على أثر إعلان المستشار العسكري لوزير الدفاع السعودي استعداد الرياض لإرسال قوات برية لقتال «داعش» في سوريا انطلق نقاش، وجدال، هذا عدا عن ارتباك سياسي إقليمي، وتحديدًا من قبل إيران، حول هذه الخطوة، وهو ما تزايد مع إعلان الإمارات استعدادها للانضمام مع السعودية لمقاتلة «داعش» في سوريا.
وأول من استشعر جدية هذه الخطوة، أي إرسال قوات برية سعودية إماراتية إلى سوريا لمقاتلة «داعش» هو النظام الأسدي، وإيران، والجماعات المحسوبة عليهما، ولذلك هدد حزب الله العراق السعودية، لكن السؤال هنا هو: لماذا استشعر الأسد، وإيران، وأتباعهما، أهمية هذه الخطوة، وماذا عمن يحاولون الفهم أكثر، وهنا أتحدث عن الجادين، وليس المختفين خلف أستار مختلفة، حيث لم تعد التقية شيعية، بل إن التقية باتت سنية أيضًا؟ المؤكد أن هناك تساؤلات منها، مثلاً: كيف يمكن نجاح التدخل البري من دون غطاء جوي؟ وهل هذا يعني أن التحالف الدولي، وبقيادة أميركا، سيشكل الغطاء الجوي؟ وهل من قواعد اشتباك؟ مثلاً، ماذا لو تواجهت القوات الحليفة مع حزب الله في سوريا؟ وماذا لو حاصرت القوات الحليفة، والقوات البرية العربية «داعش» من جهة، وكان حزب الله، والقوات الإيرانية يحاصرونهم من ناحية أخرى، فكيف سيفسر ذلك مع ارتفاع المنسوب الطائفي في المنطقة؟
أسئلة حقيقية، لكن السؤال الأهم الآن، والذي يجب أن يطرح، لماذا لا تُشرح أبعاد هذه الخطوة؟ وما الهدف منها؟ مثلاً، ما أعلن الآن عن استعداد لتدخل بري بسوريا سمعته قبل ثلاثة أشهر من مصدر عربي رفيع المستوى، لكنني اعتقدته عصفًا ذهنيًا، أو مجرد أفكار، لكن اليوم نحن الآن أمام تصريح سعودي – إماراتي – بحريني، فماذا عن الأزمة السورية نفسها؟ ماذا عن مستقبل الأسد؟ وماذا عما تفعله روسيا هناك؟ والحقيقة، وهذه مرافعة لمن يدافع عن بشار الأسد بشكل مبطن، ومن باب «التقية السنية» فإن السعودية، مثلاً، لا تتهور، ولا تنهج منهج العداء، ولا تعلن عن حروب غير مبررة، فالحرب أساسًا معلنة في منطقتنا منذ عام 1979. ومن لا يراها فإن لديه خللاً حقيقيًا، أو هو من جماعة «التقية السنية». إيران تهددنا في العراق، وسوريا، ولبنان، واليمن، والبحرين، وحتى في دولنا، ولديها ميليشيات مسلحة، وتتباهى، أي إيران، بأنها تحتل أربع عواصم عربية وهي بغداد وبيروت ودمشق وصنعاء. إيران هي الطرف الذي أعلن الحرب، ومنذ الثورة الخمينية المشؤومة، وليس أحدًا آخر.
وعليه يبقى هنا سؤال مهم، وهو: لماذا لا يصار إلى تحرك دبلوماسي عربي حقيقي، بل قل انتفاضة، لنعرف من معنا، ومن ضدنا في قصة سوريا؟ ماذا عن مصر، وقطر، وتركيا والأردن؟ ولماذا لا تُشرح لنا دوافع التدخل البري العربي، فهل هو مبادرة، أم جزء من خطة تحظى بدعم دولي؟ وماذا عن المواجهة مع إيران، وروسيا، وما هو مصير الأسد؟ شرح يحيّد المتشكك، ويدعم المتفق، ويحجّم الخصوم.
قاسية جداً صور السوريين الهاربين إلى الحدود التركية، على وقع القصف الهمجي الذي تشنه قوات بشار الأسد وروسيا شمال حلب.
وقاسية أكثر الرسائل التي يبعث بها هؤلاء متوسلين ومترجين أن تسمح لهم السلطات التركية بالدخول إلى تركيا، بل إن بعض الحكومات الأوربية نفسها شاركت في الأمر، حيث دعا مسؤول في الاتحاد الأوروبي، تركيا إلى الالتزام بالاتفاقات الدولية واستقبال اللاجئين السوريين العالقين على حدودها، هي ذاتها الدول الأوربية التي تشرع برلماناتها قوانين تحد من دخول اللاجئين إليها، وتحض اليونان في كل مناسبة على ضبط حدودها وإغلاقها أمام السوريين.
الرقم الذي يتم الحديث عنه هو قرابة 50 ألف هارب من جحيم القصف غير المسبوق وسياسة الأرض المحروقة التي تكرر فيها روسيا ما فعلته سابقاً في الشيشان.
وما هؤلاء إلى دفعة صغيرة سبقها حوالي 4.5 مليون لاجئ هربوا من سوريا واستقبلتهم دول الجوار، كانت حصة تركيا وحدها حوالي 2 مليون منهم، معظمهم يعيش خارج المخيمات في المدن والأرياف التركية يمارسون أعمالهم التي أنشأوها في تركيا وكأنهم مواطنون في بلدهم، بل إن تركيا نفسها صرحت أكثر من مرة باعتزامها اتخاد خطوات من شأنها توطين السوريين، لعل آخرها قرار تتريك المناهج الدراسية التي يدرسها الأطفال السوريون في المدارس السورية في تركيا.
ولكن –حتى الآن- ترفض تركيا السماح بدخول الهاربين من ريف حلب الشمالي، وأعلنت عزمها بناء مخيمات داخل الأراضي السورية لهم.
فهل أدركت تركيا أخيراً خطأ سياستها السابقة في استيعاب السوريين الهاربين من إجرام بشار الأسد؟
طوال سنوات الثورة السابقة كانت تركيا بمثابة أرض الخلاص للسوريين الهاربين من إجرام النظام، ولكن مهلاً…
أليست أيضاً أرض خلاص لبشار الأسد في الوقت نفسه؟
ألم تكن بمثابة حديقة خلفية يلقي فيها بشار الأسد السوريين الذين لم يعد بحاجتهم! مفسحاً المجال أمام خطط التغيير الديموغرافي لتبصر النور وتفرغ المناطق المعارضة من سكانها محافظاً بذلك على “سوريا المفيدة”!
إن العالم نسي حقيقة مأساة ملايين السوريين الذين دخلوا تركيا، وراحوا يمارسون حياتهم وأعمالهم بشكل شبه طبيعي، أو بات يهتم بكوارث ناشئة عن كارثتهم الأم كالغرق في البحر وصعوبات الاندماج في الدول الاوربية، في حين يستمر المجرم ومساندوه في تهجير المزيد دون أن يقول لهم أحد: كفى.
إن استمرار دخول السوريين اللاجئين إلى تركيا والدول المجاورة هو استمرار أيضاً للنظام في وحشيته، وكرت أخضر لتهجير المزيد والمزيد من السوريين المعارضين دون أن يشكل هذا التهجير باباً لأي ضغط دولي أو دعوة لإنقاذ وضع هؤلاء، فتركيا تتكفل بهم، وربما قريباً تبدأ الدعوات الأوربية لتوطين هؤلاء ومنهم الجنسية التركية وبذلك يختفون تماماً وكأنهم لو يوجدوا سابقاً فوق الأراضي السورية.
وربما بسبب ذلك أيضاً يختار بشار الأسد محافظة إدلب وجهة وحيدة لمن يريد مغادرة المناطق التي تعقد اتفاقيات المصالحة، فإدلب هي البوابة السورية مع تركيا، ولن يكون حزيناً أبداً إذا غادر كل من فيها إلى تركيا!
