كشفت صحيفة «النهار» اللبنانية أن حزب الله يسعى لـ«تجنيد شبان مسيحيين ومسلمين سنة ودروز، ويعرض عليهم التدريب والتسليح لمواجهة خطر (داعش) وأخواتها»، من باب: «مصيرنا واحد وعلينا التصدي معا». وتضيف الصحيفة أن الحزب يسعى للتجنيد بشعار «أكثر جاذبية من التصدي للعدو الإسرائيلي لأن الخطر أقرب»!
كما كشفت الصحيفة أن عملية التجنيد هذه لا تقتصر على لبنان، وإنما سوريا أيضا، مع غياب تسمية «سرايا المقاومة»، وأن هناك عملية «تطوع مباشر مع الحرس الثوري الإيراني براتب كبير، ومع الحزب أقل، وهو نفسه مع الحزب السوري القومي الاجتماعي لمن يجد في الهوية المذهبية لحزب الله عائقا»، مضيفة أن «القادمين للبنان يروون عن عشرات الحالات من أقاربهم يحاربون البطالة ويدافعون عن وجودهم برواتب شهرية بين 1500 و2500 دولار»! وعملية التجنيد هذه بالطبع تعني ابتزازا، وشراء لمرتزقة، وكما تفعل جماعات الجريمة المنظمة.
وهذا ليس كل شيء، فهذا الخبر يكشف عن أمرين مهمين؛ الأول هو ورطة حزب الله بالمنطقة، وسوريا، فمن الواضح أن الحزب بات يدرك أن كذبة «المقاومة والممانعة» قد انكشفت، وأن مساعي إيران للوصول لاتفاق نووي مع أميركا تتطلب الآن التخفيف من لهجة التصعيد ضد إسرائيل، ففي حال توصلت إيران لاتفاق مع الأميركيين، وبأي صيغة، فذلك يعني تحول حسن نصر الله إلى حامٍ للحدود الإسرائيلية مع لبنان مثله مثل الأسد، الأب والابن. وورطة حزب الله هذه التي دفعته لعملية تجنيد المرتزقة ليست بسبب إيران وحدها، وإنما هي مؤشر أيضا على أن حجم خسائر الحزب البشرية بسوريا كبيرة، وأن حزب الله بات بحاجة لغطاء طائفي يبرر وجوده هناك، وللقول بأنه لا يقاتل وحيدا دفاعا عن المجرم الأسد، أو فقط امتثالا للأجندة الطائفية الإيرانية، وإنما وجوده هناك هو جزء من طيف أكبر يقاتل دفاعا عن سوريا ككل. ومن الواضح أن حزب الله، والحرس الثوري الإيراني، قد استوحوا هذه الفكرة من التحالف الدولي ضد «داعش»، الذي اشتمل على مظلة عربية سنية، وهذه لعبة مكشوفة. كما أنها تأكيد على ورطة الأسد، وخصوصا بعد أن نشرت صحيفة الـ«واشنطن بوست» الأميركية عن تململ العلويين بسوريا من الأسد.
والأمر المهم الثاني الذي يكشف حماقة حزب الله بعملية تجنيد المرتزقة هذه، هو أن من شأنها أن تؤدي إلى أمرين؛ الأول هو اختراق الحزب أمنيا من قبل عدة أجهزة استخبارات، كما أنها تعني أن حزب الله شرع الآن بتربية «الوحش» الذي سيبتلعه لاحقا، وهذه قصة مألوفة بحالة كل من حاول استغلال العنف والإرهاب لتحقيق مأربه. ولذا فإن عملية التجنيد هذه التي يعتزم حزب الله القيام بها ما هي إلا حماقة سيثبت خطؤها بقادم الأيام، وبالطبع فإن أحدا لن يأسف على حزب الله الطائفي الإرهابي، أو مسؤوليه.
لم يتطابق السياسي والعسكري منذ قامت الثورة السورية، واتسمت علاقاتهما إما بافتراق ظهرا معه، وكأنهما جهتان تنتميان إلى ثورتين مختلفتين، وليسا وجهين متكاملين ومتلازمين لثورة واحدة، أو بتبعية فصائل وهيئات عسكرية لهيئات وفصائل سياسية، متناقضة المواقف والرهانات، حصرت أنشطتها، في معظم الأحيان، بتفريق المقاتلين وانتزاعهم من تنظيماتهم الأصلية، ونقل خلافاتها إليهم، لتزيدهم تمزقاً على تمزق، وضياعاً على ضياع.
باختلاف النشأة بين السياسي الذي اقتصر، في البداية، على حراك مجتمعي سلمي، شمل مختلف مناطق سورية، وكان يعتقد أنه سيكون قصيراً وحاسماً، وبين العسكري الذي نشأ بفضل انفكاك عسكريين عن جيش النظام، بعد أن شرع يقتل مواطني"ه"، ويدمر قراهم ومدنهم، وقع تطور سار فيه السياسي على نهج، والعسكري على آخر ، بينما افتقر كلاهما إلى قيادة تجمعهما وتنظم علاقتهما، وتحدد ما هو متكامل أو متناقض بين أنشطتهما ومهامهما، وتجعل سياساتهما ومواقفهما الموحدة تنبع من خطة شاملة للحراك، وتستجيب لحاجاته، لكي لا ينجح النظام في تحويله إلى صراع مسلّح، متزايد العنف، يضعف السياسي، الضعيف أصلاً، لصالح العسكري، المتخبط والمجزأ، ويحل تدريجياً "المجاهد" محل المتظاهر السلمي، ويقيد حراكه، ويقلبه أكثر فأكثر إلى عنف مسلّح غير هويته، على الرغم من أن نجاحاته كانت تعوض بعد الشيء عن النتائج الوخيمة لتشتته المكاني.
بدل أن يقوي السياسي العسكري والعسكري السياسي، أضاف كل منهما نواقصه وعيوبه الكثيرة إلى مصاعب الآخر، الذاتية والخاصة، فتناقض العسكري البادئ بارتباك مع حراك سلمي مضطرب ومتخبط سياسياً، تقوده جهات محلية، تفتقر إلى الخبرة والتجانس، وإلى تفاهم يتخطى مكانيتها الضيقة، تدعمه رؤى جامعة: متقاربة أو متشابهة فكرياً وعملياً، في حين تعارض السياسي مع صراع عسكري، تختلف شروط نجاحه اختلافاً كبيراً عن شروط نجاح ما افترض أنه الحاضنة السياسية التي نشأ فيها. هذا الانتقال المفعم بالنواقص والعيوب، قام على افتراق العسكري عن السياسي، فعزز عيوب وضعيهما، وإيجاد بيئة شك وارتياب بينهما جعلت هم السياسة، بعد تأسيس المجلس الوطني بصورة خاصة، اختراق العسكر واستمالة مجموعات أو أفراد منهم، وأخذ موطئ قدم للنفوذ وكسب الولاءات بينهم، في حين لعب المال السياسي القادم من الخارج دوراً مدمراً في تنمية ميل عسكر الحارات والشوارع، المعزولين غالباً بعضهم عن بعض، إلى تنمية استقلالية مزعومة في مواجهة السياسي، أو بعيداً عنه، أخذت صورة تمزق أصاب ما كان يجب أن توحده التطورات والمصالح الوطنية، وأبرزت عقلية المفاضلة بين السياسي والعسكري، متجسدين في داخل مسلّح وخارج سياسي، وبدات تنتشر أسطورة أن الحسم سيكون عسكرياً، وأنه يكفي لحدوثه تزويده بقدر وافر من السلاح والمال، فلا حاجة به إلى إطاعة مركز سياسي موحد، أو قيادي، لا دور ولا لزوم له.
بذلك، تناقص دور السياسي وتأثيره، بدل أن يتزايد مع تصاعد الصراع، واعتبر مجرد عبء ثقيل على كاهل ثورة تتحول أكثر فأكثر إلى أعمال عسكرية ظافرة يغذيها، ويدعمها خارج عربي وإقليمي، تتصارع توجهاته ودوله. وزاد الطين بلة أن العسكري كان يخوض معارك كثيفة، لكنها مجزأة، وتدور في مناطق متفرقة.
"
بدأت تنتشر أسطورة أن الحسم سيكون عسكرياً، وأنه يكفي لحدوثه تزويده بقدر وافر من السلاح والمال
"
خلال هذه العلاقة التي كانت تتطلب معالجة جدية وثورية، وبدل إزالة ما بين السياسي والعسكري من صعوبات وتناقضات، دعي قرابة 600 مقاتل عسكري ومدني إلى مؤتمر في أنطاليه لهيكلة الجيش الحر، تم استبعاد الائتلاف عنه، على الرغم أن العالم كان قد اعترف به مرجعية سياسية له. ذلك كان يعني انتزاع المسألة السورية من السياسي، ووضع يد الخارج على العسكري، وكان يؤسس لفصل أحدهما عن الآخر وبالعكس، ووضعهما في عالمين متباينين ومختلفين أشد الاختلاف، وإخضاع السياسي للتهميش التام والعسكري لإرادات وخطط، لا تنبع قيمتها وأولويتها من أثرها الوطني، أو هويتها السياسية المستقلة، ولا تمت إلى الثورة وحراكها بصلة داخلية ملزمة.
عوض رفض هذا الحدث الخطير، والرد عليه ببرنامج شامل لتوحيد السياسي والعسكري، ولإقامة علاقات لا لبس فيها، بينهما تجعل منهما جسمين، ينتميان عضوياً بعضهما إلى بعض، وإلى ثورة واحدة، تجاهل قادة الائتلاف – السياسي - ما وقع، ولجأ من حل محلهم فيما بعد إلى طريقة "أسدية" في التعامل مع العسكر، أن استغلوا وضعهم على رأس جهة سياسية معترف بها دولياً، لكي يشتروا "قادة" عسكريين، ويستخدموا لأغراض محض انتخابية وشخصية من أرسلتهم أركان الجيش الحر من المقاتلين إلى "الائتلاف"، مندوبين عن المجلس العسكري الأعلى، مع أن هؤلاء انتدبوا إليه لكي يمثلوا مصالح ووجهات نظر المجال العسكري في المجال السياسي، ويقيموا تطابقاً فاعلاً بينهما. بذلك، تم تقريب واستبعاد المكونات العسكرية حسب قابليتها للشراء، أو امتناعها عنه، وقيمة أصواتها الانتخابية، وليس وفق أي معيار وطني. وبذلك، فاقم "السياسي" مشكلات العسكري الذي كان يتعرض لتراجع ميداني متواصل، تحت وطأة هجمات ضارية، تعرض لها على يد النظام و"داعش"، أخرجته من معظم المناطق التي كان قد طرد الأسد منها، وتلازمت مع قطع المدد الخارجي بصورة شبه تامة عنه: مع أنه كان شحيحاً ومتقطعاً على الدوام.
