ترقص المنطقة منذ عقود على اللحن الايراني. كأن الدور الايراني هو الموضوع الجوهري او المشكلة الأساسية. هذا يصدق على علاقات الدول داخل الاقليم. وعلى ادوار الدول الخارجية فيه. تضاعف هذا الواقع بعد انتحار الاتحاد السوفياتي.
هزّت الثورة الايرانية المنطقة. واعتقد قادتها ان رياح الثورة ستتسرب الى الاقليم. شن صدام حسين حربه على ايران. فضّل ان يواجهها على ملعبها كي لا يضطر الى مواجهتها لاحقاً في شوارع بغداد. أرغم جمر الثورة على الانكفاء الى داخل الاراضي الايرانية.
تلقت الثورة الايرانية في العقود الماضية خمس هدايا ثمينة. الاولى ان ولادتها ترافقت عملياً مع خروج مصر من النزاع العربي- الاسرائيلي. ادرك الخميني ومنذ اللحظة الاولى القيمة الاستثنائية لورقة معاداة اسرائيل واحتضان المقاومة ضدها مشفوعة بشعار «الموت لأميركا».
ستأتي الهدية الثانية على يد حزب البعث الحاكم في عاصمة الأمويين حين اختار الوقوف الى جانب ايران الخميني ضد عراق صدام. اما الهدية الثالثة فقد جاءت من العدو الاول. فجأة اجتاحت قوات صدام حسين الكويت وأعلنت شطبها من الخريطة. انشغال العالم بعدوان صدام سيُعطي ايران الفرصة اللازمة لإعادة بناء قوتها وتجديد طموحاتها. وبعد عقد ونصف عقد، ستصل الهدية الرابعة وعلى يد «الشيطان الاكبر» هذه المرة وتتمثل في اقتلاع نظام صدام ثم الانسحاب وترك العراق عملياً في عهدة ايران مباشرة وعبر حلفائها. هذا اضافة عما حصل في الخاصرة الافغانية. وتمثلت الهدية الخامسة في ظهور «داعش» في العراق وسورية وفي زمن رئيس اميركي يعتبر نهجه هدية اضافية لإيران وهو باراك اوباما. وجاءت هدية «داعش» في وقت كانت فيه ايران تقاتل دفاعاً عن الحلقة السورية التي كان من شأن سقوطها ضرب البرنامج الايراني الكبير وتبديد عوائد الهدايا التي تلقاها.
لا يمكن تفسير قوة ايران بالهدايا التي تلقتها. قوتها وليدة عناصر وسياسات مكّنتها من القدرة على توظيف الهدايا واستيعاب التحديات. انشأت الثورة الايرانية نظاماً صارماً حرم القوى الخارجية من امتلاك اوراق ضغط في الداخل الايراني. وأقامت شكلاً من الديموقراطية يعطي الناخب انطباعاً بأنه قادر على تغيير الرؤساء والحكومات، علماً ان القرار الاخير موجود في مكتب المرشد الممسك بكل الخيوط.
نجحت ايران ايضاً في التحول مرجعية دينية وسياسية لمعظم الشيعة في العالم. هذا اعطاها حضوراً داخل الدول الاخرى من افغانستان الى لبنان، خصوصاً مع تقدم فكرة «ولاية الفقيه». تأكدت هذه القوة حين نجحت ايران في تحريك حلفائها في العراق ولبنان للقتال على الارض السورية لمنع سقوط نظام الرئيس بشار الأسد. وتحت شعار مقاومة الاحتلال الاميركي للعراق والتصدي لإسرائيل، انشأت ايران على اراضي الغير مجموعة من الجيوش الصغيرة تبين ميدانياً انها شديدة الفعالية من بيروت الى صنعاء. وضعت ايران قدراتها المالية والسياسية والاستخبارية والإعلامية في خدمة «الجيوش» الحليفة التي صارت صاحبة الكلمة الاولى في اماكن وجودها وإن لم تُمسك رسمياً بكل مفاصل السلطة. تكفي هنا الاشارة الى الروايات التي تتعلق بدور الجنرال قاسم سليماني والذي يبدو انه لم يتراجع على رغم وجود المقاتلات الاميركية في الأجواء العراقية والسورية.
لا شك في ان الهجوم الايراني في الاقليم اصطدم بمقاومات محلية وإقليمية وتحفظات دولية. لكن لم تؤد هذه الاعتراضات الى قيام برنامج متكامل مضاد يتسم بالعدوانية والمرونة وحسن اختيار الامكنة والتوقيت. أرفقت ايران ذلك بقرار واضح بعدم الدخول في مواجهة عسكرية مباشرة مع الآلة العسكرية الاميركية وعدم قصف اسرائيل بالصواريخ الايرانية المباشرة والاكتفاء بتحريك الصواريخ الحليفة وفقاً للبرنامج الكبير.
بسلاح الصبر والمناورة والمجازفات المحسوبة والتضليل والافادة من الثغرات لدى الآخرين، شغلت ايران دول المنطقة والعالم بملفها النووي فيما كانت تتابع برنامج الدور الاقليمي. ادارت طهران ببراعة ما يسمّيه الغرب التجاذب بين المعتدلين والمتشددين في ايران. وظفت ابتسامة خاتمي وقبضة احمدي نجاد و «اعتدال» روحاني قبل دخول السباق الحالي في فيينا. كما وظفت أخطاء جورج بوش وتردد اوباما وشراهة بوتين.
على مدى عقود، استجمعت ايران عدداً غير قليل من الاوراق لتعزيز موقعها التفاوضي. نظرت الى الاقليم في صورة شاملة. واعتبرت ان اميركا هي الخصم والمنافس والشريك المحتمل. وجد العالم صعوبة في تقبل ايران الفائزة بجائزتين هما القنبلة والدور الكبير.
خطران يحدقان بـ «ايران الكبرى» اذا قامت واعترف بها. الاول ان تفوق تكاليف الدور قدرة الاقتصاد الايراني. انهار الاتحاد السوفياتي تحت وطأة التزاماته ولم ينقذه انه كان ينام على وسادة نووية. الثاني ان يكون النظام الايراني عاجزاً عن الانتقال الى مرحلة الدولة الطبيعية بعد ادمانه الطويل قاموس المواجهة والتوتر وخطوط التماس. لا بد من الانتظار لمعرفة مواصفات اللحن الايراني في الفترة المقبلة.
أعلن تنظيم إسلامي "دولة الخلافة في الشام والعراق"، وأطلق عليها اسم الدولة الإسلامية، ويرمز لها اختصاراً باسم "داعش"، هذا التنظيم يقول الباحثون إنه فرع من فروع تنظيم القاعدة الذي نشأ في تسعينيات القرن الماضي، لمحاربة الوجود الأجنبي في الجزيرة العربية خاصة، والوطن العربي عامة، بعد اجتياح الجيش العراقي الكويت عام 1991، ودخول جيوش الحلفاء 33 دولة إلى جزيرة العرب، تحت ادعاء تحرير الكويت، بموجب قرار من جامعة الدول العربية والأمم المتحدة، وتشعب إلى تنظيمات متعددة، مختلفة الأسماء والصفات. لكن، بقي الأصل واحداً هو "تنظيم القاعدة".
تنظيم الدولة الإسلامية مسلح، ويتبنى الفكر السلفي الجهادي، ويهدف إلى قيام دولة الخلافة، وتطبيق الشريعة الإسلامية، وتأسست نواته في عام 2004، عقب احتلال الولايات المتحدة الأميركية وبريطانيا العراق عام 2003. وفي 29 يونيو/حزيران 2014، أُعلنت دولة الخلافة، وسمي أبو بكر البغدادي أمير المؤمنين أول خليفة في هذه الحقبة من تاريخ الحركات الإسلامية الحديثة. وضعت الولايات المتحدة هذا التنظيم على قائمة الإرهاب، وأعلنت الحرب عليه، ويشارك في هذه الحرب أكثر من 50 دولة، منها دول عربية وأوروبية، إلى جانب أميركا وكندا وأستراليا ونيوزيلاندا.
(2)
يرتكب قادة "داعش" ومنتسبوه جرائم بشعة، تقشعر لها الأبدان، مثل ذبح الإنسان من الرقبة كذبح الأنعام، ومنها القتل الجماعي لكل من لا يسير معهم، والاستيلاء على المال العام والخاص، وهتك المحرمات وتشريد المدنيين من منازلهم وقراهم. هذا ما تتناقله وسائل الإعلام العربية والدولية، والتي تقول، من دون استثناء، إن تنظيم الدولة الإسلامية فرض على مسيحيي العراق الجزية أو الإسلام أو الرحيل عن البلاد التي تحت سلطتهم. وكما تقول معلومات مضادة إن التنظيم استخدم المصطلح الإسلامي "الجزية"، وهي كما يقول أنصار التنظيم ضريبة مالية في مقابل حماية من ليس على الدين الإسلامي، وعدم مطالبته بالاشتراك في حروب الدولة الإسلامية، ولم يجبروا على اعتناق الدين الإسلامي، ولكن الخوف، وهو طبيعة إنسانية، أجفل المسيحيين عن أراضيهم خوفاً وليس قهراً. لا جدال في أن الأعمال الوحشية التي يقوم بها التنظيم ضد الإنسان في العراق والشام إجرامية، نشجبها وندينها، ولا نقرها تحت أي سبب، لأن الإسلام دين محبة وألفة وتسامح، وليس دين إرهاب وذبح الإنسان كذبح الأنعام.
يقف المجتمع الدولي، برمته، بكل قواته المادية والمعنوية، وما في حكم ذلك من القوة ضد تنظيم الدولة الإسلامية، وجند لها كل إمكاناته القتالية من طائرات حربية وقوات برية، طبعا ميليشيات طائفية، عراقية وإيرانية، وعصابات مرتزقة، وتم تسليح تلك الميليشيات بأحدث الأسلحة وتدريبها تدريباً لحرب المدن والأرياف، بمعونة أميركية، ومن دول غربية، والمعارك تدور على رؤوس أهل السنة في العراق، من دون تمييز، وذلك أمر لا يبعث على الأمل في إنهاء هذه الحرب الملعونة، لأنها تدور في أراض عربية، وعلى رؤوس أهل السنة من المدنيين الأبرياء. ومن المؤسف أن الحكومة العراقية الطائفية استغلت هذه الحرب لتصفية حساباتها مع أهل السنة في العراق.