إن المطالبة بعدم إدخال السوريين إلى تركيا أو غيرها، قد تبدو مناقضة تماماً لمصلحة الهاربين الذين يعيشون على الحدود وضعاً في غاية البؤس، ولكنها على المدى الطويل في مصلحتنا حتماً.
لايجب أن يكرر شعبنا السيناريو الفلسطيني لا يجب أن تصبح العودة حلماً ومفاتيح البيوت تذكارات نورثها لأولادنا وأحفادنا، يجب أن نبقى في أرضنا بكل ما يحمله هذا البقاء من صعوبة وموت، وعلى دول العالم المتزلفة للقاتل أن تتوقف عن المطالبة باستيعابنا في دول الجوار، وأن تتحرك لإيقاف مجنونهم المتوحش، فبذلك فقط تتوقف سيول الهاربين وتنتهي مآسيهم.
بالطائرات والمدافع رد فلاديمير بوتين في حلب على العملية السياسية في جنيف التي استبعدت من صنّفهم هو وبشار الأسد معارضين، وطالب بجلوسهم الى طاولة المفاوضات مع وفد النظام. لكن بوتين ردّ ايضاً في حلب على تركيا وأوروبا وعلى حلفاء المعارضة السورية من العرب، كما ردّ في الوقت ذاته وبصوت عالٍ على باراك اوباما صارخاً: أنا صاحب القرار في الحرب السورية كما في الحل.
ينفذ بوتين في غاراته على حلب الهدف الذي وضعه النظام منذ بدايات الحرب، وهو انه لا توجد معارضة معتدلة للتفاوض معها في سورية. هناك جماعات ارهابية لا بد من القضاء عليها قبل ان يصير ممكناً التوصل الى حل سياسي. لذلك لا يرى الروسي في حلب وفي درعا وفي ريف اللاذقية وفي سائر المواقع سوى «ارهابيين»، حتى ان السفير الروسي في جنيف استغرب ان تقاطع الهيئة العليا للمفاوضات محادثات جنيف احتجاجاً على الغارات الروسية، وطالبها بأن توجه الشكر الى موسكو على حفلة القتل والتهجير التي تمارسها في سورية!
ما هي النتيجة الطبيعية للقضاء على مواقع المعارضة المعتدلة في سورية وعلى قواعد «الجيش السوري الحر» سوى أن يتحول تنظيم «داعش» الى القوة الوحيدة التي تزعم القدرة على حماية مصالح الأكثرية في سورية؟ وعندها يتحقق حلم النظام وروسيا معاً، وهما اللذان يستبعدان مواقع «داعش» من الهجمات التي يشنّانها على ما يقولان انها «جماعات ارهابية». ثم، كيف يكون رئيس هيئة المفاوضات رياض حجاب مواطناً صالحاً عندما يقبل تعيينه رئيساً للحكومة السورية، ثم يتحول الى «راعٍ للإرهاب» عندما يقف الى جانب مواطنيه الذين يحتجّون على جرائم القتل التي ترتكبها قوات النظام؟
معركة حلب تزيل كل الشكوك حول طبيعة الدور الروسي وأهدافه. انها تلغي اي دور لنظام بشار الاسد في تقرير المرحلة المقبلة. فالعنوان الأساسي للمفاوضين الغربيين، وربما العرب أيضاً، سيكون بعد الآن في الكرملين مع فلاديمير بوتين. في يديه ورقة الضغط على الأوروبيين من خلال مسألة اللاجئين الذين اصبحوا يشكلون أكبر هاجس لأوروبا، يهدد مشروعها الوحدوي وحدودها المفتوحة. وفوق ذلك تساهم أزمة اللاجئين في صعود تيارات اليمين المتطرف في اوروبا، كما نشهد في المانيا وفرنسا وحتى في دول ليبرالية تقليدياً مثل الدول الاسكندنافية، وهي تيارات حليفة للقومية والفاشية الروسية التي يعدّ بوتين أفضل رموزها المعاصرة.
معركة حلب هي ايضاً عامل ضغط على تركيا من خلال دفعها الى اتخاذ موقف صعب من التدخل العسكري في سورية، فضلاً عن تدفق الأعداد الكبيرة من اللاجئين عبر الحدود التركية، وما يشكله ذلك من عنصر قلق في الداخل التركي، واضطراب في العلاقات التركية - الاوروبية والتركية - الاطلسية، بينما تستمر المطالب الغربية بضرورة استيعاب تركيا لملايين الهاربين اليها، لتخفيف الضغط عن حدود «شينغن» الأوروبية.
لكن، أبعد من كل ذلك، من شأن التدخل الروسي أن يرسم خريطة جديدة للحرب السورية ولسورية ذاتها، هي خريطة تثبيت التقسيم. يصعب على بوتين وعلى بشار الأسد وقاسم سليماني إخضاع كل السوريين لمشروعهم. يمكنهم السيطرة على المناطق ذات الأكثرية الشيعية، وإخراج المعارضة من المناطق والبلدات التي تقيم فيها هذه الأكثرية، كما حصل في نبل والزهراء وفي ريف اللاذقية. لكنهم لا يستطيعون فرض نفوذهم على ابناء المناطق الاخرى، حتى لو أخرجوا قوات المعارضة منها بالقوة. والدليل هو عشرات آلاف الهاربين من المناطق التي يزعم نظام الأسد وشركاؤه أنهم استعادوها الى سلطة الدولة السورية. لماذا يهرب هؤلاء المواطنون السوريون من هذه السلطة ويبحثون عن أي مأوى، اذا كانوا يعتبرون انها هي السلطة التي تمثلهم وتحميهم؟
مع التكثيف الاعلامي المتسارع حول التدخل البري من قبل "التحالف الإسلامي" الذي تشكل فيه المملكة العربية السعودية و تركيا رأسا الحربة ، تتحضر بقية الأطراف حول ماهية و مآلات الأمر ، اذا التمهيد السري ظهر للعلن و التلميح بات واقعاً وجد حيثيات له على الأرض ،و لعل مناورات "رعد الشمال" هي الشكل الخارجي لتصريحات سعودية تصاعدت تدريجياً حتى وصلت للاعلان الرسمي من المتحدث باسم التحالف الذي يخوض حرباً أخرى في اليمن .
و قالت اليو م "سي ان ان" أن هناك ١٥٠ ألف جندي في تركيا تم حشدهم تمهيداً لهجوم بري في سوريا ، يأتي في اطار الاستعداد السعودي الذي أبدته ضمن التحالف الدولي ضد داعش، و الذي يتزامن مع اقتراب موعد مناورات "رعد الشمال" التي ستكون الأكبر من حيث عدد المشاركين و المقدر "٣٥٠ ألف جندي من غالبية الدول التي انضوت تحت التحالف الاسلامي الذي أمنت له المظلة اللوجستية و فيما يبدو المالية و الحماية الدبلوماسية المملكة العربية السعودية .
و لكن هل اقترب التدخل البري أم أن الأمر عبارة عن أحاديث كتلك التي دارت عندما أطلقت السعودية و دول خليجية "عاصفة الحزم" ، و كان حينها الجميع بانتظار هبوب نسائم منها على سوريا ، و لكن العاصفة انتهت أو ثبتت بمنطقتها ، نأت بنفسها عن سوريا .
في الغرف الضيقة هناك مصادر تتحدث عن وصول ضبط النفس لحد سيخرج عن السيطرة و الرد بات ضروري ، مع تثبت قناعة نهائية لا عودة عنها ، تتمثل أن الصراع في سوريا لن يحل بطريق سلمي بعد تفشيل مؤتمر جنيف ٣ ، ولاحتى بحرب برية عادية بين الثوار و النظام و حلفائه ، الذين تمادوا لحد لم يعد للسكوت أو التغاضي مكان ، والقناعة الحتمية تتمثل في أن الحل لن يكون إلا من خلال صراع دولي ، غير مباشر ، تحت مظلة مكافحة الارهاب ، و الحقيقة هو تصفية حسابات و ردع ما يمكن ردعه من أمور خطيرة قد تضرب الدول الحيطة بسوريا بشكل مباشر و على رأسها تركيا أو المتعلقة بسوريا بشكل غير لصيق جغرافياً و السعودية هي الأصل .
