسان ككائن يتعرّف بحريته ورفضه المواطنة، كحاضنة سياسية للدولة والمجتمع، وتصميمه على إخضاع مجتمعاتنا لسطوة شموليةٍ، يشرف عليها حركيون معصومون، لا يأتيهم الباطل، يعني رفضها عصيان أمر قدسي، وتمرداً عاقبته القتل.
تأتي هذه المرحلة عقب طورٍ عانى العرب، في أثنائه، الأمرّين في معظم بلدانهم، أنتجه وسوّغه أيديولوجياً مفهوم أمة مجردة وضد تاريخية، كتلية لا تعرف أي تراتب بنيوي وعمق إنساني، تعرض المحكومون بسببه لسطوة نظام مذهبي الهوية، فرز الشعب إلى أخيار وأشرار، وشن حرباً منظمة ضده، أدت في سورية، آخر بلدانه، إلى هلاك جسدي وروحي طاول ملايين المواطنين الذين قتلوا بحجة الدفاع عن قومية هولوكوستية، عجزت عن مواجهة أي عدو غير شعبها الذي صادرت إرادته وغيّبته عن الشأن العام، لكي تبرر ما مارسته عليه من إجرام منظم ودائم.
بالتشابه العميق بين هاتين المدرستين المذهبيتين والمؤدلجتين، النافيتين للحرية والإنسان، وبإفشال مشروع الحرية، الذي قدمه الشعب نفسه وقدم أغلى التضحيات في سبيله، يكون من الطبيعي أن يحل محل النظام القومي بديل من جنسه، وإن حمل اسماً آخر، وعبّر عن نفسه بواسطة مفردات مختلفة، تكثر من الحديث عن المقدس، كأن رئيس النظام القومي لم يكن مقدساً، أو لم يمارس أعمالاً جرمية ضد مواطنيه، وإنْ بأدواتٍ مغايرةٍ لأدوات قادة التيار المذهبي/ الوثني الديني الكلام الذي يبطش بالسكاكين بمن قتلهم صنوه القومي بالبراميل المتفجرة والصواريخ المجنحة والسلاح الكيميائي.
بنفي الإنسان وحقوقه وهيمنة أيديولوجيا معصومة، يعاد إنتاج الواقع، أو تصحيحه في ضوئها، وبدلالتها بما هي معيار الخير ضد الشر، نكون أمام انفجار من حلقتين متماسكتين: أنضجت القومية منهما كل ما كان ضرورياً، لتمزيق أواصر العرب، ولتدمير مجتمعاتهم ودولهم، وها هي المذهبية/ الوثنية تحصد بسكاكينها أعناق الذين نجوا من قذائف صبّها عليهم خلال قرابة أربعة أعوام جيش "قومي"، رفض البديل الديمقراطي الحر الذي طالبوا به، وقاموا بالثورة من أجله، وفضّل أن يجعلهم أصوليين يكرهون الحرية، ويرفضون حكم الدستور والقانون، من الأفضل له أن يصيروا وثنيين بلا هوية فردية أو حقوق.
انفجر العالم العربي، وتفتت أطرافه، وانهار مركزه بالتلازم مع صعود وانهيار رهان قوميٍّ، استأثر خلال نصف قرن باهتمام وحراك قطاعات شعبية ونخب سياسية وازنة. وها هو الرهان المذهبي/ الوثني اللابس لبوس الدين يحقنه بعصبياتٍ تدمر وجود الإنسان نفسه، يجسدها عبر ممارساتٍ، إن نجح في تعميمها بقوة سلطته المفرطة الأدلجة، أوقع العرب في هاويةٍ، لن يخرجوا منها في زمن منظور، هي نهاية الإنسان العاقل والصانع، منتج مفردات الحضارة البشرية والتقدم الإنساني الذي سيخلي مكانه لوحش "داعش" الذي سيقضي على كل شيء أبدعه خلال الخمسين قرناً المنصرمة من تاريخ البشرية.
لم يعد المشروع الديمقراطي/ الوطني، الإنساني/المدني، القائم على الحرية والعدالة، مجرد شأن سياسي. غدا، بالأحرى، مطلباً وجودياً وإنقاذياً للشعب والأمة، ما دام استمرار المشروع القومي في نسخته الأسدية يقتلنا، وانتصار صنوه وبديله الوثني يعد بالإجهاز التام علينا: جماعات وأفراداً.
