في الوقت الذي يضع التقرير السنوي للخارجية الأميركية حول الإرهاب العالمي، جمهوريةَ إيران الإسلامية في مقدمة الدول الراعية للإرهاب، تتحالف الولايات المتحدة الأميركية مع إيران وجمهورية روسيا الاتحادية ونظام بشار الأسد، في إبادة الشعب السوري، وتدمير مدنه وقراه، وتصدر الخارجية الأميركية بياناً يعدّ جماعةَ الحوثيين الإرهابية منظمة غير إرهابية، وتعمل أميركا على التمكين للأكراد السوريين ليقيموا كياناً هجيناً لهم في شمال شرقي سورية، يكون مصدر خطر دائم على السلامة الإقليمية لتركيا، والتجربة الأولى «بروفة» لإعادة رسم خرائط جديدة للمنطقة على أسس عرقية وطائفية وبرؤية استعمارية ماكرة.
فماذا نصدق إذاً، تقرير الخارجية الأميركية، أم الواقع على الأرض الذي ينطق بالحقائق التي تعلو فوق الشك؟ وهل الإدارة الأميركية تعمل من أجل السلام واستقرار الأوضاع في الإقليم حقاً؟ أم هي ضالعة مع روسيا التي تنافسها، لفرض الأمر الواقع من خلال تنفيذ سياسة التطهير الديموغرافي التي باتت واضحة المعالم؟ وكيف تكون إيران صاحبة المرتبة الأولى في سلم الدول الراعية للإرهاب، وتقبل الإدارة الأميركية التعاون معها، هذا التعاون الذي وصل إلى درجة التحالف في كل من سورية والعراق وفي غيرهما من دول المنطقة؟ أليس هذا الوضع الذي يتجاوز كل الحسابات المنطقية، بل يتعارض كلية مع القوانين الدولية، هو علامة منذرة بالأخطار الكثيرة التي تهدد الأمن والسلم والاستقرار في هذا الجزء من العالم؟
إن العالم أجمع يتابع في ذهول شديد، فصول المأساة الإنسانية في مدينة حلب السورية التي تدمر تدميراً ممنهجاً متعمداً وشاملاً، من طرف السلاح الجوي الروسي، وقوات نظام بشار الأسد، والقوات الإيرانية بأسمائها المتعددة والميليشيات التابعة لها، ومنها «حزب الله» اللبناني. كما يشارك تنظيم «داعش» الإرهابي في تحقيق أهداف نظام دمشق حتى وإنْ بدا في ظاهر الأمر أنه يحاربه. فليس صحيحاً أن حلفاء الأسد ثلاثة هم إيران وروسيا و «حزب الله». إنهم أربعة بإضافة الولايات المتحدة إلى القائمة. وهذا هو المصدر الرئيس للقلق المرعب الذي يهز الثقة في النظام العالمي الحالي، ويبعث على الشك في مصداقية مجلس الأمن الدولي الذي فقد أهليته ليكون صانعاً للسلام ما دامت الدولتان الدائمتا العضوية فيه، الولايات المتحدة وروسيا، ضالعتين في ارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية على الأرض السورية، حتى وإن ظهر الاختلاف في الشكل وليس في الجوهر بينهما، وأنهما تتعاونان مع تنظيمات إرهابية ودولة راعية للإرهاب.
إن ما تتعرض له مدينة حلب، من تدمير كاسح أتى على البشر والحجر والشجر، هو كارثة إنسانية وبيئية ومعمارية غير مسبوقة في التاريخ المعاصر، حتى في الحربين العالميتين الأولى والثانية. فحلب مدينة لها مكانة عالية في الحضارة الإسلامية، فهي إحدى أمهات المدن التاريخية. وفي سنة 2006 احتفل بها عاصمةً للثقافة الإسلامية، لما تزخر به من معالم أثرية متنوعة، وتراث علمي وثقافي متعدد المصادر، ولما كان لها من إبداعات متميزة في حقول الثقافة العربية الإسلامية والثقافات الإنسانية عموماً، التي شاركت في إغنائها شعوب شتى كانت تتوارد على مدينة حلب باعتبارها المحطة الأكثر تميزاً على طريق الحرير عبر العصور التاريخية المتعاقبة. فهل هذه مؤامرة دولية ضد الحضارة الإنسانية وبالذات الحضارة الإسلامية في بلد كان ولا يزال، متحفاً طبيعياً مفتوحاً لا نهاية لتنوعه المبدع؟ إن تدمير حلب يدق ناقوس الخطر، وينبئ بأن القادم سيكون أسوأ وأشد رعباً، فهي رمز الحضارة ومنبع الثقافة، تشكل مع رصيفتها دمشق، درتين من درر التاريخ الإسلامي المجيد.
ونحن لا نملك إلا أن نستغرب موقف الصمت الذي يلوذ به المجتمع الدولي إزاء الكوارث المنقطعة النظير التي تغرق فيها سورية، الدولة العضو المؤسس للأمم المتحدة، وللمنظمات الدولية التابعة لها، ولجامعة الدول العربية، ولمنظمة التعاون الإسلامي. فلماذا تصمت منظمات حقوق الإنسان الدولية، والقيادات الدينية والثقافية والنخب الفكرية والإعلامية في العالم كله، وتمتنع عن التعبير عن إدانتها الصريحة للأطراف المشاركة في تدمير حلب عاصمة الثقافة الإنسانية بامتياز، وتعمل في إطار جهود دولية مكثفة لوقف الحرب التدميرية الكاسحة التي تتعرض لها هذه المدينة التاريخية العريقة ويتعرض لها الشعب السوري بكل أطيافه؟
الواقع أن التقرير السنوي للخارجية الأميركية حول الإرهاب العالمي لسنة 2015، والتناقضات المحيطة به وما يجرى على الأرض، كل ذلك يثير الشكوك حول توجّهات أميركا وروسيا في شأن المنطقة، وأنهما تعملان في شكل متضامن لتغيير الخرائط، وخلط الأوراق، وإعادة بناء الإقليم على غير الأسس التي بني عليها بعد الحرب العالمية الأولى. وهنا يكمن الخطر الوجودي الكبير الذي لا يجب التهاون في مواجهته بكل الوسائل المتاحة.
ربما كانت مظاهرة باريس الأخيرة (11/ 6/ 2016) إحدى أهم المظاهرات التي نُظّمت من أجل القضية السورية أو أحد تفرعاتها في العامين الأخيرين. فقد تمت في إحدى أهم العواصم العالمية، وشاركت فيها فعاليات سورية، لم تقتصر على المقيمين في باريس، إلى جانب فعاليات أوروبية، لا سيما من الفرنسيين، وقارب عدد المشاركين فيها نحو عشرة آلاف شخص، وهو رقم مهم في سجل أرقام المظاهرات الخاصة بسوريا، التي شهدتها باريس، إضافة إلى أن المظاهرة تمت بمبادرة من شخصيات وجماعات مدنية، وأيدت تنظيمها جماعات المعارضة السورية. وهذه بعض أهمية مظاهرة باريس.
ومما يزيد من أهمية المظاهرة، الموضوع الذي نُظمت من أجله، وهو المطالبة بالمعتقلين السوريين الموجودين بأكثريتهم في سجون ومعتقلات النظام وشبيحته، وآخرين منهم في سجون جماعات الإرهاب والتطرف من «داعش» إلى جبهة النصرة الموصوفة بـ«فرع القاعدة في سوريا» إلى جماعات مسلحة محسوبة على المعارضة، ويقدر عدد المعتقلين السوريين بمئات الآلاف، وكثير منهم مختفون قسرًا، وباستثناء أن قضية المعتقلين هي قضية إنسانية، فإنها بالنسبة للسوريين قضية وطنية لأن قلة من العائلات السورية، لم يعتقل فرد منها في السنوات الست الماضية، مما يفرض العمل الجدي والتواصل من أجل إطلاق سراحهم حيث كانوا ولأي سبب كان.
مظاهرة باريس ورغم ضعف اهتمام الإعلام العربي والدولي بها، وبتغطيتها لأسباب متعددة، فإنها محطة مهمة في نشاط السوريين، وخصوصًا المقيمين منهم في بلدان اللجوء. إذ هي إثبات بأن القضية السورية حية، ليس في ضمير ووعي السوريين فقط، بل أيضًا في وعي وضمير الآخرين، ولا سيما الأوروبيين، خصوصا في ظل أمرين اثنين، أولهما تراجع ظاهر في الاهتمام الدولي بالقضية السورية، والتركيز أكثر على موضوع الإرهاب الذي وإن كان في خلفيات تطورات القضية السورية في جانب منه، فقد صار شغلاً شاغلاً للحكومات وللرأي العام، بحيث صار يغطي في تفاعلاته على القضايا الأساسية للسوريين، ولا سيما مطالبهم بالحرية والديمقراطية والعدالة والخلاص من نظام الديكتاتورية والإجرام المتسلط على السوريين، والنقطة الثانية، هي قضية اللاجئين السوريين، التي أحاطتها بعض القوى الأوروبية، لا سيما جماعات اليمين بكثير من الاعتراضات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، لعل الأبرز فيها الاختلاف الثقافي والتطرف الإسلامي.