و رغم تصاعد الحديث و التصريحات و التصريحات المضادة بين طرفي القضية ، لكن مصادر موثوقة أكدت أن الأمر عبارة عن ترتيب اداري و تنظيم برتوكولي لن يدخل حيز التنفيذ في الوقت الحالي ، و التسويق الاعلامي الذي تم ماهو إلا رسالة ضغط لانجاح جنيف ٣ المقرر فك "التجميد" عنه في ٢٥ الشهر الجاري ، علّ الأمور تنصلح و تجد السياسة طريق لها .
و الغالب أن التحضيرات البرتوكولية و الادارية من تعيين قادة قوات التدخل البري في سوريا من السعوديين و الأتراك ، الذين سيتولون ادارة العمليات العسكرية ، ليست ورقة ضغط فحسب و أنما التحضر لماهو أسوء ، اذا أن السعودية و تركيا تضعان في حسبانهما أن روسيا كما يقال المثل السوري "ما مصلية على النبي" ، لذا يجب أن يكون هناك قوات ردع تنقذ ما يمكن انقاذه ، بعد كل ماحدث خلال الشهور الأربعة الماضية ، و الأكيد أن تركيا تضع موضوع "الأكراد" ضمن أولويتها و لن تصمت أو تجعله يمر أو يتمادى أكثر ليصل إلى صناعة دولة كرزدية ملاصقة لها، إذ ذلك سيمهد إلى انفصال مماثل في الجنوب التركي المتوتر بالأصل .
لا مجال في الوقت الحالي سواء من الناحية اللوجستية أو العسكرية الدخول مباشرة أو في ليلة و ضحاها، برياً في سوريا ، إذ أن اعداد العدة و التمهيد للعالم بحاجة لوقت ، سيما أن اللاعبون في الشأن السوري مختلفون تماماً عن أؤلائك المتواجدين في اليمن ، فهنا أمريكا و اسرائيل و أوربا و طبعا روسيا و الصين و اذا ما احتسبنا ايران كلاعب و ليس كبيدق .
و قد يمتد التوقع إلى أن التدخل البري حاصل لامحال في حال فشل مفاوضات ٢٥ الشهر أو تمييعها بشكل يخالف الرغبة الجمعية للحلفاء الاسلاميين ، و سيكون من الممكن خلال شهور ثلاث أي منتصف العام ، حينها يكون عدة أمور قد تمت منها حرب اليمن و التجهيز من الناحية العسكرية قد اكتمل، و مفاعيل الضغط الاقتصادي المتولد عن تخفيض أسعار النفط قد أتت أؤكلها و أصيبت روسيا بوهن مزدوج اقتصادي – عسكري ، ليتحول الصراع الدولي المتوقع إلى صراع من نوع مخفف لن يكن لروسيا أو لايران القدرة على الحسم فيه .
و يبقى في الحديث تتمة ….
لايمكن أن نكتفي بتوزيع اللعانات شرقاً و غرباً ، قريباً وبعيداً ، قبل أن نوجهها إلى أنفسنا عندما نشاهد آلاف السوريين الذي هجرهم العدو الروسي و قوات الاحتلال الايراني ونحن جالسون ، و لن تنفع اللعنات اذا لم تشمل على رأس القائمة المعارضة السورية الخارجية و المنظمات الانسانية السورية التي تقدر بالمئات ، عندما تغييب عن المشهد القاتل الذي يعانيه النساء و الأطفال و الشيوخ النازحون من حلب و درعا و المرميون على الحدود التركية و الأردنية بدون أن يجدو شيئاً إلا أرضاً جرداء و سماء تدر عليهم الماء .
آلاف السوريين ممن التقطت الكميرات صوراً لهم على المعابر الشمالية و آلافٌ مثلهم على المعابر الجنوبية لم يستطع أحد أن ينقل صوراً حتى لو كانت صامتة ، ليكونوا وحدهم تماماً و لا يحظوا إلا ببعض الدعاء من القلة الذين سمعوا و لم يرو.
لايمكن لنا أن لا نهاجم تركيا و الأردن ، و كل الدول التي تقاعست و تتقاعس عن المآساة التي يواجها الآلاف من أبناء سوريا المكلومة و الثكلى لأرضها و المحاربة بأظافرها وحوش الأرض و شيطاينها ، و لكن في الوقت ذاته لن نصب كل هذا على الخارج و لنا الحق الكامل في توجيه اللعنات لكل من يحمل صفة معارضة صمت أو اكتفى بذرف بعض الدمعات ، والقى بنفسه على سريره و قرر النوم بانتظار يوم جديد من التنديد.
و من ضمن الحقوق التي نمتلكها هو السؤال عن المنظمات التي تنشط على أنها سوريا و التي تقدر بالمئات و لديها جيش من الموظفيين و الناشطين الذين يتغنون بأعمالهم ، و يبدعون في عملية التوثيق لكل ابرة يتم منحها للسوريين ، في حين هناك غياب شبه تام لها على الأرض ، و عجز مخيف اتجاه هذه الحالة الانسانية التي لن نقول أنها تلوث جبين البشرية فحسب ، بل تقتل الروح الانسانية لدى كل ذي حس .
خليط من المشاعر التي أقلها القهر ، تعتصر الأرواح على الصمت الذي يجتاح الجميع اتجاه هذه الحالة ، لايعني البيانات أو التباكي كلاماً بل هو صمت و صمت لعين .
من يعتقد أن إيران تريد إقامة دولة شيعية على جزء من العراق فهو مخطئ، ومن يظن أن إيران تساعد الحوثيين بقصد تقسيم اليمن وإقامة دولة شيعية، فهو مخطئ أيضا، ومن يظن أن إيران تريد إقامة دولة علوية في سوريا، فهو بتقديري ليس على صواب، لأن حقيقة المشروع الإيراني في المنطقة العربية تقوم على منع قيام دولة عربية، مهما كانت ديانة هذه الدولة، ومهما كانت مسمياتها، لذلك فالذين يقاتلون مع إيران، ويحلمون أنهم سيحصلون منها على أي كيانية صغيرة، هم واهمون.
حقيقة المشروع الإيراني تتمثل في صناعة جيوش من المليشيا، متعددة الأسماء والأشكال، كما هو مشاهد الآن في العراق وسوريا، حيث عشرات ومئات الفصائل والمجموعات الشيعية التي تقاتل على الأرض، ولكن كل هذه المليشيا غير مسموح لها أن تكون ضمن إطار الدولة، وغير مسموح لها حتى ممارسة سلوك الدولة، وما تقوم به هذه المليشيا هو ممارسة سلوك قبائل ما قبل التاريخ، حيث تذبح وتدمر وتحرق كل شيء، وفي نهاية المطاف، تشتري إيران قائمة هذه المسروقات الطويلة، والتي ابتدأت من سرقة كامل شبكات الكهرباء في العراق لحظة الغزو الأمريكي، حيث أفلتت إيران قطعانها ومارسوا نهب كل ما يباع ويشترى، بقصد إعادة العراق إلى العصر الحجري.
إيران التي تؤسس وتحكم وتدعم كل هذه الظواهر الغريبة التي نشاهدها الآن في العراق وسوريا، والتي لا تزال تقوم بصناعة المزيد منها والتي في نهاية الأمر كل ما تمنحها مجرد اسم من الأسماء المقدسة لديها، هذا هو ما لديها بالضبط، ولو كان الحاكم الإيراني يريد لهذه الظاهرة أن تكون مختلفة، لفكرت إيران ضمن أي منطق عصري طبيعي، الذي سيسعى نحو تأسيس قوة عسكرية ضاربة وموحدة، وذات قيادة واحدة، لأن وجود عشرات ومئات الفصائل يعني بالضرورة غياب القوة العسكرية الضاربة والمنظمة، والتي لا يمكن أن تأتي من هذه الفصائل التي لا يعنيها على الأرض أكثر من ممارسة سياسة النهب والأرض المحروقة، تماما وكأننا نعيش حربا في مجاهل التاريخ، ليس لها أي بعد أخلاقي بتاتا.