(3)
تلك، إذن، هي "داعش العربي"، وما تصنع وما يصنع بأهل العراق وسورية، لمحاربة داعش، فماذا، عن داعش الإسرائيلية؟
في الجانب الآخر من الصورة، تقوم إسرائيل بالأعمال نفسها التي يرتكبها تنظيم الدولة الإسلامية "داعش" من ذبح الإنسان كما تذبح الأنعام على الطريقة الغربية، أي القتل بإطلاق الرصاص على رأس الضحية، ويحرق الإنسان الفلسطيني بعد تعذيبه عذاباً، يشيب له الولدان حياً واقفاً مصلوباً. وفي مكان آخر، تشنق عصابات قطعان المستوطنات من تصل إليه أيديهم من الفلسطينيين، أصحاب الحق في أي مكان، ولا يترددون في شنقة في وسيلة مواصلات، أو أماكن عامة، تحت سمع وبصر الأمن الإسرائيلي. داعش الإسرائيلية تقوم بأعمال أخرى، يحرّمها القانون، مثل هدم منازل المتهمين من الفلسطينيين ومصادرة ممتلكاتهم، وتجبر آخرين على هدم منازلهم بأيديهم، وهي أكبر جريمة بعد القتل أن يهدم الإنسان ما بناه لأسرته وبنيه من بعده على أرضه. داعش الإسرائيلية تنتهك حرمة الأماكن المقدسة للمسلمين في القدس والضفة الغربية، ناهيك عن حصار غزة.
" العالم كله يتفرج على ما يلحق بالشعب الفلسطيني من انتهاكات لحقوقهم وهدم منازلهم وشنق وحرق شبابهم أحياء، انتقاماً منهم على ما لم يفعلون "
في يوم الخميس الماضي، اقتحمت الميليشيات الصهيونية مخيم شعفاط للاجئين الفلسطينيين، تحت حراسة الجيش الإسرائيلي، واعتقلت أكثر من 21 مواطناً فلسطينياً، واقتحم الجيش الإسرائيلي الداعشي مدينة نابلس، وعبث بالمدينة وأهلها الآمنين، ولم تحرك السلطة الفلسطينية شعرة في جسد صهيوني.
قررت الحكومة الإسرائيلية تسليح جميع اليهود في مدينة القدس وضواحيها، لمواجهة الفلسطينيين أهل الأرض والحق، والعالم كله يتفرج على ما يلحق بالشعب الفلسطيني من انتهاكات لحقوقهم وهدم منازلهم وشنق وحرق شبابهم أحياء، انتقاماً منهم على ما لم يفعلون.
(4)
العالم استنفر كله ضد "داعش"، وجندت الأموال والجيوش لدحر هذا التنظيم، على الرغم من أنه يشكل تهديداً لنظام طائفي دكتاتوري متوحش، في كل من دمشق وبغداد، ولم يقم إلا لإزاحة ذينك النظامين الطاغيين المستبدين، وهذا ما يتوافق ورغبة الدول الغربية وأميركا وحلفائهم من العرب. لكن "داعش الإسرائيلية" التي تريد أن تقيم الدولة اليهودية، وتطبق الشريعة اليهودية على مواطنيها، لم يعترض على جرائمها ضد الفلسطينيين أي إنسان.
في العراق، يجند حزب الدعوة الحاكم في بغداد الميليشيات ويسلحها، وتدربهم أميركا لمحاربة الشعب العراقي الشقيق بذريعة محاربة الإرهاب، أي داعش، بينما يحارب محمود عباس رئيس السلطة الفلسطينية ويعتقل كل من يقف في وجه الدواعش الإسرائيليين الذين ينكلون بالشعب الفلسطيني. تسلح إسرائيل كل العصابات المستوطنة في القدس وضواحيها والضفة الغربية، وعباس يجرد الفلسطينيين، حتى من حمل الحجارة وقذفها على المستوطنين اليهود، بل ويعتقلهم.
آخر القول: دواعش إسرائيل محميون، ودواعش سورية والعراق مستهدفون. إسرائيل تسلح دواعيشها، ومحمود عباس يجرد الفلسطينيين حتى من امتلاك الحجر لمقاومة الاحتلال. حزب الدعوة في العراق يسلح ميليشيات ويجندها، ومحمود عباس يعتقل كل من يقاوم إسرائيل، وشتان بين القيادات الفلسطينية والإسرائيلية وحكومة المحاصصة في بغداد.
لم يلق اعتقال رئيس تيار بناء الدولة السوري، لؤي حسين، الاهتمام الكافي من المؤيدين والمعارضين السوريين على السواء، ليس لأن الرجل وتياره لا يملكون وزناً كبيراً في الساحة السياسية والاجتماعية السورية، كالائتلاف الوطني وهيئة التنسيق الوطنية فحسب، بل لأن الرجل اختط لنفسه تياراً وسطياً من الأزمة السورية (منزلة بين المنزلتين). ومثل هذه المواقف الوسطية في وقت الأزمات الكبرى (اتفقنا معها أو لم نتفق) تبدو رماديةً غير واضحة المعالم، ويزيد من رماديتها تعقد الأزمة وتشعبها. لذلك، سرعان ما تتعرض مثل هذه المواقف للاتهام والعمالة من معظم الأطراف، لا سيما التي تمثل حدي الأزمة، وتعتمد منطق الغلبة.
لم يمنع وصفه النظام السوري بالديكتاتوري، ومن ثم تحميله النظام سبب الأزمة، ورفضه مفاوضة النظام قبل وقفه العمليات العسكرية والأمنية، لم يمنع ذلك كله من اتهام المعارضة الخارجية له، ولأمثاله، بالعمالة للنظام أو أداة بيد النظام.
في المقابل، لم يمنع رفضه التدخل العسكري الخارجي، ومطالبته بالحفاظ على الدولة، وقبوله بحل سياسي للأزمة، عبر تشكيل سلطة ائتلافية تضم أشخاصاً من النظام والمعارضة، لم يشفع ذلك كله له عند النظام.
وصف بعضهم اعتقال لؤي حسين بالمسرحية الأمنية للنظام، من أجل تعويمه سياسياً في المرحلة المقبلة، مع ظهور إرهاصات أولية بدأت من موسكو عن حل سياسي للأزمة، كما فعل النظام تماماً مع رئيس جبهة التغيير والتحرير، قدري جميل، حين ترك منصبه وزيراً للتجارة بشكل مفاجئ، أو أقيل منه، ليستقر به المطاف في موسكو، ويكون جزءاً أساسياً من المشروع الروسي للحل السياسي. واعتبر آخرون لؤي حسين عميلاً للخارج، وإن كان بلباس معارضة داخلية، وتضاعف وصف العمالة له كونه علوياً، بعد خروجه عن معقول الطائفة وأدبياتها، ثم تضاعف هذا الوصف، في المرحلة الأخيرة، من كتاباته التي عكست خوفه من سقوط الدولة.
بغض النظر عن الاتفاق، أو الاختلاف، مع وجهة نظر لؤي حسين، فإن جوهر الموضوع هو اعتقاله، والتهمة التي نسبت إليه "إضعاف الشعور القومي ووهن نفسية الأمة"، وهي التهم الموجودة في أدراج الأنظمة الشمولية والجاهزة مسبقاً. كيف يمكن للمثقف والسياسي، وحتى المواطن السوري العادي، التصديق أن لؤي حسين أضعف الشعور القومي ووهن نفسية الأمة، هل المواطن السوري خالٍ من المصائب والكوارث، ولم يعد يعكر صفو حياته سوى لؤي حسين؟ مئات آلاف القتلى والجرحى، عشرات آلاف المعتقلين، دمار مدن وقرى بكاملها، ملايين النازحين والمهجرين، اقتصاد شبه متوقف، تحالف دولي يشن هجوماً في شمالي سورية، وتنظيم يمارس أبشع أنواع الإرهاب.
كيف يمكن لهؤلاء الذين يأملون بدولة تسودها الديمقراطية ودولة القانون وحرية الرأي الاقتناع أن النظام مستعد لقبول عملية سياسية، تنهي الأزمة، وتؤسس لمرحلة جديدة في سورية؟ كيف يمكن تصديق ذلك؟ والنظام ما زال غير قادر على تحمل المعارضة التي وصفها هو نفسه، يوماً، بأنها واعية ووطنية، في مقابل للمعارضة الخارجية غير الواعية وغير الوطنية؟
" كيف يمكن للمثقف والسياسي، وحتى المواطن السوري العادي، التصديق أنّ لؤي حسين أضعف الشعور القومي ووهن نفسية الأمة؟ "
لماذا يعتقل لؤي حسين؟ هل فقط لأنه تجرأ، وقال إن الدولة أضحت، بنظر السوريين، كياناً مفارقاً لهم، وأن النظام عمل على تحطيم البنى الاجتماعية، كالقبيلة والطائفة، من دون بناء بنية وطنية، تقوم على المواطنة، ومن ثم تحذيره من انهيار الدولة السورية؟ (راجع مقاله في صحيفة الحياة في 24 يونيو/حزيران الماضي، السوريون لا يشعرون بحاجتهم إلى الدولة)، أم لقوله إن النظام عاجز عن حماية السيادة الوطنية؟ داعياً السوريين إلى القول الصريح والعمل العلني لإنقاذ دولتهم عبر تسوية سياسية، تستبدل النظام بسلطة ائتلافية من السلطة والمعارضة والشخصيات العامة، يكون لديها الأهلية لحماية البلاد (بيان تيار بناء الدولة في 2 / 11 / 2014).
هل تخطى رئيس تيار بناء الدولة الخطوط الحمر في مقالاته وبياناته، أم أن للمسألة وجه آخر، لأنه حاول التواصل مع الشباب السوري، وتشكيل موقف سياسي من الأحداث الجارية في بلده؟
اعتقال ﻟﺆﻱ ﺣﺴﻴﻦ، وقبله رجاء الناصر وعبد العزيز الخير، يسلط الضوء على الخيبات التي يتعرض لها أنصار الحل السلمي، ويبعث رسائل سياسية تؤكد رفض النظام هذا الطريق، كما رفض عند بدء الأزمة العمل السلمي الشعبي لصالح الحل الأمني.
