سماحة السيد حسن نصر الله
في رسالتي الأولى إليك، طلبت منك تنفيذ وعدك بالتدخل لحل المعضلة السورية الذي كنتَ قد قدّمته في خطبةٍ لك ألقيتها في الضاحية. وقد مهّد لرسالتي تلك حديث دار في تونس بين الدكتور علي فياض، السياسي والمثقف المقرب منك، وبيني، استمعت خلاله بأناةٍ إلى أطروحتكم حول المؤامرة التكفيرية التي يتعرّض لها النظام الممانع. يومذاك، سألته إن كنتم راغبين في وقفها، وحين رد بالإيجاب، مستشهداً بما قلته أنت، كتبت لك رسالة مفتوحة نشرتها جريدة السفير، رجوتك فيها تنفيذ وعدك. بعد أيام، أتاني ردّك عن طريق الدكتور فياض: "القصّة أكبر منا".
سماحة السيد:
يبدو اليوم بوضوح أن القصّة أكبر منكم، وأن تقديرك كان صحيحاً في حينه، فلماذا، إذن، قرّرت إرسال مقاتلي حزب الله إلى سورية، إلى مكانٍ قصّتُه أكبر منكم، ليست طوع بنانكم، ولستم قادرين على اتخاذ موقفٍ مقرّرٍ أو مستقلٍّ حيالها، وإلا لكنتم حاولتم، على الأرجح، الوفاء بوعدكم المعلن، والسعي إلى حلها! لم يكن في وسعك حل قصّةٍ أكبر منكم، لكنك أرسلت، مع ذلك، رجالك إلى حربٍ، ستقتلون فيها شعباً ليس معادياً لكم، ولا يهدّدكم. كان من الجلي لكل ذي عينين، ولكم، أنها أكبر منكم بكثير، وأن المنخرطين فيها، والقائمين على إدارتها قوى عظمى تتصارع بضراوةٍ على سورية وفيها، لها من القدرات ما تستطيع معه ممارسة تصعيدٍ غير محدودٍ للقوة، واستخدام أسلحةٍ يصعب أن تجاريها أسلحتكم، المشتراة من بعضها، أو المصنوعة في إيران، فلماذا فعلت ما فعلت، وانصعت لقرارٍ كنت تعلم أن نتائجه ستكون صعبةً على رجال حزبك، أنت الذي كنت تبرز دوماً حرصك الشديد عليهم، وتعتبرهم خميرة تحرير أرض لبنان المحتلة، وطليعة جيش تحرير فلسطين؟
أعتقد أن المبرّر الأكثر قبولاً كان ما راج، يومذاك، حول تكليفٍ شرعي لا حيلة لك فيه، يلزمك انتماؤك إلى نظرية ولاية الفقيه، وانصياعك لخامنئي كولي فقيه للمسلمين بتنفيذه، من دون نقاش أو اعتراض. بذلك، تكون قد لحست كلامك عن القصة التي هي أكبر منكم، وأرسلت مقاتليك إلى مكانٍ من الخطأ إرسالهم إليه، لأن معركتهم فيه أكبر منهم، أي أنها ستكون خاسرةً بالضرورة، خصوصاً وأن قرارك بُني على معطياتٍ كان يجب أن تملي عليك عكسه. ينطبق شيء مماثلٌ على ما قلته عن حربكم ضد التكفيريين، فأنت ملزمٌ بالذهاب، مهما كانت طبيعة من سيحاربه الحزب، وليس قصة التكفيريين غير مسوّغٍ لانصياعك الحتمي لقرار الزعيم الإيراني، ورفضك القيام بأي جهدٍ لوقف مأساة سورية التي ادّعيت، دوماً، أنك أردت منعها من الامتداد إلى لبنان، وكان مما يضفي الصدقية على قولك قيامك بجهدٍ ما لوقفها في سورية.
ذلك كان سيحتسب لك، كرجل يقود معركةً ضد عدوٍّ يتطلب نجاحها تعبئة جميع القوى داخل لبنان وخارجه، وليس الانخراط في حربٍ ضد الشعب السوري الذي عرف دوماً باحتضانه جميع من قاوموا أو قاتلوا هذا العدو، وبأن رفضه نظامه هو، في جزءٍ رئيسٍ منه، رفض لتلاعبه بالقضية الوطنية السورية، وتعايشه مع الاحتلال، وقصر ممانعته على العرب، وخصوصاً منهم عرب فلسطين وسورية والعراق ولبنان، وقيام مؤسسه حافظ الأسد بتسليم الجولان لإسرائيل عام 1967. بهذا، يكون ما قلته حول مسوّغات دخولك إلى سورية مجرّد تحريضٍ مذهبي ضد شعبٍ بكامله، استهدفته بحربك امتثالاً لأمر خامنئي بالدفاع عن نظام الأسد الطائفي، وليس لأنه كان يقاتلك، أو لأنه اعتدى على لبنان أو دخل أراضيه. ولعلمك، فأنا أفترض، هنا، ما لا يجوز قبوله، وهو أنك الجهة المسؤولة عن أمن لبنان واستقلاله، ولا حاجة بك إلى موافقة حكومته وجيشه، وبقية أطرافه السياسية ومواطنيه، على ما تتخذه من قراراتٍ تهدّد وجوده ككيان وطني، بحجة حمايته، لكنها جرّته، في الواقع، إلى حافة هاويةٍ، لن يكون قادراً على مقاومة السقوط فيها لأمد طويل، فإن سقط، لا قدّر الله، كانت نهايته كدولة وكمجتمع، علماً أن سقوطه يمكن أن يحدث في أي وقتٍ، يقرّر فيه "تكفيريو" سورية الردّ عليك، والدخول إلى لبنان للاقتصاص من حزبك الذي يقتل أطفالهم، ردّاً على شعارك الذي جعلهم تكفيريين، وبرّر، بهذه الفرية، دخوله عليهم بالسيف، وقتل أطفالهم ونسائهم وتدمير بيوتهم على رؤوس شيوخهم، واحتلال قراهم وبلداتهم، والقضاء على كثيرٍ منهم بجرمٍ لم يرتكبوه، هو اختلافهم عنه في المذهب، مع أنهم مسلمون مسالمون، كانوا طوال أعوام وعقود من المعجبين برجالك، ومن حاضنته الاجتماعية. لذلك، كرّموا الذين فرّوا من إخوتهم، شيعة لبنان، إلى سورية أيما تكريم، وتقاطروا من جميع أنحائها إلى دمشق لأخذ "حصة" مدنهم وبلداتهم منهم، وأسكنوهم في بيوتهم، ولم يتركوا أي واحدٍ منهم يبيت في العراء، أو يسكن في خيمة، أو يعاني الجوع والمرض. لم يصدّق السوريون ما شاع حول دور وشيكٍ سيلعبه حزبك في بلادهم، يناهض تطلعهم إلى الحرية، ويدعم نظامهم الفاسد والاستبدادي/ الطائفي، غير أن السوريين أدركوا، بعد غزوكم القصير، وما عاشته من مجازر وتهجير وتغيير ديمغرافي، بحجة حماية بعض القرى الشيعية التي لم تكن مهدّدة، ولم يستهدفها أحد، أن جريمتهم تكمن في رفضهم نظاماً تحرّك قادته أحقادٌ أقنعتهم أنهم يستطيعون تصحيح تاريخ عربي/ إسلامي انحرف بعد وفاة الرسول (ص)، وأن من حقهم تنصيب أنفسهم محاربين من أجل حق الإمام علي (ر) في الخلافة، وما يتطلبه ذلك من عقابٍ لا بد أن ينزل بأهل السنة، الذين أتوا ظهيرة البارحة بأبي بكر الصديق (ر) خليفة للمسلمين، عوض مستحقّها الوحيد: سيدنا الإمام علي (ك)، أو قتلوا صباح الأمس سيدنا الحسين، على كتف نهر بردى في حي الصالحية!
سماحة السيد:
لا أعتقد أنك تصدّق نفسك، وتؤمن حقاً بأنك تحارب في سورية التكفيريين، وليس المطالبين بحرّيتهم، وبإضفاء طابع إنساني على وجودهم. إنْ كنت قد صدّقت نفسك البارحة، عليك أن تكذّبها اليوم، بعد أن أبلغك عديد من مقاتليك ما يفعله جند "الممانعة الأسدية" بالشعب السوري، وكم هي شرسة مقاومة مقاتلي الحرية ضد النظام، وكم هؤلاء "دهريون" ونزّاعون إلى العيش الحر، وأية روحٍ إنسانية تملي عليهم تصرفاتهم. ألم يخبرك من وقعوا في الأسر بما عاشوه بينهم من تعاملٍ كريم، وأي نوعٍ من البشر هم، وكم في صفوفهم من متعلمين ومحامين ومثقفين وخريجي جامعاتٍ وإداريين وموظفين سابقين وعمالٍ موصوفين وفنانين وإعلاميين، وشبان يقاتلون من أجل المستقبل، ولا يموتون في سبيل الماضي. هم مؤمنون، ولكن باعتدال السوريين المعروف الذين لطالما كرهوا العنف، وامتنعوا قروناً عن ممارسته، وثاروا لكي يضعوا حدّاً له، بين جوانب أخرى لظلمه واستبداده.
سأفترض، الآن، أنك لم تلتق أحداً من رجالك العائدين من سورية. لذلك أسألك: ألم تشاهد جموع من بقوا أحياء من السوريين، وهم يهتفون للحرية وشعب سورية الواحد، في مختلف قراهم وبلداتهم التي عاشت هدنةً قصيرة، عبّروا خلالها عمّا يجيش في صدورهم، وتختزنه عقولهم من قيم ومبادئ، فإذا بهم يرفضون رفع علم تكفيري واحد، أو شعار تكفيري واحد، أو يطلقون هتافاً تكفيرياً واحداً، ويتصدّون سلمياً كعادتهم للتكفيريين الذين منعوا مظاهراتهم في بعض المناطق، وسقط منهم شهداء خلال تعرّضهم لإطلاق النار من هؤلاء؟ ألم تقنعك أعلام الثورة الخضراء أنها خيار شعبٍ، لم يرفع علماً أسود واحداً، طوال نيّف وشهر، على الرغم مما شاع، في العالم بأسره وخلال أعوام عديدة، عن تحوّل ثورة الحرية إلى المذهبية والطائفية والأصولية والإرهاب؟
أعتقد أن رجلاً له خبرتك ودرايتك يعرف معنى هذا، ويدرك أنه جانب الصواب، عندما ادّعى أنه دخل سورية لمحاربة التكفيريين، وأن من قتلهم حزب الله يختلفون عمّن تظاهروا ضد التكفير، وفي سبيل حرية شعب سورية الواحد، أي العلويين والمسيحيين والدروز والسنة والشيعة باللغة الدينية، والعرب والكرد والتركمان والشركس والأرمن والآشوريين والسريان والشيشان باللغة القومية، فهل بعد هذا تدّعي محاربة التكفيريين، وأنت تعلم أنك لا تحارب غير خصومهم ورافضيهم من السوريات والسوريين، وأن هؤلاء هم الذين يقاتلون رجالك، وهم الذين يلحقون بهم الخسائر المتزايدة، والمؤلمة، وهم الذين سيهزمونك.
بالمناسبة: ما دمنا قد وصلنا إلى الحديث عن الخسائر. أنت كنت تتحدّث عن حتمية هزيمة جيش إسرائيل في مواجهته مع حزب الله، وتفسر ذلك بعجز جيش نظامي عن هزيمة مقاتلي حرب عصابات منظمين ومصممين على القتال. لا أعتقد أن فارق القوة بين جيش إسرائيل وحزبك أصغر من فارق القوة بين حزبك والجيش السوري الحر، وغيره من قوى المقاومة التي تخوض ضدكم حرب عصابات منظمة، تتسم بأعلى قدر من التصميم.
