وفقاً لكثير من المصادر، يبدو المشهد في سورية حالياً تماماً كما أراده نظام بشار الأسد منذ اليوم الأول لاندلاع الثورة السورية سلمياً. فالفصيلان الأقوى في مواجهة قوات هذا النظام (والتي تضم مليشيات شيعية متعددة الجنسيات)، هما تنظيمان مدرجان على قوائم الإرهاب في دول العالم كافة؛ "جبهة النصرة" التابعة لتنظيم "القاعدة"، وتنظيم "داعش" المنشق عن "القاعدة".
وبافتراض تمام دقة هذا التوصيف، يبدو السؤال الأهم هنا: هل يخدم فعلاً هكذا واقع نظام الأسد الآن؟
كانت "لعبة" النظام عند اندلاع الثورة السورية، هي إقناع الخارج أساساً، بأن الخيار في سورية هو بين نظامه وبين التنظيمات الإرهابية، حتى عندما كانت هذه الثورة شعبية، تقوم على محض مطالب إصلاحية وبأدوات سلمية خالصة. وإذ صدّق النظام كذبته، فقد تعامل فعلاً مع السوريين جميعاً، وعلى امتداد قرابة أربع سنوات، باعتبارهم إرهابيين؛ مستخدماً القتل والاعتقال والتهجير الجماعي. لكن بذلك تحديداً أجهز هذا النظام بنفسه على فرصة أن يكون بديلاً للتنظيمات الإرهابية الحقيقية لدى الشعب السوري.
هذه الحقيقة يؤكدها -وبما يجيب عن السؤال السابق بشأن استفادة نظام الأسد من صعود التنظيمات المتطرفة- أن ضعف فصائل المعارضة المسلحة الموصوفة بـ"المعتدلة" أو حتى "العلمانية"، لم يصبّ أبداً في صالح النظام، بل العكس تماماً؛ إذ جاء في مصلحة "جبهة النصرة" وحتى "داعش". فأحد أهم أسباب ضعف فصائل المعارضة المسلحة الأخرى هو التحاق مقاتليها بتنظيمي "القاعدة" السابقين، والدافع في الغالب هو الدفاع عن النفس في مواجهة جرائم النظام التي تتصاعد بلا توقف. ومثل هذا لا يشكل سابقة أبداً. فالعراقيون استقبلوا تنظيم "داعش" استقبال الفاتحين في الموصل، رغم كامل معرفتهم بفظائعه في سورية على الأقل؛ ذلك أن كل ما كانت تقدمه لهم حكومة رئيس الوزراء السابق نوري المالكي، هو الموت فقط، بعد إهدار الحقوق والكرامة والتنكيل.
هكذا، يبدو الجانب الأخطر، أو اللعنة التي جلبها نظام الأسد على نفسه، عبر "نجاحه" في إلحاق السوريين بتنظيم "القاعدة"؛ "جبهة نصرة" أم "داعش"، وبالتالي إحكام حلقة "اللعبة الصفرية" التي بدأها هذا النظام ذاته.
إذ يبدو واضحاً تماماً اليوم أن هذا النظام، ومع الدعم المطلق من حلفائه؛ إيران وحزب الله وروسيا، لم يعد قادراً على الانتصار في هذه "اللعبة الصفرية". وأقصى إنجاز نراه الآن هو استمرار بشار الأسد في منصب الرئيس، لكن مع حرب تدمير شامل لسورية، واستنزاف للسوريين جميعاً بكل طوائفهم. وهنا تحديداً، يكاد يكون النظام أخطر أعداء حاضنته الاجتماعية، بل وقاتلها الصامت.
والخشية الحقيقية في ظل تواصل الاتجاه الحالي، أن لا تجد روسيا وإيران، المتحكمتان بمصير الأسد، من تتفاوضان معه على الحل السياسي، حين تدركان فعلياً -وليس لفظياً وكسباً للوقت كما يحدث الآن- أن هذا الحل هو المخرج الوحيد من الأزمة السورية.
لم تعد "لعبة البديل" في سورية (وكما ثبت في حالة العراق)، قابلة للاستمرار وفق المعطيات الحالية؛ أي بين إرهاب "القاعدة" وتفرعاتها وبين إرهاب النظام، فهنا تنتصر "القاعدة" بأشكالها المختلفة. وهي ستظل تنتصر، إلى حين خلق بديل حقيقي لها؛ أي ذاك القائم على احترام إنسانية الإنسان، حاضراً ومستقبلاً.
رسمت وسائل الإعلام المختلفة، خلال السنوات الثلاث الماضية، صورة مشوشة، وتنطوي على مقدار كبير من الاختزالية، لمفهوم المعارضة السورية المعتدلة، ودعّمت تلك الصورة السياسات الدولية والإقليمية التي تركبت وتداخلت مع القضية السورية.
ومصدر الاختزال والتشويش، يعود إلى حصر صفة الاعتدال بالمعارضة المسلحة وحسب من جهة، ومن جهة ثانية تبني هذه الرؤية صورة الاعتدال على معادلة المفاضلة مع القوى والفصائل الإسلامية المتطرفة، ومن جهة ثالثة لا تأخذ في الاعتبار أصل القضية الذي هو معارضة شعب في مواجهة نظام تسلطي، فئوي، أوليغارشي.
إن تقدم المشروع الوطني السوري يقتضي إعادة بناء مفهوم المعارضة المعتدلة، فكراً وممارسة، بالتعارض مع الصورة الاختزالية التي قلصّتها إلى بعدها العسكري. ويكون ذلك بالعودة إلى أصل الثورة التي كانت محمولة على أكتاف معارضة مجتمعية وازنة، أفضت إلى تقويض أسس «الدولة التسلطية»، وإزاحة المعارضات الأيديولوجية المغلقة إلى الرصيف. والأهم، أنها كانت تتحرك في فضاء مفتوح على أفق وطني. لذا، تركز جهد النظام ومن خلفه الجهد الإيراني على نزع الطابع الوطني عن الحراك المدني الذي تمت مواجهته بوحشية منقطعة النظير في تاريخ البشرية، لأنه أظهر قوة تلك الكتلة المجتمعية وثقلها، وهي عبارة عن شرائح وفئات اجتماعية واسعة وغير متجانسة، ويصعب تحديدها تحديداً طبقياً أو أيديولوجياً، باستثناء إجماعها على قضيتي الحرية والكرامة وانفتاحها على فكرة المجال الوطني العام. وضمت طلاباً جامعيين وغير جامعيين ومهندسين وأطباء ومحامين ومعلمين وفنانين ومثقفين وكتّاب وصحافيين وشخصيات عامة ورجال أعمال ورجال دين وأساتذة جامعات ومشتغلين بالحقل العام ونشطاء إعلاميين وميدانيين وسياسيين وموظفين وعمالاً وفلاحين وسكان مدن وأرياف، كذلك شاركت في الثورة أعداد كثيرة جداً من قواعد حزب البعث، مؤسسة السلطة الأيديولوجية.
هذه الكتلة الوازنة التي دفعها التاريخ إلى مواقع معارضة وطنية جذرية في مواجهة «الدولة التسلطية»، لحقت بها ظاهرتان فرعيتان، هما الجيش الحر والمجلس الوطني الذي تحول إلى أحد أطراف ائتلاف قوى الثورة السورية لاحقاً. وعندما تراجعت تلك الكتلة التاريخية إلى الصفوف الخلفية، تلاشى الجيش الحر، وانطفأ المجلس الوطني، وصار الائتلاف ظاهرة هامشية في المعارضة، فيما تقدم إلى الواجهة قاع المجتمع التقليدي والفصائل الإسلامية المسلحة المرتبطة فيه، في مواجهة السلطة التي انحدرت إلى سلطة ما دون استبدادية، أي (سلطة تشبيح وقتل)، وفي مواجهة الميليشيات الطائفية المقبلة من خارج الحدود.
هذان القطبان، السلطة وميليشياتها، والمجتمع التقليدي وميليشياته، لم يعد بمقدورهما إلا توليد الحرب والقتل والخراب. لذا، فإن أي مشروع سياسي ذي أفق وطني سوري، يقتضي استعادة تلك الكتلة التاريخية المعارضة، وهي لا تزال، على هول النكبة التي حدثت، الأقوى للأسباب الآتية:
أولاً، لأن تنوعها واختلافها وشمولها لمختلف الشرائح والفئات، يجعل طابعها طابعاً عمومياً، يتطابق مع حدود الوطنية السورية.
ثانياً، لأنها تتصل بالعمل والإنتاج والفكر والسياسة، وتنحو إلى الاستقرار والعيش بسلام وتناهض عناصر الحرب الداخلية، فهي تنسجم سوسيولوجياً مع السياسة بصفتها فاعلية مجتمعية متجهة نحو المركزة والتوحيد، في مواجهة فوضى الفصائل والميليشيات والظواهر الحزبوية والسياسوية التي فتّتت المجال الوطني.
ثالثاً، ثقلها الوطني يعمل على انتشال سورية من موقع الساحة للصراعات الإقليمية والدولية، إلى موقع وطن وشعب يتكتّل حول مسار طويل وشاق باتجاه دولة وطنية منشودة.
إن تعقيدات القضية السورية لا تحتّم استعادة هذه الكتلة التاريخية المعارضة إلى مجال الفعل. لكن تلك الاستعادة تبقى رهان الوطنية السورية الوحيد.
السياسة هي فن الممكن، والممكن هو جوهر مبادرة المبعوث الأممي الجديد لسورية ستيفان دي ميستورا. الجيد أن المعارضة السورية المعتدلة تعترف هي الأخرى بهذا «الممكن»، فلم تدخل في سباق مزايدة وتطالب بكل شيء أو لا شيء، فهي محاصرة من العدو والصديق والإنسانية، والشتاء القاسي الذي يدهم ملايين اللاجئين السوريين لم يحرك العالم في الأعوام الثلاثة الماضية، وبالتالي فلن يحركهم هذا العام، بل إن جيران سورية باستثناء لبنان شرعوا في دمج اللاجئين باقتصادياتهم الوطنية، ما يعني أنهم على استعداد للتعود على الحال السورية لأعوام طويلة مقبلة.