هو بالضبط، العقل الإسرائيلي، الذي يريد منطقة عربية تموج بالاختلافات العربية، وتخترقها الحروب والفوضى، والانقسامات، بحيث تصبح فكرة وجود إسرائيل في المنطقة، بمنزلة الدولة الوحيدة التي تقوم في بيئة مليئة بالوحوش والذئاب، وبالتالي ما عجزت إسرائيل عن تحقيقه طوال عشرات السنين، جاءت اليوم إيران لكي تقدمه لإسرائيل على طبق من ذهب، فهي إيران التي تريد تقسيم اليمن والسعودية والعراق وسوريا ولبنان، ولكنه تقسيم لا يقوم حتى على أسس طائفية أو مذهبية فقط، فلو كانت إيران تريد إقامة دولة شيعية في العراق لفكرت بتوحيد الشيعة هناك، لكن الفكرة الإيرانية مختلفة تماما، فمن سيحارب اليوم وغدا مع إيران عليه أن يعرف أنه ذاهب إلى الحرب فقط، وهي الحرب التي لا انتصار فيها بتاتا، لأن دوام الحرب هو ما تريده إيران، ووجود مئات الفصائل التي تمارس سلوك قبائل ما قبل التاريخ، سيكون كفيلا باستحالة قيام (فكرة الدولة) ولو بالحدود الضيقة.
إيران التي تشتري حتى الخردة المسروقة من العراق، هي وصية على كل شيء فيه، وأمراء الحرب فيه هم مجرد أجراء صغار، لذلك من الطبيعي أن تضيع أموال النفط العراقي، ومن الطبيعي أن تختفي الخزينة العراقية، طالما أن اليد الإيرانية هي التي تدير البلاد فعليا.
إسرائيل تريد منطقة عربية بمنزلة مزيج من أشباه الدول، يحكمها مئات الأمراء المتناحرون، وما تفعله إيران في المنطقة العربية هو تماما ما يتوافق مع الحلم الصهيوني، لذلك فالبلاد التي تدخلها الأيادي الإيرانية، هي ذاهبة للحرب، للحرب فقط.
لا تخفي روسيا أهدافها في حربها السورية ولا تتنصّل من تحالفاتها مع إيران وميليشياتها ومع نظام بشار الأسد. موسكو قررت منذ البداية أن الحرب في سورية هي الحرب الروسية على «الإرهاب الإسلامي» ولن تتوقف عنها قبل إعلان الانتصار. وبقرار من رئيسها فلاديمير بوتين لن تتقهقر روسيا في الساحة السورية مهما كلفتها هذه المعركة ومهما حصدت من أرواح سورية. فهي باتت حرباً وجودية منذ أن اندلع ما سمي «الربيع العربي» ودفع الإسلاميين إلى السلطة، الأمر الذي وجدت فيه موسكو تهديداً قومياً لها ولمصالحها الاستراتيجية. تحالفها مع طهران يتعدى مجرد توافقهما على تثبيت بشار الأسد في السلطة، إذ إن موسكو تعتبر الإرهاب الإسلامي سنياً محضاً وتجد في الحليف الشيعي سنداً لا غنى عنه في الحرب على «الإرهاب السني»، كما تراه. مغامرتها في خوض حرب سورية أتت أيضاً بناء على استنتاجاتها بأن الولايات المتحدة توافقها الرأي ضمناً، وهي شريك صامت معها، وعند الحاجة واشنطن جاهزة لهزّ العصا وقلب المعادلات. وهذا تماماً ما حدث خلال أسبوع جولة المفاوضات الأولى بين وفد النظام في دمشق ووفد المعارضة السورية بموجب «عملية فيينا» ذات الملكية الروسية والتنفيذ الدولي. فلقد رافقت مساعي بدء المفاوضات عمليات قصف مكثفة للطيران الروسي على مواقع المعارضة السورية رفضت موسكو إيقافها، بل أعلن وزير الخارجية سيرغي لافروف أن روسيا لن تتوقف عن القصف في سورية حتى هزيمة «الإرهابيين».
إدارة أوباما ما زالت في ظل انبهارها بإيران وهي متأهبة لغض النظر عن كل ما يمكن لها تمريره بلا محاسبة لإيران داخل سورية، إرضاءً لموسكو فيما أنظارها منصبة على الانتخابات الإيرانية والمعركة الطاحنة بين المعتدلين من الملالي والمتشددين منهم بزخم «الحرس الثوري» الذي يشرف على الحرب الإيرانية في سورية. هذه الانتخابات بالغة الأهمية ومن الضروري التوقف عندها لقراءة ما في طيّاتها لإيران نفسها كما للعلاقات الإيرانية – السعودية وللمشاريع والطموحات الإقليمية كما يراها المعتدلون والمتشددون في إيران.
قبل ذلك، وتوقفاً عند محطة جنيف الأولى في عملية فيينا، حسناً فعلت الهيئة العليا للمفاوضات السورية بتوجهها إلى جنيف تلبية لدعوة المبعوث الدولي ستيفان دي ميستورا بغض النظر أن أتت المشاركة مبعثرة أو رضوخاً لضغوط أميركية وإقليمية. لقد تمكنت بوجودها في جنيف من تسليط الأضواء على تصعيد القصف الروسي بتزامن مع التصعيد الديبلوماسي، من خلال مغالاة وفود المعارضة الموالية للنظام ومن خلال الوفد الرسمي للنظام الذي جعل من جولة المفاوضات فرصة للسخرية بدلاً من إبداء الجدية لنقل سورية من الكارثة إلى المعافاة.
إعلان دي ميستورا تعليق المفاوضات لثلاثة أسابيع قبل انطلاقها يعكس صعوبة إطلاق المفاوضات، وسط استراتيجية تصعيد القصف الميداني والضغط السياسي على المعارضة السورية. استراتيجية التعجيز هذه كان يجب أن تلقى مواقف شجاعة من الأمين العام للأمم المتحدة بان كي مون ومبعوثه ستيفان دي ميستورا، في دعوة علنية واضحة لروسيا للكف عن هذه الاستراتيجية. كلاهما تقاعس فيما كان عليهما الإقدام من أجل إنجاح جهود الأمم المتحدة ومن أجل إبعاد التهمة التي تلاحقهما بأنهما يغضّان النظر عن التجاوزات الإيرانية والروسية وتجاوزات النظام بصورة تقوّض الثقة بحيادهما وبقدرة الأمين العام على القيادة الأخلاقية.
واقع الأمر أن روسيا وإيران هما طرفان مباشران في الحرب السورية. بالمقابل، إن الداعمين للمعارضة السورية يتنصّلون منها عسكرياً وسياسياً بذريعة «داعش» و «جبهة النصرة» تارة وبحجة إنجاح المفاوضات السياسية تارةً أخرى. خلاصة الأمر أن الولايات المتحدة حيّدت نفسها في الحرب السورية، ميدانياً، وأعطت الغطاء لروسيا وإيران للتصرف كما تقتضي الحاجة في سورية، والدول الإقليمية الداعمة للمعارضة السورية تقدم دعماً هزيلاً لها مقارنة بالدعم الروسي الإيراني للنظام ميدانياً وسياسياً وديبلوماسياً.
موازين القوى، ميدانياً، تزداد تكريساً لاحتمالات تقسيم سورية وبقاء بشار الأسد في كرسي ما. البرنامج الذي وضعته «المجموعة الدولية لدعم سورية» للمرحلة الانتقالية «مفرط في التفاؤل» وفق دي ميستورا، كما جاء في وثيقة نشرتها «الحياة». فهو اعتبر أنه من غير الممكن إجراء الانتخابات بعد 18 شهراً أي بحلول كانون الثاني (يناير) 2018. وهذا يعني أن البرنامج الزمني سيطول في حال كان سلمياً، وأن البرنامج الزمني الفعلي في غياب الحل السياسي سيطيل الحرب السورية كثيراً. وهذا سيزيد تورط روسيا وإيران في مستنقع مكلف جداً لاسيما في زمن انخفاض أسعار النفط والغاز وانهيار قيمة العملة الروسية وفي زمن الامتناع الأميركي عن التورط ميدانياً وتشجيع الآخرين على التدخل إذا شاؤوا.