أنت، سماحة السيد، لا تستطيع خوض حرب عصاباتٍ في سورية، لافتقارك الحاضنة الاجتماعية والمعلومات الاستخبارية وخطوط الإمداد والتموين التي تمر في مناطق صديقة، فكيف ستهزم من يقاتلونك من محاربي العصابات الذين يتفوّقون عليك في العدد، ويعيشون بين أهلهم، ويجمعون معلومات دقيقة عن مقاتليك، ويمتلكون بنية تحتية تموينية وتسليحية متماسكة؟ ألا يفسر تزايد خسائر حزبك أنه دخل نفقاً مظلماً يتخبط فيه، وها هم رجاله يسقطون قتلى، في كل مكانٍ من أرض سورية، ويقعون أسرى تنشر الصحف والتلفازات صورهم، ويتحدّثون بيأسٍ عن أوضاعهم في بلادنا، حيث هم محتلون ومرتزقة غزوا شعباً كان دوماً صديقاً لهم، يعلمون اليوم أنه قد لا يسامحهم بعد انتصار ثورته وانهيار موازين وعلاقات القوى بينه وبينكم.
والآن، ألا يحميهم ويحمي حزبكم قرارٌ تتخذونه على مسؤوليتكم الشخصية، يسحبهم من مكان ٍ لم يكن من الجائز أصلاً ذهابهم إليه. إن قراراً كهذا سيحسب لك، وسيظهرك بمظهرٍ سياسيٍّ واقعي، وقد يبدّل ما يعتقده السوريون اليوم، وهو أنك عميل إيراني تسيّره أحقاد طائفية، كالتي تسيّر الأسد ونظامه، لم يقاتل إسرائيل إلا ليحوز على مكانةٍ معنويةٍ تمكّنه من مقاتلة العرب بحد أدنى من الاعتراض، لكونه بطلاً قومياً، حقق حزبه ما لم يستطع جيشٌ عربي تحقيقه، وكان على حقٍّ في ما فعله ضد إسرائيل، فلا بد أن يكون على حقٍّ أيضاً في معاركه الإيرانية ضد العرب عامة، والسوريين بصورة خاصة؟
أليس انسحابكم بقرارٍ مستقل أفضل لكم من الانسحاب تطبيقاً لقرارٍ إيراني أو روسي، أو بسبب تصاعد القتال إلى حدٍّ يتحدّى قدراتكم التي تتآكل بسرعة، بينما تتأكد قطاعاتٌ أوسع فأوسع من عرب ومسلمي زماننا أنكم مجرد طعام مدافع، يدفع إلى الموت، بدل جنود إيران التي تستخدمكم وحداتٍ احتياطية من جيشها، وتمارس بواسطتكم مهامّ يقوم بها عادةً مرتزقة يقتلون الناس على الهوية، مثلما تفعلون اليوم في بلادنا.
سماحة السيد:
يخامرني شعورٌ قويٌّ بأنك تدرك هذا، وتفكّر، قبل أن تنام، في قرار يخلص أهل الجنوب والبقاع ولبنان من الكارثة التي رميت بهم إليها، والحزب الذي جعله امتثالك لخامنئي عدواً للعرب والمسلمين، بعد أن كان مفخرتهم ومناط أملهم، وجعل شخصاً مثلي يقول، ذات يوم، لأعضاء في الكونغرس الأميركي، انتقدوا حزبك: "نحن ننام باطمئنان في دمشق، لأن حزب الله يحمي حياتنا ويسهر على أمننا". وحين عبّروا عن رغبتهم في بقاء الأسد خشية بقاء سورية من دون جيش بعد الثورة، قال لهم: "سنُدخل حزب الله إلى الجولان كي يحمينا، ريثما نبني جيشاً جديداً. ولعلمكم، نحن نرى في حزب الله أفضل جيش لنا".
في النهاية، عندما جاء اللبنانيون إلي سورية هرباً من عدوان إسرائيل، قدم رجل أعمال من دير الزور إلى دمشق، ومعه أربعة وخمسون باصاً كبيراً لأخذ حصة المدينة من الإخوة اللبنانيين. عند وصول من صار اسمهم "ضيوف الدير" إلى المدينة الفراتية، وجدوا بانتظارهم وليمة مناسف فاخرة. بعد العشاء، سلمت كل عائلة مفتاح بيت جديد، لأن رجل الأعمال كان قد انتهى من بناء عماراتٍ جديدة باع بعضها، واستلم عربون بعضها الآخر. لكنه، وقبل ذهابه إلى دمشق، أعلم من اشتروا بيوتاً، أو دفعوا قسطاً من ثمنها أن "الضيوف" سيسكنون في بيوتهم، فإنْ كانوا يرفضون ذلك اشتراها منهم أو أعاد أقساطها مع شيء من التعويض والربح إليهم. لم يرفض أحد طلب رجل الأعمال، مع أن بعضهم كانوا ينتظرون بيوتهم الجديدة منذ أعوام. هكذا نزل "الضيوف" في مساكن جديدة معزّزين مكرّمين. هذه المدينة، يقال إنك أرسلت مقاتلين لمحاربة التكفيريين فيها. هل تضمن سماحتك أنهم لن يقتلوا تكفيرياً كهذا الرجل؟
سماحة السيد: غادر سورية، لتتوقف عن استهدافٍ مروعٍ لأناسٍ يُفترض أنهم أهلك: الشيعة والسنة والمسيحيون والدروز والآشوريون والسريان والعلويون والإيزيديون... إلخ، الذين لن يسامحوك، في حال واصلت قتل أطفالهم ونسائهم وتدمير وجودهم. أطالبك بهذا، لأنه لن يكون بعيداً، بعد الآن ذلك اليوم الذي لن تنفعك فيه إيران وتكليفات مرشدها الشرعية، لأنك وضعت نفسك في موقع العداء لشعب يهزم اليوم حزبك ومرتزقة إيران والأسد، وجيش بوتين: موقع قلما بلغه أحد قبلك، على امتداد تاريخ سورية والعرب القديم والحديث.
لم يكذب أنصار الرئيس السوري، بشار الأسد، عندما أطلقوا شعارهم الشرّير الشهير، مع انطلاقة الثورة السورية عام 2011: "الأسد أو نحرق البلد". فهم فعلاً حرقوا البلد ودمروها ومزّقوها إرباً، بحيث أصبح ملايين من شعبها نازحين ولاجئين، وقتلوا وجرحوا مئات الآلاف منهم، ودمّروا ودكّوا مدنها وقراها، وأوقعوا فيها من الفظائع ما يعجز المرء عن تصوّره ووصفه، وتركوها نهباً مستباحاً لحركاتٍ وجماعاتٍ مسلحة متطرفة، وأخرى إجرامية، وثالثة انفصالية. دع عنك رهن استقلالها وسيادتها لإيران وروسيا والولايات المتحدة، وكل من هَبَّ وَدَبَّ من دول الإقليم والعالم، ترسل طائراتها وجنودها ومرتزقتها، مستبيحةً أجواءها وأراضيها "السيادية". تم ذلك كله من أجل الحفاظ على الأسد رئيساً، وعلى نظامه حاكماً. ولكن، هل تحقق ذلك فعلا؟
لعلنا لا نضيف جديداً إذا قلنا إن الجواب هو لا كبيرة. نعم، قد يكون بقي الأسد، نظرياً، رئيساً، لسورية، لكنه، عمليا، موظف بمسمى رئيس، وليس حتى موظفاً برتبة رئيس، أما نظامه فقد تداعى إلى حدٍّ جعل أجنحته المهلهلة تدين بالولاء إلى جهاتٍ مختلفةٍ من داعميه. الأدهى أن الأسد اليوم لا يعمل موظفاً بمسمى رئيسٍ لدى جهةٍ واحدة، بل تتنازع خضوعه جهتان، فثمة إيران من ناحية، وروسيا من ناحية ثانية. ثالثة الأثافي، أن تكون عاصمة حزب الله اللبناني، الضاحية الجنوبية، في بيروت، أحد مراكز التحكّم الإيراني في سورية، ونظام الأسد، بل والأسد نفسه، بعد أن كان لبنان كله، وبيروت، بما فيها ضاحيتها الجنوبية، يوما تأتمر، عقوداً، بأمر دمشق وحاكمها. إلى هذا الحد، وصل الهوان بالأسد الذي حرقت سورية من أجل بقائه.
نسجل هذه الملاحظة المريرة المُغَمَّسَةِ بِسُمِّ الإهانة لنا، نحن العرب، بعد أن تابعنا، الأسبوع الماضي، كيف تم استدعاء "الموظف" بشار للمثول أمام وزير الدفاع الروسي، سيرغي شويغو، في دمشق أو قاعدة حميميم الجوية الروسية في محافظة اللاذقية شمال غربي سورية، حيث لا نعرف، على وجه التحديد، أين تمَّ اللقاء، أو الاستدعاء، لنكون أدقّ، وإن زعم النظام أنه تمَّ في دمشق. بغض النظر أين كان الاستدعاء، فإن في الأمر إهانة على أي الوجهين، ذلك أن "رئيس" سورية لم يكن يعرف من سيلتقي في عاصمة دولته أو إحدى مدنها التي ما زالت تخضع بقوة لسيطرته، ورأيناه يجاهر ببلاهة: "أنا سعيد جدا بلقائكم اليوم، إنها مفاجأة سارة".. "ولم أكن أعلم أنكم ستأتون شخصيا"! وكما تمّ في حادثة استدعاء الأسد، العام الماضي، للمثول أمام الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، في موسكو، رأينا الأسد يجلس أمام شويغو في غرفة لا تعكس أي طابع بروتوكولي أو سيادي ينبيك أنك في سورية، حيث جلس الأسد من دون مساعدين أو حرس معه، حتى وزير دفاعه لم يكن حاضراً كما يقتضي البروتوكول. أما عَلَمُ النظام، فغاب هذه المرّة على أرض سورية، كما غاب، العام الماضي، في جلسة المثول أمام بوتين في موسكو.
ولا تقف إهانات الروس لبشار ونظامه، بل حتى لإيران وحزب الله، عند ذلك الحد، فروسيا لا تتردّد أبداً في إعلان تنسيقها مع إسرائيل في خرق مقاتلات الأخيرة الأجواء السيادية السورية، وقصف ما تراه تهديداً لأمنها، وتدمير ما تزعم أنها شحناتٌ تسليحيةٌ لحزب الله. حدث ذلك غير مَرَّة، ولم ينطلق صاروخ واحد من منظومة الدفاع الجوي الروسي "أس400" المتمركزة في قاعدة حميميم. ولم تتردد موسكو في مضاعفة جرعة الإهانة لنظام الأسد، وذلك عندما قامت، قبل أكثر من أسبوعين، بإعادة دبابة إسرائيلية كان الجيش السوري قد غنمها في لبنان عام 1982، وأهدتها سورية إلى الاتحاد السوفييتي السابق. بل إن موسكو وتل أبيب يحضّران لمناورات عسكريةٍ مشتركة في البحر الأبيض المتوسط.
ما سبق، ينضاف، إلى تحييد إيران ونظام الأسد في مفاوضات الهدنة والمحادثات السياسية مع الولايات المتحدة، والتي قد يكون بند إزاحة الأسد على جداولها. بمعنى آخر، ترسل روسيا، رسالة واضحة للأسد وحلفائه من الإيرانيين، وأداتهم اللبنانية، حزب الله، مفادها بأنها ليست شريكاً لهم، وإنما هي صاحبة القول الفصل في سورية وما يتعلق بها. أما إنْ لم يعجبهم ذلك، فإن روسيا قادرة دوماً على تجميد ضرباتها الجوية، لتتكبّد قوات النظام وإيران ومقاتلو حزب الله الخسائر الفادحة، كما جرى، قبل أيام، في الهجوم المضاد لتنظيم الدولة الإسلامية (داعش) في محافظة الرقة.