لا يمكن تشبيه زيارة المبعوث الدولي دي مستورا إلى حمص المدمّرة، سوى بقيام مبعوث للأمم المتحدة، برفقة وزراء هتلر بزيارة معسكرات «أوشفيتز» ليرى نجاح عمليات الإبادة فيها. ليس من معنى للزيارة، يالإخراج الذي حصلت فيه والدلالات الرمزية المحيطة بها، سوى موافقة الأمم المتحدة على هذا النموذج، الذي كان ثمنه حوالى مليون نازح وعشرات آلاف المفقودين والمقتولين تحت أنقاض البراميل أو بسبب الجوع، وتغيير جذري للتركيبة السكانية للمدينة، وكل هذا موثّق لدى منظمات الأمم المتحدة، ولا أحد يعرف إذا كان الرجل سأل مرافقيه عن الناس الذين سكنوا تلك الأحياء، أين هم، وما إذا كانت المصالحة قد جرت مع الحيطان المدمرة!
ربما من الطبيعي ألا يشعر دي مستورا بشيء من عدم الانسجام بين دوره ومكانته، وبين مثل هذا الواقعة، ذلك أنها خطوة متناسقة مع السياق الذي تسير عليه الأمم المتحدة، كممثلة للمجتمع الدولي في سورية، والذي يعيد إحياء التجربة التي استخدمت في البوسنة والهرسك عبر إقامة ما سمّي بالمناطق أو الملاذات الآمنة، على أن تؤمن الحماية لعددٍ من المدن البوسنية من اجتياحات الصرب، وكانت مدينة سربرينيتسا ضمن هذه الملاذات، وبمقتضى ذلك قامت قوات الأمم المتحدة بتجريد تلك المناطق من أي وسيلة للدفاع، ومن ثم وقفت عاجزةً عن التصدي للصرب الذين اعتقلوا المراقبين الأمميين، ومن ثم أغاروا على مواقع البوسنيين مرتكبين مجازر عدة أفظعها مجزرة سربرينيتسا التي راح ضحيتها نحو 8 آلاف شخص، فهل ثمة مساع لاستعادة مثل هذه التجربة في سورية؟
ثمة من يرى بأن فكرة « تجميد الصراع» التي يقترحها دي مستورا ليست جديدة في السياق السوري، وهي امتداد لتجربة «الهدنات» التي طبقها نظام الأسد في كثير من المناطق السورية، بتخطيط روسي وإشراف إيراني مباشر، كما حصل في حمص نفسها، وخطورة مثل هذا الإقرار تتأتى من كون المجتمع الدولي سلّم أخيراً بالرؤية الروسية الإيرانية لحل الأزمة، عبر تحويلها إلى حالة تمرد في بعض المناطق وإيجاد حلول موضعية لها من خلال تأمين بعض الحاجات الأساسية للمناطق المنهكة وتسوية أوضاع بعض المطلوبين في تلك المناطق، وبالتالي طي صفحة الثورة السورية بصفتها تحولاً جذرياً في قلب المجتمع، وإعادة النظام إلى سكة الحياة وتوفير كل الظروف المناسبة له لإعادة إنتاج ذاته.
اكثر من ذلك، فإن توسيع زوايا النظر إلى الموضوع وتركيبه ضمن المشهد العام للتحولات الجارية في الإقليم، يشير الى وجود رابط واضح بين عدة تفاصيل محيطة، منها مفاوضات الملف النووي بين واشنطن وطهران ونيّة مسقط إعادة فتح سفارتها في دمشق وزيارة بعض أعضاء المعارضة الى موسكو، إذ إن جمع كل هذه الخيوط من شأنه إعطاء القدرة على قراءة دقيقة للمشهد برمته، ولعل النتيجة الأولى لهذه القراءة أن الملفات الإقليمية التي ادعت واشنطن عدم خوضها مع طهران في مفاوضاتها النووية، بدأت تتصدر التفاهمات بين الطرفين، وأن الوسيط العماني صار جاهزاً، بعد إتمام اللمسات الأخيرة على النووي، لتولي ملف جديد في المنطقة، وهو الملف السوري، كما أن جزءاً من أطراف التفاوض صار جاهزاً لإعلان الصفقة في موسكو1.
في التصريف النظري لهذه السياسات، فإن معنى ذلك هو التوجه إلى الإقرار بإعادة تأهيل بشار الأسد، كمقدمة لإشراكه في جهود محاربة الإرهاب، على اعتبار أن القوة المحلية في اغلبها ستنضوي ضمن إطار التفاهم الذي يقترحه دي ميستورا، ويمكن النظام الادعاء بأن غالبية القوى المحلية قد عقدت الهدنات وما تبقى خارج هذا الإطار هي إما جهات متطرفة مثل «جبهة النصرة» أو مرتبطة بـ «داعش» التي هي طرف خارجي، وربما هذا ما يفسر المفاوضات التي يجريها النظام مع الكتائب المتواجدة في جنوب دمشق ويقترح عليها الذهاب إلى القنيطرة ودرعا، وذلك بناء على خطة مسبقة تقضي بضم مناطق شرق سورية وجنوبها ضمن خريطة القوى الإرهابية وإدماجها ضمن ضربات التحالف الدولي.
في التصريف العملي، يمكن إدراج هذه السياسة على طيف واسع من الأهداف والإستراتيجيات، فهذا الطرح يشرعن وضعية «أمراء الحرب»، وذلك انطلاقا من التفسير الدولي لطبيعة الأزمة في سورية والمائل الى اعتبارها حرباً أهلية وبالتالي تساوي المسؤوليات بين أطرافها، وليس مصادفة هنا أن تتوقف وزارة الخارجية الأميركية عن دعم اللجنة الخاصة بالتحقيق بجرائم الحرب في سورية، كما أنه يشكّل بداية تقسيم «ناعم» لسورية، إذ ينطوي هذا الوضع على ترسيم المناطق التي تحت سيطرة الأطراف وتحويلها الى عنصر تفاوضي أساسي ودائم، وهو الأمر الذي يناقض التكتيك الذي تنبني عليه المبادرة من تحويل الحالة إلى دينامية تصالحية شاملة.
بخلاف التنظيمات الإرهابية التي سبقت ظهور تنظيم داعش ومهَّدت له، لم يتوفر بين أيدي الجمهور أو المحللين بحث أو وثائقي لدارسي التنظيمات الإرهابية وخبرائها، أو الصحافيين المتخصصين، يشرح الاستراتيجية القتالية والأداء الفردي والجماعي لتنظيم داعش، في واحدة من المعارك المتلاحقة التي يخوضها التنظيم في سورية، أو العراق، سوى الأفلام التي صدرت عن المؤسسات الإعلامية التابعة للتنظيم نفسه، والتي تصدَّرها، أخيراً، فيلم "لهيب الحرب"، ويلاحظ المتابع العادي، عوضاً عن المتخصص، كثافة التقنيات الهوليودية العالية التي استخدمت في تصويرها وإنتاجها، ومهارة التنظيم في تسويق الرسالة العقيدية والسياسية الخاصة به، لمؤيديه المحلييّن، أو للشبان التائهين وراء حواسيبهم الشخصية في الدول الغربية على الأقل، ويشكلون عماد مقاتلي التنظيم وذخيرته التي لا تنضب.
وبالطبع، يعود ذلك الغموض المقصود، أولاً، إلى الوحشية المفرطة التي يظهرها داعش تجاه الصحافيين الأجانب، وحتى تجاه هؤلاء المحليين، في حال رفضوا موالاته، ونقل الخبر والصورة كما يريد أمراؤه، وأحياناً كثيرة: في حال رفضوا "مبايعة الخليفة"، كما تتواتر الروايات، مثلاً، عن حيثيات الاعتقالات المتتالية التي تعرّض لها صاحفيو شبكة الجزيرة في شمال سورية. ويُرد الغموض، أيضاً، إلى سياسة التقليل من الصوت والصورة التي ينتهجها داعش، بهدف تشكيل أسطورة الرعب وإرهاب النفوس وتحطيم معنويات أعدائه وحواضنهم الشعبية، فداعش، وعلى الرغم من امتلاكه جهازاً إعلامياً محترفاً، وكبيراً على ما يبدو، من إنتاجه، ليس غزيراً إعلامياً، بل يعتمد تقوية أسلوب التواتر القصصي لما حدث ويحدث في المعارك والاقتحامات. والراوي، هنا، غالباً ما يكون ناجياً أو هارباً منهم، أي الأكثر تزعزعاً وميلاً لتضخيم الأحداث وتهويلها. وبهذا استطاع التنظيم عبر أعدائه الرواة فعل ما لا يمكن فعله بقناة تلفزيونية وإذاعة. وربما كان هذا مبالغةً لو لم تُثبت المشاهدات في سورية على الأقل أن عناصر غالبية الفصائل المسلحة كانوا قد أدمنوا مشاهدة مقاطع الفيديو التي تصور أساليب قتال خصومهم على موقعي "يوتيوب" و"فيسبوك"، ربما من دافع أن معرفة العدو أول النصر، أو تطمين النفس الخائفة بمشاهدة قتال عدوها وتمهيدها بفكرة أن العدو هو هذا القريب على الشاشة يصيبُ ويُصاب.
لا شك أن داعش يمتلك، فعلاً، أساليب متفوقة في وحشيتها، قتالاً واقتحاماً وإعداماً لأسراه وأعدائه والتنكيل بهم، وخصوصاً عندما يتعمَّد هذا لقصدِ إرهابٍ ما يلي من عدو، وظهر هذا جلياً في عدة معارك باستخدام أسلوب غزارة النيران الثقيلة في أثناء الالتحام، بحيث قُتل عدد من عناصر التنظيم بنيران مدفعيته، ثم أسلوب القنص المكشوف المكثّف في قلب المعركة، وصولاً إلى أسلوبه الأكثر تأثيراً في أعدائه والذي ورثه عن أبيه، تنظيم القاعدة، المفخخات والانتحاريون أو الإنغماسيون كما يسميهم التنظيم. هذا عدا الصلب وقطع الرؤوس والأيدي والأرجل الذي لقي منه مدنيو الرقة ودير الزور وقراهما النصيب الأكبر.