واشنطن ليست في وارد إيقاف طهران أو موسكو عن تحالفهما في سورية ولا هي في وارد التدخل في استراتيجية روسيا القائمة على تغيير موازين القوى على الأرض لمصلحة النظام وعلى حساب المعارضة السورية المسلحة التي تزعم إدارة أوباما أنها تدعمها. إدارة أوباما مصرّة على توطيد التهادن مع إيران وتقول أنها تراهن على صفوف الاعتدال لتنقل السياسة الإيرانية إلى سياسة ودّية نحو الولايات المتحدة. إنها غير قلقة من العلاقة التحالفية بين موسكو وطهران ولا يقلقها تمويل روسيا مشاريع اقتصادية نووية في إيران. فالكعكة الإيرانية، وفق الفكر الأميركي، ستكون لاحقاً جاهزة للاستفادة منها، ولا عجلة الآن سوى للاستثمار في إيران استراتيجياً ومراقبة الانتخابات.
الانتخابات الإيرانية ستحصل في 26 الشهر الجاري، إنما النتائج لن تُعرف، على الأرجح، قبل مضي 6 أسابيع بسبب عيد «النوروز» الذي يعطّل تقليدياً البلاد. سينتخب الإيرانيون نوّاب «مجلس الشورى» الذي يملك المتشددون فيه حالياً حوالى 200 مقعد من أصل 295، وأعضاء «مجلس الخبراء» الذي ينتخب مرشد الجمهورية الإسلامية الجديد.
المرشد الحالي علي خامنئي أمضى حوالى 25 سنة في السلطة بين رئيس ومرشد للجمهورية، وهو كما يقول الخبراء، مريض بالسرطان درجة رابعة ويخضع للعلاج على أيدي إيرانيين وألمان. وخامنئي تحدث لأول مرة، قبل شهرين تقريباً، عن قيام المجلس بانتخاب خليفته مما فُسِّر بأنه إشارة إلى ضعف وضعه الصحي.
يتشكّل «مجلس الخبراء» من 88 شخصاً علماء بالفقه ويتم انتخابه لمدة 8 سنوات من قِبَل الشعب وذلك في يوم انتخاب مجلس الشورى. كان الرئيس السابق هاشمي رفسنجاني يرأس «مجلس الخبراء» ثم أُبعِدَ عن الرئاسة لمصلحة محمد جنتي الذي توفي وخَلفه محمد يزدي. ويعتبر مجلس خبراء القيادة الإيرانية الهيئة الأساسية في النظام.
وفق خبير وثيق الاطلاع بالداخل الإيراني، إن الصراع على خلافة خامنئي يقع بين المتشددين الذين يرون في اقتراح تعيين «هيئة» تخلف المرشد إضعافاً لولاية الفقيه. «الحرس الثوري» رفض قطعاً ما من شأنه تقليص نفوذ ولاية الفقيه وهو يخوض معركة طاحنة مع المعتدلين.
معسكر المعتدلين يضم هاشمي رفسنجاني والرئيس الحالي حسن روحاني وكذلك حسن الخميني حفيد الخميني، ويسمى معسكر الوسطيين. الإصلاحيون، ومن أبرزهم الرئيس السابق محمد خاتمي، يقفون مع معسكر المعتدلين والوسطيين.
معسكر المتشددين يملك حالياً مفاتيح السلطة وقائده الحقيقي هو خامنئي. من أصل حوالى 200 نائب لمصلحة المتشددين، هناك، وفق الخبير نفسه، كتلة يُطلَق عليها اسم «كتلة الصخرة» وتضم حوالى 80 نائباً وهي الكتلة التي تمثّل عملياً «الحرس الثوري».
موضع مهم في الصراع بين المعسكرين هو «مجلس صيانة الدستور» الذي يعيّن أعضاءه خامنئي ويضم 6 مدنيين و6 رجال الدين واسمه في إيران، وفق الخبير، «المصفاة»، إذ إن النظام يستخدمه لإبعاد من لا يريده عن السلطة. «المصفاة» أبعدت عدداً كبيراً من المرشحين الإصلاحيين منهم حسن الخميني الذي رفض دخول امتحان الفقه لأنه أكثر كفاءة ممّن يمتحنه لأنه يدرّس الفقه لآيات الله.
الخبراء يقولون أن من المستحيل أن يحصل رفسنجاني على منصب ولاية الفقيه لأنه صدامي، وهو نفسه يقول أنه ليس مهتماً بالفشل وانما بالحصول على أكثر من مليون صوت ليكون صاحب السلطة الشعبية. يضيف الخبراء أن للرئيس الحالي حسن روحاني الحظ في أن يصبح خليفة خامنئي كمرشد للجمهورية. فإذا تقرر ذلك، يستقيل حسن روحاني من الرئاسة ويتم انتخاب رئيس جديد. وللسجل، يذكر الخبراء أن الأسماء الثلاثة الأخرى التي يتم تداولها كخليفة محتمل في موقع المرشد هي: آية الله جوادي آملي، آية الله صادق لاريجاني، وآية الله محمود الهاشمي الشاهرودي، وهو، كما يُقال الأهم علماً انما مشكلته أنه يخفي «ويُلحِن». ويذكر أيضاً اسم آية الله محمد مصباح يزدي الذي يُعتبر متشدداً للغاية.
يقول الخبراء أنه لو عاد الأمر إلى الإصلاحيين فإنهم يريدون رفسنجاني رئيساً لـ «مجلس الخبراء» الذي ينتخب مرشد الجمهورية. رفسنجاني هو حالياً رئيس «مجلس تشخيص مصلحة النظام» الذي يعالج الخلافات، مثل تلك التي بين «مجلس صيانة الدستور» و «مجلس الخبراء».
عاد الرئيس حسن روحاني من باريس بعد جولة أوروبية. وكتب زملاء في مقارنة بين عودة الخميني من باريس في أول شباط (فبراير) إلى طهران متأبطاً خط الثورة. روحاني قوي شعبياً، بل هو ربما الأقوى في إيران. خبراته في مواقع القرار منذ أن ترأس وفد المفاوضات النووية مع الأميركيين عام 2003 وقطع بذلك الطريق على أي غزو أميركي أو اسرائيلي، إلى وصوله للرئاسة جعلت منه لدى أكثرية الرأي المحلي والإقليمي والدولي رجل دولة.
الذين يعرفونه عن كثب يؤكدون أن فكر حسن روحاني يصب في الخطوط الاستراتيجية للدولة الإيرانية، عكس شهية قادة خط الثورة الإيرانية للهيمنة الإقليمية.
فإذا أسفرت الانتخابات الإيرانية عن صوت واضح للشعب الإيراني بأنه يريد خط الدولة، ستحدث نقلة نوعية في المسيرة الإيرانية، لاسيما بعدما تمكّن الاعتداليون والإصلاحيون من إنجاز «اتفاق نووي» تاريخي رفع العقوبات عن إيران ومكّن رئيسها من جولة أوروبية عاد إلى شعبه منها بعقود مهمة لعملية البناء وليس بوعود عنترية عنوانها التدمير والدمار.
تأجيل انطلاقة المفاوضات بين النظام والمعارضة في جنيف - 3 هو نسخة طبق الأصل عن إفشال جنيف - 1 وجنيف -2. وكما حصل في المحاولتين السابقتين، وافق النظام السوري على التفاوض على أمل نسف أسسه وتأجيل الحل السياسي. أما الهدف البعيد فهو نسف هذا الحل لتكون النتيجة الواقعية بقاء بشار الأسد في السلطة من دون تغيير في تركيبة سلطته. وإذا كان إفشال المحاولتين السابقتين تم لإعطاء المزيد من الوقت لإيران كي تعدّل ميزان القوى على الأرض فإن تأجيل جنيف - 3 هو لإعطاء المزيد من الوقت لموسكو كي تواصل تعديل ميزان القوى الميداني بالتحالف مع إيران والميليشيات المتعددة الجنسية التابعة لها.