كما أن المظاهرة في أحد وجوهها، كالإنترنت، تعبير عن قدرة التجمعات السورية من جماعات ومنظمات وأفراد فاعلين على تحشيد وتنظيم أنفسهم ومحيطهم حول القضية السورية، وحول بعض الموضوعات المتصلة بها، والعمل على كسب تأييد الرأي العام في بلدان اللجوء، وتشكيل قوة ضغط على سياسات الحكومات من أجل اتخاذ مواقف أفضل حيال القضية السورية، الأمر الذي يتجاوز تصورات وتقديرات حاولت ترويج أن السوريين في بلدان اللجوء، وخصوصًا اللاجئين منهم، يركزون اهتمامهم فقط على الاستقرار هناك، والحصول على المساعدات الممكنة من أجل تحسين أوضاعهم وظروف معيشتهم. ورغم أن ذلك ليس أمرًا سيئًا، بل هو مطلوب، فإن التركيز عليه يُراد به الإيحاء وكأن السوريين هناك نسوا الأسباب التي قادتهم إلى ترك وطنهم والتشرد في العالم، وأهمها سياسات وممارسات نظام الأسد وحلفائه، التي كان جوهرها تطفيش السوريين عبر الاعتقال والقتل والتدمير وتضييق سبل الحياة في بلادهم. ولا شك أن ذلك سوف يعزز جهودهم من أجل مستقبل بلدهم وأهلهم، الذين ما زالوا يعانون من سياسات نظام الأسد وحلفائه، وخصوصًا إيران وروسيا والميليشيات الشيعية، التي تقاتل في سوريا.
وتفرض دلالات ما حدث في باريس، وما بذل فيه من جهد ونشاط، أن تبادر المعارضة السورية إلى تلقف تلك الروح، ودعمها ومساندتها لتطويرها وزيادة فاعليتها في خدمة القضية السورية ومستقبل السوريين، وليس الاستيلاء عليها وتدجينها وصولاً إلى تخريبها على نحو ما اعتدنا في تعامل الجماعات السياسية مع المبادرات، التي يطلقها ناشطون أو جماعات مدنية وأهلية في سياق الحراك العام سواء في سوريا أو خارجها.
إن دور المعارضة لما بعد مظاهرة باريس، يتعدى الوجود السوري في فرنسا إلى كل البلدان، وخصوصًا الأوروبية، التي توجد فيها جاليات سورية كبيرة، يبدأ من دراسة واقع تلك الجاليات وقدراتها، ثم مساعدتها على تنظيم شؤونها وإدارتها بطريقة تتوافق مع دورها الإيجابي حيث توجد، وتعميق علاقاتها بالقضية السورية والوطن الأم، ليس من أجل اللحظة الراهنة وما فيها من تحديات مصيرية فقط، بل من أجل المستقبل الذي يفرض أن يكون لهذه الجاليات دور في إعادة بناء سوريا الجديدة، التي سيبنيها السوريون بعد ذهاب نظام الأسد.
لقد أضاع السوريون فرصة الاستفادة من وجود جالياتهم لخدمة قضيتهم بعد الثورة، والأمل، إنهم لن يضيعوا فرصة ما بعد مظاهرة باريس، التي حملت معطيات يمكن البناء عليها الآن وفي المستقبل.
مشاكل جنوب دمشق الأخيرة كانت بمعزل تام عن مشاكل جاراتها : داريا غرباً ، والغوطة شرقاً ..
حيث يعيش الناس هناك في وادي بعيد جداً ، لا تسمع به أقرب المناطق إليه ..
ومشاكل دخول المساعدات لداريا ، تنسجم مع مشاكل المعضمية حيناً .. وتنفصل عنها أحياناً أخرى ..
مشاكل التل ، وقضاياها والأعداد الهائلة من النازحين إليها ، بعيدة كل البعد عن قضايا ومشاكل الأنفاق أو الهدن في برزة والقابون ..
أما الغوطة فهي في وادي آخر ، ولها مشاكلها الكبيرة التي لا تشبه أية مشاكل ..
وقريباً ستصبح مشاكل دوما مختلفة عن مشاكل القطاع الأوسط في الغوطة نفسها .. وهكذا ..
.......
استطعنا بنجاح منقطع النظير أن نتحول لكانتونات متفرقة ..
أن نتحول لأشلاء مبعثرة ..
مشاكل كل قطعة أرض لا تتعدى مئات الامتار تشغلها بالكامل عن معركتها الأساسية -التي تتفق فيها عن مع باقي القطع المتناثرة ..
ننظر لتعامل الفصائل - أو المكاتب الاعلامية والقضائية والشرعية والمجالس المحلية - لتعاملهم مع مشاكلهم الداخلية
فنجدهم يرون الثورة كلها محصورة في هذه المنطقة ..
بل يرون وكأن سوريا كلها تقبع ضمن حدود منطقتهم .. من حاجز النظام إلى حاجز النظام من الطرف الاخر ..
يشعر بتحرر منطقته وكأنه حرر البلد كلها ..
...
حمّلنا النظام هماً كبيراً فوق طاقتنا
انشغلنا به -الهمّ- تماماً عن ثورتنا
عن معركتنا الأم ..
عن قضيتنا الكبرى ..
فلا ترى منطقة إلا وفيها خلاف إعلامي وفصائلي وإغاثي ..
وكل منطقة فيها فصائل تصدر بيانات عن تحرش الفصائل الأخرى بها ..
وكل منطقة فيها مشاكلها المحلية ..
وبيان قضية النحاس في يلدا وببيلا ، تحوي ألف مشكلة أخرى تعاني منها تلك المناطق ..
..
ينطبق هذا الحال على تلك البقع المتناثرة -التي تحيط بدمشق ، ومع ذلك النظام هو من يحاصرها- ينطبق هذا الحال على كامل التراب السوري ..
فقد انسحب النظام من الصحاري والأرياف تاركاً (سوريا المفيدة) بين يديه بالكامل ..
وحمّل الثوار عبئ المناطق المحررة ، ولكن بشكل مجزأ .. بحيث فصل كل منطقة عن الاخرى ..
وحمَّل عبئ كلّ منطقة لجهة مختلفة عن الأخرى ..
واختلق لها مشاكل مختلفة تماماً عن مشاكل المنطقة الثانية ...
بل وأبقى فيها جيوباً له تشغلها في الداخل عن معركتها الأساسية ، وتحرش فيما بينها ..
فتفرقت الكلمة
وتخلخلت الصفوف
وتناثرت الجهود
وتعاظمت المشاكل
وكثرت الأعباء ..
وبالتالي طالت الأزمة أكثر ، وذلك على حساب الثورة .. الثورة التي التفت عنها أغلب من خرج لها ، ليتحمل أعباء من لم يخرج.
تحمل عبئه ووزره وحاجته ، والتفت عن ثورته كي لا يقف أمامه ويحمله مسؤولية الوضع الذي آل إليه ، ليثبت له أنه قام بالثورة لأجله ..
فتحمل باكراً جداً عبئ المناطق المحررة
وترك باكراً جداً مسيرة التحرير ..
وبتنا أمام وضع كاثي جداً على مدى التراب السوري من كافة الأطراف ..
الحل يتطلب أن نخرج بعيدا .. بعيدا جداً ..
ونرجع للوراء كثيراً ..
نخرج بعيداً فننظر لكامل التراب السوري نظرة اوحدة ، لا منطقتنا فقط ..
ونفكر به ككل ، وليس لمنطقة غرقنا بمشاكلها ..
ولنرجع للوراء إلى أيام ثورتنا الأولى .. ونستذكر الهدف الأسمى الذي قمنا لأجله ، وبذل الشهداء الأوائل لأجله أرواحهم ودماءهم ..
بدون تخطيط استراتيجي لن ننتصر .. فالمعارك الجزئية هزيمة ولو حررنا قرية ودمرنا دبابة ..
وبدون رؤية شاملة لن نحقق تقدماً ، وسنبقى في قوقعة المنطقة .. والفصيل ..
ولا يمكن أن نصل لهذه المرحلة مالم نحقق أمران اثنان :
التوحد ، والتنازلات التاريخية .
ومالم نحقق ذلك ، فنحن نستهلك أنفسنا ، وسنبق ندور في عجلة التهالك ، حتى لا سمح الله نذوب من الأطراف ونضمحل ............
فيما واشنطن وموسكو تتشاركان وتتواطآن في خندق سوري واحد، فإن دول 'الممانعة' التي لا يمكن أن تستدرج واشنطن وتل أبيب داخلها، تنعطف آليا لتصبح أدوات في خدمة أجندة إسرائيلية روسية أميركية معلنة لا لبس فيها.
من بديهيات الواقع الاستراتيجي لدولة إسرائيل، أن أمنها وحراكها العسكري والدبلوماسي والسياسي والاقتصادي والوجودي، منذ نشأنها، مرتبطان بقرار غربي تزعمته لاحقا الولايات المتحدة الأميركية.