فما هو هذا «الممكن»؟ إنه مبادرة أعلنها دي ميستورا قبل أيام تقوم على أن «الحل في المدى القصير ليس مرحلة انتقالية ولا محاصصة سياسية، بل تجميد الحرب كما هي عليه، والاعتراف بأن سورية أصبحت لا مركزية في مناطق على فوهة البندقية»، ذلك أنه باتت في سورية «مجموعات متمردة كثيرة مع أجندات متناقضة محلية ودولية، لا يمكنها التوصل إلى اتفاق كبير» في البلاد، في وقت «يعرف» الرئيس بشار الأسد أنه «لا يستطيع استعادة السيطرة على كامل البلاد وإعادة عقارب الساعة إلى الوراء»، إذاً المطلوب حالياً «وقف فرامة اللحم» في سورية وتوسيع اتفاقات وقف النار المحلية على أساس ثلاث أولويات تتعلق بـ«خفض مستوى العنف وإيصال المساعدات الإنسانية وزرع بذور الحل السياسي»، ما سبق كان ما نقله حرفياً الزميل إبراهيم حميدي في هذه الصحيفة على لسان المبعوث الأممي، فيما اعتبره المراقبون «انقلاباً» على صيغة «جنيف 1 و2»، التي تقوم على تنحي بشار وتشكيل حكومة انتقالية يفترض أن تكون مسؤولة عن كامل الجمهورية السورية، وهو ما يبدو أنه انتهى لدى دي ميستورا والمجتمع الدولي المتضامن مع خطته، ما قد يرعب المعارضة السورية المعتدلة ودول المنطقة، لولا أن خطته تفضي في النهاية إلى تفاوض بين المعارضة والحكم يؤسس لجمهورية جديدة.
المعارضة السورية من جهتها وكما أخبرني أحد قياداتها، وطلب عدم ذكر اسمه، لأن المسألة لا تزال محل تشاور، تتجه إلى القبول بهذا الممكن، «على رغم أنه مؤلم لكل سوري ويدعو إلى القلق» بحسب قوله، ولكنها تراه أفضل الخيارات السيئة، فتداويه بالمساومة للحصول على عرض أفضل، مستعينة على ذلك بأصدقائها وتحديداً الرئيس التركي أردوغان. انهم مستعدون للقبول باقتراح «تجميد الصراع»، ويقبلون بدوافع الأطراف الدافعة لهذا الاقتراح، المجتمع الدولي الذي يريد أي حل يبرر عجزه عن التدخل، والعرب والجامعة العربية الذين تغير موقفهم بعد التغير الذي حصل في مصر تحديداً وتحولها بعيداً عن معسكر الثورة وأهدافها، والأتراك الذين لا يريدون أن تنساب المشكلات السورية والعراقية إلى جنوبهم الهش، الذي تجلت فيه الصدامات العرقية بين الأتراك والأكراد الشهر الماضي على خلفية أزمة كوباني، وإن حصل ذلك سيدمر كل مكاسب حزب «العدالة والتنمية»، ويهدد دورة النمو الاقتصادي التركي التي يبدو أنها بلغت مداها الأقصى، وأوباما الذي يريد أن يتفرغ السوريون معه لمواجهة تنظيم «الدولة الإسلامية»، ثم بعد ذلك ينظر في أمر بشار ونظامه وبالشكل الذي لا يهدد الإنجاز الخارجي، الذي يريد أن يدخل به التاريخ الأميركي بمصالحة تاريخية مع إيران، حتى بلغ به الأمر أن وعد مرشد الثورة في إيران آية الله خامنئي أنه لن يستهدف عسكرياً نظام بشار الأسد، وذلك في رسائل سرية سربت، وأثارت قلق المعارضة وأشعرتها بالخذلان.
تأمل المعارضة في أن تنجح في دفع مبادرة دي ميستورا بتجميد الصراع إلى قرار أممي يصدر عن مجلس الأمن تحت البند السابع بوقف إلزامي لإطلاق النار من جميع الأطراف، وهو ما لا يطيقه النظام السوري وعسكره الذين أبدوا تحفظات على المبادرة، بينما وعد وزير خارجية النظام وليد المعلم ومستشارة الرئيس بثينة شعبان بدراستها، ويستحضرون لذلك قراراً مماثلاً صدر بوقف إطلاق النار في كوسوفو عام 1999 انتهى بتدخل «الناتو» ضد القوات الصربية، التي انتهكت القرار فحسمت المعركة لمصلحة استقلال الإقليم عن صربيا.
الأمل الثاني هو استصدار قرار أممي آخر يمنع الطيران شمال خط 36، يحمي حلب وريفها من قصف براميل بشار الغبية، وجنوب خط 32 لتوفير منطقة آمنة في الجنوب بحوران، وهو طلب تضغط من أجله تركيا، ما قد يشجعها لو تحقق على تدخل بري هناك بغطاء أممي، فيعود إلى حلب مئات الآلاف من اللاجئين من لبنان تحديداً، حيث يتعرضون لضغوط من الحكومة هناك، بقدر ما يضغطون هم على استقرار لبنان الهش، وهو ما تحاول السعودية وفرنسا وحتى إيران حمايته من الانهيار، كما يتوقف سيلهم المنساب إلى تركيا ويعود البعض منهم ممن لم يجدوا وظائف هناك ولا يزالون يعيشون في المخيمات، والأمر نفسه يحصل في الجنوب فيرتاح الأردن هو الآخر من ضغط اللاجئين.
في الوقت نفسه تأمل المعارضة بأن يؤدي ذلك إلى حماية مناطقها المحررة من تغول تنظيمي «الدولة الإسلامية» و«النصرة»، اللذين باتا الأقوى في الشمال، وستدفع فصائلها والمدنيون كلفة حصول حرب بينهما أو كلفة اتحادهما، الذي سيكون على حساب السوريين الذين لم يثوروا ضد استبداد بشار ليستبدلوه باستبداد «داعش» أو حتى «النصرة»، التي وإن لم تكن بقسوة الأولى فإنها تحمل رؤية سلفية منغلقة ونزعة استبدادية إن استقر لها الأمر، إذ أظهرت خلال الأسابيع الأخيرة شهية مفتوحة للتوسع على حساب الفصائل الأخرى، كأنها تستعد لمواجهة مقبلة مع «داعش» أو قوات تركية قادمة. الصورة غير واضحة ولكنها في حال نشاط ملاحظ.
في النهاية، بعد عام أو اثنين أو أكثر، ستفرز الأحداث والتدافع والتدخلات الخارجية وتعب الجميع معسكرين في سورية، ليسا إسلامياً وعلمانياً، ولا سنياً وعلوياً، وإنما المعسكر «المستعد للتفاوض والمشاركة»، والثاني الرافض لهما. المنطق يقول إن المعسكر الثاني هو الذي يجب أن يخسر.
على الرغم مما يتبدى لبعض العجلة من سوداوية المشهد الشامي في ظل مساعي العالم كله إلى خلط أوراقه على حساب ثورة الشآم، ورغم الجهود الخرافية التي بُذلت وتُبذل لحرف ثورة الشام وتحويلها إلى ما ينعتونه بالحرب الأهلية، إلاّ أن الواقع يصرخ في وجوه الجميع بأنها ثورة شعب تتقدم صوب نهايتها المنطقية وهي النصر الذي سيكون بطعم الشآم روحاً وريحاناً وياسميناً.
تلتفت إلى الانتصارات المتلاحقة في درعا والقنيطرة وتقدم الثوار صوب عاصمة بني أمية مهوى أفئدة المسلمين لأكثر من قرن، فتجد الصمود الأسطوري في داريا معقل الغوطة الغربية حيث منها انطلقت جحافل نصر الإسلام الأول بقيادة أبي عبيدة بن الجراح إلى دمشق، مدعومة بجحافل الصحابة بقيادة سيف الله المسلول خالد بن الوليد من الغوطة الشرقية وتحديداً من جوبر الصامد رغم كل ما تفتقت عنه العقلية الإجرامية للنظام، فيتصاعد لديك حنين الشوق إلى أيام خلت مبشرة اليوم بالعودة، حيث يحتفظ الثوار بمنصتين تاريخيتين كانتا انطلاقة فتح الشآم، وها هي تعود اليوم، بانتظار فك الحصار عنهما من قبل ثوار القلمون ودرعا والقنيطرة وحمص..
في حرب العصابات يكفي صمودك أمام عدوك لتكون منتصراً، أما العدو الذي يُقدم نفسه على أنه يمثل الحكم المركزي فهو يتعرض لتآكل في الزمان والمكان لصالح معارضيه، والثوار في تقدم بغض النظر عن خسارة موقع هنا أو موقع هناك، ولكن بحساب الأسواق الضخمة "المول" فإن الثوار في تقدم وعدوهم مدعوماً بكل غرب وشرق في تراجع..
حين تتحدث الأخبار عن فشل التآمر العالمي على الشعب السوري غربيه وشرقيه، وانفضاضه عن لوحة كاذبة رُسمت على الرمال فذرتّها الرياح في يوم عاصف، عنوانها لوحة أصدقاء الشعب السوري، الذي أدرك كنهها وحقيقتها منذ اليوم فهتف بصوته المدوي "مالنا غيرك يا الله."، وتتحدث الأخبار معها عن المآزق التي يعانيها كل من يدعم طاغية الشام بالحديد والنار إن كان على المستوى الداخلي أو على المستوى الخارجي، ظهر ذلك بالتخبطات الإيرانية وفتحها لجبهات عدة، وانسحابات لحزب الله من القلمون بسبب تخبطه وتعرضه لخسائر أتت على بنيته وعصبته القتالية، وما تردد عن تمنع دفع رواتب لمقاتلي الحزب في سوريا لأشهر، والصراع بين الجنوب اللبناني والبقاع إزاء من يتطلب عليه دفع فاتورة الدم والقتل في سوريا، وفوق هذا كله تضييق الخناق على العصابة الأسدية من خلال الكشف الأخير عن تورط بشار في اغتيال الحريري وظهور أرقام هواتف المتهمين الخمسة في اغتيال الحريري على هاتف بشار، وكشف ضابط في جهاز الاستطلاع السوري بعد انشقاقه عن لقاءات الخمسة مع بشار في القصر الجمهوري بدمشق، كلها تؤكد أن ثورة الشعب السوري تتجه إلى نهايتها المنطقية بالنصر الناجز والحاسم.
التململ الحاصل في العصبة الطائفية للنظام إن كان ما يتردد عن تحركات وسط الطائفة العلوية بسبب تزايد أعداد القتلى التي بلغت بحسب مصادر محايدة 110 آلاف قتيل، مع أخبار عن هروب شباب علويين إلى الخارج هرباً من الجندية، وشن النظام لحملة اعتقالات باللاذقية للقبض على الشباب لرفد طاحونة القتل الأسدية ثمناً لبقائه في السلطة، وقد وصلت نار التململ إلى بساط الأسد نفسه بمعقله في القرداحة حيث وقعت اشتباكات بين شباب رفضوا الالتحاق بجبهات القتال وبين قوات الأمن التي تصر على سوقهم للجبهات، واتخذ التململ شكلاً جديداً وخطيراً بتحرك الطائفة الدرزية ورفضها أن تبقى وقوداً لبقاء أسد في السلطة، لا سيما وأن التحرك أتى بعد دعوة الزعيم الدرزي وليد جنبلاط العائد من موسكو أبناء طائفته بالانشقاق عن النظام، فقد رفض أبناء الطائفة الدرزية في السويداء قبول النظام سوقهم للخدمة العسكرية فاندلعت مواجهات دامية بين الطرفين..