باختصار، لم يكتف النظام السوري بحرق البلد من أجل الأسد، بل إنه وضع كل سورية تحت وصاية روسية - إيرانية، انتهى فيها من حُرِقَتْ البلد من أجله ليس أكثر من خادمٍ مطيعٍ لا يملك خياراتٍ ولا كرامة ولا استقلالاً، فهو أضعف وأتفه من أن يجلس ندّاً في حضرة الكبار، حتى أمام قادة حزب الله الذين أوكل إليهم، في مناطق كثيرة، قيادة وحدات عسكرية سورية وتوجيهها. أما من تأخذه عزة كرامةٍ من قادة النظام الأمنيين والعسكريين فتتم تصفيته. إلى هذا الحد، هانت سورية، وبعد ذلك يحدثونك عن "المؤامرة الكونية على سورية".. نعم، ثمة "مؤامرة كونية" على سورية، غير أن أبرز متآمر فيها هو الأسد ونظامه، على الأقل بإجرامهم وحماقتهم.
في مقابل البراميل وأصناف الجحيم التي يصبها النظام السوري على المناطق الخارجة عن سيطرته، في مسعى يائسٍ منه لاستعادة كل شبر فقده من سورية، كما صرح رئيس النظام أمام مجلس النظام، فإنه يصبّ على المناطق الخاضعة لسيطرته براميلَ وحمماً من نوعٍ آخر، براميل من الفساد والتشبيح والسلبطة والتضخم والغلاء إلى حد الجوع، وملاحقة الشباب في الشوارع لسوقهم إلى الخدمة العسكرية..إلخ. على هذا، قد تحوّل النظام السوري، اليوم، إلى آلةٍ جهنميةٍ تمتص خيرات "سورية المحكومة" وأرواحها، لكي تحيلها ناراً ودماراً على "سورية المتمردة". والمحصلة أن هذا النظام بات وبالاً على السوريتين. هذا يعني، بداهةً، أنه أصبح عدواً لأوسع الفئات الشعبية في سورية، الخاضع منها للنظام وغير الخاضع له، وبات الخلاص منه مصلحةً مشتركةً للغالبية الساحقة من السوريين. والسؤال هو: ما الذي يمنع هذه المصلحة المشتركة من أن تتجسّد واقعياً في صورة قوة سياسية موحدة؟
في المقابل، أثبتت الفصائل الجهادية صاحبة القوة العسكرية الأساسية في مواجهة النظام، أنها لا تقل سوءاً عنه في إدارة مناطقها، وفي نزوعها السلطوي الذي وصل، غير مرة، إلى قمعٍ مباشرٍ للأهالي، وإلى اقتتالٍ بيني خلّف مئات القتلى. وأثبتت أنها ليست سوى نسخة "إسلامية" عن النظام، من حيث الفساد والتسلط والإقصاء..إلخ. وأن محيطها الاجتماعي يتقبل سوء ممارساتها باعتبارها تواجه النظام الفاحش في بطشه، في صورةٍ معكوسةٍ عن حالة الموالين.
فما الذي يعيق نشوء قوةٍ سياسيةٍ جماهيريةٍ للخلاص من هذين الكابوسين معاً؟
تسيطر، عند الجمهور السوري، تصوراتٌ سياسيةٌ خاطئةٌ عن الصراع الدائر. وهي تصوراتٌ تقوم، في الصف الموالي، على مزيجٍ "إيديولوجي"، يجمع عناصر حديثة إلى أخرى قديمة، يجمع المرجعية الطائفية إلى المرجعية العلمانية اليسارية. يرتسم الصراع في ذهن قطاع من الموالين على أنه مواجهةٌ ضد قوى إسلامية سنية طغيانية تريد تهميش أتباع الأديان والمذاهب الأخرى، وسحقهم، أو ربما إبادتهم. ويرتسم الصراع نفسه في ذهن قطاع آخر من الموالين على أنه ضد قوى إمبريالية، تريد إكمال سيطرتها على المنطقة بضرب النظام "الممانع" كجزء من ضرب محور المقاومة. وعليه، تمكّن هذا المزيج من جمع فئاتٍ شديدة التباين. وبات أعداء الأمس حلفاء اليوم، بفضل هذا المزيج. وفي الواقع، يتعايش هذان التصوران معاً في جبهة واحدة، ويتكاملان في ردف النظام وتصوير القوى المناهضة له على أنها قوى طائفية أو عميلة، تستمد الدعم من أميركا والسعودية ودول الخليج.
تشكلت، إذن، في ذهن الجمهور الموالي قضية، ويحتل النظام موقع الطليعة في الدفاع عن هذه القضية التي تتطلب تضحياتٍ، وما الخسائر في الأرواح وجور النظام وتدنّي مستوى المعيشة إلى حدود الجوع..الخ، سوى من مفردات هذه الضريبة التي يجري قبولها، على قسوتها، لأنها تأتي في سياق دفع بلاءٍ أشدّ وأقسى.
هكذا يتصوّر الموالون ما يجري في سورية، أو لنقل إنهم يعون أنفسهم وموقعهم في هذا الصراع على هذا النحو، غير أن انعكاس هذا التصور الموالي في وعي الجمهور المقابل ليس مطابقاً لذاته. هنا، يبدو الكلام عن الإمبريالية والمقاومة، وما إلى ذلك، مجرد تغطيةٍ على نزعةٍ طائفية. ويبدو الخوف من مصير سيئ يتهدّد أبناء المذاهب غير السنية مجرد تغطيةٍ للدفاع عن امتيازات حالية. ويحاجج هؤلاء بالقول: من يحق له أن يخاف هم أهالي المناطق التي يستبيحها النظام بأسلحته الثقيلة، وليس مناطق النظام التي لم تتعرّض بعد كل شيء لجزءٍ يسير مما تتعرّض له المناطق الخارجة عن سيطرته.
لدى جمهور الثورة، جرى انزياحٌ مهم في الوعي، له أسبابه المفهومة، لكنه خطير ومضاد للثورة. محصلة هذا الانزياح أن الصراع بات يُفهم على أنه صراع هويات، صراع غير سياسي. تراجع، مثلاً، التوصيف الاستبدادي للنظام، ليطغى عليه التوصيف الطائفي، وبات التحليل الطائفي دارجاً، واختفى البعد السياسي الحقيقي للصراع. المأزق الذي وصل إليه الصراع يتمثل في أن المصلحة المشتركة للسوريين في الخلاص من النظام والجهاديين معاً تفشل في شق طريقها إلى مستوى الوعي السوري العام. الجمهور السوري صاحب المصلحة المشتركة يحمل وعياً منقسماً ومتعادياً. مصلحة مشتركة ووعي غير مشترك.
لا يمكن لسورية الخروج من هذه الحلقة الشريرة، إلا عبر ممرٍّ واحدٍ، يقع بين النظام والجهاديين، وهذا الممر الذي يحاول النظام والجهاديون معاً تضييقه وإغلاقه، هو الممر العلماني الديمقراطي. لا تفتقد سورية لقوى علمانية ديمقراطية، طرحت على الدوام مقترحاتٍ وتصوراتٍ وبرامج للخروج بسورية من محنتها، لكن لغة السلاح ومصالح الداعمين طغت. تفاقمت المشكلة مع التحاق غالبية أصحاب هذه الأفكار بمسار النظام أو الجهاديين. في حين على الديمقراطيين والعلمانيين واليساريين عموماً، أن يضمنوا استمرار وجود الممرّ الديمقراطي العلماني، وأن لا "يؤجلوه" بزعم أو تكتيك فاشل يحكي بالشر الأهون. لا يوجد شر أهون في سورية. سورية اليوم تصارع الموت بين فكّين، ولا معنى للمفاضلة بين أداتي القتل هاتين، أو الرهان على غلبة أحدهما.
المطلوب من الديمقراطيين أن يحافظوا على استقلاليتهم، وأن لا يسمحوا بأي اشتباهٍ لمفاضلةٍ بين النظام والجهاديين. ليس فقط لأن للجهاديين، كما للنظام، منطق استبدادي واحد، بل أيضاً وبلغة سياسية مباشرة، لأن المجتمع الدولي، وأميركا بالتحديد، لن تسمح بسيطرةٍ "جهاديةٍ" في سورية، وربما مالت إلى إعادة تأهيل النظام، فيما لو باتت أمام هذين الخيارين، والدليل الجديد رفض الرئيس باراك أوباما المذكّرة التي تقدم بها أكثر من خمسين من رجال الصف الثاني في الخارجية الأميركية الذين لهم علاقة بالشأن السوري، والتي تطالب بموقف أميركي عسكري أكثر حزماً تجاه نظام الأسد، شرطاً للخلاص من "داعش".
خروج الديمقراطيين، أولاً ونهائياً، من إسار هذا الاستقطاب هو بداية تشكيل قطبٍ ديمقراطي مستقل، يكون العنصر الذاتي المكمل للعنصر الموضوعي الذي تحدّثنا عنه في البداية، وهو المصلحة المشتركة لغالبية السوريين في الخلاص من النظام والجهاديين معاً.
في وقت تسعى روسيا الى امتصاص الضغوط الأميركية المتزايدة عليها، في الملف السوري خصوصاً، جاء قرار دمشق وطهران بتصعيد العمليات العسكرية في حلب وجوارها ليتناقض مع أولويات موسكو، وكان لا بد من تذكير نظام بشار الأسد والميليشيات الإيرانية بضرورة التزام قائمة أولويات موسكو التي عبرت عنها بوضوح في اجتماع طهران الثلاثي، ويتصدرها اتفاقها مع واشنطن على «مرحلة انتقالية» تناقش في جنيف وتشكيل «حكومة مختلطة» بين النظام والمعارضة.
وكانت واشنطن سربت خبراً عن حادثة وقعت قبل أيام وكادت تؤدي إلى مواجهة بين طائرات أميركية وروسية في الأجواء السورية، وأعقب ذلك تسريبها معلومات عن رسالة وقعها أكثر من خمسين ديبلوماسياً أميركياً وأبدى وزير الخارجية جون كيري شبه تأييد لها، تدعو إلى توجيه ضربات جوية وصاروخية لنظام بشار الأسد بسبب استمرار خرقه وقف إطلاق النار واستبعاده أي تسوية تخرج عن شروطه.
وتزامن ذلك مع قرار حلف شمال الأطلسي نشر أربع وحدات عسكرية في أوروبا لمواجهة عدوانية موسكو تجاه حلفائها السابقين في حلف وارسو، وقرار الاتحاد الأوروبي أول من أمس تمديد العقوبات المفروضة على روسيا بسبب الأزمة الأوكرانية، على رغم أصوات طالبت بتخفيفها تدريجاً.
وكانت أوساط النظام السوري والميليشيات الإيرانية التي تقاتل إلى جانبه بررت هزائم أخيرة منيت بها قواتها في منطقة حلب وغوطة دمشق بانعدام الغطاء الجوي الروسي، وأيضاً السوري، بعدما وضعت القوات الجوية النظامية بإمرة الروس العملانية كشرط مسبق لتدخل موسكو.
وتكرر الأمر في محافظة الرقة الخاضعة لتنظيم «داعش»، والتي دخلتها القوات النظامية ثم انسحبت منها تحت ضغط هجوم مضاد لم يواجه بمساندة جوية.
وسبق لكيري أن أشار بعد بدء معركة حلب إلى «نفاد صبر» بلاده من الانتقائية التي تمارسها دمشق وموسكو في تطبيق وقف إطلاق النار.
ويبدو أن الروس استاؤوا من عدم التزام الجيش السوري والميليشيات الإيرانية الهدنة التي أعلنتها موسكو في حلب لمدة 48 ساعة بعد الاحتجاج الأميركي وتعرض قوات تدعمها واشنطن لقصف جوي، فأرسلوا وزير دفاعهم إلى قاعدة حميميم واستدعوا الأسد إلى لقائه لتذكيره بأنه لا مجال للمناورة عندما يتعلق الأمر بالتزامات موسكو الدولية التي تتخطى بكثير الحسابات المحلية، لا سيما بعد حملة إعلامية متذمرة قادها الإيرانيون عن «تخلّ» روسي متعمد.
فروسيا التي تتصرف باعتبارها «ندّاً» للولايات المتحدة في الملفات الدولية، وبينها سورية، لا تستطيع القبول بعجزها عن فرض هدنة ليومين على نظام تعتبر أن مصيره بيدها.