فالمعلومات الواردة من دوائر القرار أن القيادة الروسية طلبت، أثناء المناقشات بينها وبين الإدارة الأميركية حول إمكان تنفيذ بعض مطالب المعارضة بفك الحصار عن مدن وقرى وبوقف النار أثناء التفاوض، إعطاءها المزيد من الوقت لترتيب الأمور تمهيداً لولوج هاتين النقطتين. وواشنطن وافقت على الطلب الروسي، تحت غطاء تصريحات وزير خارجيتها جون كيري بأن مطالب المعارضة بفك الحصار وعمليات التجويع ووقف النار وقصف المواقع المدنية، محقة. وسرعان ما بدا أن هذه التصريحات والوعود بالأخذ بمطالب المعارضة، لإقناعها بالمجيء الى جنيف هي رياء جديد من جانب الأميركيين، وعدم ممانعة من قبلهم في أن تواصل موسكو سياسة الأرض المحروقة بقصفها المجنون لمناطق المعارضة المعتدلة بموازاة قصف رمزي للمناطق التي يسيطر عليها «داعش».
كان واضحا قبل موعد جنيف - 3 أن وقف النار متعذر، لأن تفاهمات واشنطن وموسكو لم تشمل أي جهد لتنفيذ الفقرة المتعلقة بوضع آلية لوقف النار في القرار الدولي الرقم 2254. فكيف يمكن وقف النار من دون تحديد وسائل فرضه وسط فوضى القتال الجاري وإذا لم يشمل إنزال مراقبين له أو قوات فصل في بعض الأماكن. وهذا ما يتجنب الدب الروسي مناقشته وتتواطأ معه الإدارة الأميركية في عدم الإقدام عليه.
إلا أن التطورات الميدانية التي تعجل الآلة العسكرية الروسية الوحشية في تحقيقها أخذت تكشف عن أهداف تتعدى ما قاله وزير الخارجية البريطاني فيليب هاموند عن أن روسيا تساعد الأسد على إقامة دولة علوية على الساحل السوري. وإذا كان هذا هو الهدف الأدنى لموسكو لتثبيت نفوذها في سورية، وسبق أن طلبت من إسرائيل عبر علاقتها الخاصة بها عدم التخريب على قيام دويلة كهذه، فإن موسكو باتت تطمح الى أكثر من ضمان الدويلة و «سوريا المفيدة» تحت سيطرتها وإدارة نظام الأسد، فتوسع قوات الأخير مع الميليشيات الإيرانية والعراقية و «حزب الله» تحت الغطاء الجوي الروسي بات يشمل إدلب وحلب وجسر الشغور، ولا يقتصر على ضمان أمن اللاذقية وريفها والساحل والطريق إليها من دمشق. النتائج الميدانية للأيام القليلة الماضية تكشف أن الوقت المستقطع الذي طلبته موسكو هدفه استعادة معظم المناطق السورية التي تسيطر عليها المعارضة وصولاً الى حلب في الشمال، بهدف تقزيم الدور التركي في سورية، وإلغاء المعارضة والفصائل المعتدلة بهدف إعادة النظر بتركيبة الوفد المفاوض مع النظام، وإبقاء المناطق التي تسيطر عليها في مناطق محدودة على الحدود مع العراق، وترك المناطق الشرقية والشمالية الشرقية بعهدة «داعش»، بحجة أن تطهيرها يتم لاحقاً، بحيث تصبح مناطق سيطرة النظام أكبر بكثير من دويلة الساحل. فالمؤشرات الميدانية تدل الى أنه سيترك للنظام والقوات الإيرانية قضم ما تستطيعه من الجنوب ومحافظة درعا، في ظل الإحجام الأردني عن دعم «الجيش الحر» والفصائل المقاتلة، فضلاً عن تطهير ريف دمشق من أجل ضمان الطريق بين الأخيرة ولبنان كممر إيراني الى البحر المتوسط.
خذل «أصدقاء سورية» الشعب السوري للمرة العاشرة، سواء لجهة الدعم العسكري أو لجهة التفاوض على العملية السياسية، بما يمهد لإطالة الحرب السورية سنوات أخرى. وبات على المعارضة أن تبحث عن إستراتيجية جديدة لإدارة موقعها في المحنة السورية الطويلة.
ليس بعد الاستماع إلى ما جاء في المؤتمر الصحافي الذي حدد فيه بشار الجعفري حقيقة ما جاء به الوفد السوري إلى «جنيف3» وإنما قبل ذلك عندما بادر الروس إلى تصعيد عسكري على جبهات القتال والمواجهة كلها في سوريا، فإنه كان يجب أن تدرك الأطراف الداعمة للمعارضة (المعتدلة) العربية وغير العربية أنَّ فشل «جنيف3» سيكون أكبر كثيرًا من فشل «جنيف2»، وأن قرارات مجلس الأمن الدولي رقم 2254 لن يطبق منها شيء، وأن موافقة روسيا على هذه القرارات، الغارق بعضها في الرمادية والقابل للتفسيرات المتعددة، دافعها الحصول على مزيد من الوقت لإحراز التفوق العسكري الذي تسعى إليه وإضعاف المعارضين السوريين حتى حدود القبول بالاستسلام ورفع الأيدي إنْ ليس القضاء عليهم بصورة نهائية، على غرار ما كان فعله فلاديمير بوتين بـ«غروزْني» الشيشانية.
وهنا وقبل الاستطراد في هذا الاتجاه فإنه لا بد من التأكيد على أنَّ المعارضة (المعتدلة)، التي لا غيرها معارضة، قد فعلت عين العقل عندما قررت الذهاب إلى «جنيف3» وهي تعرف أن مصيرها سيكون أسوأ كثيرًا من مصير «جنيف2»، فالروس، وبالطبع معهم نظام بشار الأسد، كانوا ينتظرون مقاطعتها ليأتوا ببديلهم الجاهز الذي يسمونه معارضة الداخل والمكون من مجموعة قدري جميل وهيثم المناع وحزب الاتحاد الديمقراطي الكردي لصاحبه صالح محمد مسلم الذي لم يعد ارتباطه بالمخابرات السورية خافيًا على أحد، والذي لا ينكر هو نفسه علاقاته السابقة وأيضًا اللاحقة بحزب العمال الكردستاني – التركي الـ«p.k.k» بزعامة عبد الله أوجلان المعتقل الآن في أحد سجون إحدى الجزر التركية القريبة من مدينة إسطنبول التاريخية.
كان يجب أن تذهب المعارضة (المعتدلة)، التي تضم خمسة تنظيمات عسكرية فاعلة على الأرض والتي لا غيرها معارضة نظرًا لأن «داعش» و«النصرة» قد اعتُبرا تنظيمين إرهابيين، وأن تدافع عن حقوق ومطالب شعبها وأن تتمسك بقرارات مجلس الأمن الدولي الأخير رقم 2254 كلها، وأن تصر على «فيينا1» و«فيينا2» وترفض التزحْزُحَ عن «جنيف1» ولو بمقدار قيد أنملة، وأن تركز على المرحلة الانتقالية تتولى الأمور خلالها هيئة حكم كاملة الصلاحيات لا مكان لبشار الأسد فيها ولا وجود له في المرحلة التالية.
لقد حصلت المعارضة قبل ذهابها إلى جنيف، متأخرة لبعْض الوقت بموافقة المبعوث الدولي ستيفان دي ميستورا، على ضمانات فعلية، من الولايات المتحدة ومن فرنسا وبريطانيا وربما ألمانيا أيضًا، بأن قرارات مجلس الأمن رقم 2254 ستطبق كلها وأن العملية السياسية ستتم وفقًا لـ«جنيف1» وبخاصة بالنسبة إلى ما يتعلق بالمرحلة الانتقالية، وهذه مسألة مؤكدة ولا شك فيها، لكن المشكلة أنَّ التجربة وعلى مدى الأعوام الخمسة الماضية قد علمت هذه المعارضة وعلمت الشعب السوري وكل مراقب وكل معني بالمسألة السورية أن الرهان على الأميركيين، على إدارة باراك أوباما تحديدًا، غير مضمون ولا يمكن الركون إليه، وأن الرئيس الأميركي ووزير خارجيته وآخرين غيرهما يغيرون مواقفهم بالنسبة إلى هذه المسألة كما يغيرون ربطات أعناقهم.. ولا نريد أنْ نقول أكثر من هذا!!