ولكن، الأهم من هذا كله ما يقوله أعداؤه، نقلاً عن نقل، وتضخيماً عن تضخيم، وما يشيعه التنظيم من قصص مروعة خيالية، سهلة التصديق والنقل في مجتمع الحرب المنهك الخائف الذي لا يرى إلا انتصارات متلاحقة لـ"أصحاب الرايات السوداء"، فيدبُّ الهلع في نفوس من يهاجمهم التنظيم قبل أن يهاجمهم، ويموتون ألف مرّة، قبل أن يموتوا خائري العزيمة، ويكفي أن يقارن جندي من قوات نظام الأسد بذهنه لحظات مصير أسرى مدرسة المشاة في حلب مع مصير أسرى مطار الطبقة وأسرى قاعدة سبايكر، أو أن يقارن جندي من الجيش الحر مصير أسراه في قتال مع فصيل يشابهه مع مصير أسرى قريتي الشعيطات والشحيل في دير الزور، ويكفي أن يتخيل مدني في قرية يحاصرها داعش "مهاجريه" الأوزباكستانيين، ذائعي الصيت، بعمليات ذبحهم الوحشية، لنعلم سر سرعة داعش وضرباتها الخاطفة لقوات كبيرة العدة والعتاد، وسر خضوع ملايين المدنيين لها، على الرغم من كل ممارساتها المرفوضة بأقل وصف لها.
" غالبية الفصائل المسلحة كانوا قد أدمنوا مشاهدة مقاطع الفيديو التي تصور أساليب قتال خصومهم "
يروى أحد عناصر الجيش الحر الفارّين إلى الحدود التركية أن التنظيم استطاع احتلال قرية بعشرة مقاتلين في مقابل 90 عنصراً للفصيل المسيطر أصلاً. ويروي رفيقه أن "معركة الشدادي استمرت 15 دقيقة فقط، وأدّت إلى مقتل 60 عنصراً من حركة أحرار الشام الإسلامية"، وهنا ربما يكون عدد القتلى صحيحاً، بيد أن ما ورد من الفصائل الأخرى عن المعركة يفيد بأنها استمرت ثلاث ساعات على الأقل. والأكثر إيلاماً في المشهد أن رواية العنصر الفار الخاطئة نُشرت في صحيفة غربية، كقصة مثيرة عبر صحافي قابله في مدينة أورفا التركية.
وليس داعش سبّاقاً إلى هذا الأسلوب، في بث الرعب تكتيكاً قتالياً أساساً، بل سبقه في هذا نظام الأسد عبر ميليشياته الطائفية التي اقتحمت قرية الحولة ثم كرم الزيتون والخالدية ودير الزور وغيرها من المدن والقرى، لترتكب مجازر تضاهي في بشاعتها مجازر داعش، مرسلة الرعب في قلوب السوريين الثائرين جميعاً، ولكَ أن تتخيل الروايات المروعة الكثيرة عن كل مجزرة وكل معتقل. والجدير بالذكر، هنا، ما أفاد به قائد عمليات النظام سابقاً على محور جوبر – زملكا (القوات الخاصّة 154) بأن النظام كان يجابه الثوار بتكتيكات الرعب وروايات الترويع، ويعتمد عليها في صلب خططه العسكرية، ويأمر ضباطه بالتركيز على من يروي فظائع اقتحام قرية ما إلى جاراتها بالتفاصيل، معتمداً في ذلك على مدنيين، يعملون لصالحه بشكل مباشر، وبغض النظر عن صحة كلام الضابط "المنشق" هذا، فإن هذا التكتيك أصبح معروفاً ومكشوفاً، حين استخدمه نظام الأسد في حماه 1982، وأثمر له استسلام دير الزور وحلب آنذاك، كما أثمر 30 عاماً من خضوع الشعب فقط باستخدام ما يرويه الآباء الخائفون لأبنائهم عن فظائع تلك المجزرة.
وإذا كان نظام الأسد، بضعف عقيدته القتالية مقارنة مع تنظيم كداعش، قد اعتمد في بقائه أربعين عاماً بالترهيب كتكتيك أول وأساس، ولم يسقط بعد بالرغم من تعريته وإضعافه ودحض أسطورة الرعب والخوف من الذاكرة وعقيدة المواجهة التي تبناها الشعب السوري منذ بداية الثورة، كم سيبقى تنظيم داعش الذي قام أساساً على هذا الأسلوب ويعدُّه نهجاً وجزءاً من رسالته بل ورسالة الدين الإسلامي كما يعتقد، بل ويتقن تنفيذه أكثر كما ظهر ويظهر من نتائج، هذا إذا لم نسأل عن من هم القادرون على دحض أسطورته وخرافة الرعب في مجتمع خائف ومقهور أساساً في سورية والعراق، ومن القادر على إيقاف "تمدده" وتمدد الخوف في الصدور؟
ليست طائرات التحالف بالتأكيد كما ثبتَ منذ حين، بل إن انتقائية دول التحالف في توجيه ضرباتها الخجولة لداعش دون النظام بالرغم من تنافسهما على انتهاج الإرهاب فعلاً وقولاً، سيزيد الخائف خوفاً والمخوِّف: داعش كان أم النظام، قدرةً على التخويف، فليبق السؤال مفتوحاً إذاً كما هو هذا الخوف.
لم يكن الائتلاف الوطني السوري في نشأته تحالفا من صناعة سورية بحتة، بل كان خليطا من إرادة إقليمية ودولية، ودور سوري متواضع، قدرت الأطراف المشاركة فيه أنها تستجيب لمصالح الشعب السوري، وتدعم ثورته في وجه نظام الأسد وأعماله الإجرامية ضد السوريين، وقد ولدت تلك الخطوة في لحظة تأكد فيها فشل المجلس الوطني السوري، وهو التحالف الأول الذي ولد بحراك سوري، تم دعمه من قبل قوى إقليمية ودولية، رأت فيه قوة قادرة على تنظيم طاقات السوريين وحشدها داخليا وخارجيا في مواجهة نظام الأسد وجرائمه المتصاعدة، ومن أجل انتصار ثورة السوريين ضد نظامهم.
لقد ترتب على تشكيل الائتلاف أخطاء عديدة، لكن الأهم فيها كان نظامه الداخلي الذي حدد إطار معالجة المشاكل والتحديات التي تواجه الائتلاف. فاعتمد أغلبية الثلثين في قبول الأعضاء الجدد، وفي إقالة وإبعاد الأعضاء الموجودين، وفي تغيير النظام الداخلي ذاته من جملة أمور، يفترض أنها يمكن أن تسهم في إصلاح الائتلاف وتطويره ومعالجة مشاكله، وكان لهذه القاعدة أن تكون مقبولة لو أن عضوية الائتلاف استندت إلى معايير ومحددات منسجمة من الناحيتين السياسية والنضالية مع ظروف واحتمالات الثورة، وهو أمر لم يتوافر آنذاك، حيث تم جمع حشد متناقض من الأعضاء، جرى جمعهم كيفيا وفي ظل اعتبارات متناقضة ومتصارعة من حيث الانتماءات السياسية والتجارب النضالية والمواصفات الشخصية، وهي تتماثل مع الاعتبارات التي تم على أساسها بناء العضوية في المجلس الوطني السوري قبل ذلك، وقد حمل الأخير من خلال ممثليه المختارين للائتلاف الوطني مرضه إلى الوليد الجديد.
ولم يكن قد مر سوى ستة أشهر من عمر الائتلاف حتى بدأت ملامح الأزمة فيه، الأمر الذي تطلب حراكا سوريا تناغم مع الإرادة الإقليمية والدولية الراعية للائتلاف للخروج بالأخير من أزمته البنيوية، فكان التوجه نحو توسعة الائتلاف بمضاعفة عدد أعضائه تقريبا. والغريب أن هذه التوسعة لم تكن أحسن بكثير مما أحاط بالائتلاف والعضوية فيه من المشاكل عند التأسيس، خاصة أن تلك الخطوة لم تترافق مع إجراء أي تعديلات في النظام الداخلي للائتلاف، كما كان الحال يتطلب في ذلك الحين.
وإذ حملت التوسعة دفقا جديدا من الروح في جسد الائتلاف المريض، فإن ذلك الدفق لم يتعد الوصول إلى خطوات محدودة، كان الأبرز فيها أربع خطوات؛ أولاها ضم المكون الكردي إلى الائتلاف مما أعطاه قوة تمثيلية أوسع، والثانية تشكيل الحكومة السورية المؤقتة بهدف إدارة شؤون السوريين في المناطق الخارجة عن سيطرة النظام، والثالثة ذهاب الائتلاف إلى «جنيف 2» استجابة لمساع دولية، هدفت إلى فتح بوابة محتملة لحل سياسي للقضية السورية عبر مفاوضات من النظام تحت الرعاية الدولية، والرابعة دخول الائتلاف في اتصالات وعلاقات إقليمية ودولية، هدفت إلى تعزيز مكانة الائتلاف وسعيه إلى بناء شراكات سياسية مع العديد من الدول والمنظمات الدولية.
لقد بدت تلك الخطوات رغم محدوديتها بمثابة «إنجازات» في ظل الوضع الخاص للائتلاف، غير أن «الإنجازات» في المستوى الداخلي كانت أصعب بكثير. وبالكاد استطاع الائتلاف أن يشكل بنية إدارية متواضعة، لم يكن يملك منها شيئا في السابق، ووفر إمكانات أفضل وأكثر تنظيما من السابق لأنشطته ومؤتمراته، لكنه عجز عن معالجة مشاكل مؤسساته، ومنها المكتب الإعلامي ولجان الائتلاف ومنها اللجنة القانونية ولجنة العضوية، إضافة إلى عجزه عن تعديل النظام الداخلي بصورة جوهرية، وفشله في إنجاح وتطوير وحدة تنسيق الدعم، التي كانت استسلمت لنظام إداري ومالي مرتبك وغير فعال في ضوء الواقع السوري واحتياجاته.
ورسمت عثرات الائتلاف الأولى خطا لا يستطيع الائتلاف تجاوزه في التقدم الجدي على طريق الإصلاح والتطوير، الأمر الذي جعله عرضة لأزمات متلاحقة، كانت تضعه في كل مرة أمام تحدي انفراط عقده، مما فرض في مواجهة كل أزمة تكاتف جهود مشتركة من جانب الداعمين الإقليميين والدوليين وبمشاركة القوى والشخصيات المشاركة فيه لمعالجة الأزمة القائمة، دون أن تذهب أي من المعالجات إلى عمق مشكلة الائتلاف، والتي أساسها أمران اثنان؛ نظامه الداخلي وطبيعة العضوية فيه من جهة، والتأثيرات الإقليمية والدولية عليه من جهة أخرى.