سيكون من الصعب أن تنتصر ثورة يذهب ساستها في اتجاه وعسكرها في آخر، ولن تنجح نضالات يستخدم الساسة العسكر فيها لمقاصد شخصية، لا علاقة لها بمبدأ وطني أو ثوري. في المقابل، لن تنجح ثورة يعزف عسكرها عن تصحيح مسارها، مع أنهم حاملها الذي يرتبط استمرارها، ونجاحها بوحدته وبقدرته على الفعل، علما أن انقساماته وخلافاته لعبت دوراً كبيراً في تقويضها، مثلما لعبت خلافات وانقسامات السياسي دوراً مخيفاً في تمزقه وهزائمه.
هكذا وبكل ثقة وإشراق يعلن المبعوث الدولي الجديد إلى سورية عن خطته التي تفتق ذهنه عنها، كما لو أنها حل سحري غير مسبوق، خلاصتها: تجميد القتال في نقاط محددة تكون منطلقاً لاستمرار هذا التجميد وتعميم التجربة على كافة المناطق السورية، حال نجاح النموذج الذي اقترح المبعوث الدولي أن يبدأ من حلب.
يا للهول.. ما تلك العبقرية يا دي مستورا، كيف تضمن الموافقة على خطتك على الأقل من قبل النظام الذي لم يقبل بهدنة ولو لمجرد ساعات قليلة خلال كل الزمن الماضي من عمر الثورة واشتعال الصراع، ثم أين الجديد الذي تحاول تقديمه وعلى من تراهن في نجاح خطتك؟ وهل تلك خطة أصلاً، هل أنت جاد فعلاً لتتــــعاطى مع مشـــكلة بحجم الحدث السوري بهذه البساطة التي تستحق لقب السذاجة، وهل سوف يشد المجتمع الدولي على يديك معجباً بإنجازك غير المسبوق؟
لا يحق لأحد في العالم اليوم، لا الأمم المتحدة ولا مجلس الأمن ولا أي دولة سواء أكانت عظمى أو صغرى، غربية أو عربية، أن يزعم أن لديه نوايا فعلية أو هاجساً حقيقياً في البحث عن حل للمأساة السورية، سواء كان ذلك الحل سياسياً أو عسكرياً أو إنسانياً، ولاسيما بعد السنوات الأربع التي عانت فيها سورية والسوريون ما عانوا، ولو أن المجتمع الدولي ترك السوريين وشأنهم فلربما لم تصل سورية إلى ما وصلت إليه، ولربما وجدوا حلاً ما سواء بإسقاط النظام أو بقدرة الأخير على قمع الثورة منذ أيامها الأولى- وذلك يراه الكثير من السوريين حلاً بالقياس إلى ما آلت إليه سورية من دم ودمار. لكن تدخل المجتمع الدولي هو ما عقد المشكلة وفاقمها إلى الدرجة التي استعصى فيها الحل، مع استمرار النزيف والدمار بشكل مطرد، لقد بذلت بعض الدول الفاعلة جهوداً جبارة للوصول إلى حالة الاستعصاء، وهي التي بيدها وحدها مفاتيح الحل، فكيف يمكن للسوريين أن يعولوا على حل للمشكلة ممن تسبب في خلقها وتفاقمها، عامداً متعمداً أو متلكئاً متردداً. في الحالة الأولى لا مصلحة للمجتمع الدولي بإنهاء المأساة، وفي الثانية سيبدو وكأن خيوط اللعبة قد أفلتت من بين يديه، أما الصورة الأنقى التي لا يختلف عليها السوريون اليوم فهي رغبة الكثير من الدول في استثمار الحدث السوري والاستثمار فيه باعتباره بات أرضاً خصبة لتحريك الصراعات وإدارة المصالح وتصفية الحسابات الإقليمية والدولية..
المشكلة التي يواجهها السوري اليوم هي أنه يدرك استحالة الحل عبر المبعوثين الدوليين، وعدم جدوى وجودهم حتى إن كانت لدى المجتمع الدولي نوايا صادقة، فلو كانت ثمة مقترحات عميقة وفاعلة لدى أحدهم لارتطمت بحوائط صد متعددة، أهمها انعدام الصلاحيات التنفيذية، ليس عند المبعوث الأممي وحسب، بل في الأمم المتحدة ومجلس الأمن أيضاً، خصوصاً بعد الرخاوة البادية التي واجه بها خرق الكثير من قراراته، أو إحالتها إلى بند وجهات النظر من قبل الطرف المتضرر، مما أدى إلى ميوعتها ومن ثم ذوبانها ونسيانها طالما غاب البند الملزم لتنفيذها، ومن ثم يأتي النظام السوري الذي لا يرى محيصاً عن استمراره على رأس السلطة، طالما لم يتخل عنه داعموه وأياً كانت النتائج، ولا يجد حلاً سوى باسترداد موقعه القديم وإعادة إخضاع سورية والسوريين لسلطته المطلقة، التي ستكون أقسى وأشد بطشاً في ما لو حقق حلم الانتصار، ومن ثم تأتي أطراف الصراع الأخرى، وبشكل خاص المعارضة المسلحة التي لو ارتضت إلقاء السلاح، حرصاً على ما تبقى من سورية – بشرها وحجرها- لما فسر النظام ذلك إلاّ بالنصر المبين، وسوف يلتفت حينها إلى تصفية خصومه الذين ألقوا السلاح طوعاً، فمن أين للمعارضة المقاتلة خيارا آخر وهي تدرك ما ستؤول إليه حالها وحال من ناصرها في ما فعلت ذلك.
الحقيقة التي لم يعد من الوارد نكرانها هي أن التحرك الدبلوماسي بخصوص سورية، الذي شــــهدته السنوات الأربع المنصرمــــة لم يكن ذا هدف محدد، ولم يكن مهموماً بإيجاد حل، قدر اهتمامه باستهلاك الزمــــن والتـــظاهر بملء الخط الدبلوماسي على اعتبار أن المجتـــمع الدولي قرر الحل السياسي خياراً وحيداً في سورية، وليـــس دي مستورا ومن سبقوه سوى من مستلزمات هذا الحل الوهمي وإكسسواراته، الذي رأينا تجلياته على أرض الواقع، فكلما ازداد التمسك بالحل السياسي ازدادت حالة العسكرة على الأرض، وتشعبت الصراعات وتكاثرت الفصائل المقاتلة، وتعقدت سبل الوصول إلى أي نوع من التسوية.
مرحلة كوفي عنان جلبت معها النصرة والفصائل الإسلامية الأخرى، أما مرحلة الأخضر الإبراهيمي فلم تنته إلاّ وتنظيم «داعش» يعلن دولة مترامية الأطراف ممتدة على مساحات واسعة بين العراق وسورية، كل مقترحات المبعوثين الأمميين الهادفة إلى إيجاد الحل السياسي كانت تجلب المزيد من وقود الحرب وأدواتها وتترافق مع توسّع رقعتها. قبل دي مستورا كانت القصة أقل تعقيداً والمقترحات أكثر جدية وملاءمة، ومع ذلك كانت المبادرات السياسية تنعكس سلباً على أرض الواقع، أما مرحلة دي مستورا فهي الأكثر صعوبة وتعقيداً إلى درجة الاستحالة، ومع ذلك يخرج المبعوث الدولي مبتهجاً بخطة شديدة البلاهة والخيالية، ولا يتوانى عن طرحها ولا يتوانى المجتمع الدولي عن التعاطي معها وكأنها خطة رغم انفصالها عن واقع الأحداث انفصال الأسد عن واقع ما يجري في سورية.
لو أن للسوريين رأياً في مأساتهم لاقترحوا على الفور «تجميد» عمل دي مستورا وتجميد كل المبادرات الدبلوماسية بعد أن تعاقب عليهم نجوم الأزمات الدولية، فجعلوا من سورية حقلاً لتجاربهم وحولوا السوريين إلى فئران تجارب لا تزال المخابر السياسية والعسكرية تستعمل أجسادهم ودماءهم وأرواحهم وبيوتهم وأرضهم ووطنهم مواد خام وبالمجان، ومن دون استعجال النتائج.
ليس هناك أدنى شك بأن الثورة السورية واحدة من أكثر الثورات المشروعة تاريخياً، فلم يتعرض شعب في القرن العشرين للقهر والفاشية والإذلال المنظم كما تعرض الشعب السوري على أيدي النظام الأسدي الطائفي الغاشم الذي لم يشهد له التاريخ مثيلاً. وبما أن ذلك النظام بات رمزاً لكل ما هو وحشي وهمجي قذر، لم يقبل حتى بتلبية أبسط مطالب السوريين، فاستبدل قوانين الطوارئ سيئة الصيت التي ثار السوريون عليها بقانون الإرهاب الذي راح يحاكم السوريين بموجبه، ويضعهم أمام محكمة الإرهاب لمجرد التلفظ بكلمة بسيطة. كل من يفتح فمه ضد النظام أصبح حسب القانون الجديد إرهابياً وجب اعتقاله إذا كان موجوداً، أو صدر قرار بحرق منزله أو مصادرة أملاكه إذا كان خارج البلاد. لقد أصبح السوريون بعد الثورة يترحمون على قوانين الطوارئ على بشاعتها بعد «الإصلاحات» الإرهابية التي قام بها النظام بعد الثورة. وعندما أراد بشار الأسد أن يضع دستوراً جديداً للبلاد على سبيل الإصلاح المزعوم، وضع مواد جديدة تجعل حتى سلاطين القرون الوسطى يحسدونه على السلطات التي منحها لنفسه بموجب الدستور الجديد، فهو راع لكل شيء في سوريا حتى الزبالة والزبالين والقمامة والنخاسين. لم يترك شيئاً إلا ووضعه تحت رعايته.
وليت بشار الأسد اكتفى بوضع القوانين القراقوشية للانتقام من السوريين لأنهم ثاروا عليه، بل راح يستخدم كل أنواع الأسلحة المحرمة دولياً كي يثأر من الثورة. والأنكى من ذلك أنه عمل على تحويل سوريا إلى بؤرة تجتذب كل شذاذ الآفاق إليها لإفساد الثورة وجعلها تبدو في نظر العالم مجرد فوضى وحركات إرهابية. كلنا يتذكر كيف أخرج كل المتطرفين من سجونه بعد الثورة، وزودهم بالسلاح كي يقاتلوه، ويحولوا الثورة إلى صراع دموي. وقد لاحظنا كيف كان بشار الأسد في خطاب القسم السخيف يتلذذ ويتشفى وهو يتحدث عن إفشال الثورة وتحويل سوريا إلى ساحة صراع يعبث بها القاصي والداني.