وسبق للروس أن وجهوا رسائل «إخضاع» مماثلة إلى الأسد، سواء عبر تصريحات تستنكر مواقف متصلبة أبداها، وتتناقض مع اتفاقهم مع الأميركيين على الحلحلة، أو عبر قرارات اتخذوها بخصوص انتشار قواتهم في سورية من دون العودة إلى دمشق. وهم في كل حال ينطلقون من رؤية أشمل لمصالحهم في المنطقة وموقعها في مجمل استراتيجيتهم الدولية.
ومن الواضح أن حاكم دمشق يعاني من اضطراره إلى التوفيق بين متطلبات حليفيه الروسي والإيراني التي قد تصل أحياناً حد التناقض، نتيجة الحسابات الخاصة لكل منهما، لأنه قد يسرع سقوط نظامه إذا تخلى عن دعم أحدهما. فعندما تصعّد طهران يستجيب لها بتصريحات نارية، وعندما تضغط موسكو يذعن ويتراجع ويلتزم. لكن الكلمة الأخيرة تبقى للروس، مثلما هو واضح، لأن «الحرس الثوري» و «حزب الله» وسائر الميليشيات الإيرانية، لم يثبتوا قدرتهم على إحداث فارق نوعي في سير القتال، ولم يستطع الجيش النظامي أن يتحدث عن تحسن في أوضاع قواته المتناثرة إلا بعد تدخل موسكو.
صرخة اخلاقية من القلب اطلقها 51 مسؤولاً وديبلوماسياً أميركياً من المعنيين بالحرب في سوريا اعتراضاً على سياسة حكومتهم التي أخفقت، بعد خمس سنوات من الاقتتال المروع، في المساهمة في اخراج سوريا من محنتها التاريخية. لكنها أيضاً صرخة مبنية على تحليل واقعي للاوضاع العسكرية السائدة في سوريا، تضمنت توصيات عسكرية عملية ومبنية على الاستخدام المحدود للقوة العسكرية لارغام نظام الاسد على التفاوض بجدية، " لان اعتماد موقف عسكري أوضح بقيادة أميركية سوف يعزز المبادرة الديبلوماسية".
ما فعله الديبلوماسيون، ومعظمهم من الشباب من ذوي المناصب الوسطى والأولى، هو جزء من تقليد ديبلوماسي يعود الى حرب فيتنام ويقضي بالسماح للموظفين والديبلوماسيين في وزارة الخارجية بكتابة "مذكرات معارضة" لسياسة حكومتهم، ونشرها داخلياً، من غير ان يتعرضوا لاي محاسبة. وخلال حرب فيتنام وحروب البلقان في تسعينات القرن الماضي استقال عدد من موظفي وديبلوماسيي وزارة الخارجية احتجاجاً على سياسات حكوماتهم. المفارقة هي ان من يكتب هذه المذكرات ومن يستقيلون من مناصبهم كخطوة احتجاجية هم عادة من الموظفين ذوي المرتبة الوسطى وما دون. وآخر مسؤول بارز استقال احتجاجاً على قضية مبدئية كان وزير الخارجية سابقاً سايروس فانس الذي ارتأى الاستقالة لمعارضته لقرار الرئيس كارتر انقاذ الرهائن الاميركيين المحتجزين في مقر السفارة الاميركية السابق في طهران.
وكما كان متوقعاً، رفضت الحكومة الاميركية هذه التوصيات، بما فيها الاستخدام المحدود للقوة لارغام الاسد على التفاوض وفق مقررات مؤتمر جنيف. وقال الناطق باسم الخارجية جون كيربي: "ليست هناك أي جهود لاستهداف بشار الاسد. هذا ليس جزءاً من حساباتنا. وكل الخيارات المطروحة (في المذكرة) ليست أفضل من السياسة الراهنة".
هذه المذكرة تعتبر ادانة لسياسة مفلسة ومضللة آتية من مسؤولين شرفاء رأوا الفظائع الشريرة في سوريا وحاولوا وقفها.
وقد قوضت ادعاء ادارة أوباما ان الذين يطالبون باستخدام القوة ضد الاسد (الذي تحمله المذكرة المسؤولية الاساسية عن المأساة السورية) هم المتطرفون الذين يعتقدون ان القوة العسكرية وحدها قادرة على حل مثل هذه الازمات، أو المحافظون الجدد الذين دعوا الى غزو العراق. ومجرد ان يوقع 51 مسؤولاً أميركياً مثل هذه الادانة الاخلاقية لسياسة بلادهم حيال سوريا، وهم المطلعون على كل تعقيدات الوضع وعلى الوعود والتهديدات غير الجدية التي قطعها أوباما منذ بداية الحرب، فهذا أمر محرج للغاية لرئيس يدّعي انه يعرف أكثر من أي مسؤول اميركي آخر قدم له المشورة في موضوع سوريا. الوزير كيري، الذي يتعاطف مع بعض طروحات المحتجين، اجتمع بممثلين لهم، لكنه قطعاً لن يستقيل.
لم يتكلف وزير الدفاع الروسي سيرغي شايغو عناء الانتقال إلى العاصمة السورية دمشق للقاء رأس النظام البعثي، فمشهد استدعاء الأسد إلى حميميم من قبل الرجل الأقوى في إدارة الكرملين، يكشف عن حجم الاستخفاف الروسي بموقع الأسد، ويشكل إهانة علنية ومقصودة لما تبقى من سيادة يدعيها النظام، فيما يؤكد التسريب المتعمد لتسجيل لحظة اللقاء بين الرجلين أن الأسد الذي تفاجأ بمثوله وحيدا أمام شايغو، قد تم جلبه من مكتبه في قصر المهاجرين دون معرفته مسبقا بمن سيلتقي، وأنه كان يتوقع وصول مسؤول عسكري روسي، على الأرجح رئيس هيئة الأركان العامة للجيش الجنرال فاليري غيراسيموف!
فقد كانت رغبة الأسد الاجتماع بشخصية عسكرية روسية رفيعة في هذه المرحلة، من أجل استثمارها في تعزيز موقفه المصر على استكمال الأعمال العسكرية في كل المناطق السورية، والضغط على موسكو للتراجع عن التزامها في اتفاقية الهدنة والمصالحة التي وقعتها مع واشنطن. فعلى ما يبدو، بات تطبيق اتفاقية الهدنة حجر العثرة أمام طهران في المعركة الحاسمة التي تخوضها في مدينة حلب وريفها
الشمالي، وكذلك الجنوبي، حيث تسعى إلى تسديد ضربة قاسمة للمعارضة السورية، وإضعاف موقف الدول الإقليمية الداعمة لها. وتطورات حلب الميدانية في الأسبوع الأخير، تشير إلى تمكن المعارضة السورية المسلحة من إنزال خسائر فادحة في صفوف الميليشيات الإيرانية، حيث اعترف حزب الله حتى الآن بسقوط 34 من مقاتليه، إضافة إلى عدد كبير من الجرحى، وخسارته لكثير من المواقع التي كان قد سيطر عليها سابقا بفضل الغطاء الجوي الروسي. فقرار موسكو المريب في عدم التدخل في معركة «خان طومان» والمناطق المجاورة لها، أدى إلى انتكاسة عسكرية لطهران في الشمال السوري، مما يعزز الاعتقاد بفشل الاجتماع الثلاثي الذي جرى في طهران بداية الشهر الحالي، والذي جمع وزراء دفاع إيران وروسيا والنظام السوري، حيث كان من المتوقع أن توافق موسكو على تأمين غطاء جوي لعمليات عسكرية أوسع، سيخوضها الأسد والميليشيات الإيرانية، تسمح بتحقيق انتصارات فعلية تحصن موقف النظام وداعميه في مواجهة الضغوط الدولية المطالبة بالبدء بعملية الانتقال السياسي.
وعليه، فقد فشلت طهران في إثبات قدرتها على تحقيق إنجاز ميداني، من دون الحاجة للطيران الروسي، يمكنها من تحقيق توازن سياسي على طاولة المفاوضات إلى جانب الروس، خصوصا بعد شكوكها القوية بنيات الكرملين المبيتة تجاه مصير الأسد وشكل نظامه، التي من الممكن الاتفاق عليها مع واشنطن في المستقبل. يضاف إليها قلق إيران من محاولات موسكو إعادة ترميم ما تبقى من ميليشيات الأسد، وتحويلها إلى جيش نظامي يقوم بتغطية المساحات التي يتم السيطرة عليها بغطاء من الطيران الروسي، وهي خطوة على الأرجح تهدف إلى تقليص حضور طهران الميداني، الذي ترغب موسكو في تحجيمه وتحديد أماكن انتشاره، مع إمكانية الاستغناء عنه في الجبهات التي تسري فيها الهدنة، حيث لا تعود الحاجة إلى وجوده بشكل كثيف وكبير، فموسكو الممسكة كاملا بالورقة السورية، التي تتصرف كدولة انتداب، تعلم جيدا أنه لولا تدخلها منذ نحو السنة، لما استطاعت الميليشيات الإيرانية الصمود بوجه تقدم المعارضة الحاسم حينها، ولذلك تتعامل مع من يصفون أنفسهم بحلفائها في سوريا بكثير من الاستخفاف، فالتباين في المواقف والتضارب في المصالح بين موسكو وطهران في سوريا لم يعد من الممكن إخفاؤه، خصوصا بعد أن لوحت صحيفة «كومسولسكايا برافدا» عن إمكانية التعديل في موقف الكرملين إزاء سوريا بعد زيارة وزير الدفاع الغامضة.
لم يعد باستطاعة موسكو التحكم طويلا في عامل الوقت، فباراك أوباما المشلول حاليا أصبح مقيدا بقياس مصلحة مرشح حزبه في الانتخابات الرئاسية، لذلك لم يعد قادرا على إنجاز التسوية، في الوقت الذي وضع أكثر من 50 دبلوماسيا أميركيا مذكرة على طاولة البيت الأبيض يطالبون فيها باستخدام حكيم للقوة، بما فيها الضربات الجوية ضد نظام الأسد، بصورة تؤدي إلى دعم العملية السياسية، وانخراط أكبر للولايات المتحدة فيها، وهي أول إشارة عن التبدل المتوقع في مواقف واشنطن بعد باراك أوباما، فالمجتمع الدولي الذي يعرف حجم النفوذ الروسي في سوريا، والذي عبر عنه سابقا رئيس وزراء بريطانيا الذي قال إن بوتين يستطيع إنهاء الأزمة السورية باتصال واحد، وكأنه يعبر عن قناعة لدى الجميع بأن الطائرة التي نقلت الأسد مخفورا للقاء سريغي شايغو، هي نفسها تستطيع نقله إلى جهة مجهولة، أو إلى خارج سوريا، لو أراد سيد الكرملين.
نحو 30 مقاتلا من حزب الله قتلوا وأكثر من العشرات من الجرحى سقطوا في محيط مدينة حلب خلال أقل من أسبوع. المرصد السوري لحقوق الإنسان أعلن أن المعارك العنيفة في بلدة خلصة بريف حلب أسفرت عن أكبر خسـارة بشريـة في صفوف حزب الله منذ معارك القصير عام 2013. وأفاد المرصد بمقتـل 86 مقاتلا من المسلحين الموالين للجيش السـوري من جنسيات سورية وعربية وآسيوية في البلدة التي تدور فيها المعارك منذ مطلع الأسبوع الماضي.
حزب الله الذي يصر على استمرار القتال في سوريا يبدو أنه في وضع لا يحسد عليه، فضلا عن أنّ قرار خروجه أو بقائه هو رهن أوامر الولي الفقيه أو القائد الأعلى لحزب الله المرشد الإيراني السيد علي خامنئي، حزب الله لن يخرج من سوريا ولن يستطيع الخروج إلا بالقوة، فحزب الله يدرك أنه سيُلاحق من قبل أعدائه من السوريين (الإسلاميون وغير الإسلاميين) إلى داخل لبنان، وبالتالي هو أمام مأزق وجودي. إذ ليس من خيار أمامه سوى الاستمرار في القتال. لكن ما يفاقم الأزمة إلى حدّ المهزلة، أن يتحول حزب الله إلى ملاحق من حلفائه أيضا. فهو حين يسقط له مسؤول برتبة قائد حملة غزو سوريا مصطفى بدرالدين في مناطق نفوذ النظام السوري، بل في قلب قواعد النظام العسكرية قرب محمية مطار دمشق، فذلك يدل على أنّ عملية اصطياد مقاتلي الحزب ستستمر من دون أن يستطيع حزب الله اتهام أحد.