يبدو أن لعبة الشطرنج التي تجري، منذ سنة، بين الولايات المتحدة وإيران، على رقعة الشرق الأوسط، راحت تزداد تعقيداً مع قرب انتهاء الوقت المحدد للمفاوضات حول الملف النووي الإيراني في 24 نوفمبر/تشرين أول المقبل، جراء مجموعة عناصر استجدت، في مقدمها الظهور "المفاجئ" لتنظيم داعش الذي تمدد من سورية، ليجتاح شمال العراق، ويتحول إلى "بعبع" للمنطقة بأكملها، ويضع أيضاً الطرفين، أي واشنطن وطهران، في مواجهته، أقله في المعلن.
ومن الواضح أن المفاوضات لم تعد تدور حول النووي فقط، أو بالأحرى، يتم التفاوض عمليّاً حول كل شيء، من العراق إلى سورية ولبنان، ومن الثورات إلى الأنظمة وثوراتها المضادة، ومن المصالح والنفوذ في هذه الدول، ودور الدول المحيطة والمؤثرة، إلى "داعش" بيت القصيد، وخالط كل الأوراق والحسابات.
انطلقت المفاوضات في 24 نوفمبر/تشرين ثاني 2013، من إطار عام، يقضي أن توافق إيران على التزامات طويلة المدى، تتعلق بتقليص برنامجها النووي، في مقابل رفع متدرج للعقوبات المفروضة عليها. بمعنى آخر، تلتزم إيران تعاقديّاً التزاماً طويل المدى، في مقابل أن يستخدم الرئيس الأميركي، باراك أوباما، صلاحياته الرئاسية لتقليص العقوبات الاقتصادية الحادة المفروضة على إيران، وأن يستأذن الكونغرس في إلغاء قانون العقوبات على إيران، بحلول نهاية عام 2016.
ولهذا الغرض، باشرت إيران، بعد انتخاباتها الرئاسية، العام الماضي، التفاوضَ حول ملفها النووي مجدداً، وأفلحت في إبرام "اتفاق إطار" مع مجموعة (5 + 1)، أي الولايات المتحدة، فرنسا، انكلترا، روسيا والصين + ألمانيا، مدته ستة أشهر، إلا أنه بسبب الفجوة الكبيرة التي استمرت تفصل مواقف الأطراف، ورغبة الجميع في استمرار التفاوض، فقد تم تمديد المهلة ستة أشهر إضافية، إفساحاً في المجال للتوصل إلى اتفاق نهائي. وستنتهي هذه المهلة الإضافية، بعد نحو عشرة أيام، ولا يزال الاتفاق بعيد المنال.
إن النووي قبل "داعش" ليس كما بعده! فواشنطن وطهران تقفان عمليّاً، اليوم، في خندق واحد، في مواجهة هذا الوحش، كل من موقعه وحساباته المختلفة. فقد عمل نظام الملالي، في البداية، على تغذية ظاهرة "داعش" التي أطلقها حليفهم وربيبهم، بشار الأسد، في سورية، ثم مهد الطريق لـ"داعش"، لكي يغزو العراق عبر ربيبه الآخر، نوري المالكي، من أجل أن تتحول الثورة إلى إرهاب واقتتال سني-سني. في الوقت عينه، سعت الإدارة الأميركية إلى استغلال الظاهرة الآخذة في التمدد، وتوظيفها في أكثر من اتجاه، بهدف ابتزاز الخصوم والحلفاء على السواء. حاولت التعويض عن تخاذلها وإطلاق الوعود الكاذبة تجاه (إسقاط) النظام السوري، وكذلك تجاه دعم المعارضة السلمية، ثم المقاتلة، على الأرض.
" عمل نظام الملالي، في البداية، على تغذية ظاهرة "داعش" التي أطلقها حليفهم وربيبهم، بشار الأسد، في سورية "
فكان أن "انقلب السحر على الساحر"، وتحول "داعش" إلى وحش دموي كاسر، يتهدد الجميع، وفرض نفسه بقوة على طاولة المفاوضات النووية. فقرر أوباما التدخل عسكريّاً، عبر الغارات الجوية التي تشنها قوى التحالف، منذ أكثر من شهرين على "داعش" في العراق وسورية على السواء. رفضت إيران المشاركة، على الرغم من صراخها وإعلانها، هي وحلفاؤها بشار في سورية و"حزب الله" في لبنان، والمليشيات الشيعية في العراق، الحرب على الإرهابيين والتكفيريين. كيف لها أن تشارك في المعركة إلى جانب من تصوره لجماهير "المستضعفين" على أنه "الشيطان الأكبر"، ومنبع "الاستكبار العالمي"؟ وأين لها أن تجد بعدها الخصم الذي يعبئ به علي خامنئي ملايين الإيرانيين، أو حسن نصرالله، حشود الممانعين الشيعة في لبنان... علماً أن الأسد عرض خدماته على "الشيطان الأكبر" أوباما من أجل التعاون والتنسيق في مقاتلة "الإرهابيين"، على الرغم من عدم تصديه، ولو بغارة واحدة، على "داعش".