الآن يقول الروس، والمعروف أن ما يقوله الروس يلتزم به بشار الأسد وطاقمه «الحاكم» كتلاميذ المدارس الابتدائية النُّجباء، أنَّ قواعد الاشتباك قد تغيرت وأن الإنجازات العسكرية على الأرض هي التي تحدد طبيعة المفاوضات وترسم مسارها وبالتالي فإن من استمع إلى ما قاله بشار الجعفري في مؤتمره الصحافي الآنف الذكر لا بد وقد أدرك أنَّ «جنيف3» لن تكون إلاَّ مجرد قفزة في الهواء وبالتالي مجرد مضيعة للوقت، فالجانب الآخر، الذي هو روسيا أساسًا ومعها إيران وتابع لهما نظام بشار الأسد، مستمر بالتمسك بأن الأولوية هي للتصدي للإرهاب، والمقصود هنا ليس «داعش» ولا «النصرة» وإنما فصائل المعارضة (المعتدلة) المسلحة المقاتلة، وأنه لن يكون هناك تفاوضٌ، بل محادثات «بين السوريين أنفسهم»، وأن أكثر ما يمكن إقراره والاتفاق عليه هو «حكومة وحدة وطنية» موسعة وإعداد دستور جديد وإجراء انتخابات يشارك فيها هذا الرئيس السوري كما كان قال فلاديمير بوتين أكثر من مرة خلال الشهور الأخيرة.
إذنْ لن يكون هناك أي جديد على الإطلاق، والدليل هو ما كالهُ بشار الجعفري من شتائم واتهامات في أول إطلالة إعلامية له على «جنيف3»، والدليل أيضًا هو أنَّ الروس لو أنهم يريدون النجاح لهذه الجولة «المحادثاتية» إن ليس «التفاوضية» لكانوا أعلنوا وقفًا لإطلاق النار، برًَّا وجوًّا، ولكانوا ألْزموا نظام بشار الأسد، الذي لا يستطيع إلا أن يلتزم بـ«أوامرهم»، بإطلاق سراح المعتقلات وإطلاق سراح الأطفال المعتقلين وتنفيذ كل ما يتعلق بما يسمى «القضايا الإنسانية» وفقًا لقرار مجلس الأمن الدولي الأخير رقم 2254.
إن المفترض أنه معروف ومؤكدٌ أنَّ أي قرار يتعلق بالمسألة أو الأزمة السورية هو قرار روسي أولاً وأخيرًا، وهو قرار الرئيس فلاديمير بوتين تحديدًا، وأن بشار الأسد هو مجرد «شاهد ما شافش حاجة»، ولذلك فإن الواضح وإنَّ ما لا نقاش فيه هو أن الروس يريدون مصيرًا لـ«جنيف3» كمصير «جنيف1»، ولهذا فإنه كان على المعارضة السورية أن تأتي إلى هذه المدينة السويسرية الجميلة بعد حصولها على الضمانات التي حصلت عليها، لكن مع الأخذ بعين الاعتبار مسبقًا ضرورة أن يكون لديها ولدى من يساندونها، عربًا وغيرَ عرب، البديل الجاهز، الذي في ضوء كل هذه المواقف التي من المفترض أنها معروفة مسبقًا هو مزيد من رصّ صفوف هذه المعارضة والمباشرة وعلى الفور بتحويلها بكل تشكيلاتها إلى ثورة مسلحة.. إذْ «لا يفلُّ الحديد إلا الحديد»، وإذ إنه قد ثبتت عبثية مواجهة الكف للمخرز.
ويقينًا، ما دام أنه كان من الواضح جدًا ومنذ البدايات أنَّ الروس لا يريدون أي حلٍّ سياسي لهذه الأزمة إلاَّ حلهم الذي يبقى على نظام بشار الأسد.. وإلى الأبد، وينهي انتفاضة الشعب السوري بالطريقة نفسها التي أنْهى بها فلاديمير بوتين انتفاضة الشعب الشيشاني في غروزْني، فإنه كان يجب أنْ يكون التركيز ومنذ البدايات على السلاح، فالقوة لا تواجه إلاَّ بالقوة والعنف لا ينفع معه إلاَّ العنف، وهذا ما كان يجب أن تجده القوات الروسية أمامها عندما بدأت تصل إلى سوريا وبدأت باحتلال الأراضي السورية.
إن المحتل وأي محتلٍّ لا يمكن أن يبدأ التفكير بإنهاء احتلاله وبالرحيل والعودة من حيث أتى إلاَّ إذا بدأت جثث ضباطه وجنوده تصل يوميًا إلى بلاده، وإذا بدأ شعبه يسهر الليالي الطويلة خوفًا على أبنائه. والمعروف أن هذا هو ما حصل لجيوش الاتحاد السوفياتي في أفغانستان وما حصل للجيوش الأميركية في فيتنام وما حصل لجيش فرنسا الاستعمارية السابقة في الجزائر.. إن هذه هي تجارب التاريخ!!
منذ بدأ «الوسيط» الدولي ستيفان دي ميستورا مهمته في منتصف 2014 لوضع تصور للتسوية في سورية، انطلق من معطى نظري يصر على التمسك به في محادثات «جنيف-3» الحالية، في حال انطلاقها فعلاً واستمرارها، وهو أن نظام بشار الأسد، على رغم كل جرائمه، ما زال يعتبر في مفهوم الأمم المتحدة الطرف «الشرعي» المعترف به دولياً، فيما المعارضة خاضعة لتقييم مستمر حول شرعيتها ومن يمثلها.
وانعكس هذا الموقف في رغبة دي ميستورا الدائمة في ضم ممثلين عن تنظيمات وهيئات قريبة من النظام إلى المفاوضات، وفي محاولاته المتكررة للالتفاف على بيان «جنيف 1»، وهو ما نجح فيه من خلال صيغة قرار مجلس الأمن الرقم 2254 نتيجة تساهل أميركي وصل إلى حد التواطؤ مع الموقف الروسي. وعندما باءت محاولاته الأخيرة للتشكيك في صحة تمثيل هيئة المفاوضات المنبثقة من مؤتمر الرياض، لجأ إلى اعتماد من ترفضهم المعارضة «مستشارين» له ودعاهم إلى جنيف بصفتهم هذه.
لكن مع انكشاف عدم جدية وفد النظام في جنيف وتذرعه برفض «الشروط المسبقة» للتهرب من المطالب الإنسانية التي تشدد المعارضة على تنفيذها قبل أي تفاوض، استنجد «الوسيط» الدولي علناً بالحليف الروسي لنظام الأسد، وقال في تصريح إلى «بي بي سي» أن المفاوضات لن تصبح جدية «ما لم تحصل تغييرات ملموسة على الأرض في سورية بينما نحن نتباحث».
وكان يمكن لتصريحه أن يحتمل التأويل الإيجابي، كأن يفهم منه مثلاً أنه يقصد إجراءات ترسي بعض الثقة بين الطرفين «لأنها حالياً تقارب الصفر» على حد تعبيره. لكن تزامنه مع وصول حملة القصف الروسي على مناطق المعارضة، وخصوصاً في حلب، إلى حد الجنون (نحو مائتي غارة في يوم واحد)، وتسببها في نزوح عشرات آلاف المدنيين، وصولاً إلى تمكين الجيش النظامي والميليشيات الموالية له من تحقيق تقدم يهدد بعزل المدينة، يؤكد أن دي ميستورا المستقوي بجنون موسكو، يقصد تعديلاً في ميزان القوى على الأرض يسمح له بفرض شروط النظام على الوفد المعارض.