وكي يحمي بشار الأسد نفسه ونظامه قدم كل أوراق اعتماده لإيران وروسيا وإسرائيل، وتعهد بأن يكون مجرد بيدق في المخططات الروسية والإيرانية والإسرائيلية بشرط أن لا يسقط نظامه تحت أقدام السوريين، ويكون مصيره كمصير بقية الطغاة الذين قضوا تحت نعال الشعوب. لقد تحول النظام السوري إلى مجرد أداة قذرة ضد سوريا والسوريين، لا بل أصبح حراس قصره من غير السوريين، فالآمر الناهي أمنياً وعسكرياً في سوريا هي إيران وميليشياتها العراقية واللبنانية باعتراف الميليشيات الشيعية نفسها. أما روسيا فقد سلمها بشار الأسد كل ثروات الغاز والنفط من خلال عقود طويلة الأمد مدة بعضها ربع قرن من الزمان.
لقد كان النظام السوري يهدف من خلال الارتماء الكامل في الحضنين الروسي والإيراني دفع خصومه أيضاً إلى الارتماء في أحضان القوى المنافسة لإيران وروسيا في سوريا، بحيث تضيع القضية السورية، وتتحول سوريا إلى سلعة دولية يسمسرون عليها من أجل منافع سلطوية حقيرة. فعندما وجدت جماعات المعارضة السورية أن النظام بات يحتمي بمنظومة عسكرية وأمنية واقتصادية روسية إيرانية مفضوحة، لم يجدوا بداً من الارتماء في أحضان المعسكر الآخر لمواجهة النظام. وقد أصبح بعض شرائح المعارضة السورية بدورها كالعراقية سابقاً مضرباً للمثل في التسول والسير وراء الآخرين. لا شك أن هناك بعض الجهات العربية والأجنبية التي وقفت إلى جانب المعارضة السورية لتمكينها من مواجهة أكثر الأنظمة فاشية في القرن العشرين، وعملت الكثير على مساعدة السوريين. لكن هناك جهات كثيرة أخرى لا يهمها في سوريا سوى تحقيق مصالحها الضيقة التي لا تمت لمصالح السوريين بصلة.
ولو نظرنا إلى الخارطة السورية الآن لوجدنا أن كل طرف خارجي منخرط في الأزمة يغني على ليلاه، ولا يهمه لا سوريا ولا السوريين. هل يعلم السوريون الآن أن كل القوى المتصارعة على سوريا والمتحالفة مع النظام أو بعض فصائل المعارضة لا يهمهما الشعب السوري قيد أنملة. الكل يبحث عن مصلحته في سوريا. إيران تستخدم بشار الاسد كأداة لتوسيع إمبراطوريتها الشيعية الفارسية والوصول عبر الأسد إلى شواطئ المتوسط. وروسيا تريد الحفاظ على قواعدها البحرية في سوريا، بالإضافة الى نهب الثورات الغازية والنفطية السورية التي أعطاها إياها الاسد مقابل الحماية والسلاح والحفاظ على طرق الغاز والنفط الدولية. وتركيا لا تريد لإيران أن تصبح على حدودها السورية، وتعمل على تأمين الشمال السوري لصالحها. وأمريكا طبعاً تريد تأمين الحليف الاستراتيجي إسرائيل من الخطر السوري واستغلال الموقع الاستراتيجي لسوريا. مع ذلك، يستمر بشار الاسد، ويستمر معارضوه في السمسرة للقوى المتكالبة على سوريا كي تنهش في الجسد السوري، وتحقق مطامعها، حتى لو أدى ذلك إلى تدمير الوطن وتهجير شعبه وتحويله إلى طعام للأسماك في عرض البحار والمحيطات.
تجارب السورريين في الاعتقال والتغييب كبيرة وممتدة على جيلين، بما يكفي لمحاولة تصنيفها، ولاستخلاص دلالات سياسية منها، ولإصدار حكم أخلاقي في شأنها. يعتمد التصنيف المقدم هنا على موقع ذوي المعتقلين ومعرفتهم بمصير أحبابهم المغيبين.
ولا ريب في أن من شأن تجميع منظّم للمعلومات وتحليلها أن يؤسس لتصنيف أدق من هذا التصنيف الأولي، المعتمد على الخبرة الشخصية.
نمط الاعتقال الأول هو التوقيف من قبل جهة معلومة والحجز في مكان معلوم، أو يُعلم بعد وقت قصير، مع إمكانية مبدئية لزيارة الأهالي للمعتقلين، لكن من دون إجراءات قضائية فورية تتلو الاعتقال. كان هذا حال المعتقلين اليساريين في سنوات حكم حافظ الأسد. اقترن نمط الاعتقال هذا بالتعذيب التحقيقي، وبدرجة أقل بالتعذيب العقابي بعد التحقيق. لكن المجهول الكبير هنا هو موعد الإفراج عن المعتقلين، إذ يمكن أن يطول أمد البقاء في السجن سنوات طويلة، أكثر من أحد عشر عاماً في حالتي الشخصية بين كثيرين آخرين. وهو ما يجعل الاعتقال جريمة بحق الأهالي، وليس بحق المعتقلين وحدهم. جريمة لأن المعنيين من دون استثناء لم يرتكبوا جرماً يُحبسون عليهم عاماً واحداً. من اعتقلوا بعد إحالتنا إلى محكمة أمن الدولة في ربيع 1992، مثلوا بعد وقت قصير أمام تلك المحاكم الاستثنائية. هذا بالطبع يخفف من قلق الأهالي. لكن، كان شائعاً ألا يفرج عن المعتقل عند إنهاء سنوات حكمه.
يتمثل النمــط الثاني في الاعتقال من جهة معلومة، ويكون المعتقلون في مكان معلوم أو غير معلوم، ومن دون إمكانية الزيارة. هذا كان حال المعتقلين الإسلاميين في ثمانينات القرن العشرين وتسعيناته.
اقترن هذا النمط بالتعذيب التحقيقي الأشد، وبالتعذيب الانتقامي المستمر طوال سنوات الاعتقال التي امتدت أحياناً عشرين عاماً أو أكثر. والعذاب النفسي للأسر ليس أقل.
وقد وقع من بين معتقلي الإسلاميين الألوف قتلى، إن نتيجة المرض والتعذيب، أو لأنهم أعدموا، وهذا من دون إعلام أسرهم في كل حال، ومن دون تسوية ما يترتب على ذلك من مسائل قانونية واجتماعية.
أما النمط الثالث فهو اعتقال تقوم به جهة غير معلومة، لكنها عامة، «الدولة»، ويُحتجز المعتقلون في مكان غير معلوم، ومن دون إمكانية الزيارة. هذا ينطبق على أكثر معتقلي الثورة منذ ربيع 2011. لا يعرف الأهالي الجهاز الأمني أو الميليشيوي الذي اعتقل فرداً أو أفراداً من الأسرة، وقد يطرقون أبواب أجهزة متنوعة، تنكر كلها وجودهم عندها. كان مثل هذا يحصل في الثمانينات والتسعينات حتى بخصوص المعتقلين اليساريين، لكن كان ينجلي الأمر عموماً بعد وقت لا يطول كثيراً.
اليوم، أثناء الثورة لا يُعرف مكان اعتقال أكثر المعتقلين، وليس دائماً تعرف بالضبط الجهة التي اعتقلتهم. منهم مثلاً الطبيب محمد عرب المعتقل منذ ثلاث سنوات، وعبدالعزيز الخير ورفيقاه منذ أكثر من عامين، وفائق المير وجهاد أسعد محمد منذ أكثر من عام، وناصر بندق المعتقل في شباط (فبراير) من هذا العام، وغيرهم كثيرون. وكانت هذه حال وائل حمادة وقت اعتقاله من جانب جهاز الاستخبارات الجوية عام 2011.
المشترك في الأنماط الثلاثة السابقة أن النظام هو فاعل الاعتقال، وإن لم يكن معلوماً دوماً أي وكالات من وكالاته القمعية هي الفاعل المباشر.
بعد الثورة السورية وخروج مواقع من سيطرة النظام، انكسر احتكار النظام للعنف والسلاح، وظهرت أشكال جديدة من الاعتقال ومن فاعليه.
ونميز هنا أيضاً بين ثلاثة أنماط أو أربعة. أولها، اعتقال تقوم به جهة معلومة، تشكيل عسكري أو «قضائي» («هيئات شرعية»)، قلما يحوز استقلالاً فعلياً عن التشكيلات العسكرية، ويكون المعتقلون في مكان معلوم من جانب الأهالي، مع إمكانية الزيارة. ويتعلق الأمر غالباً بموقوفين جنائيين. ولا نعلم مثلاً واحداً عن معتقلين لأسباب سياسية عند أي من السلطات الكثيرة القائمة اليوم في الأرض السورية، تتيح لهم الزيارة والدفاع القانوني المستقل.
ثانيها، هناك حالات تكون الجهة الخاطفة معلومة، ولا يندر أن تقود ضغوط، مسلحة أحياناً، أو وساطات أو مفاوضات، إلى الإفراج عن المخطوفين بعد حين يطول أو يقصر. هناك غير حالة معلومة في هذا الشأن في الغوطة الشرقية.
وكيان «داعش» طليعي في هذا الصنف من الجرائم، لكن لا يُعلم مكان المعتقلين، ولا تتاح الزيارات لأهاليهم، ولا تتوافر عن أوضاعهم ومصيرهم أية معلومات. هذه حال عبدالله الخليل وفراس الحاج صالح وإبرهيم الغازي والأب باولو دالوليو ومحمد نور مطر وإسماعيل الحامض وغيرهم كثر.
على أن أشهر أنماط الاعتقال هنا هو الخطف من جهة غير معلومة (لا تعلن مسؤوليتها عن الفعل)، وتحبس المخطوفين في مكان غير معلوم، من دون إتاحة معلومات عن المختطفين. هذه حال سميرة الخليل ورزان زيتونة ووائل حمادة وناظم حمادي المختطفين منذ أكثر من 11 شهراً في دوما في الغوطة الشرقية.
وهذه جريمة بحق أهالي المخطوفين بمقدار ما هي جريمة بحق المخطوفين أنفسهم. وهي من جهة ثانية جريمة مستمرة ومتجددة كل يوم من حيث إننا، ذوي المخطوفتين والمخطوفين، لا نعلم شيئاً عن مصيرهم. لدينا ترجيحات قوية، بل قطعية، عن الجناة، لكن هؤلاء مستمرون في الإنكار والتعتيم التام.
ونستخلص من هذا العرض الوجيز ثلاث نتائج.
أولاً، بما أننا عشنا مع الاعتقال والتعذيب والتغييب طويلاً، وتشكلت من هذه التجارب حياة وموت جيلين منا، فلعله ليس هناك حقول للمعرفة أولى بالاهتمام لدينا من «علوم» السجن والتعذيب والخطف والقتل (في شأن القتل، أحيل إلى مقالتي: أنماط الموت السورية، مصنفة حسب القاتلين: http://therepublicgs.net/32725)، أعني التفكير في هذه القضايا ببنيتها الخاصة، وبدلالاتها الاجتماعية والسياسية، والفكرية، وليس فقط من زاوية حقوقية.