أما خطة دي ميستورا المعتمدة فقط على زيارة عواصم وجهات حليفة للنظام حتى أطُلق عليه وزير خارجية أسد، فلا مستقبل لها والتي هي بالفعل خطة الصحافي الإيراني الأصيل نير روزن التي تعتمد على الهدن المؤقتة، تحت شعار حلب أولاً لتجميد القتال، وفي جوهرها طوق نجاة لنظام الأسد الإيراني المتهالك ليتفرغ من بعدها لمناطق أخرى في الغوطة، فالنظام ليس في قاموسه كلمة سياسة إلا بما يخدم تركيع الشعب، ولعل القبض على السياسي العلوي المعارض لؤي حسين بتهمة تهوين الأمة، ولا أدري إن بقي من الأمة شيئاً عمراناً وشعباً أو شعارات بعد أن باعها لإيران، كل هذا يؤكد على أن النظام في حالة تخبط سيما مع تقارير جادة عن طرح أسياده في موسكو وطهران له في البازار العالمي.
الثوار على الأرض قابلوها بالرفض، فالسنوات الأربع من عمر الثورة السورية علمتهم أن الجهود الدولية لم تكن يوماً إلا لتخفيف الضغط على نظام القتل والإجرام، مع رفع العتب عن ما تبقى من ضمير عالمي يؤنب على مأساة الشعب السوري "كارثة القرن".
حين بدأت الثورة السورية كان البعض يتخوف أن يقتلها الطاغية في مهدها، حينها قال سياسي سوري عريق مقيم في الشام إن ما ترونه من موجات مائية شعبية سطحية هي نتيجة لتيارات مائية ضخمة من الغليان الشعبي تحت هذه المظاهرات، ومن قبله قال روبسبيار بأن تيار الثورة الجبار يتواصل بفعل جرائم الاستبداد، أخيراً لا يستعجلن أحد الطريق فتاريخ الثورات العربية الحديثة علمنا أن لا حل بتحالف الثورة وخصمها الممثل بالثورة المضادة، فالدولة العميقة في صالح الأخيرة، وبنظرة سريعة على الوضع في اليمن ومصر وتونس وليبيا يتأكد ذلك، هذه ثورات شعوب إن أردنا تحقيق طموحاتها فلا بد أن يكون الشعار ما قاله الزير سالم" لا تصالح".
د
لا تزال الولايات المتحدة هي سيدة الموقف في الشرقين الأوسط والأدنى؛ هي سيدة الموقف بسبب قوتها العسكرية الأسطورية، وهي سيدة الموقف بسبب أمر آخر وهو أن سائر الأطراف بالمنطقة ومن حولها يريدون وساطتها ويريدون تدخلها سلما أو حربا أو الأمرين معا! وتتساوى في ذلك سائر الملفات العالقة: من قضية فلسطين، وإلى قضية الإرهاب، فإلى الملف النووي الإيراني، فإلى سائر المسائل المتعلقة بالاستقرار في هذه المنطقة المضطربة، ليس منذ الآن، بل منذ نهايات الحرب العالمية الثانية!
منذ عام 2004 أقدمت الولايات المتحدة على نقل الملف النووي الإيراني من الوكالة الدولية للطاقة إلى مجلس الأمن. ومنذ ذلك الحين ظلت التوترات من حول الملف تتصاعد، وقرارات العقوبات والحظورات تتوالى إلى أن بلغت أربعة وأكثر، دون أن يبدو منفذ أو مخرج كما دون أن يبدو خلاف ظاهر في المسألة بين الولايات المتحدة وحليفاتها من جهة، وروسيا والصين من جهة أخرى!
ومع مجيء الرئيس أوباما للسلطة في الولايات المتحدة، طرأ تعديل جذري على سائر السياسات الأميركية في منطقتنا، ومن ضمنها الملف النووي الإيراني. فكما أظهر الرئيس أوباما استماتة في السعي لإنهاء الحروب والنزاعات التي أثارتها إدارة بوش الابن عندنا ومن حولنا، وفي التوسط بين إسرائيل والفلسطينيين، أظهر أيضا حرصا كبيرا جدا على تغيير علاقات الآفاق المسدودة على مدى ثلاثين عاما وأكثر بين الولايات المتحدة وإيران. وما ظهرت لمساعيه تأثيرات واضحة في أي من هذه الملفات الكبرى في فترة رئاسته الأولى، ومن ضمن ذلك العلاقات المتوترة، وإنما غير المنقطعة، بجمهورية إيران الإسلامية. إنما مع فوز الرئيس روحاني عام 2013 حدث اختراق كبير في الاتفاق المبدئي على وضع النزاع مع إيران بشأن النووي على سكة الحل. ويومها أظهرت أطراف عربية دهشة وخيبة باعتبار أن أحدا ما أشرك ولم يعلم باستثناء سلطنة عمان. ومنذ ذلك الحين لا تزال هذه الإحساسات السلبية أو الشكوك في سياسات الولايات المتحدة حاضرة ليس لدى بعض السلطات العربية فقط، بل ولدى الجمهور العربي!
لكن، هل كان الاضطراب في العلاقات الأميركية - العربية عائدا إلى الموقف الأوبامي من النووي الإيراني، أم هو عائد لأمور أخرى؟ كانت العلاقات العربية بالولايات المتحدة فاترة قبل مفاوضات النووي واتفاقاته، بسبب سلوك الولايات المتحدة في العراق الذي غزته ثم غادرته ليقع بالأيدي الإيرانية. وكانت فاترة للموقف الأميركي من المذبحة في سوريا، وهو الموقف الانكفائي حتى بعد سقوط مئات الآلاف من القتلى، وتهجير الملايين، وبعد استخدام الكيماوي ضد السوريين بكثافة، وبعد تدخل الميليشيات الموالية لإيران والآتية من كل حدب وصوب للمشاركة في المذبحة بسوريا إلى جانب الأسد ونظامه! وكانت فاترة لازدياد الانسدادات في قضية فلسطين رغم الجهود الأميركية. وهكذا، فإن الانفراج النووي الحاصل أو المرتقب بين إيران وأميركا ما كان غير القشة التي قصمت ظهر البعير، كما يقول المثل العربي!
ماذا لو حصل الاتفاق النووي، وماذا لو لم يحصل؟ وزير الخارجية العماني يرجو من وراء حصوله خيرا كثيرا للعرب والمنطقة. ورئيس وزراء لبنان يرجو إن حصل الاتفاق أن يسمح لنا الإيرانيون بانتخاب رئيس للجمهورية، بعد مضي سبعة أشهر على خلو منصب الرئيس بالبلاد! وطبيعي ما دام الانطباع لدى بعض العرب على هذا النحو، أن هؤلاء يعتقدون أن إيران متشددة تجاه مناطق نفوذها المتكونة في بلاد العرب بالعراق وسوريا ولبنان واليمن.. إلخ، لأنها تعتبرها أوراقا للمساومة والتبادل مع الولايات المتحدة، وأن استجابة أوباما لإيران في هذا الملف الحساس، ستدفع إيران لفتح قبضتها المتشنجة بحيث تطير منها بعض الأوراق التي تسقط بردا وسلاما على العرب. ومسألة المبادلة أو المقايضة هذه ما ذكرت إيران علنا عنها شيئا، لكن الفكرة واردة لدى الأميركيين على الأقل. فمما تسرب عن رسائل أوباما الأربع السرية لمرشد الثورة الإيرانية، يعرض الرئيس الأميركي التعاون مع إيران في «مكافحة الإرهاب»، إن تنازلت في «النووي»! وإيران من جهتها تقول علنا إنها جندت نفسها لمكافحة الإرهاب دون انتظار للتعاون أو السماح الأميركي. فميليشياتها في سوريا والعراق واليمن ولبنان تقول كل يوم إنها تقاتل ضد التكفيريين، ولحماية مراقد آل البيت من الإرهابيين الذين يريدون تخريبها. والأمين العام لـ«حزب الله» قال أخيرا إنه بسبب شدة حرصه على قتل الإرهابيين يجند سنّة ومسيحيين أيضا من لبنان وسوريا للغرض ذاته. والجنرال سليماني يظهر دوريا على الجبهات بالعراق بمفرده أو إلى جانب المالكي رئيس الوزراء العراقي السابق، متمدحا بالانتصارات التي يحققها على الإرهابيين. وحتى الحوثيين باليمن الذين يرفعون شعارات: «الموت لأميركا»، و«الموت لإسرائيل»، منذ عام 2004 في صعدة وأخيرا في عمران وصنعاء وإب والحديدة، يقولون الآن إنهم ذاهبون إلى مأرب وشبوة وأبين بعد البيضاء والجوف لمقاتلة «القاعدة». وفي هذه المهمة الجديدة تشاركهم الطائرات الأميركية من دون طيار أحيانا، وقوات الحرس الجمهوري اليمني السابق، أحيانا أخرى!
كانت الولايات المتحدة إذن قد غادرت المنطقة وتركتها لإيران، وهي تعود الآن إلى المنطقة دون أن تغادرها إيران، بل هي تعرض عليها البقاء من أجل التعاون والشراكة في مكافحة الإرهاب! فليس بين إيران والولايات المتحدة حاليا إذن غير ملف واحد محل نزاع هو الملف النووي، وفي مقابل التنازل أو التسوية فيه، يجري فك الحصار. وإذا كانت روسيا العظمى تتضايق من العقوبات الأميركية والأوروبية من أجل أوكرانيا، فلماذا لا نصدق أخيرا أن الحصار مضن بالنسبة لإيران، وأنه يمكن أن يكون هو الثمن الذي تطلبه لتأجيل إنتاج القنبلة أو سلاح الدمار الشامل؟! أما البلدان العربية الأربعة على الأقل، التي دخلت عليها وخربتها، فتبقى خارج المبادلة أو المقايضة، باعتبارها غنائم حاصلة! لقد كادت السيطرة الإيرانية بالعراق تنهار على يد «داعش»، وها هي الولايات المتحدة تعيد ترميمها! وما قلت براميل الأسد المتساقطة على رؤوس السوريين بعد التعاون العربي ضد «داعش»!