نظرية تدخل حزب الله في سوريا بعد شعار “لن تسبى زينب مرتين”، تقوم على أنه دخل ليواجه المشروع الصهيوني الأميركي التكفيري.. الخ، من خلال منع إسقاط بشار الأسد؟ المفارقة أن إسرائيل أو الصهيونية هذه المرة تدخل من باب روسيا أي من باب الممانعة. تدخل عن طريق حليف الأسد وإيران، هذه المرة إسرائيل في سوريا برعاية الممانعة ومقاوماتها أو مقاولاتها. الحليف الأقرب إلى روسيا في المنطقة هي إسرائيل، هكذا وصف الرئيس الروسي علاقة روسيا وإسرائيل. وهو موقف يأتي استكمالا للدبابة الإسرائيلية التي قدمها بوتين هدية لإسرائيل وهي التي غنمها الجيش السوري عام 1982 من الجيش الإسرائيلي خلال غزوه لبنان.
كل هذه الحقائق والوقائع تدفع بإسرائيل إلى المزيد من الطمأنينة. فهي الدولة التي تحظى بعلاقة تحالف راسخة مع الولايات المتحدة الأميركية، وتبني اليوم تحالفا مع روسيا لم يحظَ به نظام بشار الأسد. وتستند إلى عداء لفظي مع إيران فيما الحرس الثوري الإيراني يتكفل باستكمال تفكيك دولتيْ العراق وسوريا بعد لبنان. وبالتالي فسياسة تقاسم النفوذ ستبقى هي الأساس علما أنّ إسرائيل ضمنت، في التحالف مع روسيا، حصانة الممانعة بعد حصانة الإمبريالية الأميركية. وهذا يؤهلها، خلال المرحلة المقبلة، لأن تشكل قناة تواصل وحاجة لأكثر من طرف. فهي في سوريا لن تفرط بنظام الأسد، وفي لبنان يكفل التحالف الإسرائيلي مع روسيا ضمان تنظير قوى الممانعة في المرحلة المقبلة لأهمية الحلف الروسي – الإسرائيلي، ودور هذا الحلف في نهوض الأمّة السورية أو الإسلامية، وبناء قدرات “المقاومة”.
الورطة السورية لحزب الله لم تعد مسألة خلافية بل إن التغييرات الديموغرافية التي يعمل حزب الله على إحداثها وتثبيتها على طول مناطق القلمون السورية تلك المحاذية للحدود اللبنانية، بالإضافة إلى تعزيز حضوره المذهبي في محيط دمشق، تؤشر على أن حزب الله بات مقتنعا بأن العيش مع السوريين لن يكون طبيعيا، بل يتطلب إحداث تغييرات ديموغرافية تحد من المخاطر عليه بعدما أوغل في الدماء السورية ليس في محيط المقامات الدينية بل وصلت “إبداعاته” إلى مدينة حلب.
وكان ريف حلب شهد قبل معارك بلدة خلصة اشتباكات بين عناصر حزب الله والجيش السوري توسعت لتشمل أكثر من نقطة، كان أعنفها في منطقة حاضر في ريف حلب الجنوبي. وانتقلت المواجهات إلى منطقة نبل والزهراء في ريف حلب الشمالي.
كما أن حزب الله فقد الاتصال بمجموعة من مقاتليه تضم سبعة على الأقل في محيط بلدة خلصة، ويعتقد أنها وقعت في كمين نصبته المعارضة السورية المسلحة. مصادر متابعة لهذا الملف أكدت لـ“العرب” أنّ هذه الجثث لم يستلمها حزب الله وهي لدى جبهة النصرة، وأنّه ما من اتصالات وما من مفاوضات بهذا الشأن.
والجدير ذكره أنّ جبهة النصرة مازالت تحتفظ بثلاثة أسرى لحزب الله أسروا مطلع العام الحالي، ليصبح بذلك مجموع عدد أسرى الحزب خمسة لدى الجبهة هم محمد مهدي شعيب، حسن نزيه طه، موسى كوراني، محمد ياسين، يضاف إليهم الأسير الأخير والذي ترددت معلومات أنّه أحمد مزهر، إضافة إلى عدد غير محدد من الجثث لدى الطرفين.
الاستنزاف هو الخيار الأقوى في الحساب الروسي والإسرائيلي في سوريا، فيما حزب الله يطمح لأن يوفر بقوته العسكرية حاجة إقليمية ودولية له، عنوانها حماية الأقليات، وهذه الشرعية نجح حزب الله إلى حدّ بعيد في جذب بعض الكنائس المسيحية في سوريا ولبنان إليه باعتباره يشكل حماية وحصنا تحتاجه، فيما شكل نفوذه على الحدود الشمالية لإسرائيل وكفاءته في حماية الاستقرار على طرفيْ الحدود مصدر حاجة دولية وإسرائيلية.
باب الشراكة الإيرانية الإسرائيلية الروسية انفتح، وكل المؤشرات تدل على أن مساحات التلاقي بين هذا الثلاثي قوية لا سيما في الساحة السورية من خلال التقاطع على ثابتة بقاء الأسد، والتلاقي على محاربة الإرهاب والتكفير، والأمر الثالث حماية الاستقرار على الحدود الإسرائيلية السورية واللبنانية.
ليست إسرائيل دولة لسكانها، هي دولة الصهاينة أولاً، ومن يتفق مع هؤلاء يمكن أن يظل في إسرائيل من عرب ويهود وآخرين. ولكن، لن يكون له الحقوق نفسها. ثانياً، إسرائيل دولة استعمارية، وقلعة متقدّمة للإمبرياليات في مراقبة المنطقة بأكملها. إسرائيل هذه محتلة أراضي سورية ثالثاً، وهي عدو للسوريين. دولة بكل هذه المواصفات لا يمكن أن تكون داعمةً للثورات الشعبية، هي داعمة للأنظمة الرافضة تلك الثورات. ومن هنا، رفضها الثورة المصرية وتخوفها من الثورات العربية المعادية لها.
تخوّفت إسرائيل من الثورة السورية كثيراً، لكنها، في الوقت نفسه، تريد أن ترى انفكاكاً في العلاقة بين النظام السوري وإيران وحزب الله، وإضعافاً مستمراً لها. من جهةٍ، اعلن النظام، بوضوح شديد، أنه هو حامي حدودها من جهة الجولان المحتل. وبالتالي، عليها أن تدعمه، وتساهم في تخفيف الضغوط الدولية عليه. وذهب رامي مخلوف إلى أكثر من ذلك بأن النظام السوري هو من أمن الاستقرار الدائم، وقتل كل من حاول الاقتراب من حدودها وقمعه. بهذا، يستجدي النظام موقفاً منها مناهضاً للثورة، وداعماً له.
ذهب إلى إسرائيل، قبل عصام زيتون الذي يدّعي تمثيل الجيش الحر، المعارض كمال اللبواني، وربما آخرون لم يعلن عن زياراتهم، هم يعتبرون أنهم، بذلك، يسعون إلى إيصال صوت الثورة إلى العالم، وتأمين الدعم لإسقاط النظام. ولكن، كما كانت نتائج كمال صفراً في الهواء، ستكون نتائج زيارة عصام ومن يشبهه؛ فإسرائيل عدوٌ للسوريين، ولا يمكن أن يساعد العدو في إنجاح ثورةٍ ستطرح حالما تنتصر قضية استرجاع الأراضي المحتلة لها. وهناك من أعلنوا موقفاً منها مُسبقاً قائلين: من أجل تحرير فلسطين، يجب إسقاط النظام السوري. إذاً هناك غباء سياسي كبير تعاني منه شخصياتٌ معارضة. وبدلاً من أن تواجه مشكلاتها، تغرق في مشكلاتٍ إضافية.
المعارضة المكرسة، ولا سيما المجلس الوطني وائتلاف قوى المعارضة، ولغايات براغماتية وانتهازية، رفضت إعلان موقف صارم من إسرائيل، حيث توهمت أن إسرائيل دولة كما كل دول المنطقة. وبالتالي، يجب ألا يُتخَذ موقفٌ مناهضٌ لها، بل الاتفاق معها بخصوص الجولان وسواها من القضايا. وبالتالي، تُرك الباب مفتوحاً أمام بعض المعارضين، ليتخذوا الموقف الذي يرونه مناسباً. براغماتية المعارضة أغبى من أن تحقق هدفاً ما؛ ففي موضوع إسرائيل، أو الموقف من الدول الإقليمية، أو الإمبريالية، كان يجب تحديدها بدقة، فإسرائيل دولة محتلة، والموقف منها متعلق باسترجاع الجولان، وبإنهاء ملف المفاوضات مع منظمة التحرير الفلسطينية. وبما يخص دول العالم أيضاً، لم تتشكل مؤسسات معارضة منضبطة للتعامل معه، وتخضع لمراقبةٍ قانونيةٍ من رجالات القضاء المنتمين للثورة. وبالتالي، تعدّدت العلاقات وخضعت، بأغلبيتها، للتبعية للخارج، والأخير تحكّم فيها تحكماً كلياً، ومارس سياسة التقريب والاستبعاد، وفقاً لحساباته السياسية وبما يخدم مصالحه في سورية وفي العالم. تبنت المعارضة رؤيةً تبسيطيةً هزيلة للثورة، وأنها ستنتصر سريعاً، وأن الأمر مرتبط بالدعم الخارجي؛ وحتى حينما تعقّد الأمر، بقيت الرؤية نفسها.
الآن، دخلت إسرائيل في حلف رسمي مع روسيا، وسُمح لها بضرب الهدف الذي تريد، والتصرّف كما تشاء. لروسيا أهدافها في ذلك، وهي دعمها دولياً، ولا سيما من خلال اللوبي الصهيوني في أميركا، ولإسرائيل مصلحةُ في تحقيق مسائل عديدة، تابعها العالم من زيارات نتنياهو المستمرة لروسيا، وهناك مصالح تجارية واسعة ترفض دول أوروبية كثيرة إقامتها. روسيا موجودة في سورية باتفاقيةٍ مذلةٍ مع النظام السوري، وأن يكون التنسيق قوياً مع إسرائيل، فإن هذا يعني أن إسرائيل ليست ضد النظام، لكنها بالتأكيد ضد الثورة. يوضح ذلك ما تفعله الهمجية الروسية تدميراً للمدن، وقتلاً للبشر البسطاء، وليس للفصائل المقاتلة فقط في سورية، وقبالة ذلك صمت إسرائيلي ودولي. إذاً إسرائيل ضد إيران وحزب الله، لكنها تنسق مع روسيا، من أجل إطالة عمر النظام وإضعافه بشكل مستمر. العلاقات القوية بين روسيا وإسرائيل بسبب الدخول الاحتلالي لروسيا في سورية، وباعتبارها أصبحت لاعباً أساسياً في كل المنطقة، وهذا ما يجب قراءته جيداً من المعارضة السورية، فروسيا تحاول أن تملأ فراغاً يُحدثه الانسحاب الأميركي الجزئي، وبالتنسيق مع الأميركان، وبالضد من مصالح الثورة السورية، وكل الثورات العربية أيضاً.
تستغل إسرائيل همجية روسيا والنظام والدول الإمبريالية التي تركت السوريين عراةً، فهناك الحصار الكامل الذي يفرضه النظام، وتدمير المشافي، وعدم وجود الموارد والمال، وضعف الدعم الإقليمي، وكذلك عدم وجود رؤية وتنظيم دقيق لكل نشاطات المعارضة، وتأمين احتياجات السوريين الثائرين، وهذا لم يتغير طوال خمس سنوات. وبالتالي، تستغل إسرائيل تلك الحاجات، فمرّة تستدعي معارضين بائسين للتنسيق معهم، ومرّة تسمح بدخول بعض من اقترب من الموت مشافيها، ومرة تسقط إغاثةً لمناطق الجولان المحاصرة من النظام. تفعل ذلك للعب على مشاعر السوريين، مستغلة حالتهم، لكنها بالتأكيد تنسق مع روسيا في كيفية إدارة الوضع السوري، وبما يضعف النظام والمعارضة والثورة. تريد بلداً مدمراً ومفككاً، وهذا ما يقوم به النظام، وتحوّل بعض شخصيات المعارضة إلى عملاء لها لا يضيرها أبداً.