وفي المقام الثاني نلحظ أن انكسار احتكار «الدولة» العنف يمكن أن يكون ثورياً، وقد كان لبعض الوقت في سورية، وعلامته توجيه السلاح حصراً ضد النظام المعتدي ولمصلحة المجتمع الثائر، ويمكنه أن يكون لا ثورياً أو تدميرياً، ويغلب أن يكون كذلك حالياً، حيث العنف موجه ضد المجتمع أساساً. وما يفتح أبواباً لتفكير أكثر جذرية بأن عنف «الدولة» لم يكن يوماً عنفاً عاماً، مجرداً عن حيثيات المعنّفين ومنضبطاً بقواعد عامة. لقد كان عنفاً ملموساً، انتقامياً، ممتزجاً بالكراهية، وطائفياً في الغالب.
وأخيراً، ليست قضايا الخطف والتعذيب والاعتقال والقتل قضايا سياسية عادية، نتناولها سريعاً ونستخلص منها بعض الدلالات، ثم نمضي لشأن آخر. إنها مؤشرات حاسمة على أننا نوغل في الهمجية، وبتسهيل إقليمي وعالمي، وشراكة إقليمية عالمية. ومن هذا الباب تقول هذه القضايا شيئاً سيئاً عن سورية، وتقول شيئاً بالسوء نفسه عن العالم.
بعد سورية والعراق وليبيا، دخل اليمن ومصر (سيناء) مرحلة الحروب المديدة، فيما تنتظر دول عربية أخرى المصير ذاته.
لا حلول سياسية في الأفق. المبادرات والاقتراحات حول تجميد الصراع هنا وتطبيق اتفاق هناك أو انتظار نتائج المفاوضات الأميركية– الإيرانية هنالك، مجرد أوهام تصدر عن جهات تجهل -أو تتجاهل لا فرق- عمق الكارثة التي تضرب المنطقة.
يُسوّق المبعوث الدولي إلى سورية ستيفان دي ميستورا مشروع وقف القتال في حلب كخطوة أولى لبدء المفاوضات بين المعارضة ونظام بشار الأسد. لا شيء يدعو إلى الهزء أكثر من هذه المقاربة، فهي تقفز فوق الحقيقة البسيطة التي يعرفها مجرد من قرأ الصحف عن الوضع السوري وليس من تابعه متابعة دقيقة: لا يريد بشار الأسد، ولا القوى التي تدعمه أيَّ حل تفاوضي أو تسوية سياسية من أي نوع. ظهر ذلك عشرات المرات، وآخرها كانت في مؤتمر «جنيف 2». النظام السوري نظام قوة عارية مادون سياسي، لا يستطيع أن يشارك أو يدير عملية تسووية من دون أن تفرض نتائجها عليه فرضاً، سواء من «حلفائه» أو من موازين القوى الميدانية، وهذان الامران غير متوافرين الآن.
السيد دي ميستورا حرٌّ في أن يعتقد أن التاريخ بدأ مع توليه مهماته، لكنّ عليه وعلى المتفائلين بقدرته على تحقيق تقدم عجز عنه المندوبان السابقان وفريقاهما، ألا يفاجأوا عند اصطدامهم بألاعيب لم يخفِ النظام منذ الأشهر الأولى للثورة، وعلى لسان وزير خارجيته وليد المعلم، نيته إغراق الموفدين فيها.
وهذا ليس إلا مثال واحد على القصور الشديد للعمل السياسي الذي يفترض أن يوازي ويرافق القتال ويسعى إلى وقفه. ومع الأخذ في الاعتبار الفوارق الجلية بين الحالات المختلفة، يمكن القول إن أزمات الدول العربية ما زالت بعيدة من الحل، اللهم إلا إذا صدقنا بيانات وزارة الدفاع العراقية.
لنأخذ مصر نموذجاً آخر. تدور في سيناء حرب أهلية بالمعنى الدقيق للكلمة. تجاوز الوضع هناك مسألة خلايا إرهابية ضللها فكر تكفيري وافد. التكرار شبه اليومي للهجمات على قوات الجيش والشرطة ومشاركة أعداد كبيرة من المسلحين يقولان شيئاً آخر، يقولان إنه تمرد واسع النطاق تمتد جذوره إلى عقود ماضية. لم تُبْدِ السلطات المصرية أيَّ رغبة في إضافة شيء إلى ترسانة المعالجات الأمنية الفوقية. مداهمات واعتقالات للعشرات من أبناء العشائر، الذين يردون بالمزيد من الابتعاد من الدولة والعداء لها. في غضون ذلك، يُعتقل صحافي فرنسي «لتحدُّثه في السياسة» في مقهى، وطالبٌ لحمله رواية صدرت قبل اكثر من نصف قرن.
من لا يرى الخلل في تجاور الحوادث هذه وتراصفها لن يرى –قطعاً- الدرْك الذي تتردى فيه منظومة الدولة والسلطة في مصر، أكبر بلد عربي سكاناً وموئلُ الآمال (المحطمة منذ 2012) بإصلاح جدي للدولة العربية.
وسائل الإعلام الكبرى تقدِّم المعارك في الدول العربية، الدائمة منها مثل البلدان المذكورة أعلاه والمتقطعة مثل لبنان، على أنها من طبائع الأمور. بالفعل، دخل التفكك العربي وانهيار مؤسسات الدولة والمجتمع حيز «العادية» والظواهر اليومية التي لم تعد تستحق الإطناب أو التحذير. انتهت حقبة الدول التي رسمها الاستعمار الغربي وافتُتح عصر الخرائط الجديدة ترسمها قوى على جدول أعمال الانتقام من التهميش والإقصاء والفقر والتخلف، بتعميم المزيد منها.
مسار الخرائط الجديدة يُرسم بعددٍ مرشح للتزايد من... الحروب الهادئة.
(1) احتفلت (إن صح التعبير) إيران الأسبوع الماضي بمرور 35 عاماً على حادثة اجتياح السفارة الأمريكية في طهران من قبل طلاب واحتلالها لـ 444 يوماً واحتجاز دبلوماسييها رهائن. وليس هنا مقام الخوض في أخلاقية ذلك الحدث، والقيام بعدوان على منشآت تتمتع بالحصانة الدبلوماسية، وكانت إيران تقيم معها وقتها علاقة دبلوماسية. يكفي أن وزير خارجية إيران وقتها الدكتور إبراهيم يزدي استقال من منصبه احتجاجاً على رفض آية الله الخميني دعمه ضد الطلاب الراديكاليين. ولكن الملفت هو أن هذا «الاحتفال»، الذي شمل مظاهرات تهتف «الموت لأمريكا»، تم قبل أيام قليلة من اجتماع على أعلى المستويات مع مسؤولين أمريكيين عقد في مسقط، لم يعقد بالقطع لبحث كيفية إماتة أمريكا، وإنما لاستعطاف «ماما» أمريكا.
(2) في نفس الفترة، كانت جماعة الحوثيين اليمنية التي ترفع دوماً رايات كتب عليها «الموت لأمريكا، الموت لإسرائيل»، تزحف تحت غطاء جوي أمريكي من طائرات بدون طيار، لمنازلة خصومها وخصوم أمريكا من مقاتلي القاعدة. وهنا أيضاً، يطرح سؤال جدية رفع مثل هذه الشعارات، في وقت أصبح فيه التطابق بين مصالح الطرفين واضحاً، والتعاون في الميدان واقعاً مشاهداً.
(3) ليست هذه أول مرة تتناقض فيها الشعارات مع الأفعال، إذ شهدت الأعوام 1985-1987 ما هو أفدح: الدخول في صفقات سرية رباعية مع إسرائيل وأمريكا وحزب الله (الذي كان وقتها في طوره «الجنيني تحت مسمى «أمل الإسلامية»). وبحسب هذه الصفقة، يفرج حزب الله عن رهائن أمريكيين لديه، وبالمقابل تقوم إسرائيل ببيع أسلحة أمريكية الصنع لإيران. تقوم إسرائيل بدورها بتحويل المبالغ في حسابات سرية للإدارة الأمريكية مقابل تعويضها عن الأسلحة المباعة. تستخدم الأموال «المبيضة» لتمويل ميليشيات الكونترا المناهضة للحكومة الشيوعية في نيكاراغوا بدون علم الكونغرس لأن القانون يمنع مثل هذه العمليات.
(4) لعب الضلع «الخامس» في هذه التعاملات الإبليسية (سوريا) دوره في فضح العملية حين استخدم مجلة جريدة «الشراع» الموالية لفضح هذه الصفقة استناداً إلى مصادره في طهران. وكان الأمر كارثة على إدارة ريغان التي استقال أو أقيل عدد من أركانها. ولكن وبال الفضيحة في طهران لم يطل سوى الشخص الذي كشف السر، وهو مهدي هاشمي الذي أعدم نكالاً. فالإثم لم يكن عند القوم الكذب والتعامل مع إسرائيل، وإنما فضح هذه الآثام.
(5) لعلها حقيقة ذات مغزى هي أن الجناح المتشدد في طهران، وبدعم كامل من الخميني هو الذي تولى كبر هذه الصفقة التي كان أدنى كبائرها خطف الأبرياء والمتاجرة بهم. ولكن إيران شهدت فيما بعد نشأة تيار «معتدل» بقيادة هاشمي رفسنجاني، ثم جناح أكثر «اعتدالاً» بقيادة محمد خاتمي. وفي حين أن تيار رفسنجاني «الوسطي» لم يكن يمانع في التقارب مع أمريكا، فإن تيار خاتمي كان مولهاً بالولايات المتحدة ومتيماً بحبها. وهكذا تطور الأمر من فريق يرى التعامل مع إسرائيل شراً لا بد منه، إلى ثان يراه أمراً طبيعياً، ثم إلى ثالث يتمناه ويتوق إليه.
(6) عندما غزا العراق الكويت، أصبحت الظروف مهيأة أكثر للتقارب بين إيران وأمريكا، حيث قامت أمريكا نيابة عن إيران بما عجزت عنه من النكاية بأعدى أعدائها. وقد علمت من بعض من التقى الرئيس الأسبق رفسنجاني قبيل شن الحرب الأمريكية على العراق أن الرئيس الإيراني رد حين طلب منه دعم العراق ضد العدو المشترك أنه قال للوفد الذي أتاه: اذهبوا إلى صدام وأتونا بعرض منه وسننظر فيه. وهذا يوضح أن التعامل كان بعقلية البازار، ويبدو أن عرضاً أفضل جاء لطهران من واشنطن والكويت، فخسر صدام وربح بوش.
(7) مع غزو أمريكا للعراق في عام 2003، لم يعد هناك بد من التعامل المباشر والتنسيق بين واشنطن وطهران، إما مباشرة وإما عن طريق الحلفاء المشتركين في العراق. ومرة أخرى خالفت الشعارات الأفعال. فقد كانت أمريكا تلعن في المنابر صباحاً وتجالس على الموائد مساءً.