ويعد الانعقاد الحالي للهيئة العامة للائتلاف، بما في جدول الأعمال من نقاط تتعلق بتشكيل الحكومة المؤقتة وتعديل النظام الداخلي وإصلاح وحدة تنسيق الدعم وموضوع الكتلة العسكرية، بمثابة عامل مفجر في ظل أمرين اثنين؛ أولهما توجه تحالف يقوده «الإخوان المسلمون» للسيطرة على مؤسسات الائتلاف مثل الحكومة ووحدة تنسيق الدعم والمجلس العسكري، والثاني قرب الانتخابات العامة في الائتلاف، إذ سيتم انتخاب قيادة جديدة، سيكون الإخوان في صلبها، بما يعني نهاية التشاركية فيه، مما سيخلق مشاكل عميقة داخل الائتلاف ستؤدي إلى انقسامه وتشظيه من جهة، ومشاكل خارجية أبرزها انفضاض معظم الداعمين (رغم قلتهم وضعف دعمهم) عنه وعن مؤسساته.
ومما لا شك فيه أن التحدي الحالي للائتلاف وقيادته ما لم يواجه بوعي ومسؤولية كبيرين، وبقدرة عالية على الفعل الإيجابي ومعالجة مشكلة الائتلاف بصورة جوهرية وسط دعم قوي من قبل الداعمين، فإن الائتلاف سوف ينتهي، أو سيبقى مجرد عنوان ليس أكثر، وللأسف الشديد فإن بعضا من الداعمين يريدون ذلك بالفعل ليس أكثر في ظل تراجع الاهتمام الدولي بالقضية السورية.
شاركتُ، في أثناء العدوان الإسرائيلي أخيراً، والمسمى عملية "الجرف الصامد" على غزة، في ندوة في مدينة ميلانو الإيطالية، على هامش مهرجان للتضامن مع الشعب الفلسطيني، في واحد من المهرجانات والتظاهرات والاحتجاجات التي عمّت العالم بشكل لافت ضد ذلك العدوان. وكان النقاش يدور حول العدوان، وحول غزة وفلسطين، تاريخاً وحرباً ومستقبلاً. كان جدول الأعمال محدداً من حيث المواضيع والوقت. التزمتُ بالمواضيع، ولم أتعمّد الشطط نحو الموضوع السوري، التزاماً بجدول الندوة، وللحاجة الماسة لإعطاء أكثر ما يمكن من المعلومات، وتقديم البديهيات التاريخية التي لاحظت، من أسئلة الحضور، افتقار كثيرين إلى المعلومات حولها، وتبيّنتُ أهمية تقديمها وتكرارها، لكسب مزيد من المتعاطفين مع قضية الشعب الفلسطيني. وبقدر ما كانت سعادتي كبيرة بتفاعل الحضور مع النقاشات والإصرار على المعرفة، لقلب الصورة المتكوّنة لديهم منذ أزمنة، أو لتكوين صورة لم تكن موجودة لدى بعضهم، وإذا كانت موجودة فضبابية، بقدر ما كان في قلبي غصّة، لعدم تذكر أحد من المضيفين، أو المشاركين، الموضوعَ السوري المتفجر.
يتكّرر الأمر مع كثيرين. وكثيراً ما تغيب القضية السورية عن النقاشات التي تجري بوجود سوريين، على الرغم من تصدّرها العناوين في وسائل الإعلام العالمية، أكثر من ثلاث سنوات ونصف، إلا أن القضية المهمة، وهي وقف هذه الحرب العبثية، بأي شكل، تبقى المنسية في هذه الوسائل، ولدى الدبلوماسيين في دول القرار. فقد نسي العالم سورية، على الرغم من أنه منشغل بتفاصيل التفاصيل فيها. العالم منشغل عن سورية بها. إنه منشغل بأعداد الإرهابيين الذين جذبتهم الحرب من كل بقاع الدنيا إلى أحضان داعش، لحمل سيفه. منشغل بمَن عاد منهم إلى بلاده، بعد أن جرب الحرب، واستمتع بالقتل، وانتصر لدينه بالذبح. ومنشغل باحتمال تجريب العائدين الحربَ في بلادهم. ومنشغل بحكايات الجهاد وأشكاله. بحكايات السبي وبأحكام الردّة وبفرض الجزية وبدخول الدين الحنيف أفواجا.
ليس لدى الولايات المتحدة الأميركية، صاحبة الأمر في هذا العالم، أي اهتمام بالحل في سورية. ليس في سورية ثروات، لا شيء يثير شهية السيد الأميركي نحوها. ليس لديه خطة، أو استراتيجية، بخصوصها. خطة مساعدته المعارضة ستنفّذ أواسط سنة 2015، يا إلهي! أستبقى الحرب حتى أواسط 2015؟ أم ستستمر ثلاثين سنة أخرى، كما قال ليون بانيتا، وزير دفاع أميركا السابق؟ ولم يتورّع رئيسه، باراك أوباما، عن الاعتراف بأنه ليس معنياً بإنهاء الحرب في سورية. ألم يقل لمحطة "سي بي أس" الأميركية، قبل أيام، إن إدارته معنية بمحاربة تنظيمي الدولة الإسلامية وخراسان، وليس حل المشكلة السورية. فهل سيستمر بحربه عليهما كثيراً؟ هل تستمر الحرب كثيراً؟ كلا لن تستمر سوى ثلاثين سنة أخرى، حسب قول وزير دفاعه السابق.
لا تثير سورية شهية السيد الأميركي، ولا تثير اهتمام فاعلين آخرين. فيها مشكلات وتشعبات كثيرة، هي فاقدة أي مستقبل، إنها دولة منهارة، فابتعدوا عنها! الكل يولي هارباً حين يتعلّق الأمر بسورية. فالدبلوماسية الدولية تولي وجهها شطر مشكلات أخرى في العالم، أكثر قابلية للحل، وتتطلّب مجهوداً أقل. متى كانت الدبلوماسية الدولية تنحو باتجاه الطرق السهلة؟ استقال مبعوثان دوليان، وهربا نحو الراحة، بعدما أخرجا كل ما في جعبتيهما من حلول ومبادرات. وبعدما فشلت ثلاث جولات من مباحثات السلام كانا يقودانها بين النظام والمعارضة. وغاب زعيمهما، بان كي مون، ونفض عن كاهله الموضوع السوري، ويرسل مبعوثاً جديداً ليحصي الخيبات.
" مارس داعش تطهيراً عرقياً، قضى على شعوب، واستعبد أخرى "
حين ذبح تنظيم داعش الصحافي الأميركي، جيمس فولي، في التاسع عشر من أغسطس/ آب الماضي، عادت سورية إلى الواجهة، لكن في قميص داعش. فجأة، عرف العالم حجم الكارثة الواقعة، وحجم التهديد القائم والمتعاظم، مع كل يوم تستمر الحرب فيه، وتتخذ مسارات جديدة، وتظهر خلالها تنظيمات جديدة، تكون أكثر تشدداً من التنظيمات التي سبقتها. حين قطع رأس فولي، أصبح العالم عليلاً فجأة، وعليه إيجاد شيء ما للشفاء، حلفٍ ما. لكن، قبل رأس فولي، قطعت رؤوس كثيرة، وعلّقت على أسوار حدائق المدن، وتدحرجت، ككرات القدم، بين أرجل الكبار والصغار. قبل ذبح فولي، مارس داعش تطهيراً عرقياً، قضى على شعوب، واستعبد أخرى. بعد ذبح فولي، عادت سورية إلى الواجهة في داعش، لكن أخبار سورية بقيت طي الصمت. بقي الموت والبراميل المتفجرة والمجازر بحق الأطفال وقصص اللاجئين، بقيت مغفلة.
وحين حلّ بكوباني جرثوم داعش، عادت سورية إلى الواجهة، لكن بثوب الحرب على المدينة الصغيرة الواقعة شمال البلاد، وضج الإعلام بأخبار كوباني. نظّمت تظاهرات واحتجاجات كثيرة، انتصاراً للمدينة، وأخذ الناس باستعادة القضية الكردية وتقليبها لفهمها. وأهملت البلاد، فأصبحت سورية تلك البلاد التي تقع جنوب كوباني. لم يكن العالم يعرف أن داعش اجتاح، قبل ذلك، مدناً، وسيطر على قواعد عسكرية، وعلى مطارات، وبنى دولة بمؤسسات وجهاز استخبارات وجيش، قوته تعاظمت، ومجازره تعاظمت.
انتهت الحرب على غزة، هدأت التظاهرات التي كانت تقضّ مضجعه، هدأ الإعلام وهدأت الدبلوماسية. هدأت قصص الذبح، وحلّت محلها الغارات الدونكيشوتية على داعش. لكن، لم يرجع البريق إلى المشكلة السورية، ولم تجتذب هواة اجتراح الحلول. لا أحد يريد أن يقترب من الموضوع السوري، إنها الحرب التي أصبحت طبيعية. لا شيء يثير. إنه القتل اليومي، المجازر اليومية والبراميل المتفجرة التي تنزل على رؤوس الأطفال يومياً منذ سنين، فما الجديد؟ الجميع يعرف ذلك، فلنضع الملف في الخزانة ولنُحكِم إقفالها. أو فلنضع السوريين قتلى، وأحياء في طريقهم للقتل، في بئر عميق، ونحكم إغلاقه، ولتبقى صرخاتهم في البئر، ويبقى أزيز الطيران تحت مائه، ولتتكسر الموجات الارتدادية للتفجيرات على جدرانه، ولتبقَ قصص المجازر حبيسة عتمته. ها هو العالم يتناول كأس الشاي بعيداً عن السوريين، بعد أن أخمد أصوات استغاثاتهم، وارتاحت أذنه من أنين الثكالى منهم.
خلال مباحثات في موسكو حول الأزمة السورية بين وفد دبلوماسي غربي ومسؤولين روس، لمّح أحد المحاورين إلى رسالة “ستالين” إلى أصحاب الكوادر في حزبه عام 1930، والتي كانت تحت عنوان “دوار النجاح”، حيث حذر خلالها من “روح الغرور والكبرياء” ونتائجها السيئة، وهذا التلميح يخص النظام السوري الذي يظن أن استراتيجيته نجحت، وأن كل الحراك يسير لمصلحته وأن لا شيء يقلقه من الآن فصاعدا، كما نبه دبلوماسي غربي إلى أن “دوخة” الغطرسة التي تطال البعض في دمشق لن تسهل الحلول، أو بداياتها، في هذا الملف الشائك.