ومن بديهيات هامش مناورات أي رئيس وزراء لإسرائيل، بما في ذلك بنيامين نتنياهو، ومنذ حرب السويس عام 1956، أن حركة إسرائيل، ومهما طرأ عليها من شطط، تبقى تحت السقف الأميركي، ليس لأن إسرائيل تحتاج إلى الولايات المتحدة فقط، بل لحاجة أميركية إلى إسرائيل لأسباب تتجاوز عوامل الأمن الاستراتيجي، لترتد إلى عناصر الكينونة المجتمعية والنخبوية والثقافية لواقع الولايات المتحدة منذ ما بعد الحرب العالمية الثانية.
وإذا ما اتفقنا على تلك البديهيات فإننا ندرج تطوّر العلاقات بين تل أبيب وموسكو في خانة المتاح، وربما المطلوب أميركيا، لكن أيضا في خانة حاجة موسكو إلى الانخراط في منظومة سياسية عقائدية لا تختلف عن تلـك الأميركية في مـا يتعلق بشؤون إسرائيل.
لم ينخرط الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في حربه في سوريا إلا بعد أن أطلع بنيامين نتنياهو على خططه، واستجاب لمطالب إسرائيلية كان على موسكو التقيّد بها، بحيث بات لتل أبيب اليد الطولى، وبرعاية روسية، لإزالة ما تراه خطرا على أمنها في سـوريا. بـدا أن “الفيزا” الإسرائيلية كـانت مطلـوبة من قبل سيّد الكرملين لتسويق تدخله في مسار الأزمة السورية لدى الإدارة الأميركية. فأما وأن الهمّ الوحيد لواشنطن في ما يتعلق بالأزمة السـورية، على مـا ثبـت في السنوات الأخيرة، هو أمن إسرائيل، فإن “رضى” تل أبيب عن مغامرة موسكو السورية يمنح المسعى الروسي طريق المرور إلى قلب واشنطن.
تشاركت الولايات المتحدة وروسيا في التواطؤ والتنسيق لإزالة الخطر الذي تمثّله الأسلحة الكيماوية في سوريا على أمن إسرائيل. بدا عزف البلدين منسقا وفق توزيع فجّ للأدوار، بحيث تعبر واشنطن عن غضبها من استخدام النظام السوري لتلك الأسلحة في غوطة دمشق (21 أغسطس 2013)، وتعتبره تجاوزا لخط أحمر كان وضعه الرئيس باراك أوباما منذرا، وتحرك سفنها باتجاه شواطئ سوريا. وتتولى موسكو بالمقابل بشخص وزير خارجيتها، سيرغي لافروف، استدعاء نظيره السوري وليد المعلم لترتيب اتفاق كامل تقوم بموجبه دمشق بتسليم ترسانتها الكيماوية كاملة من دون تردد ولا رفة جفن.
وعليه فإن مثلثا أميركيا روسيا إسرائيليا يرتفع فوق المنطقة عموما، وفوق الميدان السوري خصوصا، فيما يدخل التقارب الروسي الإسرائيلي مرحلة استـراتيجية عبـرت عنها الزيارة التي وصفت بـ“التاريخية” لرئيس الوزراء الإسرائيلي إلى روسيا لإحياء الذكرى الـ25 لإعادة العلاقات بين البلدين.
لم تكن المناسبة تحتاج إلى هذه الاحتفالية الكبرى. وكأن الجانبين أرادا أن يحتفلا بذكـرى إعـادة العلاقـات بتقديس حدث العودة عـن خطـأ باتجاه تكريـس ما هـو صحيح. والصحيح أن علاقات موسكو وتل أبيب لم تعد، بعرف البلدين، ظرفية انتهازية طارئة، بـل هي جـذرية تتصل بخطط البلدين الثنائية، وبالشراكة الكاملة المتكاملة في ما يُعدُّ للمنطقة، ولسوريا خصوصاً.
زار نتنياهو روسيا ثلاث مرات خلال تسعة أشهر، بما يعني أن وتيرة تردده على موسكو تفوق تلك إلى واشنطن أو أي عاصمة غربية، ثم إن رجل إسرائيل الأول لا يوفر دولا تعتبر تاريخيا صديقة، كفرنسا والولايات المتحدة، من انتقادات لاذعة، فيما يلاحـظ المراقبون لتاريخ العلاقات الإسرائيلية الأميركية، بأنه رغم أن المساعدات المالية والعسكرية والسياسية التي قدمتها إدارة أوباما لإسرائيل هي الأكبر مقارنة بالإدارات السابقة، فإن الرئيس الأميركي الحالي هو أكثر الرؤساء الأميركيين المكروهين في إسرائيل، كما أنه لم يسبق لرئيس وزراء إسرائيلي أن مارس إذلالا لرئيس أميركي كالذي مارسه نتنياهو بحقّ أوباما.
مقابل ذلك حرص رئيس الوزراء الإسرائيلي على عدم توجيه أي انتقادات إلى موسكو والرئيس بوتين، وحتى تصريحات وزيـر الدفاع الإسرائيلي المتطـرف ذي الأصول الروسية، أفيغدور ليبرمان، جاءت إيجابية مرحبة بعلاقات متينة بين البلدين، لا بل إن الإسرائيليين الناطقين بالروسية (20 بالمئة) أصبحوا يمثلون لوبي “إسرائيل الروسية” يدفع باتجاه تحالف حقيقي بين البلدين.
لا يهمّ ما الذي دار في اجتماع وزراء دفاع روسيا وإيران وسوريا في طهران (9 يونيو الجاري). ولا يهمّ ما إذا كان الاجتماع ناقش وسائل تطوير التنسيق العسكري بين العواصم الثلاث في المرحلة المقبلة. ولا يهمّ ما إذا كان أمر الاجتماع، الذي لم يرشح منه الكثير، أخذ طابعا كان يُراد منه إرسال رسائـل متعددة المقـاصد والاتجـاهات. ولا يهمّ ما إذا كان الاجتمـاع سيحددُ مسار معركة حلب وحصص الأطراف الثلاثة داخلهـا. ما يهمّ فقط أن الاجتماع عُقد مباشرة بعد أن أخذت طهران ودمشق علما بحميمية واستراتيجية العلاقات الجديدة بين روسيا وإسرائيل، بما يعني أن مداولات اجتماعات طهران هي جزء/ وستكون جزءا من مداولات الأمن الإقليمي بين موسكو وتل أبيب.
لكن الأنكى من ذلك أنه بعد انفضاض اجتماع مسؤولي الدفاع في العواصم المعتبرة ممانعة تجابه “الأجندة الأميركية الغربية الصهيونية .. إلخ” في المنطقة، كشفت مصادر استخبارية إسرائيلية عن عزم موسكو وتل أبيب قريبا على إجراء مناورات عسكرية مشتركة هي الأولى من نوعها في تاريخ المنطقة بين البلدين، بحيث ستشارك في تلك المناورات طائرات روسية ستنطلق من مطارات في داخل سوريا (قاعدة حميميم) وسفن حربية روسية ستنطلق من قواعدها في سوريا (طرطوس واللاذقية).
أعادت موسكو الدبابة الإسرائيلية التي غنمها الجيش السوري في معركة السلطان يعقوب في منطقة البقاع الغربي في لبنان عام 1982. قدمت دمشق الغنيمة لموسكو، فأعادتها الأخيرة إلى أصحابها معلنة بذلك استقالتها من موقف سوفيتي متقادم إزاء الصراع العربي الإسرائيلي، ملمّحة بانحيازها للجانب الإسرائيلي. ليس في الأمر أي تهكم أو سخرية أو أي خيال. هي حقيقة تؤكدها الأحداث والمواقف والتصريحات. أصبحت إسرائيل وروسيا في خندق واحد، فيما إسرائيل والولايات المتحدة في خندق واحد. بالمقابل تنحشر موسكو وطهران وتوابعها من حزب الله إلى بقية سبحة الميليشيات التابعة في خندق واحد لحماية نظام دمشق.
وفيما واشنطن وموسكو تتشاركان وتتواطآن في خندق سوري واحد، فإن دول “الممانعة” التي لا يمكن أن تتمدد وتستدرج واشنطن وتل أبيب داخلها، تنعطف آليا ومنطقيا لتصبح أدوات في خدمة أجندة إسرائيلية روسية أميركية معلنة جلية لا لبس فيها.
هو زمن العبث بامتياز. أتذكر بالمناسبة ما قاله لي الشيخ صبحي الطفيلي، الأمين العام الأسبق لحزب الله، حين قابلته قبل أشهر في منزله في عين بورضاي في البقاع في لبنان: “أقول بصراحة كلّ من يقاتل اليوم إلى جانب الروسي هو عميل للروس يموت في معركة ليست له علاقة بها، ومن يموت في سوريا يُصرف دمه على طاولة أميركا وروسيا”.
قال الرجل هذا الكلام في مارس الماضي قبل أن يتّضح هذه الأيام أن إسرائيل هي من يحتل رأس تلك الطاولة.