(8) ثم جاءت الطامة السورية، فسقطت الحجب ومزق دثار الشعارات من دعاوى المقاومة للاستكبار الأمريكي والكيان الصهيوني، باسم المستضعفين من ضحايا الاثنين. سقطت كذلك دعوى التدين التي قمع تحت ستارها من الإيرانيين ليس فقط العلماني والليبرالي، بل كذلك المتدين وحتى العالم الذي لا يؤمن بولاية الفقيه. فمع شعار «الموت لأمريكا» ارتفع شعار «الموت لأعداء ولاية الفقيه»! فاجتمع الحسنيان، الدين ونصرة المظلوم.
(9) ولكن مع سوريا وقف الفرعون عارياً من كل ثياب سوى دثار الطائفية الأقبح. فالأسد ليس من أنصار ولاية الفقيه، وهو عاجز عن مقاومة الاستكبار. هنا كان الاصطفاف باسم القبيلة/الطائفة لا غير. وقد كان واضحاً من تلك النقطة أن هذا القطار لن يتوقف إلا في تل أبيب. لأن من يعادي كل المنطقة سيكون ظهره إلى الحائط وقبلته القدس لا مكة.
(10) وهنا نصل إلى بيت القصيد، وهو اجتماع مسقط مع الشيطان الأكبر. فقد تطابقت المصالح وتقاربت التوجهات، وأصبح العدو واحداً. ولم يعد هناك ما يمنع من «عقد القران» إلا مسألة واحدة، وهي البرنامج النووي الإيراني، وهو هم إسرائيلي في الأساس، لأن إسرائيل هي التي تخشى الهلاك من صواريخ إيران. ولأن واشنطن هي الوكيل وليست الأصيل في هذا الأمر، فلن يكون هناك حل لا ترضى عنه تل أبيب. وعليه لن يطول بنا الأمر قبل أن نسمع فتوى توجب الحج إلى المسجد الأقصى والصلاة فيه والسلام على ذرية سيدنا يعقوب، عليه صلوات الله وسلامه.
(11) فرغت من كتابة هذا المقال قبل أن أستمع صباح الأمس لمقابلة وزير حزب الله اللبناني محمد فنيش مع الـ«بي بي سي» التي جاء فيها أن حزب الله اليوم يرى نفسه حليفاً طبيعياً للغرب في الحرب على داعش. وقد كنا نتمنى على الأقل أن ينتهي على الأقل عهد الكذب والتدليس بعد أن برح الخفاء. ولكن مقابلة الوزير كانت مليئة بالمغالطات وخداع النفس، حين زعم بأن حزب الله تدخل لمحاربة داعش، بينما هو تدخل لحماية نظام الأسد من السقوط، حتى لو كان خصمه المهدي المنتظر. واتهم داعش بأنها قتلت من المسلمين أكثر مما قتلت إسرائيل، وهي تهمة تصدق أكثر في حق الأسد وإيران كذلك.
وفقَ الأجندة المعلنة، فمن المفترض التوصل إلى اتفاق بين المجتمع الدولي (ممثلا بمجموعة الخمسة زائد واحد) وإيران في موعد أقصاه الرابع والعشرون من الشهر الجاري. احتمالات التمديد والتأجيل والفشل واردة، على الرغم من توق كافة الفرقاء، على ما يبدو، لغلق هذا الملف. لا داعي لأي تشاؤم في الوقت الحالي، ذلك أن المُعلن الصادر عن المفاوض الإيراني كما المفاوضين الغربيين يتحدثون عن تقدم غير مسبوق في المفاوضات، وأن العقدة تكمن في مجموعة متبقية من القضايا التي يُعمل على تفكيكها.
وعلى الرغم من أن ما يصعبُ تفكيكه قد يطيحُ مجددا بما تمّ حلحلته (وهذا ما أوحت به محادثات مسقط أخيراً)، إلا أن المزاج العام في إيران كما لدى عواصم القرار يوحي بالـ”حاجة” إلى الخروج من النفق لما في ذلك مصلحة باتت ملحة للنظام، ومصلحة ضرورية بالنسبة لأوروبا والولايات المتحدة. وإذا ما كان الجانبُ التقنيّ في المفاوضات يحققُ تقدماً نوعياً وتاريخياً على ما تذهب بعض التصريحات المتفائلة، فإن مواكبةً سياسية لافتة ترافق محادثات الغرف المغلقة بغية تأمين مناخات الثقة الضرورية، وهو ما يثير جدلاً في المنطقة، لاسيما لدى خصوم طهران ومنتقدي سياساتها.
وإذا ما استوعبنا النشاز الملتصق بحسابات داخلية معروفة، فإن العزفَ الإيراني-الغربي عامة (الأميركي خاصة)، يكاد يكون واحداً لإخراج سمفونية تبشّر بقرب الخلاص. تجتمع طهران وواشنطن (وحلفاؤها) في معسكر واحد لمحاربة داعش وأخواته.
صحيح أن إيران ليست عضواً رسمياً داخل التحالف الدولي-الإقليمي، إلا أن الأميركيين باتوا يجهرون بالحاجة لإيران لإنجاح أي مسعى دولي حقيقي للقضاء على الجماعات الإرهابية في المنطقة، كما أن العتب الذي وجّهه الرئيس الإيراني حسن روحاني لواشنطن متهماً الإدارة الأميركية بعدم الجدية في محاربة الإرهاب طالما لم يرفدوا الجهد الجوي بتدخل بري، يعكسُ تبدلاً في العقلية الإيرانية لجهة عدم ممانعتها عودة القوات البرية الغربية إلى العراق، لاسيما بعد انسحابها من أفغانستان.
واللافت في المواكبة السياسية لمفاوضات البرنامج النووي الإيراني، هو حرص الإدارة الأميركية بقيادة باراك أوباما على الرهان على الحصان الإيراني وإمكانية الاتفاق مع طهران على صفقة كبرى تبدأ إرهاصاتها بغلق الملف النووي، والرسالة السرية (لماذا سرية؟) التي أرسلها أوباما إلى خامنئي، حسب الـ”وول ستريت جورنال”، توحي بالمنحى الأميركي الذي بات ثابتاً إزاء إيران. في ذلك أن واشنطن “الأوبامية”، حتى بعد الفشل الذي مني به الديمقراطيون في الانتخابات النصفية الأخيرة للكونغرس، ستبقى حريصة على عدم استفزاز إيران أو إشعارها باحتمالات أي تبدل، حتى مستقبلي، في سياسة الانفتاح المنتهجة إزاء طهران منذ ما قبل انتخاب روحاني رئيساً.
توقفت واشنطن عن إعطاء أي إشارات عدائية تجاه النفوذ الإيراني في لبنان. وفيما عدا البيانات “البيروقراطية” المتحفّظة على تدخل حزب الله في سوريا، أو المنتقدة لكل ما ينال من إسرائيل، فإن التصريحات الأميركية لطالما شجعت على مشاركة حزب الله داخل الحكومة اللبنانية، كما توقفت عن دعم سياسات فريق الرابع عشر من آذار، بالطريقة العلنية الفجّة التي كان يقوم بها السفير جيفري فيلتمان. لا بل أن تكليف فيلتمان نفسه، ضمن مهماته الجديدة داخل الأمم المتحدة، بالتواصل مع الجانب الإيراني والاجتماع بالمرشد علي خامنئي، يعكسُ تواطؤا أميركياً-إيرانياً لفتح صفحة جديدة في شكل ومضمون علاقات البلدين.
ولئن مارست واشنطن نفوذا لوقف احتمالات قبول لبنان هبة السلاح الإيراني للجيش اللبناني، إلا أن رفع الولايات المتحدة الفيتو عن عملية تسليح الجيش اللبناني، بما في ذلك تسهيل التوصل لعقود تسليح فرنسية أميركية غربية ممموّلة عبر الهبات السعودية، يعكس تبدلاً في سياسة واشنطن في هذا الشأن، والتي كانت تتحفظ في السابق خوفاً من وقوع هذا السلاح في يد حزب الله. هذا التحوّل الأميركي يترافق مع همهمات أميركية باتت تدعو إلى التواصل مع حزب الله، فيما معلومات أخرى تتحدث عن قناة اتصالات مفتوحة بين واشنطن والحزب.
ولا ريب أن المراقبَ قد لاحظ مرونة طرأت على الموقف الإيراني في لبنان سهّل تشكيل حكومة تمام سلام، وفق تركيبة، منحت صقور تيار المستقبل حقائب أساسية في الحكومة لم يكن الحزب ليوافق عليها حتى حين ترأس الحكومة فؤاد السنيورة أو سعد الحريري نفسه، كما كان لافتاً رفع الحزب الغطاء، وبشكل مفاجئ، عن آل عيد (المقربين من دمشق) الذين كانوا يقودون العمل السياسي والعسكري قي منطقة جبل محسن في طرابلس في شمال لبنان.
وفيما يروج جدلٌ في العالم حول مصير النظام السوري في أجندة الحرب ضد داعش، فإن واشنطن حريصةٌ على عدم إطلاق ما من شأنه أن يسبب قلقاً لإيران. الثابت في المعلن الأميركي أن لا مكان للأسد في مستقبل سوريا، فيما ترددُ باريس ما يفهم منه تحميلاً لنظام دمشق مسؤولية انتعاش داعش ورواجها. بيد أن الولايات المتحدة وحلفاءها داخل التحالف ضد داعش حذرون في اختيار الأهداف العسكرية داخل سوريا على نحو لا ينال من قوات النظام ومواقعه، كما أن كلاماً أميركياً جديدا بات يقللُ من شأن برامج واشنطن لتدريب “المعارضة المعتدلة”، فيما ترددت أنباء صحفية (فورين بوليسي) تكشفُ تعليق الإدارة الأميركية تمويل لجنةٍ تحققُ في جرائم حرب قد يكون ارتكبها نظام الأسد.
لكن اللافت في التحوّلات الأميركية يمكن رصده في الشأن البحريني. فقد استفز الموقف الأميركي المنامة حين أصدرت وزارة الخارجية الأميركية بياناً يعبّر عن القلق من صدور حكم يُمهل جمعية الوفاق ثلاثة أشهر لإصلاح وضعها القانوني. في هذا الصدد ذهب سايمون هاندرسون، مدير برنامج الخليج والطاقة في معهد واشنطن، إلى اعتبار أن سلوك المنامة يشكّل “معضلة للسياسة الأميركية”.
وقد أثار “الإفراط” الأميركي في ردّ الفعل أسئلة لدى حكومة البحرين عن الحكمة من تعريض علاقات تاريخية تحالفية بين واشنطن والمنامة للحرج والتوتر لصالح جمعية سياسية، كما أثار أسئلة داخل الصف الخليجي عن الحكمة من تضمين التصريحات بشأن حماية الشيعة في البحرين، دعوات للسعودية أيضا لاحترام حقوق الشيعة لديها.