مهما كانت الصورة سوداوية في بلاد تدمرت وتفككت وطالت المأساة فيها بشكل مباشر حوالي نصف سكانها قتلا وتهجيرا ونزوحا، يستمر الكلام حول تواصل الجهود الدبلوماسية وفي طليعتها المبادرة المنتظرة للمبعوث الأممي ستيفان دي ميستورا، الدبلوماسي السويدي الإيطالي، الذي يحلو لنفسه التكرار إنه “شخص يعمل في ظروف التحدي”، وربما يطمح للنجاح حيث فشل دبلوماسيان رفيعان من نفس الطراز: كوفي أنان والأخضر الإبراهيمي.
بيد أن الحرب الباردة الجديدة، والصراع الإقليمي الحاد، وتفاقم الاهتراء في الداخل السوري لا ينبئ بنجاح مضمون لمهمة تعتريها المخاطر وينقصها الزخم المطلوب في ظل عدم وجود استراتيجية واضحة لواشنطن وعدم وجود إرادة روسية للخروج من التعطيل (بالإذن من المعارض السوري الحالي وخطيب الجامع الأموي سابقا معاذ الخطيب الذي يراهن على شروق الشمس من موسكو).
يبدأ دي ميستورا عمله في “الوقت الضائع” أو “الوضع الانتقالي” الذي يتخلله تباطؤ الحرب ضد “داعش” (مراوحة في المكان باستثناء الجبهة مع الأكراد) وسعي روسي لإنتاج حل على مقاس النظام عبر الدعوة الممكنة إلى مؤتمر في موسكو كبديل عن جنيف 3، وهي فكرة تهدف لقبول بعض المعارضين الدخول في حكومة تحت رئاسة بشار الأسد الذي يمكن إقناعه لاحقا بقبول ترك السلطة بعد إتمام نصف ولايته. وضمن سياق بيع الأوهام والانتظار الثقيل يتم التسويق لمرحلة ما بعد المفاوضات حول الملف النووي الإيراني، إذ أنه في حال نجاح المفاوضات يعتقد البعض أن الملف السوري سيشهد حلحلة مع انتقال إدارته من الحرس الثوري إلى جهاز وزارة الخارجية، لكن فريقا آخر من المتابعين يخشى -في حال رفع العقوبات عن إيران- أن يزداد الدعم لنظام بشار الأسد.
من جهتها، تؤكد مصادر سورية معارضة على صلة مع المبعوث الأميركي الخاص لدى سوريا دانيال روبنشتاين، أن واشنطن متمسكة بالعودة إلى حل الحكم الانتقالي حسب وثيقة مؤتمر جنيف 1 وأنها ترفض أي تأهيل للرئيس الأسد ومحيطه القريب. وهذا الموقف تتقاسمه مع مجموعة أصدقاء سوريا فيما يزداد العمل المشترك خصوصا بين باريس وأنقرة بهدف “إنقاذ حلب” و“الحل السياسي” في آن معا، حسبما تبين من زيارة أردوغان الأخيرة إلى باريس
تبعا لهذا الوضع المعقد والمواقف المتناقضة والمتباينة، خفض دي ميستورا من سقف طموحاته الأولية وأكد على “التواصل مع جميع الأطراف بهدف وضع حد للعنف وانتهاكات حقوق الإنسان وتسهيل التوصل إلى حل سياسي للأزمة السورية”، استنادا إلى تجربته الغنية (منذ أوائل السبعينات من القرن الماضي) في مناطق الصراع مثل كوسوفو ولبنان والعراق والسودان وإريتريا والصومال، وعمله كممثل خاص للأمم المتحدة في أفغانستان (2010 - 2011 )، يقول أحد المقربين من هذا الدبلوماسي المحنك إنه سيعطي الأولوية للعمل الإنساني كمفتاح للخروج من الحرب الكارثية في سوريا، ولذلك أتته فكرة إعلان مناطق مجمدة، انطلاقا من حلب، في محاولة لإنجاز تحول يتيح عودة الحوار.
للوهلة الأولى، يراهن دي ميستورا وصحبه على أن الشعب السوري، الذي يعيش مأساة قل نظيرها أمنيا وإنسانيا واقتصاديا، ينتظر بارقة أمل في نفق مظلم بسبب حرب التجويع والقتل العشوائي والتهجير المنهجي للسكان. وللوهلة الأولى يحاول النظام السوري القول إنه يدرس المبادرة ويسرّب أنها مشتقة من نتاج أفكاره، واستمرار لنهج ما سمي بالمصالحات التي بقيت محدودة وانتقائية.
لا يمكن لأي فريق معارض حقيقي أن يقف ضد مبادرة تتيح تخفيف المعاناة وإيصال المساعدات. لكن التقييم سيرتبط بموقف النظام في لحظة التطبيق، فإذا كان الهدف إعادة الناس إلى بيت طاعة الحكم لن يكتب النجاح للمبادرة، لأنه مهما كان الوضع المزري لمؤسسات المعارضة، يبقى من الصعب جدا العودة إلى الوراء والتسليم بتصفية الحراك الثوري، أو في اختصار المأساة السورية بالبعد الإنساني ونسيان الجانب السياسي.
في رد متعسف غير مباشر على دي ميستورا وبوغدانوف وغيره، قام النظام السوري في الأسبوع الماضي باعتقال المعارض “الداخلي” لؤي حسين (سبق له اعتقال عبدالعزيز الخير ورجاء الناصر من نفس الفئة، بالإضافة لآلاف من الناشطين السلميين مما أفرغ الحراك الشعبي من قيادته المدنية المتنورة وسرّع بعسكرة الوضع وإرساله إلى المنحى الطائفي) مما يشكل إشارة سيئة عن نوايا هذا النظام الذي يرفض، حتى الآن، تقديم أي تنازل فعلي وملموس أو أي تسهيل للحل السياسي الذي يبقى مجرد أنشودة من دون حد أدنى من التوافقات الإقليمية والدولية. في الماضي لم يصلح العطّار ما أفسده الدهر، وسيصعب على دي ميستورا إصلاح ما خرّبه العالم، كل العالم، في سوريا.
كي نكون واقعيين، لا بد من توصيف الثورات العربية في تونس ومصر واليمن وليبيا وسوريا بأنها ما زالت «ثورات تيك أوي»، أي أنها أشبه بالوجبات السريعة التي لا تسمن، ولا تغني من جوع، لأنها لم تمر بالتسلسل والتطور الطبيعي للوجبات والثورات، فالوجبة الحقيقية تمر بمراحل خمس أو حتى أكثر، الشوربة، فالسلطة فالمقبلات، فالطبق الرئيسي، فالأجبان، فالحلويات، ناهيك عن الوقت الذي يستغرقه تحضيرها. لكن لو قارنا الثورات العربية، بالوجبات مكتملة الأطباق، لوجدنا أنها مجرد طبق غير مغذ، عابر، معبأ في وعاء بلاستيكي هزيل يتناوله الناس عادة لملء المعدة، إما لأسباب اقتصادية، أو بسبب العجلة، لأنهم غير مستعدين لتحضير وجبة كاملة، أو دفع ثمنها، أو حتى الانتظار لحين نضوجها.
مشكلة الإنسان العربي تاريخياً أنه إنسان عجول، ملول، كما لو أن العرب جميعهم من برج الجوزاء الذي يتميز مواليده بأنهم يتحمسون لأمر ما، لكنهم لا يصبرون لإكماله، فيتوقفون في منتصف الطريق، إن لم يكن في ربعه، وذلك على عكس الشعوب صاحبة النفس الطويل كاليابانيين والإيرانيين، فبينما يمضي حائك السجاد الإيراني سنوات كي ينجز سجادة عجمية رائعة مليئة بالزخارف والتفاصيل، نجد أن الإنسان العربي سرعان ما يترك ما بدأه بالأمس بسبب قلة الجلد والصبر والمثابرة. ومن الواضح تماماً أن هذه الصفة العربية السيئة تركت أثرها السلبي على الثورات العربية. فقد ظنت الشعوب التي ثارت أن الثورات يمكن أن تحدث وتنتهي بكبسة زر على طريقة الوجبات السريعة. فالتونسيون ظنوا أنهم أنجزوا ثورتهم خلال أربعة أسابيع، والمصريون اعتقدوا أن الثورة انتهت بعد ثمانية عشر يوماً، واليمنيون، خلال شهور قليلة، والليبيون، ظنوا أن الثورة تحققت بالقضاء على القذافي. وبدورهم يعتقد السوريون أن ثورتهم ستكتمل بمجرد سقوط بشار الأسد من الحكم.
الثورات تاريخياً، يا جماعة الخير، ليست وجبات سريعة، بل تحولات كبرى على كل الأصعدة، ولا تنتهي بمجرد القضاء على رأس السلطة أو الطاغية، فالمستبد كرأس جبل الجليد الذي لا يظهر منه فوق الماء سوى عشره أو حتى أقل. والتخلص من الرأس لا يعني انتهاء الثورة وتحقيق أهدافها. فالثورة الفرنسية استمرت عقوداً، وتآمر عليها كل ملوك وحكام أوروبا، لكنها نجحت في آخر المطاف ليس في تغيير وجه فرنسا، بل في تغيير وجه أوروبا كلها. على العكس من ذلك، لاحظنا كيف تنحى الثوار جانباً في بعض ثورات التيك أوي، وتركوا الدولة العميقة تعيد ترتيب أوضاعها لتعود بشرعية جديدة أقوى وأشرس بعشرات المرات، كما هو الحال في مصر، حيث عاد العهد القديم بوجوه جديدة أكثر نهماً للطغيان والتسلط والاستبداد. أين هم شباب الثورة المصرية الذين ملئوا الدنيا ضجيجاً، وشغلوها لبضعة أسابيع؟ لقد تبخروا تماماً، لأنهم ظنوا أن الثورة أنجزت أهدافها خلال ثمانية عشر يوماً دون أن يعلموا أن المسار طويل جداً، وبحاجة لمتابعة ونضال أشرس في وجه جذور الاستبداد المترسخة منذ عقود في كل مفاصل الدولة؟
حتى في تونس كما يقول سمير حمدي، «بقي فؤاد المبزع رئيس برلمان زين العابدين بن علي مصدراً للشرعية طوال الفترة الانتقالية، ما منح الفرصة للقوى المضادة للثورة لإعادة التشكل وبناء ذاتها، بصورةٍ منحتها، في فترة وجيزة، قوةً لم تكن لتحلم بها. وفي الوقت نفسه، دخلت القوى الثورية في حالة تنازع حزبي وصراع على كعكة سلطةٍ، لم يتم استخلاصها بعد من أنياب الدولة العميقة». لقد تناسى الثوار التونسيون أيضاً أنك إذا سمحت للعهد البائد أن ينافسك على السلطة، فإنه سيفوز عليك لاحقاً، لأنه يعلم دهاليز السلطة ومنعرجاتها أكثر منك بكثير بفضل خبرته الطويلة في السياسة والتسلط. وهذا ما حصل فعلاً، فبدل بناء دولة جديدة على مدى طويل، قبل الثوار التونسيون بتقاسم السلطة مع بقايا العهد الساقط، مما أدى إلى عودته بقوة بوجوه وأشكال جديدة أكثر خطورة، لأنه، هذه المرة يستمد قوته من صناديق اقتراع حقيقية.