تراجع مكون الثورة السورية المدني والوطني، وتقدّم المكون السلفي، ووجدت لتخريبها التنظيمات الجهادية، وكان الخيار العسكري والأمني للنظام ضدها سبباً في مآلات الوضع إلى ما وصلت إليه سورية من قواعد عسكرية ممتدة، وحامية للكرد من ناحية وللنظام من ناحية ثانية. إذاً، لا يمكن، مع استمرار الفوضى في الموقف من العالم أن تحقّق الثورة شيئاً؛ تحرز الكثير، حينما توثق صلاتها مع شعوب العالم الحر ونقاباته واتحاد طلبته، والتنظيمات اليسارية والوطنية عالمياً، وحين تتبنّى رؤيةً وبرنامجاً وطنياً، ويستند إلى قيم الثورة الأساسية في الحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية، ورفض كل رؤيةٍ تقلل من شأن هذه القضايا، ولا سيما الرؤيتين، السلفية والقومية الشوفينية، والانفتاح على إسرائيل أو على العالم، من دون اشتراط القطيعة مع النظام والمساهمة في تحقيق ما ذكرنا من قضايا.
إلى عصام زيتون وكمال اللبواني وآخرين: لن ينسى السوريون أنكم خنتم الثورة الشعبية، وستُعاملون كعملاء للاحتلال الصهيوني لفلسطين، ولمناطق كثيرة من الدول العربية؛ أنتم، كما النظام، تبيعون سورية وتضحيات السوريين.
جاءت اجتماعات الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة السورية وهيئة التنسيق للتغيير الديمقراطي، في بروكسل، في وقتٍ تشهد فيه المناطق الخارجة عن سيطرة النظام تصعيداً عسكرياً كبيراً من النظام وحلفائه الروس والإيرانيين، إضافة إلى انسدادٍ في المسار السياسي، بعد أن أفشل النظام والروس الجولة الثالثة من مفاوضات جنيف 3، ما أجبر الهيئة العليا للتفاوض على تأجيل مشاركتها في عملية التفاوض، إلى حين توفير بيئةٍ مناسبة لها، بما يعني فك الحصار وإيصال المساعدات الإنسانية والطبية إلى المناطق المحاصرة، وإطلاق سراح المعتقلين وإقرار النظام وحلفائه بأن الانتقال السياسي في سورية يبدأ بتشكيل هيئة حكم انتقالية كاملة الصلاحيات.
وإذا كان مبرّر الاجتماعات التي تعد الرابعة في سلسلة اجتماعات بين الطرفين، هو "توحيد موقف المعارضة ورؤيتها للتطورات في سورية وآفاق الحل السياسي"، فإن التساؤل عن جدوى هذه الاجتماعات وغايتها، أي أنه، وبعد أكثر خمس سنوات من انطلاق الثورة السورية، وتحوّلها إلى حربٍ طاحنة، بدأها النظام الأسدي ضد الثورة وحاضنتها الاجتماعية، ما يزال كل من "الائتلاف" و"الهيئة" يحاولان إيجاد ممكنات توحيد موقفهما من الثورة، ورؤيتهما للتطورات الحاصلة في سورية.
ولعل الجديد الذي تمخضت عنه اجتماعات بروكسل هو دعوة الاتحاد الأوروبي إلى "تطوير دوره في دعم الحلِّ السياسي وإنجاحه، والمشاركة الفعالة في رعاية العملية التفاوضية"، مع أن القاصي والداني يدرك تماماً تبعية دور الاتحاد الأوروبي للدور الأميركي، المرهون بحسابات الرئيس باراك أوباما وإدارته من المسألة السورية برمتها، وأن لا حول ولا قوة للأوروبيين في الملف السوري، نظراً لأن الإدارة الأميركية أبعدت الأوروبيين عنه، وراحت تنسق مع الروس في إدارته.
غير أن المفجع هو أن محصول اللقاء شحيح جداً، ولم يكن بيانه الختامي في مستوى الضخ الإعلامي الذي رافق الاجتماعات، وتحوّل فيه كل من الائتلاف السوري وهيئة التنسيق إلى طرف ثالث في "الأزمة السورية"، حيث لم يجدا من القواسم والمشتركات سوى تأكيد "إدانتهما المجازر المروِّعة التي تشهدها سورية على يد الأسد وحلفائه، وخطط التهجير القسري، وحصار مناطق كاملة ومنع الغذاء والدواء عنها، واستمرار الاعتقالات وحالات الإخفاء القسري".
وبوصفهم طرفاً ثالثاً، لا مع النظام ولا مع الثورة، حسب لغة البيان وخطابه، "رأوا أن الشعب السوري، بمكوناته كافة، كان ضحية لإجرام النظام وعجز المجتمع الدولي عن توفير الحماية له، ما جعله عُرضةً للفوضى والتدمير والإرهاب في كل أشكاله، وشدّدوا على رفض أي احتلالٍ أو تدخل أجنبي". ولعل خطاب هذا البيان لا يختلف عن خطاب أيِّ حزبٍ أو تجمعٍ سياسي في أية دولة أخرى، غير سورية، ليس لديها سوى وصف ما يتعرض له الشعب السوري، وترفض بخجل أي تدخل أجنبي، من دون أن تسميه، وترفض كذلك أي احتلال من دون أن تسمي الدول التي تخوض حرباً للدفاع عن استمرار وبقاء نظام الأسد، حيث إن البيان لم يشر بكلمةٍ إلى ما تمارسه المقاتلات الروسية من قتلٍ للسوريين وتدميرٍ لأماكن عيشهم وسكنهم، ولا إلى إيران التي تزجّ آلاف المقاتلين من قواتها في القتال ضد غالبية السوريين، فضلاً عن زجّها مليشيات حزب الله اللبناني ومليشيات مذهبية أخرى، عراقية وأفغانية وسواها.
ويشير التقاء الجانبين، في هذا الوقت، إلى لقاء الضعفاء، حيث إن الائتلاف الوطني المعارض فقد وهجه وأهميته منذ أكثر من عامين، بفعل ظروفٍ ذاتيةٍ وموضوعية، لأنه لم يتمكّن من تشكيل مظلةٍ سياسية للسوريين أو لثورتهم، أما هيئة التنسيق فقد ولدت عاجزةً بحكم نشأتها وتركيبتها، وظلت تتعايش على رصيد شخصياتها السياسي، ولم تستطع أن تبني أي جسور تواصلٍ مع الناس في الداخل، لذلك توجهت إلى الخارج، وباتت تفتّش عن دور وظيفي لها، تمكّنت من استغلاله، خصوصاً بعد أن فقد الائتلاف دوره، وتقادمت وظيفته.
ولعل تساؤلاتٍ عديدة، تطاول مغزى اجتماع الطرفين، خارج إطار الهيئة العليا للتفاوض، مع أنهما ممثلان بقوة داخل الهيئة، وفي الوفد التفاوضي المنبثق عنها، ووقعا على بيان اجتماع الرياض للمعارضة السورية، الذي عقد في 9-10 ديسمبر/ كانون أول 2015، الذي أكد على "الالتزام بالحل السياسي الوطني وفق بيان جنيف (30 يونيو/ حزيران 2012)، والمرجعية الدولية، وقرارات الأمم المتحدة ومجلس الأمن ذات الصلة، وعلى قاعدة التوافقات الوطنية بين مكونات المجتمع السوري، من عربٍ وكردٍ وتركمانٍ وسريانٍ آشوريين وباقي الأطياف، بما يضمن مشاركتهم جميعاً، في بناء دولةٍ مدنيةٍ ديمقراطيةٍ وصوغ عقد وطني يُنظم الهوية الوطنية الجامعة للسوريين".
المشكلة أن كثرة اللقاءات والاجتماعات لقوى المعارضة السورية، كانت محصلتها صفريةً على الدوام، فيما يخص السير باتجاه دعم الداخل السوري، وممكنات الخلاص من الوضع الكارثي، نظراً إلى عدم قدرتها على التوصل إلى بنيةٍ جديدةٍ وقوية، تضع رؤيةً مشتركة، وتشكل قطباً ديمقراطياً، يوحّد الجهود ويدعم ويتواصل مع قوى الحراك، ويرتّب العلاقات مع القوى العربية والدولية. ولم تكُن المشكلة في تنوع الأطر السياسية للمعارضة السورية، ولا في الاختلافات الأيديولوجية، لكن أسباباً عديدة كانت تعرقل الوصول إليه، لعل أهمها العجز عن قيام المعارضة بالتأثير الفاعل في الأحداث، على الرغم من نزوع خطاب المعارضة إلى كشف هول المأساة السورية، حيث إن التركيز فقط على ما هو إنساني في الخطاب، واتخاذ موقف الضحية، يكشف فراغاً سياسياً وعدم القدرة على القيام بمبادرات. والنتيجة هي صدورها عن إفلاسٍ سياسي. إضافة إلى عدم وضع أي شروطٍ واضحةٍ للتعامل مع دول "مجموعة الدعم الدولية من أجل سوريا"، وكذلك دول "أصدقاء الشعب السوري" وسواها، وفقدان هامش المناورة السياسية، بما يفتح المجال للتفاعل مع التطورات. ولا ننسى أن حالة العطالة السياسية، الموروثة من عقود الاستبداد وانتفاء السياسة ومصادرتها في سورية، طبعت العمل السياسي المعارض بطابعٍ من الهامشية، وشوّهت الفعل السياسي، بوصفه ممارسةً تهدف إلى تغيير الواقع، وليس موقفاً أخلاقياً أو مبدئياً فقط، الأمر الذي يفسّر تعلق بعض المعارضين وتركيزهم على المواقف المبدئية فقط، مع غياب مقتضيات الفعل السياسي. يُضاف إلى ذلك غياب برنامج تغيير واضح لدى معظم قوى المعارضة وأحزابها، وتركيزها على الإرث الشخصي لبعض رموزها التاريخيين الذين تحولوا إلى ما يشبه أجساماً محنطة، بعد أن اطمأنوا إلى تاريخهم الذاتي، بل وحوّلوا السياسة إلى استثمار شخصي.
بلا إعلان٬ طرأت في الأسابيع القليلة الماضية٬ تعديلات وتغييرات على الاستراتيجية الأميركية في الشرق الأوسط٬ نتيجة لتعثر وبطء الهجوم على «الإرهاب» في العراق وسوريا٬ وقيام «داعش» بهجمات انتقامية مروعة داخل أميركا٬ وفي أوروبا٬ وكذلك بعد تمكن طالبان من توجيه ضربات موجعة للجيش الأفغاني٬ هزت النظام الحكومي في كابل المدعوم أميركًيا.
أميركا لم تنسحب من المنطقة العربية. كل ما فعلته كان توزيًعا للأدوار بينها وبين روسيا٬ لمواصلة الحرب على إرهاب «داعش»٬ و«جبهة النصرة»٬ وسائر التنظيمات الدينية المتزمتة والمعتدلة٬ وأسندت أميركا هذه المهمة لنفسها في العراق٬ وأفغانستان٬ وباكستان٬ واليمن٬ وواصلت روسيا دورها مع البيدق الإيراني في سوريا٬ لدعم البيدق العلوي ضد هذه البيادق (السنية)٬ وتجنيبه غضب «الشاه» الأميركي.
تبدو من قراءة التحولات الميدانية على رقعة الشطرنج الإقليمية٬ عودة أميركا من العراق إلى سوريا٬ لمحاربة العنف («الداعشي» بالذات)٬ من خلال تدويل الحرب السورية٬ بإشراك قوات النخبة في دوٍل أعضاء في حلف الناتو٬ كفرنسا٬ وألمانيا٬ وتركيا. وليس معروًفا بعد ما إذا كانت ستطرأ إضافة جديدة على عدد القوات الأميركية في العراق٬ وسوريا (حالًيا عشرة آلاف جندي)٬ أو في أفغانستان (حالًيا عشرة آلاف جندي أيًضا).