قبل ذلك كانت المنامة قد طردت دبلوماسيا أميركيا (توم مالينوفسكي نائب وزير الخارجية) لبدئه زيارته للبحرين بالتوجه لمقر جمعية الوفاق مباشرة وقبل أن يقابل ولي العهد كما كان مقررا، فردت واشنطن بإعادة إرسال نفس الدبلوماسي مرة ثانية، على نحو أُريد منه توجيه رسالة مزدوجة المعاني إلى المنامة، كما إلى طهران.
على أن الهمّة الأميركية لإنشاء التحالف الدولي ضد داعش تصبُّ بالمحصلة، وعلى الرغم من مشاركة دول عربية مناوئة لإيران فيه، لصالح النفوذ الإيراني في العراق (وسوريا)، إلى درجة قيام قائد فيلق القدس في الحرس الثوري الإيراني، اللواء قاسم سليماني، بقيادة القوات العراقية المقاتلة ضد داعش (حسب وكالة فارس الإيرانية)، كما أن تفكيك الأزمة السياسية العراقية وانسدادها بعد الانتخابات الأخيرة، لم يكن ليتم دون تسهيل من طهران (استجابة لتمنيات واشنطن) لسحب نوري المالكي مرشح حزب الدعوة من الواجهة السياسية لمصلحة حيدر العبادي مرشح الحزب نفسه.
وفيما يجتاحُ الحوثيون مناطق أمنية من شمال البلاد مخترقين صنعاء باتجاه الوسط والجنوب، وفيما أن الحدثَ يطيحُ بالجهد الخليجي-الأممي للتسوية في اليمن، فإن الموقفَ الأميركي بقي أقل من مستوى الحدث لجهة إدانة جماعة “أنصار الله” وكبح جماح اندفاعتها. ولئن قدمت واشنطن مشروعا لدى مجلس الأمن لفرض عقوبات على بعض قادة الحوثيين، إلا أن نفسَ المشروع جاء في سياق عقوبات ضد المعرقلين للعملية السياسية الذي شمل الرئيس السابق علي عبدالله صالح. لكن بالمحصلة بدا وكأن واشنطن في خندق واحد مع تلك الجماعة في مواجهة القاعدة في اليمن، كما هي في خندق افتراضي واحد لمواجهة من يصفهم السيد حسن نصر الله بالتكفيريين في سوريا.
على أن المزاج الإيجابي الذي تقابلُ به الولايات المتحدة إيران، كان قد أقلق الدول الخليجية من أعراض صفقة ثنائية تأتي على حسابهم في المنطقة، بيد أن التطورات التي اجتاحت المنطقة منذ رواج ظاهرة داعش، وضع كل دول المنطقة ضمن خندق ظرفي تجتمع فيه تركيا وإيران والخليج والأردن لردع الخطر مشترك، ما سحب سيناريوهات الصفقة الحصرية بين واشنطن وطهران، ورفع من حظوظ ضرورات بناء تفاهمات إقليمية لا تسبب إقصاء أو تهميشاً للقوى الرئيسة في الإقليم.
وعلى الرغم من ربط خصوم طهران في المنطقة الإشارات الأميركية الإيجابية إزاء إيران بورشة المفاوضات المتعلقة بالبرنامج النووي الإيراني، أي بتوقيت ظرفي ينتهي بانتهاء المناسبة، فإن أوساطاً أميركية دولية باتت على قناعة بأن الانفتاح على طهران بات خياراً استراتيجياً معتمداً من قبل العواصم الغربية، حتى بعد ولاية الرئيس أوباما، وأيا تكن هوية الإدارة الجديدة في البيت الأبيض، ذلك أن تلك السياسة المنتهجة لا تنشطُ وفق مزاج شخصي للرئيس الأميركي، بل مستندة على قناعات عامة تستوطن المؤسسات الأميركية الأمنية والإستراتيجية والاقتصادية والدبلوماسية.
على أن منطقَ “الانحراف” الأميركي المفترض باتجاه طهران (حسب بعض التوصيفات) يصطدم بتاريخية العلاقات الاستراتيجية وعمقها بين واشنطن وحليفها الأطلسي العتيق تركيا، كما بين واشنطن وحلفائها في دول مجلس التعاون الخليجي. وإذا ما اعتُبرت هذه العلاقات ثابتة من ثوابت المشهد الدولي منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية، فإنه من المخاطرة اختصار ذلك بعلاقات تمليها ظروف ومصالح آنية مع إيران تفتقد للمتانة منذ الثورة الإيرانية، كما تعوزها بيئة فكرية وفلسفية مشتركة.
هو هذا الصراع الدائم بين الثابت والمتحوّل، مع المعرفة التامة أن لا ثوابت في السياسة، وإن هي إلا تمرين في التحوّل الدائم.
كففت منذ شهور عن الكتابة عن الأوضاع في سوريا. وليس لأنني رجوت خيرا من وراء ضرب «داعش» في «عين العرب»، بل على العكس من ذلك. فقد اعتبرت أن الأميركيين إنما عادوا لثلاثة أسباب: الحيلولة دون صدام أكبر بين الإيرانيين والأتراك، وحماية الأكراد في العراق وسوريا، ومتابعة صراعهم مع «القاعدة» وأخواتها وبناتها. لقد انصرفت عن الكتابة في تلك المأساة البالغة الهول، إحساسا باليأس وعدم الجدوى. وصرت إلى إجمال الوضع السوري والعربي بعامة في عبارة واحدة: بعد أربع سنوات على الانفجار في خمس أو ست دول عربية هناك نصف مليون قتيل، ونصف مليون معتقل، واثنا عشر مليون مهجر، ومعظم الأصناف الثلاثة في سوريا الأسد بالطبع!
أعود اليوم للكتابة في الوضع السوري لسببين: استغاثة الفرنسيين من أجل إنقاذ ثلاثمائة ألف من المدنيين الباقين بمدينة حلب، بعد تهجير أكثر من مليونين. فالحلبيون المدنيون والمقاتلون اليوم واقعون بين النظام السوري جيشا وميليشيات إيرانية من جهة، و«داعش» من الجهة الأخرى. أما السبب الثاني للكتابة فهو ظهور دي ميستورا، المبعوث الدولي الجديد بعد الإبراهيمي عند بشار الأسد، ليعرض عليه خطة لتجميد الصراع في عدة مناطق منكوبة بسوريا لأسباب إنسانية، أبرزها حلب. النظام السوري قال: جاءت الفرصة ولا ينبغي تفويتها! لماذا لا يكون التجميد كما حصل بحمص من قبل؟ أي أن يجلو المقاتلون (ومعهم بالطبع المدنيون!)، ويحل السلام والخراب الآمن كما حلا بحمص المنكوبة! ولا ندري ماذا قال له دي ميستورا بالضبط، أو بماذا أجابه. لكن أبواق النظام و«حزب الله» ذكرت أنه تساءل أو قال: إنما أردت وقف القصف والقتال من الطرفين، وفتح ممرات إنسانية، لكن بحسب التصور الذي تعرضونه، فهذا يعني أن تصبح المدينة بعد خروج المقاتلين منها بينكم وبين «داعش»! وقال له سوريو النظام: نحن ندبر أمرنا مع «داعش»، وإنما المهم ذهاب الإرهابيين الآخرين! وعلى أي حال فإن دي ميستورا ما ثبطت عزيمته، بل مضى إلى حمص ليتحدث إلى المقاتلين بحي الوعر (الذي لم يستسلم مقاتلوه بعد!) لكي يرى إذا كان من الممكن أن يحدث لهم ومعهم ما حصل مع الآخرين في الخالدية وغيرها، وإذا نجح في ذلك، فسيكون هذا إيذانا بالإمكان في حلب على الشاكلة نفسها!
وبالطبع، فإن ما سعى ويسعى إليه دي ميستورا، مختلف تماما عما قصد إليه الفرنسيون. الفرنسيون أرادوا التوصل إلى تنسيق بين الأتراك والأميركيين والعرب، بحسب ما قاله الأميركيون للجميع في مؤتمر جدة وقبل مؤتمر جدة. قالوا وقتها: المطلوب الآن مكافحة «داعش» في العراق وسوريا. والمناطق التي نحطم فيها داعش بسوريا، يحل محلهم فيها المقاتلون المعتدلون الذين دربنا بعضهم، وسنستمر في تدريب البعض الآخر بتركيا والسعودية. وهذا يعني التضييق على النظام السوري من ناحية حلب، ومن ناحية درعا، بحيث يقبل العودة إلى طاولة المفاوضات، من أجل الحل السياسي بحسب «جنيف1» و«جنيف2».
خلال شهرين ونيف ما حصل شيء من ذلك؛ فالعرب وفوا بما طالب به الأميركيون، وغطوا بمشاركتهم الحملة على «داعش» في سوريا على وجه الخصوص، بل وشجعوا العشائر العراقية (التي يذبحها «داعش» الآن بالأنبار) على القتال لتحرير أرضهم مع قوات الحكومة العراقية التي لم تصل بعد! أما الأميركيون فقد كشفوا عن عدة أمور معاكسة لما توقعوه أو خططوا له في سوريا. قال أوباما إن المقاتلين المعتدلين يحتاجون إلى عدة سنوات ليصبحوا أندادا للنظام على الأرض. وقال جنرال أميركي، إن بشار الأسد يستفيد من ضربات التحالف في سوريا. وأرادوا من تركيا المشاركة في الحرب لمساعدة حزب العمال الكردستاني (عدو تركيا) حتى لا تسقط عين العرب، وما فعلوا شيئا تقريبا حتى ضد «داعش» خارج المعركة من حول كوباني أو عين العرب! وخلال الجدال العلني مع تركيا إردوغان، والسري مع العرب كشفوا عن أن هناك اتفاقا مع الروس والإيرانيين على عدم الإضرار بالنظام السوري بأي شكل أثناء ضرب «داعش» في كوباني، وفي كوباني وحسب! وربما شجعوا دي ميستورا أخيرا على استصراخ إنسانية الأسد المزدهرة هذه الأيام!
ماذا حصل في المناطق السورية ومعركة كوباني لا تزال جارية؟ شن النظام السوري حربا غير مسبوقة بالبراميل المتفجرة في شتى المناطق، وبخاصة في حلب. وأقبلت جبهة النصرة على مقاتلة الثوار في منطقة إدلب نيابة عن «داعش»، وأحيانا بالتنسيق مع معسكرات النظام الباقية بالمنطقة. والجديد، باستثناء بعض التقدم للثوار في منطقة درعا أربعة أمور: ازدياد سيطرة «النصرة» في مناطق الثوار المختلفة، واستغاثة الفرنسيين من أجل حلب، وحلول دي ميستورا السلمية لصالح النظام، ورسائل أوباما المتوالية إلى خامنئي التي يعرض عليه فيها التعاون ضد الإرهاب، في مقابل ازدياد التجاوب في الملف النووي!