كما حلمنا مسبقاً بانقلاب الجيش أو الأمن على بشار الأسد، لنحلم اليوم بانقلاب البيت الأبيض على نظام الأسد، او بشكل أدق يبدو أن أوباما تعرض للصفعة من أحد أبرز جناحي الادارة الامريكية قبل انتهاء مدة رئاسته وبات ان يترك مكانه و هو حافظ قدر من ماء وجهه ، شيء محال، بعد أن مرغته مستنقعات الحرب السورية وهذا ما بدى جلياً اليوم من خلال إصدار أكثر من 50 دبلوماسي وخبير في وزارة الخارجية الأمريكية مذكرة يطالبونه بتنفيذ ضربات مباشرة ضد نظام الأسد لإنهاء الحرب في سورية.
في نظرة شمولية بين مواقف الإدارة الأمريكية في عهد أوباما الأمريكي وتصعيد الحرب السورية من كافة الجوانب و البلدان التي وقعت في شرك النظام السوري ، بحثاً عن مصالحها الإقليمية والدولية طبعاً، ما جعل هذه الدول تبارك هذه الحرب ضمنياً، بالرغم من إعلانها نصرتها للثورة و كان من الواجب سرد بعض المشاعر التفاعلية كي لا ينعت احدها باللاإنسانية.
يبدو ان كلينتون المرشحة لرئاسة أمريكا اليوم خلفاً لاوباما والتي من المتوقع أن تفوز بالرئاسة بعد اشهر كانت على دراية ان نظام الاسد سيصدر الارهاب الى كافة دول العالم وكانت ذات موقف سياسي واضح بضرورة اجلاء الأسد من منصبه، لكن مماطلة البيت الابيض في هذا الصدد جعل الموضوع بالفعل يطبق، و تسبب استمرار وجود نظام الأسد بتصدير الارهاب الى كافة دول العالم، وهنا كان لابد على الأسد ليحافظ على وجوده ، هو التعهد بإعادة كل اولئك المتطرفون الى المنفى الذي سيحمي انتشاره في كافة القارات من أوربا لأمريكا والذي يدعى "سوريا".
اعتقد البيت الأبيض أن إبقاء نظام الاسد سيساهم في ضخ كل السموم من كافة الدول الى سوريا لتكون ملاذ المتطرفين، لكن يبدو ان حلمهم هذا كان كحلم إبليس في الجنة، و لم يمنع وجود المتطرفين و تمددهم في سوريا الى جانب العراق من توزعهم في العالم بنطاق أكبر، و تحولت سوريا لمركز استراتيجي لعملياتهم وقياداتهم واصدار اوامرهم فتنظيم القاعدة الذي صنفه العالم على أنه إرهابي توزع في كافة ارجاء سوريا وتمركز في الشمال و تنظيم الدولة اتخذ قاعدته في الشرق السوري، وبدأت هذه الفصائل المتطرفة بضخ عناصرها في كافة دول العالم، وقد اكتشف أوباما مؤخراً الى جانب دول العالم كافة ان وجود النظام لم يكن بؤرة لجذب المتطرفين الى سوريا والبحث عن دولة الخلافة فيها، بل حول سوريا الى قطبي مغناطيس احدهما ايجابي يجذب نخبة القادة الى سوريا لتدير عمليات ارسال و تصدير الإرهابيين عبر القطب السلبي الى دول العالم و تنشرهم كالملح في طعام الأصحاء.
ولكن هذا الاكتشاف جاء متأخراً بل متأخر جداً، وليس هذا فحسب بل سيكتشف العالم مع الأيام أن رهانهم على الثورة السورية وابقاء الأسد أطول فترة ممكنة كان دليل قطعي لإدانتهم على العلن وبحكم مؤبد إن لم يكن إعدام لهم ، رغم ان ضمائرهم قد أعدمت منذ اول صاروخ نزل على طفل سوري
تشكل آليات السيطرة والهيمنة التي تستخدمها السلطة عموماً، وسلطة الاستبداد خصوصاً، في علاقتها مع المجتمع، العامل الأساسي والأهم في تحويل تنوع وتمايز الهويات الفرعية لعموم المواطنين إلى تمييز بين بعضها وبعضها الآخر، ومن ثم إلى تغليب هوية إحدى الجماعات على هويات الجماعات الأخرى. يتبدى ذلك بوضوح أكبر في الدول التي تحتوي على تنوع ثقافي واسع، والتي تقع في الوقت نفسه تحت وطأة أنظمة استبدادية. وتمثل تجربة سورية في ظل الاستبداد البعثي نموذجاً ملائماً لهذه الأطروحة.
تحررت سورية من الانتداب الفرنسي قبل انقلاب البعث بأقل من عقدين، ولم تكن تلك السنون المعتبرة كافية لبناء نموذج الدولة الوطنية، وتأسيس هويتها على الوجه الصحيح، لا سيما أن تلك الفترة شهدت انقطاعين مهمين للمسار الديموقراطي البرلماني الوليد، تمثلا في مرحلتي الانقلابات والوحدة مع مصر. وفي حين أن فترة الانقلابات كانت المخاض الأساسي لسؤال الهوية الوطنية السورية، والذي تفاعلت فيه العوامل الداخلية مع محصلة قوى الفاعلين الدوليين والإقليميين إبان تلك المرحلة، فتجربة الوحدة، التي حصلت بعد عدة سنوات من الاستقرار السياسي النسبي، كانت وبصرف النظر عن النتائج، أحد، بل أول، الاختبارات العملية المهمة لهذا السؤال.
جاء انقلاب البعث ليقضي على أي أفق محتمل للتطور الطبيعي للحياة السياسية يسمح بإمكانية تشكل هوية سورية مؤسسة ومبنية على عقد اجتماعي طوعي بين عموم السوريين. على العكس، أفضت ممارسات البعث عبر عديد السنين إلى تقويض أسس السلم الأهلي والاستقرار الاجتماعي عبر ممارسات سياسية وتنظيمية على مستوى الدولة اتسمت بغالبيتها بطابع تمييزي. وعلى رغم أن الأنظمة الشمولية تقوم على فكرة إدماج عموم الأفراد والجماعات والطبقات في بوتقة «الأمة»، ففي الحالة البعثية هذه، سرعان ما استحالت فكرة الإدماج تلك إلى اندماج ما بين الحزب الحاكم ومؤسسات الدولة، بحيث تماهى الحزب بالسلطة، ونظام الحكم بالحاكمية، وبدأ العمل على خلخلة التوازنات القائمة إن على مستوى المشاركة في الحياة السياسية وصيانة الحقوق الأساسية لعموم المواطنين على حد سواء، أو على مستوى الوظائف العامة في جميع مؤسسات الدولة، وفي شكل خاص في مؤسستي الجيش والأمن، بناءً على قاعدة الولاء للسلطان، وبمنطق تمييزي كما أسلفنا، قائمٍ على تقريب فئة دون أخرى بما يخدم مصالح النظام بتوطيد أركان حكمه. وهو ما سيودي لاحقاً بالميدان السياسي والاجتماعي العام للسوريين إلى مصيره البائس.
ولا يمكن الركون إلى اعتبار مستوى «الأمن والأمان» في الحياة الاجتماعية اليومية، ومن ضمنها العلاقة بين الجماعات الأهلية، أحد المؤشرات الصحيحة الدالة على جدارة واستحقاق نظام حكم البعث للشرعية، طيلة عقود خمسة من الاستبداد، فكيف بالأحرى اعتباره المؤشر الصحيح والوحيد؟! وبصياغة أخرى، في ظل وجود علاقات القوة والهيمنة، وعلى نحو صارخ كما في الحالة السورية، قد يبدو «السطح» الاجتماعي متوافراً على الكثير من عوامل الثبات والاستقرار، بينما يمور القاع بالكثير من الإرهاصات والتوترات القائمة على أساس هوياتي، والتي تنتقل من حيز الكمون إلى حيز الفعل في المنعطفات الحادة سياسياً واجتماعياً، وتمثل سيرورة الثورة السورية ومآلاتها الحالية برهاناً واضحاً على ذلك.
تشكل المساءلة الجدّية لكيفية إدارة نظام الاستبداد للتعدد الثقافي الموجود على الأرض، وعلاقة ذلك بمفهوم الهوية الوطنية، نقطة انطلاق أساسية وإجراءً مقبولاً للبحث في كيفية بروز الهويات الفرعية، وتموضعاتها ضمن تراتبيات أكثرية/ أقلية، سلطة/ مجتمع، وبالتالي لاستبصار وتبيّن مناطق التوتر الناتجة عن فرض تلك التراتبيات قسراً، وتمييزها عن تلك التوترات المتأتية في شكل طبيعي عن نقاط وحدود التماس بين الهويات.