إلى الآن٬ خاضت «أميركا أوباما» حربها بالواسطة على رقعة الشطرنج العربية٬ معتمدة على البيدق الكردي في سوريا والعراق. لكن تدويل الحرب السورية يتجسد بوضوح في المشهد الميداني٬ والمسرح السياسي. فالتنسيق الأميركي مع تركيا اقتضى إرضاءها٬ بإلزام القوات الكردية (السورية/ التركية) العاملة على خط «منبج٬ الباب٬ جرابلس»٬ بالانسحاب بعد تطهيرها من الميليشيا «الداعشية» التي تحتلها منذ عام 2014.
وكانت تركيا قد اعتبرت هذه المنطقة الحدودية السورية الواقعة غرب نهر الفرات خطا أحمر٬ وهددت بالتدخل ضد القوات الكردية التي اجتاحت النهر٬ وتوغلت في ريف حلب الشمالي والشرقي٬ لكنها عادت٬ فصمتت بعد التفاهم السري مع أميركا.كذلك يبدو أن أميركا سمحت لتركيا بنقل قوات كبيرة للمعارضة السورية المسلحة إلى حلب مع مدافع ثقيلة٬ وصواريخ. هذه القوات تتعرض حاليا لقصف جوي روسي٬ وسوري بالبراميل المتفجرة٬ بعدما تمكنت من إحباط هجوم الجيش السوري٬ وفلول «حزب الله»٬ والميليشيات الإيرانية٬ لاحتلال كامل المدينة المنكوبة.
فشل الهجوم السوري الإيراني على حلب٬ تمت تغطيته بتحويله شرًقا باتجاه «الطبقة». لكن هذا الهجوم عبر بادية الشام تعثر أيًضا أمام صمود «داعش» في هذه المدينة الاستراتيجية النفطية والمائية٬ وتردد القوات الكردية في محاصرتها من الشمال٬ بحيث بدت تصريحات بشار عن عزمه استعادة كامل التراب السوري٬ بمثابة فقاعات هوائية مثيرة لسخرية كيري وأوباما.
هل يبلغ تدويل الحرب السورية مداه الأوسع؟ بمعنى هل قوات النخبة الألمانية والفرنسية التي يقال إنها مرابطة حالًيا في مناطق حدودية سورية تركية٬ ستكون بديلاً للقوات الكردية؟ وهل ستشارك٬ كقوات من حلف الناتو٬ مع القوات الأميركية٬ في الحرب على «داعش» في شرق سوريا (الطبقة٬ الرقة٬ دير الزور)٬ وفي ريف حلب الشمالي والشرقي؟ وهل تستطيع «أميركا أوباما» تحقيق النجاح المطلق٬ في استراتيجيتها الجديدة٬ بحيث تروض٬ وتركب أيًضا الحصانين الكردي والإيراني؟
ألمانيا نفت فورا وجود قوات لها في سوريا. لكن سبق أن شاركت٬ كقوات حفظ سلام دولية في مناطق مختلفة٬ بل كانت موجودة عملًيا وميدانًيا مع القوات الأميركية في أفغانستان. وبالتالي٬ فألمانيا التي عاشت واقعيا مأساة نصف مليون مهاجر سوري هاربين من قمع النظام وتزمت المعارضة الدينية٬ قد تكون متحمسة للتضحية٬ وللمشاركة في الحرب الأميركية أو الدولية٬ على «الإرهاب». وعلى النظام.
أما فرنسا٬ فأعتقد أنها أخطأت في الإعلان عن وجود قوات لها على أبواب منبج. فالظروف الداخلية الفرنسية غير مناسبة٬ لإعلان قد يحّفز الخلايا «الداعشية» النائمة في أوروبا٬ على شن عمليات عنف جديدة٬ لا سيما خلال الدورة الكروية لكأس أوروبا الحالية حاليا في فرنسا الملزمة بتوفير الحماية الأمنية لـ85 مليون سائح يزورونها سنوًيا.
على المسرح السياسي٬ تبدو «أميركا أوباما»٬ تحت ضغط جنرالاتها ودبلوماسييها٬ جادة هذه المرة في القضاء على «داعش». كما يبدو «داعش» جاًدا٬ في دفع خلاياه الأوروبية النائمة للتحرك٬ ولارتكاب عمليات عنف انتقامية في أوروبا وأميركا٬ هذه العمليات سوف تزيد في الإساءة إلى سمعة وإقامة 35 مليون عربي ومسلم في دول الاتحاد الأوروبي٬ وهم معرضون لغلّو اليمين العنصري في رفضه لهم٬ والتهديد بطردهم.
كأن «داعش» يتعمد التطبيق الحرفي لمقولة عالمي الاجتماع اليهوديين برنارد لويس٬ وصوئيل هنتنغتون٬ عن صراع الحضارات والثقافات بين الغرب والعالمين العربي والإسلامي٬ فهي تريق الدماء بشراسة في عمليات استنزاف خاسرة.
وبدلاً من التركيز السياسي والإعلامي على معاناة ملايين السوريين من الحصار٬ والتجويع٬ ووحشية القصف الجوي والبري٬ وتحيز هيئة أمم بان كي مون٬ ومبعوثها الخواجة دي ميستورا٬ لما يمليه النظام الطائفي وأسياده في موسكو وطهران٬ فقد منحت عملية «داعش» في أورلاندو عنصريي العالم وأميركا الفرصة لتغييب هذه المعاناة٬ وحجبها عن وعي وذاكرة الرأي العام العالمي٬ ولترويج الشعارات العنصرية المعادية للعرب والإسلام.
خطر تدويل الحرب السورية يتجلى في احتمال الصدام الميداني بين قوات الناتو الألمانية٬ والفرنسية٬ والتركية٬ مع قوات روسية٬ وسورية٬ وإيرانية. ومع اشتداد التوتر٬ وشراسة الحرب٬ وتبادل التحذيرات والإنذارات٬ فسوريا٬ أو حلب بالذات٬ مرشحة لأن تكون شرارة إيقاد حرب عالمية٬ يلزمها عود ثقاب نووي للقضاء على البشرية والحضارة٬ في عالم بلغت فوضاه الذروة٬ وهوت به رداءة نزاهته السياسية والأخلاقية إلى الحضيض.
في الوقت ذاته٬ فقد تغدو سوريا حمامة سلام في اتفاق غربي روسي٬ على تسوية في هذا البلد العربي المعذب٬ تضع حًدا للحروب الطائفية والمذهبية التي تشنها إيران على العرب٬ ولحروب الآخرين الذين حولوا سوريا إلى قندهار أفغانية متزمتة وكئيبة.
لا تريد واشنطن أي مقايضة مع موسكو. والعقوبات الغربية على روسيا مستمرة. نجح الكرملين في تحويل سورية بعد أوكرانيا وأوروبا الشرقية وحوض البلطيق رمزاً للصراع مع الولايات المتحدة. نجح في إعادة فرض بلاده قوة عظمى. وبات بإمكانه أن يطمئن إلى انشغال الاتحاد الأوروبي بخلافاته بين غربه وشرقه على قضية اللاجئين، واحتمال تصدعه إذا ارتأى البريطانيون الخروج منه. ولم يعد أمام وزير الخارجية جون كيري سوى التلويح بنفاد صبر إدارته. وقد نفد صبرها عملياً لأنها توكأت بالأصل على مشروع روسيا واستراتيجيتها من دون أي ضمانات، بدل أن تكون أكثر انخراطاً في أداء دور فعال من أجل التوصل إلى تسوية للأزمة الانسانية على الأقل. أزمة لم يشهد العالم مثيلاً لها منذ الحرب العالمية الثانية. لم يعد أحد يتوقف أمام أعداد القتلى والخراب والتدمير والتجويع والحصار وموجات التهجير واللاجئين. يوم مجزرة أورلاندو سقط في مجازر متنقلة في سورية أضعاف ما سقط في المدينة الأميركية. أمام هذا الواقع هل يصدق السوريون أن ثمة تعاوناً بين اللاعبين الكبيرين أم يصدقون ما يعلنه الرئيس بشار الأسد من رفض لأي مرحلة انتقالية أو وقف للحرب أو التزام لأي هدنة؟
المفاوضات السياسية في طريق مسدود. والتعاون بين واشنطن وموسكو في طريق مسدود، ليس في الملف السوري فحسب بل في كل الملفات التي سترحل للإدراة المقبلة. لذلك، لن يكون أمام المبعوث الدولي ستيفان دي ميستورا سوى الاستعداد للاستقالة مع حلول شهر آب (أغسطس)، المهلة المحددة للتوصل إلى اتفاق سياسي على بدء المرحلة الانتقالية، بموجب تفاهم «مجموعة الدعم الدولية لسورية»... إلا إذا نجح في إعادة إطلاق المفاوضات على صعيد تقني للحد من التجويع وحلحلة الحصارات وإيصال المساعدات. المرحلة لشراء الوقت بانتظار السيد الجديد للبيت الأبيض. لذلك، جاءت مذكرة الديبلوماسيين الأميركيين إلى الرئيس باراك أوباما موجهة عملياً إلى الإدارة المقبلة. فهؤلاء يعرفون جيداً أن ما طالبوا به البيت الأبيض سبق أن اقترحته وزيرة الخارجية السابقة هيلاري كلينتون ومسؤولون عسكريون، وحتى وزير الخارجية كيري. لكن الرئيس حرص على الاستئثار برسم الاستراتيجية الخاصة بالمنطقة كلها وليس ببلاد الشام فحسب. وهم لا يتوقعون اليوم أي تبديل في هذه الاستراتيجية. المهم أن هذه المذكرة قد تعزز وجهة النظر الداعية إلى تدخل أكثر فاعلية ليس بالضرورة لإسقاط الرئيس الأسد أو تقليص انتشار قواته، بل لإرغامه على العودة إلى جنيف والتزام الهدنة والسير بالحل السياسي والقبول بالمرحلة الانتقالية، وتنفيذ القرارات الدولية ووقف موجة القتل والتهجير ورفع الحصار وسياسية التجويع.
المفاوضات في طريق مسدود. وستظل كذلك ما دام الرئيس الأسد لن يغير موقفه. وكذلك التعاون بين الولايات المتحدة وروسيا معلق أو انتهى ما دامت الأخيرة لن تغير موقفها، أو لا تملك فعلاً الأدوات الكافية للضغط على الرئيس الأسد. بدليل الثقة الضعيفة بين الطرفين والشكوك المتبادلة، إذ هناك دوائر تلحظ امتعاض النظام في دمشق من هدنات تعلنها موسكو من دون الرجوع إليه كلما شعرت بغضب واشنطن فيما تأخذ تحذيراتها على محمل الجد. ذلك أنها لا تريد قطع شعرة معاوية معها لعلها ترتقي بالتعاون في سورية إلى تعاون أوسع ينقذها من تداعيات العقوبات الاقتصادية الغربية. وهي تعول، بتمتين علاقاتها مع إسرائيل، على دور لتل أبيب في تحريك أدوات ضغطها لمساعدتها على تحقيق بعض أهدافها. كما أنها لا تريد، من جهة أخرى، الغرق في المستنقع السوري. صحيح أنها حققت إنجازات على الأرض لمصلحة دمشق، لكنها تبدو عاجزة عن تحقيق انتصار ساحق. فحتى إدارة الرئيس أوباما وليس «أصدقاء المعارضة» من ترك وعرب فقط، لن تسمح بمسح الفصائل المقاتلة عن خريطة الصراع. بل يمدها هؤلاء بما يكفي للثبات والصمود. بل ثمة من يؤكد أن هذه الأطراف ترى إلى استعادة النظام مدينةَ حلب «خطاً أحمر». والواقع أن الرئيس السوري أتقن حتى الآن لعبة الرهان على حبلي الدعم المزدوج الذي يلقاه من موسكو وطهران. ولن يتردد بإلقاء نفسه في أحضان إيران إذا شعر بأن الكرملين يدفعه نحو شيء من التنازل لإبقاء العملية السياسية والتعاون مع البيت الأبيض حيين.