لقد واجهت سائر حركات التغيير العربية بعد شهور على اندلاعها عام 2011 عدة ظواهر: هشاشة في القيادة والتنظيم وتصور المستقبل، وصعود الإسلاميين السياسي والجهادي الإرهابي، والتدخل الميليشياوي والطائفي الإيراني إلى جانب القوى القديمة والقاتلة في العراق وسوريا واليمن ولبنان. وقد ترتبت على ذلك نتائج مفجعة: فوضى ضاربة، وعنف مستشر، وخراب متزايد، ولجوء من المدنيين العديمي الحيلة إلى الجيش أو القوى القديمة التي ثاروا عليها من قبل. وإذا كانت هذه الظواهر تتفاوت في البلدان المختلفة؛ فإنها جميعا تبلغ ذرى غير مسبوقة في تاريخ العالم الحديث في سوريا! والأكراد لا يستحقون الحسد على اهتمام أميركا بهم، فمصيبتهم الماضية والمستقبلية مع تركيا وإيران هائلة الحجم. ولنتأمل بمن نصح «داعش» للتحرش بهم!
قابلت أخيرا أستاذا جزائريا في منتدى فوجدته ساكتا بعد شدة حماس لنمط التغيير في تونس، والذي كان يرجو أن يحدث مثله بالجزائر. وقلت له: هل صرت مثل هؤلاء المتحدثين اليوم عن شرور الفوضى وضرورة العودة للهدوء القديم؟ فقال: تقريبا! لكن بالله عليك، كيف يصبح بشار الأسد وعلي عبد الله صالح الملاذ الذي لا ملاذ غيره، ويصبح المالكي نائبا لرئيس الجمهورية بالعراق؟! وقف القتل أمر جيد، إنما ليس بهذه الطريقة المذلة يكون إخضاع الناس! تصور أن عندنا في وهران في آخر الدنيا عشرة آلاف سوري هارب من «عدالة» الأسد، والأميركيون يقولون إن همهم الأكبر في سوريا مكافحة تنظيم خراسان الرهيب!
طفرت دمعةٌ من عيني زينة يازجي، على شاشة تلفزيون دبي، لما حدّثها المعارض السوري، ميشيل كيلو، في مقابلةٍ معه قبل عامين، عن لقائه، أثناء توقيفه في فرع التحقيق العسكري في دمشق، طفلاً في الخامسة من عمره، وُلد في الحبس، (ويقيم) في الزنزانة مع أمه. اصطحب حارس (يبدو أنه رجل طيّب) ميشيل كيلو إليهما، دردش مع الأم، وعرف منها أنها معتقلةٌ "رهينة"، حتى يسلّم زوجها الهارب (الإخواني) نفسه. ودَّ أن يسلي الطفل ويُبهجه، فحكى له حدوتةً عن عصفورٍ على شجرة. غير أن الطفل فاجأه بأنه لا يعرف ما هي الشجرة ولا ما هو العصفور، فليس في معجمه، ولا خياله، مثل هذه المسميات، وهو الذي رأى (النور؟) في الحبس، فلم تصادف عيناه أشجاراً أو عصافير.
ليس صحيحاً، إذن، أن العدو الصهيوني وحده يحوز مأثرة أسر أمهاتٍ حوامل، يلدن في السجون ومستشفياتها، ويُبقي مواليدهن محابيس معهن سنوات. فهذا ديدنٌ معهودٌ، يقيم عليه نظام آل الأسد، وورثه من يحكمون السوريين، الآن، بغاز السارين والبراميل المتفجرة، من عهد الأسد الأب. وقد أكد خبرٌ شديد العادية، قبل أيام، أن الأمر من "الثوابت" المتمسّك بها، وموجزه أن الطبيبة، ماريا بهجت شعبو، تم احتجازها عند عودتها من بيروت، لدى الأمن السياسي في ريف دمشق، ثم نُقلت إلى الإدارة العامة للاستخبارات، قبل أن يُطلق سراحها بعد أن "استضيفت" تسعة أيام. جاء الخبر على أن ماريا وُلدت في السجن في 1988، عندما كانت والدتها سجينةً سياسية، وقضت سنة ونصف السنة فيه. وبعد خروجها، قام والدها بتربيتها، حتى الإفراج عن والدتها بعد سنتين ونصف السنة، ثم اعتقل والدها عشرة أعوام.
عديدون مثل ماريا السورية أبصروا الدنيا في سجون إسرائيل، ثمة أخوّة خاصةٌ تجمعها بهم. وأَن تصير طبيبةً في شبابها، فذلك يعني أن إرادةً قويةً لديها جعلتها تتجاوز الدرامية الجارحة في حياتها، ونظنّها الإرادة نفسها، سيقاوم بها الفتى الفلسطيني، نور غانم، الأسى الغافي في نفسه، وهو الذي عاش أولى سنوات طفولته في سجنٍ إسرائيلي. أُسرت والدته وهي حامل فيه، وولدته في غضون احتجازها، كما سمر صبُح التي سيقت إلى الولادة مقيدةً، ووضعت طفلتها، براء، بعمليةٍ قيصريةٍ تحت حراسة مشددة، وبقيت المولودة مع أمها في السجن مدة غير قصيرة. أما ميرفت طه، فقد وضعت مولودها، وائل، في زنزانةٍ كانت تحتجز فيها. ومن حكايات مثل هذا الشجى الإنساني الأليم، أن عطاف عليان طلبت ابنتها، وكانت في عمر الثمانية شهور، لتكون معها في الحبس الإسرائيلي المقيت.
ليس في وسع الإنسان عندما يُطالع هذه الأسماء، وكثيراً غيرها لم توثقها الصحافة، أن يكون شعوره كما برود أهل الإكوادور بشأن حادث سير في غينيا بيساو. فالألم الإنساني الذي ينطق به ما أصاب تلك النسوة السوريات والفلسطينيات باهظ، ويوجع الروح. تتآخى حكاية العصفور والشجرة مع متوالية الحبس عند ماريا بهجت شعبو، ومع زوبعةِ أسئلةٍ تنفتح واقعيتها السحرية على تفاصيل مروعة، تثيرها مواجع تلك الأمهات الفلسطينيات، وهن يُشاهدن أطفالهن يتحسّسون الدنيا في زنازين مغلقة ووراء قضبان، ولا تُصادف مداركهم غير عالمٍ من الفظاظة. ولقائلٍ أن يرى أن المشترك الثقيل بين المحنتيْن، الفلسطينية والسورية، (يُثري؟) مدونة الألم فيهما بمقاطع بالغة الحرارة، ما يستنفر وجاهة في دعوة أهل السينما والدراما وكتاب الرواية والقصة والمسرح إلى أن يجترحوا من هذه التجارب التي يعصى كثير منها على التخيّل أعمالاً فنية وإبداعية، ستكون لافتة إذا قيّضت لها مواهب وأدمغة وكفاءات خلاقة.. أصاب شيخنا الراحل، هاني فحص، لمّا قال قدامنا، مرة، في منتدى بالقاهرة، إنه لا فرق بين النظامين السوري والصهيوني.
يسعى جهده لإقناعك بالتالي: «عدد متزايد من المراقبين السوريين والعرب على امتداد الشرق الأوسط لديهم نظرة مختلفة إلى قرار [الرئيس الأمريكي باراك] أوباما، بمهاجمة أخطر أعداء الأسد، ‘الدولة الإسلامية’ في قواعدها شمال سوريا. والإدراك السائد هو أنّ الولايات المتحدة قد بدّلت مواقفها، وأنّ الأسد، وقد عزّز مواقعه بسبب هذا التبدّل في الرؤية، لم يعد الهدف الرئيسي للولايات المتحدة، المتمثل في تغيير النظام». والمرء يتساءل، أوّلاً: من هم، حقاً، أولئك «المراقبون السوريون والعرب»؛ وأين، ومتى، راقبوا وتوصلوا إلى خلاصة دراماتيكية مثل هذه؟ وثانياً، متى كان «تغيير النظام»، وليس «تنحّي الأسد» مثلاً، هو هدف البيت الأبيض الرئيسي؛ وكيف، ومتى، تمّ الإعلان عن هذا التغيير، وبلسان مَن؟
هذا نموذج أوّل على (بعض، وليس حتى معظم) طرائق سايمون تيسدول، المعلّق في صحيفة الـ»غارديان» البريطانية؛ كلما شاء التعليق على شأن سوري ما، صغير أو كبير، أسوة بشؤون الشرق الأوسط عامة، بوصفها ميدان اختصاصه المعلَن. نموذج ثان، هو محض تنويع على روحية الافتراض التلفيقي في المقام الأوّل، يسير هكذا: «القيادة العسكرية الأمريكية تقاتل الآن في الخنادق ذاتها مع الجنرالات السوريين في حرب على الإرهاب داخل سوريا، هكذا نشرت صحيفة في دمشق، نقلاً عن دبلوماسي سوري (…) لكن مزاعم رجال الدعاية للنظام ليست كلها خالية من الحقيقة. لقد فتحت الولايات المتحدة خطوط اتصال غير مباشرة مع دمشق في الأسابيع الأخيرة. صحيح أنها لم تطلب الإذن لتنفيذ الضربات الجوية، لكنها قامت مسبقاً بإبلاغ سفير الأسد في الولايات المتحدة حول بدء الهجمات».
أهذا هو، حقاً، طراز القتال معاً «في الخنادق ذاتها»؟ ومتى، في الأساس، كان جنرالات النظام قد قاتلوا «داعش» في بلدة كوباني، أو ـ في المرحلة الراهنة، التي يقصدها تيسدول، تحديداً ـ على أية جبهة قصف جوّي أمريكي؟ وما الجدوى، في أوّل المطاف ونهايته، من مساءلة خلاصات تيسدول هذه، إذا كان تفسيره لتردد أوباما، في تنفيذ ضربات جوية ضدّ نظام الأسد، آب (أغسطس) 2013، بعد لجوء النظام إلى استخدام السلاح الكيماوي في الغوطة، تفسيراً عجيباً منفرداً ومغلوطاً أيضاً: «كان أوباما مستعداً، وإنْ مكرهاً، لمهاجمة الأسد في ربيع 2013، ولم يمنعه من التنفيذ إلا التصويت ضدّ الحرب في البرلمان البريطاني». هل كان تصويت مجلس العموم البريطاني هو العائق، حقاً؟ ثمّ هل كان مشروع الضربات في ربيع 2013، أم في صيفه؟
بذلك فإنّ تيسدول أحد «كبار» ذلك النوع الخاصّ من الكتّاب والمعلّقين الغربيين الذين ابتُلينا بهم، نحن العرب؛ والذين ينقلبون، أو نقلبهم نحن عن طريق بعض عباقرتنا أبناء جلدتنا، إلى خبراء فطاحل فصحاء، لا يُشقّ لهم غبار في تشخيص أمراضنا السياسية والاجتماعية والثقافية والنفسية؛ وذلك بالرغم من اعتمادهم، شبه الكليّ، على معرفة بائسة، جاهزة وسطحية، قائمة إجمالاً على الكليشيهات، وعلى هذه وحدها حصراً أحياناً. وشرّ البلية أنّ بعض هؤلاء يصفّي حساباته المحلية، العقائدية غالباً، على حساب ما هو جوهريّ، كما حين يرتئي يساري بريطاني أو أمريكي أو فرنسيّ أنّ العاجل هو مناهضة الولايات المتحدة؛ وأنّ انتقاد النظام السوري، حتى في ما يخصّ ملفات جلية لا تقبل الالتباس، مثل جرائم الحرب وارتكاب المجازر وممارسة العقاب الجماعي وانتهاج سياسة الأرض المحروقة… ليست كافية لإدانة النظام، أو تصبّ المياه في طواحين الإمبريالية!