إن الذين يعلقون آمالا إذن على تنازل إيراني في المذبحة السورية، أو في الرئاسة اللبنانية، أو في مغادرة اليمن، أو في التسهيل في البحرين مثلا، هم واهمون. ولن تبدأ إيران بالتفكير في إدخال تغييرات على سياستها الخارجية تجاه العرب إلا إذا انكسرت ميليشياتها أو حرسها الثوري في مكان ما، بحيث يؤثر ذلك في الداخل الإيراني. إن هذا الانكسار لم يحصل بعد، ولا هو في الأفق المنظور.. ولذا لا داعي للتفاؤل أو التشاؤم العربي إن حصل الاتفاق النووي أو لم يحصل!
يُعتبر الساحل السوري، تحديداً اللاذقية وطرطوس، من المحافظات المدللة في سورية، إذ لم تُمطر السماء فوقها براميل مُتفجرة تؤدي إلى دمار رهيب في المنازل والمُنشآت، وإلى نزوح السكان المتبقين على قيد الحياة، بعد سقوط حمم السماء وصواريخ الأرض، ففي اللاذقية أكثر من مليوني مواطن من حلب وإدلب وغيرها من المناطق الجحيمية المُلتهبة في سورية، كما أن طرطوس تحتضن حوالي مليوني نازح سوري، معظمهم من حمص والقصير وغيرها. لذا، يُمكننا أن نُطلق على الساحل اسم المنطقة المُدللة في سورية. لكن، توضح السطور التالية بعض هذا الدلال.
تكفي نظرة عابرة إلى شوارع اللاذقية، وهي مدينتي التي أسكن فيها ولم أغادرها، أن نرى هضاباً من القمامة في كل الشوارع والأزقة، وأن نرى نساء وأطفالاً ينبشون فيها بحماسة، لكي يأكلوا ويسدوا عضات الجوع في معدتهم، تكفي نظرة عابرة إلى شوارع اللاذقية، لكي نرى مئات الأطفال الحفاة والمُتسخين وشبه العراة، إلا من ثياب بالية يتسولون المُشاة، وأحياناً نراهم يغطون في نوم أشبه بالغيبوبة على الأرصفة، أو في مداخل البنايات أو في الحدائق، تعودت عيوننا على كل أشكال ومظاهر انتهاك براءة الطفولة، هؤلاء الأطفال السوريون الذين كان يُفترض أن يكونوا في المدارس.
تكفي نظرة عابرة إلى صفحات "فيسبوك" والتواصل الاجتماعي، لكي نقرأ آلاف التساؤلات والاحتجاجات حول التقنين المُتزايد للكهرباء والماء. يصرخ أحدهم متسائلاً: قدموا لنا مجرد تفسير لأسباب هذا الانقطاع المُهين واللامنطقي للكهرباء، إذ أصبحت اللاذقية تتمتع بنعمة الكهرباء أربع ساعات في اليوم فقط! أحدهم كتب على صفحته: نحن في فصل الخريف، أي لا أحد يشغل التبريد، ولا التدفئة، فلماذا هذا التقنين الفظيع للكهرباء؟ كيف سيدرس أطفالنا دروسهم في الظلام وعلى ضوء شمعة شحيحة؟ ولكي يكتمل الدلال في الساحل السوري، فإن تقنين الماء ينافس تقنين الكهرباء، ما يعفي سيدة المنزل أن تشغل الغسالة، أو تضع مؤونة في البراد الذي تحول إلى ما يشبه الخزانة، وصارت الغسالة مجرد ديكور في المطبخ، ولجأت سيدات البيوت إلى الغسيل في الطشت، فتشعر الواحدة بأنها من بطلات مسلسل باب الحارة.
أما الغلاء الفاحش والمتزايد يوميّاً للأسعار فيكاد يُصيب المواطن السوري بالسكتة القلبية أو الدماغية، غلاء فظيع لا يتناسب مع الراتب الشحيح الذي يمكن تشبيهه بالحصوة التي تسند خابية، ولأن المواطن السوري تعود أن يطرح أسئلةً، ولا يجد جواباً عنها، فهو لا يملك سوى الصراخ والاحتجاج على صفحات "فيسبوك"، ليقدم له أحد ما سبباً لكل هذا الغلاء، ولانقطاع مواد تموينية وأدوية إسعافية، وغير إسعافية، عديدة. والظاهرة الخطيرة، والتي لم ينتبه إليها أحد، فهي تفشي ما يتسمى أمراض القذارة، كالقمل والجرب، وعادت حبة حلب (الليشمانيا) إلى الانتشار، آكلة وجوه الأطفال وتاركة ندبات رهيبة، كما أن لُقاحات أطفال كثيرة مفقودة، أو غير متوفرة بالكمية الضرورية.
" كيف سيدرس أطفالنا دروسهم في الظلام وعلى ضوء شمعة شحيحة؟ "
أما الحالة النفسية والمعنوية المنهارة، واليائسة يأساً تاماً، للإنسان السوري، وفي الساحل السوري أيضاً، فلا أحد يتحدث عنها، أو يبالي بها، لأنها تُعتبر نوعاً من الرفاهية، فإنسان جائع ومضطر أن يتآلف مع الموت كل يوم، ولا توجد أسرة سورية إلا وخسرت ابناً أو أباً أو أخاً، وتحولوا جميعاً إلى أوراق نعي وشهداء أبطال، أمام حياة هي أقرب وأشبه بالموت وأمام انهيارٍ للبنى التحتية للمجتمع، يبدو الحديث عن الحالة النفسية للمواطن السوري ضرباً من الفنتازيا والنكتة. ما ألحظه، ويلحظه الجميع، حالة الاكتئاب الحاد الشامل لكل فئات المجتمع. وحسب علم نفس المجتمعات، تنتشر هذه الظاهرة بشكل جماعي وتؤدي غالباً إلى انتحارات جماعية، بسبب انعدام الأمل وانسداد الأفق، وفقدان الإيمان بالمستقبل، بل إن مُحللين سياسيين عديدين قالوا، إن السنوات العجاف لم تبدأ بعد في سورية، وإن كل هذا الخراب والموت ونزوح ثلث الشعب السوري ليس سوى مُقدمة، أو توطئة للقادم الأعظم.
من يبالي بخطورة نزف سورية شبابها، من يبالي أو يتحدث عن باخرة مرسين التي تنطلق يوميّاً من ميناء اللاذقية، تحمل أكثر من 400 شاب سوري في اتجاه مدينه مرسين التركية، شباب نخر اليأس والإحباط قلوبهم، ودفعهم ليهاجروا إلى أي بلد، ملقين بأنفسهم في قوارب الموت، وحسب إحصائية، إن أكثر من 3500 سوري ماتوا غرقاً في البحر، وهم يحاولون الهروب من بلد رهيب اسمه سورية. وطن استوطنته كل شياطين العالم، وكل دول العالم تسعى لتصفية حساباتها مع بعضها بعضاً في سورية.
الدلال في الساحل السوري هو للحشرات، مثل القمل والجرب والليشمانيا، حيث تستوطن سعيدة ومُرحب بها، وهو للظلام وشح المياه، وللجوع، حيث ينبش آلاف في القمامة ليأكلوا. الدلال في الساحل السوري هو للاختناق بتلك الكثافة السكانية الرهيبة. هذا هو شكل الدلال في الساحل السوري، فكيف، يا ترى، أشكال الجحيم وتنويعاته في المناطق المُلتهبة.
اعتبر رئيس مجمع تشخيص مصلحة النظام الإيراني، الرئيس السابق الشيخ هاشمي رفسنجاني، أن الأعمال المثيرة للفرقة بين المسلمين، تزيد الخلافات بين السنة والشيعة، غامزا من قناة المغالين الشيعة، رافضا رفعها إلى مستوى العبادات، منتقدا بشدة الإساءة إلى الصحابة والاحتفال بمقتل الخليفة عمر بن الخطاب، معتبرا أن التمسك بهذه الأعمال ساهم بإنتاج «القاعدة» و«داعش» و«طالبان» وأمثال هذه الجماعات.
يتزامن كلام الشيخ رفسنجاني مع التحركات الجدية من قبل أطراف عربية على كل المستويات الرسمية والدينية من أجل الحد من حمى التطرف المستشرية، إضافة إلى مشاركة كثير من الدول العربية بالحرب على «داعش» من دون شروط، والمبادرة في ملاحقة دعاة التشدد والحد من تأثيرهم على محيطهم، وتجفيف مصادر تمويلهم، بينما يستمر البعض في طهران بدعم جماعات شيعية متطرفة تمارس «داعشية» انتقائية، تختلف بأسلوبها عن تنظيم الدولة الذي لم يميز في ارتكاباته بين سني وشيعي أو مسيحي أو إيزيدي.
ما لم يجرؤ رفسنجاني على قوله، هو أن وقوف نظام طهران، منذ أكثر من 3 سنوات، إلى جانب نظام بشار الأسد، ودعمه بكل ما أوتي من قوة، أخذ بعضها طابعا عقائديا، وتسخير كل إمكانياته المادية والعسكرية والبشرية، وإرسال ميليشياته إلى دمشق ومناطق سورية أخرى، من أجل إركاع السوريين وقمع تطلعاتهم المحقة في الحرية والعيش الكريم، كان أحد الأسباب الرئيسية في إحياء هذه الجماعات المتطرفة، وتوفير البيئة الحاضنة والداعمة لها، خصوصا بعد أن رفضت طهران الاستماع إلى أصوات العقل، التي ناشدتها الاعتراف بحق الشعب السوري في تقرير مصيره، وفتح إصرارها على دعم الأسد شهية المتطرفين السنة، الذين وجدوا بذلك ذريعة من أجل تبرير «هجرتهم الجهادية» إلى الشام، معتبرين هجرتهم دفاعا عن حياض المسلمين.
لم يخلُ التاريخ الإسلامي منذ الفتنة الكبرى إلى يومنا هذا، من اختلافات فكرية وفقهية وصلت في بعض الأحيان إلى خلافات، أنتجت استقطابات، تحولت إلغاء وتكفيرا أوصلا إلى القتل المتبادل بين الفرق الإسلامية. ونحن نشهد الآن سلفية جهادية سنية، في مواجهة مفتوحة مع أصولية جهادية شيعية، يطمع كل طرف فيها بالانتصار على الآخر، إما بالترهيب أو بالإلغاء.
فيما المطلوب هو دعم الاعتدال في المجتمعات التي خرجت منها هذه الأصوليات، وكما جرى مع صحوات العراق والحرب التي قادتها الرياض والعواصم الخليجية على «القاعدة»، وتقودها الآن على «داعش»، في حين إن طهران لم تحرك ساكنا تجاه الجماعات المتشددة التابعة لها في العراق وسوريا حتى الآن، وما زالت تمارس القتل نفسه الذي تمارسه «داعش» وأخواتها لكن بعيدا عن عدسات الكاميرات.