مع تعليق التفاهم بين روسيا والولايات المتحدة، تتوجه المعارضة السورية نحو الاتحاد الأوروبي. وقد ناشده «الائتلاف الوطني» و «هيئة التنسيق»، بعد اجتماعهما الأسبوع الماضي في بروكسيل، تطوير دوره في دعم الحل السياسي وإنجاحه والمشاركة الفعالة في رعاية العملية التفاوضية لتشكيل الهيئة الحاكمة الانتقالية. ولكن يجب ألا يغيب عن بال الطرفين المعارضين أن التعويل على أوروبا قد لا يثمر الكثير. والتجربة الطويلة في هذا المجال حاضرة في تاريخ القضية الفلسطينية. لم تستطـــع القارة العجوز طوال عقود من المنـاشدات الفلسطينية والعربية أن تحــــقق شيئاً لا ترغب فيه إسرائيل. وآخر الأمثلة الموقف من المؤتمر الذي رعاه الرئيس الفرنسي فرنسوا هولاند. ولا يتوقع أن تتنازل الولايات المتحـــدة أو روسيا عن دورهما لأي قوة. ويعرف أقطاب الائتلاف والهيئة أن مجموعة الدعم الدولية اختصر عملها في الأشهر الأخيرة الوزيران جون كيري وسيرغي لافروف.
ما قد يسهل على الاتحاد الأوروبي أداء دور نشط أن يقترب «الائتلاف الوطني» و «هيئة التنسيق» من الرؤية أو المشروع الغربي لمسقبل الحل. وهو ما يسعى إليه طرفا المعارضة اللذان أعلنا التوجه نحو صوغ وثيقة وطنية جديدة فيها تطوير لـ «وثيقة العهد الوطني» التي صدرت عن مؤتمر القاهرة. والمهم في هذا المجال أن تخاطب الوثيقة المخاوف الدولية، الأوروبية والأميركية وحتى الروسية. أي أن تشدد على قيام حكومة توافق يمكن أن تتوزع فيها الحصص بالتساوي مع النظام مع حصة للمجتمع المدني. وتشدّد الحرص على منع انهيار الدولة بالحفاظ على المؤسسات. وعلى إعطاء دور كامل للأقليات الطائفية والعرقية. وتعترف صراحة بالقومية الكردية كياناً يشكل جزءاً لا يتجزأ من «سورية الديموقراطية». طمأنة الأقليات والاعتراف بخصوصية الكرد ثقافة ولغة على قدم المساواة عناصر فاعلة في ملاقاة الغرب أولاً. وفي إسقاط بعض الذرائع والشعارات التي يتمسك بها النظام في حربه المفتوحة على كل السوريين. مثلما فيها استجابة واضحة للموقف الجماعي للكرد يشجعهم على الوقوف إلى جانب المعارضة لفرض التغيير المطلوب، بدل أن يظلوا خارج إطارها، سواء كانوا محايدين أو محسوبين على النظام.
هذه مهمة سياسية يجب ألا تعوقها مناكفات بين هذه الهيئة أو تلك من هيئات المعارضة. ولكي يكتمل المشروع الجديد، على الفصائل المقاتلة أن تعري دور روسيا بإلغاء الذرائع التي تتمسك بها، والحؤول دون إصرارها على وضع كل الفصائل، خصوصاً «أحرار الشام» و «جيش الإسلام» في لائحة الإرهاب والتصرف على هذا الأساس. فهي تشن غاراتها حتى على قوى دربتها الولايات المتحدة وبريطانيا ولا تفرق بين المعتدلين وأولئك المنتمين إلى تنظيم «داعش» و «جبهة النصرة». ففي ضوء تداعيات العمليات الإرهابية المتنقلة في مدن الغرب، ومع احتمال تصاعدها كلما ضاق الطوق على الحركات المتطرفة، كما توقع مدير الـ «سي آي أي» جون برينان، يستحسن قطع ما تواصل في إطار ما يدعى «جيش الفتح»، بين الفصائل المعتدلة وقوى يصنفها المجتمع الدولي إرهابية. فالمعروف أن موسكو تبرر هجماتها في محافظات حلب واللاذقية وإدلب وغيرها بصعوبة التمييز بين مواقع «النصرة» وشركائها في الميدان من فصائل «الجيش السوري الحر» وغيره من فصائل معتدلة.
إزاء لعبة شراء الوقت التي يمارسها جميع المتصارعين في الميدان السوري لا تملك المعارضة بشقيها السياسي والعسكري ترف الانتظار. يجب أن تستعد للمرحلة المقبلة ليس بتوفير مقومات الصمود المضمون حتى أميركياً، فضلاً عن دعم كثير من الأصدقاء في الإقليم، بل بالسعي إلى كسب مزيد من التأييد الدولي وهو عنصر راجح في حسابات موازين القوى. وعليها استعجال صوغ وثيقتها السياسية الجديدة وتنقية صفوفها العسكرية. فالإدارة الأميركية لم تعد تلقي بالاً إلا لتحقيق انتصار على «داعش» في العراق وسورية يسجل في إنجازاتها، ويعين حزبها في السباق الرئاسي. وموسكو تنتظر الرئيس الأميركي المقبل بعدما عجزت عن تحقيق اختراق مع الرئيس أوباما. واستنفدت ضيق يد الوزير كيري وثقته العمياء. واطمأنت إلى انشغال أوروبا بمستقبل اتحادها ووحدة سياساتها وقلقها من احتمال عودتها خط المواجهة في الحرب الباردة المتجددة. واستمرأت لعبة الهدنات الهشة والاستجابة الخجول لأصوات المجتمع الدولي المنادي برفع الحصارات وغوث المحاصرين ووقف المجازر وإرغام النظام على وقف حربه المفتوحة. وإيران تواصل تنفيذ سياساتها من دون أي تعديل بعدما ربحت مقعدها في مجموعة «الدعم الدولية لسورية».
حرب الاستنزاف التي يغرق بها «حزب الله« في الشمال السوري من بعد «فتوحاته« في القصير والقلمون ومرابطته في أحياء من دمشق أعيد تلوينها بهوى المتغلبين، هي حرب استنزاف لا تعني «حزب الله« لوحده بمعزل عن باقي اللبنانيين. لكن الحزب، وكعادته حيال كل ما اتصل بما هو عسكري وأمني، يعتبر نفسه في حل من أي اجماع، وفي حل من أي مناقشة للموضوع، سواء عنينا بالموضوع وضع المقاومة ومفهومها بعد التحرير، أو وضع سلاحه وموقعه من الاعراب في دولة انتهت الحرب الاهلية فيها بالاتفاق على اعادة توحيد الجيش وحل الميليشيات، أو وضع قرار الحرب والسلم ومن يأخذه وكيف، أو وضع حدودنا الوطنية وماذا يمكنها بعد أن تعنيه، طالما تعبرها الجحافل كل يوم في الذهاب، وتعبرها النعوش والأحزان في الإياب، ناهيك عن شبكة من «الاقتصاد الطرفي الموازي«، الناشئ على خلفية حرب الاستنزاف المزمنة هذه، وموجات لجوء سوري باتجاه لبنان لا يمكن أن تبقى النظرة اليها أسيرة «الأبيض والأسود«، بين انفعالية عنصرية ومكابرة مكتفية باحصاء «فوائد اللجوء«.
الحكومة الحالية تشكّلت على قاعدة تسوية غير شعبية، تسوية قبلت فيها قوى الرابع عشر من آذار، باستثناء «القوات اللبنانية«، مساكنة الحزب في حكومة واحدة بالرغم من رفضه حتى مناقشة تورطه المتراكم والمتسع في الحرب السورية. هذه التسوية على خطورتها، وقلة شعبيتها، تمتلك عنصر معقولية أساسياً: فطالما الحزب ماض في الحرب السورية، وطالما الحزب لا يريد رئيساً للجمهورية قبل لحظة ما يتوخاها في هذه الحرب، مثلاً، فالمصلحة تقتضي عدم اعطائه مساحات اضافية للفراغ والتعطيل. في آخر عهد الرئيس ميشال سليمان، كان هناك رئيس ولم تكن هناك حكومة، وكانت صواريخ موجهة للقصر الجمهوري. فكانت التسوية، انه اذا لم يكن انتخاب الرئيس الجديد متاحاً، ولم يكن رد «حزب الله« عن سوريا وشعبها متاحاً بالسواعد والضمائر اللبنانية، فالأولى قيام حكومة في فترة الشغور الرئاسي، ولو كانت حكومة غريبة عجيبة في تكوينها ونمطها، وفي عبثية كون الفترة هي فترة فراغ «دستوري« و«لا دستوري« في وقت واحد، ذلك انه ليس هناك مطلق دستور يمكنه ان يغطي بشكل كاف فترة فراغ وشغور وتعطيل ويرشد الناس حينها ما العمل، وفي الوقت نفسه ليس هناك حالة يمكن أن يستغنى عنها عن الدستور ومرجعيته بشكل شامل وقاطع، الا باتجاه يهدّد الاستقرار المؤسسي والمجتمعي والكياني.
اليوم نعيش تخبطاً جدياً للمنطق «الاستنزافي« عند «حزب الله«، تخبطاً جراء المكابرة على ان حزباً كبيراً في بلد صغير لا يمكنه مهما حاول أن يصير حزباً أكبر من هذا البلد في داخله، وأكبر من هذا البلد خارجه. عندما يصير متعذراً الحفاظ على عناصر قوته وشوكته بشكل مستقر ومعافى من «الثنائية القطبية« في علاقته بذاته وحلفائه الأكبر منه والأصغر وأخصامه الداخليين والخارجيين، تصير هذه العناصر نقمة عليه. وجه النقمة حالياً هو التالي: لم يعد أحد في «حزب الله«، وعلى كافة المستويات، يعرف ليس فقط «الى متى« يحارب في سوريا، بل قبل كل شيء لماذا يحارب هناك. لم يعد أحد في لبنان يمكن أن يأخذ على محمل الجد نكتة أن «داعش« سوف تستعمر لبنان ان لم يذهب «حزب الله« لاستعمار سوريا. وحتى بعد ان لبس الحزب طاقية «مكافحة الارهاب«، فان تشخيصه كارهابي ومعاقبته مالياً كارهابي قد تجذرت أكثر، بدلاً من أن يرطّب انضمامه للحلف العالمي ضد «داعش«، على طريقته التي ترى «داعش« حيثما هو غير موجود، من وضعه بشكل عام، فيقلّل من وطأة اتهامه بالارهاب وتداعياتها.
تخبّط الحزب يعكس في الوقت نفسه التخبط اللبناني العام. طبعاً الحزب هو معمل انتاج من الطراز الاول لحالة التخبط الداخلية، ويفضلها على سواها، فلا هو مؤهل لادارة البلد لوحده، ولا هو مؤهل للنأي بنفسه عن ادارته. لكن التخبط اللبناني يستنزفه بالتوازي مع استنزاف الحزب في سوريا. ضعف أخصام الحزب لا يعطيه قوة مزيدة، خصوصاً أن أخصامه اعتادوا التعايش مع ضعفهم بازائه.
لن ينفع اقناع الحزب بأن تفاقم حالة الاستنزاف في الداخل والخارج تجعل من مصلحته هو ايضاً تسهيل انتخاب رئيس جديد، لكن «خدمة كلفة الشغور« ستتصاعد بالنتيجة أكثر فأكثر، وكل طرف سوف يقوم بتحويلها لخصمه.
حزب كبير في بلد صغير لا يمكنه ان يجمع بشكل مستقر بين عناصر قوته. أما كلفة خدمة الشغور الرئاسي فمرشحة للتصاعد بطبيعة الحال وكلما تحللت الحكومة أكثر، وبشكل ضاغط على الحزب أكثر من قبل، طالما أنه الحزب القابض على الاستحقاق والحائل دونه.