وجه آخر للبليّة أن يتنطح معلّق غربي لهذه الملفات تحديداً، فيكتب عنها ليحشد من الأغلاط والمغالطات ما يُخجل ويُضحك في آن؛ ويتكىء، في التوصّل إلى خلاصاتها، على مصادر معلومات و»مراقبين» محليين لا تقلّ معرفتهم بؤساً، وأحياناً: خبثاً وضلالة وتضليلاً، عن المعرفة البائسة الأمّ التي منها يغرف صاحبنا المعلّق الغربي. وبالطبع، من حقّ أمثال تيسدول التشاور حول موضوعاته مع مَن يشاء، شريطة أن لا يقتصر التشاور على مصدر متعاطف مع السلطة، منتسب إلى مؤسسات شبه سلطوية، إذا لم يكن ممالئاً للسلطة صراحة وعلانية. وفي كلّ حال، وخاصة حين تُطلق أحكام عامة دراماتيكية من طراز قتال أمريكا مع النظام في الخنادق ذاتها؛ ألا يتوجب أن تكون الاشتراطات المهنية، في التحقق من المعلومة وتمحيصها وتدقيقها، أشدّ صرامة ورصانة؟
وليست حال تيسدول هذه جديدة على تراثه في قراءة المشهد السوري، حتى حين كانت عناصره أقلّ تعقيداً بكثير، وكان اصطفاف قواه أوضح من أن توقع المراقب، شبه الحصيف، في أخطاء شنيعة. على سبيل المثال، ذات يوم غير بعيد، اعتبر تيسدول أنّ «جبهة الخلاص الوطني»، التي كانت قد تشكلت أساساً من جماعة الإخوان المسلمين السورية ونائب الأسد السابق عبد الحليم خدام، هي «في الكمون وعلى المدى البعيد أكثر إشكالية» لنظام الأسد من تقرير الأمم المتحدة حول اغتيال رفيق الحريري؛ وأنّ تلك الجبهة كانت «أوّل معارضة منظمة وذات مغزى ضدّ النظام، منذ أربعة عقود»! تلك الخلاصة كانت جهلاً فاضحاً بطبيعة تقييم الشارع السوري، ثمّ المعارضة، لرجل مثل خدّام، ظلّ طيلة عقود أحد أكبر تجسيدات الفساد والاستبداد في سلطة «الحركة التصحيحية»، حافظ الأسد ومن بعده وريثه.
وكان الجهل يشمل، أيضاً، ضحالة مذهلة في معرفة طبيعة هوامش الحركة السياسية والعقائدية التي كانت جماعة الإخوان المسلمين تملكها في الشارع السوري؛ يوم تشكيل الجبهة، ولكن أيضاً خلال العقود التي أعقبت اندلاع مواجهات العنف بين الجماعة والنظام منذ أواخر السبعينيات عموماً. وبدا تيسدول أقرب إلى الغريب تماماً عن حقيقة كبرى، بسيطة وبيّنة، كانت تشير إلى أنّ لقاء الإخوان ـ خدّام لم يمثّل فريقاً معارضاً عريض الأطياف والشرائح، بقدر تمثيله لأطراف متمفصلة مذهبياً، وعاجزة استطراداً عن استقطاب فئات أخرى من أبناء المجتمع السوري (كما فعل «إعلان دمشق» مثلاً). ولأنّ الاخطاء الشنيعة، من حيث الوقائع والتواريخ، لا تغيب البتة عن تحليلات قاصرة مثل هذه؛ فقد تحدّث تيسدول عن «مؤتمر جبهة الخلاص الأوّل» في لندن لكنه في واقع الأمر كان الثاني للجبهة، بعد الأوّل الذي عُقد في بروكسيل.
الخطأ السياسي، في المقابل، قاد تيسدول إلى اعتبار الجبهة «صيغة تعاون غير مسبوق» بين زعيمين للمعارضة، علمانيّ وديني؛ لكنّ خدّام لم يكن زعيم معارضة، بادىء ذي بدء، ومن السخف تصنيفه كزعيم لمعارضة أخرى غير معارضته العائلية ـ على غرار اقتصاده العائلي! ـ المؤلفة من أبنائه وبعض أزلامه في أفضل التقديرات. كما أنه ليس علمانياً، ولم يكن في أيّ يوم، كيفما قلّب المرء هذا المصطلح أو أقامه وأقعده؛ بالقدر الذي لا يجوز فيه اعتبار علي صدر الدين البيانوني، المراقب العام لجماعة الإخوان المسلمين يومذاك، «زعيماً دينياً». كان مثيراً للسخرية، أيضاً، اكتشاف تيسدول الأرخميدي، بصدد التعاون بين العلمانيين والإسلاميين، لأنّ الجماعة كانت صاحبة مبادرة إلى عقد مؤتمر في لندن، صيف 2002، ضمّ إسلاميين إخوانيين وإسلاميين غير إخوانيين، إلى ماركسيين ويساريين وقوميين وليبراليين.
أحدث خلاصات تيسدول، على طريقة «ختامها مسك» ربما، هي هذه: «ثمن النصر على الدولة الإسلامية قد يكون انتصار الأسد في سوريا». ويأتيك، بعدها، مَنْ يطلب الحكمة من «محلل» كهذا، لا يجهل ويتجاهل، فحسب؛ بل يُجهّل عن سابق قصد وتصميم، فيردّ من جانبه: ألا لا يجهلنْ أحد علينا!
النقاش جميل وأجمل منه أن نخرج بنتائج مفيدة ومنصفة .
من حق كل منا أن يجتهد لكن ليس من حقه أن يسفه اجتهادات الآخرين ، قد يخطئ البعض في اجتهاد ما لكن ذلك لا يبيح الطعن في الدين ولا العقل .
كنت أتحاشى الدخول في كثير من النقاشات مخافة الانجرار الى متاهات الجدال العقيم ، كلام كثير يمكن أن يقال في البحث عن مخرج ولا بد أن يقال بعضه ، جميل التحليق في سماء المثل والمبادئ لكن لا بد من الهبوط الى حقائق الواقع التي يجهلها كثيرون .
الإغراق في بعض التفاصيل لا ينبغي أن يكون على حساب رؤية المشهد الكلي ومن جميع جوانبه ، غياب بعض جوانب المشهد لا بد أن يؤثر على القراءة والرؤية والموقف وربما يقود الى أخطاء كارثية ، كل ما يمكن أن نتهم به الآخرين من عدم الفهم أو التهور أو التخبط أو العاطفية يمكن أن نتهم به ولسنا معصومين .
دعوني أقول شيئا بعد قرابة سنتين من زيارات الداخل وربما يستغرب البعض مني هذا الكلام أو يسارع آخرون لاتهامي ليس هذا المهم لأن مأساتنا أكبر بكثير مما نظن- أقول: إذا نجح معاذ الخطيب في حل يوقف شلال الدماء فهذا مكسب بحد ذاته واذا فشل فلن يتحمل أحد فشله .
الكلام السابق كبير وخطير ولذلك لا بد من توضيح بعض الحيثيات منها ما يرجع الى المشهد الكلي ومنها ما يرجع الى تفاصيل وحيثيات الواقع المؤلم الذي يعيب البعض على معاذ نجاحه في تصويره
أما المشهد الكلي فقد آن لنا أن ندرك أن معركتنا لم تعد معركة شعب مع نظام أو سفاح بل هي لعبة أمم أصغر وأضعف اللاعبين فيها هو الشعب السوري ، هذا الشعب منقسم على نفسه فقسم كبير منه لا يبالي وقسم مع النظام وقسم ثار ضد النظام ومن هؤلاء من ندم على ثورته ومنهم من ألقى السلاح ومنهم من تعب واستراح والقلة القليلة التي لا زالت تحمل السلاح ليست على قلب رجل واحد بل تتناوشهم الاجتهادات والمناهج المتناقضة أو المتضادة وحتى أصحاب الفكر الواحد ليسوا على وئام .
من يحملون السلاح لا يجدونه وإن وجدوه فهم مضطرون في كثير من الحالات أن يأخذوه ممن يملي شروطه لتعود اللعبة من جديد وتستمر هكذا دواليك .
لا أقول هذا تشاؤما أو تثبيطا ولكنه الواقع الذي أراه ، يعجبني فيمن يحمل هم الشعب السوري أن يكون قد عاش مأساته على حقيقتها ولم يكتف بالمشاهدة عبر التلفاز ، يعجبني أن يزور أريافنا وقرانا وأن يرى بعينيه آثار الدمار ، أن يعيش بين الناس وأن يشاهدهم وهم يهرعون ويهلعون وترتعد فرائصهم حينما يسمعون أزيز الطائرات أو دوي محركاتها فوق ، رؤوسهم وهي تروح وتجيء لتلقي عليهم ببراميل الموت كل آن وحين ولا يملكون الا الاستسلام لأمر الله وحكمته ، يعجبني أن يزور مخيمات التشرد والنزوح وأن يعي مدلول هذه الكلمات على حقيقتها ، أن يتجول بين خيامها الممزقة المرقعة ،أن يسير بينها ويدوس في الأوحال .
لست أتلاعب بالألفاظ والله ولست أخاطب العواطف على حساب خطاب العقول
يعجبني أن يشاهد الناقد والمحلل وجوه الأطفال والبائسين من أبناء شعبنا في تلك المخيمات أقصد مخيمات الداخل ، أن يقرأ في وجوههم كل شيء أو أي شيء ، أن يدرك أن جيلا من أبنائنا يتعرض للضياع والتجهيل بل والفساد والانحراف وأن هذا لا ينعم بما ينعم به أبناؤنا فيما نسميه الشتات ويراه المشردون جنات النعيم ، ويؤلمني أن نتحدث أو ننتقد من بعيد ونحن على أرائكنا وبين أبنائنا ، قد نتألم لكننا لا نعيش الألم بحق ، ونريد لغيرنا أن يتحمل المزيد من الآلام ونحن لا نقدم له أكثر من الكلام
أنا لا أدعو الى الاستسلام معاذ الله
لكن أن نعذر من يسعى لتخفيف الآلام