مما لا شك فيه أن الشعب هو منبع كل ثورة تخرج ضد الظلم و الطغيان ، و أن الشعب هو أساس كل تحرك يهدف الى تغيير نظام حكم اضطهده و سلب حقوقه و حاربه بلقمة عيشه ، و لا ريب أن الشعب هو المحرك و المولِّد لكل إنتفاضة تخرج ضد نظام أو حزب إستبدادي تطالبه بالرحيل و تنشد التغيير ، و من هنا من هذا الشعب تولد الثورات ، تبدأ بحدثٍ صغير يكون تلك “القشة التي قصمت ظهر البعير” و لا يلبث أن يتحول الحدث الى شرارة يشتعل بها أتون الغضب و الحقد على من إستبد و ظلم و تحكم ، و لا تلبث هذه النيران المتقدة بالقلوب و العقول ، المتولدة من جحيم المعاناة و التعب و شظف العيش ، أن تتحول إلى ثورة عارمة .. يحوطها الشعب و يرعاها ..يؤيدها و يكلؤها بعين رعايته ، يأمن لها أسباب العيش و الإستمرار و يوفر لها الحضن الدافئ و الحامي ..
هي الثورة السورية كما كل الثورات على مر التاريخ ، ولدت من رحم الشعب ، و خرجت من خاصرته بما رافق هذا الخروج من الم و مكابدة و صبر ، لتنتفض ضد نظام إستبد بوطن ما يزيد على خمسة عقود ، نظام استبد و قتل و أجرم و سرق و نهب ، هي ثورة فطرية عفوية بدأت بكتابات أطفال على جدران مدارسهم لتستعر كما النار بالهشيم و تنتقل من جدران مدرسة لتغدو على مساحة كل شبر بأرض الوطن ، ثورة بدأت سلمية و استمرت كذلك ما وسعها الأمر ، و بفطرتها السليمة كذلك و عفويتها بدأت بالتحول للعسكرة لتدافع عن نفسها ضد بطش لم يُشْهد له نظير بالتاريخ ، حملت السلاح لتطبق معايير كل الديانات السماوية و الأعراف الإنسانية بحق رد الظلم و حفظ النفس ، و بدأت كتائب الثوار بالتشكل و الظهور ، فظهر الجيش الحر الذي كان إبن ثورة الشعب البكر ، يحمل خصائصه و تفاصيله ، يحوي أطيافه و إثنياته ، و يرفع راية إستقلاله عن المستعمر ، لا يتميز فيه ثائر عن ثائر الا بالخلق و الشجاعة و الاقدام و ما يحمله من فكر و حرية ، ليظهر بعده تشكيلات مختلفة و فصائل متعددة و رايات متباينة ، كل منها له هدف و يقوده منهج و يحركه فكر ، منها المعتدل و الإسلامي و المتطرف و المغالي بالتطرف .
تحولت الثورة للعسكرة ، و باتت تشكيلاتها تتنازع المناطق و الاهداف و الوجود و الموارد ، و لم تنسَ هذه الفصائل بطبيعة الحال أهم سبب من أسباب قوتها و اهم مصدر من مصادر شرعيتها ، و أقوى محرض على استمراريتها و هو الشعب .. تلك الحاضنة الإجتماعية الأساس و المركز ، فسعت التشكيلات و الفصائل إلى كسب ودها و استقطابها كل منهم على حساب الفصائل و التشكيلات الأخرى ، و كما تعددت مشارب و أهداف هذه الفصائل فقد تعددت أساليبهم بجذب هذه الحاضنة الشعبية تجاههم ، فمنهم حاورها و اندمج بها و اعانها قدر استطاعته ، و منهم من تكبر عليها و أهملها و منهم من حاول سوقها بالحديد و النار و القهر و الإرهاب ، و منهم من ظن انه الوصي الشرعي عليها بعد تقهقر النظام من بين ظهرانيها ، و مارس أغلبهم البراغماتية المحضة بداية بالتزلف لنيل رضاها و التقرب منها ، ثم اظهر وجهه القبيح بأهدافه المناطقية أو الشخصية او الأيدولوجية ، فلفظته الحاضنة الشعبية التي عولت عليه و عول عليها .. لينتهي التشكيل او يضمحل او يتقوقع على نفسه برأس جبل او بطن وادي.
الثورة السورية ثورة مُمحِصةٌ كاشفة ، و الحاضنة الشعبية تحوي بوعيها الجمعي حضارة عمرها آلاف السنين ، و الشعب الذي أطلق هذه الثورة “بمشيئة الله” قادر على ان يميز الخبيث من الطيب ، و ان يفرق بين الغث و السمين ، و لكنه شعب كَهلْ صقلته التجارب و السنون ، يعطي الفرصة لمن يطلبها ، و يتمهل بالحكم ليرى النتائج ، و لكنه لا يصبر على ضيم ، و لن يستبدل مستبد بمستبد .. فليعي من يتطلع ليلي أمره بالسلاح او بالسياسة .. ان يحقق طموحات هذا الشعب و ان يلامس ألمه و ان يثبت عزمه على تحقيق أمله .. فبهذا يستمر و بهذا يحوز رضاه و بهذا يمتلك قلوب و عقول “الحاضنة الشعبية”
في وقت ما من العام الماضي ربما، اكتشف أحد الذين يقفون على رأس قيادة نظام الأسد في دمشق، دليلا استعماريا كتبه الفرنسيون ويدور حول كيفية السيطرة على سوريا. ويعكس ذلك الدليل السياسة العدوانية التي انتهجها الرئيس الفرنسي السابق ألكسندر ميلران، إذ يوصي الدليل بتطبيق سلسلة من الحيل تهدف في مجموعها إلى السيطرة على الدولة المتكونة حديثا ضد رغبات غالبية شعبها.
وقد صممت الأساليب المذكورة لتتناسب مع «بلقنة» سوريا الكبرى واستدعاء سياسة «فرق تسد» بناء على وعود بإقامة عدة دويلات تحكمها الأقليات. ومن واقع الحقيقة القائلة بأن الرئيس ميلران كان اشتراكيا وكان من المفترض أن تكون الدولة الفرنسية ذات طابع علماني، فلا كان هو اشتراكيا محضا ولا هي علمانية صرفة.
من أبرز وصايا الدليل الاستعماري المذكور، هناك اثنتان مهمتان؛ أولاهما تركيز الإدارة الاستعمارية مواردها على السيطرة على ما وصفته بـla Syrie utile أو «سوريا المفيدة». ويقصي ذلك المفهوم أكثر من نصف أراضي سوريا، التي تتألف من صحراء قليلة السكان. وبدلا من ذلك، يسلط الضوء على قيمة الشريط الساحلي ما بين دمشق ومدينة حلب على ساحل البحر المتوسط، وهي أكثر مدن البلاد اكتظاظا بالسكان، وطريقين رئيسيين؛ أحدهما يربط سوريا بلبنان في الجنوب، والآخر يربطها بتركيا في الشمال الشرقي. وعبر مراحل النضال الوطني السوري من أجل الاستقلال، تابع الفرنسيون تلك الوصفة بحماس عجيب.
واليوم، فإن ذلك هو ما يحاول نظام الأسد القيام به بالضبط.. فقد انسحبت قوات النظام من غالبية الأراضي لأجل تركيز الموارد المتاحة على «سوريا المفيدة». أما الفراغ الذي خلفه ذلك الانسحاب، فأدى إلى ظهور عشرات الجماعات المسلحة في «أرخبيل الجهاد» الممتد من الجنوب الغربي وحتى الشمال الشرقي. ووفقا لأفضل التقديرات، فإن نظام الأسد يسيطر حاليا على نحو 40 في المائة من التراب الوطني. ولا تزال تقديرات عدد السكان القاطنين في تلك المساحة من البلاد محل شكوك، حيث تتراوح التقديرات بين 35 في المائة و60 في المائة من إجمالي عدد السكان. ويعود ذلك التناقض في جزء منه إلى حقيقة أن كثيرا من سكان سوريا مسجلون بوصفهم لاجئين لدى لبنان، والأردن.. وإلى حد ما، قضى بعض السكان جزءا من أوقاتهم في تركيا على مقربة من منازلهم السابقة، محدثين ما يوصف بـ«حركة المد والجزر البشرية» التي تشكل جزءا من التناقض ذاته.
وتضمنت النصائح الاستعمارية الفرنسية أيضا، وربما بمزيد من الأهمية، حيلة هي: تجنيد أفراد في الشرطة والجيش من بين الأقليات الدينية والعرقية. ولأجل تحقيق تلك الغاية، طُبقت مجموعة أخرى من الحيل.
فمن خلال التباهي بـ«هوية الجمهورية العلمانية»، قولبت فرنسا نفسها في دور «حامي حمى المسيحيين في بلاد الشام».
ومولت الحكومة الفرنسية جهود إرسال عشرات الأقليات المسيحية إلى الداخل السوري، وسددت تكاليف ترميم كنائسهم هناك، وشجعت نشر التعاليم المسيحية في كثير من المدارس، وهو الأمر المحظور في فرنسا ذاتها.
ثم توددت فرنسا إلى «الطائفة النصيرية»، التي تغير اسمها لاحقا ليكون «الطائفة العلوية»، بوعود بإقامة دويلة صغيرة على طول الشريط الساحلي للبحر الأبيض المتوسط. وابتلعت الطائفة النصيرية تلك الحيلة الفرنسية وصارت من أشد المؤيدين للوجود وللحكم الاستعماري الفرنسي في البلاد.
وتوددت فرنسا كذلك إلى الأكراد، وهي الأقلية العرقية الرئيسية في الشمال الشرقي من البلاد، وذلك عن طريق تأسيس معهد لدراسات ثقافتهم العرقية، والسماح بحرية التحرك عبر الحدود مع الدولة التركية الناشئة حديثا، ومع العراق كذلك. أما بالنسبة لبقية الأقليات، ومن بينهم الدروز والتركمان، فقد استمالتهم فرنسا أيضا بمجموعة متنوعة من الحيل، ومن بينها دعوات وجهت لزعماء تلك الأقليات لزيارة باريس والسماح لأبنائهم بالدراسة في المدارس الفرنسية الراقية.
بُذلت كل تلك الجهود تحت مظلة ثيمة رئيسية واحدة، ألا وهي التحذير الفرنسي من أن عدم التعاون مع الحكم الاستعماري للبلاد سيؤدي إلى إبادة الأقليات السورية على يد الأغلبية السنيّة المسلمة. وللتيقن من وصول الرسالة للقاصي والداني، قام الفرنسيون برشوة عدد من قادة المجتمعات المحلية. وتظاهر الشباب في تلك الأقليات بالتطوع لخدمة فرنسا.. أما من الناحية العملية، رغم ذلك، فقد تعرض كثيرون من أولئك الشبان للاختطاف على يد عصابات التجنيد وأجبروا على الالتحاق بالخدمة في الجيش والشرطة الاستعمارية.