بدوره، «شهد النموذج اليمني خروجاً آمنا للرئيس السابق، وبقاء أهله وأتباعه فاعلين في المشهد السياسي، يعطلون مسيرة الإصلاح، ويستمدون القوة من حلفاء إقليميين، لا يريدون لثورة اليمن أن تصل إلى ما يصبو إليه الشعب، من حرية وكرامة وعدل، قبل أن يتم توظيف الطائفية السياسية في أسوا مظاهرها، للانقلاب على كل التوافقات، وإدخال البلاد في فوضى وعنف.» لقد أراد الثوار اليمنيون تناول الوجبة قبل نضوجها، فنزلت في بطونهم جمراً، بدل أن تنزل برداً وسلاماً.
وفي ليبيا، بدل أن تستمر الثورة في تنظيف الساحة، وبناء دولتها الجديدة، راح الثوار يتصارعون على الكعكة قبل أن تنضج، فتحولت الثورة وبالاً على الليبيين، ناهيك عن أن فلول النظام الساقط، على هزالتهم، استطاعوا أن ينظموا صفوفهم بدعم خارجي، وعادوا بثورة مضادة من خلال اللواء حفتر وشركائه، لأن الثوار الليبيين، كبقية الثوار العرب، لم يطبخوا ثورتهم على نار هادئة، ولم يعطوها الوقت الكافي كي تنضج.
وحدث ولا حرج عن الوضع السوري، حيث تصارعت الجماعات الثورية على جلد الدب قبل أن تصطاده كما يقول المثل الروسي، مما جعل النظام الفاشي يصمد لسنوات.
لا نقول هذا الكلام لتثبيط عزيمة الثوار. لا أبداً، فلكل ثورة كبوات، وليس كبوة واحدة، كما علمنا التاريخ. ويجب على بلدان الثورات أن تعتبر الربيع العربي مجرد «بروفة» للثورات اللاحقة. وهي قادمة لا محالة. لقد خرج المارد من القمقم إلى غير رجعة. وسيكون الجيل القادم أكثر شراسة واندفاعًا وقوة وعزيمة وصلابة من جيل الثورات الحالي بعشرات المرات بعد أن شاهد ما حدث لشباب الثورات. لن تستطيعوا سحق الجيل القادم مهما فعلتم. ومهما تآمرتم. الثورات المضادة مرحلة عابرة، وسيعود السيل الجارف أقوى كثيراً من السيل الذي بدأه البوعزيزي في تونس. لن تكون الثورات القادمة ثورات «جنك فود»، بل كاملة الأطباق. لا شك أنها ستكون مرحلة صعبة ومؤلمة وربما طويلة، لكنها ستنجب مولودًا جديدًا تمامًا ومجتمعات وشعوبًا جديدة. والأيام بيننا.
في محاولة لإنهاء الحرب في سوريا، يجري اليوم الاستعانة بمؤسسات “خاصة” يقال إنها متخصصة في حل النزاعات في دول العالم الثالث. برز ذلك في محاولة بعض المؤسسات وأبرزها “مركز الحوار الإنساني” ومقره جنيف، مساعدة المبعوث الدولي ستيفان دي ميستورا في “ابتكار” حل للنزاع في سوريا، حيث جرى طرح مشروع حل يعتمد مفهوم “تجميد الحرب” وتوسيع “المصالحات المحلية”، ويبدو أن المبعوث الدولي قد تبناه بشكل كامل.
لـ“مركز الحوار الإنساني”، صاحب المشروع، تاريخ من العمل على حل النزاعات، يمكن أن يساعده في تبرير مساهمته في حل الصراع في سوريا. فالمركز توسط في النزاع بين الإسلاميين والتيار المدني العلماني في تونس، ونجح في إرساء اتفاق بين الأطراف المتنازعة أفضى لانتخابات ديمقراطية. كما سبق له أن توسط بين الحكومة الأفغانية وحركة طالبان. الأهم أن للمركز نشاطا غير معلن، أو لم يجر تسليط الضوء عليه، في سوريا منذ العام 2013، حيث ساعد في إبرام اتفاقات تسوية محلية بين النظام والمعارضة المسلحة. ويقال أن المركز هو وسيط اليوم في اتفاق يجري إعداده بين المعارضة السورية المسلحة والمسلحين الأكراد في مناطق سورية مختلفة.
قبل الحديث عن بعض تفاصيل التقرير، يمكن إيراد ملاحظة تتصل بالمقاربة العامة لحل النزاع بالاستعانة بمنظمات خاصة “خبيرة” بالنزاعات. يجري في تلك المقاربات انتزاع الصراع السياسي من حقل العلوم الاجتماعية-السياسية حيث واحد زائد واحد لا يساوي إثنين بالضرورة، وحيث تتغير التوازنات بين الأطراف مادة البحث وقد تنقلب بالكامل، ووضعه في حقل العلوم الدقيقة حيث يمكن عبر اتباع سلسلة مترابطة من الخطوات العلمية الوصول إلى نتيجة حتمية إلى حد كبير.
في هذه المقاربة يظهر أن استعصاء النزاع في سوريا مثلا، ربما يعود في أحد جوانبه إلى نقص الأفكار، أو إلى قلة إبداع المبعوثين الدوليين السابقين، أو إلى عدم الالتزام بتسلسل الخطوات المطلوب اجتيـازهـا بنـاء على توصية الخبير المختص. وأي سوء فهم وقلة معرفة في هذا المنهج!.
التقرير المذكور يقول إن المطلوب اليوم هو توسيع اتفاقيات “المصالحة المحلية” من أجل “خفض مستوى العنف وإيصال المساعدات الإنسانية وزرع بذور الحل السياسي”. الفكرة الجديدة التي يقترحها التقرير، والتي يُرادُ لها أن تظهر وكأنها عبقرية وفريدة وتشكل مفتاح الحل في سوريا، تتعلق بعكس أسلوب المبعوثيْن الدولييْن السابقيْن كوفي أنان والأخضر الإبراهيمي المعروف بأسلوب “من فوق إلى تحت”. حيث يدعو التقرير إلى أسلوب “من تحت إلى فوق” بحيث يجري البدء بتجميد القتال وعقد مزيد من المصالحات، وصولاً إلى مرحلة انتقالية تسبق انتخابات عامة. في كل هذا المسار الطويل سوف يبقى بشار الأسد رئيساً للبلاد إلى حين تقرر الانتخابات مصيره.
وكم يبدو هذا الطرح بعيدا عن فهم الواقع السوري حيث لا تكمن المشكلة أبدا في “أسلوب الحل”، بل في موازين القوى التي تميل لمصلحة النظام السوري وتدفعه لمزيد من التعنت. هذا فضلاً عن أن “تحت” في معسكر النظام هو متصل بنسق متين وثابت ولا يتزعزع مع “فوق”. أي فرق يرتجى من هذا الاختراع العبقري: “من تحت إلى فوق” فيما التعليمات الصارمة تتخذ مساراً واحداً: من فوق إلى تحت. يفترض هذا الاقتراح أن هنالك تباينا واضحاً في الرؤية السياسية والميدانية والأهداف النهائية بين قيادة النظام ومقاتليه ومؤيديه. وهذا بعيد جداً عن الواقع، حيث لا تتفارق الطموحات بصورة كبيرة كما يأمل معدو التقرير وميستورا. بل هنالك تناغم فريد يشكل جزءً من تقاليد النظام البعثي والنظم الدكتاتورية بصورة عامة.
حتى في طرف المعارضة يغيب هذا التفارق المرتجى. فرغم عدم وجود صلات مباشرة بين المعارضة السياسية والفصائل العسكرية، لكن الأهداف تبقى متقاربة. بل ربما يكون “تعنت” الفصائل المقاتلة على الأرض أشد من تعنت المعارضة السياسية. هنا تضعنا مؤسسات الخبراء أمام لعبة جديدة تدعي أن “تحت” يشير إلى المدنيين حصراً.
هكذا فالصراع السوري فيه طرفان شرّيران من جهة، ومدنيون عالقون في وسط الصراع من جهة أخرى. حيث لا صلة لهؤلاء المساكين بأي طرف، هم حياديون إلى حدود السذاجة، يريدون سلتهم بلا عنب. وهو ما يعيدنا إلى مربع الخروج عن الواقع المعقد والمتداخل، فضلاً عن أن الطرح آنف الذكر يفرغ الثورة السورية من مضمونها، ويحولها من ثورة شعبية مدنية تعسْكَرت في مرحلة لاحقة، إلى نزاع طرفين لا قواعد اجتماعية ومدنية لهما.
في حقيقة الأمر، وبالنظر إلى موازين القوى الحالية في سوريا، فلا الثوار رغم كل الضعف والفوضى التي تحيط بهم مستعدين لتوقيع اتفاق يبقي الأسد في السلطة، ولا الأسد ورغم كل الضعف الذي حل بنظامه وتزايد قوة “النصرة” و“داعش” من حوله مستعد كما يبدو لتقديم أي تنازل. ولا نتحدث عن رحيله، بل هو غير مستعد لتقديم تنازل أقل شأنا من قبيل وقف قصف المدنيين وتجميد القتال والسماح بتشكل إدارات محلية لشؤون السكان في المناطق المحررة، أو بحدوث لا مركزية سياسية ومناطقية كما يأمل ميستورا ومنظمات الخبراء التي لا يبدو أنها خبيرة بما فيه الكفاية بطبيعة النظام وطبيعة الصراع في سوريا.