فالهوية، إلى جانب خصائصها الأساسية كالتعدد والتعقيد البنيوي والدينامية إلخ... هي مفهوم سياقي، أي أنها رهان ونتاج صراعات اجتماعية، تتراكم وتتزاحم فيها مستويات هوياتية عدة تستطيع الجماعة المفاضلة بينها، من خلال محصلة التماهي بين الهوية التي تضعها هذه الجماعة لنفسها، والهوية الافتراضية التي ينسبها الآخرون إليها. ووفق دينيس كوش: «ليس لكل المجموعات «سلطة التماهي» نفسها، إذ هي تتوقف على الموقع المكتسب في نسق العلاقات التي تربط بين المجموعات. وليس لكل المجموعات النفوذ نفسه في إطلاق التسمية وفي تسمية نفسها. وحدهم أولئك المتمتعون بالنفوذ الشرعي، أي النفوذ الذي تكسبهم إياه السلطة، يمكنهم فرض تعاريفهم الخاصة لذواتهم وللآخرين».
وبالنتيجة، نخلص إلى القول إن الهوية تتحدد بدلالة محصلة القوى والعلاقات والتنازعات القائمة بين مجمل الفاعلين السياسيين والاجتماعيين. أما من جهة أخرى، فهي تتحدد من خلال تموضعها ضمن شبكة المصالح والعلاقات التي تربط السلطة بالمجتمع ككل، وبالجماعات كلٍ على حدة.
وضمن هذا السياق من العلاقات بين سلطة الاستبداد والمجتمع، يتم النظر إلى هوية أو جماعة بعينها وتصنيفها على أنها أكثر «إيجابية» من سائر الهويات والجماعات. وفي واقع الأمر، تستفيد الجماعة المعنية من الامتياز الذي حظيت به من السلطة، لتستبطن في ما بعد إحساساً بالتفوق على الجماعات الأخرى، ولتتحول في نهاية الأمر إلى تمثل هذا التفوق على أنه جوهري وطبيعي، يبيح لها الفوز بهبات السلطان دوناً عن سائر العباد، وتبدي خلال ذلك استعدادها الدائم للدفاع عن تلك المكاسب، أي عن السلطة بطبيعة الحال، فتتم الاستفادة في شكل كبير من أعضاء الجماعة تلك ومن المتماهين معها، في تأمين أركان الملك العضوض. تتمترس تلك الجماعة في حالات التهديد الجدية، تنكمش على نفسها وتتشرنق وتبدأ بالتحول تدريجاً إلى هوية مضادة للمجتمع، كما أن حدودها في النفوذ تغدو مصمتة تماماً.
يصح القول إن التخلص من نظام الاستبداد، وبمعنى آخر تفكيك آليات الهيمنة والسيطرة، يعتبر الخطوة الأولى اللازمة، وغير الكافية بطبيعة الحال، في مسار تحرير هذه الهوية أو الجماعة من «تفوقها» وإعادتها إلى مكانها الطبيعي في النموذج الاجتماعي المتعدد الثقافات.
منذ تأسيسه في مطلع الثمانينات لم يمنَ «حزب الله» بخسائر كبيرة كما يحدث له الآن في سوريا، وأكثر من كل حروبه مع إسرائيل مجتمعة.
ومع استمرار نزيف الحزب تقول أكثر التقديرات تحفظًا إنه خسر ألفاً من خيرة مقاتليه، والتقديرات الأخرى تتحدث عن ثلاثة آلاف. خسر كذلك عددًا من قياداته العسكرية المهمة، ومن بينها، كما رصدها الكاتبان ماثيو ليفيت ونداف بولاك: قُتل فوزي أيوب، قائد لبناني - كندي مزدوج الجنسية من «حزب الله» في محافظة درعا جنوب سوريا، من أهم المطلوبين لدى «مكتب التحقيقات الفيدرالي» الأميركي، وحسن حسين الحاج، في معارك جرت حول إدلب، وقُتل خليل محمد حامد خليل في حمص، وقُتل علي فياض في منطقة حلب، بينما لقي «قائد (حزب الله) المخضرم» خليل علي حسن، مصرعه أيضًا في منطقة حلب في أوائل الشهر الحالي، والأهم أرفع قادته، مصطفى بدر الدين، الذي قتل في شهر مايو (أيار) الماضي. كلهم قتلوا في معارك مع الثوار السوريين أو الجماعات المسلحة الأخرى في سوريا.
وعدد قتلاه ومراتبهم العسكرية من أسرار الحزب التي عود الجميع على عدم إفشائها إلا عندما يدرك أنها ستذاع من قبل الآخرين.
فهل ستؤثر الخسائر عليه وعلى مستقبله كقوة محلية لبنانية وكميليشيا خارجية ملحقة بالحرس الثوري الإيراني؟
«حزب الله»، بخلاف إيران، لا يستطيع فرض التجنيد الإجباري على شباب طائفته في لبنان، ولا يملك من وسيلة لإقناعهم بالانخراط في صفوفه إلا من خلال الدعاية الدينية والسياسية وبالإغراءات المالية.
كان زعيم ما يسمى «حزب الله»، حسن نصر الله، يتعهد بأنه سيقضي على «التكفيريين» في بضعة أشهر. لكن، وبعد أن طالت الحرب في سوريا إلى خمس سنوات، أمضى الحزب يقاتل فيها أربع سنوات، هل يستطيع أن يستمر مهما طال أمد الاقتتال؟
والأسوأ له أن حجم تورط «حزب الله» ازداد وتجاوز سوريا، حيث يبعث رجاله للقتال نيابة عن إيران في العراق أيضًا، ويعيش حالة استنفار متواصلة ومرهقة في داخل لبنان. وعدا عن نزيف الدم والمال فإنه خسر كل شيء تقريبًا من سمعة وتأييد في العالم العربي بناه خلال مواجهاته مع إسرائيل. وفي حال فشل المغامرة الإيرانية في سوريا، وهو الأرجح، ستكون تأثيراتها خطيرة على «حزب الله» ليس فقط في سوريا، وبلده لبنان، بل حتى داخل طائفته؛ فقد كان يبرر هزائمه أمام إسرائيل، كما في حرب 2006، بالقول إنه كسب بإفشال أهداف إسرائيل! إنما في حال هزيمته في سوريا، أو استمرار خسائره في سوريا، سيكون وضعه صعبًا، بما في ذلك داخل طائفته. ولن يستطيع ضمان اصطفاف شيعة لبنان خلفه، بعد أن كان يحارب ما وراء الحدود، كما يقول لهم، دفاعًا عن سلامتهم ووجودهم، في حين أنها حرب بالنيابة عن المصالح الإيرانية التي حولت مقاتلي «حزب الله» إلى مرتزقة يحاربون لخدمتها في كل مكان، وحربه في سوريا كلفتهم الكثير ولم تمنحهم الأمن الموعود.
ولأن مواجهة إسرائيل أصبحت مستبعدة، خاصة بعد توقيع اتفاق إيران النووي مع الغرب، وكذلك بسبب ضعف الحزب عسكريًا، فإن مبرر وجود «حزب الله»، كمؤسسة ميليشيات مسلحة، أصبح صعبًا في أن يدوم من دون تحديات له في لبنان. وهذا ما يجعل الحزب، وإيران، حريصين على رفض أي حل لا يبقي على الأسد رئيسًا وبسلطات كاملة، لأنهم يعرفون أن تأثيرات الهزيمة تتجاوز حدود سوريا إلى لبنان. هزيمة الأسد في سوريا الأرجح أنها ستقضي على «حزب الله» في لبنان.
فحجم الثمن الذي يكلف الحزب بسبب تورطه في المستنقع السوري باهظ. وهو الثمن الذي كان يتحاشى دفعه، حتى في زمن مواجهاته العسكرية مع إسرائيل، باللجوء إلى الاختباء بين المدنيين أو تحت الأرض، بدعوى استدراج العدو أو بحجة توفير قدراته للمواجهة.
حرب سوريا القذرة أفقدت «حزب الله» سمعته، وتاريخه، وشعبيته، وشرعيته، وشبابه، وقادته.