يوثق السيد دانيال نيب في كتابه الرائع «سوريا تحت الانتداب الفرنسي»، الذي نُشر في عام 2012، لحالة العنف التي استخدمها الاستعماريون الفرنسيون للاحتفاظ بسيطرتهم على البلاد بمعاونة المجندين من الأقليات.
واليوم، يستخدم نظام الأسد حيلا مماثلة من خلال محاولة تعزيز «تحالف الأقليات» عن طريق استخدام البعبع السني المسمى «داعش»، أو «ISIS» اختصارا باللغة الإنجليزية. ومن السهولة بمكان تناسي أن «داعش» قتل بالفعل كثيرين من المسلمين السنّة ودمر كثيرا من البلدات والقرى السنية. وبالتالي، فإننا نرى مشهدا غريبا للغاية يتشارك فيه تنظيم «داعش» مع نظام بشار الأسد في رقصة الموت الثنائية.
أخبرتني مصادر من الأقليات المسيحية والدرزية والتركمانية أن عصابات التجنيد، التي تضم فيما بينها أحيانا عناصر من مقاتلي «حزب الله» اللبناني ومعلميهم من إيران، تحاول إجبار أو إغراء بعض الشباب على الالتحاق بآلة القمع الأسدية نصف المتهالكة والمدعومة من موسكو وطهران.
ليس استخدام جنود الأقليات في خدمة الحكم الإمبريالي بالشيء الجديد؛ فلقد كان جيش الملك الفارسي زركسيس الذي اجتاح أثينا قديما يتألف في معظمه من جنود الأقليات من مختلف أصقاع الإمبراطورية الفارسية. وفي روما، استخدم الملك «سكيبيو الأفريقي» جنودا من هيسبانيا وأفريقيا في حملته الناجحة ضد القرطاجيين تحت قيادة هانيبال. ومنذ عصر الإمبراطور أغسطس فصاعدا تكوّنت أكثرية الفيالق الرومانية من جنود الأقليات من القارات الثلاث.
أما في الآونة الأخيرة، فاعتمدت الإمبراطورية البريطانية في الهند بشكل أساسي على المجندين من تلك الأقليات مثل المسلمين والسيخ، ناهيك بأقلية «الغوركا» النيبالية (المعروفة فارسيا باسم: «الباحثون عن المقابر»)!. وقد أسست فرنسا الفيلق الأجنبي لتجنيد الأقليات من جميع أنحاء العالم. وقد بنى الملك البلجيكي ليوبولد لنفسه إمبراطورية في أفريقيا من خلال جيش من المرتزقة جنده من أكثر من 30 جنسية مختلفة.
وأحد الدروس المستفادة من التاريخ أنه حتى أفضل الجيوش تدريبا وتنظيما إذا تألف في معظمه من الأقليات، فلا يمكنه الحيلولة دون زوال نظام مفروض ضد رغبات الأغلبية. ورغم تمتعهم بوفرة في العتاد والسلاح، فإن البريطانيين أُجبروا في نهاية المطاف على التخلي عن إمبراطوريتهم الهندية. وفشل الفرنسيون في ترويض سوريا، ومن ثم الاحتفاظ بقبضتهم على الجزائر، على الرغم من التجنيد واسع النطاق للمقاتلين الجزائريين الموالين لهم.
من غير المتوقع لنظام الأسد ومن يدعمونه في طهران وموسكو، أن يخرج أداؤهم بصورة أفضل. ومع ذلك، ومن خلال تلك اللعبة الخبيثة من وضع مختلف المجتمعات والأقليات في مواجهة بعضهم بعضا، يمكنهم أن يخرجوا بقالب جديد من الشكوك والكراهية المتبادلة التي سوف تجد سوريا المستقبلية، المحررة كما نأمل جميعا، صعوبة شديدة في تجاهلها في المراحل الأولى من النهضة الوطنية الجديدة على أدنى تقدير.
ليست الحرب في سوريا بين الأغلبية والأقلية من سكان البلاد؛ بل إنها حرب بين الشعب السوري بأسره، الذي يرغب في الحياة بحرية وكرامة، ضد نظام الأقلية الحاكمة الذي يزعم أن له توجهات اشتراكية، وعلمانية عربية، ومع ذلك، فهو يلعب لعبة استعمارية مثالية بالنيابة عن سادته في الخارج.
لطالما كان ينتابني الخوف، حين أعبر الحدود اللبنانية زائراً دمشق. ولطالما كنت أصاب بالقلق، كلما كان عليَّ أن أراجع فرع فلسطين في منطقة "عين الكرش"، لأطلب الموافقة لمغادرة دمشق، عائداً إلى لبنان، بعد أن أكون قد حصلت على موافقة من المخابرات لدخولها. كان هذا في السبعينيات وإلى منتصف التسعينيات، فقد كان على الفلسطيني المقيم في لبنان أن يحصل على موافقة المخابرات السورية، للدخول إلى سورية والخروج منها. لكي تعرف هذه الأجهزة متى دخلت ومتى خرجت، حتى ولو كان هدفك مجرد زيارة ليوم واحد، ترى فيها الأقارب اللاجئين هناك منذ عام 1948.
ومع صعوبة الرحلة، وما تحمله من قلق وخوف، كنت أحبّ سورية، وكنت أحس بأنني سوري، فقد تأثرت في مراهقتي المبكرة بكتابات أنطون سعادة، وإن لم أقترب من حزبه. كانت لغته العربية هي ما جعلتني ألجأ إلى أفكاره، أو ربما اعتزازه باللغة وآفاقها الرحبة في بلاد الشام.
منذ الأيام الأولى للانتفاضة الشعبية السورية ضد نظام الاستبداد البعثي في مارس/ آذار 2011، وجدتني مندفعاً في تأييدها في ما يشبه زعزعة الروح. لقد عشتها كسوريّ، لا بل عشتها كفلسطيني، أو ربما كسوري، ولكني حتماً عشتها كفلسطيني، فقد كنت، دائماً، أعتقد أن النظام البعثي في سورية استكمل في تعامله مع الفلسطينيين ما بدأته إسرائيل، منذ قطّعت أوصال فلسطين، وقطعت زمنها ومسارها الطبيعي، حين هشمت كينونتها، وأحدثت ذلك القطع القسري في تاريخها وجغرافيتها، وجعلت من هذه الكينونة نتفاً جهد الشعب الفلسطيني، بكل عناصره، في لملمتها، وإعادة تشكيلها جسماً يقاوم الزمن، ويخلق من الألم والتشظي فسحة لإعادة تشكيل الذات التي تعرضت إلى أبشع عملية ذبح.
كفلسطيني مقيم في لبنان، عشت تجربة الصراع الدموي الذي خاضه النظام البعثي السوري ضد الوطنية الفلسطينية، كما ضد الوطنية اللبنانية، وخبرت سعيه الدؤوب إلى إحكام قبضته الخانقة لشعبه على مصير القضية الفلسطينية، وقد وصلت سياسته تلك إلى ذروتها في الحرب الأهلية اللبنانية، وتدخله العسكري في لبنان، لتحجيم الحركة الوطنية الفلسطينية، وحشرها تحت إبطيه ورقة للمساومة، هي وشقيقتها الحركة الوطنية اللبنانية.
كنت في مخيم عين الحلوة حين قصفت راجمات الصواريخ السورية، روسية الصنع، المخيم ومدينة صيدا، وقتلت عشرات المدنيين بلا تمييز، وكنت في بيروت، حين قدّم النظام دعمه الفاعل لميليشيات الكتائب في حصار تل الزعتر، وتدميره لاحقاً. وكنت في صيدا، حين تم حصار المخيمات في شاتيلا وبرج البراجنة والرشيدية، فيما سميّ حرب المخيمات التي دعم فيها النظام حركة أمل. وزرت مخيم البداوي صحافياً، أسابيع قبل قصف النظام وأتباعه المخيم لإجبار ياسر عرفات ورفاقه للخروج من لبنان نهائياً عام 1983، لإضعافه وإضعاف موقفه السياسي أمام الضغوط الدولية، ودفعه لاحقاً إلى اللجوء مطروداً من شمال لبنان، على بواخر فرنسية إلى مصر كامب ديفيد، في طريق عودته إلى تونس.
في السنوات الأربع الأخيرة من النزيف السوري، لم أجد نفسي بعيداً عن آلام الشعب السوري، ولو قيد أنملة، وقد رأى بعض أصدقائي أن ما يدفعني إلى هذا الموقف ليس أكثر من أسباب شخصية، فقد قُتل أخي نزار في صيدا في يونيو/ حزيران، حين اقتحمت الدبابات السورية المدينة. وذهب بعض هؤلاء الأصدقاء بعيداً في تفسير موقفي (الشخصي)، لأن زوجتي سورية، وهي، مثل سوريين كثيرين، لم يعد في وسعها العودة إلى بلادها، بسبب القمع الوحشي الذي يمارسه النظام ضد معارضيه.
تلك هي الزعزعة التي أصابت روحي، منذ صرخ الشعب السوري منادياً بحريته، فلم يعد ممكناً، لا على المستوى الشخصي، ولا العام، أن أقبل المواقف التي تبرر لهذا النظام وحشيته، ولم أعد آسفاً على اندثار بعض الأصدقاء من حياتي.