تبدو الحلول المطروحة وكأنها تحلق في الفضاء، ولا تستند إلى قاعدة ملموسة على الأرض، فيما تحاول إطلاق الدخان الكثيف بما يحجب طبيعة النظام السوري، والإقليمي والدولي الداعم له، التي تحطمت على أقدامها أعتى الأفكار الناضجة والعقلانية لحل الصراع في سوريا.
كما فعل مع كوفي عنان والأخضر الإبراهيمي، سوف يصدم نظام الأسد كلا من ميستورا و“مركز الحوار الإنساني” بتعنته، ويخرج أفكارهم العبقرية من المختبرات ليمرغها في وحل الواقع السوري. ذلك إن كانت جهودهم مكرسة فعلاً من أجل حل الصراع، وليس من أجل استسلام السوريين لمجرم الحرب الأعظم في التاريخ الحديث.
وفقاً لكثير من المصادر، يبدو المشهد في سورية حالياً تماماً كما أراده نظام بشار الأسد منذ اليوم الأول لاندلاع الثورة السورية سلمياً. فالفصيلان الأقوى في مواجهة قوات هذا النظام (والتي تضم مليشيات شيعية متعددة الجنسيات)، هما تنظيمان مدرجان على قوائم الإرهاب في دول العالم كافة؛ "جبهة النصرة" التابعة لتنظيم "القاعدة"، وتنظيم "داعش" المنشق عن "القاعدة".
وبافتراض تمام دقة هذا التوصيف، يبدو السؤال الأهم هنا: هل يخدم فعلاً هكذا واقع نظام الأسد الآن؟
كانت "لعبة" النظام عند اندلاع الثورة السورية، هي إقناع الخارج أساساً، بأن الخيار في سورية هو بين نظامه وبين التنظيمات الإرهابية، حتى عندما كانت هذه الثورة شعبية، تقوم على محض مطالب إصلاحية وبأدوات سلمية خالصة. وإذ صدّق النظام كذبته، فقد تعامل فعلاً مع السوريين جميعاً، وعلى امتداد قرابة أربع سنوات، باعتبارهم إرهابيين؛ مستخدماً القتل والاعتقال والتهجير الجماعي. لكن بذلك تحديداً أجهز هذا النظام بنفسه على فرصة أن يكون بديلاً للتنظيمات الإرهابية الحقيقية لدى الشعب السوري.
هذه الحقيقة يؤكدها -وبما يجيب عن السؤال السابق بشأن استفادة نظام الأسد من صعود التنظيمات المتطرفة- أن ضعف فصائل المعارضة المسلحة الموصوفة بـ"المعتدلة" أو حتى "العلمانية"، لم يصبّ أبداً في صالح النظام، بل العكس تماماً؛ إذ جاء في مصلحة "جبهة النصرة" وحتى "داعش". فأحد أهم أسباب ضعف فصائل المعارضة المسلحة الأخرى هو التحاق مقاتليها بتنظيمي "القاعدة" السابقين، والدافع في الغالب هو الدفاع عن النفس في مواجهة جرائم النظام التي تتصاعد بلا توقف. ومثل هذا لا يشكل سابقة أبداً. فالعراقيون استقبلوا تنظيم "داعش" استقبال الفاتحين في الموصل، رغم كامل معرفتهم بفظائعه في سورية على الأقل؛ ذلك أن كل ما كانت تقدمه لهم حكومة رئيس الوزراء السابق نوري المالكي، هو الموت فقط، بعد إهدار الحقوق والكرامة والتنكيل.
هكذا، يبدو الجانب الأخطر، أو اللعنة التي جلبها نظام الأسد على نفسه، عبر "نجاحه" في إلحاق السوريين بتنظيم "القاعدة"؛ "جبهة نصرة" أم "داعش"، وبالتالي إحكام حلقة "اللعبة الصفرية" التي بدأها هذا النظام ذاته.
إذ يبدو واضحاً تماماً اليوم أن هذا النظام، ومع الدعم المطلق من حلفائه؛ إيران وحزب الله وروسيا، لم يعد قادراً على الانتصار في هذه "اللعبة الصفرية". وأقصى إنجاز نراه الآن هو استمرار بشار الأسد في منصب الرئيس، لكن مع حرب تدمير شامل لسورية، واستنزاف للسوريين جميعاً بكل طوائفهم. وهنا تحديداً، يكاد يكون النظام أخطر أعداء حاضنته الاجتماعية، بل وقاتلها الصامت.
والخشية الحقيقية في ظل تواصل الاتجاه الحالي، أن لا تجد روسيا وإيران، المتحكمتان بمصير الأسد، من تتفاوضان معه على الحل السياسي، حين تدركان فعلياً -وليس لفظياً وكسباً للوقت كما يحدث الآن- أن هذا الحل هو المخرج الوحيد من الأزمة السورية.
لم تعد "لعبة البديل" في سورية (وكما ثبت في حالة العراق)، قابلة للاستمرار وفق المعطيات الحالية؛ أي بين إرهاب "القاعدة" وتفرعاتها وبين إرهاب النظام، فهنا تنتصر "القاعدة" بأشكالها المختلفة. وهي ستظل تنتصر، إلى حين خلق بديل حقيقي لها؛ أي ذاك القائم على احترام إنسانية الإنسان، حاضراً ومستقبلاً.
رسمت وسائل الإعلام المختلفة، خلال السنوات الثلاث الماضية، صورة مشوشة، وتنطوي على مقدار كبير من الاختزالية، لمفهوم المعارضة السورية المعتدلة، ودعّمت تلك الصورة السياسات الدولية والإقليمية التي تركبت وتداخلت مع القضية السورية.
ومصدر الاختزال والتشويش، يعود إلى حصر صفة الاعتدال بالمعارضة المسلحة وحسب من جهة، ومن جهة ثانية تبني هذه الرؤية صورة الاعتدال على معادلة المفاضلة مع القوى والفصائل الإسلامية المتطرفة، ومن جهة ثالثة لا تأخذ في الاعتبار أصل القضية الذي هو معارضة شعب في مواجهة نظام تسلطي، فئوي، أوليغارشي.
إن تقدم المشروع الوطني السوري يقتضي إعادة بناء مفهوم المعارضة المعتدلة، فكراً وممارسة، بالتعارض مع الصورة الاختزالية التي قلصّتها إلى بعدها العسكري. ويكون ذلك بالعودة إلى أصل الثورة التي كانت محمولة على أكتاف معارضة مجتمعية وازنة، أفضت إلى تقويض أسس «الدولة التسلطية»، وإزاحة المعارضات الأيديولوجية المغلقة إلى الرصيف. والأهم، أنها كانت تتحرك في فضاء مفتوح على أفق وطني. لذا، تركز جهد النظام ومن خلفه الجهد الإيراني على نزع الطابع الوطني عن الحراك المدني الذي تمت مواجهته بوحشية منقطعة النظير في تاريخ البشرية، لأنه أظهر قوة تلك الكتلة المجتمعية وثقلها، وهي عبارة عن شرائح وفئات اجتماعية واسعة وغير متجانسة، ويصعب تحديدها تحديداً طبقياً أو أيديولوجياً، باستثناء إجماعها على قضيتي الحرية والكرامة وانفتاحها على فكرة المجال الوطني العام. وضمت طلاباً جامعيين وغير جامعيين ومهندسين وأطباء ومحامين ومعلمين وفنانين ومثقفين وكتّاب وصحافيين وشخصيات عامة ورجال أعمال ورجال دين وأساتذة جامعات ومشتغلين بالحقل العام ونشطاء إعلاميين وميدانيين وسياسيين وموظفين وعمالاً وفلاحين وسكان مدن وأرياف، كذلك شاركت في الثورة أعداد كثيرة جداً من قواعد حزب البعث، مؤسسة السلطة الأيديولوجية.
هذه الكتلة الوازنة التي دفعها التاريخ إلى مواقع معارضة وطنية جذرية في مواجهة «الدولة التسلطية»، لحقت بها ظاهرتان فرعيتان، هما الجيش الحر والمجلس الوطني الذي تحول إلى أحد أطراف ائتلاف قوى الثورة السورية لاحقاً. وعندما تراجعت تلك الكتلة التاريخية إلى الصفوف الخلفية، تلاشى الجيش الحر، وانطفأ المجلس الوطني، وصار الائتلاف ظاهرة هامشية في المعارضة، فيما تقدم إلى الواجهة قاع المجتمع التقليدي والفصائل الإسلامية المسلحة المرتبطة فيه، في مواجهة السلطة التي انحدرت إلى سلطة ما دون استبدادية، أي (سلطة تشبيح وقتل)، وفي مواجهة الميليشيات الطائفية المقبلة من خارج الحدود.
هذان القطبان، السلطة وميليشياتها، والمجتمع التقليدي وميليشياته، لم يعد بمقدورهما إلا توليد الحرب والقتل والخراب. لذا، فإن أي مشروع سياسي ذي أفق وطني سوري، يقتضي استعادة تلك الكتلة التاريخية المعارضة، وهي لا تزال، على هول النكبة التي حدثت، الأقوى للأسباب الآتية:
أولاً، لأن تنوعها واختلافها وشمولها لمختلف الشرائح والفئات، يجعل طابعها طابعاً عمومياً، يتطابق مع حدود الوطنية السورية.
ثانياً، لأنها تتصل بالعمل والإنتاج والفكر والسياسة، وتنحو إلى الاستقرار والعيش بسلام وتناهض عناصر الحرب الداخلية، فهي تنسجم سوسيولوجياً مع السياسة بصفتها فاعلية مجتمعية متجهة نحو المركزة والتوحيد، في مواجهة فوضى الفصائل والميليشيات والظواهر الحزبوية والسياسوية التي فتّتت المجال الوطني.
ثالثاً، ثقلها الوطني يعمل على انتشال سورية من موقع الساحة للصراعات الإقليمية والدولية، إلى موقع وطن وشعب يتكتّل حول مسار طويل وشاق باتجاه دولة وطنية منشودة.
إن تعقيدات القضية السورية لا تحتّم استعادة هذه الكتلة التاريخية المعارضة إلى مجال الفعل. لكن تلك الاستعادة تبقى رهان الوطنية السورية الوحيد.