بعد عراك طويل مع ذاتي بين حب للحياة والثورة، قررت ان أخد استراحة طويلة بعيداً عن كل ما يمت للثورة بصلة، وأن امارس طقوس الامومة وأطبخ وأغسل وأقرأ رواية عاطفية أو بعض من قصص اجاثا كريستي، و قررت أن أنضوي بعيداً عن كل الترهات التي تحدث في سوريا لأجدد نشاطي وعزيمتي من جديد، و ان أمارس طقوسي الدينية وبعضاً من الطقوس الاجتماعية التي تنحت في حياتي وأصبحت من الكماليات لا أكثر
عشرون يوماً بعيداً عن اخبار من يمثلون الشعب السوري المعارض والذي أتوقع أنهم يسمون أنفسه "الائتلاف" ، بعدياً عن صور تلك العضوات فيه اللواتي يظهرون في اجتماعاتهن ليلبسن تنورة قصيرة تظهر مفاتن أرجلهن او بنطال من إحدى الماركات العالمية ليظهرن كم الشعب السوري منفتح، أما ذكور الائتلاف فقد ارتحت من ابتسامتهم الصفراوية التي يرسمونها على أوجههم ليبدوا إحساسهم بالناس التي تعاني، او ربما يرسمون عقدة حاجب مصطنعة لتتناسب وتراجيديات الوضع السوري
خلال هذه الأيام ارتحت من رائحة البارود التي تفوح حروفي، و حاولت أن أسقي وردة على وشك الموت في صدري لأشعر اني انسانة شبه طبيعية، ارتحت من أخبار حلب تحرق و إدلب تحتضر و حاولت ان أكون صريحة مع نفسي أكثر وأن أعانق قلمي الرومنسي وأعاتبه لما ابتعد عني، حاولت ان أرتشف قهوتي على أنغام أغنية أحبها وليس على وقع دفوف الموت وبالقرب من أشلاء الشهداء
أيقظني اليوم خبر اقتتال الميليشيات الشيعية و حزب الله مع جيش النظام السوري، صرخت بقوة وضحكت من قلبي، وعدت لأتذكر أني في هدنة مع نفسي ولكن هذا لم يمنعني ان أصفق وأصفر و أتودد للحروف التي قراتها عن هذا الخبر، ولكني عدت من جديد لأرتدي وشاحي و فستاني الذي سأخرج به اليوم على الفطور لأكون إنسانة طبيعية أفعل كل شيء من اللا شيء رغم كل شيء
عشرون يوماً وأنا أمثل دور الأنثى و دور الصديقة ودور الحبيبة، حتى شعرت بغربة الأشياء من حولي، وغياب المنطق، وسذاجة الحلم، فالحرية لا تولد من رحم حياة طبيعية والكرامة لا تنبت في كيس طحين أو دلة قهوة ولا تزرع وردة وسط كتاب
ادركت جلياً أن العيب ليس في الثورة وإنما في القائمين عليها، تمنيت لو ان لدينا شيخاً أو قديساً يعرفون ان الإنسانية قد ضاعت وأننا بتنا نتهرب من أن ندرك أننا مجرد حيوانات ناطقة لكنها تتدفئ على موقد و تسكن في بيت لا جحر أو عش او شجرة ، أيقنت أني في حاجة رجل يمثلني أو حتى انثى تمثلني، يتمتعون بروح البشرية، يلجمون أنفسهم ويبحثون عنا كشعب اشعث متذبذب
لأعود بعد عشرون يوماً الى حالي أتورط في صحف عليها ناس يمثلون الشعب بعيداً عن الموقف وأعود للقصف الهمجي و معارك بين فصائل تماطل، لكني قررت اليوم اني لن أقرا خبراً حتى أرتدي وشاحي و فستاني و أتناول فطور إنساني وأكون طبيعية بعض الشيء و لن أعاني، وبعد الفطور سأعود الى حالي الى أرضي الى وطني لترحالي بين تلة ملأتها نفايات الصواريخ و أشجار احتضنت شظايا القذائف و رصاص أحلامي
صحيح أن الكثير من الطائفية المُستترة عرفته الحياة العامة السورية، خصوصاً في السياسة ومؤسسات الدولة وعالم الأعمال، حيث كانت أهم أدوات الأسدية لحُكم البِلاد لعقود، ولإدارة أشكالٍ من التوازنات المعقولة بين الجماعات الأهلية.
لكن أيضاً كان ثمة ما هو مخالف تماماً لذلك في الحياة اليومية المُجتمعية السورية، مما تنامى بفضل ديناميات تنموية واجتماعية واقتصادية وتعليمية حدثت بكثافة خلال العقود الخمسة الأخيرة. فقد كانت سورية زاخرة بالكثير من أشكال «الاختلاط الديموغرافي» والتعايش والسلام الاجتماعي المعقول، وباتت جميع البيئات السورية ملونة بنسبٍ متفاوتة من السُكان والحساسيات. لقد بدأت تتبلور ثقافة اجتماعية مليئة بالشيفرات والرموز الثقافية واللغوية السورية الخاصة، لم يكن أقل منها تبلور طبقة سورية وسطى ما، وإن كانت مُنهكة اقتصادياً، لكن مئات الآلاف من السوريين الأعلى تعليماً كانوا يعتبرون أنفسهم سوريين مدنيين أولاً، عابرين للهويات المذهبية والدينية الجهوية.
لم يكن من خارج هذا الواقع تضخم الكثير من المُدن المركزية وتنوعها، فدمشق وحلب وحُمص واللاذقية غدت إلى حدٍ معقول «مُدنا متروبولية» بتشكيلاتها الاجتماعية. مثلاً، كان ثمة في مدينة حلب وحدها قُرابة نصف مليون كُردي سوري، وما يقارب مليون كُردي في دمشق، كانوا محملين بنزعة قومية كُردية، لكنهم لم يكونوا يستبطنون نزعات من الكراهية والعدوانية تجاه محيطهم الاجتماعي، وكانت مستويات التفاعل بينهم وبين المُحيط بالغة الثراء، وكذلك كان ثمة عشرات الآلاف من الكُرد السوريين في حُمص والساحل.
الأمر نفسهُ كان ينطبق على العلويين السوريين، الذين بفضل ديناميات الاقتصاد والامتيازات في مؤسسات الأمن والدولة، تركوا بيئتهم الجغرافية في الساحل واستقروا في جميع الجغرافيات السورية. فعشرات آلاف العائلات العلوية استقرت في مُدنٍ قصية من سورية، حيث بقيت لأكثر من أربعة عقود، حتى أصبح الكثير مُنهم بحُكم الواقع أجزاء من تلك البيئات. وهو أيضاً ما ينطبق على باقي الجماعات الأهلية.
كانت ديناميتا التعليم والاقتصاد الفردي قد ساعدتا على نمو الكيمياء الاجتماعية السورية وحيويتها. فالجامعات المركزية الحُكومية الخمس ضمت مئات آلاف الطلبة السوريين القادمين من كُل الأطراف، حيث سمح تطور المواصلات بتنقلهم السلس حتى بوتيرة أسبوعية، ما بين مناطقهم وهذه المُدن. وبسبب تمركز التنمية في تلك المُدن الخمس حيث الجامعات الحكومية، فالغالبية العُظمى من هؤلاء الطلبة الجامعيين استقروا في مناطق دراستهم، وغدت علاقتهم بأريافهم ومُدنهم الصغيرة أقل حيوية، وبالتالي أقل ولاء.
هذه الطبقة السورية من المُتعلمين نفسها، كانت قد فرزت الطبقة الوسطى السورية بكل تشوهاتها ومُشكلاتها الاقتصادية، كما فرزت مئات الآلاف من الشُبان السوريين المُنخرطين في شبكة الاقتصاد السوري المُعولم والاحتكاري، كشركات النفط والاتصالات والسيارات الخ... ولأسباب مُختلفة مُتعلقة بالولاء لنمط الحياة وشبكة العلاقات وضرورات العيش المُشترك في المُدن، كانوا الأقل طائفية وقومية، بل الأقل مُبالاة بالسياسة والأيديولوجيات عموماً.
شيء رديف لذلك تأسس بسبب طبيعة الاقتصاد. فسورية لم تكن دولة ريعية بالمعنى النفطي. فالريعية كانت فقط شكلاً من التضخم البيروقراطي والاستيعاب الوظيفي من قِبل السُلطة، أي شكلاً من البطالة المُقننة ليس إلا. لكن السوريين في عمومهم كانوا، في دورة الحياة الاقتصادية الحقيقية، يحيون في نمط من «اقتصاد الظل» والخدمات والتي تجاوزت نسبتها ثلاثة أرباع القيمة الكُلية للاقتصاد السوري. فشبكات التهريب والعمل في العُمران والنقل وتصدير العمالة الرخيصة إلى دول الجوار والعمل في بسطات البيع المُفرق والصناعات البسيطة والمتوسطة والصناعة لمصلحة الشركات العالمية، كانت جوهر الاقتصاد السوري. وهذا عنى أن سورية لم تعد دولة زراعية بالمعنى التقليدي، ولا حتى دولة ذات اقتصاد مركزي مُنقاد من الدولة، بل على العكس تماماً، رتّب السوريون حياتهم الاقتصادية وكأن الدولة غير موجودة تماماً، ولا تتكفل بأي شيء، بل مُجرد ثقل اقتصادي.
لقد تطلبت تلك الحياة الاقتصادية كثافة في الكيمياء الاجتماعية اليومية وتجاوز الكثير من خطابات الهوية. لكنها أيضاً كانت دافعاً لتبلور واستبطان الغُبن من قِبل ملايين السوريين، وأن هذه الكيمياء في دورة حياتهم اليومية يجب أن تدفهم إلى المزيد من الانتظام السياسي والثقافي والطبقي المُستقل عن السُلطة وهيمنتها على المُجتمع السوري. وهذا ما كان النِظام السوري يمنعه بكُل شكل، فيحطمه ويخلق ديناميات ومؤسسات لقمع أي مصدر له، وهو الشيء الجوهري الذي تسبب باندلاع الثورة ورسم الملامح الجوهرية للسياق الذي حكم تطورها.
فشيء مما كان قد قاله ماركس عن الرأسمالية التي تحمل خرابها في داخلها كان ينطبق على سورية ومجتمعها الحيوي. ذاك أن تلك الحيوية من دون حريات عامة أو اعتبار لمكانة البشر، تغدو لا شيئاً، بل عتبة على درب الخراب.