في مناسبة اليوم العالمي للطفل، أو حقوق الطفل، ضمن صيغة أخرى لإحياء المناسبة؛ رصدت «الشبكة السورية لحقوق الإنسان» الإحصائيات التالية حول الطفل السوري: مقتل 17.268 بأيدي قوّات النظام المختلفة، بينهم 518 برصاص القناصة؛ واعتقال 9500، قضى منهم تحت التعذيب ما لا يقلّ عن 95 طفلاً؛ وجرح 280 ألفاً، ونزوح 4.7 مليون، وحرمان 2.9 مليون طفل لاجىء، ومليونَيْ طفل داخل سوريا، من التعليم. هنالك، إلى هذا، 18.273 تيتموا لجهة الأب، و4573 لجهة الأمّ، ضحايا قوّات النظام في الحالتين؛ كما ولد في مخيمات اللجوء قرابة 85 ألف طفل. فصائل المعارضة المسلحة المختلفة كانت، من جانبها، مسؤولة عن مقتل 304 أطفال، و»داعش» قتلت ما لا يقلّ عن 137 طفلاً، واعتقلت 455، وجندت المئات…
كلّ هذه الويلات، فضلاً عن أكثر من 130 ألف قتيل، وتخريب الزرع والضرع والحجر والعمران والبنى التحتية واقتصاد البشر وأوابد التاريخ؛ وقعت دفاعاً عن بقاء نظام «الحركة التصحيحية»، ذلك الانقلاب العسكري الذي نفّذه حافظ الأسد ضدّ رفاقه في الحزب والحكم، والذي مرّت، يوم 16 من هذا الشهر، 44 سنة على جثومه فوق صدور السوريين: 30 سنة تحت نير حافظ الأسد، و14 سنة تولاها وريثه بشار. ومنذ العلائم الأولى لابتداء سيرورة إعداد الإبن الثاني لوراثة الأب، بعد مقتل الإبن الأوّل، باسل، سنة 1994؛ كنتُ، وهكذا أظلّ اليوم أيضاً، في صفّ الذين آمنوا بأنّ الوريث ليس سوى وليد الماضي، كما أنه صنيعته ورهينته في آن معاً؛ ولا مفرّ له من أن يحكم في إهاب المشارك الفاعل والأساسي في عمليات إعادة إنتاج الماضي وتكريسه وشرعنته، وإسباغ القدسية عليه أيضاً.
كما آمنت، استطراداً، أنّ نظام الأسد الابن، لأنه استمرار صرف لنظام الأسد الأب، ولأنه معدَّل نحو الأسوأ في بنود كثيرة؛ لن يكون عاجزاً عن التطوير والتحديث والتغيير والإصلاح، وسوى هذه من مفردات جرى التشدّق بها في تدشين التوريث، فحسب؛ بل يظلّ، من حيث طبيعته البنيوية ذاتها، مناهضاً لعناصر التبدّل تلك، عازفاً عنها إرادياً، ومعادياً لها موضوعياً: أية بارقة تحوّل جوهري سوف تهزّ الكثير من أركان عمارة النظام، ولعلها تؤذن بأولى علائم تفسّخه وتداعيه. ولقد احتاج الأمر إلى أسابيع قليلة ـ أعقبت كارنفالات التهريج على مقاعد ما يُسمّى «مجلس الشعب»، وتعديل الدستور (الهزيل، الفردي، الدكتاتوري… الذي فُصّل على قياس الأسد الأب نفسه!) بما يلائم سنّ الإبن الذي لم يكن قد بلغ الأربعين يومذاك ـ حتى أثبت الوريث أنه أبن أبيه، في الاستبداد والفساد والسلطة العائلية والتخريب الوطني والحشد الطائفي… بل زاد على الأب، وبزّه، في التشبث بسلطة متوّجة بالدماء والجماجم والخراب والكوارث.
ففي المناسبة الدستورية الأولى لعهده، أي الاستفتاء الرئاسي، كانت الموافقة بنسبة 97.29٪ بمثابة لطمة عنيفة ذكّرت المواطن السوري بما كان يتكرّر في الماضي من نِسَب مماثلة عند التجديد لانتخاب الأسد الأب؛ الأمر الذي شكّل، في كلّ مرّة، مصادرة صريحة للعقل الطبيعي والمنطق السليم. وكانت تلك النتيجة تؤكد سريان مبدأ انطباق الحافر على الحافر، لجهة علاقة السلطة مع الشعب، ثمّ مع القانون والشرعية والحقّ؛ كما كانت خطوة، مبكرة وفورية، على طريق وضع سوريا في فجر السنة الأولى من عقود «الحركة التصحيحية ـ 2».
وفي المناسبة الدستورية الثانية، أي خطاب القسم الشهير، أعلن الأسد أنه لا يملك «عصا سحرية لتحقيق المعجزات». وفي الواقع لم يكن أحد يطالبه بإشهار عصا سحرية، أو يفترض الحاجة إليها؛ قبل أن يتمكن «الرئيس الشاب» ـ كما كان يُلّقب، حتى في أوساط بعض المعارضين ـ من إلزام نفسه أمام الشعب بإلغاء الأحكام العرفية، أو إعادة تنظيم الحياة السياسية بما يكفل بعض التعددية وبعض الحريات في التعبير والتجمّع والتنظيم، أو إصدار عفو عام، أو سنّ جملة من القوانية الإدارية والتنظيمية «التي بات المجتمع بحاجة ماسة إليها»، على سبيل الأمثلة فقط.
وفي المناسبة الدستورية الثالثة، أي بدء أعمال ما يُسمّى «مجلس الشعب» الجديد، ربيع 2003؛ شنّ الأسد حملة شعواء على المعارضة السورية، بحيث بدا وكأنها السبب الوحيد في بلاء سوريا، والورم الخبيث الذي يتوجب استئصاله على الفور، دون تهاون أو شفقة أو تردد! النظام، الرأكد العاجز عن التبدّل والتطوّر والإصلاح، ليس جوهر المشكلة، أو أمّ المشكلات جميعاً؛ بل هي المعارضة التي تجهل معنى مصطلح الديمقراطية، أو تسيء فهمه، أو تطرحه في غير أوانه. والفاسدون، الذين ينهبون الوطن ويستنزفون طاقاته وثرواته، ليسوا مصدر قلق أو سخط؛ بل هم المعارضون الذين يرون أنّ الديمقراطية «حلّ لعقدهم النفسية على حساب الآخرين»!
في السياسة الخارجية لـ»الحركة التصحيحية»، كانت تسعة أعشار الخطوط العريضة التي صاغها الأسد الأب مسخّرة لخدمة الهدف الأكبر والأساسي، أي الحفاظ على أمن النظام واستمراره في البقاء، وخلق شروط داخلية وإقليمية تُكسبه ما أمكن من أسباب القوّة والمنعة والقدرة على المناورة الواسعة، وتنظيم الهجوم المضادّ في الوقت المناسب. هدف آخر، مكمِّل في الواقع، كان يسعى إلى ضمان سكوت القوى الكبرى عن سياسات الاستبداد والبطش وقهر الحرّيات التي يمارسها النظام ضدّ الشعب في الداخل (وأبرز الأمثلة عليه ذلك السكوت الدولي الفاضح عن حملات الاعتقال المتواصلة، وسلسلة المجازر التي ارتكبها النظام بين 1979 و1982، خصوصاً مجزرة حماة، 1982).
كذلك توجّب أن تخلق السياسة الخارجية ما يشبه الاقتصاد التمويلي، كما في ابتزاز مجلس التعاون الخليجي عن طريق التحالف مع إيران أثناء الحرب العراقية ـ الإيرانية. وتوجّب أن تُستثمر جميع خيارات السياسة الخارجية في تحويل النظام إلى لاعب إقليمي لا يُستغنى عنه، سواء عن طريق تقديم الخدمات (المشاركة عسكرياً في تحالف «حفر الباطن»)، أو التلويح بإفساد هذه اللعبة أو تلك (بسط السيطرة على لبنان، وتوظيف ورقة «حزب الله» بصفة خاصة، واحتضان «جبهة الرفض» الفلسطينية، وتحويل القضايا الكردية إلى ورقة مقايضة وضغط على تركيا والعراق عن طريق رعاية «حزب العمال الكردستاني» أو دعم جلال الطالباني، أو تطويع بعض التنظيمات السياسية الكردية في منطقة الجزيرة…).
وبالطبع، كان من البديهي أن تدخل في هذا المخطط رغبة جامحة، في استرداد ما يمكن من أرض الجولان المحتلّ؛ خصوصاً وأنّ الأسد الأب كان وزير الدفاع حين سقطت الهضبة تحت الاحتلال الإسرائيلي، خلال هزيمة 1967، وكان رئيس الجمهورية حين خسرت سوريا المزيد من الأراضي والهضاب والتلال الستراتيجية في حرب تشرين 1973. وطيلة أربعة عقود ونيف من حكم «الحركة التصحيحية»، عرف خطاب السلطة الكثير من المصطلحات القوموية المتنافرة المتضاربة، والجوفاء الزائفة؛ مثل «فلسطين قبل الجولان»، و»التوازن الستراتيجي»، و»السلام العادل الشامل». ولكنه أيضاً شهد افتضاح المقولات، وانكشاف الشروط، وتحرّر اللغة من المحرّمات؛ وذلك منذ أن نطق الأسد الأب بـ»كلمة السحر»، على حدّ تعبير المعلّق الإسرائيلي زئيف شيف، في لقائيه مع الرئيس الأمريكي الأسبق بيل كلينتون (جنيف ودمشق)، حين أعلن أنّ «السلام خيار سوريا الستراتيجي، ولا رجعة عنه».
وإذْ ترتبط ويلات الطفل السوري، اليوم، بويلات سوريا كلها، على امتداد 44 سنة؛ فإنّ هذا الماضي لا يستقبل أواخر أيام «الحركة التصحيحية»، ويؤشر على احتضار استبدادها وفسادها وحكمها العائلي، فقط؛ بل يبشّر السوريين بآخر الأحزان، أيضاً، وختام الآلام.
في 30 أكتوبر/تشرين الأول 2014، عرض المبعوث الأممي إلى سوريا ستفان دي مستورا على مجلس الأمن الدولي، خطة تحريك للوضع تقوم على إنشاء مناطق "خالية من النزاع"، وصفها "بالمناطق المجمدة"، مشيرا إلى أنها قد تبدأ بمدينة حلب. وبعد لقائه الرئيس السوري بشار الأسد في دمشق يوم 10 نوفمبر/تشرين الثاني الجاري، قال دي مستورا في بيان إنه "أحيط علما بعزم السلطات السورية العمل مع الأمم المتحدة لإيجاد أرضية مشتركة لتنفيذ اقتراحه حول تجميد الصراع بشكل تدريجي".
"مصطلح المناطق المجمدة ليس له رديف في معجم القانون الدولي، فهناك مناطق عازلة، ورديفها محايدة، وثمة مناطق منزوعة السلاح وأخرى عسكرية (أو أمنية)، ورابعة ذات حظر جوي، وخامسة محتلة، وسادسة خاضعة للوصاية"
بداية، يمكن القول إن مصطلح "المناطق المجمدة" ليس له رديف في معجم القانون الدولي، على الرغم من أن بمقدور الباحث العثور عليه في بعض دراسات الجيوسياسة التاريخية، سيما تلك التي صدرت في فرنسا.
في القانون الدولي، هناك مناطق عازلة ورديفتها محايدة، وثمة مناطق منزوعة السلاح وأخرى عسكرية (أو أمنية)، ورابعة ذات حظر جوي، وخامسة محتلة، وسادسة خاضعة للوصاية. وهناك تقسيمات قانونية فرعية لكل نوع من هذه المناطق.