في المقابل، يعكف مستشارو البيت الأبيض، في الأيام الأخيرة، على وضع استراتيجية جديدة، بعدما تبين للرئيس الأميركي أن لا جدوى من الغارات الجوية فوق الرمال المتحركة، وأن القضاء على "داعش" يفترض التحرك، أيضاً، باتجاه إسقاط نظام الأسد. وهذا يعني إعادة خلط الأوراق مجدداً باتجاه مزيد من التعقيد والتوتر، وربما التفجير في أكثر من ساحة، إلا أن اللافت في هذا المجال هو دخول روسيا على الخط، عبر تسريب ديبلوماسيتها معلومات عن استعدادها التخلي عن الأسد في مقابل تشكيل حكومة انتقالية، تضم المعارضة المعتدلة، وبعض القريبين من النظام، شرط الحفاظ على مؤسسات الدولة والجيش. فهل هذا يعني أن موسكو باتت مقتنعة أن استمرار الرهان على بشار أصبح رهاناً فاشلاً، وأنه مازال يقف على قدميه فقط بفعل الدعم العسكري الإيراني والمليشيات اللبنانية والعراقية التابعة لطهران؟ وبالتالي، من الأفضل ملاقاة واشنطن في منتصف الطريق للحفاظ على موطئ قدم على شرق المتوسط.
هذه التطورات المتسارعة وضعت نظام الملالي، المتمرس في التفاوض، والمعروف بنفسه الطويل في "حياكة السجاد"، أمام اختبار لا يحسد عليه. واشنطن تمارس ضغوطها عبر الملف النووي، وموسكو تترك فجأة طهران الحليفة في منتصف الطريق. والخيار هو بين الملف النووي وبقاء بشار الأسد في السلطة، أي بين ضرورة رفع العقوبات الاقتصادية الخانقة عن نظامها وشعبها أيضاً، والحفاظ على نفوذها ومطامعها التوسعية على ضفاف المتوسط بعد أن امتدت أذرعها إلى معظم الدول العربية!
قد يتم ربما في اللحظة الأخيرة إيجاد حل مؤقت للنووي، عبر التمديد للمفاوضات، لكي تبقى العصا مرفوعة في وجه طهران، ولكن، كيف يمكن لها أن توفق بين القضاء على "داعش" وبقاء الأسد.
بين آخر الأخبار المتعلقة بنزيف النخبة السورية ودمارها، كان خبر مقتل 4 من الخبراء السوريين في مركز البحوث العلمية القريب من دمشق إلى جانب خامس كان معهم قيل إنه إيراني الجنسية، وبغض النظر عن التفاصيل الملتبسة، التي أحيط بها مقتل الخبراء العاملين في أهم وأخطر مؤسسة علمية في سوريا، فإن مقتلهم يمثل حدثا جديدا في ظاهرة نمت واستشرت منذ بدء الأحداث السورية، هي ظاهرة نزيف ودمار النخبة السورية في مسار حرب بدأها النظام ضد السوريين، قبل أن تشارك فيها أطراف محلية وأخرى إقليمية ودولية من مواقع مختلفة ولغايات وأهداف متباينة.
بدأ المسار العام للظاهرة مع خروج السوريين للمطالبة بالحرية متظاهرين ومحتجين، وكان من الطبيعي، أن ينضم إلى المتظاهرين والمحتجين رموز من النخبة السورية في تكويناتها المختلفة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والعلمية وغيرها، وكغيرهم من المحتجين والمتظاهرين، تعرضوا إلى قمع النظام قتلا وجرحا واعتقالا وملاحقة، وهو اختصار للنهج الذي سار عليه النظام وما زال في التعامل مع الحراك السلمي والمدني الذي أطلقته ثورة السوريين، وتحولاتها إلى العمل المسلح.