لا حل قريباً في سورية، ولا في العراق، ولا في لبنان. فتّش عن إيران. ستكون «معجزة» مفاجئة أن تظهر بداية حلٍّ في اليمن، وهي لن تحصل إلا اذا نال أتباع ايران تنازلات تمكّنهم لاحقاً من استعادة زمام المبادرة لإعادة الأزمة الى مربعها الأول. فالمشترك بين هؤلاء الاتباع أنهم لا يولون أهمية لـ«السلم الأهلي» أو لـ«الاستقرار» أو لمستقبل بلدانهم دولاً ومجتمعات، وتلك هي على ما يبدو احدى أكثر «قواعد الملالي» وتعليماتهم خطورةً وبشاعةً. البقاء في السلطة أو الاستحواذ عليها بالقوة هو الأهم عندهم: انظروا الى تهوّرات حكومات قاسم سليماني في بغداد، الى جرائم بشار الأسد وبراميله من أجل البقاء، الى إصرار الحوثيين على مصير لتعز لا يختلف عن مصير حلب، الى تعطيل «حزب الله» الدولة والمؤسسات وتوجّهه الى العبث بالنظام المالي وهو آخر ما تبقّى من مقوّمات الاستقرار في لبنان.
الحل في سورية، كما يراه الإيرانيون، هو مفتاح الحل في العراق، وفي لبنان. بل حتى في اليمن لكن مع بعض الفوارق لأن طهران لم تستطع استكمال «تطييف» المواجهة بسبب عدم استعداد اليمنيين لتجرّع السموم التي ضُخّت في مجتمعهم. أي حل مبني على بقاء سورية «موحّدة» سيشكّل نكسة كبرى لمشروع الإيرانيين وأطماعهم، حتى لو انبثق هذا الحلّ من مفاوضات تبذل فيها موسكو كل جهد لإفراغ بيان جنيف والقرارات الدولية من أي مضمون يشير الى «انتقال سياسي». ففي سورية موحّدة لا تطمئن طهران الى أي حكم اذا لم يكن بشار الأسد نفسه على رأسه، ولا تطمئن الى أي بديل يماثله أو ممن ارتبطوا بها وقدّموا اليها فروض الولاء والطاعة. ونُقل عن مصدر أممي أن ستافان دي ميستورا طرح مرّة على محاوره الايراني فرضية أن الأسد قد يختفي من المشهد لسبب أو لآخر، وسأل: ما هو موقفكم في هذه الحال؟ أجاب الآخر: هذه فرضية مستبعدة تماماً ولا نفكّر فيها.
وفي سورية موحّدة تعود ايران الى مواجهة واقع وحقيقة ليسا في مصلحتها، اذ لن يكون في الإمكان تجاهل التركيبة الديموغرافية، المختلفة هنا عمّا هي في العراق حيث ابتلع شيعة ايران الشيعة العرب ووظّفوا تغليب الأكراد عرقيّتهم على سنّيتهم ليتمكّنوا من تهميش السنّة وعروبتهم. أمّا في سورية فيراد للأقلّيات أن تهمّش ما يزيد عن ثلثي الشعب، لكن مهما قُدِّمت مسألة «حماية الأقليات» أو غُلِّبَت كأولوية لا يمكن اعتبارها أساساً لوضع عادل ودائم ومستقرّ. واذا كانت التجربة الأسدية (العَلَوية) وفّرت نموذجاً يناسب إسرائيل وإيران في آن، بالاضافة الى روسيا، إلا أنها كانت كارثية على مستوى الداخل، ليس فقط بالنسبة الى الغالبية السنّية بل كذلك للأقليات الطائفية والعرقية كافة، ورغم ضراوة الصراع الحالي لم تنزلق سوى فئات محدودة في المعارضة الى الهاجس الطائفي، لأن المشكلة لم تكن في طائفة الاسد أو مذهبه بل في سلوكه الاستبدادي المفرط، ولذلك فإن مصيره في سورية الموحّدة، أو «المفيدة»، أو المقسّــمة، لن يختلف، ولا بقاء له كمـــا لا بقاء لحلفائه الايرانيين في أي ســـورية إلا بدوام الحرب الراهنــــة الى ما لا نهاية. أما تحدّياته في خطابه الأخير فلا تقلق ارهابيين أو غير ارهابيين بمقدار ما تقلق جمهوره وبالأخص أبناء طائفته.
قد لا تختلف الولايات المتحدة وروســـيا وإســـرائيل كثيراً عن إيران والنظام في كونها لا تريد أيضاً نهايةً قريبة لهذه الحرب. فلديها نظـــام يلائمهـــا جميعاً، لهذا السبب أو ذاك، لكنه لا يصلح للمضي معه نحو أي حل، أياً تكن صيغته. ولديها شعب لا يلائمها جميعاً، لأسباب شتّى جعلتها تجهله وتتجاهله يوم كان صامتاً وخائـــفاً، ولم تشأ أن تعرفه وتعترف به منذ انتفض لحرّيته وكرامته. والأهم أن لدى هذه الدول تصــوّرات متباينة بل متناقضة للحــــلّ الذي يمكن أن ينهي الحرب. لم يعد مجهولاً أن «الحلّ السياسي» لا ينفـــك يضيع بين الهدنات المتساقطة وقوافل المساعدات المحتجزة والهجمات التي يبرمجها النظام وايران ويتكيّف معها الروس.
وقائع كثيرة في هذه المرحلة باتت تذكر بأساليب اسرائيل والولايات المتحدة في إحباط القرارات الدولية الخاصة بالقضية الفلسطينية، أو حتى اتفاقات مع الفلسطينيين، بإغراقها بالتفسيرات وتمييعها لتفقد تباعاً زخمها ثم جدواها ثم أي مغزى وفاعلية قانونيين، فيما تمضي اسرائيل في تغيير الوقائع على الأرض. إذ تضافرت جهود روسيا وايران والنظام لإحالة القرار 2254 و «بيان جنيف» ومختلف مرجعيات التفاوض الى مرحلة لاحقة. وكما كان ولا يزال يُقال للفلسطينيين انتظروا الادارة الأميركية المقبلة، يقال اليوم للسوريين لا أمل يرتجى مع اوباما انتظروا من سيأتي بعده. والمشكلة في هذه الوصفة المسكِّنات هذه أنها لم تأتِ يوماً بأي جديد يمكن الرهـــان عليه، طالما أن المصالح هــــي المصالح. لكن، في الانتظار، يريد الاــــسد «استعادة كل شبر من الأرض السورية»، هكذا قال عشية اجتماع وزراء الدفاع الثلاثة في طهران، ولا شــــك في أن الايرانيين متّفقون معه، أمــا الروس فراغبون لكنهم لم يحسموا أمرهم بعد. ذاك أن المزيد من التغيير في الخريطة الميدانية بات يعني سلسلة من المذابح الكبرى، وليس سفك الدماء ما يستدعي تردّد موسكو إلا أنه يتطلّب ارسال مزيد من القوات والاستعداد للتورّط أكثر، وهو ما لا تزال تتجنّبه. وعدا ذلك فإن الحل العسكري المطلوب ايرانياً وأسدياً لا يقتل كل حلٍّ سياسي فحسب بل يعدم أي توازن في عموم المنطقة.
اعتمد نظام الأسد وإيران على القوة العسكرية والثقل الدولي لروسيا التي غيّرت معادلات الصراع لمصلحتهما، لكنهما يعتمدان الآن على نقاط ضعفها وهي تكمن في حساباتها الاستراتيجية في مواجهة اميركا، وفي الأهداف التي حددتها لتدخلها في سورية، وفي تراجع خبراتها وإمكاناتها لإدارة بلد في حال حرب أهلية بعيداً من حدودها وعن الجمهوريات الهشّة التي تهيمن عليها. ويعرف نظاما الاسد والملالي أنهما عملا على تعقيد الواقع داخل سورية بحيث يصعب على أي قوة خارجية الاقتراب منه وترويضه. لذلك تبخّر الكثير من الأفكار والخطط التي تحدّث عنها الروس في البداية، ولعل أكبر خيباتهم أنهم لم يتمكّنوا من وضع الجيش في الواجهة واضطروا للتكيّف بقبول الميليشيات، وهي عماد الاستراتيجية الايرانية في سورية وسواها. ومن خلال سيطرتهما على الواقع يكون نظاماً الاسد والملالي قد تموقعا للتحكّم بأي تسوية للصراع السوري.