في ما يرتبط بمصطلح "المناطق المجمدة"، يمكن الحديث عن ثلاثة مفاهيم متباينة تتقاطع فيما بينها، دون أن يعبر أحدها عن الآخر. المفهوم الأول عسكري، والثاني مدني، والثالث سياسي.
يدور المفهوم العسكري حول وقف الأعمال الحربية، أو العسكرية عامة. ويشمل ذلك توقف الاشتباكات و/أو/ إخراج الأسلحة الثقيلة، وخروج القوى المسلحة -جزئيا أو كليا- من الأحياء والأماكن المعنية.
هذا المفهوم أشبه بالحاجز الفيزيائي الذي لا يُغيّر شيئا من طبيعة المعطيات السابقة له أو اللاحقة عليه، في حين أن هذه المعطيات (السابقة واللاحقة) قد تتغير في وقت ما استنادا إلى عوامل ذاتية، أو ذات صلة بالمحيط الأوسع.
وبمعنى آخر، إذا افترضنا أن حلب المدينة ستكون "منطقة مجمدة"، فإن هذا التجميد في حال استناده إلى مفهوم عسكري، لن يُغيّر من جوهر المعادلة الأمنية القائمة فيها، حتى بافتراض سحب الأسلحة الثقيلة، وانسحاب قسم من المجموعات المسلحة، فجوهر الأمن لا يتغيّر بمجرد حدوث تحوّل جزئي في موازين القوى، أو في معادلة القوة ذاتها.
من ناحيته، يشير المفهوم المدني للمناطق المجمدة إلى عملية شبيهة بالدفاع السلبي. وهذا المفهوم -أو التجلي- مفيد في بعض نواحيه، لكنه ليس مثاليا.
في جوهره، يشير المفهوم المدني إلى تطبيع الحياة العامة دون المساس بخارطة القوة، والانتشار العسكري لفرقاء الصراع.
وفي ظل هذا المفهوم، يجري وضع الترتيبات اللازمة لضمان الحركة الحرة والآمنة للمدنيين، والتأكد من قدرتهم على مزاولة أنشطتهم الحياتية والاقتصادية، والاطمئنان إلى انسياب السلع والخدمات الأساسية.
هذا المفهوم -رغم جاذبيته وارتباطه بالضمير الوطني- يُمثل في جوهره أو في خواتيمه نوعا من إدارة الأزمة، ولا يُشير بالمدلول الإجرائي إلى ما هو أبعد من ذلك.
"استنادا إلى أن قاعدة أن السياسة لا تمثل على الدوام امتدادا خطيا للأمن، فإنه -بالنسبة لنظام الأسد- عوضا عن الإمساك عسكريا بحلب، تقرر تسييلها في صورة ربح سياسي مؤكد عنوانُه التجميد"
وفي الأصل، تمثل حياة المدنيين أولوية تتقدم كل الأولويات، بيد أن استقرارهم الفعلي يصعب تحقيقه استنادا إلى منطق إدارة الأزمة. وهذا المنطق قد يفرض نفسه في هذه الحالة بديلا ضمنيا عن الحلول الأكثر شمولا، أو لنقل الأكثر ارتباطا بالسياق الوطني الكلي.
وبالانتقال إلى المفهوم السياسي للمناطق المجمدة، يشير هذا المفهوم إلى عملية مرحلية تنطوي على إعادة تشكيل متدرّج للبيئتين المدنية والأمنية، على نحو دافع باتجاه تحقيق مرتكزات النظام العام الذي يشعر في ظله السكان بالثقة والطمأنينة على نحو محفز لتطبيع حياتهم وعودتهم إلى سالف عيشهم.
إن المفهوم السياسي للمناطق المجمدة في سياقه المعرفي العام يُمثل الاصطلاح الرديف -الأكثر تدرجا ومرحلية- لما بات متحققا في سوريا باسم المصالحات المحلية.
وعند الأخذ به في الحالة السورية، فإن هذا المفهوم سيعني التأكيد على مقاربة سياسية اجتماعية تتجه أفقيا نحو تعميم نماذج المصالحات المحلية، وتنحو رأسيا باتجاه الحل الوطني الشامل.
من جهة أخرى، ثمة إشكالية تفرض نفسها منهجيا على صعيد تحديد المناطق المجمدة، إذ لا تشير المراجع العلمية المتاحة -وهي في الأصل نادرة- إلى أسس موحدة أو ثابتة.
ومن الواضح لنا أن لا أحد لديه معايير محددة بهذا الشأن، فكل منطقة نزاع تُدرس ظروفها العامة أمنيا وإنسانيا، وبالضرورة عسكريا وسياسيا. كما تجري دراسة جملة حيثيات مرتبطة بالمحيط الجغرافي الداخلي والخارجي. وهذه العناصر مجتمعة يُطلق عليها مصطلح البيئة الجيوسياسية للصراع.
وهناك بُعد آخر يرتبط بما يُعرف بالرمزية الوطنية، ويشير إلى دلالات حضارية أو دينية أو سياسية ذات صلة بالمجتمع المحلي أو الشعب عامة.
وماذا عن مدينة حلب في نموذج المنطقة المجمدة؟ في ما يتعلق بحلب، اندمجت خصوصية البيئة الجيوسياسية للنزاع بالرمزية الوطنية للمدينة، ولا سيما لجهة ثقلها الكبير في الاقتصاد الوطني.
في الشق العسكري من البيئة الجيوسياسية، يمكن ملاحظة أن مسارا طويلا من المعارك العنيفة قد دار في مدينة حلب ومحيطها، كما في الطرق والأرياف المؤدية إليها. وقد انتهى هذا المسار أخيرا بوقوف الجيش على أبواب حلب وكشفها عسكريا بالكامل.
وفي الاشتقاق السياسي لهذا التطوّر، ثمة سؤال فرض نفسه على الجميع، وهو: أي ثمن يمكن أن تقبل به الحكومة السورية مقابل اعتبار المدينة "منطقة مجمدة" بعدما أضحت في متناولها عسكريا؟
وكما يعلم الجميع، ففي السياسة ليس هناك شيء من دون ثمن، أما في الأمن فالثمن عادة ما يكون مضاعفا، وهذه معادلة قديمة ثابتة.
ورغم ذلك، فإن السياسة لا تمثل دوما امتدادا خطيا للأمن، والثابت هو أن دخول الجيش إلى حلب -على شاكلة دخوله مناطق أخرى في البلاد- سيمثل حدثا مدويا، وسيتردد صداه في ما هو أبعد من الساحة الوطنية، إلى حيث أروقة العواصم الإقليمية والدولية المعنية.
وهنا، ننتقل إلى بعد آخر في البيئة الجيوسياسية للصراع.. إنه بُعد المحيط، وهذا البعد لا يرتبط بحلب، أو لا ينحصر فيها.
إن الحكومة السورية تدرك دون ريب، أن المجتمع الدولي يراقب جيشها وهو يقف على أبواب حلب ممسكا بزمام المبادرة. كما تدرك أن بعض هذا المجتمع الدولي -كالإقليمي- قد تحرك داعيا إلى وقف التقدم نحو المدينة.
وكما سبقت الإشارة، فإن السياسية لا تمثل على الدوام امتدادا خطيا للأمن. واستنادا إلى هذه القاعدة، فإنه عوضا عن الإمساك عسكريا بحلب، تقرر "تسييلها" في صورة ربح سياسي مؤكد عنوانُه التجميد.
وبهذا المعنى، تكون دمشق قد كسبت معركة حلب المدينة قبل خوضها، أو حتى دون خوضها أصلا. ولكن ماذا عن الواقع الدولي وإسقاطاته على تفاعلات الوضع السوري الراهن؟
يمكن القول إن خصوصية المرحلة أخذت حيزا مهما في حسابات السياسة -واستتباعًا الأمن- في تطورات الموقف، وانتهت الولايات المتحدة إلى القول بعدم استبعاد فرضية العمل مع دمشق لإنجاز هدف مشترك يتمثل في محاربة تنظيم الدولة الإسلامية.
وقد ورد مضمون هذا الموقف في كلمة لوزير الدفاع الأميركي تشاك هيغل أمام لجنة القوات المسلحة في مجلس النواب بالكونغرس الأميركي يوم 13 نوفمبر/تشرين الثاني الجاري، وقال للمرة الأولى إن "الأسد جزء من العملية".
"يمكن القول إن خصوصية المرحلة أخذت حيزا مهما في حسابات السياسة واستتباعًا الأمن في تطورات الموقف، وانتهت واشنطن إلى القول بعدم استبعاد فرضية العمل مع دمشق لإنجاز هدف مشترك يتمثل في محاربة تنظيم الدولة"
وبالطبع، هذا يترجم نوعا من التحوّل في الموقف الأميركي من الأزمة. وخطاب هيغل هذا تزامن مع دعوة الرئيس الأميركي بارك أوباما إلى إعادة تقييم السياسة الأميركية تجاه سوريا.
وقبل ذلك بأيام، كان وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف قد أعلن أن نظيره الأميركي جون كيري أخبره بأن وجود الرئيس بشار الأسد على رأس السلطة في سوريا لا يمثل مشكلة بالنسبة للولايات المتحدة، وأن الأولوية الراهنة لديها هي مواجهة تنظيم الدولة.
هذا التطور تردد صداه سريعا في تركيا التي أعلنت أنها غير معنية بإرسال جيشها إلى سوريا تحت أي عنوان كان، بما في ذلك مقولة المنطقة العازلة التي جرى اليوم التخلي عنها بشكل نهائي.
وبالطبع، هذا موقف صحيح لأن دخول الجيش التركي إلى أي رقعة في سوريا يعني إدخال المنطقة في نفق لا يعلم أحد مداه.
وبالعودة إلى مقولة التحول الأميركي ذاته، فإنها قد تبدو أكثر وضوحا في الأشهر القادمة، وقد تتعزز -على الأرجح- في اللحظة التي تتوصل فيها الولايات المتحدة وإيران إلى اتفاق نهائي بشأن ملف طهران النووي، ذلك أن الإيرانيين ما زالوا يرفضون مناقشة أي قضايا إقليمية مع واشنطن قبل الانتهاء من هذا الأمر، ورفع العقوبات المفروضة على بلادهم.
والولايات المتحدة مهتمة -على وجه الخصوص- بدخول إيران على خط الحرب على تنظيم الدولة. ولهذا الاهتمام أسباب مختلفة، من بينها طبيعة العلاقة التي تربط إيران بكل من سوريا والعراق.
ولأنه لا شيء في السياسة دون مقابل، فقد يكون هذا المقابل مزيدا من التأكيد الأميركي على المقاربة السياسية للأزمة السورية.