تذكّر حملة القصف الجوي الروسي على حلب وسواها بالعدوان الإسرائيلي على لبنان في 1982 عندما حاصر جيش العدو العاصمة بيروت وقسمها إلى مربعات باشر في تدميرها واحداً تلو الآخر فوق رؤوس المدنيين للضغط على منظمة التحرير الفلسطينية وإجبارها على الخروج، الذي تلته استباحة الإسرائيليين المدينة. فهل هذه هي التغييرات التي ينتظرها دي ميستورا؟ وهل كثير أن تطالب المعارضة بوقف القصف على المدنيين كي لا تبدو أنها تقفز فوق دماء شعبها وتفاوض من ضعف؟
ولعل توصيف وزير الخارجية البريطاني فيليب هاموند للموقف الروسي هو الأدق، عندما اتهم موسكو بأنها «تستخدم عملية السلام ورقة توت تخفي وراءها محاولة لتقديم نصر عسكري من نوع ما للأسد يتمثل في إقامة دويلة علوية في شمال غربي سورية».
يتهرب دي ميستورا من الدعوة إلى وقف الغارات، وهي أقل واجباته كممثل للأمم المتحدة، ويستخدم بدلاً من ذلك التهويل بالانهيار الكامل للمفاوضات التي يعتبرها «فرصة أخيرة»، للضغط على المعارضة. لكن هل يفترض أن يكون ثمن استمرار المفاوضات إخضاع المعارضين وإجبارهم على التنازل تحت ضغط المذابح؟ الجواب سلبي على الأرجح، على رغم أن ذهاب الوفد المعارض إلى جنيف انطوى على إيجابيات أهمها فضح دور روسيا التي تحاول أن تظهر بمظهر الشريك في رعاية المفاوضات فيما هي طرف متورط في قتل المدنيين.
تتزايد الانتقادات الموجهة الى الامم المتحدة على دورها الانساني تحديداً في سوريا، وهي تحمّل المنظمة الدولية مسؤولية تفاقم معاناة السوريين. فالعجز الذي تبديه أمام مأساة المحاصرين يكاد يكون فاضحاً، وخصوصاً بعدما تحول التجويع سلاحاً رئيسياً يستخدمه الفريقان، وإن بنسب متفاوتة، في هذه الحرب.
الوثيقة المتداولة عن أن الامم المتحدة كانت على علم بمجاعة مضايا قبل أشهر شكلت اشارة قوية في هذا الشأن، بعدما تبين أن المنظمة لم تضغط لإرسال مساعدات إلا عندما بدأت تظهر صور الأطفال الذين يعانون الجوع وسوء التغذية في وسائل الإعلام. وزاد التشكيك في قدرات الامم المتحدة على الاضطلاع بدورها تقرير يُظهر تدخل النظام السوري في خطتها للاغاثة في سوريا وحذفه اشارات الى حصار مدن وزرع ألغام، الامر الذي قلل حدة الانتهاكات التي يرتكبها النظام السوري في حق القانون الدولي.
سلوك الامم المتحدة يتناقض والنداءات القوية التي توجهها المؤسسات التابعة لها لمساعدة السوريين، ولا يلبي متطلبات الصورة المأسوية والمخيفة جداً التي ترسمها للوضع الانساني في سوريا، مع 13,6 مليون شخص في حاجة الى مساعدة ومليون شخص في المخيمات يفتقرون الى أي مساعدات دولية. وقد اضيف اليها أخيراً الحصار المتجدد لمعضمية دمشق حيث يعيش 45 الف شخص بلا مساعدادت انسانية ومواد طبية ملحة. فما الذي يعوق الامم المتحدة عن الاضطلاع بدورها الانساني وخصوصاً في سوريا؟ وهل تخشى حقاً أن يطرد النظام أو أي فصائل أخرى موظفيها من الشام؟ وهل بقاء الموظفين هناك شهود زور على المأساة يوفر للسوريين الماء والدواء والغذاء؟
لم تعد المنظمة الدولية تخفي عجزها في سوريا. فمكتب المبعوث الدولي ستافان دو ميستورا يستبق اي اتفاق لوقف النار قد ينبثق من المحادثات السياسية المتعثرة أصلاً في جنيف بالاقرار سلفا بعجز الامم المتحدة عن مراقبته أو فرضه، الامر الذي لا يعزز التوقعات، وإن تكن ضئيلة، لنهاية ما لهذه الحرب الدموية.
الورقة المسربة من مكتب دو ميستورا عن رؤيته لـ "آليات تطبيق وقف النار" تفترض، مما تفترضه، أنه سيكون على قوات النظام ومقاتلي المعارضة مراقبة أي اتفاق لوقف النار بأنفسهم. وإذا تحسن الأمن على الأرض، يتولى مكتب مبعوث الأمم المتحدة توسيع دوره في سوريا والعمل كوسيط بين المقاتلين السوريين الرئيسيين واللاعبين الدوليين.
الواضح أن دو ميستورا يتطلع الى تعميم اتفاقات وقف النار المحلية التي رعتها الامم المتحدة في سوريا. تلك الاتفاقات بدت في نظر كثيرين بمثابة مكافأة لنظام الأسد على تجويعه المدنيين، فهل تصير سياسة "التجويع حتى الاستسلام" في رعاية دولية عنوان المرحلة المقبلة؟
"يا حماه سامحينا .. والله حقك علينا " هو النداء الذي وجهته الثورة السورية في عام 2011، لحماه بعد مرور ٣٤ عاماً على المجزرة التي تستحق وصف "المجزرة الصامتة" ، على وقع مجازر متنقلة و متواصلة شملت كل المناطق و باتت سوريا عبارة عن حماه.
و لكن هل المطلوب .. أن نطلب من حماه تسامحنا أم أن الأمر تجاوز المسامحة مع حماه الكبيرة التي تجري مع كل تحرك لعقرب الساعة ؟؟
حماه تعيشها ذكرى مجزرتها الـ ٣٤ بدون صوت مسموع ، فالهول الذي يغطي سوريا يجعل العودة لماضي يتكرار بشكل أفظع ضرب من الهروب ، فحماه ليست ذكرى إنما حالة مستمرة ، صمتٌ حين ارتكبت ، و صمتٌ بعد ارتكابها ، وصمتٌ مستمر لما بعد بعد عقود من تنفيذها.
هل تبحث حماه عن مسامحة .. و عن أي مسامحة .. فأصحاب الدم إما قتلوا أو اعتقلوا أو هجروا ... أو من بقي راضخا تحت نير ظلمٌ ظل مواكب المجزرة و استمر حتى اللحظة.
هل نبحث عن قصص أو حكايات أم نكتفي بمجرد وقفت اعتصام هنا أو هناك ، أم ننظم حملة إلكترونية ، أم نعمل على إنتاج أنشودة أو أغنية عنها ، أو يكون الإحياء بعمل تقرير مصور ...إلخ ... لكن هل تسامحنا هي أم نبحث عن مسامحة أنفسنا .
ابتدأً من 2 شباط 1982 و لمدة 27 يوماً ، تحولت حماه لـ "مسلخ بشري" حقيقي ، لا شيء يحول دون القتل بكل الأشكال قصفاً ، إعداماً ميدانياً ، ذبحاً بالسكاكين ، و بوسائل التعذيب التي شهدت نشأتها و بدأت براءة الاختراع الخاصة بها من هناك .. من حماه .
و من العبثية التكلم عن أرقام محددة أو بعينها ، فالجريمة نفذت تحت جناح الظلام و الظالمين ، و صمتٌ ذو وصف جرمي موصوف من الجميع ، و تقول أكثر التقارير دقة أن :
عدد الضحايا الذين سقطوا ما بين 10-40 ألفاً من بينهم نساء وأطفال ومسنين.
15 ألف مفقود لم يتم العثور على أثارهم منذ ذلك الحين.
هجرة 100 ألف نسمة عن المدينة بعد أن تم تدمير ثلث أحيائها تدميراً كاملاً.
تدمير واسع.عدة أحياء وخاصة قلب المدينة الأثري .
إزالة 88 مسجداً وثلاث كنائس ومناطق أثرية وتاريخية نتيجة القصف المدفعي.
و أخيراً ..
لن نقول المزيد فمهما قلنا سنعود للبداية .. "يا حماه سامحينا .. والله حقك علينا