كانت موسكو مدركة هذا الوضع الإشكالي، ولذلك سارعت الى اقامة تنسيق عسكري مع إسرائيل ودفع العلاقة معها الى أقصى حالات التقارب، وهو ما لم يُغضب الأسد فيما واجهه الإيرانيون بالصمت المطبق رغم الكلفة العالية التي يتحمّلونها سواء بالخسائر التي يتكبّدها «حزب الله» من قادته وكوادره أو على الأقل بالانكشاف التاريخي لزيف شعارات الممانعة والمقاومة التي يرفعونها. كما أن موسكو استخدمت لقاءات فيينا للتسلّح بغطاء دولي لـ «مشروعية» دورها وتعويض النقص في أهليتها لقيادة الملف. فبعد تجربة الهدنة، وبعد اخفاق الاجتماع الأخير لـ «المجموعة الدولية لدعم سورية» في تحديد موعد لاستئناف مفاوضات جنيف، وكذلك بعد افتضاح العجز عن إيصال المساعدات الانسانية الى المناطق المحاصرة، بات الجميع يعرف أن الكلمة العليا ليست لروسيا وإنما لنظام الأسد وإيران، والأخيرة مشاركة في لقاءات فيينا. وفيما ترى عواصم أوروبية عديدة أن التطورات تجاوزت «صيغة فيينا»، فإن السؤال يُطرح بإلحاح الآن عمّا اذا كان الروس والاميركيون بلغوا أقصى ما يستطيعون، وهل يطلبون مساعدة ايران، وبأي ثمن؟
لم يخف تكتل الضابط السابق ميشال عون «للإصلاح والتغيير» امتعاضه الشديد من تدفق اللاجئين السوريين (السنّة) إلى لبنان ورأى فيهم «تهديداً لوجوده»، وحذر بشكل متكرر ومبالغ فيه من احتمال «توطينهم». واعتبر البعض ذلك وجهة نظر طرف سياسي لبناني، على رغم الخلفيات العنصرية والطائفية التي تشوبه. أما أن يقوم وزير الخارجية اللبناني جبران باسيل، صهر زعيم التكتل نفسه وممثله الرئيسي في الحكومة، بتحذير دولة أوروبية من الخطر الذي يشكله النازحون السوريون والعراقيون على «ثقافتها وصورتها»، فأمر يدخل في باب النفاق السياسي والأخلاقي.
تحذير باسيل خلال زيارته الحالية إلى هلسنكي من أن تؤدي الهجرة الجماعية إلى «زعزعة الأسس التي بني عليها الاتحاد الأوروبي كمجموعة من القيم وجماعة من الشعوب»، وأن «تهدد التنوع» في القارة العجوز و»تفتح الباب أمام الإرهابيين»، انعكس تعليقات ساخرة في الصحافة الفنلندية، علماً أن نظيره الوزير الفنلندي تيمو سويني الذي ينتمي إلى حزب معاد لأوروبا، كان أقل حماسة من باسيل بكثير في استعراض المخاطر على بلاده، وهو عضو في حكومة عرض رئيسها تقديم منزله الخاص لاستضافة لاجئين من الشرق الأوسط.
وتحت عنوان «وزير خارجية لبنان قلق على صورة فنلندا»، قالت صحيفة «فنلند توداي» أنه «على رغم المسافة الشاسعة التي تصل إلى 3200 كيلومتر بين البلدين، إلا أن وزيري خارجية لبنان وفنلندا لا يتقاسمان فقط المعتقدات الدينية (كلاهما كاثوليكي، وهذا تفصيل مهم في فنلندا التي ينتمي 78 في المئة من سكانها إلى الكنيسة اللوثرية)، بل توافقا أيضاً على الحاجة إلى وقف الهجرة الجماعية»، مضيفة أن باسيل «تساءل عما إذا كانت فنلندا ستستطيع الحفاظ على ثقافتها وصورتها التاريخية» بعد استقبالها نحو 35 ألف لاجئ، مع أن مساحتها تبلغ عشرات أضعاف مساحة لبنان، واقتصادها بين الأكثر ازدهاراً في أوروبا.
وكأن الوزير اللبناني، مع الفوارق الكبيرة والكثيرة، يستعير أفكار وتعابير المرشح الجمهوري الأخرق للرئاسة الأميركية دونالد ترامب الذي يرى في استقبال بضعة آلاف من اللاجئين السوريين تهديداً «إرهابياً» للولايات المتحدة، ويدعو إلى منع المسلمين من دخول بلاده وإلى بناء سور على الحدود مع المكسيك بسبب مخاطر الهجرة على «القيم الأميركية».
ولو دقق الفنلنديون قليلاً في المعلومات عن باسيل لوجدوا أن حماه (والد زوجته) عون، مؤسس الحركة التي ينتمي إليها، كان لاجئاً في فرنسا طوال 15 عاماً، وأن الذي هجّره إليها هو والد الرجل الذي يهجّر اليوم ملايين السوريين داخل بلدهم وإلى خارجه، بسبب خيار «الحل العسكري» الذي يتبناه ويؤيده فيه باسيل عندما يصرح بأن «الإرهاب» هو سبب موجة النزوح الهائلة من الشرق الأوسط وليس النظام المستبد في دمشق وحلفاؤه الروس والإيرانيين وتوابعهم.
تبدو تصريحات باسيل عن اللاجئين، سواء في لبنان أو الخارج، مفتعلة تتقصد النيل من ثورة الشعب السوري ومعاناته، وتحريفاً مقصوداً لحقيقة أن السوريين لم يكن لهم خيار في اضطرارهم إلى ترك بيوتهم وقراهم ومدنهم، والهرب من العنف والقتل الجمعي في بلدهم بسبب حاكم يرفض التغيير ويعتبر المطالبة به «خيانة وإرهاباً». ولا تخرج مواقف الوزير «البرتقالي» عن كونها مجرد تغطية بائسة لاستمرار بشار الأسد في تهجير المزيد من مواطنيه، بعد توعده الأخير بـ «تحرير سورية كلها».
احتجت لقرابة ٢٤ ساعة حتى تمكنت من الولوج في تفاصيل اللقاء التاريخي الذي جمع الائتلاف بهيئة التنسيق في أرض الحياد "بروكسل" ، و برعاية حنونة من الاتحاد الأوربي، اجتماع أقل ما يوصف بأنه "تأريخي" ، مع تهميز على الألف، و خرج بمجموعة من التوصيات التي تتناسب و روعة المرحلة و قرب الانتصار المدوي للمعارضة السورية السياسية بشقيها الداخلية و الخارجية، و لم يبق إلا الرفض للاحتلال و التدخل الخارجي .
صورة جماعية لـ ٢٠ شخصية ، كجزء من فسيفساء المعارضة السورية، تدل على عمق المباحثات و هدوئها و نجاحها في الوصول إلى مفاهيم أساسية تتمثل في ضرورة توحيد الرؤى و الجهود و صوبها في بودقة الحل للخروج من "الأزمة" نصرة للشعب السوري، طلب بتشكيل "ترويكا" و من الممكن أن تكون ٥+١ للمساهمة في حل الأمور و انهاء الحرب و تشكيل الدولة.
الغريب هذه المفاهيم البسيطة السهلة احتاجت مني لساعات طويلة لفهم عمقها و أهميتها المصيرية في المستقبل السوري، والمنطقة العالم أجمع، فالمجتمعون رؤوس المعارضة السورية، الذي لا يملك أي منهم الحق في الدخول إلى سوريا دون موافقة، أو التجوال فيها دون اذن أو حماية ، و لا يمونون على سائق سيارته حتى يحدد هوية و مستقبل سوريا، و يحدد الخيارات المطروحة و يؤطرها وفق ما يريد، مع التأكيد على الأهم لا يملك بندقية أو كلمة على حامل بندقية، فهو في أحسن الأحوال دشمة قابلة للاستهداف في أي وقت .
الجميل هو عزف مقطوعة "الأكراد" و ضرورة تمثيلهم في المعارضة ، و التأكيد على دورهم و حضورهم، و لم أفهم ماذا يريد البيان ايضاحه ، فالأكراد يملكون أراض آمنة و وواسعة، لا قصف فيها للطيران و لا قتلى بعبثية، يحظون بدعم أمريكي روسي و من النظام أيضاً، و لهم ممثلين في الائتلاف و هيئة التنسيق و بكل شيء، ولكن العمق الغابر للمتباحثين لا ندركه نحن، فأهالي حلب و ادلب هم نخب غير مهم و لم يذكروا بكلمة، فهم يزعجون هيئة التنسيق التي قال في يوم من الأيام منظرها العام أن البراميل سلاح قد يخطئ.
أفضل ما خرج به الطرفان " الائتلاف – هيئة التنسيق" هو رفض الاحتلال والتدخل الخارجي، ولكن أي احتلال لم أعرف و عن أي تدخل يقصدون، و لكنه مصطلح جيد و يستحق التصدر، فهم توصلوا لاتفاق الرفض دون تحديد المرفوض ، فالغاية في الرفض بحد ذاته، و لم يجرئ الائتلاف بوفده كاملاً على التشبث بهذه الكلمة و تحديد الإرهاب ، و ترك رهاب داعش و عبثيته، و التي باتت أكثر تهديداً من حزب اله و فيلق قدس و الزينبيون و الفاطميون و العراقيون بشتى صنوفهم، داعش التي باتت تؤرق الائتلاف و بقية الأطياف أكثر من الأسد ذاته، للعلم أن داعش لم تقصف سوري واحد بالطيران.
نعود على ذي بدئ ، الصورة التي جمعت العشرين شخصاً، كم هي معبرة عن حال سوريا من وجود كتلة هلامية غير متجانسة تبحث عن مكان تنسكب فيه ، قبل أن تتطاير من شدة الخفة .