وتطورت مشاركة قطاعات النخبة في الفعاليات المناهضة للنظام مع تطورات الأزمة السورية وصولا إلى الصراع المسلح، فكانت فعاليات الإغاثة ومساعدة المتأثرين بحملات النظام العسكرية والأمنية في تشريد السكان وتدمير مناطقهم السكنية، فنشأت أنشطة الدعم الإنساني في مجالات الغذاء وتأمين السكن للمشردين، ثم امتدت الأنشطة في مساعدات طبية ودوائية لمواجهة ظروف الجرحى والمرضى في مناطق العمليات الأمنية والعسكرية وحولها، وتزامنا مع تلك الأنشطة، كان نشاط المحامين والحقوقيين الذي تزايدت مهماتهم في الدفاع عن المعتقلين والبحث عن المختفين قسرا لمعرفة مصيرهم، وارتبط ذلك كله بالحاجة إلى أنشطة إعلامية ساهم فيها أفراد وجماعات، أرست أشكالا مختلفة من نشاطات إعلامية دعاوية عبر مؤسسات غير رسمية، ولدت في خضم تطورات الحدث السوري.
ولم يكن بالإمكان القيام بهذه الأنشطة دون توفير إمكانات مادية ومالية، الأمر الذي تطلب دخول بعض الفعاليات الاقتصادية والاجتماعية لجمع التبرعات المالية والعينية لمعالجة أوضاع السوريين وخصوصا ضحايا قمع النظام ومساعدتهم في التغلب على ظروف حياتهم الجديدة، فنشأت شبكات جمع التبرعات وتوزيعها في الأنحاء السورية المختلفة.
وكما هو واضح من تلك الأنشطة، فقد تطلبت الحالة انخراط مجموعات مختلفة من النخبة السورية، التي لا شك أنها انقسمت بين قوة، انتمت إلى ثورة السوريين، وقلة وقفت إلى جانب النظام أو وضعت نفسها خارج معادلة الصراع، وإن كانت أقرب إلى موقف النظام وسط موقف الحياد.
إن آلافا من شخصيات النخبة السورية انخرطوا في فعاليات الثورة، أو أعلنوا الوقوف إلى جانبها، مما وضعهم في مسارات حياتية ومهنية وعملية مختلفة عما كانت عليه أوضاعهم قبل الثورة. بعضهم اعتقل أو اختفى دون معرفة مصيره، وهذا ما أصاب أطباء ومحامين وفنانين ورجال أعمال من اعتقال وقتل تحت التعذيب وخطف بسبب أنشطتهم ومواقفهم.
ولم تكن ممارسات النظام وميليشياته بما فيها عناصر «حزب الله» اللبناني والميليشيات العراقية وحدها التي ألحقت القتل والجرح والاختفاء القسري، بل امتد ذلك إلى المناطق الخارجة عن سيطرة النظام، التي وجدت فيها التشكيلات المسلحة للمعارضة، وفي المناطق التي سيطرت عليها قوى التطرف والإرهاب من أخوات «القاعدة» أمثال تنظيم «داعش» و«جبهة النصرة»، حيث قتل وجرح واختفى مئات من رموز النخبة الذين عارضوا نظام الأسد أو مواقف القوى والجماعات المسلحة وخصوصا المتطرفة.
وباستثناء هذا النسق من استنزاف وتدمير النخبة السورية، فإن تطورات الوضع السوري فتحت نسقا آخر لا يقل خطرا على مصير النخبة من سابقه. فاندفع مئات آلاف من كل الاختصاصات بما فيها الاختصاصات النادرة وبينهم أساتذة في الجامعات وأطباء ومحامون ومهندسون ورجال مال وأعمال وكتاب وسياسيون وصحافيون وغيرهم لمغادرة البلاد، بسبب الملاحقة الأمنية أو طلبا للعمل وللسلامة ورغبة بالخروج من حمام الدم المتزايد الانتشار، فأصبحوا لاجئين ومقيمين في دول الجوار وفي الأبعد منها، وسط ظروف صعبة وغير إنسانية.
لقد خسرت سوريا في 3 سنوات ونصف، قسما كبيرا من نخبتها في المجالات المختلفة، وباستثناء الأثر الإنساني الذي لن يمحى بما فيه من آلام ومعاناة شديدة، فإن الأثر المادي كبير أيضا، وستحتاج سوريا إلى عقود من السنوات حتى تعوض ما فقدته من قدرات النخبة، ليس ممن قتلوا وجرحوا واعتقلوا أو اختفوا قسرا، بل أيضا بالنسبة لمن ذهبوا في لجوء مؤقت أو دائم ولا أحد يعرف إذا كانوا سيعودون في المستقبل أم لا؟